حضارة العرب
مقدمة المترجم
مقدمة المؤلف
الباب الأول: البيئة والعرق
1 - جزيرة العرب
2 - العرب
3 - العرب قبل ظهور محمد
الباب الثاني: مصادر قوة العرب
1 - محمد: نشوء الدولة العربية
2 - القرآن
3 - فتوح العرب
الباب الثالث: دولة العرب
1 - العرب في سورية
2 - العرب في بغداد
3 - العرب في بلاد فارس والهند
4 - العرب في مصر
5 - العرب في إفريقية الشمالية
6 - العرب في إسپانية
7 - العرب في صقلية وإيطالية وفرنسة
8 - اصطراع النصرانية والإسلام
الباب الرابع: طبائع العرب ونظمهم
1 - أهل البدو وأهل الأرياف من العرب
2 - عرب المدن: طبائعهم وعاداتهم
3 - نظم العرب السياسية والاجتماعية
4 - المرأة في الشرق
5 - الدين والأخلاق
الباب الخامس: حضارة العرب
1 - مصادر معارف العرب: تعليمهم ومناهجهم
2 - اللغة والفلسفة والآداب والتاريخ
3 - الرياضيات وعلم الفلك
4 - العلوم الجغرافية
5 - الفيزياء وتطبيقاتها
6 - العلوم الطبيعية والطبية
7 - الفنون العربية
8 - فن عمارة العرب
9 - تجارة العرب: صلاتهم بمختلف الأمم
10 - تمدين العرب لأوربة: تأثيرهم في الشرق والغرب
الباب السادس: انحطاط حضارة العرب
1 - ورثة العرب
2 - أسباب عظمة العرب وانحطاطهم
المصادر
حضارة العرب
مقدمة المترجم
مقدمة المؤلف
الباب الأول: البيئة والعرق
1 - جزيرة العرب
2 - العرب
3 - العرب قبل ظهور محمد
الباب الثاني: مصادر قوة العرب
1 - محمد: نشوء الدولة العربية
2 - القرآن
3 - فتوح العرب
الباب الثالث: دولة العرب
1 - العرب في سورية
2 - العرب في بغداد
3 - العرب في بلاد فارس والهند
4 - العرب في مصر
5 - العرب في إفريقية الشمالية
6 - العرب في إسپانية
7 - العرب في صقلية وإيطالية وفرنسة
8 - اصطراع النصرانية والإسلام
الباب الرابع: طبائع العرب ونظمهم
1 - أهل البدو وأهل الأرياف من العرب
2 - عرب المدن: طبائعهم وعاداتهم
3 - نظم العرب السياسية والاجتماعية
4 - المرأة في الشرق
5 - الدين والأخلاق
الباب الخامس: حضارة العرب
1 - مصادر معارف العرب: تعليمهم ومناهجهم
2 - اللغة والفلسفة والآداب والتاريخ
3 - الرياضيات وعلم الفلك
4 - العلوم الجغرافية
5 - الفيزياء وتطبيقاتها
6 - العلوم الطبيعية والطبية
7 - الفنون العربية
8 - فن عمارة العرب
9 - تجارة العرب: صلاتهم بمختلف الأمم
10 - تمدين العرب لأوربة: تأثيرهم في الشرق والغرب
الباب السادس: انحطاط حضارة العرب
1 - ورثة العرب
2 - أسباب عظمة العرب وانحطاطهم
المصادر
حضارة العرب
حضارة العرب
تأليف
غوستاف لوبون
ترجمة
عادل زعيتر
إسكملة من البرونز المكفت بالفضة للسطان محمد بن قلاوون، صنعت في القرن الثالث عشر من الميلاد (متحف الآثار العربية بالقاهرة، من تصوير المؤلف الفوتوغرافي).
حضارة العرب
«إن القوة لم تكن عاملا في انتشار القرآن ما ترك العرب المغلوبين أحرارا في أديانهم، فإذا حدث أن اعتنق بعض الأقوام النصرانية الإسلام، واتخذوا العربية لغة لهم، فذلك لما رأوه من عدل العرب الغالبين مما لم يروا مثله من سادتهم السابقين، ولما كان عليه الإسلام من السهولة التي لم يعرفوها من قبل.» «ولم ينتشر القرآن، إذن بالسيف، بل انتشر بالدعوة وحدها، وبالدعوة وحدها اعتنقته الشعوب التي قهرت العرب مؤخرا، كالترك والمغول.» «أدرك الخلفاء السابقون، الذين كان عندهم من العبقرية السياسية ما ندر وجوده في دعاة الديانات الجديدة، أن النظم والأديان ليست مما يفرض قسرا؛ فعاملوا أهل كل قطر استولوا عليه بلطف عظيم، تاركين لهم قوانينهم ونظمهم ومعتقداتهم، غير فارضين عليهم سوى جزية زهيدة في الغالب، إذا ما قيست بما كانوا يدفعون سابقا في مقابل حفظ الأمن بينهم، فالحق أن الأمم لم تعرف فاتحين متسامحين مثل العرب، ولا دينا سمحا مثل دينهم.»
غوستاف لوبون
مقدمة المترجم
بسم الله الرحمن الرحيم
1
كان من نتائج اصطراع الشرق والغرب منذ قرون مضت، وإلقاء العرب الرعب في قلوب الأوربيين - أن صار الأوربيون يشعرون بمذلة الخضوع للحضارة العربية التي لم يتحرروا من سلطانها إلا منذ زمن قريب، فأخذوا ينكرون فضل العرب على أوربة وتمدينهم لها، وأصبح هذا الإنكار من تقاليد مؤرخي أوربة وكتابها الذين لم يقروا لغير اليونان والرومان بتمدينها، وقد ساعدهم على هذا ما عليه العرب والمسلمون من التأخر في الزمن الأخير، فلم يشاءوا أن يروا للعرب رقيا تاريخيا أعظم مما هم عليه الآن غير ناظرين إلى أن نجم حضارة العرب أفل منذ أجيال، وأنه لا يصح اتخاذ الحال دليلا على الماضي.
ولم تخل أوربة، مع ذلك، من مؤرخين أبصروا ما للعرب من فضل في تمدين أوربة، فألفوا كتبا اعترفوا فيها للعرب بما ليس فيه الكفاية.
وقد راع هذا الجحود العلامة الفرنسي الكبير غوستاف لوبون، وهو الذي هدته رحلاته في العالم الإسلامي ومباحثه الاجتماعية إلى أن العرب هم الذين مدنوا أوربة، فرأى أن يبعث عصر العرب الذهبي من مرقده، وأن يبديه للعالم في صورته الحقيقية ما استطاع، فأخرج في سنة 1884 كتاب «حضارة العرب» الذي نعرض ترجمته على الناطقين بالضاد.
سلك العلامة لوبون في تأليف كتاب: «حضارة العرب» طريقا لم يسبقه إليها أحد، فجاء جامعا لعناصر هذه الحضارة وتأثيرها في العالم، شاملا لعجائبها مفصلا لعواملها، باحثا في قيام دولة العرب، وفي أسباب عظمتهم وانحطاطهم، مبتعدا عن أوهام الأوربيين التقليدية في العرب والإسلام.
وقد استعان لوبون بطريقة التحليل العلمي على الخصوص، فأوضح في هذا الكتاب الصلة بين الحاضر والماضي، ووصف فيه عرق العرب وبيئاتهم، ودرس فيه أخلاقهم وعاداتهم وطبائعهم ونظمهم ومعتقداتهم وعلومهم وآدابهم وفنونهم وصناعتهم وتأثيرهم في المشرق والمغرب، وأسباب عظمتهم وانحطاطهم.
2
لم يكن العرب، على رأي لوبون، من الأجلاف قبل الإسلام، وقد رأى أن السجايا الخلقية للعرق العربي هي التي عينت اتجاهه، وأنه، وإن أمكن ظهور حضارة أمة ولغتها بغتة على مسرح التاريخ، لا يكون هذا إلا نتيجة نضج بطيء، وأن تطور الأشخاص والأمم والنظم والمعتقدات لا يتم إلا بالتدريج، وأن درجة التطور العالية التي تبدو للعيان لا تبلغ إلا بعد الصعود في درجات أخر، فإذا ما ظهرت أمة ذات حضارة راقية كانت هذه الحضارة ثمرة ماض طويل، ورأى لوبون، أيضا، أن جهل الناس لهذا الماضي الطويل لا يعني عدم وجوده، وأن الحضارة التي أقامها العرب في أقل من مائة سنة، وهي من أنضر الحضارات التي عرفها التاريخ، ليس مما يأتي عفوا، وأنه كان للعرب قبل الإسلام حضارة لم تكن دون حضارة الآشوريين والبابليين تقدما، وكان للعرب، عدا الآثار القليلة التي كشف عنها، لغة ناضجة وآداب راقية، وكان العرب ذوي صلات تجارية بأرقى أمم العالم عالمين بما يتم خارج جزيرتهم، فالعرب الذين هذا شأنهم كانوا، لا ريب، من ذوي القرائح التي لا تتم إلا بتوالي الوراثة وبثقافة سابقة مستمرة، والعرب الذين صقلت أدمغتهم على هذا الوجه استطاعوا أن يبدعوا حضارتهم الزاهرة بعد خروجهم من جزيرتهم في مدة قصيرة.
ثم أيد لوبون وجهة نظره بقوله: «إن البرابرة الذين قوضوا دعائم الإمبراطورية الرومانية قاموا بجهود عظيمة دامت قرونا كثيرة قبل أن يقيموا حضارة على أنقاض الحضارة اللاتينية، ويخرجوا من ظلمات القرون الوسطى.»
ثم ذهب لوبون إلى أن المعتقدات القديمة في جزيرة العرب كانت قد ضعفت، وفقدت الأصنام قوتها ودب الهرم في آلهتها، وأنه كان في الجزيرة العربية، خلا النصارى واليهود، من كانوا يعبدون إلها واحدا، وهم الحنفاء.
ولكن لوبون، الذي ذكر استعداد العرب للقيام برسالتهم العظمى، أشاد بفضل الرسول الأعظم على العرب، وزعامته الكبرى لهم، فالرسول في نظره «كان يبدو رابط الجأش إذا ما هزم، ومعتدلا إذا ما نصر»، وذهب لوبون إلى أن الرسول الأعظم «كان شديد الضبط لنفسه، كثير التفكير، صموتا حازما، سليم الطوية ... صبورا قادرا على احتمال المشاق، ثابتا بعيد الهمة، لين الطبع وديعا ... وكان مقاتلا ماهرا، فكان لا يهرب أمام المخاطر، ولا يلقي بيديه إلى التهلكة، وكان يعمل ما في الطاقة لإنماء خلق الشجاعة والإقدام في بني قومه ... وكان عظيم الفطنة.»
ورأى لوبون أن السيد الرسول الذي كانت تلك صفاته أتى العرب، الذين لا عهد لهم بالمثل العليا، بمثل عال اهتدوا به، فاكتسب العرب بهذا المثل العالي آمالا متماثلة، وتوجهت به جهودهم إلى غرض واحد، وصاروا مستعدين للتضحية بأنفسهم في سبيل نشره في أنحاء الدنيا، ثم قال: «إن محمدا أصاب في بلاد العرب نتائج لم تصب مثلها جميع الديانات التي ظهرت قبل الإسلام، ومنها اليهودية والنصرانية، ولذلك كان فضل محمد على العرب عظيما ... وإذا ما قيست قيمة الرجال بجليل أعمالهم كان محمد من أعظم من عرفهم التاريخ ... والتعصب الديني هو الذي أعمى بصائر مؤرخي الغرب عن الاعتراف بفضل محمد.»
3
قامت عظمة الرومان على عبادة رومة، وكانت رومة سيدة العالم حين كان الروماني يضحي بنفسه في سبيل عظمتها، ثم فقدت الأمم الإغريقية والرومانية والآسيوية مثلها العليا، ولم يبق لحب الوطن والدين والاستقلال والأمة والمدينة أثر في نفوس أبنائها، وصارت الأثرة كل ما في قلوب هؤلاء، «والأثرة إذا كانت دليل قوم عجزوا عن مقاومة قوم آخرين مستعدين للتضحية بأنفسهم في سبيل معتقداتهم.»
وصار العرب أمة واحدة بفضل الإسلام، وأصبح الإسلام مثل العرب الأعلى، واكتسب العرب به من الحمية ما استعدوا معه لفتح العالم إعلاء لشأنه بقيادة زعمائهم الماهرين.
ولم تكن جزيرة العرب قبل الإسلام سوى ميدان حرب دائم واسع لما تأصل في العرب من الطبائع الحربية، فقد جاء الإسلام وألف بين قلوب العرب ووجهوا جميع قواتهم إلى البلاد الأجنبية، وهم الذين ورثوا الشجاعة أبا عن جد، صرعوا الأغارقة والفرس بفضل يقينهم، وصار الناس يدخلون في الإسلام، وينتحلون لغة العرب أفواجا.
وهنا يبدو إنصاف العلامة لوبون في بيان أسباب ذلك، فقد صرح بأن وضوح الإسلام من أسباب انتشاره، وبأن وضوحه هذا مشتق من قوله بالتوحيد المحض الذي فيه سر قوته.
ومن أسباب انتشار الإسلام، كما بين لوبون، ما أمر به من العدل والإحسان، وما انطوى عليه من التهذيب للنفوس والتسامح والملاءمة لمناحي العلم واكتشافاته.
ثم رد العلامة لوبون على الزعم القائل: «إن الإسلام انتشر بالقوة»، فمما قاله: «إن القوة لم تكن عاملا في انتشار القرآن ما ترك العرب المغلوبين أحرارا في أديانهم، فإذا حدث أن اعتنق بعض الأقوام النصرانية الإسلام، واتخذوا العربية لغة لهم، فذلك لما رأوه من عدل العرب الغالبين مما لم يروا مثله من سادتهم السابقين، ولما كان عليه الإسلام من السهولة التي لم يعرفوها من قبل.» «ولم ينتشر القرآن، إذن، بالسيف، بل انتشر بالدعوة وحدها، وبالدعوة وحدها اعتنقته الشعوب التي قهرت العرب مؤخرا، كالترك والمغول.» «أدرك الخلفاء السابقون، الذين كان عندهم من العبقرية السياسية ما ندر وجوده في دعاة الديانات الجديدة، أن النظم والأديان ليست مما يفرض قسرا؛ فعاملوا أهل كل قطر استولوا عليه بلطف عظيم تاركين قوانينهم ونظمهم ومعتقداتهم، غير فارضين عليهم سوى جزية زهيدة، في الغالب، إذا ما قيست بما كانوا يدفعون سابقا في مقابل حفظ الأمن بينهم، فالحق أن الأمم لم تعرف فاتحين متسامحين مثل العرب، ولا دينا سمحا مثل دينهم.» «وما جهله المؤرخون من حلم العرب الفاتحين وتسامحهم كان من الأسباب السريعة في اتساع فتوحهم، وفي سهولة اعتناق كثير من الأمم لدينهم ونظمهم ولغتهم التي رسخت وقاومت جميع الغارات، وبقيت قائمة حتى بعد تواري سلطان العرب عن مسرح العالم.»
وأكثر لوبون، في مواضع كثيرة، من ذكر الأمثلة على تسامح العرب ورأفتهم بالمغلوبين، ومن ذلك «أن العرب حاصروا الإسكندرية حصارا دام أربعة عشر شهرا، وقتل في أثنائه ثلاثة وعشرون ألف جندي من العرب، وأن عمرو بن العاص كان سمحا رحيما نحو أهل الإسكندرية مع تلك الخسارة التي أصيب بها العرب، ولم يقس عليهم، وصنع ما يكسب به قلوبهم، وأجابهم إلى مطالبهم، وأصلح أسدادهم وترعهم، وأنفق الأموال الطائلة على شؤونهم العامة.»
ولذلك لم يكد القرن الأول من الهجرة ينقضي حتى كانت راية النبي العربي تخفق فوق البلاد الواقعة بين الهند والمحيط الأطلنطي، وبين القفقاس والخليج الفارسي وفوق إسپانية.
4
وبحث العلامة لوبون في القرآن وأصول الإسلام، وفيما يسنده بعض كتاب أوربة إلى الإسلام من عوامل الانحطاط، كعقيدة القضاء والقدر (الجبرية) وأحوال المرأة، ومبدأ تعدد الزوجات.
رأى لوبون أنه ليس في القرآن من الجبرية ما ليس في الأديان الأخرى، وأن فريقا من فلاسفة الوقت الحاضر وعلمائه يقول: إن مجرى الحوادث تابع لسنة لا تتبدل، وأن الجبرية الإسلامية نوع من التسليم الهادئ الذي يعلم به الإنسان كيف يخضع لحكم القدر من غير تبرم وملاومة، «وتسليم مثل هذا وليد مزاج أكثر منه عقدة، والعرب كانوا جبريين بمزاجهم قبل ظهور محمد، فلم يكن لجبريتهم تأثير في ارتقائهم، كما أنها لم تؤد إلى انحطاطهم.»
ولما تناول لوبون حال المرأة في الإسلام بين أن الرجال كانوا، قبل ظهور الرسول، يعدون منزلة النساء متوسطة بين الأنعام والإنسان، وأنهم كانوا يرونها أداة للاستيلاد والخدمة، وأن عادة الوأد كانت شائعة بين عرب الجاهلية، ثم جاء الإسلام وحسن حال المرأة، وكان أول دين رفع شأنها، ومنحها حقوقا إرثية لا تجد مثلها في القوانين الأوربية، وأمر بمعاملتها بأحسن مما في تلك القوانين، وبين لوبون، أيضا، أن نقصان شأن المرأة حدث خلافا للإسلام، لا بسبب الإسلام، وأن الإسلام، الذي كان أول دين رفع شأن المرأة، بريء من خفضه، وأنه اتفق للنساء أيام حضارة العرب ما اتفق لأخواتهن حديثا في أوربة من التقدم، ثم التمس لوبون العذر للشرقيين في مراقبة المرأة، فقال: «إن الشرقيين، إذ كانوا مطلعين بغرائزهم على سرائر الأمور، وكانوا يرون من طبيعة المرأة أن تكون غادرة غير وفية، كما أن الطيران من طبيعة الطير، وكانوا حريصين على صفاء نسلهم، اتخذوا ما يروقهم من وسائل الحذر منعا لحدوث ما يخشون.»
وأنحى لوبون باللائمة على مؤرخي أوربة الذين قالوا: إن مبدأ تعدد الزوجات هو ركن الإسلام، وإنه علة انحطاط الشرقيين، فمبدأ تعدد الزوجات، كما أوضح لوبون، لم يكن خاصا بالإسلام، فقد عرفه اليهود والفرس والعرب وغيرهم من أمم الشرق قبل ظهور الرسول، ولم تر الأمم التي اعتنقت الإسلام شيئا جديدا فيه، وعند لوبون: «أن حب الشرقيين الجم لكثرة الأولاد وميلهم الشديد إلى حياة الأسرة، وخلق الإنصاف الذي يردعهم عن ترك المرأة غير الشرعية بعد أن يكرهوها خلافا لما يقع في أوربة، وغير ذلك من الأسباب الكثيرة، كلها أمور تحفز الشرائع إلى تأييد العادات التي هي وليدة الطبائع، وإذا نظرنا إلى أن القوانين لا تلبث أن تطابق العادات كان لنا أن نقول: إن تعدد الزوجات غير الشرعي في أوربة لا يلبث أن تؤيده القوانين»، ولم ير لوبون سببا لجعل مبدأ تعدد الزوجات الشرعي عند الشرقيين أدنى مرتبة من مبدأ تعدد الزوجات السري الخبيث الذي يؤدي إلى زيادة اللقطاء في أوربة.
وإنما عزا لوبون سقوط الدولة العربية وانحطاط العرب إلى صفات العرب الحربية المتأصلة التي كانت نافعة في دور فتوحهم، فالعرب بعد أن تمت فتوحهم أخذ ميلهم إلى الانقسام يبدو، وصارت دولتهم تتجزأ، وقوضوا كيانهم بسلاحهم أكثر مما قوض بسلاح الأمم الأخرى، وعزا لوبون انحطاط العرب، أيضا، إلى ما حدث من قبض أناس من ذوي العقول المتوسطة على زمام دولتهم الواسعة بعد أن كان يدير شؤونها رجال من العباقرة، وإلى ما ألفه العرب من الترف، وما أصابهم من فتور في الحماسة لمثلهم الأعلى، وإلى تنافس مختلف الشعوب التي خضعت لسلطانهم، وإلى فساد الدم العربي الذي نشأ عن توالد العرب وتلك الشعوب.
وعلى ما في هذه الأسباب من الصحة لا نعتقد أن لوبون أصاب حين ظن أن من أصول الإسلام النظام الأساسي القائل بجمع جميع السلطات في يد سيد مطلق، وحين عزا انحطاط العرب إلى هذا النظام الذي حمل به الناس كما ادعى، على التمسك بأحكام الماضي الإسلامية غير المطابقة لاحتياجاتهم المتحولة، فبعد أن أوضح لوبون أن نظام العرب ديموقراطي، وأن مبدأ المساواة التامة ساد الجميع بفضله، وأن الفقهاء ساروا على مبدأ «لا ينكر تغير الأحكام بتغير الأمكنة والأزمان»، وأن المسلمين في عصر خلفاء بغداد وقرطبة الزاهر كانوا يعلمون، بما يأتون من ضروب الاجتهاد، كيف يوفقون بين هذه الأحكام واحتياجات الأمم التي انتحلتها، كان من الخطأ ذهابه إلى أن نظام الحكم المطلق هو من أصول الإسلام، جاء في القرآن:
ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون ...
وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله ...
وأمرهم شورى بينهم ... إلخ، وقال الرسول الأعظم: «الدين النصيحة لله ولكتابه، ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم» ... و«إن الله يرضى لكم أن تعبدوه وحده، ولا تشركوا به شيئا، وأن تعتصموا بحبل الله جميعا، وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم» ... و«ما تشاور قوم إلا هدوا لأرشد أمرهم» ... و«إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب من عنده» ... إلخ.
5
وبعد أن أوضح العلامة لوبون أن الإسلام ألف بين قلوب العرب، وأنهم فتحوا العالم بفضله متخذين ما أمرهم به من العدل والإحسان والتسامح والرأفة بالأمم المغلوبة دستورا لهم، قال: «كان من سياسة العرب الثابتة، إذا ما أرادوا الاستقرار بقطر؛ أن يكونوا على وئام مع الأهلين المغلوبين، وأن يحترموا دينهم وشرائعهم، وأن يكتفوا بأخذ جزية طفيفة منهم»، وإلا كان همهم تمويل الجنود وأخذ الغنائم.
وأثبت لوبون، بما لا يترك للشك مجالا، أن عبد الرحمن الغافقي لم يهدف من غزوه لفرنسة إلا الاستقرار بها واتخاذها قاعدة للاستيلاء على أوربة، وأن النصر الذي أحرزه شارل مارتل في پواتيه لم يكن مهما كما زعم المؤرخون، بدليل عجز شارل مارتل عن استرداد أية مدينة استولى عليها العرب عسكريا في فرنسة، وبدليل بقاء العرب، بعد معركة پواتيه مدة قرنين في جنوب فرنسة، وبدليل محالفة بعض أمراء فرنسة العرب على شارل مارتل الذي أخذ ينهب بلادهم، ثم قال لوبون: «إن النتيجة المهمة الوحيدة التي أسفر عنها انتصار شارل مارتل في پواتيه هي أنه جعل العرب أقل جرأة على غزو شمال فرنسة، ونتيجة مثل هذه لم تكف لتكبير أهمية انتصار هذا القائد الفرنجي.»
ثم ألمع لوبون، بعد أن ذكر غاية العرب من غزو فرنسة، إلى تخوف مؤرخي الغرب على مصير أوربة فيما لو كان النصر قد تم للعرب في معركة پواتيه وكانت غايتهم الاستيلاء، وقال: «لنفرض، جدلا، أن النصارى عجزوا عن دحر العرب، وأن العرب وجدوا جو شمال فرنسة غير بارد ولا ماطر كجو إسپانية فطابت لهم الإقامة الدائمة به، فماذا كان يصيب أوربة؟ كان يصيب أوربة النصرانية المتبربرة مثل ما أصاب إسپانية من الحضارة الزاهرة تحت راية النبي العربي، وكان لا يحدث في أوربة، التي تكون قد هذبت، ما حدث فيها من الكبائر، كالحروب الدينية وملحمة سان بارتلمي ومظالم محاكم التفتيش، وكل ما لم يعرفه المسلمون من الوقائع التي ضرجت أوربة بالدماء عدة قرون.»
وقد خصص العلامة لوبون فصلا للحروب الصليبية أشار فيه، غير مرة، إلى الفرق بين الفتح العربي والغارات الصليبية من حيث التسامح وحسن معاملة المغلوبين والسياسة الرشيدة، فقال: «كانت أوربة، ولا سيما فرنسة، في القرن الحادي عشر الذي جردت فيه الحملة الصليبية الأولى في أشد أدوار التاريخ ظلاما ... ولم يكن الصراع العظيم الذي كان يتمخض عنه العالم غير نزاع عظيم بين أقوام من الهمج، وحضارة تعد من أرقى الحضارات التي عرفها التاريخ.»
وقال لوبون، بعد أن ذكر الفظائع الوحشية وأعمال التخريب والسلب التي اقترفها الصليبيون في طريقهم إلى القدس، وذبحهم لمئات الألوف من المسلمين والعرب والأبرياء: «كان سلوكهم حين دخلوا القدس غير سلوك الخليفة الكريم عمر بن الخطاب نحو النصارى.»
ثم قال لوبون، الذي روى لنا أن أول ما بدأ به قائد الحملة الصليبية الثالثة ريكاردوس هو قتله صبرا ثلاثة آلاف أسير مسلم سلموا أنفسهم إليه بعد أن قطع لهم عهدا بحقن دمائهم: «ليس من الصعب أن يتمثل المرء درجة تأثير تلك الكبائر في صلاح الدين النبيل الذي رحم نصارى القدس فلم يمسهم بأذى، والذي أمد فليب أوغست وقلب الأسد ريكاردوس بالأزواد والمرطبات في أثناء مرضهما، فقد أبصر الهوة العميقة بين تفكير الرجل المتمدن وعواطفه وتفكير الرجل المتوحش ونزواته.»
وتمنى العلامة لوبون أن يكون العرب قد استولوا على العالم، ومنه أوربة، لما كان فيهم من نبيل الطبائع وكريم السجايا، فأعرب عن ذلك بقوله: «يروى، مع التوكيد، أن موسى بن نصير فكر، بعد فتح إسپانية، في العودة إلى سورية من بلاد الغول وألمانية، وفي الاستيلاء على القسطنطينية، وفي إخضاع العالم القديم لأحكام القرآن، وأنه لم يعقه عن ذلك العمل العظيم سوى أمر الخليفة إياه بأن يعود إلى دمشق، فلو وفق موسى بن نصير لذلك لجعل أوربة مسلمة، ولحقق للأمم المتمدنة وحدتها الدينية ولأنقذ أوربة، على ما يحتمل، من دور القرون الوسطى الذي لم تعرفه إسپانية بفضل العرب.»
6
ولم يكن دور الفتح سوى وجه من وجوه تاريخ العرب، ولم تعن إقامة دولة عظيمة إبداع حضارة، والعرب قد أبدعوا حضارة جديدة، ولم يلبث دور ازدهار حضارتهم أن بدأ بعد أن فرغوا من فتوحهم، وما بذلوا من الجهود في الوقائع الحربية وجهوا مثله إلى الآداب والعلوم والصناعة، وأبدعوا فيها بسرعة ما أبدعوه في ضروب القتال، وكان لا بد من وجود عوامل لصعود العرب في سلم الحضارة والإبداع فيها.
رجع العلامة غوستاف لوبون هذه العوامل، خلا ما تقدم، إلى بيئة العرب وذكائهم اللامع وخيالهم الخصب وحيويتهم، وقال:
لم يلبث العرب بعد خروجهم من صحاري جزيرتهم أن وجدوا أنفسهم أمام ما بهرهم من آثار الحضارة الإغريقية اللاتينية، وأن أدركوا تفوقها الثقافي، كما أدركوا تفوقها الحربي فيما مضى، فجدوا، من فورهم؛ ليكونوا على مستواها.
ويتطلب استمراء حضارة راقية ذكاء مثقفا ... وقد أثبتنا أن العرب كانوا أيام الرسول ذوي ثقافة أدبية رفيعة.
والحق أن الرجل المثقف قد يجهل أمورا كثيرة، وإنما يتعلمها بسهولة؛ لما فيه من الاستعداد الذهني، وقد أظهر العرب في دراسة العالم، الجديد في أعينهم، من الحماسة كالاستعداد، الذي أبدوا لفتحه.
ولم يتقيد العرب في دراسة تلك الحضارة، التي واجهتهم فجأة، بمثل التقاليد التي أثقلت كاهل البزنطيين منذ زمن طويل، فكانت الحرية من أسباب تقدمهم السريع ... ولم يلبث أن تجلى استقلال العرب الروحي الطبيعي وخيالهم وقوة إبداعهم في مبتكراتهم الحديثة، وقد رأينا أنه لم يمض سوى وقت قصير حتى طبعوا على فن العمارة وسائر الفنون، ثم على مباحثهم العلمية، طابعهم الخاص الذي يبدو أول وهلة في آثارهم.
وقد استدل لوبون على أن العرب خرجوا من جزيرتهم أصحاب ذكاء مصقول من عجز البرابرة الذين قضوا على الدولة الرومانية، ومن عجز الترك والمغول الذين قضوا على الدولة العربية عن إبداع أية حضارة لعقولهم الغليظة، مع توافر عوامل البيئة، فقال:
يبدو لنا الفرق بين الأمم التي تكون على جانب كبير من الذكاء، كالأمة العربية، والأمم المنحطة، كبرابرة القرون الوسطى الذين قضوا على دولة الرومان، وأجلاف الترك والمغول الذين غمر طوفانهم دولة محمد.
فلقد أبدع العرب من فورهم، بعد أن استعانوا بحضارة اليونان وحضارة الرومان وحضارة الفرس، حضارة جديدة أفضل من الحضارات التي جاءت قبلها، وكانت عقول البرابرة عاجزة عن إدراك كنه الحضارة التي قهروا أهلها، وكان انتفاعهم بها ممسوخا في بدء الأمر، ولم يسيروا بها نحو الرقي إلا بعد أن صقلت أدمغتهم فصارت قادرة على إدراك معانيها بعد زمن طويل.
والواقع أن تقدم أولئك البرابرة الذين هدموا الدولة الرومانية لم يحدث إلا بتوالي الأجيال، وأنهم لبطء تقدمهم لم يستطيعوا إقامة حضارة جديدة على أنقاض حضارة القرون الأولى إلا بعد جهود استمرت قرونا كثيرة.
أما الترك والمغول فلم يكن لهم، على رأي لوبون، شأن في ميدان الحضارة، ولم يقدروا على الانتفاع بحضارة العرب انتفاعا كافيا، فضلا عن عدم استطاعتهم إبداع أي شيء بتوالي القرون.
حقا إن العرب أخذوا ينظمون شؤونهم بعد إنتهاء دور الفتوح، فحولوا جهودهم إلى ميدان الحضارة، وأبدعوا حضارة أينعت فيها الآداب والعلوم والفنون، وبلغت الذروة.
وهنا نذكر أن العلامة لوبون، الذي رأى أن العرب أثبتوا منذ ساعة اتصالهم بالعالم الخارجي أنهم من ذوي العقول الناضجة المستعدة للتمدن والتمدين، لم يسعه، حين تكلم عن تهمة حرق مكتبة الإسكندرية، سوى ردها عنهم بحرارة في الكلمات الآتية، وهي:
وأما إحراق مكتبة الإسكندرية المزعوم فمن الأعمال الهمجية التي تأباها عادات العرب، والتي تجعل المرء يسأل: كيف جازت هذه القصة على بعض العلماء الأعلام زمنا طويلا؟ وهذه القصة دحضت في زماننا فلا نرى أن نعود إلى البحث فيها، ولا شيء أسهل من أن نثبت، بما لدينا من الأدلة الواضحة، أن النصارى هم الذين أحرقوا كتب المشركين في الإسكندرية قبل الفتح العربي بعناية كالتي هدموا بها التماثيل، ولم يبق منها ما يحرق.
7
رأى العرب ذوو الذكاء اللامع والخيال الخصب والحيوية أنفسهم، في دور الفتح، في بيئات متباينة واقعة بين بلاد الهند والمحيط الأطلنطي، وكان لهذه البيئات تأثير متنوع فيهم مع تشابه صفاتهم الخاصة بعرقهم، فكان ما ترى من تفاوت في آثارهم الماثلة القائمة في تلك الأقطار، ومن وجود أوجه شبه بينها على العموم.
قال لوبون: «كان شأن العرب بالنسبة إلى المهندسين الأجانب الذين استخدموهم في دور الفتح كشأن الرجل الغني الذي يقيم لنفسه بيتا، فكما أن المهندس الذي يرسم بيت ذلك الغني يراعي فيه، لا ريب، ذوقه، نرى مهندسي الروم قد راعوا ذوق العرب فيما أقاموا لهم من المباني الأولى، فتجلت عبقرية العرب فيها.
ولم يلبث العرب، بعد أن تحرروا من المؤثرات الأجنبية، أن أصبح لعمارتهم من الأشكال والنقوش الخاصة ما صار من المتعذر معه خلطها بغيرها، وإن أمكن أن يرى شيء من الأثر البزنطي أو الفارسي أو الهندي في بعض زخارفها مع محافظة البناء في مجموعه على طابعه العربي.»
ولكن إبداع فن عمارة جديد لا يكفي لجعله أفضل من غيره، فقد يكون الفن الذي ظهر قبله خيرا منه، فإلى هذا انتبه العلامة لوبون، وقال: «يكفي الإنسان أن ينظر إلى إحدى البنايات التي أقيمت في دور راق من أدوار الحضارة العربية، مسجدا كان ذلك البناء أو قصرا، أو أن ينظر إلى ما صنع فيه من دواة أو خنجر أو جلد قرآن؛ ليرى لهذه الآثار طوابع خاصة لا يتطرق الوهم إليه في أصلها، والباحث في مصنوعات العرب، كبيرة كانت أو صغيرة، لا يرى فيها أية صلة ظاهرة بمصنوعات أية أمة أخرى، فالإبداع في مصنوعات العرب تام واضح ...
وتتجلى قوة الإبداع الفني في الأمم في سرعة تحويل ما ظفرت به من عناصر الفن، وجعله ملائما لاحتياجاتها وابتكارها بذلك فنا جديدا، فإذا تحقق هذا لدينا علمنا أن العرب لم تسبقهم أمة ...
