١٧٤ - وحكي أن الرشيد والفضل بن الربيع خرجا في يوم صائف لتنسم الأخبار ومشاهدة الناس على عادة كانت للرشيد في ذاك، فبلغا في الظهيرة إلى باب كبير، وفي دهليزه حباب وجرار لطاف والرحبة التي فيها آلباب مرشوشة مكنوسة، وفيها دكة عليها بارية جديدة، والهواء في الموضع رقيق كثير، فجلسا، وسمعا من الدار صوت غناء، فدخلا الدهليز وتطلعا إلى الدار، فرأيا غلاما شابا وبين يديه مجلس ظريف وعتيدة يخرج منها منها ثياب النساء، فيقلبها ويبكي ويقبلها، ويغني بالعود أطيب غناء وأحرقه، فطرقا الباب، فخرج إليهما، فلما رآهما قال: مرحبا بكما، ألكما رأي في الدخول والقيلولة عند عبدكما؟ فقالا: نعم، فدخلا وغلق الغلام الباب، وقدم لهما طستا وإبريقا ومنديلا دبيقيا، وأقلب عليهما حتى توضأا وصليا، وقدم لهما ما أكلاه، وأخذا في الشرب معه، فقالا له: رأيناك تخرج من هذه العتيدة ثياب امرأة فتقبلها وتبكي وتغني عليها وكان سبق إلى وهم الرشيد أنه كان يحب امرأة فقتلها وجعل ثيابها عنده، يذكرها بها، ويبكي عليها، وهو مجتهد في أن يعلم صحة ذاك وتحقيقه ليقيده بها، ويحقق الأمر عنده كون الرجل وحده وخلو الدار من غلام وجارية أو صاحب أو أنيس! فقال لهما: لا تسألاني ودعاني! فمازحاه ولاطفاه وألحا عليه إلى أن قال: اسمعا خبرني فإنه عجيب، وأمري فإنه غريب، كان والدي وهب لي وأنا صغير جارية في سني وقريبة مني، وتربت معي ودخلت الكتاب لدخولي، فتعلمت الكتابة والقراءة أجود مني، وعلمت الغناء فتعلمت معها، وتحاببنا حبا شديدا، ومات والدي أعظم ما كنت بها وجدا، فرفع خبرنا إلى الفضل ابن الربيع لعنه الله فرفعه إلى الرشيد كافأه الله فلم أشعر إلا بالجارية قد أخذت مني، وحملت إلى دار الخلافة خبرها الله، فاستغثت وقلت: لأي حال تؤخذ مملكتي؟ فاستخف الفضل بي قصم الله أجله وتبر عمره وقال: هذه جارية أبيك، ولا يجوز أن تكون بعده معك، والظاهر من أمرها أنها تجري مجرى الوالدة لك، فأحضر النخاسين وانظر قيمتها ليسلم إليك، فحلفت على أن أبي وهبها لي منذ كنا طفلين، فلم يلتفت علي، وأمرني فانصرفت، ولم تطب نفسي بقبض ثمنها، وغصبت عليها! هذه صفتي وحالي! فسري عن الرشيد، وقال له: ما اسمها؟ فقال: عتب، فقال له: أعلم أننا من قوم سحرة، كهنة مخدومون، ونحن نجمع الليلة بينك وبينها، ونذلل لك الجن حتى يحملوك إليها ويعيدوك وقد نعمت عينا بالاجتماع معها طول ليلتك! فقال: أنتما رائدا الخير، وأرجو أن يصح لي منكما هذا الخبر! فسار الرشيد الفضل وقال له: تقدم إلى الفراش الخاص بأن يحضر منام الناس، ويجلس على الباب، ومعه خمسة من الفراشين الأجلاد ومعهم كساء كبير وثيق، وأحضر أنت معك بنجا جيدا وشيئا من البراكير الحديد وما نوهمه به أننا نضرب له مندلا ونحضر الجن، وتقدم إلى عتب بأن تزين دارها، وتتخذ طعاما وشرابا وتعما مجلسا جميلا وتعليق الدار بأصناف الثياب المنقوشة، وتستكثر من الشمع، فإنني أريد الليلة الشرب عندها! فقال: السمع والطاعة؛ وقال له ظاهرا: قم وأحضر أداتنا، فنريد أن نتعصب مع صديقنا الليلة! فقال: حبا وكرامة؛ وانصرف وعاد آخر النهار ومعه برخاشات توهم أنها آلة، فلما أعتم الليل ضربا مندلا وتكلما عليه، ثم أقعداه في وسطه وسقياه قدحا فيه البنج، فوقع لا يعقل أمره، ودخل الفراشون فحملوه في الكساء، وأقعدوا واحدا منهم في الدار، وانصرفوا به إلى دار عتب فطرحاه فيها؛ وقال الرشيد لعتب: هذا مولاك؟ قالت: نعم، قال لها: قد رجعت إلى رقه على شرط وهو أنك لا تعلمينه بما فعلنا به، وكوني معه كأنكما لم تتفارقا، ليتصور أنه يراك ويرى ما هو فيه في النوم، فإن أطلعته على أننا جئنا به إليك أخذنا رأسك! فقالت: الله الله يا مولانا! وأعطاها دواء يخلص من البنج، فسقته إياه، وطرحت عليه الماء البارد، فاستيقظ ورأى تلك الشموع والدار والمجلس والجارية، ففرح وقال لها: يا عتب، قالت: لبيك يا سيدي، وجلست تغني له وتشرب معه، وهو يقبلها ويفرح بها، ويتعجب مما هو فيه، ويقول لها: أليس أخذت مني؟ أليس فعل بي الفضل بن الربيع لعنه الله كذا وكذا؟ وأخذك الرشيد مني فعل الله به وصنع! وجاءني البارحة ساحران فضربا لي مندلا وجمعا بيني وبينك، فاحذري لا يشعر بنا الرشيد فنهلك! فقالت: الله تعالى يكفي! وبقي يحدثها فيما نحن فيه، فلما صار آخر
1 / 45