١٨١ - وحدث أبو جابر أحمد بن خلف المعروف بابن القاضي الموصلي قال: كنت أهوى جارية لأبي القاسم المعروف بابن الداية يقال لها شراة، وكانت من المحسنات، فأعطيته بها ثلاثين ألف درهم فلم يبعها، وكان صوتي عليها:
أبي المدنفُ الغضبانُ يا نفسُ أن يرضى ... وأنتِ الذي صيَّرتِ طاعته فرضا
وجزتِ به حدَّ الهوى فاجمعي له ... إذا همَّ بالهجرانِ خدَّكِ والأرضا
فرأت قائلا يقول لها في منامها، ليلة من الليالي: لا تغني بهذا الصوت! فانقطعت عن غنائه مدة، ثم عاودت الغناء به، فرأت ثانيا في منامها مثل ما رأته أولا، فأمسكت عنه مدة أخرى؛ واتفق أن حضرت عند مولاها فألححت عليها ولم أزل بها حتى غنته لأنها كانت تجيده، فما استتمته حتى سعلت، وأداها السعال إلى الخناق، وماتت.
١٨٢ - وكان لموسى الهادي جارية يقال لها ضياء، ويجد بها وجدا شديدا، ففكر يوما فكرا طويلا، ثم عاد بهارون أخيه وقال له: يا أخي إن هذا الأمر صائر إليك، فدع لي ضياء! قال: بل يبقيك الله يا أمير المؤمنين ويمتعك بها! فقال: دع هذا عنك واحلف لي وعاهدني أنك لا تقربها؛ ففعل، ومات الهادي وكانت ضياء من أكبر هم الرشيد، فدعاها إلى نفسه، فقالت: يا أمير المؤمنين فكيف بالعهود المأخوذة عليك في أمري!! أما كذا فكفارته كذا، وأما الحج فأحج راجلا .. وبلغت من الموقع عنده أن كانت تنام على فخذه فلا يزعجها حتى تنتبه لنفسها، فبينا هي نائمة على ذلك، وهو جالس على عتبة باب إذ انتبهت ووضعت يدها على رأسها، وجعلت تبكي وتصيح، فقال لها الرشيد: مالك؟ فقالت: رأيت الهادي آخذا بعضادتي الباب وهو يقول:
إن الذي غرَّه منكنَّ واحدةٌ ... بعدي وبعدك في الدُّنيا لمغرورُ
أنت الذي خنت عهدي بعد موثقةٍ ... إن لم تكن كذبتْ عنك الأخابيرُ.
فضمها الرشيد إلى صدره، وما جاء الليل حتى ماتت.
١٨٣ - وقال خالد بن عبد الله القسري يوما، وقد اجتمع عنده جماعة من سماره وخواصه: حدثوني عن الحب حديثا لا فحش فيه، فقال أبو حمزة اليماني: كان فتى من العرب يسمى مالك بن نصر، له بنت عم يحبها وتحبه، يقال لها الرباب، وكانت جمال وكمال وظرف وعقل، فبينما هو يوما معها إذ بكى، فقالت: ما يبكيك؟ قال: إني نظرت إليك فقلت أموت فتتزوج بعدي، فأسفت بك، ولحقتني حسرة عليك! قالت: فلعلك أن تبقى بعدي؟ قال: إن بقيت بعدك فلك عهد الله أني لا أتزوج ما حييت! قالت: ولك مني مثل ذلك .. وتعاهدًا وتواثقًا .. ثم إن الفتى خرج مع قتيبة بن مسلم الباهي إلى خرسان، فلم يزل يقاتل بين يديه حتى طعن فسقط عن فرسه فقال وهو يجود بنفسه:
أل ليتَ شعري غزالٍ تركته ... إذا ما أتاه مصرعي كيفَ يصنهُ
أيلبسُ أثوابَ السَّوادِ تسلِّيًا ... على مالكِ أم فيه للبعل مطمعُ
فلو أنني كنتُ المؤخَّرَ بعدهُ ... لما لبثت نفسي عليه تقطَّعُ
قال: ثم مات، فبلغ الرباب ذلك، فكاد الحزن يقتلها، وذابت حتى لم يبق منها إلا خيال، وكانت لا تهدأ من البكاء والشهيق، فتشاور أهلها فيها وقالوا لو زوجت لسلت! فزوجوها على كره منها، فلما كانت الليلة التي أرادت أن تزف فيها إلى زوجها نامت وأمها عند رأسها، فرأت في منامها مالك بن نصر زوجها الأول آخذا بعضادتى الباب وهو يقول:
حيَّيتُ ساكنَ هذي الدَّارِ كلَّهمُ ... إلاَّ الربابَ فإنِّي لا أحيِّيها
استبدلتْ بدلًا غيري وقد علمتْ ... أن القبورَ تواري منْ ثوى فيها
فانتبهت مذعورة، وذكرت لأمها ما رأت، فقالت: يا بنية ارقدي فهذا من عمل الشيطان، وتعوذي منه! فوضعت رأسها، وأتى خيال زوجها مالك، فأخذ بعضادتى الباب ثم قال:
قد كنتُ أحسبها للعهدِ راعيةً ... حتى تموتَ وما جفَّت مآقيها
أمستْ عروسًا وأمسى مسكني جدثًا ... حتى تموتَ فإنِّي ما ألاقيها
أمسيتُ في حفرةٍ يبلى الحديدُ بها ... لا يسمعُ الصوتَ نفسًا مشطتها
فانتبهت مذعورة، فخرقت ثيابها، وقطعت جلبابها ونقضت مشطتها وعاهدت الله لا يجتمع رأسها مع رأس رجل ما عاشت، فلم تلبث إلا قليلا حتى ماتت.
1 / 48