وما على المرء إلا أن ينظر إلى آثار العرب الأدبية والفنية؛ ليعلم أنهم حاولوا تزيين الطبيعة دائما، وذلك لما اتصف به الفن العربي من الخيال والنضارة والبهاء وفيض الزخارف والتفنن في أدق الجزئيات.
والأمة العربية، قد رغبت بعد أن اغتنت (والأمة العربية أمة شعراء، وأي شاعر لا يكون متفننا) في تحقيق خيالاتها فأبدعت تلك القصور الساحرة التي يخيل إلى الناظر أنها مؤلفة من تخاريم رخامية مرصعة بالذهب والحجارة الكريمة.
ولم يكن لأمة مثل تلك العجائب، ولن يكون، فهي وليدة جيل فتي مضى، وخيال خصب ذوى، ولا يطمعن أحد في قيام مثلها في الدور الحاضر المادي الفاتر الذي دخل البشر فيه.»
ولم يستطع العلامة لوبون أن يمنع نفسه، وهو المفكر الوقور، من التغني بآثار العرب، وإبداء ذلك في كل مناسبة، ومن ذلك قوله عن جامع الصخرة في القدس: «والمرء قد يفكر في تلك القصور السحرية التي يبصرها بخياله أحيانا، ولكن الخيال دون الحقيقة في أمر جامع عمر.»
والخلاصة: أن لوبون رأى أن فنون العرب آية في الإعجاز، وأنها تورث العجب العجاب.
ولم ير لوبون أن انتفاع الفن العربي، بما اذخرته الأجيال السابقة مما يضره، فعند لوبون أن كل جيل يقتبس من الأجيال الماضية، وهو يضيف إلى ما اقتبسه إذا كان على ذلك من القادرين، قال لوبون: «أثبت العلم الرفيع أن أصول الفن اليوناني مقتبسة من الآشوريين والمصريين ... وأن العرب والأغارقة والرومان والفنيقيين والعبريين وكل أمة أخرى استفادوا من مجهودات الماضي، ولولا ذلك لكان لزاما أن تبدأ كل أمة بما بدأت به الأمم الأخرى، ولسد باب التقدم، وكل ما تفعله الأمة في بدء الأمر هو أنها تقتبس من الأمم التي جاءت قبلها، ثم تضيف إلى ما أخذته أمورا أخرى ...
وإذا أنعمت النظر في المباني العربية، كالقصور التي أقامها العرب في الأندلس أو المساجد التي أقاموها في القاهرة، رأيت العناصر الأولى التي تألفت منها بلغت من التمازج درجة يتعذر معها الانتباه إلى المصادر التي اشتقت منها.»
8
ولم يكن النشاط الذي يحفز الإنسان إلى التقدم قويا في أمة مثل قوته في العرب، كما شهد به العلامة غوستاف لوبون، ولذلك نال العرب درجة رفيعة من الثقافة بعد أن أتموا فتوحهم بزمن قصير، وكانت لهم مبتكرات فيما ورثوه من علوم الأولين.
والواقع أن حب العرب للعلم كان عظيما، وأن الخلفاء لم يتركوا طريقا لاجتذاب العلماء ورجال الفن إلا سلكوها، وأن أحد خلفاء بني العباس شهر الحرب على قيصر الروم؛ ليأذن لأحد الرياضيين المشهورين في التدريس ببغداد، وأن العلماء ورجال الفن والأدباء من جميع الملل والنحل أخذوا يتقاطرون إلى بغداد التي كانت مركز الثقافة العالمية، كما أخذوا يتقاطرون إلى عاصمة الأندلس، قرطبة، التي كانت مركزا للعلوم والفنون والصناعة.
قال لوبون: «كانت معارف اليونان واللاتين القديمة أساسا لثقافة متعلمي العرب في الدور الأول، وكان هؤلاء كالطلاب الذين يتلقون في المدرسة ما ورثه الإنسان من علوم الأولين، وكان اليونان أساتذة العرب الأولين إذن، ولكن العرب المفطورين على قوة الإبداع والنشاط لم يكتفوا بحال الطلب الذي اكتفت به أوربة في القرون الوسطى، فلم يلبثوا أن تحرروا من ذلك الدور الأول ...
والإنسان يقضي العجب من الهمة التي أقدم بها العرب على البحث، وإذا كانت هنالك أمم قد تساوت هي والعرب في ذلك، فإنك لا تجد أمة فاقت العرب على ما يحتمل ...
ولم يلبث العرب، بعد أن كانوا تلاميذ معتمدين على كتب اليونان، أن أدركوا أن التجربة والترصد خير من أفضل الكتب ... ويعزى إلى بيكن، على العموم، أنه أول من أقام التجربة والترصد، اللذين هما ركن المناهج العلمية الحديثة، مقام الأستاذ، ولكنه يجب أن يعترف اليوم بأن ذلك كله من عمل العرب وحدهم.
ومنح اعتماد العرب على التجربة مؤلفاتهم دقة وإبداعا لا ينتظر مثلهما من رجل تعود درس الحوادث في الكتب ...
ونشأ عن منهاج العرب التجربي وصولهم إلى اكتشافات مهمة ...
ولما آل العلم إلى العرب حولوه إلى غير ما كان عليه، فتلقاه ورثتهم مخلوقا خلقا آخر ...»
9
ولم يقتصر فضل العرب في ميدان الحضارة على أنفسهم، فقد كان لهم الأثر البالغ في الشرق والغرب، والمشرق والمغرب مدينان لهم في تمدنهما، ولم يتفق لأمة فيهما ما للعرب من النفوذ.
ذلك ما رآه لوبون، وهو القائل: «إن الأمم التي كانت لها سيادة العالم، كالآشوريين والفرس والمصريين والأغارقة والرومان، توارت تحت أعفار الدهر ولم تنزل لنا غير أطلال دارسة، وعادت أديانها ولغاتها وفنونها لا تكون سوى ذكريات، والعرب، وإن تواروا أيضا، لم تزل عناصر حضارتهم، وإن شئت فقل: ديانتهم ولغتهم وفنونهم، حية ... «وأنشأ العرب بسرعة حضارة جديدة كثيرة الاختلاف عن الحضارة التي ظهرت قبلها، وتمكنوا من حمل أمم كثيرة على انتحال دينهم ولغتهم وحضارتهم الجديدة، واتصلت بالعرب أمم قديمة كشعوب مصر والهندوس، واعتنقت معتقدات العرب وعاداتهم وطبائعهم وفن عمارتهم، واستولت بعد ذلك أمم كثيرة على الأقطار التي فتحها العرب، وظل نفوذ العرب فيها ثابتا، ويلوح لنا أن رسوخ هذا النفوذ أبدي في جميع البقاع الآسيوية والإفريقية التي دخلوها، والتي تمتد من مراكش إلى الهند.»
وشمل فضل العرب قاهريهم أيضا، مع عجز هؤلاء عن الانتفاع بحضارة العرب كما كان يجب، وانتحل أكثر قاهري العرب دين العرب وفنونهم وعلومهم، واتخذ أكثرهم العربية لغة له، ولم يدر في خلد أحدهم إقامة حضارة مقام حضارة العرب، فحضارة العرب أينما حلت ثبتت أصولها، ولم يقدر فاتح على زعزعتها، وهي من المناعة ما استطاعت أن تهيمن به على الأمم التي حاولت هدمها.
قال لوبون: «لا نرى في التاريخ أمة ذات أثر بارز كالعرب، فجميع الأمم التي اتصل العرب بهم اعتنقت حضارتهم، ولو حينا من الزمن، ولما غاب العرب عن مسرح التاريخ انتحل قاهروهم، كالترك والمغول، إلخ، تقاليدهم وبدوا للعالم ناشرين لنفوذهم، أجل، لقد ماتت حضارة العرب منذ قرون؛ ولكن العالم لا يعرف اليوم في البلاد الممتدة من سواحل المحيط الأطلنطي إلى الهند، ومن البحر المتوسط إلى الصحراء غير أتباع النبي ولغتهم.»
وعندما تكلم العلامة لوبون عن عرب الأندلس قال: «لم يكد العرب يتمون فتح إسپانية حتى بدأوا يقومون برسالة الحضارة فيها، فاستطاعوا في أقل من قرن أن يحيوا ميت الأرضين ويعمروا خرب المدن، ويقيموا فخم المباني ويوطدوا وثيق الصلات التجارية بالأمم الأخرى، ثم شرعوا يتفرغون لدراسة العلوم والآداب، ويترجمون كتب اليونان واللاتين، وينشؤون الجامعات التي ظلت وحدها ملجأ للثقافة في أوربة زمنا طويلا.»
ثم رأى لوبون أن إسپانية هبطت إلى الدرك الأسفل من الانحطاط بعد جلاء العرب عنها، وذلك بعد قوله: «لا يسعنا سوى الاعتراف بأننا لم نجد بين وحوش الفاتحين من يؤاخذ على اقترافه مظالم قتل كتلك التي اقترفت ضد المسلمين، ومما يرثى له أن حرمت إسپانية عمدا هؤلاء الملايين الثلاثة الذين كانت لهم إمامة السكان الثقافية والصناعية.»
ورأى لوبون، والحق ما رأى، أن العرب مدنوا أوربة مادة وعلما وأخلاقا، «فقد كان عرب الأندلس يتصفون بالفروسية المثالية خلا تسامحهم العظيم، فكانوا يرحمون الضعفاء، ويرفقون بالمغلوبين، ويقفون عند شروطهم، وما إلى هذا من الخلال التي اقتبستها الأمم النصرانية بأوربة منهم مؤخرا ... وأثر عرب الأندلس في أخلاق الناس، فهم الذين علموا الشعوب النصرانية، وإن شئت فقل حاولوا أن يعلموها التسامح الذي هو أثمن ما تصبو إليه الإنسانية ... ويمكن القول بأن التسامح الديني كان مطلقا في دور ازدهار العرب ... ومثل هذا التسامح مما لم تصل إليه أوربة بعد ما قامت به في أكثر من ألف سنة من الحروب الطاحنة، وما عانته من الأحقاد المتأصلة، وما منيت به من المذابح الدامية.»
وقد أفاض العلامة لوبون في إيضاح تمدين العرب لأوربة، وانتهى إلى ما يأتي: «إنه كان للحضارة الإسلامية تأثير عظيم في العالم، وإن هذا التأثير خاص بالعرب وحدهم فلا تشاركهم فيه الشعوب الكثيرة التي اعتنقت دينهم، والعرب هم الذين هذبوا بتأثيرهم الخلقي البرابرة الذين قضوا على دولة الرومان، والعرب هم الذين فتحوا لأوربة ما كانت تجهله من عالم المعارف العلمية والأدبية والفلسفية، فكانوا ممدنين لنا وأئمة لنا ستة قرون ... وظلت ترجمات كتب العرب، ولا سيما الكتب العلمية، مصدرا وحيدا، تقريبا، للتدريس في جامعات أوربة خمسة قرون أو ستة قرون ... وإذا كانت هناك أمة تقر بأننا مدينون لها بمعرفتنا لعالم الزمن القديم فالعرب هم تلك الأمة ... فعلى العالم أن يعترف للعرب بجميل صنعهم في إنقاذ تلك الكنوز الثمينة اعترافا أبديا، قال مسيو ليبرى: لو لم يظهر العرب على مسرح التاريخ؛ لتأخرت نهضة أوربة الحديثة في الآداب عدة قرون.»
ولم يغب عن بال لوبون أن يرد على قول بعض الكتاب إن معظم علماء العرب في بلاد الإسلام ليسوا من أصل عربي، فقد قال: «إن تلك البلاد مما ملكه العرب، وإن الدم العربي مما جرى في عروق أبنائها، وإن علوم العرب مما كان لها نصيب منه زمنا طويلا، وإنه إذا أبيح لأحد أن يجادل في الآثار التي صدرت عن مدارس العرب كان ذلك من قبيل إباحته لنفسه أن يجادل في مؤلفات علماء فرنسة بحجة أنهم من الشعوب الكثيرة التي تألف من مجموعها الشعب الفرنسي كالنورمان، والسلت، والأكيتان ... إلخ.»
وعند العلامة لوبون أن أوربة أخذت حضارتها من عرب الأندلس على الخصوص، وهو لم ير للحروب الصليبية كبير فضل في تمدين أوربة خلا ما اقتبسه الأوربيون في أثنائها من وسائل ترف الشرق، وطراز عمارته وصنائعه، قال لوبون: «إن استفادة الصليبيين من علوم العرب الخالصة كانت ضعيفة إلى الغاية خلافا لما ذهب إليه كثير من المؤرخين، فالجيوش الصليبية إذ كانت جاهلة للعلماء لم تكن لتبالي بالمعارف والأصول مبالاتها بشكل البناء أو الأسلوب الصناعي.»
وسأل لوبون، بعد أن أثبت فضل العرب على أوربة وتمدينهم لها: «لماذا ينكر علماء الوقت الحاضر تأثير العرب؟» فكان جوابه: «إن استقلالنا الفكري لم يكن، بالحقيقة، في غير الظواهر، وإننا لسنا من أحرار الفكر في بعض الموضوعات كما نريد.
فالمرء عندنا ذو شخصيتين: الشخصية العصرية التي كونتها الدراسات الخاصة والبيئة الخلقية والثقافية، والشخصية القديمة غير الشاعرة التي جمدت وتحجرت بفعل الأجداد وكانت خلاصة لماض طويل.
والشخصية غير الشاعرة وحدها، ووحدها فقط، هي التي تتكلم عند أكثر الناس، وتمسك فيهم المعتقدات نفسها مسماة بأسماء مختلفة، وتملي عليهم آراءهم فيلوح ما تملي عليهم من الآراء حرة في الظاهر فتحترم.
فالحق أن أتباع محمد ظلوا أشد ما عرفته أوربة من الأعداء إرهابا عدة قرون، وأنهم عند ما كانوا لا يرعدوننا بأسلحتهم، كما في زمن شارل مارتل والحروب الصليبية، أو يهددون أوربة بعد فتح القسطنطينية، كانوا يذلوننا بأفضلية حضارتهم الساحقة، وأننا لم نتحرر من نفوذهم إلا بالأمس.
وتراكمت مبتسراتنا الموروثة ضد الإسلام والمسلمين في قرون كثيرة، وصارت جزءا من مزاجنا، وأضحت طبيعة متأصلة فينا تأصل حقد اليهود على النصارى الخفي أحيانا والعميق دائما.
وإذا أضفنا إلى مبتسراتنا الموروثة ضد المسلمين مبتسرنا الموروث الذي زاد مع القرون بفعل ثقافتنا المدرسية البغيضة القائلة «إن اليونان واللاتين وحدهم منبع العلوم والآداب في الزمن الماضي» أدركنا، بسهولة، سر جحودنا العام لتأثير العرب العظيم في تاريخ حضارة أوربة.
ويتراءى لبعض الفضلاء أن من العار أن يرى أن أوربة النصرانية مدينة في خروجها من دور التوحش لأولئك الكافرين، فعار ظاهر كهذا لا يقبل إلا بصعوبة.»
ووضع لوبون العرب في صف اليونان والرومان، ورآهم أرقى من جميع أمم الغرب التي عاشت قبل عصر النهضة، فكان في هذا أكثر إنصافا من بعض كتاب العرب المعاصرين الذي استهوتهم الثقافة الأوربية المدرسية، فأخذوا يسايرون رجالها متجاهلين ما لأمتهم العربية من المقام العريض في ميدان الحضارة راغبين بالأغارقة والرومان عنها حينما يتكلمون في تاريخ الحضارة العالمية.
واعترف لوبون للعرب بظهور رجال عظماء منهم كما تشهد بذلك اكتشافاتهم، ولكنه أبدى ارتيابه في ظهور عباقرة منهم كنيوتن وليبنتز، فنعد ذلك هفوة من العلامة لوبون الذي ذكر في غير موضع أن لاڨوازيه مدين لعلماء العرب في علم الكيمياء، وأن كيپلر وكوپرنيك مدينان لعلماء العرب في علم الفلك مثلا، فقد قال: «يرى بعض المؤلفين أن لاڨوازيه هو واضع الكيمياء، وقد نسوا أننا لا عهد لنا بعلم من العلوم، ومنها علم الكيمياء، صار ابتداعه دفعة واحدة، وأنه وجد عند العرب من المختبرات ما وصلوا به إلى اكتشافات لم يكن لاڨوازيه ليستطيع أن ينتهي إلى اكتشافاته بغيرها»، وقال نقلا عن العلامة سيديو: «إن العرب سبقوا كيپلر وكوپرنيك في اكتشاف حركات الكواكب السيارة على شكل بيضي، وفي نظرية دوران الأرض»، وقال: «ترى في كتب العرب من النصوص ما تعتقد به أن نفوسهم حدثتهم ببعض اكتشافات العلم الحديث المهمة»، فإذا كانت الحضارة العامة سلسلة حلقات، وكانت حضارة العرب من أهم تلك الحلقات كان من المتعذر ظهور نيوتن وليبنتز وغيرهما من أركان حلقة الحضارة الحديثة بدونها، والفضل للمتقدم.
10
وهنا أذكر أن لكتاب «حضارة العرب» الذي أقدم ترجمته مطالب ومناحي كثيرة لا تتسع هذه المقدمة للإحاطة بها، وأن أقل نظرة إلى الفهرس المفصل الذي نشر في آخر هذا الكتاب يدل عليها.
فمن درس كتاب «حضارة العرب» وإنعام النظر فيه يتبين للقارئ أن العلامة غوستاف لوبون سلك في تأليفه طريقا جديدا لم يسبقه إليه أحد، وأنه حاول فيه بعث حضارة العرب من مرقدها، وإظهارها للملأ على وجهها الصحيح.
ولم يأل العلامة لوبون جهدا في درس حضارة العرب مستندا إلى أهم المؤلفات التاريخية، وإلى مشاهداته الشخصية، فجاء كتابه جامعا لكثير مما في تاريخ حضارة العرب من العظات والعبر، وقد أكثر بعض كتابنا من الاستشهاد بجمل منه عند بحثهم في تاريخ الحضارة فصار من الضروري نقله بأسره إلى اللغة العربية.
وهذا الكتاب صحيح المناحي والغايات في مجموعه، وهو كغيره من الكتب المهمة، لا يخلو من هفوات لا تخفى على القارئ، ولكن هذه الهفوات لا تحط من قيمته العظيمة، وقد أشرت إلى أهمها في هذه المقدمة.
وبحث العلامة غوستاف لوبون في طبائع العرب وعاداتهم ونظمهم في مختلف الأقطار كما كانت عليه في النصف الأخير من القرن التاسع عشر، فعلى القارئ أن يلاحظ ذلك، وأن يعلم أن هذا الكتاب ظهر في سنة 1884م، وأن طبائع العرب وعاداتهم تحولت بعض التحول منذ ذلك التاريخ بفعل مبتكرات العلوم والفنون والصناعة، وبفعل علاقات أمم الشرق الوثيقة بأمم الغرب في الزمن الحاضر.
ألا إن الأمة العربية التي هي عرضة لأشد المصائب والمحن، والتي نرى أن القضاء على كيانها القومي، ومقومات حضارتها من سياسة أكبر دول التاريخ في المشرق والمغرب منذ قرون كثيرة، لا تزال تقاوم، وها هي ذي قد أخذت تنهض وتسعى؛ لتحتل مكانا لائقا بتاريخها المجيد، فإذا كان التوفيق قد أصابني في نقل هذا الكتاب، وكان للأمة العربية نفع فيه، نلت ما أتمنى.
1
عادل زعيتر
نابلس
هوامش
مقدمة المؤلف
1
يعرف قراء كتبنا السابقة مضامين هذا السفر الجديد، ويعلمون أننا سندرس تاريخ الحضارات بعد أن بحثنا في الإنسان والمجتمعات.
كان كتابنا السابق
1
وقفا على وصف ما اعتور جسم الإنسان وعقله من التطور المتتابع، وعلى بيان العناصر التي تتألف المجتمعات منها، وقد رجعنا فيه إلى أقدم أدوار الماضي، وأوضحنا فيه كيف نشأت زمر الإنسان الأولى، وكيف تولدت الأسر والمجتمعات والصناعات والفنون والنظم والمعتقدات، وكيف تحولت هذه العناصر بتوالي الأجيال، وبينا فيه عوامل هذا التحول.
وإننا، بعد أن بحثنا في الإنسان وهو منفرد وفي تطور المجتمعات، نرى أن نطبق قواعدنا التي بسطناها هنالك على الحضارات العظيمة إكمالا لبرنامجنا.
إن العمل لواسع، وإن مصاعبه لكثيرة، وإذ كنا لا نبصر مداه الآن عزمنا على جعل كل مجلد منه تاما مستقلا، فإذا انتهينا من المجلدات الثمانية أو العشرة الباحثة في تاريخ مختلف الحضارات وتمت بذلك غايتنا سهل ترتيبها ترتيبا علميا.
وبالعرب بدأت، وسبب ذلك: أن حضارتهم من الحضارات التي اطلعت عليها في رحلاتي الكثيرة أحسن مما اطلعت على غيرها من الحضارات التي كمل دورها، وتجلى فيها مختلف العوامل التي أوضحنا سرها في ذلك الكتاب، وهي من الحضارات التي نرى الاطلاع على تاريخها مفيدا إلى الغاية وهو أقل ما عرفه الناس.
وتسيطر الحضارة العربية، منذ اثني عشر قرنا، على الأقطار الممتدة من شواطئ المحيط الأطلنطي إلى المحيط الهندي، ومن شواطئ البحر المتوسط إلى رمال إفريقية الداخلية، وكان سكان هذه البلدان المترامية الأطراف تابعين لدولة واحدة، ويدينون الآن بديانة واحدة، ولهم لغة واحدة ونظم واحدة، وفنون واحدة.
ولم يقم عالم بوضع كتاب جامع لتأثير حضارة العرب في الأمم التي سيطرت عليها شامل لعجائبها في إسپانية وإفريقية ومصر وسورية وفارس والهند، ولم تنل يد البحث العام فنون العرب، وإن كانت أكثر ما عرف من عناصر حضارتهم، وباء المؤلفون القليلون الذين أرادوا ذلك بالخيبة، فعزوا حبوط عملهم إلى نقص الآثار والأسانيد!
ولا ننكر أن تشابه المعتقدات أوجب تجانسا كبيرا في فنون مختلف البلاد التي خضعت للإسلام، ولكن من الواضح أن ما بين الأمم الإسلامية من الاختلاف وما بين بيئاتها من التباين أدى - من جهة أخرى - إلى فروق بعيدة الغور في تلك الفنون، فما ذلك التجانس؟ وما تلك الفروق؟ سيرى القارئ الذي يتصفح فصول هذا الكتاب، الخاصة بدراسة فن البناء وما إليه، درجة صموت العلم الحديث عن هذه المسائل.
وكلما أمعنا في درس حضارة العرب، وكتبهم العلمية، واختراعاتهم، وفنونهم - ظهرت لنا حقائق جديدة وآفاق واسعة، ولسرعان ما رأينا أن العرب أصحاب الفضل في معرفة القرون الوسطى لعلوم الأقدمين، وأن جامعات الغرب لم تعرف لها، مدة خمسة قرون، موردا علميا سوى مؤلفاتهم، وأنهم هم الذين مدنوا أوربة مادة وعقلا وأخلاقا، وأن التاريخ لم يعرف أمة أنتجت ما أنتجوه في وقت قصير، وأنه لم يفقهم قوم في الابتداع الفني.
وتأثير العرب عظيم في الغرب، وهو في الشرق أشد وأقوى ، ولم يتفق لأمة ما اتفق للعرب من النفوذ، والأمم التي كانت لها سيادة العالم، كالآشوريين والفرس والمصريين واليونان والرومان، توارت تحت أعفار الدهر ولم تترك لنا غير أطلال دارسة، وعادت أديانها ولغاتها وفنونها لا تكون سوى ذكريات، والعرب، وإن تواروا أيضا، لم تزل عناصر حضارتهم، وإن شئت فقل ديانتهم ولغتهم وفنونهم، حية، وينقاد أكثر من مائة مليون شخص مقيمين فيما بين مراكش والهند لشريعة الرسول.
وثبتت أصول شريعة الرسول وفنون العرب ولغتهم أينما حلت، ولم يدر في خلد أحد من الفاتحين الكثيرين الذين قهروا العرب إقامة حضارة مقام حضارة العرب، وانتحلوا كلهم دين العرب وفنونهم، واتخذ أكثرهم العربية لغة له، وتقهقرت أمام الإسلام في الهند ديانات قديمة، وجعل الإسلام مصر الفراعنة القديمة، التي لم يكن للفرس واليونان والرومان فيها سوى نفوذ قليل، عربية تامة العروبة، وعرفت أقوام الهند والفرس ومصر وإفريقية لهم سادة غير أتباع محمد فيما مضى، ولم يعرفوا لهم سادة غير مسلمين بعد أن رضوا بالإسلام دينا.
حقا إن من أعاجيب التاريخ أن يلبي نداء ذلك المتهوس الشهير شعب جامح شديد الشكيمة لم يقدر على قهره فاتح، وأن تنهار أمام اسمه أقوى الدول وألا يزال يمسك، وهو في جدثه، ملايين من الناس تحت لواء شرعه.
ويجب احترام أعاظم مؤسسي الأديان والدول، وإن وصفهم العلم الحديث بذوي الهوس، وحق له ذلك، ففيهم تتجلى روح الزمن وعبقرية القوم، وبلسانهم تنطق أجيال من الأجداد راقدة في ثنايا العصور، والخيالات، وإن كانت كل ما يأتي به هؤلاء المبدعون لمثل عالية، هي التي أوجدت كياننا الحاضر ولا تقوم بغيرها حضارة، ولم يكن التاريخ سوى قصص للحوادث التي أقام بها الإنسان خيالا فعبده ثم هدمه.
والحضارة العربية من صنع قوم من شباه البرابرة، فلما خرج هؤلاء القوم من صحارى جزيرة العرب صرعوا الفرس واليونان والرومان، وأقاموا دولة عظيمة امتد سلطانها من الهند إلى إسپانية، وأبدعوا تلك الآثار التي هي آية في الإعجاز والتي تورث بقاياها العجب العجاب.
فما العوامل التي ظهرت؛ ونمت بها حضارة العرب ودولتهم؟ وما أسباب عظمتهم وانحطاطهم؟
حقا إن ما ذكره المؤرخون ضعيف إلى الغاية، ولا يقف أمام سلطان النقد، وطريقة التحليل العلمي أفضل وسيلة لإيضاح شأن أمة كالأمة العربية.
والغرب وليد الشرق، ولا يزال مفتاح ماضي الحوادث في الشرق، فعلى العلماء أن يبحثوا عن هذا المفتاح فيه.
وتبدو الفنون واللغات وأكثر الديانات العظمى بارزة في الشرق، ويختلف سكان الشرق الآن عن سكان البلدان الأخرى في المبادئ والآراء والمشاعر.
والشرق يتحول ببطء، ويقترب حاضره من ماضيه، ويستطيع من يبحث في أحواله الحاضرة أن يصل إلى صميم الأجيال الغابرة.
والشرق مرجع دائم لرجال الفن والعلم والأدب، وما أكثر ما جلست تحت نخلة أو أمام معبد فأخذتني سنة، وخضت في بحر من الخيالات، وأبصرت من خلالها سالف الأجيال، وتمثلت لي مدن غريبة ذات أبراج مشرفة، وقصور عجيبة ومعابد شامخة ومآذن رفيعة تتلألأ تحت وهج الشمس، ورأيت قوافل من أهل البدو وجموعا من الشرقيين بملابسهم الزاهية، وشراذم من الأرقاء السمر، ونساء مخدرات تجوب تلك المدن!
ولا مراء في تواري نينوى ودمشق وأورشليم وأثينة وغرناطة وممفيس وطيبة ذات مائة الباب وأفول نجمها، ولا ريب في أن قصور آسية ومعابد مصر صارت خرائب وأطلالا، ولا شك في أنه لم يبق من آلهة بابل وسورية وكلدة ووادي النيل سوى ذكريات، ولكنه يستتر تحت هذه الأنقاض عبر لا تحصى، وتشتمل هذه الذكريات على معان بعيدة الغور، وتنطوي أخبار تلك الشعوب التي تناوبت ما بين عمد هركول ونجود آسية الخصيبة، وما بين شواطئ بحر إيجة المخضرة ورمال إثيوبية المحرقة، على أسرار وألغاز.
وتلك البقاع القاصية حافلة بالمعارف، وقد يغير الباحث آراءه بسببها، ويدل درسها على وجود هوة عميقة بين الناس، وعلى بطلان مزاعمنا في الحضارة والإخاء العالمي، وعلى اختلاف ما نخاله ثابتا من المبادئ والحقائق باختلاف البلدان.
وفي تاريخ العرب، إذن، مسائل كثيرة تتطلب حلا، وفيه دروس وعبر جديرة بالحفظ، والعرب عنوان أمم الشرق التي تختلف عن أمم الغرب، ولا تزال أوربة جاهلة لشأنهم، فلتعلم كيف تعرفهم، فالساعة التي ترتبط مقاديرها في مقاديرهم قد اقتربت.
وإن ما بين الشرق والغرب من الاختلاف عظيم إلى الغاية في الوقت الحاضر، ويبلغ في عظمه ما يتعذر معه اعتناق أحدهما لمبادئ الآخر وتفكيره.
وقلبت مبتكرات العلوم والصناعة كيان الغرب المادي والأدبي رأسا على عقب، وتعاني مجتمعاته المسنة تحولا بعيد المدى، ويقاسي خلافا شديدا، ويكابد في سبيل معالجة الشرور التي نشأت عن ذلك الخلاف أزمة عامة تسوقه باطراد إلى تبديل نظمه، ويئن من عدم الانسجام بين المشاعر القديمة والمعتقدات الجديدة، ويألم من تصدع مبادئ الأجيال السابقة.
وتنال يد التغيير في الغرب الأسرة والتملك والديانة والأخلاق والمعتقدات، وتصبح هذه الأمور موضوع جدل، ولا يقدر أحد أن يتكهن بما يتمخض عنه العلم الحديث، وكلفت الجماهير بمبادئ سلبية في الوقت الحاضر، وبلغ كلفها بها درجة الحماسة غير مقدرة نتائج ذلك.
ونرى الآن قيام آلهة جدد مقام قدماء الآلهة، ونشاهد العلم يدافع عنهم اليوم، فمن ذا الذي يذود عنهم في المستقبل؟
وحال الشرق غير ذلك، فالشرق في طمأنينة وسكون، وقد بلغت شعوبه التي هي أكثرية البشر درجة ظاهرة من التسليم الهادئ الذي هو عنوان السعادة على الأقل، ولا عهد له بما عندنا من الانقسامات والحياة الصاخبة.
وتتمتع شعوب الشرق بما خسرناه من التماسك، فمعتقدات هذه الشعوب لا تزال قويمة، وتحافظ أسرها على استقرارها القديم، وبقيت مقومات المجتمعات القديمة، كالديانة والأسرة والنظم والتقاليد والعادات، وهي التي أصابها في الغرب من الهدم ما أصابها، مؤثرة في الشرق مسيطرة عليه، وليس على الشرقيين أن يفكروا في تبديلها.
2
فصلنا في كتاب آخر طرق البحث والاستقصاء، التي يستعان بها على درس الحوادث التاريخية، تفصيلا كافيا، والآن نذكر أهمها: إن مبدأ «العلة» المسيطر على دراسة قضايا العلم يسيطر على دراسة حوادث التاريخ أيضا، وأن طرق البحث والاستقصاء التي يستعان بها على دراسة القضايا العلمية يستعان بها على دراسة الحوادث التاريخية أيضا، فيجب، إذن، درس الحادثة الاجتماعية كما تدرس أية حادثة طبيعية أو كيماوية.
وتخضع الحادثات كلها لبعض السنن، أي لنظام من الضرورات والوجوب، ويعمل الإنسان، وتسيره في عمله قوى مسيطرة يسميها أناس بالطبيعة وآخرون بالحكمة الربانية أو القضاء والقدر أو المصير؛ ونحن مسيرون من المهد إلى اللحد بما لا نستطيع مقاومته من القوى القاهرة الغالبة المتماسكة، ولا تعدو أقصى جهودنا وغاية أمانينا حد الوصول إلى معرفة بعض مظاهرها وصفاتها اللازمة.
ومثل تاريخ الإنسان كمثل سرد واسع متماسك الأجزاء تتصل حلقاته الأولى بأقدم الأحقاب والعصور، وكل حادثة تاريخية نتيجة حادثات أقدم منها، والحال، وهو وليد الماضي، يحمل في أثنائه وتضاعيفه بذور المستقبل، فيستطيع صاحب ذكاء ثاقب أن يقرأ سير الأمور المقبلة من خلال الحوادث الحاضرة.
ولن يتصف أحد بمثل هذا الذكاء، والإنسان، وإن استطاع يوما أن يطلع على العوامل التي أوجبت حدوث الحال، وعلى ما في هذه العوامل من القوى المتقابلة، يتعذر عليه تحليل هذه العوامل، ومما لا يقدر عليه علم الفلك أن يعين بالحساب اتجاه جرم خاضع لتأثير ثلاثة أجرام أخرى، فما تكون المسألة حين البحث عن تأثير ألوف الأجرام في جرم واحد؟
ولم تستنبط جميع السنن التاريخية المزعومة من غير ما هو تحت الحس والاختبار، وهي تقاس بملاحظات علماء الإحصاء الذين يستطيعون، بما يشاهدون ويختبرون، أن ينبئوا، مثلا، بعدد الوفيات والجرائم وأنواع الجرائم التي يصاب بها بلد يسكنه مليون نفس في سنة ما من غير أن يخلصوا إلى صميم علل الحوادث الذي هو ضرب من المحال، وهذه العوامل كثيرة إلى الغاية.
ونشأ عن تعذر النفوذ إلى علل الحوادث الاجتماعية استخفاف فريق من العلماء بالعلوم التاريخية التي حاولوا الغوص فيها، قال الكاتب الفاضل مسيو رينان: «إن العلوم الافتراضية تنقض بعد أن توضع، وستهمل في مائة سنة، وأوشك جيل من الذين لا يبالون بالماضي أن يظهر، ويخشى، والحالة هذه، أن تندثر قبل أن تقرأ كتبنا في دقائق الأدب وروائع الفنون التي ينال التاريخ منها ضبطا ودقة»، ويرى رينان أن المستقبل للفيزياء والعلوم الطبيعية حيث يتجلى «كنه الوجود، ومعنى العالم، وسر الله، وما إلى ذلك.»
