الليل وإذا بالرشيد قد جاء، فقالت له: ويلك قد جاء الخليفة إلى عندي، فبكى وفزع وجزع، وهجم الرشيد عليه فقال: من عندك يا عتب؟ قالت: هذا مولاي جاء به الجن الليلة إلى عندي! فقال له: ويلك الجن يحملون الناس إلى دور الناس! هاتوا سيفا ونطعا، فأحضرا وقال: اصدقني، من أوصلك إلى هاهنا، وإلا تقدمت بضرب عنقك! فأخذ يقص عليه حديث الساحرين، وهو يكذبه ويتهدده، إلى أن نشفت لهواته، فقال اسقوني ماء، فأمر عتبا أن تطرح له في الماء بنجا، ففعلت، فلما شربه وقع نائما، وتقدم بحمله إلى بيته، وأن ينزل في المنزل الذي أخذ منه، وترد أبوابه عليه، ويقعد فراش في الشارع يحفظ الباب عليه، إلى أن يجيئاه، وجرى الأمر على ذاك، وجاءه الرشيد والفضل وسقياه من الدواء المخلص من البنج، فانتبه فزعا مروعا، فقالا له: ما عمل أصحابنا الجن معك؟ فأخذ يتذكر ويشرح لهما ما رآه في نومه، وما لحقه وجرى عليه، حتى قال: وشربت ماء فانتبهت وتخلصت من عظم ما تورطته وحصلت فيه! فقالا: إلا أنك رأيتها وفرحت بها، وتفرجت معها؟ قال: إي والله، ورجعت روحي إلي، وطابت نفسي، وليت كان لي مثل ذلك كل ليلة، ودع أقتل على التحقيق لا التفزيع! فقالا له: هذا لك عندنا، ما دمنا نعاشرك؛ فقبل رأسيهما وشكرهما، وأحضرهما ما طعماه معه، وأخذوا في الشرب، وأخذ يغني ويبكي أكثر من أمسه، وقال: قد تجدد علي من رؤيتها البارحة ما قد جدد أحزاني وأطار عقلي! وجرى أمره في الليلة الثانية على ما جرى في الأولية، وفي الثالثة على مثل ذلك، إلا أنه كان يتخلص في الليلتين من الخليفة والقتل بشرب الماء، فكان في الليلة الثالثة يلتمس الماء فيسقاه، ولا يطرح فيه بنج فلا ينام، ويعاود طلب الماء فيسقاه دفعات ولا ينام، ولا ينتبه على حسابه وظنه، فلما مات في جلده، كما يقال، تقدم الرشيد إليه بأن يأخذ بيد الجارية وجميع ما في دارها وينصرف به وبها إلى بيته، ففعل ذلك وأصبح في داره مالكا جاريته، وعرف حقيقة الحال فجزع وخضع مما كان يجري منه على الخليفة والفضل، وأمره الفضل بن الربيع بأن يتردد إلى الدار، فصار يتردد وهو خجل حي، وأطلق له من المال وأجري عليه من الجراية ما يقوم بحاله، وأنفق له من المال إنفاق لم يكن في حسابه.
١٧٥ - وخاطب الوزير أبو القاسم بن المغربي بعض العمال واحتد عليه، وقال: لأتقدمن بصفعك! فقال: بل نترك العمالة ولا تصفعنا ولا نصفعك! فأطرق المغربي، وترك الكلام، وعرف الرجل غلطته، فبقي ميتا، ثم خرج متحاملا.
١٧٦ - وحدثني محمد المعروف بابن الدوري قال: حدثني أبو المعالي ابن الطوابيقي البزاز قال: كنت سائرا في اليمن إلى مكة، ومعي تجارة على جمل، وزاد وماء على جمل، وأنا ورفيق لي على جمل موطأ لنا عليه، ونحن نتحدث، ويقارضني، ونتقارض ونتفرج، فحضر في نفسي قول الله تعالى:"وتحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفاس" وقلت: ما نبلغ مقصدنا إلا ونحن على الرفاهة وفي اللذة والفرجة، فما مر هذا الخاطر على قلبي حتى وقع الجمل الذي عليه الزاد والماء، فمات، فنزلنا إليه فأخذنا الزاد عنه، ولم يكن معنا في الرفقة جمل فارغ نكتريه، فاحتجنا أن نقلنا الزاد على الجمل الذي كنا عليه، ومشينا وراءه يومين وليلتين إلى مكة، فدخلناها ورجلاي قد انتفختا وتنضختا دما، وقد لقيت تعبا ونصبا وشقاء لم أظن أنني أسلم معه، وبقيت بمكة مدة أداوي ما لحقني وأصابني، وتحققت أن ذلك جواب ما خطر لي واعترضني، وعجبت من ذلك، وكثر فيه فكري!.
1 / 46