٢١٤ - وقيل: دخل شاعر من شعراء الهند على أمير المنصورة فمدحه، فقال له الأمير: تقدم يا زوج القحبة! فقال: وما زوج القبيحة أيها الأمير؟ قال: هذا بلغة العرب كناية عمن له قدر جليل ومحل كبير ومال ودواب وجمال وغلمان وقدر ومنزلة! قال: فأنت أيها الأمير إذن أكبر زوج قحبة في الدنيا! فخجل وعلم أن هزله ومزحه جر عليه سبه وشتمه.
٢١٥ - وكان بسجستان إنسان يعرف بأبي العباس بن أشناس، يتقلد أعمال السلطان، فجاءه أبوه يومًا يسأله في أمر إنسان، وضجر منه وقال: أحب منك وأسألك إذا جاءك إنسان وقال لك: كلم ابنك، تسبني وتقول: ذاك ما هو ابني! فقال له الأب: يا بني والله إنني أقول هذا منذ ثلاثين سنة وما يقبل مني! فخجل الابن، وندم فلم تنفعه الندامة، وتداول الناس الحديث.
٢١٦ - ودخل سليمان بن بندار إلى مالك بن أسماء الفزاري يقتضيه مالا له عليه، فقال له: ليس لك علي إلا أير حمار! وكان بنو فزارة يأكلون لحم الحمير، فقال له سليمان: بارك الله لكم يا بني فرازة، إن جعتم أكلتموها وإن كان عليكم دين قضيتموه منها! فخجل مالك وطأطأ رأسه، وقال: رذيلة جلبتها بمزحي على نفسي!.
٢١٧ - قيل إن أهل الكوفة أصابهم مطر شديد في يوم صائف عظيم الحر، حتى سقطت سقوفهم وتهدمت حيطانهم، والحجاج إذ ذاك بها، فركب وسار منفردًا ينظر مبلغ أثره، فأتى موضعًا يقال له العريان، فرأى غلامًا من غلمان العرب، من اصحبهم وجهًا وأحسنهم شبابًا، ومعه قوس وهو يتصيد، فقال له الحجاج: اقبل يا غلام، فأقبل، فقال له: ممن أنت يا غلام؟ قال: من الناس! قال: وأي الناس؟ قال: من ولد آدم، قال: فمن أبوك؟ قال: الذي ولدني، قال: فأين ولدت؟ قال: على ظهر الأرض في بعض الحجرات، قال: فأين نشأت؟ قال: ما بين السماء والأرض في بعض الفلوات، قال: وما اسمك؟ قال: وما تريد من اسمي؟ قال: أحببت ان أعرفك، قال: والله ما ضرني إنكارك إياي في سالف الدهر فينفعني اليوم علمك بي ومعرفتك لي! قال: إني أظنك مجنونًا، قال: أحلني ذاك عندك مجيئي إليك سعيًا كأنني ممن يرجو منك خيرًا أو يخاف لك شرًا، ولست هناك! قال: وما يدريك يا غلام؟ قال: لعيك بجوابي وإظهارك لسبابي! قال: فانطلق معي افعل بك خيرًا، قال: والله ما أرى فيك شيئًا من الخير فأنطلق معك! قال: ما أسفهك يا غلام! قال: وما علمك بسفهي وأنني سفيه، وأنت قد ذهب بك التيه وذاك بك شبيه!.
فبيناهما في ذلك إذ أحدقت بهما خيل الحجاج فقالوا: السلام عليك أيها الأمير ورحمة الله وبركاته، فقال مغضبًا: احتفظوا بالغلام، ثم رجع إلى الكوفة، فلما اطمأن به المجلس أمر بان نقف من جانبيه ستة آلاف رجل من الجند، بأيديهم الأعمدة والترسة والسيوف المخترطة، ثم أمر بإدخال الغلام عليه، فدخل يخطر بين الصفين، لا يهوله ما يراه، حتى وقف بين يديه، فقال له الحجاج: يا عدو الله أنت صاحب الكلام لا أم لك ولا أب لك ولا أرض لك! قال الغلام: لو كنت عدو الله كنت شيطانًا رجيمًا، وما أحد بلا أم ولا أب إلا آدم وحواء، والأرض فالله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين، وما هي لي ولا لك، وأنا صاحب الكلام فما أنكرت منه؟ فلما رآه لم يغفل عن الجواب، ولا تغير في الخطاب، أمسك عنه مخافة أن يشتد غضبه فيقتله، وأطرق طويلًا ثم رفع رأسه إليه فقال: هل أصابكم من هذا المطر؟ قال: نعم، قال: فشهدت ابتداءه؟ قال: نعم، قال: فصفه لي؟ قال: والله لقد نظرت إليه حين أقبل تؤلفه الرياح، فوعهد الله ما عنانا ولا اكترثنا له، ثم لم يلبث أن صار نشاطًا لا ترى منه خلاصًا، ثم تحندس وأظلم، واشتدوا كتهم، وتزاحم حتى علا البقاع والتلاع، وبلغ رؤوس الجبال فهد الصخور وثور البحور، ثم هدأ بإذن من على العرش استوى، "ذلك تقدير العزيز العليم"! قال: يا غلام سلني حاجتك؟ قال: والله ما اسأل إلا من أنا وأنت عنده في المسالة سواء! ذلك الله ربي وربك! فأمر له بعشرة آلاف درهم، وبعث به إلى عبد الملك بن مروان، فأضعف له الجائزة بعد أن عجب منه ومفق عليه، وانصرف إلى أهله مسرورًا.
1 / 57