وقد يأمل كل واحد ذلك لا ريب ، ولكننا لا نرى ما يسوغ هذه الأمانى، فليس في العلوم الوضعية شيء عن الموجب الأول لأي حادث كان، وكل ما كشفت العلوم الوضعية الحديثة عنه، فكانت فيه قوتها، هو ما بين ظواهر الأمور من الارتباط، وهي حين تتناول أمورا معقدة تغرق في بحر من الفرضيات والظنون، ولا تكاد العلوم الحديثة تأتي بجواب حائر عن المسائل التي يضعها الإنسان كل يوم، وهي لن تحل واحدة من المعضلات التي تواجه الطبيعة بها الإنسان من مهده إلى لحده، وهي لا تشبع ما تلقيه في قلوبنا من فضول أبدا، وهي تثير الأفكار ولا تفك المسائل، وستلحق كرتنا الأرضية في الفضاء بالأجرام الخامدة قبل أن يجيب أبو الهول الخالد عن سؤال واحد.
إذن، يجب ألا يعترينا الوهم حول قدرة العلوم فنحملها ما لا طاقة لها به، والعلوم تبحث، فقط، في أوصاف الإنسان أو الحيوان أو النبات أو المجتمع، وفي رسم صورة صادقة عن أدوار الماضي، وفي ارتباط بعض الحوادث التاريخية في بعض، ولا نطالب المؤرخ بأكثر من هذا.
والعمل شاق، ويتطلب عناية كبيرة، ومن الصعب جمع ما هو ضروري من المواد لتصوير إحدى الحضارات، وأصعب من هذا استخدام هذه المواد.
ولم تكن هذه المواد في أنساب الملوك وأخبار الملاحم والفتوحات، وإنما هي، على الخصوص، في لغات كل دور وفنونه وآدابه ومعتقداته ونظمه السياسية والاجتماعية، ولم تنشأ هذه المواد عن المصادفات أو أهواء الرجال أو مشيئة الآلهة، بل عن احتياجات الشعوب وأفكارها ومشاعرها، وتتضمن الديانات والفلسفة والآداب والفنون نمطا خاصا من الشعور وطرزا معينا من التفكير، ولا تتضمن غير هذا.
نعم، إن أعمال الرجال وآثارهم تعبر عن أفكارهم ومشاعرهم، وتمكننا من تصور الدور الذي كانوا فيه، ولكن هذا لا يكفي، فالأمم نتيجة ماض طويل، وليست الأمم بنت ساعة واحدة، وهي محصول ما خضعت له من البيئات المختلفة التأثير، ولذا يفسر حاضرها بماضيها.
ونرى تسمية البحث في تكوين العناصر التي تتألف الأمة منها بعلم الأجنة الاجتماعي، وسيكون هذا العلم أساسا متينا يستند إليه التاريخ كما تستند علوم الحياة إلى علم أجنة الأحياء في الوقت الحاضر.
ولا بد لذوات الحياة من أن تقطع أطوارا سفلية قبل بلوغها درجة عالية من الرقي، وقلما يكشف التاريخ لنا الغطاء عن هذه الأطوار السفلية بعد اختفائها، ولم يفت البحث العلمي أن يجمع منها ما هو أساسي من ضياع حلقات من سلسلتها، ولم تصب المجتمعات كلها أدوارا متماثلة من التقدم أيضا، ولم يجاوز الكثير منها بعد ما قطعه الغرب من المراحل التي هي عنوان الماضي الثابت، والذي يسير في الأرض يشاهد أدوار التاريخ البشري المختلفة منذ أقدم العصور الحجرية حتى الوقت الحاضر، وبهذا يمكن تأليف تاريخ إحدى الأمم، ومعرفة عناصر حضارتها.
ومن الممكن تأليف تاريخ لإحدى الحضارات ونموها بطريق البحث في المباني العظيمة والآداب واللغات والنظم والمعتقدات ... إلخ، وإذا كان من النادر نيل كل هذا فإن بعض هذا يكفي لاستخراج ما تبقى، فالطرق العلمية التي يصل بها الباحث إلى تصوير حيوان مستعينا بقطع من هيكله العظمي يستفاد منها في المباحث التاريخية أيضا، وظهور بعض الخطوط والحروف يتضمن وجود غيرها دائما.
وقد تكون تلك المواد غير كافية من حيث الضبط والدقة على الخصوص، والعلم الحديث يترك إتمامها للحفدة، ومن السهل أن نتوقع اختلافا بين كتب التاريخ التي تؤلف في المستقبل وكتب التاريخ الحاضرة، فستقتصر كتب تاريخ الحضارات التي تؤلف في القرن العشرين، مثلا، على العنوان ومجموعة من الصور والخرائط والمنحنيات الهندسية الدالة على تقلبات الحوادث الاجتماعية.
ويمكن التعبير عن الجسامة والطاقة والوزن والديمومة بأرقام أو خطوط دائما، ولا نرى حادثة نفسية أو اجتماعية معقدة يتعذر الإفصاح عنها بأرقام أيضا، ويكفي للوصول إلى قياسها بمقياس أن تفرق إلى عناصرها الأساسية، ولا جرم أن علم الإحصاء أقل العلوم الحديثة، التي هي في دور النشوء، تقدما، وما بلغه علم الإحصاء ينبئنا بفائدته المرجوة في المستقبل، فقد ألقى علماؤه، بما جمعوه من الأرقام، ضوءا على إنتاج البلدان واستهلاكها وثروتها واحتياجاتها وقوة سكانها المادية والأدبية، وتباين مشاعرها ومعتقداتها ومختلف العوامل المؤثرة فيها.
وريثما يقع ذلك في المستقبل، الذي يعبر فيه عن وقائع التاريخ والحوادث الاجتماعية بالصور والخرائط والمنحنيات الهندسية، نرى أن نستعين بأصح الآثار والأدلة التي خلفها الماضي وأكثرها ضبطا، وعندي أن ما لدينا من المواد التي ذكرناها يكفي لوضع صورة عن الحضارات الماضية وتاريخ تكوينها، ويجب، للانتفاع بتلك المواد، أن تدرس آثار الحضارات الماضية في أمكنتها، فمناظر هذه الآثار، لا الكتب، هي التي تعرب عن الماضي، وليس في الكتب ما تعرف به العلوم الطبيعية أو العلوم الاجتماعية.
وتكون دراسة البيئات في أمكنتها أمرا ضروريا عندما يبحث في أمة، كالأمة العربية، ذات آثار كثيرة في مختلف الأقطار التي ازدهرت حضارتها فيها، وتعلمنا الرحلات كيف نتحرر من قيود الآراء المتأصلة والتقاليد الموروثة وضلال الماضي وباطله.
وسيجد القارئ في هذا الكتاب تطبيقا للقواعد المذكورة التي ابتعدنا بها عن أكثر أحكامنا التقليدية الموروثة في الشرقيين، ولا سيما في دين محمد وتعدد الزوجات والرق والحروب الصليبية، والنظم والفنون وتأثير العرب في أوربة، وما إلى ذلك.
3
إن الآثار الباقية من حضارة العرب كثيرة، وهي تكفي لإيضاح أقسامها الجوهرية بسهولة، وقد استعنا بأكثرها، أي بما خلفه العرب من العلوم والآداب والفنون والصناعات والنظم والمعتقدات.
وأكثر ما رجعنا إليه في وضع هذا الكتاب هو ما نسميه الآثار الماثلة التي تستوقف النظر بأشكالها الظاهرة، وتعبر عن رغائب الزمن الذي قامت فيه ومشاعره تعبيرا صادقا، ولا غرو، ففيها يتجلى نفوذ العروق وتأثير البيئة، وبها يمكن الوقوف على أحوال القرون الغابرة، فالكهف الذي نحت في العصر الحجري أو المعبد المصري، أو المسجد الإسلامي، أو الكتدرائية، أو محطة السكة الحديدية، أو مخدع المرأة العصرية أو الفأس المصنوعة من الصوان، أو السيف ذو المقبضين، أو المدفع الذي يزن خمسين طنا، أفضل لمعرفة جميع ذلك من أكداس كتب البحث والجدل.
ولا نرى غير طريقة واحدة لوصف الآثار الماثلة، وهي عرض صورها، فصور الپارتنون والحمراء وأفروديت أولى من مجموعة الكتب التي وضعها جميع مؤلفي العالم لوصفها.
وما تلقيه صور الآثار التاريخية في الروع من المعاني الصادقة يدفعنا إلى الإكثار منها في هذا الكتاب ، والقارئ الذي يقتصر على تصفح صور هذا الكتاب يطلع على حضارة العرب وتحولاتها في مختلف الأقطار أكثر مما يطلع عليه من الكتب الكثيرة، وذلك عدا إعفائه من مطالعة المباحث المطولة في وصف تلك الآثار من غير أن يظفر منها بفكر صحيح، ولقد أصاب من قال: «إن صورة متقنة خير من مائة صفحة في الوصف»، وليس من المبالغة أن يقال: إنها خير من مائة مجلد.
ولا تكفي ألفاظ أية لغة لوصف آثار الشعوب، ولا سيما آثار الشرقيين، وإنما نطلع بالمشاهدة على مناظرها ومبانيها وفنونها وعروقها، ولا يستطيع أروع القول أن يؤثر في النفس بمثل ما تؤثر به رؤية الأشياء نفسها أو صورها عند الضرورة.
والفوتوغرافية هي التي يمكن أن تجود علينا بصور صحيحة للأبنية والآثار الفنية والمناظر وأمثلة الشعوب ومظاهر الحياة المنزلية، وبها نستعين في وضع هذا الكتاب، فما تقدر الفوتوغرافية عليه من الدقة في بضع ثوان لا يستطيعه أمهر رجال الفن في أيام كثيرة.
ولو اقتصر الأمر على تصوير المباني، مثلا، لاستطاع رسام ماهر لا قيمة للوقت عنده أن ينافس الفوتوغرافية، ولكن مثل هذه المنافسة تتعذر عندما يجب تصوير ألوف من مناظر الحياة العامة التي هي عنوان وجود الأمة، فالفوتوغرافية وحدها هي التي تستطيع أن تصور الأشياء في أثناء حركتها تصويرا صادقا، وذلك كشارع يزدحم الناس فيه، أو سوق أو حصان جواد راكض، أو موكب عرس، أو ما ماثل ذلك.
ومنذ أمس فقط أوصت طرق العلم الحديثة بأن يستعان في الرحلات بالفوتوغرافية، وهذا الكتاب هو أول الكتب انتفاعا بالفوتوغرافية، وفيه يرى القارئ مقدار النتائج المهمة التي توصلنا إليها بفضل الفوتوغرافية، وكل صورة فوتوغرافية اشتمل عليها وثيقة صادقة قوية لا يتطرق إليها الوهن.
وإذ كانت الصور الفوتوغرافية من عمل الشمس وحدها حق لي أن أناضل عن قيمتها، وعلى العالم الذي قد يستخف بالصور التي يحتويها هذا الكتاب أن يفكر قليلا؛ ليرى كيف تفضل مجموعة من الصور الفوتوغرافية على تلال الكتب التي بحث فيها عن اليونان والرومان، وما أكثر ما نتعلمه من الصور الفوتوغرافية، وما أحقر المؤلفات بجانبها!
وليترك فن الرسم، وهو الذي قام حتى الآن بما طلب منه في تصوير المباني والموجودات، مكانه للفوتوغرافية التي يركن إليها، اليوم، في كتب العلم أو التاريخ أو الرحلات، نعم، إن في نقل الآلات الفوتوغرافية المعقدة إلى البلدان البعيدة واستعمالها لمصاعب كثيرة، ولكنه يجب على كل عالم أو سائح ثبت يريد أن تكون لأثره قيمة أن يخضع لحكم الضرورة مهما كلفه الأمر.
ولا يترك مثل هذا العمل إلا لأربابه، فإذا كان من السهل استعمال آلة التصوير والتقاط الصور، فإنه يعسر انتخاب الآثار التي يجب تصويرها ويصعب تعيين الأحوال التي يجب أن تكون عليها هذه الآثار وقت تصويرها.
ويكفي لإدراك درجة الاختلاف في اللون أو الصفة أو الأوضاع، أن ننعم النظر في المنظر الواحد أو البناء الواحد أو الشخص الواحد الذي يصوره مصورون كثير.
وعدسة التصوير صادقة في ذلك كله لا ريب، ولكن الطبيعة هي التي تتغير، فالبناء أو المنظر الواحد الذي تضيئه الشمس في الشتاء لا يظل البناء أو المنظر نفسه حين إضاءة الشمس له في الصيف، أو حين إضاءتها له في الصباح أو المساء.
وكل الفن في التقاط صور الأشياء حينما تكون مؤثرة في النفس مع توخي الضبط، ولا يكفي أن تكون الصورة صادقة لتؤثر في النفس، فمع أنني أنظر بعين العجب إلى كتاب مسيو پيرو عن مصر أرى الصور الشاحبة الجافة التي زين بها صفحاته لا تؤثر في النفس ذاك التأثير المطلوب،
2
وغرض غير هذا ما يجب على المؤلفين أن يسعوا إليه.
وتختلف الوسائل التي نشرنا بها صورنا الفوتوغرافية على حسب تأثيرها في النفس، ففي الأمور التي قصد بها التأثير جملة، لا تفصيلا، حولت صورها إلى كليشات على طريقة التجويف الفوتوغرافي الحديثة (فوتوغراڨور)، وفي الأمور التي قصد فيها إظهار الدقائق حفرت صورها الفوتوغرافية بالمنقاش في الخشب من غير أن يكون للرسام عمل فيها، وإذا عدوت بعض الشواذ وجدتنا لم نلجأ، لإظهار دقائق فن البناء، إلى طريقة الرسم بالتخطيط إلا عند عدم كفاية أية طريقة أخرى غيرها.
وفي الكتاب 363 صورة لم تترك واحدة منها لمتفنن يصنع فيها كما يشاء، ورغبنا عن الوثائق التي كان للخيال حظ فيها مرجحين العدول عن مصدر للصور الرائعة، كالتي نشرت في كتاب مسيو إيبر ومسيو مسپيرو عن مصر، وحازها ناشر هذا الكتاب، مقتصرين، مع الأسف، على ما استند منها - وهو قليل - إلى صور فوتوغرافية، فرأينا من العبث تكرار صنعه.
ولم تفتني الاستفادة من الرسوم التي صنعت بأمانة مع اتخاذي الفوتوغرافية أساسا لصور هذا السفر، فاستعرت رسوما كثيرة من مجموعات كوست وپربس الأڨيني وجونس، ولا سيما الكتابان الرائعان اللذان نشرا حديثا في إسپانية عما فيها من الآثار الفنية والعمارات، وكان للفوتوغرافية كبير عمل في هذا، أيضا، ما جعلت هذه الرسوم خاضعة لطريقة التجويف الفوتوغرافي (الهيلوغراڨور).
وقضت ضرورة التزيين ألا أوزع صور هذا الكتاب توزيعا مرتبا دائما، وإنما يمكن القارئ أن يجد بسهولة ما قد يحتاج إليه منها عند نظره إلى فهرس الصور، والقارئ، باطلاعه على هذا الفهرس، يعلم تنوع هذه الوثائق، ويعلم ما نشر منها في هذا الكتاب دون غيره.
وقد تعذر علينا، لضخامة هذا الكتاب وكثرة صوره، أن نبين المصادر التي اعتمدنا عليها في هامش صفحاته، فاكتفينا بنشر فهرس شامل لها في آخره، فالقارئ الذي يريد أن يتعمق في بعض المباحث يجد ضالته فيه.
وليعلم القارئ أن كل فصل في هذا الكتاب هو خلاصة عدة مباحث، وما أبديته من الملاحظات يمكن عده متمما لها.
ونحن إذ نختم هذه المقدمة نلخص المنهاج الذي اتبعناه في وضع هذا الكتاب، والذي نتبعه فيما نؤلفه من تواريخ الحضارات، بما يأتي، فنقول:
من المبادئ العامة:
الوجوب في وقوع الحوادث التاريخية، والصلة الوثيقة بين الحوادث الحاضرة وحوادث الماضي.
ومن مواد التأليف:
آثار الشعوب التي هي موضوع الدرس وتصويرها تصويرا صادقا، ووصف العرق جسما وعقلا، والبيئة التي نشأ فيها العرق، والعوامل التي خضع لها، وتحليل لعناصر الحضارة، أي للنظم والمعتقدات والعلوم والآداب والفنون والصناعات، وتاريخ لتكوين كل واحد من هذه العناصر.
وإذا أصابنا التوفيق في عرض صورة واضحة عن الأزمنة التي نرغب في بعثها، مستعينين بتلك المواد والمبادئ، فإننا نكون قد نلنا ما نتمنى.
3
هوامش
الباب الأول
البيئة والعرق
الفصل الأول
جزيرة العرب
(1) جغرافية جزيرة العرب
جزيرة العرب هي مهد الإسلام، وهي منبت الدولة الواسعة التي أنشأها خلفاء محمد، ويتألف القسم الأكبر من جزيرة العرب من صحار، ويحيط بها البحر الأحمر من الغرب، وبحر عمان والخليج الفارسي من الشرق، والمحيط الهندي من الجنوب، وتتصل من أقصى غربها وشرقها بإفريقية وآسية.
ويحيط بجزيرة العرب من ثلاث جهات، أي من الغرب والشرق والجنوب، ثلاثة أبحر كما ذكرنا، وأما حدها الشمالي فغير واضح، وهو يمتد تقريبا باتجاه الخط الذي يبدأ من مدينة غزة الفلسطينية الواقعة على ساحل البحر المتوسط مارا بجنوب البحر الميت فدمشق فالفرات، وينتهي بخليج فارس، ويبلغ طول جزيرة العرب من أقصى شمالها إلى أقصى جنوبها نحو 23 درجة أو 2500 كيلو متر، ويبلغ عرضها من البحر الأحمر إلى الخليج الفارسي نحو ألف كيلو متر.
وتزيد مساحة جزيرة العرب على 3000000 كيلو متر مربع، أي على مساحة تعدل فرنسة ست مرات.
وليس لدينا إحصاء قاطع لنفوس جزيرة العرب في الوقت الحاضر، وقد قدرت منذ بضع سنين بعشرة ملايين، ولم تزد على خمسة ملايين في أحدث المؤلفات، وخمس هؤلاء السكان أهل بدو على الأقل.
ونحن إذا نظرنا إلى سطح جزيرة العرب رأيناه مؤلفا من هضبة تشبه الصحراء الإفريقية في اتساعها وسهولها القاحلة الرملية، أو الصخرية، التي تتخللها بقاع منبتة، وتنحدر هذه الهضبة إلى الخليج الفارسي.
ويقطع مجاهل جزيرة العرب الواسعة أودية وبقاع جبلية ذات مدن وقرى يسكنها فريق من الزراع، ولا تعرف الصحراء غير أهل البدو الذين يجوبونها.
وتقع في وسط تلك الهضبة العربية بلاد نجد التي تعد جزيرة خصبة تحيط بها الفلوات والجبال بدلا من الماء.
ويظن أن نحو نصف جزيرة العرب مؤلف من بقاع خصبة، وأن النصف الآخر من صحار، وإن دلت الخرائط على اتساع رقعة الصحاري، وانقباض رقعة البقاع الخصبة، وما في الخرائط من التفاوت ناشئ عن قلة ارتياد علماء الجغرافية لجزيرة العرب واضطرارهم إلى ترك البقاع المجهولة منها بيضا.
ولم يعرف من سلاسل جبال جزيرة العرب الكثيرة سوى القليل، وأحسن ما عرف منها السلسلة الممتدة على طول الشاطئ الشرقي للبحر الأحمر حيث يرتفع بعض ذراها 2500 متر.
وفقدان الأنهر الدائمة في جزيرة العرب مما يستوقف النظر، وتبقى أخاديدها خالية من الماء في أكثر أيام السنة، وتشق هذه الأخاديد جزيرة العرب طولا وعرضا، وقد يبلغ طول بعضها، كوادي الرمة: 1300 كيلو متر، وهي تصبح كالأنهر العظيمة المعروفة حين يملأها ماء المطر.
والجدب والحر من أظهر ما عرفت به جزيرة العرب منذ القديم، والجدب على الخصوص، هو أشد ما تعانيه، ولم ينشأ عن قطع أشجار غابها بالتدريج سوى زيادة القحط، شأن بلاد الجزائر الخصيبة في العهد الروماني، والجديبة في الوقت الحاضر.
شكل 1-1: خريطة جزيرة العرب ومصر (وفق أحدث الوثائق).
ويدوم المطر في جزيرة العرب بضعة أشهر على العموم، ومتى احتبس عم الخراب، وأصبحت تلك البلاد غير صالحة للسكن تقريبا، ويقترن القحط في جزيرة العرب بريح السموم في الغالب.
وريح السموم وعدم الماء أشد ما تقاسيه القوافل في جزيرة العرب من أخطار، قال مسيو ديڨرجيه: «تعرف القافلة، وهي تتوغل في الصحراء، علامات ريح السموم الأولى، وهي: أن السماء تظهر في الأفق مغراء
1
ثم قهباء
2
ودكناء،
3
والشمس تضعف أشعتها فتصبح حمراء، والرمال الناعمة تملأ الجو والهواء، والرياح تثيرها فتغدو كالبحر المزبد الذي تحركه العاصفة الهوجاء.
وهنالك تنقبض صدور السياح، وتحمر عيونهم، وتجف شفاههم، ويأخذون في الهرب هم وجمالهم التي تعدو تارة وتقف أخرى؛ لتطمر نحورها في الرمل وتمرغ مناخيرها بالأرض، وإذا ما استطاعت القافلة أن تحتمي وراء صخرة حتى تهدأ الزوبعة فإنها تنجو، ولكنها إذا تاهت في البادية وكانت بعيدة من الملاجئ أو اشتدت العاصفة فإن نشاطها يفتر، وتفقد غريزة حب البقاء، ويستولي عليها الثول
4
والدوار، وتصير غير قادرة على الفرار، وتدفن تحت أكثبة الرمل، وتبقى مدفونة إلى أن تهب عاصفة أخرى، وتكشف عن عظامها المبيضة.»
وتكون درجة الحرارة في داخل جزيرة العرب مرتفعة عادة، ولا تهبط في الصحراء إلى أقل من 43 نهارا و38 ليلا، وتكون معتدلة في الأماكن الجبلية أو القريبة من البحر، فقد شاهد نيبوهر أن الحرارة في اليمن لا تزيد في أواخر شهر يوليه على 29 درجة بمقياس سنتيغراد، ويكون البرد في صنعاء قارسا في الشتاء.
والجفاف والجو المحرق ليسا سائدين لجزيرة العرب كلها، مع ذلك، ففي جزيرة العرب بقاع متسعة اتساع الدول الأوربية المهمة كثيرة الخصب كبلاد اليمن، وبلاد نجد التي لم ير پلغريڨ ما هو أنفع من جوها للصحة في العالم.
وتتألف صحاري جزيرة العرب من سهول رملية واسعة، وفيها آبار وواحات ذات نخيل ومناجع.
5
وتجوب قبائل البدو الصحراء دائما، ويأخذ عيشها بمجامع قلوب الأعراب، ويفضله الأعراب على غيره مع نفرة الأوربيين منه، وليس حب الأعراب لعيش البادية حديثا، فهم حفدة العرب الذين قصت التوراة علينا من أنبائهم، والذين حافظوا على ما تقتضيه من أذواق وطبائع وعادات.
ومما تقدم ترى جزيرة العرب ذات أجواء وتربة مختلفة، فيوجب هذا اختلافا في طرق معايشها ونباتها وحيوانها وسكانها. (2) إنتاج جزيرة العرب
التمر والبن من أهم ما تنتجه جزيرة العرب، ويعتمد سكانها على التمر في طعامهم، وعلى البن في اغتنائهم، ويستفيد العرب منذ القديم مما يصدرون من اللبان
6
والسليخة
7
والسنا
8
المكي والأدهان.
ولاختلاف جو جزيرة العرب ينبت فيها مثل نبات البلاد الحارة والبلاد المعتدلة، كالقطن وقصب السكر والجميز والطلح والدردار
9
والمران
10 ... إلخ.
ويندر شجر الغاب في جزيرة العرب، والنخل أظهر ما فيها، وهو الذي يكون به لمناظر الشرق شكل خاص.
وتصلح الأماكن الخصبة من جزيرة العرب لمثل النبات الذي يزرع في أوربة، كالمشمش والخوخ والتين واللوز والعنب والقمح والذرة والشعير والدخن
11
والفول والتبغ ... إلخ.
ومع أن الزراعة في حقول اليمن جيدة، فإن العمل فيها شاق؛ لما تحتاج إليه من السقي الدائم بمياه المطر التي تجمع في الآبار وبين الأسداد.
وتعرف جزيرة العرب مثل ما نعرف من الحيوانات الأهلية؛ كالبغال والحمير والبقر والضأن والمعز ... إلخ، ولا تجهل جزيرة العرب الكثير من الضواري كالأسد والنمر والفهد.
شكل 1-2: البادية من صورة فوتوغرافية.
وليست الضواري أشد ما يخاف سكان جزيرة العرب، ففيها الجراد الذي قد يأتي على الأخضر واليابس، وقد لا يخلو الجراد من فائدة مع ذلك، فهو في الغالب، غذاء المسافرين في البادية، وطعام مطاياهم أسابيع كثيرة.
والخيل والجمال أكثر حيوانات جزيرة العرب نفعا للإنسان، فأما الجمل، وهو أفضل حيوان أهلي عند العرب، فلا تقطع البادية بغيره، وهو لقناعته وقوته واحتماله المشاق وصبره على العطش أياما، لا يقوم مقامه حيوان في الركوب وحمل الأثقال، وهو يستطيع أن يجوب البادية بين حلب والبصرة حاملا 500 رطل مع علف قليل، وهو يقدر أن يأكل ما لا يقدر حيوان عليه من الطعام، وقد عجبت منه حين رأيته يأكل هادئا مطمئنا أوراق الصبار التي تكون على جوانب الطرق فيشبه شوكها المسلات.
وأما الخيول العربية؛ فذات شهرة عالمية، وهي إذ وصفت غير مرة، وكان ما قاله پلغريڨ من أحسن ما قيل فيها، فإنني أقتطف منه ما يأتي:
إن الخيول العربية، وهي قوية عصبية رشيقة، مفتخرة بعتقها، مختالة في مراتعها، مثال الأناقة في شكلها والكمال في صفاتها، وهي برؤوسها الصغيرة النحيفة، وأحداقها الوهاجة، ومناخيرها الواسعة، وكواهلها الناهضة، وجوانبها الممتلئة القصيرة، وأكفالها الطويلة، وذيولها المتموجة، وقوائمها الدقيقة المتينة عنوان الجمال، وهي بدعتها وبأسها وقناعتها وسرعة عدوها تفضل أحسن الأنواع الأوربية، ويعد الأعراب خمسة أنواع أصيلة للخيل متولدة من خمسة حجور
12
كان يركبها الرسول على زعمهم، وعندما تلد الحجر الأصيلة مهرا يجتمع في المضرب
13
أناس؛ ليكتبوا شهادة عن وصفه واسم أمه ونسبها، ويمضوها ويضعوها في كييس جلدي يربط بنحره، فيدخل بذلك في زمرة الجياد المرموقة التي أدى الطمع فيها إلى اقتتال القبائل غير مرة.
وسرعة عدو الفرس هي التي تنقذ حياة المقاتل في الصحراء غالبا، ومما رواه بركهارد أن فرسانا من الدروز هجموا في سنة 1815 على عصابة من الأعراب في حوران، ودحروها إلى مضاربها، وأحاطوا بها من كل جانب، وأنه لم ينج من القتل منها سوى رجل واحد امتطى صهوة جواده، وخرق خط الحصار، وولى مدبرا ولم يعقب، وأن أحسن فرسانهم، وهم القساة الذين أقسموا أن يقتلوا العصابة على بكرة أبيها جدوا في أثره، وأن ذلك المنهزم لم يترك صخورا وسهولا وتلالا إلا قطعها بسرعة الزوبعة، فلما أيقن أولئك الفرسان، بعد مطاردة عنيفة دامت عدة ساعات، أنه لا أمل لهم في قتله ناشدوه أن يقف؛ ليقبلوا ناصية جواده الأصيل ويتركوه، فرضي بذلك، فقالوا له لما صرفوه كلمتهم المأثورة: «اغسل حوافر جوادك، ثم اشرب غسالتها»، قاصدين بذلك إظهار مشاعرهم نحو جواده النجيب.
وأضيف إلى ما تقدم قولي: إن الخيول العربية لا تعرف سوى مشيتين: الخطاء والعدو، وإن انقيادها لصاحبها جدير بالذكر، وما أكثر ما رأيت العرب يترجلون، وخيولهم لا تحاول الابتعاد عنهم، مع تركهم أعنتها لها!
شكل 1-3: مخيم حجاج بالقرب من مكة في موسم الحج (من صورة فوتوغرافية).
وعلى ما في الخيل من الفائدة لا تتوالد كثيرا في جزيرة العرب خلافا لما يظن، وسبب ذلك: أن الخيل، وهي على عكس الجمل الذي يمكن تربيته في كل مكان، لا تنشأ إلا في البقاع الخصبة، كسهول العراق وسورية، ونجد، وفي نجد وحدها أعز الخيول العربية وأرشقها.
وعرفت جزيرة العرب في القرون القديمة بوفر معادنها الثمينة وأحجارها الكريمة، واليوم لم يبق أثر لذلك، ولا نعلم غير ما يقص علينا من الأنباء عن حديدها ونحاسها، ومع ذلك فإننا لا نستطيع أن نبدي رأيا قاطعا في ثروة جزيرة العرب المعدنية، فمعارفنا بها سطحية.
وظلت صناعة قسم من جزيرة العرب وتجارته على ما كانت عليه في القرون الخالية، وتعد الحلي اليمنية والتمور والخيل والنيلج
14
والسنا المكي واللبان والمر
15
الصافي ... إلخ، أهم مواد الإصدار من جزيرة العرب، ولا تزال القوافل تقوم، كما في العصر الإسرائيلي، بإصدار هذه المواد من جزيرة العرب إلى أوربة، وبإيراد ما تحتاج إليه من إفريقية والهند وفارس.
وتحسب المسافات بالساعات في جزيرة العرب، كما في الشرق كله، ويرى العربي أن سير الجمل ذي الحمل الخفيف في الساعة الواحدة يعدل فرسخا، فنجم عن هذا أن المسافات التي تلوح تافهة على الخريطة تقطع في عدة أيام.
وجزيرة العرب خالية من الطرق المعبدة ، والطرق التي تسلكها القوافل فيها هي الأودية أو الأخاديد التي ذكرناها آنفا، وإذا ما استثنينا هذه المسالك، التي لا تزال كما كانت عليه في الزمن القديم، رأينا مناحي جزيرة العرب تتعين بآبارها التي تتعذر الحياة هناك بدونها، وأكثر مسالك جزيرة العرب استطراقا هي: الطريق التي بين دمشق وبغداد، والطرق التي تبدأ من مدينة الرياض النجدية وتنتهي بمكة ومسقط وبغداد ودمشق. (3) أقسام جزيرة العرب
لم يعرف القدماء من جزيرة العرب سوى الشيء القليل، ولم يتحدث هيرودتس عنها في أكثر من بضع كلمات، ولا يؤبه للأخبار الناقصة التي أتى بها إسترابون وديودورس الصقلي، وهما اللذان أسندا إلى جزيرة العرب من المنتجات، في الغالب، وما كانت تصدره إليها بلاد الهند فتصدرها إلى الخارج، وذكر بطليموس - ويظهر أنه عرف جزيرة العرب أحسن مما عرفه أولئك - أنه كان في بلاد اليمن 170 مدينة، وعد من هذه المدن خمس عواصم كبيرة.
ومعرفة الرومان لجزيرة العرب كانت ضعيفة إلى الغاية، وحاول الرومان غير مرة، تدويخ جزيرة العرب التي كانوا يعتقدون أنها تنتج من التوابل والأبازير والعطور والنسائج والحجارة الكريمة ما كانت تستورده من بلاد الهند والصين بالحقيقة، ولكنهم وهم الذين كانوا سادة العالم، لم يستطيعوا أن يقهروا قبائل البدو العربية التي احتمت بكثبان الرمال وجو البلاد.
ولم يتوغل الأوربيون في جزيرة العرب إلا حديثا، ولم يعرف عنها الأوربيون، قبل نيبوهر الذي زارها سنة 1762م، سوى ما أخذوه عن جغرافيي العرب أو عن بطليموس من المعارف المبهمة، ونرى الخريطة التي رسمها نيبوهر أولى الخرائط العلمية عن جزيرة العرب، مع اقتصاره على السياحة في قسم من بلاد اليمن.
وانقضى نصف قرن بعد نيبوهر من غير أن يقوم سائح آخر بارتياد جزيرة العرب، فلما كانت سنة 1815 استأنف بركهارد البحث، فجمع أنباء رائعة عن جزيرة العرب، ولا سيما مكة والمدينة، وما قامت به مصر حوالي تلك السنة من غزو ضد الوهابيين كان فاتحة بحث واسع عن مختلف أقسام جزيرة العرب، ثم جاب جزيرة العرب سياح كثيرون نذكر منهم والين (سنة 1845) وبرتون (سنة 1852) وبلغريف (سنة 1862) الذي زار في أواسط جزيرة العرب، أماكن كانت مجهولة قبله تماما.
16
وقسم القدماء جزيرة العرب إلى ثلاثة أقسام: بلاد الحجر العربية (بطرا)، وهي القسم الشمالي الغربي من جزيرة العرب، وبلاد العرب السعيدة، وهي القسم الجنوبي الغربي منها، والصحراء العربية، وهي قلبها وشرقها.
فأما بلاد الحجر الغربية (بطرا) فتشتمل على القسم الواقع بين فلسطين والبحر الأحمر، وأما الصحراء العربية فهي البادية الكبرى التي تمتد من حدود سورية والعراق إلى الفرات فإلى الخليج الفارسي، وأما بلاد العرب السعيدة فتشتمل على القسم الجنوبي من جزيرة العرب، أي على نجد والحجاز واليمن وعمان ... إلخ.
وجهل جغرافيو العرب ذلك التقسيم، فلم يروا بلاد الحجر (بطرا) من جزيرة العرب، فكان التقسيم الوحيد الذي اصطلحوا عليه ما يأتي:
بلاد الحجاز:
وهي جبلية رملية، تشتمل على الجزء المتوسط من المنطقة الواقعة على ساحل البحر الأحمر، ومن بلاد الحجاز مكة والمدينة المقدستان.
وبلاد اليمن:
وهي في جنوب بلاد الحجاز، تتألف من الزاوية الجنوبية الغربية من جزيرة العرب، وبلاد اليمن أغنى جزيرة العرب وأخصبها.
