لا يدرك المرء نظم أمة أجنبية إلا إذا تناسى، قليلا، مبادئ البيئة التي يعيش فيها وفرض نفسه من أبناء تلك الأمة، ولا سيما إذا كانت تلك النظم من نوع مبدأ تعدد الزوجات الذي لما تعلم حقيقة أمره إلا قليلا فأسيء الحكم فيه.
ولا نذكر نظاما أنحى الأوربيون عليه بالائمة كمبدأ تعدد الزوجات، كما أننا لا نذكر نظاما أخطأ الأوربيون في إدراكه كذلك المبدأ، وذلك أن أكثر مؤرخي أوربة اتزانا يرون أن مبدأ تعدد الزوجات حجر الزاوية في الإسلام، وأنه سبب انتشار القرآن، وأنه علة انحطاط الشرقيين، ونشأت عن هذه المزاعم الغريبة، على العموم، أصوات سخط رحمة بأولئك البائسات المكدسات في دوائر الحريم، واللائي يرقبهن خصيان غلاظ، ويقتلن حينما يكرههن سادتهن.
ذلك الوصف مخالف للحق، وأرجو أن يثبت عند القارئ الذي يقرأ هذا الفصل، بعد أن يطرح عنه أوهامه الأوربية جانبا، أن مبدأ تعدد الزوجات الشرقي نظام طيب يرفع المستوى الأخلاقي في الأمم التي تقول به، ويزيد الأسرة ارتباطا، ويمنح المرأة احتراما وسعادة لا تراهما في أوربة.
وأقول، قبل إثبات ذلك: إن مبدأ تعدد الزوجات ليس خاصا بالإسلام، فقد عرفه اليهود والفرس والعرب وغيرهم من أمم الشرق قبل ظهور محمد، ولم تر الأمم التي اعتنقت الإسلام فيه غنما جديدا إذن، ولا نعتقد، مع ذلك، وجود ديانة قوية تستطيع أن تحول الطبائع فتبتدع، أو تمنع، مثل ذلك المبدأ الذي هو وليد جو الشرقيين وعروقهم وطرق حياتهم.
وتأثير الجو والعرق من الوضوح بحيث لا يحتاج إلى إيضاح كبير، وبما أن تركيب المرأة الجثماني وأمومتها وأمراضها ... إلخ. مما يكرهها على الابتعاد عن زوجها في الغالب، وبما أن التأيم المؤقت مما يتعذر في جو الشرق، ولا يلائم مزاج الشرقيين، كان مبدأ تعدد الزوجات ضربة لازب.
وفي الغرب، حيث الجو والمزاج أقل هيمنة، لم يكن مبدأ الاقتصار على زوجة واحدة في غير القوانين، لا في الطبائع حيث يندر.
ولا أرى سببا لجعل مبدأ تعدد الزوجات الشرعي عند الشرقيين أدنى مرتبة من مبدأ تعدد الزوجات السري عند الأوربيين، وأبصر العكس فأرى ما يجعله أسنى منه، وبهذا ندرك مغزى تعجب الشرقيين الذين يزورون مدننا الكبيرة من احتجاجنا عليهم ونظرهم إلى هذا الاحتجاج شزرا.
ومن السهل أن ندرك علل إقرار الشرائع الشرقية لمبدأ تعدد الزوجات بعد أن نشأ عن العوامل الجثمانية المذكورة آنفا، فحب الشرقيين الجم لكثرة الأولاد، وميلهم الشديد إلى حياة الأسرة وخلق الإنصاف الذي يردعهم عن ترك المرأة غير الشرعية بعد أن يكرهوها، خلافا لما يقع في أوربة، وغير ذلك من الأسباب الكثيرة التي أعود إليها عما قليل، كلها أمور تحفز الشرائع إلى تأييد العادات التي هي وليدة الطبائع، وإذا نظرنا إلى أن القوانين لا تلبث أن تطابق العادات كان لنا أن نقول: إن تعدد الزوجات غير الشرعي في أوربة لا يلبث أن تؤيده القوانين.
شكل 4-1: بائعة خزف في مصر العليا (صورة مأخوذة من إيبر).
شكل 4-2: فتاة قبطية (من تصوير إيبر).
صفحة غير معروفة