١٧٧ - وفي كتاب الأوراق المصولي قال: كان المأمون نازلا على البذندون، نهر من أنهر الروم عند طرسوس، فجلس يوما وأخوه المعتصم عليه، وجعلا أرجلهما فيه استبرادا له، وكان أبرد ماء وأرقه وألذه، والزمان صائفا، فقال المأمون لأخيه المعتصم: أحببت الساعة من أزاذ العراق أكلة، وأشرب من هذا الماء عليه! وسمع صوت أجراس البريد، فقال: هذا بريد أين؟ فقيل: بريد العراق، وأحضر طبقا فضة فيه رطب أزاذ، فعجب من تمنيه وما اتفق له فيه، فأكلا وشربا من الماء، ونهضا، فودع المأمون وقال ثم انتبه محموما، وفصد، وظهرت في رقبته نفخة كانت تعتاده ويراعيها الطبيب إلى أن تنضج ويفتحها فتبرأ، فقال المعتصم للطبيب وأظنه ابن ماسويه ما أظرف ما نحن فيه! تكون الطبيب المتفرد المتوحد في صناعتك وخدمة أمير المؤمنين وتعتاده مثل هذه النفخة فلا تزيلها عنه فتتلطف في حسم مادتها حتى لا ترجع إليه!! والله لئن عادت هذه العلة لأضربن رقبتك! فانصرف ابن ماسويه مستطرفا لقول المعتصم، وحدث بذاك بعض من يثق به ويأنس إليه، فقال له: تدري ما قصد المعتصم؟ فقال: لا، قال: قد أمرك بقتله حتى لا تعود النفخة إليه، وإلا فهو يعلم أن الطبيب لا يقدر على منع الأمراض عن الأجسام، وإنما قال: لا تدعه يعيش فيعود المرض إليه! وتعالل ابن ماسويه، وأمر تلميذا له بمشاهدة النفخة والتردد إلى المأمون نيابة عنه، والتلميذ يجيئه في كل يوم، فيعرفه حال المأمون وما تجدد له وبه، فأمره بفتح النفخة، فقال له: أعيذك بالله، ما احمرت ولا كملت ولا بلغت إلى حد الجرح، فقال له: امض وافتحها كما أقول لك ولا تراجعني! فأطاعه وفتحها، فمات المأمون منها.
١٧٨ - وحدث الرئيس أبو الحسين والدي قال: رأى الحسن بن رجاء بن الضحاك، وهو يتقلد فارس، وقد صفا له أمرها، كأن آتيا أتاه وصاح به بباب البيت الذي كان نائما فيه:"حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة" فانتبه مرعوبا، ومات من غده!.
١٧٩ - وقال: رأى الأفشين في منامه قبل سخط المعتصم عليه رؤيا أفزعته، فأرسل ليلا إلى مفسر كان قريبا منه فأحضره، وقال له: قد هالني أمر رؤيا رأيتها! قال: خير أيها الأمير اقصصها علي عند طلوع الشمس، فقال لخازنه: يكون عندك! فلما أصبح دعاه وقال له: رأيت البارحة كأن الشمس والقمر دخلا علي وأنا جالس في بهو، فقعد أحدهما على كتفي الأيمن، والآخر على الأيسر، وانتبهت لجزعي منهما! قال المفسر: فما حضرني ما أقوله في ذاك، فاستعفيته، فقال: قل ما خطر لك وأنت آمن، قلت: اقرأ "لا أقسم بيوم القيامة"، فقرأها، حتى بلغ: "وجمع الشمس والقمر يقول الإنسان يومئذ أين المفر" فأخذته رعدة وزمع وخرجت من عنده، فما مضت عليه ثالثة حتى قبض عليه.
١٨٠ - وحدثني والدي الرئيس أبو الحسين قال: حدثني أبو الحسن محمد بن محمد الحبشي النحوي وهو من أهل البطيحة قال: أقام أبو محمد بن عمر بن شاهين صاحب البطائح بعد وفاة أبيه، وقبل انحدار أبي القاسم المطهر بن عبد الله وزير عضد الدولة أبي شجاع بن نويه لحربه، وبعد وقوع الصلح معه، على سيرة جميلة في نظره، ثم حسده أبو الفرج أخوه على موضعه، وكان جاهلا متهورا، فأعمل الحيلة في الفتك به، واتفق أن اعتلت أختهما فقال لأبي محمد: إن أختنا مدنفة مشفية، فلو عدتها لقويت من نفسها؛ ففعل وركب إليها، ورتب أبو الفرج في دارها قوما وأوقفهم على الفتك به، فلما دخل أبو محمد إليها وقف أصحابه عنه لأنها دار حرم، وحمل أبو الفرج سيفه على عادة كانت له في ذلك؛ ومشى من ورائه، حتى إذا تمكن منه وقرب من الموضع الذي رتب القوم فيه جرد سيفه وضربه به، وخرجوا فتمموه له؛ ووقعت الصيحة واختلط الناس، فصعد أبو الفرج إلى سطح الدار، وأطلع على الجند وقال لهم: ما لكم علي إلا أن أطلق لكم الأموال، وأضع فيكم العطاء، وأغمر جماعتكم بالإحسان! وكان الأمر قد فات، فسكتوا وأطاعوه وأمروه، فأعطاهم وفرق فيهم! قال أبو الحسن: وحدثني أبو القاسم هبة الله بن عيسى، وكان يكتب لأبي محمد أيام عمران أبيه، وبعد ذلك له أيام إمارته، قال: لهج أبو محمد آخر عمره بأن يقترح على المغنين:
لم تلبثِ الحلفاءُ والجمرُ ... يا سيِّدي قد نفدَ العمرُ
فكنت أتطير عليه من ذلك، حتى كان من أمره ما كان!
1 / 47