وبلاد حضر موت ومهرة وعمان والأحساء:
وهي تلي اليمن كما يبدو من الخريطة، تمتد من خليج عدن إلى أقصى خليج فارس.
وبلاد نجد:
وهي هضبة خصبة ذات مدن مهمة، تقع وسط جزيرة العرب، وتحيط بها الفلوات والمفاوز من كل جانب.
ولا مطابقة بين هذه التقسيمات، التي يرجع أكثرها إلى أقدم أدوار التاريخ، وتقسيم جزيرة العرب السياسي، فقد كان العرب قبل ظهور محمد منقسمين إلى ألوف من القبائل المستقلة، ثم قامت الدولة العربية فتألفت من تلك القبائل أمة واحدة، ثم عاد سكان جزيرة العرب، بعد زوال تلك الدولة، إلى حالهم السابقة، وأصبحت لا ترى في جزيرة العرب غير إمارات صغيرة وقبائل مستقلة تخضع كل واحدة منها لرئيس واحد، ولا يستثنى من ذلك سوى الممالك الثلاث: نجد واليمن وعمان.
وإليك بيانا موجزا عن مختلف الأماكن التي ذكرناها آنفا: (3-1) بلاد الحجر العربية (بطرا)
ذكرنا آنفا أن جغرافيي العرب لم يعدوا بلاد الحجر من أقسام جزيرة العرب، ونحن لا نستطيع إلا أن نعدها من تلك الأقسام من الناحية الجغرافية والناحية الإثنوغرافية.
وتتألف «بلاد الحجر» من جزيرة سيناء الممتدة من حدود فلسطين إلى البحر الأحمر، ويدل اسم «بلاد الحجر» على حقيقتها، وذلك أنه يقع في وسط جزيرة سيناء طود من الصوان يسمى طور سيناء، ويحيط بهذا الطود بقعة صخرية ذات نبات قليل ضعيف، وتصبح هذه البقعة رملية بالقرب من الساحل.
شكل 1-4: منظر من طور سيناء (من تصوير مسيو دو لابورد).
وكانت جزيرة سيناء ذات شهرة في التاريخ مع فقرها، فهي بلاد الأدوميين والعمالقة والأنباط والمديانيين الذين ذكروا في كتب العبريين كثيرا، وفيها تاه بنو إسرائيل زمنا طويلا بعد خروجهم من مصر وقبل دخولهم أرض الميعاد، ولا يزالون يشيرون هنالك إلى الجبل الذي بلغ منه موسى شريعته إلى قومه، وإلى الحجر الذي ضربه موسى بعصاه فانبجس منه الماء، وإلى كهف جبل حوريب الذي توارى فيه النبي إيليا خوفا من غضب الملكة إيزابيل.
وترى في تلك البلاد القديمة التي قصت التوراة علينا أخبارها خرائب بلاد الحجر (بطرا)، وهي أنقاض للمخازن التي كانت قبائل اليمن تجلب إليها اللبان والأطياب لمبادلتها بسلع الفنيقيين. (3-2) بلاد نجد
بلاد نجد هضبة واسعة خصبة واقعة في وسط جزيرة العرب، وتحيط بها الفلوات والجبال من كل جانب.
واطلاع الناس على شؤون هذه الهضبة التي تقوم عليها الدولة الوهابية أمر حديث، وقد قال پلغريڨ عن سكانها: «إن بينهم، كما بين سكان شفيلد وبرمنغم، مهندسين قادرين على إنشاء خطوط حديدية وصنع آلات وبواخر»، ثم ذكر پلغريڨ، في أثناء كلامه عن نجد، أن من الباطل أن توصم جزيرة العرب بالتوحش، وأن يحكم عليها بما يلاقيه السياح الذين لا يقصدون سوى بعض بقاعها الساحلية على العموم.
وعلى ما أصاب الوهابين من الانهزام أمام المصريين في سنة 1810 وسنة 1818 لم تلبث الدولة الوهابية أن أعيد بنيانها، ويقيم أميرها عادة في مدينة الرياض العظيمة الشأن.
والزراعة أهم ما يعتمد عليه سكان نجد، وقد قال پلغريڨ: «تثبت وفرة الذرة والقمح والتمر الجيد في نجد أن النجديين زراع ماهرون.» (3-3) بلاد الحجاز
بلاد الحجاز واقعة على ساحل البحر الأحمر وتشتهر، على الخصوص، بأنها مهد الإسلام وبمكة والمدينة المقدستين اللتين يأتيهما، في كل سنة، ألوف الحجيج من أقصى نواحي العالم الإسلامي.
وتشتمل بلاد الحجاز على بقاع خصبة، ولكن معظم بقاعها غير ذي زرع، ونرى شريف مكة الأكبر، الذي يقيم بالطائف، هو الذي يقبض على ناصية الحكم فيها، وإن كانت تابعة لسلطان الآستانة بالاسم.
ومكة من المدن الواقعة في وسط الصحراء، ولا نشاهد مثلها في غير جزيرة العرب، ولا تفي أرضوها غير الخصبة باحتياج سكانها، فيجلب هؤلاء السكان الحبوب، التي يضطرون إليها، من مدينة جدة التي هي مرفأ لمكة واقع على ساحل البحر الأحمر.
وجهل الأوربيون مكة، التي سماها أهلوها بأم القرى، زمنا طويلا، ولا يستطيع أوربي أن يدخلها من غير أن يعرض نفسه للقتل، وما قدر عليه بعض السياح من زيارة لها كان بفضل تنكرهم وتضلعهم من اللغة العربية، ولم يكن لدينا عنها، فيما مضى، غير رسوم ناقصة لا يركن إليها عند البحث الصحيح، ونستطيع، اليوم فقط، أن نتمثلها تمثلا صحيحا بفضل الصور الفوتوغرافية التي التقطها أحد رجال الجيش المصري، صادق بك، والتي انتهت إلينا بأوربة في سنة 1881، فاستعنا ببعضها في هذا الكتاب.
ولا تفضل مكة على المدن العربية الأخرى بغير نظامها الكبير، ويندر الماء فيها، ويجلب إليها أطيب الماء بقنوات من ينابيع عرفة التي تبعد منها بضع ساعات، وتقول القصة: إن زوجة الخليفة الأشهر هارون الرشيد المفضلة، زبيدة، هي التي أنشأت تلك القنوات.
شكل 1-5: واحة الذهب على خليج أيلة (بلاد الحجر العربية، من تصوير مسيو دو لابورد).
وتصبح مكة في موسم الحج أغنى مراكز العالم الإسلامي التجارية وأكثرها تنوعا، ويقوم في وسطها المسجد الحرام الذي ذاعت بفضله شهرة (أم القرى)، وتقوم الكعبة الشهيرة، التي يقول مؤرخو الشرق إن إبراهيم هو الذي أنشأها، في المسجد الحرام، وتنافس الخلفاء والسلاطين والفاتحون منذ زمن محمد في تزيين المسجد الحرام بسائق التقوى، فلم يبق شيء من زخارفه الأولى.
والمسجد الحرام مربع الشكل، ويجد المرء نفسه، بعد أن يدخله من أحد الأبواب، في باحة فسيحة تحيط بها أقواس قائمة على غابة من الأعمدة، وتعلو هذه الأعمدة قباب صغيرة كثيرة، وتقوم مآذن المسجد الحرام على مختلف أجزاء ذلك المربع.
واتخذ المسجد الحرام المكي مثالا في إنشاء كثير من مساجد سورية على الخصوص، ورأيت في دمشق مساجد كثيرة مبنية على طراز الحرم المكي، وتختلف مساجد القاهرة عنها بشكل مآذنها ودقائق زخارفها بعض الاختلاف.
ويقع المعبد الصغير، الكعبة، في باحة الحرم المكي، والكعبة بناء مكعب ذو حجارة سمر، ويبلغ ارتفاعها أربعين قدما وطولها ثماني عشرة قدما وعرضها أربع عشرة قدما على حسب رواية بركهارد، وليس للكعبة سوى باب واحد يرتفع عن الأرض سبع أقدام، ولا يوصل إليه إلا بسلم متنقل ينصبونه في موسم الحج، ويتألف داخل الكعبة من حجرة واسعة مبلطة بالرخام، ومنارة بمصابيح مصنوعة من الإبريز ومزخرفة بالكتابات.
وداخل الكعبة غني بزخارفه في كل زمن، ومن أقدم ما وصف به هو ما جاء في رحلة ناصر خسرو المفيدة التي قام بها في سورية وفلسطين وجزيرة العرب ... إلخ. (1035م-1042م)، والتي نشرها حديثا مدير اللغات الشرقية العالم، مسيو شيفر، قال ناصر خسرو:
يغطي جدر الكعبة رخام من شتى الألوان، وتسمر بجدارها من الناحية الغربية ستة محاريب فضية طويلة بمقدار قامة الرجل مكفتة بالذهب واللجين
17
المرقش باللون الأسود، ويبلغ ارتفاع الجدر في البدء أربعة سواعد من الأرض، فإذا عدوت هذا الارتفاع وجدت ما فوقه حتى السقف مستورا بصفائح من الرخام المزين بالزخارف العربية وبالنقوش المذهب معظمها.
والحجر الأسود الأشهر مدمج في أحد جدر الكعبة الخارجية، ولا يزيد قطر الحجر الأسود، وهو الذي يقول العرب إن الملائكة أتوا به من الجنة؛ ليكون موطئا لإبراهيم حين بنائه البيت الحرام، على سبعة قراريط، ولا نعلم شيئا كرمه الناس زمنا طويلا كالحجر الأسود الذي كان موضع احترام وتبجيل قبل ظهور محمد بقرون كثيرة.
وتكسى الكعبة في كل سنة كسوة سوداء تسترها كلها عدا موضع الحجر الأسود وبضع أقدام من أسفلها، ويعصب أعلى الكعبة، في أوائل مواسم الحج ، بنطاق موشى بآيات قرآنية مكتوبة بحروف من ذهب.
شكل 1-6: مكة والمسجد الحرام (من صورة فوتوغرافية التقطها الكولونيل المصري صادق بك).
ويقوم في ساحة المسجد الحرام، أيضا، بناء مربع ساتر لينبوع، تقول القصة: إن ملكا فجره حين حجبت هاجر وجهها لكيلا ترى - وهي هائمة على وجهها في البادية - ولدها إسماعيل يموت عطشا.
شكل 1-7: الكعبة في المسجد الحرام بمكة أيام الحج (من صورة فوتوغرافية).
ويجزم مؤرخو العرب أنه كان يسكن مكة مائة ألف نفس في غابر الأزمان، ويرى بركهارد أنه لا يقطن بها سوى عشرين ألف نفس في الوقت الحاضر.
وتقع المدينة في الحجاز أيضا، وهي أقدم عاصمة للدولة العربية، وتلي مكة في الشرف عند المسلمين من الناحية الدينية، فإلى المدينة هاجر محمد، وفيها توفي بعد أن وطد دعائم دينه.
وتحيط بالمدينة أرض جديبة كما تحيط بمكة، ولا تنبت هذه الأرض ما يحتاج إليه أهلوها من الحبوب، فيجلب هؤلاء الأهلون ما يضطرون إليه منها من ميناء ينبع الواقع على ساحل البحر الأحمر.
وأصبحت المدينة ذات غنى وثراء بفضل تقوى الحجاج وبرهم، وتتألف بيوتها، المبنية من الحجارة المنحوتة، من طبقتين على الأقل، وشوارعها مبلطة، ويحيط بها سور مرتفع.
وليس في المدينة مبان قديمة، خلا مسجدها المشهور الذي دفن فيه محمد بعد أن كان يعلم الناس فيه أحكام الإسلام، وصارت المدينة، بفضل قبر الرسول، مكان حج وزيارة مهم مثل مكة تقريبا. (3-4) بلاد عسير
تقع بلاد عسير الواسعة بين الحجاز واليمن، وكان الأوربيون يجهلونها حتى أوائل القرن التاسع عشر، ونحن لا نعلم من أمرها سوى أنه يسكنها قوم مقاتلون، وأنها ذات مدن مهمة كثيرة. (3-5) بلاد اليمن
تتألف بلاد اليمن من القسم الجنوبي الغربي من جزيرة العرب، وهي أغنى جزيرة العرب وأخصبها وأكثرها سكانا، وهي أهم جزء من البقاع التي كان يسميها القدماء «بلاد العرب السعيدة.»
ويتعاطى سكان اليمن الزراعة والتجارة معا، وترجع علاقاتهم بالمصريين والفرس والهنود وغيرهم إلى أقدم القرون.
واليوم يدين أهل اليمن بالطاعة لمن يسمونه «الإمام»، ويقيم الإمام بصنعاء التي يبلغ عدد سكانها ستين ألفا، ومن قول العالم الجغرافي العربي الإدريسي عن صنعاء: أنها كانت مقر ملوك اليمن وعاصمة جزيرة العرب، وأنه كان لملوكهم قصر متين شهير، وأنها كانت تشتمل في زمانه على عدة قصور تحيط بها الحدائق الواسعة، وعلى بيوت مصنوعة من الحجارة المنحوتة ومحتوية نوافذ زجاجية، وأن فيها عشرين مسجدا تعلو أكثرها قباب مذهبة فتساعد على تزيين هذه العاصمة القديمة.
وأتيح لغروتندن أن يزور صنعاء، فوصف موكب الإمام فيها يوم الجمعة بما يأتي: «يشق طريق المسجد خمسون أعرابيا مدججون بالسلاح سائرون ستة ستة منشدون بعض الأناشيد، فيأتي خلفهم أمراء البيت المالك راكبين عتاق الخيل حاملين رماحا طويلة تعلوها رايات خفاقة، فيأتي الإمام خلف هؤلاء الأمراء ممتطيا صهوة جواد أشهب ناهض من جياد الخيل التي تربى في صحراء الجوف بشمال صنعاء، والتي تعدل خيول نجد سرعة ورشاقة وتزيد عليها علوا، حاملا بيده اليمنى قناة ذات قارية
18
من فضة ومقبض من ذهب منقوش، متكئا بيده اليسرى على كتف خصي، تاركا العنان لاثنين من عبيده، متقيا وهج الشمس بمظلة وسيعة مهدبة ذات جلاجل من فضة، فيأتي خلف الإمام سيف الخليفة مستظلا بمظلة أقل أهمية من تلك، فيأتي خلف سيف الخليفة قائد الجيش وأقرباء الإمام وخواص ضباطه، فمائة أعرابي مسلح.»
ولا تزال صنعاء أهم مدن جزيرة العرب، وقال مسيو هاليڨي الذي زارها منذ زمن قريب: «يذكرنا فن عمارتها بالمباني الشهيرة التي شيدت على حسب فن العمارة الإسلامية.»
وتشتهر مدن اليمن، ولا سيما الروضة القريبة من صنعاء، بحدائقها وبيوت لهوها، ويستعان في الروضة بالكرمة في صنع العرش كما يستعان بها في إيطالية.
وتقع بعد ثلاثين فرسخا من صنعاء خرائب مدينة مأرب أو سبأ التي كانت عاصمة البلاد في غابر الأزمان، فغدت اليوم قرية، وكانت تلك الخرائب تشتمل في زمن الإدريسي، الذي ألف كتابه في القرن الثاني عشر من الميلاد، على أنقاض قصرين أقام أحدهما سليمان وأقامت الآخر نساء داود (!) وكانت الملكة التي زارت سليمان تملك سبأ كما روت كتب اليهود.
ومن بين مدن اليمن المشهورة نذكر المرفأين ، مخا وعدن، الواقعين على البحر الأحمر، وتنحصر أهمية مدينة عدن المتهدمة، التي استولى عليها الإنكليز، في موقعها، وكانت عدن فيما مضى زاهرة كثيرة السكان، ومما قاله العالم الجغرافي الإدريسي عنها منذ ستمائة سنة «أنه يجلب إليها من السند والهند والصين ثمين الأدوات كنصال السيوف المرصعة والجلود المحببة والمسك وسروج الخيل، والفلفل والبهار والنارجيل
19
والأبازير والهال، والقرفة وقشر العفص والإهليلج
20
والأبنوس، وقشر السلحفاء والكافور وجوز الطيب والقرنفل، ومختلف المنسوجات النباتية الثمينة المخملية والعاج والقصدير ونخل الهند والقصب والند المر الصالح للتجارة.
والبن من أهم ما تنتجه بلاد اليمن في الوقت الحاضر، فتصدره إلى أنحاء العالم قاطبة، ومع ما يزرع من البن الوافر في كثير من بقاع الأرض لم يبلغ من حيث الجودة في مكان ما بلغه في بلاد اليمن ذات الجو الخاص، وتعد مخا مستودع البن اليمني.
وليس لملوك اليمن في الوقت الحاضر ما كان لأسلافهم في القرون الخالية من الجلال والعظمة، ولا يعدو سلطانهم الآن حدود المدن الكبرى، ولا يتناول نفوذهم مختلف القبائل المستقلة المنتشرة في نواحي البلاد. (3-6) بلاد حضرموت ومهرة وعمان والأحساء
تمتد بلاد حضرموت ومهرة من شرق اليمن إلى عمان، وتقع على طول ساحل المحيط الهندي، وتسكنها قبائل مستقلة، وفيها بضع مدن تكاد تكون مجهولة.
وعاصمة حضرموت هي مدينة شيبام الواقعة على مسيرة يوم من مدينة تريم المهمة، التي يبلغ عدد مساجدها عدد ما في رومة من الكنائس كما روى فريسنل.
وتقع بلاد عمان، التي تأتي بعد مهرة، على ساحل المحيط الهندي والخليج الفارسي وهي رملية تتخللها واحات كثيرة وأودية خصبة، ومقر سلطانها مدينة مسقط التي لا قيمة لها اليوم.
وليست بلاد الأحساء الممتدة من عمان إلى مصب الفرات، والواقعة على طول الخليج الفارسي معروفة جيدا، ويظن أنها قليلة السكان، ويعد القسم الذي بين مدينة القطيف والبصرة صحراء واسعة، وتقع تجاه هذا القسم جزر البحرين التي هي أشهر مغاوص اللؤلؤ في العالم.
لقد أتينا ببحث موجز عن جزيرة العرب، وعلينا أن ندرس الآن أمر سكانها، وسنرى أن العالم لم يعرف قطرا طبع بجوه وأرضه طابعه على شعب كما طبعت جزيرة العرب بجوها وأرضها طابعها على من يسكنها من الأهلين.
ولا تنفع أنباء الفتوح وأخبار الملوك في الوقوف على تاريخ إحدى الأمم، والذي ينفع في ذلك هو البحث في مختلف العوامل التي أثرت في تطورها، والتي يجيء عامل العرق الذي تنتسب إليه في مقدمتها.
فما سجايا هذا العرق الخلقية ومواهبه العقلية؟ وماذا اعتور هذا العرق من التغير بفعل البيئة والوراثة والعلاقات بالأمم الأخرى؟
هذا ما نرغب في معرفته، وما نسعى إلى درسه في هذا الكتاب.
هوامش
الفصل الثاني
العرب
(1) مبدأ العرق كما أقرته العلوم الحديثة
أرى، قبل البحث في العرب، أن أمهد الأمر بدرس ما هو ضروري من أوصاف الإنسان وقوفا على هذا الفصل.
تقسم الجماعات البشرية المنتشرة في مختلف أقطار الأرض إلى عروق، وكان يظن أن الفروق بين العروق البشرية أقل مما هي عليه بين أنواع الحيوان، بيد أن العلم الحديث أثبت أن عروق البشر مفترقة في أخلاقها افتراق أنواع الحيوان المتقاربة، فيجب عد كلمة «العرق» بالنسبة إلى الإنسان مرادفة لكلمة «النوع».
ويمكن تعريف العرق، أو النوع البشري، بأنه يدل على جماعات ذات أخلاق مشتركة تنتقل إليها بالوراثة انتقالا منتظما.
ويرى الذين لم يدرسوا علم أوصاف الإنسان أن «الأمة» و«العرق» كلمتان مترادفتان تقريبا، مع أن لهما معاني مختلفة تماما، فالأمة: هي جماعة من الناس الذين ينتسبون، في الغالب، إلى عروق كثيرة جمع بينها نظام حكم واحد ومصالح واحدة، فإذا صح ما ندعوه الآن بالأمة الإنكليزية أو الأمة الألمانية أو الأمة النمسوية أو الأمة الفرنسية مثلا، لم يبق ما تصح تسميته بالعرق الإنكليزي أو العرق الألماني أو العرق النمسوي أو العرق الفرنسي، فكل أمة من هذه الأمم هي من تباين المحاتد والأصول ونقص الادغام ما لا يجوز معه أن تطلق عليها كلمة «العرق»، أجل، إن من الجائز أن تنضوي جماعات بشرية كثيرة إلى قوانين واحدة، وأن تدين هذه الجماعات بديانة واحدة، وأن نتكلم بلغة واحدة، ولكنه لا يتألف منها عرق متجانس إلا بعد أن تستقر فيها أخلاق واحدة وصفات جثمانية واحدة بفعل البيئة والتوالد والوراثة.
ويتطلب كسب هذه الأخلاق والصفات زمنا طويلا جدا، والصفات الموروثة إذا كانت لا تستقر إلا ببطوء فإنها لا تزول إلا ببطوء، وبأقصى البطوء تندمج العروق وتتحول، ويجب، لكي يكون للبيئات والتوالد أبلغ الأثر في تكوين العرق، أن يتوالى التطور، ويتراكم بفعل الوراثة المتتابعة المستمرة قرونا كثيرة سائرا نحو غرض واحد.
ويعدون البيئة، في الغالب، من العوامل التي تستطيع تحويل صفات العرق وإثباتها، ولكن الوراثة التي تتراكم بها أخلاق العرق وسجاياه وترسب مع الزمن أقوى من البيئة وأعظم أثرا، فقد دلت حوادث التاريخ على أن العرق إذا ما استقرت أخلاقه وسجاياه بالوراثة وبلغ من الكبر عتيا
1
عجزت البيئة عن التأثير فيه، وصار أهون عليه أن ينقرض من أن يتحول، من أجل ذلك نرى بني إسرائيل يحافظون على مثالهم الثابت في كل قطر، ومن أجل ذلك أيضا تعذر على بلاد مصر الحارة، مع ما فيها من قوة صهر، أن تحول العروق المسنة التي استولت عليها واحدا بعد الآخر فكانت قبرا لكل واحد فيها.
وإنما تؤثر البيئات في العروق الحديثة، أي العروق التي تنشأ عن توالد مختلف الأمم ذات الصفات المتباينة، فإذا ما فلت الوراثة الوارثة وانحلت بذلك مقومات الماضي القديمة الموروثة بفعل الوراثة الجديدة خلا الميدان للبيئة وقامت بعملها.
والتوالد، لكي يكون مؤثرا، يجب أن يتكرر، وألا تتفاوت كثيرا نسب من يتوالدون من أفراد مختلف العروق، وإذا عظم التفاوت في نسب العناصر المتوالدة كانت الغلبة لصفات العرق الوافر العدد، لا لصفات العرق القليل العدد الذي لا يبقى له أثر من حيث النتيجة، وقد دل الاستقراء على أن رهطا من البيض لم يلبث أن يزول أثره بعد بضعة أجيال إذا ما توالد هو وقوم من الزنوج، وأن صفات أمة مقهورة صغيرة تزول بالتوالد أمام صفات أمة منتصرة كبيرة .
ومن الأمثلة على ذلك أغارقة الوقت الحاضر الذي لا يمتون إلى أجدادهم الذين خلدتهم التماثيل بوجه شبه،
2
ومن تلك الأمثلة رومان بلاد الغول الذين، وإن كنا وارثين لحضارتهم ولغتهم، لم يبق لدمائهم أثر في عروقنا، ومنها أيضا حال العرب في مصر، فسوف ترى أن المصريين الذين تمردوا على حضارة الفرس واليونان والرومان ولغاتهم انتحلوا لغة العرب ودينهم وتمدنهم، وأن مصر غدت بذلك أشد البلاد التي دخلت في دين محمد عروبة، وأنه، مع كثرة توالد المصريين والعرب الفاتحين وظهور مثال جديد اختلف عن الأصل بعد انقضاء جيلين أو ثلاثة أجيال، أدى تفوق نسبة المصريين العديدة من حيث النتيجة إلى تقلص أثر الدم العربي في المصريين، وأن الفلاح المصري العتيد، العربي بدينه ولغته، رجع ابنا لقدماء المصريين وصورة حية لهم.
شكل 2-1: أعراب ورؤساء أعراب من القبائل المستقلة المجاورة للبحر الميت (من صورة فوتوغرافية التقطها المؤلف). (2) أهمية الأخلاق في تقسيم العروق
لا تصلح اللغة والدين والجماعات السياسية والصفات التشريحية، كشكل الجماجم ولون الجلود والسحنات،
3
لتقسيم العروق وإظهار الفروق الدقيقة بين الأمم المتقاربة، كالأمم الأوربية مثلا، وإن صلحت الأوصاف التشريحية لتقسيم الأجناس البشرية الظاهرة الاختلاف البادية التباين.
بيد أنه توجد صفات نفسية، وإن شئت فقل سجايا خلقية، ثابتة ثبات الصفات التشريحية، وأنه سيأتي يوم تكون فيه هذه الصفات النفسية، التي أغفلها علم أوصاف الإنسان الحديث، أساسا لتقسيم العروق، فلا يقول فيه أشد الناس تمسكا بالأوصاف التشريحية: إنه ينال، باطلاعه على صفات العرقين المتقابلين التشريحية، معارف أكثر من التي ينالها باطلاعه على صفاتهما النفسية.
وتأتي الصفات النفسية المتشابهة بنتائج متشابهة دائما كما تأتي الصفات التشريحية، ومن ينعم النظر في تطور إحدى الأمم يعجب مما يلاحظه من تجلي سجاياها الخلقية على نمط واحد في غضون الأجيال، وتنشأ عن الصفات النفسية نظم الأمة وشأنها في العالم على الخصوص، وتستتر تحت الأخلاق، أي تحت المقومات التي تولد مع الإنسان وتقرر طراز شعوره وفعله، عوامل السير اللاشعورية.
وتختلف الأخلاق باختلاف العروق، ونفسر بهذا الاختلاف السبب في أن النظم المتشابهة تأتي بنتائج مختلفة عند إدخالها إلى أمم مختلفة، ونفسر به، مثلا، علة الفوضى السائدة لجمهوريات أمريكة الإسپانية البائسة وما تتمتع به جمهورية الولايات المتحدة من السعادة والرخاء مع تماثل نظم هذه البلاد وتلك.
وفي الماضي تنضج عوامل السير، ومنه تتسرب فينا، وفي الماضي الطويل تتكون المروءة والنشاط والشجاعة والمبادرة وردع النفس وكبح العواطف، وغير ذلك من الأخلاق والمشاعر التي يرثها أبناء الجيل الحاضر؛ لينقلوها إلى جيل المستقبل، والتي لا يستطيع أي نظام أن يمنحها.
شكل 2-2: أعراب سوريون (من صورة فوتوغرافية التقطها المؤلف في أريحا).
وعلى ما في السجايا الخلقية من الثبات نراها تقدر، كالصفات الجثمانية، أن تتحول ببطء بتأثير مختلف العوامل، ولا سيما البيئة المادية والمؤثرات الأدبية والتوالد، ومن ذلك اختلاف أخلاق الروماني الذي كان معاصرا لهيلو غابال عن أخلاق أجداده في العصر الجمهوري، واختلاف سكان الولايات المتحدة في الأخلاق عن آبائهم الإنكليز.
والأخلاق في طريق التحول عند أكثر الأمم الحاضرة، وهي لا تزال بعيدة من الرسوخ، فقد نشأ عن الفتوحات العظيمة التي ظهرت بها الأمم الحاضرة أن تقابلت عناصر كثيرة التباين فاختلط بعضها ببعض قليلا، ولما يمض من الزمن ما يكفي لاكتسابها كثيرا من المشاعر المشتركة.
وأمر مثل هذا يتضح جيدا حينما ندرس أحوال شعوب حديثة يخيل إلينا، أول وهلة، أنها متجانسة كالفرنسيين المؤلفين بالحقيقة من عناصر مختلفة كالكمريين والنورمان والسلت والأكيتان والرومان، وغيرهم من الذين داسوا ديارنا وجاسوا
4
خلالها من غير أن يتمازج حفدتهم، كما يجب، حتى الآن.
وأوضحت في كتاب جديد مقدار التأثير العميق الذي يؤثره في مقادير الأمم مختلف العناصر التي تدخل في تركيبها، كما بينت فيه أن دراسة هذه العناصر، لا دراسة النظم السياسية التي هي معلولات لا علل، هي التي ترشدنا إلى سر الدور الذي تمثله الأمم في التاريخ، وما قمت به من تلخيص ذلك في هذا الكتاب يكفي لإقناع القارئ بأهمية درس روح الأمم الذي لا يزال ناقصا،
5
وسنرى في البحث في أخلاق العرب تفسيرا وافيا لأسباب عظمتهم وانحطاطهم. (3) منشأ العرب
عد العرب واليهود والفنيقيون والعبريون والسوريون والبابليون والآشوريون، الذين استوطنوا جزيرة العرب وآسية الصغرى حتى الفرات، من أصل واحد، ويطلق على هذا الأصل اسم الأرومة السامية.
وتقوم قرابة هذه الأمم على تجانس لغاتها، واشتراك أبنائها في صفات جثمانية متماثلة كاسوداد شعورهم وكثاثة لحاهم وكمدة ألوانهم ... وما إلى ذلك، ومن الممكن أن نجادل في قيمة هذه الصفات، ولكننا إذ نخرج بهذا عن الغرض، نرى الاقتصار على اقتباس ما ورد عنها في بعض المتون.
وذهب العلماء إلى وجود مثالين لصفات تلك الأمم الجثمانية، أحدهما: لطيف، والآخر: غليظ، فأما المثال الأول: فيتصف، كما قال مسيو جيرار: «بقامته الهيفاء المعتدلة وأعضائه المكتزة
6
المشتدة ومفاصله الدقيقة، ووجهه الطويل الدقيق في أسفله وذقنه المتوثب وفمه الصغير، وأسنانه البيض المنضدة، وشفتيه الرقيقتين، وأنفه الضيق الأقنى، وعينيه السوداوين النجلاوين، وحاجبيه الأزجين، ورأسه المستطيل، ونجد هذا المثال، الشائع بين العرب على العموم، في بني إسرائيل والسوريين والمصريين الأقدمين والمعاصرين أيضا. «وأما المثال الآخر: فيتصف بقامته الطويلة الثقيلة، وأعضائه العضلة، ووجهه العريض الثخين، وفكه القوي البارز، وذقنه الناتئ، وفمه الضخم، وشفتيه الغليظتين، وأنفه الأقنى الواسع، وحاجبيه المقترنين، وعينيه السوداوين الكبيرتين، وجبينه الضيق المستقيم، ونجد هذا المثال بين الآشوريين واليهود وعرب الجنوب والمصريين الذين تجري في عروقهم دماء إفريقية لا ريب، وذلك لما تدل عليه خطوط سحناتهم ونسب أجسامهم.»
ومهما تكن وحدة هذه الصفات التي نجادل في قيمتها، ومهما تكن أهمية هذه القرابة السامية التي لا نجزم بها نراها ترجع، على فرض وجودها، إلى ما قبل التاريخ، وقد كانت هذه الأمم السامية على اختلاف وتباين منذ أقدم عصور التاريخ كما دلت عليه الروايات.
وإذا جاز لنا أن نحكم في مبادئ الساميين السياسية والاجتماعية، من خلال مبادئنا الحاضرة، رأيناها قبلية غير راقية، وذلك مع الاعتراف بأن الأمم السامية أقامت حضارات عظيمة، وأن ثلاثة من الأديان الخمسة أو الستة التي تسود العالم (وهي اليهودية والنصرانية والإسلام) نشأت عن الفرعين الساميين: اليهود والعرب.
وكانت القرابة بين العرب واليهود وثيقة، ودليل ذلك ما بين لغتي تينك الأمتين وتقاليدهما من التشابه.
ولا جرم أن الشبه قليل بين العربي أيام حضارته واليهودي الذي عرف منذ قرون بالنفاق والجبن والبخل والطمع، وأن من الإهانة للعربي أن يقاس باليهودي، ولكن، لا تنس أن طرق الحياة الخاصة التي خضع اليهود لحكمها منذ قرون كثيرة هي التي أنشأت منهم عرقا ذليلا غير محترم،
7
وعندي أن كل أمة تكون عرضة لمثل ما أصاب اليهود، ولا تعرف عملا لها غير التجارة والربا، وتحتقر في كل مكان، وتنتقل إليها تلك الغرائز المنحطة بالوراثة المتتابعة مدة عشرين قرنا، وتتأصل فيها، تصير كما صار إليه اليهود لا محالة.
ويجب لكي نتمثل القرابة بين اليهود والعرب، أن نعود إلى عصر إبراهيم الذي نرى أن قبيلته الصغيرة كانت تغزو جيرانها، وتلقي الذعر فيهم، كما تغزو قبائل البدو العربية الحاضرة جيرانها وتخيفهم، ولنعلم، كما أرجح، أن أسر اليهود في مصر لم يكن سوى نتيجة غزوة أسفرت عن حصر المصريين لليهود النهابين في مكان من شمال مصر لم يستطيعوا الخروج منه في زمن موسى إلا بعد إقامتهم به زمنا طويلا، وبلوغهم من النفوس عددا تمكنوا به من مقاومة الفراعنة، والرجوع لمدة أربعين سنة إلى حياة البادية، وما كانت حياة اليهود لتختلف، إلى زمن داود، عن حياة الصحاري التي ألفتها قبائل البدو العربية في فلسطين وجزيرة العرب. (4) تنوع شعوب العرب
يعد أكثر الأوربيين العرب عرقا واحدا على العموم، وكل مسلم، عند هؤلاء الأوربيين، يسكن بقاع آسية وإفريقية الممتدة من مراكش إلى جزيرة العرب، هو عربي، وذلك كما يعد العرب جميع الأوربيين من إنكليز وألمان وطلاينة وروس أمة واحدة يسمونها الإفرنج.
شكل 2-3: عربيان حضريان من سورية (من صورة فوتوغرافية التقطها المؤلف بدمشق).
والحق أن تمثل الأوربيين للعرب على هذا الوجه هو من عدم الصحة كتمثل العرب للأوربيين، وذلك أنه يوجد بين العرب مثل كالتي تشاهد في أوربة، وأن العرب قد انتهوا، بما صادفهم من البيئات، وبما اختلطوا به من الأمم، إلى أمزجة كثيرة معقدة إلى الغاية.
وعلى ذلك أصبح عرب مكة، بعد أن كان يتألف منهم عرق خالص في الماضي، مزيجا من أبناء مختلف الشعوب المنتشرين فيما بين المحيط الأطلنطي ونهر السند والذين يحجون مكة في كل سنة منذ زمن محمد، وقل مثل هذا عن عرب إفريقية وسورية الذين اختلطوا بالفنيقيين والبربر والترك والكلدان والتركمان والفرس والأغارقة والرومان، ولا تستثن من هذا أجزاء جزيرة العرب الوسطى المنعزلة، كبلاد نجد، التي اختلط أهلوها بالزنوج على نسب واسعة منذ قرون.
واستوقف تأثير الزنوج في سكان جزيرة العرب نظر جمع السياح الذين ارتادوها، ومن ذلك أن روى روتا وجود بقعة في اليمن صار سكانها من أصحاب الجلود السود على وجه التقريب، مع أن سكان الجبال من أهل اليمن الذين قل اختلاطهم بالآخرين ظلوا بيضا، وإن قص هذا السائح، في معرض الكلام عن أسرة أحد رؤساء تلك البقعة، أنه «يوجد في أبنائها جميع الألوان التي تترجح بين الأسود والأبيض تبعا للعروق التي تنتسب إليها أمهاتهم، ومن ذلك أن رأى والين قبائل من العبيد السود في الجوف، وأنه يوجد زنوج في نجد وفي بقية جزيرة العرب من غير اكتراث للون وللتوالد، ومن ذلك أن رأى پلغريڨ مقاليد مدينة القطيف النجدية المهمة بيد زنجي، ومما قاله پلغريڨ: «إنني رأيت في الرياض أناسا من الخلاسيين
8
يحملون سيوفا ذات مقابض فضية ويخدمهم عرب خلص من أبناء إسماعيل وقحطان.»
وعجبت ليدي بلنت من عدم الاكتراث لأمر اللون أيضا، وذلك في رحلتها إلى بلاد نجد في سنة 1878، فروت أن حاكم مدينة سكاكة النجدية زنجي أسود كريه الملامح كزنوج إفريقية، ثم قالت: «إن مما لا يصدقه العقل أن يحيط بهذا الحاكم الزنجي، الذي لا يزال عبدا، رهط من الندماء البيض الخالصي العروبة يمتثلون أوامره، ويبتسمون استحسانا لأفاكيهه التافهة.»
واختلاط مختلف العروق أظهر ما يكون لدى أهل الحضر من العرب، ويباهي كل عربي بوجود نسوة من مختلف الألوان في دائرة حريمه، ويتجلى صفاء العرق في سكان الجبال وأهل البدو من العرب أكثر مما في غيرهم، وذلك مع ملاحظة وجود أناس من أهل بادية الشام الشرقية، القريبة من تدمر على الخصوص، شقر زرق العيون بسبب اختلاطهم بأهل الشمال على ما يلوح. (5) وصف الفوارق بين العرب
إن الفارق الأساسي الوحيد بين العرب هو ما أيدته تقاليدهم وطرق معايشهم، وهو تقسيمهم إلى أهل حضر وأهل بدو، ويجب ألا يغيب هذا التقسيم الجوهري عن البال حين البحث في تاريخهم، فأما أهل البدو، وهم الأعراب الموزعون فيما بين المحيط الأطلنطي وخليج فارس، فلهم طرق معايش وعادات وطبائع لا تزال كما كانت عليه منذ آلاف السنين، ويحتمل أن تبقى هكذا إلى الأبد، وهم مقسمون، كما في العصر الإسرائيلي، إلى قبائل ترتحل عن الأماكن المقيمة بها عندما تستنفد مواشيهم ما عليها من الكلأ، وأما أهل الحضر من العرب فهم، على العكس، يتغيرون بتغير الأماكن والشعوب التي يخالطونها.
شكل 2-4: عربي حضري سوري (من صورة فوتوغرافية التقطها المؤلف في دمشق).
وإن تقسيم العرب إلى أهل حضر وأهل بدو يطابق ما في الرواية التي قالت بتقسيمهم إلى ثلاثة عروق: العرق الذي باد وعفا أثره قبل الإسلام، والعرق المؤلف من أبناء قحطان الذين استقروا ببلاد اليمن والذين هم أقحاح العرب، والعرق المؤلف من ذرية إسماعيل الذي هو ابن جارية إبراهيم المصرية.
وتعلم مما قلناه آنفا عن العرب المعاصرين الذين هم وليدو توالد مختلف أنه يتعذر وجود مثال خالص خاص بالعرب؛ بسبب ما تعرض له العرب من التمازج كتعذر وجود مثال فرنسي أو إيطالي.
وأحسن وصف قيل في مثال العرب الجثماني، الذي يطابق فريقا كبيرا من العرب الخلص، هو ما ذكره الجراح الأول السابق في الجيش المصري، لاري، في الكلمات الآتية، وهي:
هم مربوعو القامة، ذوو تكوين حسن، ومرانة ضلع سفع،
9
وجوههم بيضية سمر، وجبنهم عريضة عالية، وحواجبهم سود منفصلة، وعيونهم كحل لامعة، وأنوفهم معتدلة، وأفواههم جميلة، وأسنانهم منضدة عاجية البياض، وآذانهم حسنة الشكل غير كبيرة مائلة قليلا إلى الأمام، وخروتهم
10
محاذية تماما لأجفانهم، وفي المرأة العربية محاسن كثيرة كما في أخواتها في الأمم الأخرى، ونحن نعجب، على الخصوص، باستدارة أعضائها اللطيفة، وتناسب يديها، واعتدال رجليها، وهيف قامتها وتبخترها ... إلخ.
ويقسم أهل البدو أو الرعاة من العرب إجمالا إلى قبائل كثيرة موزعة في أطراف الأراضي الخصبة القريبة من البادية، وتقيم القبائل بمضارب وخيام تنقل من مكان إلى آخر عند الضرورة، وعلى ما بين أبناء القبائل العربية والعرب المتمدنين من الشبه نرى أبناء القبائل العربية يميزون بتألق عيونهم وغموض ملامحهم، واعتدال قامتهم وسرعة عدوهم، وضمورهم وقوتهم، وتوثبهم وخيلائهم وعتقهم، وحذرهم وبأسهم ونجدتهم ولباقتهم، وذكائهم النادر وفروسيتهم ورمايتهم، واستعدادهم العظيم لاحتراف مختلف المهن والصناعات.»
وأشد ما استوقف نظري من الأوصاف التي وصف لاري بها العرب هو ما شاهدته، على الخصوص، من التماع عيون صبيانهم، وبياض أسنانهم، ودقة أيديهم وأرجلهم، وهيف قامتهم ... وما إلى ذلك مما لا يرى اليوم في غير عرب البادية.
وإذا عدوت ذلك التقسيم الأساسي وجدت أن الفارق العملي الوحيد الذي بين العرب المولدين هو ما يقوم على البحث في سكان كل قطر يسكنه العرب، وهذا ما نفعله حينما نصف بالتتابع عرب جزيرة العرب وسورية ومصر وإفريقية والصين، وصفات هؤلاء النفسية، لا صفاتهم الجثمانية، هي أكثر ما نبحث فيه، مع أن نشر صورنا الفوتوغرافية أنفع في تمثل هذه الأمثلة من أي بيان مفصل كان. (5-1) عرب جزيرة العرب
عرب البقاع الوسطى من جزيرة العرب، ولا سيما الأعراب، هم، مع اختلاطهم بأناس من الزنوج، أكثر العرب مشابهة لأجدادهم الأقدمين، وهم الذين سنبدأ بالبحث فيهم.
ويتألف من الأعراب، الذين يظن الكثيرون أن جزيرة العرب لا تشتمل على غيرهم، عرق جليف بعيد من التمدن عاطل من أي تاريخ كان، ونحن إذا ما استثنينا الدين نرى أنه لم يتبدل فيهم شيء منذ ألوف السنين، وعلى من يود أن يعرف ما كانوا عليه منذ ثلاثة آلاف سنة أن ينظر إلى حاضرهم، وهم الذين لم يطرأ على ما وصفهم به هيرودتس أو التوراة شيء، وهم الذين قدر عليهم ألا يتحولوا، وإذا كان من فضل البقاع الخصبة، كاليمن، أن تنشئ أهل حضر، فإن رمال الصحراء القاحلة لا تصلح لغير الأعراب.
شكل 2-5: عرب من مصر العليا (من صورة فوتوغرافية التقطها المؤلف بالقرب من طيبة).
وسكان البدو من العرب مقسمون، في كل زمن، إلى قبائل صغيرة تخضع كل واحدة منها لشيخ أو أمير، ويقتصر سلطان هذا الشيخ أو الأمير، تقريبا، على قيادة المحاربين في الغزوات، وتقسيم الغنائم، والصدارة في بعض الحفلات.
والغزو وتربية الحيوانات هما كل ما يعتني به الأعراب، ولا نهاية لما يشتعل بين القبائل العربية من الحروب لأتفه الأسباب، ما عملت بمبدأ الثأر والقصاص الإسرائيلي القائل: إن العين بالعين والسن بالسن والنفس بالنفس، وما تبع كل حادث قتل يقع بينها حادث قتل مثله انتقاما، ولا ترضى القبيلتان العربيتان المتعاديتان بالدية بدلا من القصاص إلا بعد أن ينهكهما الجهد ويعتريهما الوهن.
وتنشأ عيوب أهل البدو من العرب ومحاسنهم عن طراز حياتهم، قال هيردر:
لا يزال الأعراب محافظين على طبائع أسلافهم البدوية، وهم، على ما في الأضداد من غرابة، يتصفون بسفك الدماء وحقنها، وباعتقاد الخرافات وردها، وبالإيمان والإلحاد، وهم، على ما يظهر، ذوو فتوة خالدة يقدرون بها على القيام بجليل الأعمال عندما يؤمنون بمبدأ جديد، وهم أحرار كرام شم الأنوف غضاب مقاديم، يجمعون في مثالهم بين الفضائل والمساوئ الخاصة بقومهم.
والأعرابي نشيط، ويعود نشاطه إلى وجوب كسب عيشه بنفسه، وهو صبور، ويرجع صبره إلى ما لا محيص عنه من احتمال الآلام والمحن، وهو محب للحرية، والحرية هي الأمر الوحيد الذي اتفق له أن يتمتع به، وهو محارب، ويحارب حاقدا كل من يحاول استعباده، وهو قاس على نفسه صارم ولوع بالانتقام في الغالب.
ونرى الأعراب متماثلين في أمور العز والشرف؛ لتماثل أحوالهم ومشاعرهم، ويقوم فخرهم على السيف والقرى والبلاغة، فبحد السيف يصونون حقوقهم، وبالقرى يتجلى كرم أخلاقهم، وبالبلاغة يحسمون ما لا يقدر عليه السلاح من الخصام.
وقال ديڨرجه: «قد يكون أظهر ما في الأعراب هو أنهم جماع الأضداد، فالنهب والكرم، والسلب والجود، والقسوة والنبل ... وغير ذلك من الصفات التي تدعو إلى المقت والإعجاب في وقت واحد مما نراه في الأعراب، وليس في هذا ما يعذر به الأعراب لو لم نلاحظ أنهم محكوم عليهم بالاكتفاء بما تنتجه بلادهم المعتزلة التي هي أكثر أراضي العالم جدوبة، ويعتذر الأعراب عن النهب بأنهم محرومون ، لفقر بلادهم، طيب العيش ووفرة الغلات والكلأ مما لم تعرفه أمة أخرى، وبأنهم يزيلون هذا الحيف المقدر بأسنة رماحهم معتقدين أن من الحلال دهم القوافل وسلب ما بأيديها تعويضا لهم مما لم تقدر أن تجود عليهم به أراضيهم القاحلة، وبأنهم يعدون قطع السابلة، وسلب ما بأيدي الناس ضربا من حقوق الفتح والفخر كتدويخ مدينة أو ولاية، وذلك لعدم تفريقهم بين الحرب والكمون.
ومساوئ مثل هذه لا تغتفر لو لم يكن عند الأعراب من الفضائل ما يشفع لهم به، ومن هذه الفضائل أن الأعرابي المحارب، المتعطش للنهب والانتقام، والذي يفعل عند مس كرامته ما لم تسمع به أذن من ضروب القسوة، مضياف كريم أنيس في مضربه، ومنها أن الهضيم الذي يضع نفسه تحت حماية الأعرابي، ولو كان من أعدائه، أو الذي يصبح في جواره، يعد من أفراد أسرته، فلا يستطيع أحد بعدئذ أن يعتدي على حياته المقدسة التي يدافع عنها ذلك الأعرابي أكثر من أن يدافع عن نفسه، وإن ظهر أن هذا الغريب من أعدائه الذين تمنى زوالهم مائة مرة.
وليس بمستبعد أن يأخذ الأعرابي المضياف جمل جاره طوعا أو كرها ويصنع منه طعاما؛ ليمعن في إكرام ضيوفه، والكرم أفضل فضائل الأعراب، ويعده الأعراب أخص ما اتصفت به أمتهم.»
وأضيف إلى ما تقدم أن الأعراب من سكان جزيرة العرب وسورية وإفريقية يحبون الحرية حبا جما لا يقدر الأوربي أن يتصوره، وهم يزدرون أبناء المدن ويعدونهم من الأرقاء لذلك، ويتضمن الارتباط في الأرض عندهم معنى توديع الحرية والخضوع لسيد، ويرى الأعراب الذين لا يملكون سوى حريتهم أن هذه الحرية أغلى شيء، وقد حافظوا عليها بتوالي الأجيال، ولم يقدر جميع الفاتحين من الأغارقة والرومان والفرس وغيرهم من الأمم التي دوخت العالم أن يعبدوهم، وكل قهر للأعراب لا محالة زائل، والقهر إذا ما وقع كان على أيدي أعراب آخرين، فلا يفل الأعراب إلا الأعراب.
ويرجع حب الأعراب للحرية إلى أقدم عصور تاريخهم، فقد روى ديودورس الصقلي أن الأنباط، وهم من أعراب بلاد الحجر العربية (بطرا)، كانوا ممنوعين من بذر القمح وغرس الأشجار المثمرة، وبناء البيوت لما في هذه الأعمال من التضحية بالحرية طوعا، ولذا لم يستذل الأعراب أحد، وهم الذين لم يعطوا ملوك فارس الجزية، وقد أعطاها أهل فنيقية وفلسطين كما ذكر هيرودتس.
ويلقي الأعراب الرعب في قلوب جيرانهم المتمدنين؛ لما فطروا عليه من الرغبة في النهب وحب القتال، ويعد هؤلاء المتمدنون الأعراب من قطاع الطرق، وينظر الأعراب إلى المسألة من ناحية أخرى، أي يفخر الأعراب بسلب القوافل فخر الأوربيين بضرب المدن بالقنابل أو افتتاح الأقطار أو ما إلى ذلك، ويحترم الأعراب رؤساءهم احترام الأوربيين لأعاظم القادة، وإن لم يقيموا لهم تماثيل.
وأصبح أعراب جزيرة العرب، بما كان عندهم من غرائز النهب والقتال، محاربين أشداء أيام خلفاء محمد فدوخوا العالم بسرعة، ولم تتغير غرائزهم بتغير ما لاقوا من الأحوال الجديدة، بل تجلت على صور أخرى ما كان الثبات من الغرائز، فأصبح حبهم للنهب حبا للفتح، وتحول كرمهم إلى ما أخدته أوربة عنهم مؤخرا من طبائع الفروسية، ثم إن ما بينهم من التفاخر والمنافسة لم يلبث أن جاوز الحدود المعقولة فكان سببا في خسرانهم بعد أن كان حافزا لهم على العمل الصالح في البداءة.
وكان يتألف من الأعراب قسم كبير من جيوش خلفاء محمد، وقام الأعراب الفاتحون بأجل الخدم لأولئك الخلفاء، وإن كان العلماء وأرباب الفن الذين ازدهرت بهم حضارة أتباع النبي لم يظهروا من بين الأعراب.
ويستخف الأعراب بسلطان الحضارة، ويفضلون عليها عيش البادية، وهذه من المشاعر الموروثة التي ترى مثلها عند هنود أمريكة ولا يؤثر فيها أي دليل، ورفض الأعراب، في سورية على الخصوص، كل أرض عرضت عليهم ليستقروا بها، ويعرف هؤلاء الأعراب، الذين يستوقف نبلهم وبأسهم نظر كل سائح، كيف يستغنون عن نعم الحضارة المصنوعة، وعن جبروت كل أمير إقطاعي كأمراء القرون الوسطى، ولا تخلو حياة البادية من السحر والجمال مع ذلك، ولا أتردد ثانية في ترجيحها على حياة المصانع التي يقضي العامل فيها اثنتي عشرة ساعة من كل يوم.
شكل 2-6: عربيتان من جوار القاهرة (من صورة فوتوغرافية).
وعندي أن أهل البدو من العرب، مع بقائهم على الفطرة وعدم تحولهم قيد أنملة عن الحال
11
الابتدائية التي كانوا عليها منذ أقدم العصور، أفضل من جميع أمم الرعاة في العالم، وقد أتيح لي أن أحادثهم غير مرة، فظهر لي أن مبادئهم في الحياة تعدل مبادئ كثير من الأوربيين العريقين في الحضارة، وسنرى أن الأعراب الأجلاف بعاداتهم شعراء بتصوراتهم، ويندر أن يكون الأعرابي غير شاعر.
والأعرابي، وهو شاعر، صبي في خلقه، وينطوي تحت دعته الظاهرة من التقلب ما لا يشاهد مثله إلا في الأولاد والنساء، وهو كهؤلاء لا يتأثر إلا بعامل الساعة التي يكون فيها، ولا تستهويه سوى ظواهر الأمور، ويبهره الضجيج والضوضاء والبهرج، وفي فتنه سر اجتذابه.
وأمر مثل هذا يشاهد في العروق، والأمم الفطرية، وما إليها من النساء والصبية الذين هم عنوان أدوار التطور البشري الأولي، والحق أن الأعرابي جلف ذكي لم يصعد درجة في سلم الحضارة منذ ألوف السنين، ولم يعان ما عاناه الرجل المتمدن من التحول المتراكم بتوالي الأجيال، وإذا صح ما نعتقده من أن اختلاف السجايا الخلقية يكفي لوجود فروق بعيدة الغور بين الناس أمكننا أن نقول: «إنه يتألف من العرب المتحضرين والأعراب عرقان تفصل بينهما هوة عميقة.»
ويختلف عرب الجزيرة الحضريون، الذين نبحث في أمرهم الآن، عن أولئك الأعراب اختلافا كبيرا، فأهل الحضر من عرب الجزيرة لم يكونوا أجلافا كما يعتقد على العموم، وعند پلغريڨ أن السياح الذين لم يزوروا سوى بعض الأماكن الساحلية التي لا أهمية لها في جزيرة العرب الواسعة هم مصدر هذا الرأي الفاسد، وينظر پلغريڨ إلى أهل عمان بعين التقدير والإعجاب حيث يبحث في ثقافتهم، ولا يصعب، كما يرى، وجود أناس من أهل نجد قادرين، كالإنكليز، على صنع الآلات ومد الخطوط الحديد، وليس من المجهول شأن جامعة زبيد وجامعة ذمار اليمنيتين اللتين، وإن كانتا دون جامعة الأزهر المصرية أهمية، تساعدان مثلها على نشر العلم القويم بين أولي البصائر من الأهلين.
ومن دأبنا في الوقت الحاضر أن ننظر إلى عرب الجزيرة من خلال المثل الكئيبة التي نراها في سورية ومصر والجزائر، والتي لا تنم إلا على أناس أحطتهم ضروب الاختلاط والعبودية، وعلى الباحث الذي يرغب في استبار العرب أن يسيح في مهد العروبة، وأن يدرس أحوال العرب فيها عن كثب، فقد عد پلغريڨ عرب الجزيرة الذين عاش بينهم زمنا طويلا من أعظم أمم الأرض كرما ونبلا، قال پلغريڨ:
إن أهل الحضر من العرب من أنبل شعوب الأرض وأكرمهم، وهم جديرون بهذا المديح، وقد أكثرت من السياحة في أنحاء العالم، وكانت لي صلات وثيقة بمختلف الأمم الإفريقية والآسيوية والأوربية، فظهر لي أن الأمم التي يفضل أفرادها على سكان جزيرة العرب الوسطى قليلة إلى الغاية.
ويتكلم أولئك الحضريون العرب بلغة الأعراب مع ذلك، ويجري في عروقهم ما يجري في عروق الأعراب من الدماء، وما أبعد المسافة بين الفريقين!
شكل 2-7: مسلمون من النوبة (من صورة فوتوغرافية التقطها المؤلف).
وذكرنا أن الفروق التي بين أهل الحضر من العرب الساكنين في مختلف البلدان كالفروق التي بين الأمم المتمدنة، وتشاهد مثل هذه الفروق بين سكان جزيرة العرب نفسها، فالفرق بين سكان القطر النجدي، الذي هو أوسع من كثير من الممالك الأوربية، وبقية سكان جزيرة العرب لا يقل عن الفرق الذي بين سكان شمال أوربة وسكان جنوبها، والوهابيون، الذين هم أكثر نشاطا من العرب الآخرين وأقل اندفاعا وراء عوامل الزمن، أشد العرب مكرا وغيرة، قال پلغريڨ في وصف الوهابيين:
يقل الوهابيون عن العرب الآخرين كرما وإقداما ومرحا وصراحة، ويزيدون عليهم صبرا وحكمة، ويندر أن يدل كلامهم على سرائرهم، وهم حزمة بعيدو الهمة جبابرة ذوو انتقام، قساة نحو أعدائهم، مشكوك في مودتهم لغير بني قومهم، ولذا فهم جديرون بأن يسموا، من غير تجن ومع كل تحفظ، بإسكتلنديي جزيرة العرب.
ووجوههم ذات صلود وعبوس مما لا يرى مثله في وجوه عرب الشمال الطليقة، ولا يؤخذون بدوافع الساعة العتيدة، وإذا ما ساروا فبعد تفكير وإنعام نظر.
ويقدرون بإرادتهم القوية وثباتهم وجلدهم على تنظيم شؤونهم الاجتماعية والسيطرة على جيرانهم مع ما فيهم من الذكاء المحدود، ولا ريب في أنهم سينتصرون، بفضل اتحادهم المتين، على أعدائهم الذين أضعفهم انقسامهم، وأن سيادة القسم الأعظم من جزيرة العرب ستكون لدولتهم الوهابية، وأن أطماعهم وآمالهم ستتحقق في أقرب وقت.
وتتجلى أخلاقهم في أدق شؤون حياتهم الأهلية، ويجب على من يرغب في مفاوضتهم ألا يسترسل في كلامه، وأن يزن حركاته كما يفعل عندما يحادث أعداءه. (5-2) عرب سورية
عرب سورية، كعرب الجزيرة، أهل حضر يسكنون المدن، وأعراب يقيمون بالبادية، ولم يكن في السيطرة المتتابعة التي أصابت سورية ما يتوجع منه أعرابها الذين لا يزالون يعتمدون في معايشهم على النهب وتربية المواشي منذ ثلاثة آلاف سنة، ونحن إذا ما استثنينا المدن نرى سورية قبضتهم بالحقيقة، فهم يهاجمون فيما وراء نهر الأردن، وفي أبواب دمشق نفسها، السياح والقوافل التي لم تؤد إليهم الفدى في مقابل خفرها وحمايتها والسماح لها بالمرور، وتجتمع في أعراب سورية صفة الشره وصفة الكرم المتناقضتان اللتان ألمعنا إليهما فيما تقدم، ويقدسون الضيف ما دام نزيلهم.
ولم يقدر أحد على إلزام أعراب سورية بترك البادية التي تعودوا العيش فيها منذ قرون، وقد رفضوا كل أرض عرضت عليهم ليستقروا بها، وامتنعوا عن أي عمل زراعي.
ونرى في سورية، بجانب الأعراب الذين يدينون بدين محمد، قبائل ذات شعائر وعقائد مختلفة يسهل تمييز بعضها من بعض؛ لعدم توالدها فيما بينها، وأهمها المتاولة والنصيرية والموارنة والدروز.
فالمتاولة:
قبائل عربية جبلية تعيش في اعتزال، وهم من مسلمي الشيعة المتعصبين الذين يأبون تناول الطعام مع أي أجنبي كان، ونرى من أوصافهم أنهم مزيج من المغول والعرب والفرس، مع أن بعض الباحثين يظن أنهم منحدرون من بعض القبائل الكردية.
والنصيرية:
قبائل جبلية أيضا، وهم يدينون بديانة مشتقة من الإسلام بعيدة منه كل البعد، ويرى أن النصيرية من القائلين بالتناسخ، ويعبدون الشمس والقمر ... إلخ.
وللموارنة:
مع قربهم من السوريين ، طابع خاص، وهم أتباع طائفة مسيحية ذات عجب صاخبة لم تكن على شيء كبير من البسالة كما أثبتت الحوادث ذلك.
والدروز:
يشبهون الأعراب، وتتألف منهم طائفة إسلامية عاتية حرة انفصلت عن السوريين والعرب منذ قرون، وتوجد بين الدروز الشجعان ذوي الصولة وموارنة لبنان عداوة متأصلة.
شكل 2-8: مسلمتان من النوبة (من صورة فوتوغرافية التقطها المؤلف).
ويتألف من سكان مدن سورية وقراها مزيج من المصريين والفنيقيين واليهود والبابليين والفرس والأغارقة والرومان والعرب والمغول والشركس والصليبيين والترك ... وغيرهم من الأمم التي استولت بالتتابع على سورية كلها أو بعضها، ولذا يشاهد السائح في سورية مثلا كثيرة التباين، ويتصف سكان المدن من السوريين بالذكاء ولين العريكة والمكر والمخادعة على العموم، وقديما نعت الرومان السوريين بأنهم ولدوا للعبودية، والسوريون، وقد رضوا بكل حكم أجنبي أصابهم منذ قرون كثيرة، لم يبق من نشاطهم سوى منازعاتهم الدينية، وقد عرفوا، فيما لا يمس عقائد الدين، بإذعانهم التام، وانقيادهم المطلق لكل ذي سلطان مما لا يتصوره أوربي، ويمكن القارئ أن يقف على ذلك من القصة الآتية التي رواها مسيو دوڨوغويه عن أوربي كان في سورية أيام القمع الذي وقع بعد ملاحم سنة 1861:
روى ضابط معلم أوربي كان في خدمة الترك أنه شاهد الأمر الآتي، وهو: أن أحد الجلادين الكثيرين في ذلك الوقت كاد يتم عمل نهاره، وأن الكلاب كان عاليا والكرسي واطئا فلا يوصل إليه به، وأن مسلما مسنا مر من هنالك راكبا حمارا حاملا قطعة لحم، فأمره الجلاد بالوقوف فأطاعه فترجل مادا عنقه للشنق طائعا ظانا أن أجله جاء، فأفهمه الجلاد أنه لم يقصد شنقه، وإنما يريد حماره؛ ليصعد فيه رجل محكوم عليه بالموت، ويوضع الحبل في عنقه، فلما وضع الجلاد الحبل ونخس الحمار هوى ذلك المحكوم عليه بالموت، فركب الشيخ الهرم حماره بعد أن حمل قطعة اللحم لائذا بالفرار.
وإنني أقول مكررا: إن ذلك الإذعان لا يتجلى إلا في الأمور التي لا تمس عقائد الدين، ولم يطرأ على الهدوء العميق الذي تتمتع به دمشق شيء من جراء الاضطرابات التي وقعت حديثا في مصر، وعجبت من السهولة التي كان يضرب بها جندي واحد جموعا زاخرة ويدحرها لتفسح المجال لمرور أحد الأعيان أو السياح، ومع ذلك فقد سمعت في دمشق والقدس غير مرة أن أقل نجاح لعرابي كان نذير قتل لنصارى سورية الذين يحمر الوجه خجلا من جبنهم، وهؤلاء النصارى هم الذين كانوا يذبحون في سنة 1861 كالضأن من غير أن يبدوا أقل مقاومة؛ وهم الذين يكونون، لا ريب، جبناء أنذالا لو حدث في سنة 1882 من الإثخان فيهم ما كان يتوقعه الملأ. (5-3) عرب مصر
عرب مصر نتيجة توالد سكان مصر الأصليين والعرب الذين فتحوا مصر في سنة 640 بقيادة عمرو بن العاص، وعرب مصر ليسوا عربا بدمهم، وإن كانوا عربا بلغتهم ودينهم، فقد دلنا علم وصف الإنسان على أن العنصر العربي الغالب لم يلبث أن طغى عليه العنصر المصري المغلوب الأوفر عددا والأكثر احتمالا لجو مصر المرهوب، وأن العناصر المتداخلة لم تلبث أن توارت، وأن المصري الحضري العربي بدينه ولغته رجع ابنا لقدماء المصريين في زمن الأهرام، أي ذا سعة في كتفه ووجهه، وغلظ في شفتيه ونتوء في وجنتيه ومشابهة للمثل المنحوتة في قديم الآثار.
ولم يكن عرب النيل الحضريون أبناء لقدماء المصريين بتقاطيعهم فقط، بل ورثوا عن هؤلاء أخلاقهم ولطفهم وأدبهم الجم أيضا، وهم يخشون؛ لما عانوا من ضروب الاستعباد منذ قرون، جميع السادة، ولا سيما الأوربيون، فقد استطعت، حين ذاعت الأنباء في القاهرة بأن مصر العليا مضطرمة بالعصيان والملاحم، أن أجول منفردا في القرى القائمة على ضفتي النيل من غير أن يصيبني أذى.
واحتياجات الفلاح المصري قليلة جدا، وهو إذا ما ملك بلغة كان سعيدا، وهو يعيش من غير تفكير في المستقبل والوقت والأبعاد، ويكون جوابه «لا أعلم» حين سؤاله عن أشياء كان يجب أن تكون التجاريب المتكررة قد هدته إليها، ولا يعرف مدة السفر بين قريته وإحدى القرى المجاورة ولا المسافة بينهما، ولا يرى له مصلحة في معرفة هذا.
ونشاهد في مصر مثل ما نشاهد في جزيرة العرب وسورية من الأعراب والحضريين، ونرى الفرق بين أعراب مصر وحضرييها أعظم مما في أي قطر آخر؛ لاختلاف العرقين في مصر، فضلا عن اختلافهما في المعايش، وإذا كانوا عرب المدن قد تحولوا بفعل التوالد المستمر إلى مصريين، فإن أعراب مصر لم يختلطوا بسواهم نظرا إلى طرق معايشهم الخاصة، وهؤلاء الأعراب يشبهون، بقنا أنوفهم ورقة شفاههم وطول وجوههم البيضية وعيونهم اللامعة، مثال العربي البدوي في زمن محمد.
والأعراب، فقط هم أهل الحرب والنزال المرهوبون في مصر، وهم الذين يجب أن يخافهم الإنكليز في غزوهم الجديد لوادي النيل إذا لم يشتروا حيادهم بأي ثمن، كما أخبرنا به العارفون غير مرة.
وينصب أهل البدو من عرب مصر خيامهم في الصحاري الرملية القريبة من ضفتي النيل، وهم قلما يخشون جانب الحكومة، ولا صلة بينهم وبين الفلاحين الذين يبغضونهم.
ومعايش هؤلاء الأعراب كمعايش عرب البادية، فالعربي البدوي هو هو أينما حل وحيثما اتجه.
ونرى في مصر، عدا العرب، عناصر كثيرة أخرى كالترك والأقباط والسوريين والزنوج والأغارقة والأوربيين وغيرهم من العناصر التي يندر أن تتوالد هي والفلاح المصري، وذلك فضلا عن أن جو مصر القتال لا يصلح لتناسل الأجانب، ومنهم الترك، في أكثر من جيلين، وأصول العرب، لا غيرها، هي التي استطاعت أن تثبت في مصر.
ومن تلك الشعوب نذكر الأقباط الذين، وإن كانوا لا يعدون حفدة خلصا لقدماء المصريين، يرى بينهم أشخاص مشابهون؛ لما في النواويس القديمة أكثر مما بين سواهم، ويدين الأقباط بالنصرانية، ولم يختلطوا بالعرب، ويقطنون في مصر العليا، ولا سيما ببعض القرى والمدن كأسيوط، وتشبه لغتهم لغة قدماء المصريين، وتوصل شانپوليون، بدرسها إلى إيضاح الكلمات الهيروغليفية كما هو معلوم، ومع نص كثير من المؤلفات على أنه لا يتكلم أحد باللغة القبطية في الوقت الحاضر سمعت أقباطا يتكلمون بها فيما بينهم على لهجات مختلفة، ويكتب الأقباط لغتهم بالحروف اليونانية في الزمن الحاضر.
ويقدر الأقباط المقيمون بمصر بمئتي ألف نفس، وإن قالوا لي مؤكدين إن عددهم يزيد على خمسمائة ألف، ويلوح لي أن الصورة المحزنة التي تصور بها سجيتهم لا تمت إلى الحقيقة بصلة، وكل ما في الأمر أنهم أفضل في الثقافة من عرب الوقت الحاضر، ومن الترك على الخصوص، وأنهم، وإن كانوا لا ينالون أعلى المراتب بسبب دينهم، يعطون المناصب الإدارية التي تتطلب جهدا ودراية.
وأما الترك الذين حلو محل العرب في مصر سياسة فإن تأثيرهم في تكوين العرق المصري صفر، وتتألف منهم الآن طبقة أريستوقراطية لا تختلط بالسكان، ولا يزيد عددهم على عشرين ألفا. (5-4) عرب إفريقية
إننا إذا استثنينا مصر التي تعد من الشرق عادة نرى أنه يسكن شمال إفريقية أناس منتشرون إلى ما بعد خط الاستواء من بعض النقاط، يدينون بدين واحد وإن لم تجر دماء العرب في عروقهم بصورة مطلقة، متمازجون من البربر والعرب والزنوج، وفي مراكش، على الخصوص، يتجلى هذا التمازج الذي يزيد كلما دنونا من خط الاستواء.
ويختلف بربر إفريقية عن العرب كثيرا، وسنتكلم عنهم مفصلا في الفصل الذي خصصناه للبحث في تاريخ عرب إفريقية، فلا نبحث فيهم الآن.
وعرب إفريقية أهل بدو وأهل حضر كعرب الأقطار الأخرى الذين تكلمنا عنهم، وهم نتيجة اختلاط أعقد مما في أي مكان آخر، وأهل مدنهم الساحلية الذين ننعتهم بالعرب هم، على الخصوص، مزيج من القرطاجيين والرومان والوندال والأغارقة والبربر والعرب والترك والأوربيين والزنوج وغيرهم من الآدميين الذين تلاقوا في تلك السواحل والبقاع، وشاهدت في سواحل إفريقية الشمالية جميع المثل التي تترجح بين زنوج السودان والحور العين، وليس من الصواب أن يناط عرب الجزائر بمثال واحد أو ببضعة مثل كما فعل ذلك حديثا أحد علماء وصف الإنسان الذي لم يأت بغير بحث سطحي عنها.
شكل 2-9: متسولان مراكشيان (من صورة فوتوغرافية).
ولم يكن العربي الجزائري غير مولد بالحقيقة
12
ونرى فيه أحط صفات المولدين، وحضريو العرب من سكان مدن الجزائر نتيجة تمازج تلك الأمم، وقد حطتهم سيطرة الأجنبي المتتابعة، وأعرابهم متمردون على كل حضارة كأهل البدو في كل قطر، وهم أقل تمازجا وانحطاطا من حضريي العرب.
ويجمع أولئك الحضريون والأعراب على مقت الأوربيين القاهرين لهم وحقدهم الشديد عليهم، ويضحي الجزائري، الذي نصفه بالخلي المتردد المكسال القانع الوضيع المتزيد، بماله ونفسه، ويشترك في كل عصيان وتمرد؛ للخلاص من حكم الأجنبي الذي فتح بلاده، وقد تتم إبادة عرب الجزائر بوسائل منتظمة كالتي اتخذها الأمريكيون لإبادة أصحاب الجلود الحمر، ولكن الذي أعتقده هو أن الفرنسي لن يستطيع حمل الجزائري على التفرنس، وأن من المتعذر أن يسود السلام في قطر واحد بين العرب والفرنسيين الذين ينتسبون إلى عرقين مختلفين، وقد سمعت هذا الرأي، الذي يجتنب تدوينه في الكتب عادة، من جميع أولي البصائر في الجزائر، وإني أوافق عليه موافقة تامة. (5-5) عرب إسپانية
جميع العرب الذين ذكرناهم آنفا من الأحياء الذين يصلحون أن نتمثل بهم أجدادهم مع ما طرأ عليهم من التغير، وغير ذلك أمر عرب إسپانية الذين بادوا ولم يتركوا من الذراري من نتنور بهم أجدادهم، ونحن مع جهلنا حقيقة مثالهم نراه كان مختلفا عن مثال العرب السابقين الذين فتحوا إسپانية، فقد تغير المثال العربي الأصلي بتوالده هو والموالي من النصارى وبربر إفريقية الذين أغاروا على إسپانية، ونتج عن هذا التوالد الذي دام ثمانية قرون عرق جديد يختلف مثاله عن مثال الغزاة الفاتحين اختلافا محسوسا كما تشهد بذلك السنن الأنثروپولوجية التي بيناها في بدء هذا الفصل، وتشهد آثار حضارة العرب في إسپانية بسمو ذكاء هذا العرق الجديد المولد، ويدل تاريخهم على علو فروسيته وبسالته، ويثبت صراعه الأهلي الذي كان علة زواله اتصافه بسجايا العرب الأصلية، ونحن، إذ لا نستطيع أن نستدل على عرب إسپانية الذين انقرضوا إلا بدراسة حضارتهم وتاريخهم، نحيل القارئ إلى الفصول التي خصصناها للبحث في تلك الحضارة وذلك التاريخ.
شكل 2-10: سقاء مراكشي في طنجة (من صورة فوتوغرافية). (5-6) عرب الصين
أخذ خلفاء العرب وملوك الصين يتبادلون السفراء بعد أن أقام العرب دولتهم، وسترى في مكان آخر من هذا الكتاب أن صلات العرب والصين التجارية كانت منتظمة برا وبحرا.
ولم يلبث الإسلام في الصين، كما في كل بلد دخله العرب، أن صار له أتباع، ويقدر مسيو دابري دوتيرسان عدد مسلمي الصين بعشرين مليون نفس، وذلك في كتاب نشره حديثا عن الإسلام في الصين، ويرى هذا المؤلف أن دماء عربية تجري في عروق مسلمي الصين وإن لم يكونوا عربا حصرا، وأنه يتألف منهم عرق مزيج من العرب والترك والصينيين، ثم يقول: «إن المسلمين في الصين متحدرون من الكتيبة المؤلفة من أربعة آلاف جندي الذين أمد بهم الخليفة أبو جعفر الإمبراطور سوتسونغ في سنة 755م حين شق أنلوشين العصا، والذين سمح هذا العاهل لهم بالإقامة بأهم مدن الصين مكافأة لهم على ما قاموا به من الخدم فتزوجوا صينيات، وكان بهم أصل مسلمي الصين.»
وقال ذلك المؤلف، بعد أن استشهد برأي أندرسن الذي يرى أن شرفهم يفوق الوصف، وذلك مع الاستشهاد بملاحظاته الخاصة:
إنهم يتصفون بروح الصدق والشرف على العموم، وإن من يتقلد منهم بعض مناصب الدولة يحترمه الأهلون ويحبونه، وإن من يتعاطى التجارة منهم يتمتع بالسمعة الطيبة، وإنهم يؤتون الصدقات كما يأمر الدين، وإن الناظر إليهم يخيل إليه أنهم يؤلفون أسرة كبيرة واحدة يشد بعضها أزر بعض.
وإنهم، مع طابعهم الخاص، استطاعوا بفضل نباهتهم وإخائهم الديني وتسامحهم أن يلائموا بيئتهم وأن ينموا ويكثروا، وذلك خلافا لدعاة الأديان الأجنبية الأخرى الذين أرادوا أن يكون لهم شأن في الصين فلم يتقدموا خطوة حتى الآن.
ونشأ عما فطر عليه مسلمو الصين من التسامح والروح الحرة واحترامهم عادات الصين وشرائعها ومعتقداتها أن يتمتعوا بما للصينيين من الحقوق، وأن يكون منهم حكام وقواد ومقربون من الإمبراطور.
أسهبت في هذا الفصل في بيان بعض المسائل التي أغفلها المؤرخون مع ما لها من الأهمية الكبرى في إيضاح ارتباط حوادث التاريخ، ونعد سجايا العرق الخلقية والذهنية أقوى العوامل في تطور الأمم، فالسجايا الخلقية التي تنتقل بالإرث هي التي تعين اتجاه السير، ولا يستطيع أحد أن يتخلص من سلطانها، وعالم الأموال هو الذي يملي على الأمة اتجاهها.
وفي الماضي تنضج عوامل سيرنا الحاضر، وفي الحاضر تنضج عوامل سير أبناء المستقبل، والحاضر، وهو عبد الماضي، سيد المستقبل، فيجب على من يرغب في معرفة المستقبل أن يدرس الحاضر.
هوامش
الفصل الثالث
العرب قبل ظهور محمد
(1) الوهم في همجية العرب قبل ظهور محمد
رأى الكثيرون أنه لا تاريخ للعرب قبل ظهور محمد، وحجتهم في ذلك أن العرب قبل ظهور محمد، إذ كانوا مؤلفين من قبائل متنقلة عاطلة من العنعنات، كانوا من الأجلاف الذين لم تع ذاكرة الإنسان شيئا عنهم.
وإلى مثل هذا الرأي ذهب بعض الأذكياء المعاصرين، ومنهم مؤلف تاريخ اللغات السامية الشهير، رينان، الذي قال: «لا مكان لبلاد العرب في تاريخ العالم السياسي والثقافي والديني قبل ذلك الانقلاب المفاجئ الخارق للعادة الذي صار به العرب أمة فاتحة مبدعة، ولم يكن لجزيرة العرب شأن في القرون الأولى من الميلاد حين كانت غارقة في دياجير ما قبل التاريخ، ولم يظهر بأسها وبسالتها إلا بعد القرن السادس من الميلاد.»
وعندنا أن هذا الرأي فاسد أول وهلة، ولو لم نعلم شيئا عن ماضي العرب، فإن أمكن ظهور حضارة أمة ولغتها بغتة على مسرح التاريخ لا يكون هذا إلا نتيجة نضج بطيء، فلا يتم تطور الأشخاص والأمم والنظم والمعتقدات إلا بالتدريج، ولا تبلغ درجة التطور العالية التي تبدو للعيان إلا بعد الصمود في درجات أخرى.
وإذا ما ظهرت أمة ذات حضارة راقية على مسرح التاريخ قلنا إن هذه الحضارة ثمرة ماض طويل، ولا يعني جهلنا لهذا الماضي الطويل عدم وجوده، وتؤدي مباحث العلم في الغالب إلى عرض هذا الماضي للناظرين.
ولم يكن أمر حضارة العرب قبل ظهور محمد غير ذلك، وإن عسر علينا أن نقول كيف كانت هذه الحضارة، فقد أثبتت الآثار والوثائق التي بأيدينا وجودها، وأنها لم تكن - على ما يحتمل - دون حضارة الآشوريين وحضارة البابليين اللتين ظهر شأنهما حديثا بفضل علم الآثار بعد أن كانتا مجهولتين.
ولم ينشأ وهم الناس في همجية العرب قبل ظهور محمد عن سكوت التاريخ فقط، بل نشأ، أيضا، عن عدم التفريق بين أهل البدو وأهل الحضر من العرب.
والأعراب، قبل محمد وبعده، أجلاف كأجلاف الأمم الأخرى الذين لم يكن لهم تاريخ ولا حضارة.
وليس الأعراب غير فرع من فرعي الأرومة العربية، فيوجد بجانبهم العرب المتحضرون المقيمون بالمدن والماهرون في أمور الزراعة، ويسهل علينا أن نثبت وجود حضارة عظيمة لهؤلاء المتحضرين من العرب وإن كنا لا نعرف تفاصيلها.
ولم يكن التاريخ صامتا إزاء ثقافة العرب القديمة صمته إزاء الحضارات الأخرى التي رفع العلم الحديث عنها التراب، ولو كان التاريخ صامتا إزاء حضارة العرب لقطعنا، مع ذلك، بوجودها قبل ظهور محمد بزمن طويل، ويكفي لتمثلها أن نذكر أنه كان للعرب قبل ظهور محمد آداب ناضجة ولغة راقية، وأنهم كانوا ذوي صلات تجارية بأرقى أمم العالم منذ القديم، فاستطاعوا في أقل من مائة سنة أن يقيموا حضارة من أنضر الحضارات التي عرفها التاريخ.
والحق أن الآداب واللغة من الأمور التي لا تأتي عفوا، وهي تتخذ دليلا على ماض طويل، وينشأ عن اتصال أمة بأرقى الأمم اقتباسها لما عند هذه الأمم الراقية من التمدن إذا كانت أهلا لذلك.
وقد أثبت العرب أنهم أهل للاقتباس، ولا ريب في أن العرب، الذين استطاعوا في أقل من قرن أن يقيموا دولة عظيمة، ويبدعوا حضارة عالية جديدة، من ذوي القرائح التي لا تتم إلا بتوالي الوراثة، وبثقافة سابقة مستمرة، وبالعرب، لا بأصحاب الجلود الحمر أو الأوستراليين، أنشأ خلفاء محمد تلك المدن الزاهرة التي ظلت ثمانية قرون مراكز للعلوم والآداب والفنون في آسية وأوربة.
أجل، استطاعت أمم كثيرة غير العرب أن تهدم دولا عظيمة، ولكنها لم تقدر مثلهم أن تبدع حضارة؛ لما لم يكن عندها ما عند العرب من ثقافة سابقة كافية، وكل ما قدرت عليه هو أنها استفادت، بعد زمن طويل، من حضارة الأمم التي قهرتها، ومن ذلك أن البرابرة، الذين قوضوا دعائم الإمبراطورية الرومانية، قاموا بجهود عظيمة دامت قرونا كثيرة قبل أن يقيموا حضارة على أنقاض الحضارة اللاتينية، ويخرجوا من ظلمات القرون الوسطى.
ونحن، قبل أن نوضح - بما لدينا من الوثائق والآثار الضئيلة - ما كانت عليه حضارة العرب قبل ظهور محمد، نرى تلخيص ما نعرفه عن تاريخهم القديم بما يأتي. (2) تاريخ العرب قبل ظهور محمد
للعرب ما قبل تاريخهم مثل ما للأمم الأخرى.
أثبت البحث فيما تركه الأجداد في طبقات الأرض من بقايا الأسلحة والأدوات والمساكن أنه وجد قبل الزمن القصير الذي يبحث التاريخ في حوادثه ملايين السنين التي جهل الإنسان فيها أمر المعادن والزراعة وفن ترويض الحيوان، والتي لم يكن له فيها غير الصوان سلاحا، ويسمى ذلك الدور الكبير بالعصر الحجري، وعثر علماء الآثار القديمة في جزيرة العرب وأوربة وأمريكة، وفي كل مكان على آثار لذلك العصر الحجري.
ودلت تلك البقايا التي وجدت في طبقات الأرض على تماثل الأمم في العصر الحجري؛ وبتلك البقايا يسهل تصوير طرق المعايشة والتفكير عند أجدادنا الأقدمين، وقد أفضت في درس هذا الموضوع في كتابي الأخير، فلا أرى الآن فائدة في العودة إليه.
ولا ترجع أقدم روايات جزيرة العرب إلى ما قبل إبراهيم، ولكن علم اللغات يثبت أن أمما ذات لغة واحدة كانت تسكن البقاع الواقعة بين القفقاس وجنوب جزيرة العرب، وإن لم يكن عرق هذه الأمم واحدا، ودل درس اللغات السامية على أن لغات تلك الأمم، وهي العبرية والفنيقية والسريانية الآشورية والكلدانية والعربية، وثيقة القربى متحدة الأصل.
ونحن نجهل درجة تأثير البيئات وطرق المعايش في اختلاف تلك الأمم مع اتحاد عرقها الذي تكلمنا عنه، ولا نستطيع غير تقرير قرابتها من العرب، والعرب وحدهم هم الذين نبحث الآن في شؤونهم.
ومصادر تاريخ العرب قبل ظهور محمد هي كتب العبريين، وروايات العرب والنصوص القليلة التي وردت في كتب بعض مؤرخي اليونان واللاتين، وما جاء في الخطوط الآشورية، وما أسفرت عنه الاكتشافات التي تمت في موقع الصفا القريب من دمشق.
وتعترف كتب العبريين بقرابة العرب من العبريين، وتعد العرب أقدم من العبريين، وتقص علينا الشيء الكثير من أنباء نزاع العرب الدائم، وتكاد تطفح من أخبار العمالقة، ومديانيي جزيرة سيناء، وأهل سبأ الذين كانوا يقيمون بجنوب جزيرة العرب.
ويروي العرب وكتب اليهود مصدر روايتهم، أن قحطان وإسماعيل ابن هاجر، جارية إبراهيم المصرية، هما والدا العرقين اللذين عمرا جزيرة العرب في الأصل، أي والدا أهل الحضر في الجنوب والأعراب في الشمال، ويروون أن بني قحطان أقاموا دولة سبأ والدولة الحميرية باليمن، وأن بني إسماعيل سكنوا الحجاز القريبة من فلسطين، وأن بني إسماعيل كانوا أصحاب مكة التي تنازعت هي وصنعاء اليمن عنوان عاصمة جزيرة العرب.
وعلى ذلك يكون الأنباط والأدوميون والموءابيون والعمالقة والعمونيون والمديانيون وغيرهم من القبائل التي تردد اسمها كثيرا في التوراة من بني إسماعيل، ويظن أن هذه القبائل من العمالقة تحالفوا هم وأعراب سورية، واستولوا على مصر سنة 2000 قبل الميلاد، وعرفوا بالرعاة ودام سلطانهم قرونا كثيرة.
وتجمع العمالقة والأدوميون والموءابيون والعمونيون في بلاد الحجر العربية (بطرا) وفي جزيرة العرب الصحراوية، وصار من دأبهم محاربة العبريين، وحالوا دون دخول العبريين أرض كنعان زمنا طويلا، ولم يتم إخضاعهم نهائيا، ولوقت قصير، إلا في زمن داود وسليمان.
ولم تحدثنا التوراة عن غير أعراب حدود فلسطين، ولم تخبرنا بشيء عن عرب اليمن المتحضرين خلا ما جاء فيها عن زيارة ملكة سبأ للملك سليمان.
وتحدثنا آثار الآشوريين عن عرب الشمال فقط، أي عرب سورية وما جاورها، وذكر العرب قبل الميلاد بتسعمائة سنة في بلاغ سلما نصر الثاني، وأدت ملكتان عربيتان فروض الطاعة إلى تيغلاتفا نصر قبل الميلاد بنحو ثمانمائة سنة، ورفع أسر حدون أميرة عربية نشأت في بلاد نينوى على أحد العروش، واستعان أخو آشور بانيبال بجيوش عربية عندما رفع راية العصيان.
وعلى ما في تواريخ العرب من غموض ومبالغات تجعل الاعتماد عليها أمرا صعبا نراها وحدها قد قصت علينا أنباء جزيرة العرب الماضية، وأيدت ما رواه مؤلفو اليونان واللاتين عن عظمة اليمن، ومما جاء في هذه الأنباء العربية أن اليمن كانت مقرا لأقوى دول الأرض، وأن حكم ملوكها دام ثلاثة آلاف سنة، وأنها غزت بلاد الهند والصين من المشرق، وبلغت بغزواتها مراكش من المغرب.
ولا يرجع ما علمناه من مؤلفات اليونان واللاتين من الأنباء الصحيحة عن تاريخ بعض جزيرة العرب إلى ما قبل الإسكندر، ويمكن تلخيصه فيما يأتي : عزم الإسكندر على فتح جزيرة العرب التي كان الأغارقة يعرفون غنى سكانها قبل الميلاد بأربعة قرون، وكانت الغزوة التي قام بها نيارك حول جزيرة العرب نذير تصميم الإسكندر على غزوها، ونجت جزيرة العرب من غزو الإسكندر بسبب موته، وأضحت البقاع القريبة من حدود مصر وفلسطين، والتي كان العرب يسكنونها، من نصيب بطليموس حين قسمت دولة الإسكندر، وشايع الأنباط بطليموس على أنتيغون الذي فتح أحد قواده الماهرين بلاد الحجر (بطرا) بغتة بعد أن أصبح سيد سورية وفنيقية، وأباد الأنباط بعدئذ جيش أنتيغون المؤلف من 4600 جندي فساق إليهم جيشا آخر بقيادة ابنه ديميتريوس، وخاطب عرب بلاد الحجر (بطرا) - كما روى ديودرس الصقلي - الأمير ديميتريوس عند بلوغه ديارهم بما يأتي: «لماذا تحاربنا أيها الملك ديميتريوس، ونحن من سكان الصحاري التي لا تسد فيها خلة، ترانا نقطن في هذه البقاع القاحلة فرارا من العبودية، اقبل هديتنا وارجع إلى حيث كنت، سنكون من أوفى الأصدقاء لك، ولكنك إذا رغبت في حصرنا حرمت كل هناءة، ورأيت عجزك عن إكراهنا على تبديل طرق حياتنا التي تعودناها منذ نعومة أظفارنا، وإذا قدرت على أسر بعضنا أيقنت أنك لن تجد واحدا ممن أسرت يستطيع أن يألف حياة غير التي ألفناها.»
شكل 3-1: أعراب من بادية الشام (من صورة فوتوغرافية).
هنالك رأى ديميتريوس أن يقبل هدية الأنباط، وأن يرضى بالمآب خاتما بالسلم حربا أبصرها مملوءة بالمصاعب.
وكانت قبائل البدو، حتى التاريخ الميلادي، تنضم في الحروب الكثيرة، التي تهلك الحرث والنسل في تلك البقاع، إلى المصريين تارة وإلى السوريين تارة أخرى، ثم أثارت غاراتهم وقطعهم للسوابل غضب قياصرة الرومان الذين كان سلطانهم يمتد إلى الفرات، فجردوا على عرب بلاد الحجر (بطرا) حملات كثيرة لم تنتج غير حملهم على دفع الجزية أو وقف العداء إلى حين، وكانت طريقة أولئك الأعراب في الغزو مثل ما يفعلون اليوم، أي كانوا يغيرون على العدو بغتة ثم يفرون إلى البادية عند المطاردة.
وإذ كانت خيالات الأغارقة والرومان تتأجج طمعا في ثروة جزيرة العرب ساق أغسطس إلى اليمن جيشا لم يلاق غير الحبوط التام، وفي عهد طيباريوس وحده استطاع الرومان أن يفتحوا من بلاد العرب جزيرة سيناء التي كان سكانها من الأعراب تقريبا، فأضحت مدينة الحجر (بطرا) بذلك بلدة رومانية زاهية كما تدل عليه بقاياها.
وكان للعرب أثر في الحروب التي تقع بين الرومان والفرس، وبلغ نفوذ العرب في الدولة الرومانية شأوا بعيدا، حتى إن أحدهم فليب العربي نصب قيصرا رومانيا في سنة 244م، وكان العرب يهددون سلامة آسية الصغرى ذات حين، ولم يقص العرب عن مجاورة آسية الصغرى إلا بهدم تدمر في عهد أوريليانوس سنة 272م، وتحويل سورية إلى ولاية رومانية، واتباع بعض سكانها ملوك الغساسنة العرب الذين كانوا تحت حماية القياصرة.
ولما صارت القسطنطينية عاصمة الدولة الرومانية نازع العرب الفرس والأغارقة سيادة الفرات، وسبق ذلك أن توطنت قبائل من عرب اليمن تلك البقاع وأنشأت، سنة 195م، في جنوبها، وعلى ضفتي الفرات وبالقرب من المكان الذي أقيمت عليه مدينة الكوفة فيما بعد، مدينة الحيرة الشهيرة التي انقلب ملوكها العرب ينافسون أكاسرة الفرس وقياصرة الروم في الترف والعظمة، «وكانت قصور الحيرة مؤثثة بأثمن الأثاث، وكانت حدائقها مكسوة بأعز الأزهار، وكانت قواربها الأنيقة الساطعة الأنوار تشق الفرات ليلا حاملة أغنى الأمراء وأمهر الموسيقيين، وأطلق العرب لأنفسهم عنن الخيال؛ فقصوا علينا أنباء القصور الساحرة العجيبة التي أضحت، لا ريب، أجمل مساكن الشرق وأطيبها.»
وعاشت دولة الحيرة أربعمائة سنة، أي مدة تعد طويلة لدولة، ولم ينته إلينا من أنبائها إلا الشيء القليل، وخضعت في سنة 605م للدولة الساسانية، وظلت مرزبة فارسية إلى أن جاء محمد بعد قليل زمن، ودك خلفاؤه دولة الأكاسرة، واستولوا على بلاد فارس.
ظهر مما تقدم أن جزيرة العرب نجت من غزو الأجنبي خلا ما أصاب حدودها الشمالية، وأن عظماء الفاتحين من مصريين وأغارقة ورومان وفرس وغيرهم ممن انتهبوا العالم لم ينالوا شيئا من جزيرة العرب التي أوصدت دونهم أبوابها.
نعم، إن جزيرة العرب كانت حين ظهور محمد تحت خطر الغزو الأجنبي المرهوب، وإن الأحباش استولوا في سنة 525م على اليمن التي لم تدن لغير ملوك العرب فيما مضى، وإن الأحباش حاولوا أن يحملوا العرب على التنصر؛ فاستطاعوا تنصير بعض القبائل العربية، وإن الفرس طردوا الأحباش من اليمن في سنة 597م، أي قبل ظهور محمد بقليل؛ فأضحى للفرس مرازبة في اليمن وحضرموت وعمان، غير أن ذلك كله كان لأجل قصير، ولم يصب بلاد نجد والحجاز الواسعة منه شيء.
إذن، من الصواب قولنا: إن القسم الأكبر من جزيرة العرب هو القسم الوحيد الذي لم تطأه أرجل الفاتحين من بلاد العالم المتمدن على ما يحتمل. (3) حضارة جزيرة العرب قبل ظهور محمد
يقص علينا بنو إسرائيل بعض الأخبار عن تجارة العرب ومدنهم، ولا سيما مدينة سبأ في اليمن، ولكن قصصهم خالية من الأسانيد، وإن دلت على وجود مدن عربية عظيمة في أقدم العصور.
ووصف هيرودتس، قبل المسيح بنحو أربعمائة سنة، بلاد العرب السعيدة بأنها من أغنى بقاع العالم، وأنه كان في مأرب، أو سبأ التي ورد ذكرها في التوراة، قصور نضرة ذات أبواب عسجدية، وآنية من ذهب وفضة، وسرر من المعادن الثمينة.
ولم يرو إسترابون غير ما رواه هيرودتس، واستند إسترابون في روايته عن مدينة مأرب إلى أرتيميدور، وقال: «إن قصورها ذات سقوف مزخرفة بالذهب والعاج والحجارة الثمينة، وذات أثاث فاخر وآنية منقوشة»، ورأى إراتوستين أن بيوتها تشابه بيوت مصر في مجموعها.
وهنالك مطابقة بين ما رواه قدماء المؤلفين وما جاء في تواريخ العرب التي أجمعت على امتداح غنى اليمن، واسمع ما قاله المسعودي حين تكلم عن مأرب:
ذكر أصحاب التاريخ القديم أن أرض سبأ كانت من أخصب أرض اليمن، وأثراها وأغدقها، وأكثرها جنانا وغيطانا، وأفسحها مروجا، بين بنيان وجسر مقيم، وشجر موصوف، ومساكب للماء متكاثفة، وأنهار متفرقة، وكانت مسيرة أكثر من شهر للراكب المجد على هذه الحال وفي العرض مثل ذلك، وأن الراكب أو المار كان يسير في تلك الجنان من أولها إلى أن ينتهي إلى آخرها لا يرى جهة الشمس، ولا يفارقه الظل؛ لاستتار الأرض بالعمارة والشجر، واستيلائها عليها ، وإحاطتها بها، فكان أهلها في أطيب عيش وأرفهه وأهنأ حال وأرغده، وفي نهاية الخصب وطيب الهواء، وصفاء الفضاء، وتدفق المياه، وقوة الشوكة، واجتماع الكلمة، ونهاية المملكة، فكانت بلادهم في الأرض مثلا، وكانوا على طريق حسن من اتباع شريف الأخلاق وطلب الفضائل على القاعد والمسافر بحسب الإمكان، وما توجده القدرة من الحال، فمضوا على ذلك ما شاء الله من الأعصار لا يعاندهم ملك إلا قصموه، ولا يوافيهم جبار في جيش، فذلت لهم البلاد، وأذعن لطاعتهم العباد؛ فصاروا تاج الأرض.
ويظهر أن أسداد مأرب كانت سبب ثراء بلاد اليمن، والأسداد جدران ثخينة قائمة في عرض الأودية لحجز السيول، حتى إذا امتلأ ما بينها تكونت بحيرة واسعة ذات منافذ تجري منها المياه لري الأراضي، ويروي مؤرخو العرب أن الملكة بلقيس التي زارت سليمان، على زعمهم، هي التي أنشأت تلك الأسداد، ونشأ عن خراب أسداد مأرب في القرن الأول من الميلاد فقر بلاد اليمن وتفرق سكانها.
ويكفي تطابق تلك الروايات لإثبات مماثلة مدن اليمن في نضارتها لمدن مصر وتقدمها الكبير في ميدان الحضارة، ولا تزال بقاياها مطمورة تحت التراب، وهي تنتظر البحاثة الذي يزيله عنها كما أزيل عن نينوى وبابل.
ومن الأدلة على ازدهار مدن اليمن في القرون القديمة ما كان لها من الصلات التجارية الواسعة بالبلاد الأخرى، وبما أن من الصعب أن نعثر في التاريخ على أمة ذات شأن كبير في التجارة من غير أن تكون متمدنة، وبما أن علاقات العرب التجارية العالمية استمرت ألفي سنة، وقد ورد ذكرها في التوراة، فإننا نقول: إن العرب ضربوا بسهم وافر في ميدان الحضارة، وإنه كان لمخازنهم من الأهمية ما لمخازن البندقية في إبان عظمتها.
وكان العرب واسطة بين قدماء الأوربيين وبقاع الشرق القاصية، ولم تقتصر تجارة العرب على منتجات بلادهم، بل كانت تشمل السلع التي كانوا يجلبونها من إفريقية والهند أيضا، وكانت النفائس، كالعاج والعطور والأفاويه والحجارة الكريمة والتبر والأرقاء ... إلخ، أهم ما يتاجر به العرب.
واستعان العرب بالفنيقيين، القريبين منهم لغة، زمنا طويلا لبيع سلعهم، وكان الفنيقيون يخزنون سلع العرب في مدنهم الكبيرة كمدينة صور، ثم يبعثون بها إلى الخارج لبيعها.
وكان العرب والبابليون يتنافسون في الاتجار مع الهند، وكان البابليون يصلون إلى الهند بطريق البر أو بطريق البحر من خليج فارس، وكانت قوافل البابليين تنقل السلع إلى سورية؛ لتوزعها على العالم، مارة في طريقها إلى دمشق من تدمر وهليوپوليس (بعلبك) المهمتين اللتين لا تزال بقاياهما الماثلة في الصحراء تثير عجب السياح.
فبمثل تلك العلاقات التجارية التي دامت مئات السنين نتصور ما كانت عليه مدن جزيرة العرب، ولا سيما مدن اليمن النضرة التي اغتنت بالتجارة وألفت أطيب النفائس، وندرك سر إجماع مؤلفي اليونان واللاتين والعرب على امتداح ازدهار تلك المدن العجيب.
ولم يسطع نجم حضارة العرب قبل محمد في اليمن وحدها، فما جاء في أقدم روايات التاريخ عن حضارة الحيرة والغساسنة يثبت، أيضا، درجة استعداد أتباع محمد للقيام برسالتهم في عالم المدنية.
وقد تحدثنا عن الحيرة التي مجدها العرب، وقلنا إنها كانت تنافس القسطنطينية وعاصمة الفرس، ولم تقل عنها أهمية مملكة غسان التي أسسها عرب اليمن بعد ظهور المسيح بزمن قليل، والتي دام سلطانها نحو خمسمائة سنة، واشتملت على ستين مدينة محصنة كما جاء في كتب التاريخ.
وظهرت عظمة حضارة مملكة غسان من حل الكتابات الحميرية المنقوشة على آثارها التي اكتشفت بالقرب من عاصمتها القديمة بصرى الواقعة على حدود سورية، ومن بقايا قنواتها التي تشهد بما كان عند سكانها من الاستعداد الكبير للقيام بالأعمال العظيمة.
وإذ كان عرب الحيرة وغسان متصلين بالفرس والرومان كان تأثير هؤلاء في حضارة أولئك كبيرا، وغير ذلك أمر حضارة اليمن العربية التي هي أقدم من حضارة الرومان، والتي يجب أن يبحث فيها عن بقايا حضارة العرب القديمة، والتي نأسف على بقائها بعيدة من يد البحث والتنقيب حتى الآن، فيظل اطلاعنا على أمر مدن اليمن القديمة ناقصا نقصان اطلاعنا السابق على آثار الآشوريين التي كانت مطمورة تحت رمال الصحراء.
وتدل جميع الدلائل على أن كل تنقيب في بلاد اليمن يأتي بأحسن النتائج، فقد حدث مسيو هاليڨي، الذي جاب بلاد اليمن منذ بضع سنين، ولم يسطع أن يقوم بأي حفر كان، أن العرب يعثرون أحيانا على تحف ذهبية وفضية بين خرائب اليمن، وأنه وجد بجوار الحرم غير البعيد من صنعاء مسلات ذات كتابات كثيرة، وأنه اكتشف باب معبد حميري منقوشة على حجارته صور حيوانات ونباتات.
واشترى مسيو شلونبرجر في القسطنطينية حديثا مئتي قطعة من نقود ملوك اليمن التي اكتشفها عربي في صنعاء فترجع في قدمها إلى ما قبل الميلاد، ولهذه النقود، التي لم يوجد منها قبل ذلك سوى قطعتين أو ثلاث قطع في جميع المتاحف الأوربية، أهمية خاصة، فعلى أحد وجهيها صورة جانبية لملك متوج يذكرنا شعره المضفور بضفائر ملوك الرعاة الذين خرجوا من بلاد العرب وملكوا مصر زمنا طويلا، والذين اكتشف مسيو ماريت بعض تماثيلهم المعروضة اليوم في متحف بولاق، وعلى الوجه الآخر صورة بومة، ويظهر أن رسام تلك النقود اقتبس رسومها من النقود الإغريقية التي كانت تتداولها أمم البحر المتوسط ذات العلاقات التجارية الكثيرة بالعرب.
ومهما تكن الآثار التي ألمعنا إليها آنفا ناقصة فإنها مما تتم به روايات قدماء المؤلفين، ومما نبصر من خلاله ازدهار حضارة العرب الغابرة التي نسيها الناس في الوقت الحاضر فتنتظر من يكشف الغطاء عنها، والتي نرتدع، بما نعرف عنها من العلم القليل، عن عد العرب همجا، والعرب هؤلاء قد ظهروا على مسرح التاريخ قبل الرومان بقرون كثيرة، وأنشأوا المدن العظيمة، وكانت علاقاتهم بأرقى شعوب الأرض وثيقة. (4) أديان جزيرة العرب القديمة
كانت عبادات القبائل العربية قبل ظهور محمد كثيرة إلى الغاية، وكانت عبادة الشمس وأهم النجوم أكثرها انتشارا، وأخذت القبائل العربية عن الأمم التي كانت تتصل بها كثيرا من آلهتها، فكان زونها
1
جامعا لشتى الأصنام كالألنپيا الإغريقية الرومانية.
شكل 3-2: أعرابيات من بادية الشام (من صورة فوتوغرافية).
وتدل كتابات الآشوريين التي رسمت قبل ظهور المسيح بسبعمائة سنة أو ثمانمائة سنة، وما اكتشف في الصفا، على أن العرب كانوا مشركين، وأنهم كانوا يقيمون لآلهتهم تماثيل، وإليك، مثلا ، ما جاء في إحدى الكتابات الآشورية التي تشير إلى عودة أسرحدون من غزوه لجزيرة العرب الصحراوية:
أتى الملك العربي فلان إلى عاصمتي نينوى ومعه هدايا كثيرة، وقبل قدمي طالبا أن أعيد إليه تماثيل آلهته، فرق له قلبي، وأعدتها إليه بعد أن أمرت بإصلاحها ونقش تمجيد ربي آشور عليها وتوقيعها، وجعلت الأميرة العربية طبوة التي نشأت في بلاطي ملكة، وأعدتها إلى بلادها مع آلهتها.
ووجد في ثنايا تلك العبادات المختلفة بذور توحيد مما تعهد محمد إنماءه فيما بعد، وقد بنى إبراهيم الكعبة في جزيرة العرب كما روى العرب، وجعل العرب منها موضع تكريم وحج منذ القديم، وكان فيها حين ظهور محمد 360 صنما وصورة، وكانت صورة المسيح ومريم العذراء من هذه الصور - كما جاء في تواريخ العرب - وكان من دواعي الفخر عند العرب تزيين الكعبة التي كان اليهود شديدي التعظيم لها أيضا، وكانت سدانتها بيد قبيلة قريش التي نالت بذلك نوعا من السيادة الدينية بين العرب.
شكل 3-3: جمالان من بلاد الحجر العربية (بطرا).
ووجد بين العرب، فضلا عن النصارى واليهود الذين لم يكن عددهم قليلا في جزيرة العرب، من يعبدون إلها واحدا، وسمي هؤلاء بالحنفاء، وكان محمد يحب هذا الاسم، وليست عقيدة التوحيد، التي هي من أهم مبادئ القرآن، كل ما عند الحنفاء، بل قالوا أيضا، كما قال القرآن فيما بعد، إن على الإنسان أن يسلم بقضاء الله وقدره تسليم إبراهيم حينما رأى ذبح ابنه إسحق، ولذا لم يكن من الخطأ إخبار محمد في القرآن بوجود مسلمين قبل ظهوره.
ونشأ عن وحدة لغة العرب وحشر آلهتهم في الكعبة إمكان صهر عبادات هذه الآلهة وتحويلها إلى عبادة إله واحد، ومما يسر هذا الصهر تكلم عباد هذه الآلهة الكثيرة بلغة واحدة.
والحق أن وقت جمع العرب على دين واحد كان قد حل، وهذا ما عرفه محمد، وفي الوجه الذي عرفه فيه سر قوته، وهو الذي لم يفكر قط في إقامة دين جديد خلافا لما يقال أحيانا، وهو الذي أنبأ الناس بأن الإله الواحد هو إله باني الكعبة، أي إله إبراهيم الذي كان العرب يجلونه ويعظمونه.
وعلائم اتجاه العرب أيام ظهور محمد إلى الوحدة السياسية والدينية كثيرة، وما حدث من الثورة على الأوثان في عهد قياصرة الرومان حدث مثله في جزيرة العرب حيث ضعفت المعتقدات القديمة، وفقدت الأصنام نفوذها، ودب الهرم في آلهتها، والآلهة مما يجب ألا يهرم.
هوامش
الباب الثاني
مصادر قوة العرب
الفصل الأول
محمد: نشوء الدولة العربية
(1) فتوة محمد
ولد محمد في مكة في اليوم السابع والعشرين من شهر أغسطس سنة 570م، وكان أبوه عبد الله، الذي توفي قبل ميلاده بشهرين، ابن قطب من أقطاب الكعبة الشهيرة، وكانت أمه آمنة بنت زعيم إحدى القبائل.
ورأى العرب أن يقرنوا ميلاد زعيمهم الأعظم بالآيات، فرووا أن العالم اهتز لولادته، وأن نار المجوس المقدسة خبت، وأن شياطين الشر دحرت من أعلى الشهب، وأنه تصدع من أبراج إيوان كسرى «ملك الملوك» أربعة عشر برجا إيذانا بقرب انهيار دولة الفرس العظمى.
ورضع محمد أمه في البداءة، ثم دفعت به إلى قبيلة في البادية وفق عادة لا تزال تصادف حتى اليوم، فلما بلغ الثالثة من سنيه، ورأى أبواه من الرضاعة ما رأيا من الخوارق التي كانت تلازمه، على زعم كتب السيرة، خافا مغبة الأمر، ولم يريدا بقاءه عندهما.
ولم تلبث أمه أن ماتت وهو صبي تاركة أمر رعايته لجده عبد المطلب، فغالى جده هذا في الاهتمام به.
ولكن ملائكة الرحمة، التي أرادت مضي محمد قدما، صبت عليه، وهو صغير، أنواع المصائب التي يصاب بها الإنسان عادة درجة درجة، فقد مات جده بعد وفاة آمنة بسنتين، وكفله عمه التاجر الذي كان يسافر، ولم يجد محمد له غير نفسه حاميا بعد قليل.
وتقول القصة إن محمدا سافر مع عمه إلى سورية مرة، وتعرف في بصرى براهب نسطوري في دير نصراني، وتلقى منه علم التوراة.
ولما بلغ محمد العشرين من عمره اشترك في حرب بين قريش وقبيلة أخرى، فأظهر فيها، كما قيل بصيغة التأكيد، براعة حربية تجلت فيه بعد زمن.
ونال محمد شهرة فائقة، وعرف برفقه وصدقه، فلقبته قريش بالأمين.
شكل 1-1: منظر المدينة (من صورة فوتوغرافية).
وإذا أضيف إلى شهرته حسن صحته علمنا السر في عطف خديجة، التي كانت أرملة غني، عليه وتفويضها أمور تجارتها إليه، وتهيأ له السفر إلى سورية بذلك، والاجتماع مرة ثانية بالراهب الذي أطلعه على علم التوراة سابقا، وتزوج بعد رجوعه من سورية، وكان عمره خمسا وعشرين سنة، خديجة الأيم المثرية البالغة من العمر أربعين سنة، وخديجة هي أولى زوجاته، ولم يتزوج امرأة أخرى في حياتها.
ولم يخبرنا التاريخ عن سيرة محمد في السنين الخمس عشرة التي انقضت بعد زواجه بخديجة، ويفترض، وإن لم يقم دليل على ذلك، أنه كان يفكر في أثنائها في مبادئ دينه الذي سيكون زعيمه، ولم يبد منه في تلك السنين أي نفور من عبادات العرب مع ذلك، كما أنه لم يقع فيها ما يدل على تفكيره في قلب تلك العبادات رأسا على عقب. (2) رسالة محمد
لم يتكلم محمد عن بعثته إلا بعد بلوغه الأربعين من عمره، فبعد أن كان قائما يتحنث
1
على جبل حراء، الذي يبعد ثلاثة أميال من مكة، مثل ما كان يفعل في كل سنة، جاء خديجة ممتقعا وأخبرها، كما روى مؤرخو العرب، بأنه بينما كان تائها في الجبل إذ سمع جبريل يقرع أذنيه بقوله: «
اقرأ باسم ربك الذي خلق * خلق الإنسان من علق * اقرأ وربك الأكرم * الذي علم بالقلم * علم الإنسان ما لم يعلم
يا محمد! أنت رسول الله وأنا جبريل»، كما أخبرها بأن هذا كلام إلهي، وبأنه يشعر في نفسه بقوة نبوية.
ولم تتردد المرأة المطيعة، خديجة، في تصديق بعثة زوجها النبوية، وانطلقت إلى ابن عمها ورقة، وكان على جانب من العلم، وقصت عليه ما سمعت، فقال: «قدوس، والذي نفس ورقة بيده لئن صدقتني يا خديجة لقد جاءه الناموس الأكبر الذي كان يأتي موسى بن عمران، وإنه لنبي هذه الأمة.»
ورجعت خديجة إلى محمد، وأخبرته بقول ورقة، واطمأنت نفسه، فطاف بالكعبة سبع مرات، ثم انصرف إلى منزله، ثم تواتر الوحي عليه كما ذكر أبو الفداء.
ولم ينذر محمد، في السنين الثلاث الأولى من بعثته، غير عشيرته الأقربين الذين كانوا، على العموم، من ذوي النفوذ والوجاهة بسبب مقامهم وأعمارهم، فلما اطمأن إلى جوارهم جهر بدعوته ، وأخذ يحمل على الإشراك الذي كان مركزه في بيت آلهة جزيرة العرب المقدس، الكعبة، كما ذكرنا ذلك.
ولم يكتب له التوفيق في بدء الأمر، وكان الناس يسخرون منه، ولكن سخرية سدنة الكعبة، قريش، لم تلبث أن انقلبت إلى غضب على محمد، وتهديد له ولمن والاه بالقتل.
ولم يفل ذلك من عزم محمد، وقد قال، كما ذكر أبو الفداء: «لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في شمالي ما تركت هذا الأمر.»
هنالك فكرت قريش في اضطهاد محمد، ولم يمنعها من القضاء عليه غير ما تعودته الأسر العربية من إجارة أبنائها، وما كانت تراه من تعريض قريش لأثآر عشيرة محمد الأقربين الكثيرين.
ولذلك أمكن محمدا أن يواصل دعوته، وأن يزيد عدد أصحابه من غير أن يصيبه أذى كبير، ثم هاجر هؤلاء الأصحاب إلى الحبشة، لما لم يلاقوا من جوار كما لاقى محمد.
وروى مؤرخو العرب أن ملك الحبشة سأل هؤلاء المهاجرين عن دينهم الجديد، فأجابه جعفر ابن عم محمد بما يأتي:
كنا قوما أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف، فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولا منا نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث وأداء الأمانة وصلة الرحم وحسن الجوار والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش وقول الزور وأكل مال اليتيم وقذف المحصنات، وأمرنا أن نعبد الله ولا نشرك به شيئا، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام، فصدقناه وآمنا به واتبعناه على ما جاء به من الله، فعبدنا الله وحده لا نشرك به شيئا، وحرمنا ما حرم علينا وأحللنا ما أحل لنا.
وكان محمد يقابل ضروب الأذى والتعذيب بالصبر وسعة الصدر، وكان في كل يوم يجتذب أصحابا آخرين ببلاغته، والتجأ محمد إلى عمه أبي طالب ذي الجاه الكبير راغبا في السلامة.
ومضت عشر سنين ومحمد لم يفتر ثانية عن الدعوة إلى دينه، فلما بلغ الخمسين من عمره أصيب بمصيبتين كبيرتين: وفاة عمه أبي طالب الذي كان يحميه، ووفاة زوجته خديجة التي كان أقرباؤها من الأعيان النافذين.
وترك النبي مكة حين أضحى غير قادر على مقاومة أعدائه، وذهب إلى الطائف القريبة، ودافع أمام أهليها عن صدق بعثته، ولم يصغوا إليه، فاضطر إلى العودة.
ولم يلبث الأمر أن تبدل، ولم يلبث الزمن أن تبسم لمحمد بعد عبوس، فقد اغتنم محمد موسم الحج، ودعا إلى دينه أناسا من اليمن كانوا ينظرون إلى مكة بعين الغيرة، وكانوا ينتظرون، كما شاع بينهم، ظهور نبي، وقد استهواهم حديث النبي، واعتقدوا أنه هو النبي المنتظر، وقد حدثوا بذلك أهل يثرب التي كانت تأكلها الغيرة من مكة أيضا، وقد جاءه من هؤلاء رجال كثير؛ ليستمعوا إلى دينه البسيط الواضح، فلم يطلب منهم غير الإيمان بإله واحد وبالآخرة حيث يجازى الأشرار ويكافأ الأبرار، وغير إطاعة أمر الله، والصلاة صباح مساء مع الطهارة بالوضوء والتحلي بجميع الفضائل، والإقرار بأن محمدا رسول الله وإطاعته، وقد أخذ هذا الدين بمجامع قلوبهم؛ فآمنوا به وصدقوه وبايعوه، ثم انصرفوا للدعوة إلى دينه.
ولما علمت قريش ما أصاب محمد من النجاح غضبوا وسخطوا، وهم الذين لم يستطيعوا أن يغضوا على دين جديد قد يضر بمصالحهم، فأتمروا بمحمد ليقتلوه.
ولم يعلم محمد بالأمر إلا بعد أن حاصر المؤتمرون منزله، واستطاع محمد، مع ذلك أن يتسلل ليلا من بين المؤتمرين، وأن يتفلت من مطاردة قريش له، وأن يصل هو وصديقه أبو بكر إلى يثرب التي سميت بالمدينة بعدئذ.
وكانت هذه الهجرة في سنة 622م، واتخذها العرب مبدأ لتاريخهم. (3) محمد بعد الهجرة
دخل محمد المدينة دخول الظافرين، وأظل أصحابه رأسه بسعوف النخل، وصارت الجموع ترتمي على قدميه.
وشرع محمد، منذ وصوله إلى المدينة، ينظم شؤون دينه، وأخذ القرآن، الذي كان في دور التكوين، يكتمل بفضل تواتر نزول الوحي على محمد في جميع الأحوال الصعبة خلا مبادئه الأساسية التي كانت قد عرضت.
ووضعت شعائر الإسلام بالتعاقب، فسن الأذان لدعوة المؤمنين إلى الصلوات الخمس، وفرض صوم شهر رمضان، أي الامتناع عن الطعام من الفجر إلى غروب الشمس شهرا كاملا، وفرضت الزكاة التي يعين المسلم بها الدين الذي أقيم.
وصار محمد، بعد وصوله إلى المدينة، يقود الغزوات بنفسه، أو بواسطة أحد أصحابه، وغزوة بدر التي وقعت في السنة الثانية من الهجرة هي أولى الغزوات المهمة؛ ففيها هزم جنود محمد، الذين لم يزيدوا على 314 مقاتلا، والذين لم يكن بينهم سوى ثلاثة فرسان، أعداءهم الذين كانوا ألفي مقاتل، فكانت هزيمة أعداء النبي التامة في بدر فاتحة شهرته الحربية.
وتوالت الوقائع بين محمد وجيرانه، وكانت كل مصيبة تصيبه يعقبها انتصار له في الغالب، وكان يبدو رابط الجأش إذا ما هزم، ومعتدلا إذا ما نصر، وهو لم يقس على أعدائه إلا مرة واحدة حين أمر بأن تضرب رقاب سبعمائة معتقل يهودي خانوه.
وعظم شأن محمد في عدة سنين، وأصبح لا بد له من فتح مكة حتى يعم نفوذه، ورأى أن يفاوض قبل امتشاق الحسام وصولا إلى هذا الغرض، فجاء إلى هذا البلد المقدس ومعه 1400 من أصحابه، ولم يكتب له دخوله، وقد دهش رسل قريش من تعظيم أصحابه له، فقال أحدهم: «إني جئت كسرى وقيصر في ملكهما فوالله ما رأيت ملكا في قومه مثل محمد في أصحابه ...»
ورأى محمد بعد ذلك الإخفاق أن يروح أصحابه، فخف بهم إلى مدينة خيبر المحصنة المهمة الواقعة في شمال المدينة الغربي، والبعيدة منها مسيرة خمسة أيام، والتي كانت تقطن فيها قبائل يهودية، والتي كانت مقر تجارة اليهود، ففتحها عنوة، وشعر محمد بدنو أجله بعد خيبر، وذلك أن زينب اليهودية أهدت إليه شاة مسمومة، فأخذ منها قطعة ولاكها، ثم لفظها بعد أن ذاق طعما غريبا فيها، وقال: «تخبرني هذه الشاة أنها مسمومة»، ثم دعا بزينب الإسرائيلية فاعترفت اعترافا دقيقا، ونجت من العقاب حين قالت: «لقد بلغت من قومي ما لم يخف عليك، فقلت: إن كان ملكا استرحت منه، وإن كان نبيا فسيخبر»، ولم تزل أكلة خيبر تعاوده مع حماية الله له، فتوفي بتأثيرها بعد ثلاث سنين كما روى المؤرخون.
شكل 1-2: مخيم حجاج بالقرب من المدينة (من صورة فوتوغرافية).
ولما أحس محمد نمو سلطانه عزم على فتح مكة، وألف جيشا من عشرة آلاف محارب، أي ألف جيشا لم يسبق أن جمع مثله، وبلغ محمد أسوار مكة، وفتحها به من غير قتال، وذلك بقوة ما تم له من النفوذ.
وعامل محمد قريشا، الذين ظلوا أعداء أشداء له عشرين سنة، بلطف وحلم، وأنقذهم من سورة أصحابه بمشقة، مكتفيا بمسح صور الكعبة وتطهيرها من الأصنام (ال 360) التي أمر بكبها على وجوهها وظهورها، وبجعل الكعبة معبدا إسلاميا، وما انفك هذا المعبد يكون بيت الإسلام.
ودخل أكثر القبائل المجاورة في الدين الإسلامي على أثر فتح مكة، وحاولت بعض القبائل أن تقاوم، فهزمت شر هزيمة.
وهنالك بلغ محمد أوج مجده، فعزم على غزو سورية التي كان يعتقد أن أصحابها الروم يهددون حدوده.
واستطاع محمد أن يجمع جيشا مؤلفا من ثلاثين ألف مقاتل، ووجد عشرة آلاف فارس بين هؤلاء المقاتلين، ولما وصل إلى تبوك الواقعة في منتصف الطريق بين المدينة ودمشق علم أن الروم أقلعوا عن غرضهم، فلم يتابع سيره، ولم يخل زحفه هذا من فائدة، إذ نتج عنه أن خضع للنبي أمراء البلاد العربية المجاورة لمصر وسورية.
ورغب محمد في زيادة نفوذه حتى قبل فتح مكة، فأرسل كتبا إلى جميع الجهات، وإلى أقوى ملوك الأرض أيضا، يدعو فيها إلى الإسلام، وساق إلى ملك غسان الذي كان من عمال ملوك الروم جيشا صغيرا لم يكتب له غير الفرار، وكانت هذه الغزوة، وهي الوحيدة التي وقعت خارج جزيرة العرب في أثناء حياته، ذات نفع، فلم يلبث العرب الذين وكل إليهم أمر حفظ الحدود أن انحازوا إلى النبي حين أخر هرقل عنهم رواتبهم.
ولم تثمر كتب محمد إلى الملوك، وقد قص التاريخ علينا أن رسول محمد وصل إلى كسرى حين كان السفراء يمضون معاهدة السلم بين كسرى وهرقل، وأنه عندما ألقي كتاب محمد إلى كسرى، ورأى فيه اسم محمد قبل اسمه ووجد، وهو ملك الملوك، أن هذا يتضمن أفضلية محمد عليه - وفق رأي الشرقيين - مزق الكتاب غاضبا قبل أن يقرأه، وداسه تحت قدميه، وقال: «يكاتبني بهذا وهو عبدي»، وأن النبي لما بلغه ذلك قال: «مزق الله ملكه كما مزق كتابي.»
وقد قبلت دعوة النبي، فمزق خلفاؤه ملك كسرى كل ممزق من فورهم.
ولم يكتف كسرى بتمزيق كتاب محمد، بل بعث إلى عامله باليمن: «أن ابعث إلي هذا الرجل الذي يزعم في الحجاز أنه نبي»، ولكن ابن كسرى قتل أباه هذا قبل أن يقوم عامل اليمن بتنفيذ ذلك الأمر الصعب.
ومضى على الهجرة عشر سنين، فخرج النبي حاجا إلى مكة، وكان هذا آخر حج قام به، قال أبو الفداء: «ثم رجع إلى المدينة، وبدأ به مرضه وهو في بيت زينب بنت جحش، وكان يدور على نسائه حتى اشتد مرضه وهو في بيت ميمونة بنت الحارث، فجمع نساءه واستأذنهن في أن يمرض في بيت إحداهن، فأذن له في أن يمرض في بيت عائشة، فانتقل إليه.»
وشعر محمد بدنو أجله، وأراد أن يودع قومه فجمعهم وشكر لله توفيقه لإكمال رسالته، ثم قال: «أيها الناس من كنت جلدت له ظهرا فهذا ظهري فليستقد مني، ومن كنت شتمت له عرضا فهذا عرضي فليستقد منه، ومن أخذت له مالا فهذا مالي فليأخذ منه، ولا يخش الشحناء من قبلي؛ فإنها ليست من شأني.»
فادعى عليه رجل ثلاثة دراهم، فأعطاه عوضها، ثم قال: «ألا إن فضوح الدنيا أهون من فضوح الآخرة»، ثم صلى على الذين قاتلوا معه، ثم أعيد إلى بيت عائشة.
شكل 1-3: الوضوء من بئر زمزم المقدسة في موسم الحج بمكة (من صورة فوتوغرافية).
وأراد محمد، قبل وفاته بثلاثة أيام، أن ينقل إلى المسجد ليصلي، ولم يحتمل محمد هذا النقل، فأمر بأن يقوم أبو بكر مقامه، فعد المسلمون هذا دليلا على أن الخلافة لأبي بكر بعد النبي.
وتوفي محمد بعد مرض دام خمسة عشر يوما، وكانت وفاته في السنة الحادية عشرة من الهجرة حين كان عمره ثلاثا وستين سنة.
وكانت جزيرة العرب، حتى عمان ، قد صبأت قبل وفاة محمد إلى الإسلام، وقد رضي بالإسلام مشركو العرب ومسيحيوهم ويهودهم، وأصبحوا بذلك أمة واحدة ألهبتها المعتقدات الجديدة، وغدت مستعدة لفتح العالم بعد زمن قليل بقيادة زعمائها الماهرين. (4) حياة محمد وأخلاقه
تكلمنا عن حياة محمد العامة فيما تقدم، والآن نبحث في أخلاقه وحياته الخاصة، مستعينين بأسانيد العرب وآثارهم، قال المؤرخ العربي أبو الفداء في وصف محمد مستندا إلى ما روي عن أصحابه: «وصفه علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - فقال: كان النبي
صلى الله عليه وسلم
ليس بالطويل ولا بالقصير، ضخم الرأس كث اللحية شثن الكفين والقدمين ضخم الكراديس مشربا وجهه حمرة، وقيل: كان أدعج العينين سبط الشعر سهل الخدين كأن عنقه إبريق فضة، وقال أنس: لم يشنه الله بالشيب، كان في مقدم لحيته عشرون شعرة بيضاء، وفي مفرق رأسه شعرات بيض ...
وكان
صلى الله عليه وسلم
أرجح الناس عقلا، وأفضلهم رأيا، يكثر الذكر، ويقل اللغو، دائم البشر، مطيل الصمت، لين الجانب، سهل الخلق، وكان عنده القريب والبعيد والقوي والضعيف في الحق سواء، وكان يحب المساكين، ولا يحقر فقيرا لفقره، ولا يهاب ملكا لملكه، وكان يؤلف قلوب أهل الشرف، وكان يؤلف أصحابه، ولا ينفرهم، ويصابر من جالسه ولا يحيد عنه حتى يكون الرجل هو المنصرف، وما صافحه أحد فيترك يده حتى يكون ذلك الرجل هو الذي يترك يده، وكذلك من قاومه لحاجة يقف رسول الله
صلى الله عليه وسلم
معه حتى يكون الرجل هو المنصرف، وكان يتفقد أصحابه، ويسأل الناس عما في الناس، وكان يحلب العنز، ويجلس على الأرض، وكان يخصف النعل ويرقع الثوب ويلبس المخصوف والمرقوع، عن أبي هريرة قال: خرج رسول الله
صلى الله عليه وسلم
من الدنيا ولم يشبع من خبز الشعير، وكان يأتي على آل محمد الشهر والشهران لا يوقد في بيت من بيوته نار، وكان قوتهم التمر والماء، وكان رسول الله
صلى الله عليه وسلم
يعصب على بطنه الحجر من الجوع.»
ويضاف إلى الوصف السابق ما رواه مؤرخو العرب الآخرون من أن محمدا كان شديد الضبط لنفسه، كثير التفكير، صموتا حازما، سليم الطوية، عظيم العناية بنفسه مواظبا على خدمتها بالذات حتى بعد اغتنائه.
وكان محمد صبورا قادرا على احتمال المشاق ثابتا بعيد الهمة لين الطبع وديعا، فذكر أحد خدمه أنه ظل عنده ثماني عشرة سنة وأنه لم يعزره قط في هذه المدة ولو مرة واحدة.
وكان محمد مقاتلا ماهرا، وكان لا يهرب أمام المخاطر، ولا يلقي بيديه إلى التهلكة، وكان يعمل ما في الطاقة؛ لإنماء خلق الشجاعة والإقدام في بني قومه.
ويقال: إن محمدا كان قليل التعليم ونرجح ذلك، وإلا لوجدت في تأليف القرآن ترتيبا أكثر مما فيه، ونرجح أيضا أن محمدا لو كان عالما ما أقام دينا جديدا، فالأميون وحدهم هم الذين يعرفون كيف يدرك أمر الأميين.
وكان محمد عظيم الفطنة سواء أكان متعلما أم غير متعلم، وتذكرنا حكمته بما عزته كتب اليهود إلى سليمان.
شاءت الأقدار أن يكون محمد، وقد كان شابا، حكما بين أقطاب قريش الذين كادوا يقتتلون، حين اختلفوا في من يضع في أحد جوانب الكعبة ذلك الحجر الأسود الشهير الذي كان العرب يعتقدون أن ملكا جاء به من السماء إلى إبراهيم، فقال محمد الشاب أمام الخصوم الذين أوشكوا أن يلجأوا إلى السلاح: «هلم إلي ثوبا»، فأتي به فنشره، وأخذ الحجر الأسود، ووضعه بيده فيه، ثم قال: «ليأخذ كبير كل قبيلة بطرف من أطراف هذا الثوب»، فحملوه جميعا إلى ما يحاذي موضع الحجر من البناء، ثم تناوله محمد من الثوب ووضعه في موضعه، وانحسم الخلاف.
وضعف محمد الوحيد هو حبسه الطارئ للنساء، وهو الذي اقتصر على زوجته الأولى حتى بلغ الخمسين من عمره، ولم يخف محمد حبه للنساء فقد قال: «حبب إلي من دنياكم ثلاث: الطيب، والنساء، وجعلت قرة عيني في الصلاة.»
ولم يبال محمد بسن المرأة التي يتزوجها، فتزوج عائشة وهي بنت عشر سنين، وتزوج ميمونة وهي في الحادية والخمسين من سنيها.
وأطلق محمد العنان لهذا الحب، حتى إنه رأى اتفاقا زوجة ابنه بالتبني وهي عارية ، فوقع في قلبه منها شيء، فسرحها بعلها ليتزوجها محمد، فاغتم المسلمون، فأوحي إلى محمد، بواسطة جبريل الذي كان يتصل به يوميا، آيات تسوغ ذلك، وانقلب الانتقاد إلى سكوت.
وتزوج محمد أربع نسوة في سنة واحدة، وبلغ عدد من تزوجهن خمس عشرة امرأة، واجتمع منهن إحدى عشرة في وقت واحد، وقد يرى الأوربي أن هذا العدد كبير، ولكن الشرقيين لا يرون إفراطا فيه ما رأوا أنه يمكن النبي أن يتزوج نساء أكثر من أولئك لو سمح لنفسه أن يسير على غرار الملك سليمان العظيم الذي هو أكثر ملوك التوراة حكمة.
ولم يثبت، تماما، وفاء زوجات محمد الكامل له، ويظهر أن محمدا لاقى من المكاره الزوجية ما يندر وجوده عند الشرقيين ويكثر وقوعه لدى الأوربيين، وكانت عائشة موضوع قلق له على الخصوص، وأصبحت ذات مرة موضع قالة سوء فشهد بعصمتها جبريل المحب للخير دائما، ودونت شهادته في هذه المسألة الحساسة في القرآن، وحظر الشك.
وعرف محمد في آخر الأمر، ما ينجم عن زيادة عدد الزوجات من المفاسد والشرور، وحرم محمد على المسلم أن يجمع أكثر من أربع زوجات، ولم يكن محمد هو الذي أباح تعدد الزوجات بين العرب، فتعدد الزوجات مما عرفته أمم آسية على اختلاف مللها ونحلها قبل النبي، ولا يزال تعدد الزوجات شائعا بين هذه الأمم.
وكان محمد قليل المسامحة نحو النساء مع ميله الشديد إليهن، ومع أن محمدا لم يبلغ في شدته درجة رجال التوراة وصفهن في القرآن بأنهن ينشأن في الحلية ويخاصمن من غير سبب، وقال: «ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن»، وروى أبو الفداء أن محمدا ذكر أنه كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء سوى أربع: امرأة فرعون: آسية، وأم عيسى: مريم ، وزوجة النبي: خديجة، وبنت النبي: فاطمة.
وأولاد محمد هم من زوجته الأولى خديجة التي هي ثالثة نساء العالم الأربع الكاملات، وثلاثة ذكور من أولاده السبعة ماتوا صغارا، ولم يبق له سوى أربع بنات تعد أشهرهن فاطمة.
ومات محمد عن تسع أيامى، وحرم عليهن الزواج بعد وفاته احتراما لحظره مهما كان عزاؤهن.
ولم يقل محمد إنه يأتي بالخوارق مع إيمانه برسالته، وعزا المسلمون إليه خوارق كثيرة مجاراة للعنعنات الشائعة القائلة إنه لا نبوة بغير خوارق، وإليك قول مسيو كاز يميرسكي الوجيز:
انشق القمر بطلبه فرقتين على مشهد من الملأ، ووقفت الشمس بدعوته على الجبال والأرض حتى يؤدي على صلاة العصر بعد أن أفاق النبي من غفوته ورأسه على ركبتي علي الذي أخبره بأنه لم يؤدها حرصا على راحته، وكان يظهر، وهو المعتدل القامة، أطول من كل شخص يسير بجانبه، وكان النور يسطع من وجهه، ويشع من بين أصابعه حين يضع يده على وجهه، وكانت الحجارة والأشجار والنباتات تسلم عليه وتنحني أمامه، وكانت الحيوانات، كالظباء والذئاب والضباب، تكلمه، وكانت الجديان تخاطبه وهي مشوية، وكان الجن يخافونه ويؤمنون برسالته لما له من السلطان المطلق عليهم، وكان يرد البصر للعمي ويشفي المرضى ويحيي الموتى، وأنزل من السماء مائدة لعلي وأسرته حين جاعوا، وأنبأ بأن ذرية فاطمة سينالها جور وعدوان، وبأن ملك بني أمية سيدوم ألف شهر، فحدث كما أخبر ... إلخ.
وفضلا عن ذلك فإنه أثبت للمسلمين الصالحين أنه أسري بمحمد ليلا على ظهر حيوان خيالي يسمى البراق، والبراق دابة مجنحة لها وجه المرأة وجسم الفرس وذنب الطاوس، ويعتقد المسلمون أن محمدا اخترق السماوات السبع في معراجه حتى بلغ عرش الإله.
شكل 1-4: ضريح فاطمة بنت محمد في المقبرة الكبرى بدمشق (من صورة فوتوغرافية التقطها المؤلف).
وقيل: إن محمدا كان مصابا بالصرع، ولم أجد في تواريخ العرب ما يبيح القطع في هذا الرأي، وكل ما في الأمر هو ما رواه معاصرو محمد، وعائشة منهم، من أنه كان إذانزل الوحي عليه اعتراه احتقان وجهي فغطيط فغشيان، وإذا عدوت هوس محمد،
2
ككل مفتون، وجدته حصيفا سليم الفكر.
ويجب عد محمد من فصيلة المتهوسين من الناحية العلمية كما هو واضح، وذلك كأكثر مؤسسي الديانات، ولا كبير أهمية لذلك، فأولو الهوس وحدهم، لا ذوو المزاج البارد من المفكرين، هم الذين ينشئون الديانات ويقودون الناس، ومتى يبحث في عمل المفتونين في العالم يعترف بأنه عظيم، وهم الذين أقاموا الأديان وهدموا الدول وأثاروا الجموع وقادوا البشر، ولو كان العقل، لا الهوس، هو الذي يسود العالم؛ لكان للتاريخ مجرى آخر.
ولا يقف أي قول بخداع محمد ثانية أمام سلطان النقد كما يلوح لي، ومحمد كان يجد في هوسه ما يحفزه إلى اقتحام كل عائق، ويجب على من يود أن يفرض إيمانه على الآخرين أن يؤمن بنفسه قبل كل شيء، ومحمد كان يعتقد أنه مؤيد من الله، فيتقوى، ولا يرتد أمام أي مانع.
وجمع محمد قبل وفاته كلمة العرب، وخلق منهم أمة واحدة خاضعة لدين واحد مطيعة لزعيم واحد، فكانت في ذلك آيته الكبرى.
ومن العبث أن نبحث في: هل كانت هذه النتائج التي بلغها محمد مما توخاه قبلا؟ ونحن إذ لم نؤت سوى علم قليل عن علل ارتباط الحوادث التي نذعن لحكمها طوعا أو كرها ترانا مضطرين إلى مجاراة المؤرخين في رأيهم أن ما بلغه أعاظم الرجال، ومنهم محمد، من النتائج هو مما كانوا يسعون إلى تحقيقه، ورأي مثل هذا، وإن كان لا يسلم به على علاته، لا نخوض في نقضه؛ لما في ذلك من الخروج عن موضوع هذا الكتاب.
ومهما يكن من أمر فإن مما لا ريب فيه أن محمدا أصاب في بلاد العرب نتائج لم تصب مثلها جميع الديانات التي ظهرت قبل الإسلام، ومنها اليهودية والنصرانية، ولذلك كان فضل محمد على العرب عظيما، ويتجلى هذا الفضل العظيم في جواب رسل عمر بن الخطاب إلى كسرى حين سألهم عن أعمال النبي، قال هؤلاء الرسل:
فأما ما ذكرت من سوء حالنا فما كان أحد أسوأ حالا منا، وأما جوعنا فلم يكن يشبه الجوع ، كنا نأكل الخنافس والجعلان والعقارب والحيات، فكنا نرى ذلك طعامنا، وأما المنازل فكانت ظهر الأرض، ولم نلبس إلا ما غزلنا من أوبار الإبل وأشعار الغنم، كان ديننا أن يقتل بعضنا بعضا ويغير بعضنا على بعض، وكان أحدنا يدفن ابنته وهي حية كراهية أن تأكل من طعامنا، فكانت حالنا قبل اليوم على ما ذكرنا لك، فبعث الله إلينا رجلا معروفا نعرف نسبه ونعرف وجهه ومولده، فأرضه خير أرضنا، وحسبه خير أحسابنا، وبيته أعظم بيوتنا، وقبيلته خير قبائلنا، فقذف الله في قلوبنا التصديق له، واتباعه، فما قال لنا فهو قول الله، وما أمرنا فهو أمر الله، فقال لنا: «إن ربكم يقول: إنى أنا الله وحدي لا شريك لي، كنت إذ لم يكن شيء وكل شيء هالك إلا وجهي، وأنا خلقت كل شيء وإلي يصير كل شيء، وإن رحمتي أدركتكم فبعثت إليكم هذا الرجل لأدلكم على السبيل التي بها أنجيكم بعد الموت من عذابي، ولأحلكم داري دار السلام، فنشهد عليه أنه جاء بالحق من عند الحق.
وإذا ما قيست قيمة الرجال بجليل أعمالهم كان محمد من أعظم من عرفهم التاريخ، وأخذ بعض علماء الغرب ينصفون محمدا مع أن التعصب الديني أعمى بصائر مؤرخين كثيرين عن الاعتراف بفضله. قال العلامة بارتلمي سنت هيلر: «كان محمد أكثر عرب زمانه ذكاء وأشدهم تدينا وأعظمهم رأفة، ونال محمد سلطانه الكبير بفضل تفوقه عليهم، ونعد دينه الذي دعا الناس إلى اعتقاده جزيل النعم على جميع الشعوب التي اعتنقته.»
فما سر هذا الدين الذي خضع لحكمه ملايين من الناس؟ وما الحقائق التي أرشد العالم إليها؟ ذلك ما نبحث فيه عما قليل.
هوامش
الفصل الثاني
القرآن
(1) خلاصة القرآن
القرآن هو كتاب المسلمين المقدس، ودستورهم الديني والمدني والسياسي الناظم لسيرهم، وهذا الكتاب المقدس قليل الارتباط مع أنه أنزل وحيا من الله على محمد، وأسلوب هذا الكتاب، وإن كان جديرا بالذكر أحيانا، خال من الترتيب فاقد السياق كثيرا، ويسهل تفسير هذا عند النظر إلى كيفية تأليفه، فهو قد كتب تبعا لمقتضيات الزمن بالحقيقة، فإذا ما اعترضت محمدا معضلة أتاه جبريل بوحي جديد حلا لها، ودون ذلك في القرآن.
ولم يجمع القرآن نهائيا إلا بعد وفاة محمد، وبيان الأمر أن محمدا كان يتلقى في حياته عدة نصوص عن الأمر الواحد ، فلما انقضت عدة سنين على وفاته حمل خليفته الرابع
1
على قبول نص نهائي للقرآن مقابلا بين ما جمعه أصحاب الرسول.
والقرآن مؤلف من مائة وأربع عشرة سورة، وكل سورة مؤلفة من آيات، ومحمد هو الذي يتحدث فيها باسم الله على الدوام.
ويعد العرب القرآن أفصح كتاب عرفه الإنسان، ومع ما في هذا من مبالغة شرقية نعترف بأن في القرآن آيات موزونة رائعة لم يسبقه إليها كتاب ديني آخر.
وتقرب فكرة الكون الفلسفية في القرآن مما في الديانتين الساميتين العظيمتين اللتين ظهرتا قبل الإسلام، أي اليهودية والنصرانية، وزعم أن العنعنات الآرية الفارسية أو الهندية ذات نصيب ظاهر في النصرانية والإسلام، ونحن نرى النفوذ الآري في الإسلام ضعيفا جدا.
ولم يكن محمد فيلسوفا كبيرا، أي من المفكرين المتبحرين الذين يقاسون بمؤسسي البرهمية والبدهية، فهو لم ينكر سبب الأسباب كما أنكره البدهيون، ولم يقل مثلهم بأن الكون موجود بالضرورة ذو انحلال وتركيب دائمين، ولم يتصف بنصف ما عند مؤلفي كتب البراهمة المقدسة من الشك، ولم يدخل إلى القرآن مثل التأملات الآتية التي تجدها في كتب الويدا: «من أين أتى هذا الكون؟ أهو من صنع خالق أم لا؟ يعلم ذلك من ينظر من فوق الفلك، وقد لا يعلم.»
2
ولكن أقوالا مجردة مثل هذه لا تنفع غير الفلاسفة، ومحمد لم يزعم أنه يكتب من أجل الفلاسفة، وكان من مقاصد محمد أن يقيم دينا سهلا يستمرئه قومه، وقد وفق لذلك حين أخذ من الأديان الأخرى ما يلائمهم، ولم يفكر محمد في إبداع دين جديد قط، وهو الذي أعلن أنه يسير على غرار من تقدمه من أنبياء بني إسرائيل من إبراهيم إلى عيسى قائلا إن ما أوحي إليهم صحيح، والحق أن اليهودية والنصرانية والإسلام فروع ثلاثة لأصل واحد، وأنها ذات قربى وشيجة.
والدين الذي دعا النبي إليه الناس سهل جدا، وقد عرفه محمد بالكلمات القليلة الآتية حين أتاه جبريل بزي العرب وسأله عنه، وهي: «أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وتقيم الصلاة ، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت لمن استطاع إليه سبيلا»، وهذا التعريف الذي قبله جبريل تام كما هو واضح.
ويلخص المسلم الإسلام في هاتين الكلمتين اللتين لا ينكر إيجازهما، وهما: «لا إله إلا الله محمد رسول الله.»
وإنني أنقل من القرآن بضع آيات في كل موضوع مهم، وأرتب ما نقلته من آياته على حسب الموضوعات نظرا إلى أن ما ورد من الآيات في الموضوع الواحد مبعثر فيه اتفاقا.
وإنني أبدأ بما جاء في القرآن عن مصدره وعن قرباه الوشيجة بالكتب المقدسة التي أتت قبله:
لكل أجل كتاب (من سورة الرعد)
ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين (من سورة البقرة)
وإنه لتنزيل رب العالمين * نزل به الروح الأمين * على قلبك لتكون من المنذرين * بلسان عربي مبين * وإنه لفي زبر الأولين (من سورة الشعراء)
كلا إنها تذكرة * فمن شاء ذكره * في صحف مكرمة * مرفوعة مطهرة * بأيدي سفرة * كرام بررة (من سورة عبس)
فلا أقسم بالخنس
3 * الجوار الكنس
4 * والليل إذا عسعس
5 * والصبح إذا تنفس * إنه لقول رسول كريم * ذي قوة عند ذي العرش مكين * مطاع ثم أمين (من سورة التكوير)
ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة وهذا كتاب مصدق لسانا عربيا لينذر الذين ظلموا وبشرى للمحسنين (من سورة الأحقاف)
شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه (من سورة الشورى)
وإله محمد واحد في السماء، واسمع تعريف النبي له:
بديع السماوات والأرض وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون (من سورة البقرة)
الله لا إله إلا هو الحي القيوم (من سورة البقرة)
شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم (من سورة آل عمران)
إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون (من سورة البقرة)
وإله القرآن الواحد، وإن لم يكن شديدا شدة إله التوراة، جبار عزيز ذو انتقام يفعل ما يشاء، ولا يسأل عما يفعل، جاء في القرآن:
وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم وإن ربك لشديد العقاب (من سورة الرعد)
والفجر * وليال عشر * والشفع والوتر
6 * والليل إذا يسر * هل في ذلك قسم لذي حجر
7 * ألم تر كيف فعل ربك بعاد * إرم ذات العماد * التي لم يخلق مثلها في البلاد * وثمود الذين جابوا
8
الصخر بالواد * وفرعون ذي الأوتاد * الذين طغوا في البلاد * فأكثروا فيها الفساد * فصب عليهم ربك سوط عذاب * إن ربك لبالمرصاد (من سورة الفجر)
إن الذين كفروا بآيات الله لهم عذاب شديد والله عزيز ذو انتقام (من سورة آل عمران)
وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد (من سورة هود)
هو الذي يريكم البرق خوفا وطمعا وينشئ السحاب الثقال * ويسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء وهم يجادلون في الله وهو شديد المحال (من سورة الرعد)
وما جاء في القرآن من نص على خلق السماوات والأرض في ستة أيام، وخلق آدم والجنة، وهبوط آدم منها، ويوم الحساب مقتبس من التوراة.
وإليك وصف محمد ليوم الحساب:
فإذا جاءت الصاخة
9 * يوم يفر المرء من أخيه * وأمه وأبيه * وصاحبته وبنيه (من سورة عبس)
إذا السماء انفطرت * وإذا الكواكب انتثرت * وإذا البحار فجرت * وإذا القبور بعثرت * علمت نفس ما قدمت وأخرت (من سورة الانفطار)
والشمس وضحاها * والقمر إذا تلاها * والنهار إذا جلاها * والليل إذا يغشاها * والسماء وما بناها * والأرض وما طحاها
10 * ونفس وما سواها * فألهمها فجورها وتقواها * قد أفلح من زكاها * وقد خاب من دساها
11 (من سورة الشمس)
يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات وبرزوا لله الواحد القهار * وترى المجرمين يومئذ مقرنين في الأصفاد
12 (من سورة إبراهيم)
ونفخ في الصور
13
فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون * وأشرقت الأرض بنور ربها ووضع الكتاب وجيء بالنبيين والشهداء وقضي بينهم بالحق وهم لا يظلمون * ووفيت كل نفس ما عملت وهو أعلم بما يفعلون * وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا حتى إذا جاءوها فتحت أبوابها وقال لهم خزنتها ألم يأتكم رسل منكم يتلون عليكم آيات ربكم وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا بلى ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين * قيل ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فبئس مثوى المتكبرين * وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها وقال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين (من سورة الزمر)
وفي النار ضروب العذاب كما يرى محمد، ومن ذلك:
وسقوا ماء حميما
14
فقطع أمعاءهم (من سورة محمد)
وأصحاب الشمال ما أصحاب الشمال * في سموم وحميم * وظل من يحموم
15 (من سورة الواقعة)
كلا والقمر * والليل إذ أدبر * والصبح إذا أسفر * إنها لإحدى الكبر (من سورة المدثر)
وفي الجنة ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين، ومن ذلك:
مثل الجنة التي وعد المتقون فيها أنهار من ماء غير آسن
16
وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين (من سورة محمد)
وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون * قالوا إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين * فمن الله علينا ووقانا عذاب السموم * إنا كنا من قبل ندعوه إنه هو البر الرحيم (من سورة الطور)
إن المتقين في جنات ونهر (من سورة القمر)
متكئين على فرش بطائنها من إستبرق
17 وجنى الجنتين دان * فبأي آلاء ربكما تكذبان * فيهن قاصرات الطرف لم يطمثهن
18
إنس قبلهم ولا جان * فبأي آلاء ربكما تكذبان * كأنهن الياقوت والمرجان * فبأي آلاء ربكما تكذبان * هل جزاء الإحسان إلا الإحسان * فبأي آلاء ربكما تكذبان * ومن دونهما جنتان * فبأي آلاء ربكما تكذبان * مدهامتان
19 * فبأي آلاء ربكما تكذبان * فيهما عينان نضاختان
20 * فبأي آلاء ربكما تكذبان * فيهما فاكهة ونخل ورمان * فبأي آلاء ربكما تكذبان * فيهن خيرات حسان * فبأي آلاء ربكما تكذبان (من سورة الرحمن)
شكل 2-1: من زخارف مصحف قديم في القاهرة (من إيبر).
وأصحاب اليمين ما أصحاب اليمين * في سدر مخضود
21 * وطلح منضود * وظل ممدود * وماء مسكوب * وفاكهة كثيرة * لا مقطوعة ولا ممنوعة * وفرش مرفوعة (من سورة الواقعة)
وكان محمد كثير المسامحة لليهود والنصارى خلافا لما يظن، لا للملحدين ولا للمشركين الذين يوصي بمقاتلتهم، وإليك قوله عنهم:
إن شر الدواب عند الله الذين كفروا فهم لا يؤمنون (من سورة الأنفال)
إن الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها والذين هم عن آياتنا غافلون * أولئك مأواهم النار بما كانوا يكسبون (من سورة يونس)
لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي (من سورة البقرة)
وقفينا
22
على آثارهم بعيسى ابن مريم مصدقا لما بين يديه من التوراة وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور ومصدقا لما بين يديه من التوراة وهدى وموعظة للمتقين * وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون (من سورة المائدة)
واصبر على ما يقولون واهجرهم هجرا جميلا (من سورة المزمل)
لكل أمة جعلنا منسكا هم ناسكوه فلا ينازعنك في الأمر وادع إلى ربك إنك لعلى هدى مستقيم (من سورة الحج)
شكل 2-2: اسم محمد كما جاء في كتابة قديمة بجامع ابن طولون أظهرها مسيو مارسل.
إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون (من سورة البقرة)
وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم خاشعين لله لا يشترون بآيات الله ثمنا قليلا أولئك لهم أجرهم عند ربهم إن الله سريع الحساب (من سورة آل عمران)
ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون (من سورة العنكبوت)
ولم أجد في القرآن ما يعاب به الشرقيون، وما يمكن أن يعاب به كذلك، كثير من العلماء المعاصرين من الجبرية المزعومة فيجوز أن يعد به محمد أكثر جبرية مما في التوراة، وإليك، مع ذلك، ما استطعت أن أجده جوهريا في القرآن حول هذه المسألة:
وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين (من سورة التكوير)
يقولون لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم (من سورة آل عمران)
هو الذي خلقكم من طين ثم قضى أجلا وأجل مسمى عنده ثم أنتم تمترون (من سورة الأنعام)
ولكل أمة أجل فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون (من سورة الأعراف)
ما تسبق من أمة أجلها وما يستأخرون (من سورة المؤمنون)
لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين (من سورة سبأ)
وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب (من سورة فاطر)
إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر لو كنتم تعلمون (من سورة نوح)
ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله ومن يؤمن بالله يهد قلبه (من سورة التغابن)
ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفا (من سورة النساء) (2) فلسفة القرآن - انتشاره في العالم
إذا رجعنا القرآن إلى عقائده الرئيسية أمكننا عد الإسلام صورة مبسطة عن النصرانية، ومع ذلك فإن الإسلام يختلف عن النصرانية في كثير من الأصول، ولا سيما في التوحيد المطلق الذي هو أصل أساسي، وذلك أن الإله الواحد، الذي دعا إليه الإسلام، مهيمن على كل شيء، ولا تحف به الملائكة والقديسون وغيرهم ممن يفرض تقديسهم، وللإسلام وحده أن يباهي بأنه أول دين أدخل التوحيد إلى العالم.
وتشتق سهولة الإسلام العظيمة من التوحيد المحض، وفي هذه السهولة سر قوة الإسلام، والإسلام، وإدراكه سهل، خال مما نراه في الأديان الأخرى ويأباه الذوق السليم، غالبا، من المتناقضات والغوامض، ولا شيء أكثر وضوحا وأقل غموضا من أصول الإسلام القائلة بوجود إله واحد، وبمساواة جميع الناس أمام الله، وببضعة فروض يدخل الجنة من يقوم بها، ويدخل النار من يعرض عنها، وإنك إذا ما اجتمعت بأي مسلم من أية طبقة، رأيته يعرف ما يجب عليه أن يعتقد ويسرد لك أصول الإسلام في بضع كلمات بسهولة، وهو بذلك على عكس النصراني الذي لا يستطيع حديثا عن التثليث والاستحالة وما ماثلهما من الغوامض من غير أن يكون من علماء اللاهوت الواقفين على دقائق الجدل.
وساعد وضوح الإسلام البالغ، وما أمر به من العدل والإحسان كل المساعدة على انتشاره في العالم، ونفسر بهذه المزايا سبب اعتناق كثير من الشعوب النصرانية للإسلام، كالمصريين الذين كانوا نصارى أيام حكم قياصرة القسطنطينية فأصبحوا مسلمين حين عرفوا أصول الإسلام، كما نفسر السبب في عدم تنصر أية أمة بعد أن رضيت بالإسلام دينا، سواء كانت هذه الأمة غالبة أم مغلوبة.
ويجب على من يرغب في الحكم بفائدة كتاب ديني ألا ينظر إلى قواعده الفلسفية الضعيفة على العموم، بل إلى مدى تأثير عقائده، والإسلام إذا ما نظر إليه من هذه الناحية وجد من أشد الأديان تأثيرا في الناس، وهو، مع مماثلته لأكثر الأديان في الأمر بالعدل والإحسان والصلاة ... إلخ، يعلم هذه الأمور بسهولة يستمرئها الجميع، وهو يعرف، فضلا عن ذلك، أن يصب في النفوس إيمانا ثابتا لا تزعزعه الشبهات.
ولا ريب في أن نفوذ الإسلام السياسي والمدني كان عظيما إلى الغاية، فقد كانت بلاد العرب قبل محمد مؤلفة من إمارات مستقلة وقبائل متقاتلة دائما، فلما ظهر محمد ومضى على ظهوره قرن واحد كانت دولة العرب ممتدة من الهند إلى إسپانية، وكانت الحضارة تسطع بنورها الوهاج في جميع المدن التي خفقت راية النبي فوقها.
والإسلام من أكثر الديانات ملاءمة لاكتشافات العلم، ومن أعظمها تهذيبا للنفوس وحملا على العدل والإحسان والتسامح ، والبدهية، وإن فاقت جميع الأديان السامية فلسفة، تراها مضطرة أن تتحول تحولا تاما لتستمرئها الجموع، وهي لا شك، دون الإسلام في شكلها المعدل هذا.
وجرت حضارة العرب، التي أوجدها أتباع محمد، على سنة جميع الحضارات التي ظهرت في الدنيا: نشوء فاعتلاء فهبوط فموت، ومع ما أصاب حضارة العرب من الدثور، كالحضارات التي ظهرت قبلها، لم يمس الزمن دين النبي الذي له من النفوذ ما له في الماضي، والذي لا يزال ذا سلطان كبير على النفوس، مع أن الأديان الأخرى التي هي أقدم منه تخسر كل يوم شيئا من قوتها.
ويدين بالإسلام في الوقت الحاضر أكثر من مائة مليون شخص، واعتنقته جزيرة العرب ومصر وسورية وفلسطين وآسية الصغرى وجزء كبير من الهند وروسية والصين، ثم جميع إفريقية إلى ما تحت خط الاستواء تقريبا.
وتجمع بين مختلف الشعوب التي اتخذت القرآن دستورا لها وحدة اللغة والصلات التي يسفر عنها مجيء الحجيج إلى مكة من جميع بلاد العالم الإسلامي.
وتجب على جميع أتباع محمد تلاوة القرآن باللغة العربية بقدر الإمكان، واللغة العربية هي، لذلك، أكثر لغات العالم انتشارا على ما يحتمل، وعلى ما بين الشعوب الإسلامية من الفروق العنصرية ترى بينها من التضامن الكبير ما يمكن جمعها به تحت علم واحد في أحد الأيام.
وقضى أعداء الإسلام من المؤرخين العجب من سرعة انتشار القرآن العظيمة فعزوها إلى ما زعموه من تحلل محمد وبطشه، ويسهل علينا أن نثبت أن هذه المزاعم لا تقوم على أساس، فنقول: إن من يقرأ القرآن يجد فيه ما في الأديان الأخرى من الصرامة، وإن ما أباحه القرآن من تعدد الزوجات لم يكن غريبا على الشعوب المسلمة التي عرفته قبل ظهور محمد، وإن هذه الشعوب لم تجد نفعا جديدا في القرآن لهذا السبب.
وما قيل من دليل حول تحلل محمد نقضه العلامة الفيلسوف بيل منذ زمن طويل، وقال بيل، بعد أن أثبت أن ما أمر النبي بالتزامه من قيود الصيام وتحريم الخمر ومبادئ الأخلاق هو أشد مما أمر به النصارى :
إن من الضلال، إذن، أن يعزى انتشار الإسلام السريع في أنحاء الدنيا إلى أنه يلقي عن كاهل الإنسان ما شق من التكاليف والأعمال الصالحة، وأنه يبيح له البقاء على سيئ الأخلاق، وقد دون هوتنجر قائمة طويلة بالأخلاق الكريمة والآداب الحميدة عند المسلمين، فأرى، مع القصد في مدح الإسلام، أن هذه القائمة تحتوي أقصى ما يمكن أن يؤمر به إنسان من التحلي بمكارم الأخلاق، والابتعاد عن العيوب والآثام.
شكل 2-3: صوان مصحف قديم في مكتبة الإسكوريال (المتحف الإسباني).
ومما نبه إليه العلامة بيل أن ملاذ الجنة التي وعد بها المسلمون لا تزيد على ما وعد به النصارى في الإنجيل، جاء في الإنجيل: «لم تر عين ولم تسمع أذن ولم يخطر على قلب إنسان ما أعده الله للذين يحبونه.»
وسيرى القارئ، حين نبحث في فتوح العرب وأسباب انتصاراتهم، أن القوة لم تكن عاملا في انتشار القرآن، فقد ترك العرب المغلوبين أحرارا في أديانهم، فإذا حدث أن اعتنق بعض الأقوام النصرانية الإسلام، واتخذوا العربية لغة لهم؛ فذلك لما رأوا من عدل العرب الغالبين ما لم يروا مثله من سادتهم السابقين، ولما كان عليه الإسلام من السهولة التي لم يعرفوها من قبل.
23
وقد أثبت التاريخ أن الأديان لا تفرض بالقوة، فلما قهر النصارى عرب الأندلس فضل هؤلاء القتل والطرد عن آخرهم على ترك الإسلام.
شكل 2-4: آخر صفحة من مصحف قديم في مكتبة الإسكوريال (المتحف الإسپاني).
ولم ينتشر القرآن بالسيف إذن، بل انتشر بالدعوة وحدها، وبالدعوة وحدها اعتنقته الشعوب التي قهرت العرب مؤخرا كالترك والمغول، وبلغ القرآن من الانتشار في الهند، التي لم يكن العرب فيها غير عابري سبيل، ما زاد معه عدد المسلمين على خمسين مليون نفس فيها، ويزيد عدد مسلمي الهند يوما فيوما مع أن الإنكليز، الذين هم سادة الهند في الوقت الحاضر، يجهزون البعثات التبشيرية ويرسلونها تباعا إلى الهند لتنصير مسلميها على غير جدوى.
ولم يكن القرآن أقل انتشارا في الصين التي لم يفتح العرب أي جزء منها قط، وسترى في فصل آخر سرعة الدعوة الإسلامية فيها، ويزيد عدد مسلميها على عشرين مليونا في الوقت الحاضر.
وليس فيما يوصم به الإسلام من الجبرية ما يزيد خطرا على ما رددنا عليه، وليس في آي القرآن التي ذكرناها آنفا من الجبرية ما ليس في كتب الأديان الأخرى كالتوراة مثلا، وهنالك فلاسفة وعلماء لاهوت يعترفون بأن مجرى الحوادث تابع لسنة لا تتبدل، قال المصلح الديني القدير لوثر: «يحتج على اختيار الإنسان وإرادته بنصوص الكتاب المقدس التي لا تحصى، وإن شئت فقل بكل ما ورد في الكتاب المقدس.»
وكتب جميع الأمم الدينية مفعمة بالجبرية التي يسميها القدماء بالقدر، ووضع القدماء القدر، الذي لا راد لحكمه، على رأس كل أمر عادين إياه سلطة مطلقة لا مناص للناس والآلهة من إطاعتها، وحاول إديب، غير جدوى، أن يضرع إلى هاتف الغيب الذي أخبره بأنه سيقتل أباه ويتزوج أمه فلم يستطع ردا لحكم القدر الجبار.
ولم يكن محمد، إذن جبريا أكثر من مؤسسي الأديان الذين ظهروا قبله، ولم يسبق محمد في جبريته علماء الوقت الحاضر الذين أيدوا مع العلامة لاپلاس رأي الفيلسوف ليبنتز في القول: «إنه إذا وجد ذكاء يعرف، لوقت، جميع قوى العالم ومواضع ما فيه من الموجودات، ويستطيع أن يحللها، ويحيط بمحركات أعظم أجرام العالم وأصغر ذراته، فإنه لا يبقى عنده شيء غير معين، ويصبح الماضي والمستقبل حالا في نظره.»
والجبرية الشرقية التي قامت عليها فلسفة العرب، ويستند إليها كثير من مفكري العصر الحاضر هي نوع من التسليم الهادئ الذي يعلم به الإنسان كيف يخضع لحكم القدر من غير تبرم وملاومة، وتسليم مثل هذا هو وليد مزاج أكثر من أن يكون وليد عقيدة، وقد كان العرب جبريين بمزاجهم قبل ظهور محمد، فلم يكن لجبريتهم تأثير في ارتقائهم كما أنها لم تؤد إلى انحطاطهم.
هوامش
الفصل الثالث
فتوح العرب
(1) حال العالم في زمن محمد
كان يتنازع سيادة العالم حين وفاة محمد دولتان عظيمتان: إحداهما: دولة الروم التي كانت عاصمتها القسطنطينية، وكانت صاحبة السلطان على جنوب أوربة والشرق الأدنى وشمال إفريقية الممتد من البحر الأحمر إلى المحيط الأطلنطي، والأخرى: دولة الفرس التي كان سلطانها ممتدا إلى مكان بعيد من آسية، وكان شمال أوربة وغربها فريسة للبرابرة الذين كانت أمورهم فوضى، وكانوا يتقاتلون على أسلاب الرومان وغنائمهم.
وكانت دولة الروم التي نهكتها محارباتها لدولة الفرس، والتي كانت تعاني عوامل الانحلال الكثيرة، في دور الانحطاط، ولم تكن غير هيكل نخر يكفي أقل صدمة لتداعيه.
وكذلك كانت علائم الانقراض بادية على دولة الفرس التي أوهنتها تلك الحروب أيضا.
وأثقل الحكم الروماني كاهل مصر وإفريقية، وكانت القسطنطينية تستغل شعوبها من غير أن تحسن سياستهما، وكانت الاختلافات الدينية ومظالم الحكام تقوض دعائمهما.
ولم تكن أوربة أحسن حالا، فكان الحكم في إسپانية، التي ستصبح مقرا لدولة زاهرة تحت الحكم العربي، بيد القوط المسيحيين الذين لم يستطيعوا أن يتمدنوا، والذين أكلتهم الانقسامات الدينية فاستغاثوا بقيصر الروم، فلم يعتم حلفاؤهم أن صاروا أعداء تجب محاربتهم، وفقدت رومة الإيطالية نفوذها القديم، وأصبح اسم الروماني محتقرا في كل مكان، وصار البرابرة يتناوبون السيطرة عليها.
ولم تكن الفوضى ظاهرة في مكان ظهورها في سورية التي هي أول قطر استولى عليه العرب، وكان هم المدن السورية، التي لم تنلها أيدي التخريب في الحروب الرومية الفارسية الدائمة، والتي لم تزل على شيء من النضارة، مقتصرا على المعاملات التجارية والمجادلات الدينية، ولم تبال بما كان يقع خارج أبوابها، وكانت تهجر أريافها، ولم يكترث أهلوها لشيء من المبادئ القومية، وكانوا مستعدين لتلبية نداء أي فاتح يعد بإطعامهم، وكان الأريستوقراطيون من سلالة فاتحي سورية، الذين أفسدهم توالدهم والأمم الآسيوية، قد انحدروا إلى الحضيض فخسروا قيمتهم ونفوذهم.
شكل 3-1: ثلاث قطع من نقود الخلفاء الأولين (أخذت صور هذه النقود والنقود التي تليها من مجموعة مسيو مارسيل).
ونحن، عندما بحثنا في كتابنا السابق عن مختلف العوامل التي تؤثر في تطور المجتمعات، قلنا: إن المثل الأعلى هو من أهمها، وذكرنا أن عبادة الوطن والمعتقد الديني وحب الاستقلال والمجد والأمة والمدنية ... وغيرها من المثل العليا هي من الخيالات من الناحية الفلسفية، وأن مثل هذه الخيالات هي التي تقود الناس دائما، وأن أمر النظم السياسية والاجتماعية التي وقت البشر حتى الآن قد استقام بفضلها، وأن عظمة الرومان قامت على عبادة رومة على الخصوص، وأن رومة كانت سيدة العالم حين كان الروماني يضحي بنفسه في سبيل زيادة سلطانها.
وكانت الأمم الإغريقية الرومانية والآسيوية، وقت ظهور محمد، قد فقدت مثلها العليا منذ زمن طويل، فلم يبق لحب الوطن، وعبادة الآلهة أثر في نفوس أبنائها، وكانت الأثرة كل ما في قلوب هؤلاء الأبناء، والأثرة إذا كانت دليل قوم عجزوا عن مقاومة قوم آخرين مستعدين للتضحية بأنفسهم في سبيل معتقداتهم.
وقد استطاع محمد أن يبدع مثلا عاليا قويا للشعوب العربية التي لا عهد لها بالمثل العليا، وفي ذلك الإبداع تتجلى عظمة محمد على الخصوص، وذلك المثل الأعلى الجديد هو من الخيالات لا ريب، شأن المثل العليا التي ظهرت قبله، ولكنك لا تجد من الحقائق ما هو قوي قوة هذه الخيالات، ولم يتردد أتباع النبي في التضحية بأنفسهم في سبيل هذا المثل الأعلى طامعين في الجنة التي لا يعدلها شيء من متاع هذه الحياة الدنيا.
ولم يلبث الإسلام أن من على جميع الشعوب التي خضعت لسلطانه مثل ما منت به عظمة رومة على الرومان، فمنح تلك الشعوب مصالح مشتركة، وآمالا مشتركة موجها بذلك جهودها نحو غرض واحد مع أنها كانت ذات مصالح مختلفة قبل ذلك.
شكل 3-2: قطعة من نقود الخليفة الأموي هشام، بدمشق (108ه / 725م).
شكل 3-3: قطعة من نقود الخليفة المهدي (162ه / 779م).
شكل 3-4: قطعة من نقود الخليفة المأمون (218ه / 833م).
وإن وحدة المصالح والمعتقدات، وإن كانت تؤدي إلى تجانس الأمة، لا تعطيها من الوسائل ما تقدر به على الفتح العالمي، ولو كانت أركان العالم متداعية كالدولة الإغريقية الرومانية والدولة الفارسية في زمن ظهور محمد، فقد كانت تانك الدولتان مرهوبتين مع ما كان يبدو من وهنهما، فكان لا بد للأمة التي تريد محاربتهما من أن تكون ذات صفات حربية عظيمة، فضلا عن معتقداتها التي توجه جهودها إلى غرض واحد، ولم يحتج العرب إلى ما يتطلبه مثل هذا العمل الجليل من الشجاعة وحب القتال ما ورثهما العرب أبا عن جد، مضافا ذلك إلى ما نشأ عن إيمان العرب الجديد من حرصهم على الشهادة حبا للجنة التي وعدوا بها.
ولكن العرب كانوا يجهلون فن الحرب جهلا تاما، ولا تقوم الشجاعة مقام هذا الفن، وكان اقتتال العرب فيما بينهم من نوع اقتتال البرابرة الذين ينقضون على أعدائهم بلا نظام، ولا يحارب كل واحد إلا من أجل نفسه، وكان غير هذا أمر الفرس والروم الذين كانت معرفتهم لفن الحرب عظيمة جدا كما ظهر من اشتباكهم الأول بالعرب، ولم يلبث العرب أن علموا من الهزائم التي أصابتهم في سورية ما كان يعوزهم، وأن اقتبسوا من قاهريهم كثيرا من شؤون الحرب، وأخذوا عمن التحق بهم من الرجال الذين اجتذبهم الإيمان الجديد ما كانوا يجهلون من فنون تعبئة الجيش والنظام وأعتدة الحرب، وقد تم استعدادهم في بضع سنين، وقد بهت الروم حين حاصر العرب دمشق، ورأوهم مجهزين بمثل ما كان عندهم من الآلات الحربية الكاملة الجيدة. (2) طبيعة فتوح العرب
لم تقل براعة الخلفاء الأولين السياسية عن براعتهم الحربية التي اكتسبوها على عجل، وذلك أنهم اتصلوا منذ الوقائع الأولى بسكان البلاد المجاورة الأصليين الذين كان يبغي عليهم قاهروهم منذ قرون كثيرة، والذين كانوا مستعدين لأن يستقبلوا بترحاب وحبور أي فاتح يخفف وطأة الحياة عنهم، وكانت الطريق التي يجب على الخلفاء أن يسلكوها واضحة، فعرفوا كيف يحجمون عن حمل أحد بالقوة على ترك دينه، وعرفوا كيف يبتعدون عن إعمال السيف فيمن لم يسلم، وأعلنوا في كل مكان أنهم يحترمون عقائد الشعوب وعرفها وعاداتها، مكتفين بأخذهم، في مقابل حمايتها، جزية زهيدة تقل عما كانت تدفعه إلى سادتها السابقين من الضرائب.
قطعة من نقود ابن طولون (157ه / 870م).
قطعة من نقود الخليفة الرضي (327ه / 933م).
وكان العرب، قبل أن يسعوا إلى فتح بلد، يرسلون رسلا حاملين إليه شروطا للوفاق، وتكاد هذه الشروط تكون مماثلة للشروط التي عرضها عمرو بن العاص على أهالي غزة حين حصاره لها في السنة السابعة عشرة من الهجرة، وللشروط التي عرضت على المصريين وأهل فارس، وتلك الشروط التي عرضها عمرو بن العاص هي - كما رواه المؤرخ العربي - المكين، ما يأتي: «أمرنا صاحبنا أن نقاتلكم إلى أن تكونوا في ديننا فتكونوا إخوتنا، ويلزمكم ما يلزمنا فلا نتعرض إليكم، فإن أبيتم أعطيتم الجزية في كل عام أبدا ما بقينا وبقيتم، ونقاتل عنكم من ناوأكم إن تعرض إليكم في وجه من الوجوه، ويكون لكم عهد علينا، فإن أبيتم فليس بيننا وبينكم إلا السيف فنقاتلكم حتى تفيئوا إلى أمر الله.»
شكل 3-5: قطعتان من نقود الخليفة الفاطمي المستنصر (442 و465ه/1050 و1072م).
ويثبت لنا سلوك أمير المؤمنين عمر بن الخطاب في مدينة القدس مقدار الرفق العظيم الذي كان يعامل به العرب الفاتحون الأمم المغلوبة، والذي ناقضه ما اقترفه الصليبيون في القدس بعد بضعة قرون مناقضة تامة، فلم يرد عمر أن يدخل مدينة القدس معه غير عدد قليل من أصحابه، وطلب من البطرك صفرونيوس أن يرافقه في زيارته لجميع الأماكن المقدسة، وأعطى الأهلين الأمان، وقطع لهم عهدا باحترام كنائسهم وأموالهم، وبتحريم العبادة على المسلمين في بيعهم.
1
شكل 3-6: قطعة من نقود صلاح الدين ضربت بدمشق سنة 583ه / 1187م وعلى أحد وجهيها اسم الخليفة العباسي ببغداد.
ولم يكن سلوك عمرو بن العاص بمصر أقل رفقا من ذلك فقد عرض على المصريين حرية دينية تامة، وعدلا مطلقا واحتراما للأموال وجزية سنوية ثابتة لا تزيد على خمسة عشر فرنكا عن كل رأس بدلا من ضرائب قياصرة الروم الباهظة، فرضي المصريون طائعين شاكرين بهذه الشروط دافعين للجزية سلفا، وقد بالغ العرب في الوقوف عند حد هذه الشروط، والتقيد بها؛ فأحبهم المصريون الذين ذاقوا الأمرين من ظلم عمال قياصرة القسطنطينية النصارى، وأقبلوا على اعتناق دين العرب ولغتهم أيما إقبال.
ونتائج مثل هذه لا تنال بالقوة كما قلت غير مرة، ولم يظفر بمثلها من ملك مصر من الفاتحين قبل العرب.
وللفتوح العربية طابع خاص لا تجد مثله لدى الفاتحين الذين جاءوا بعد العرب، وبيان ذلك أن البرابرة الذين استولوا على العالم الروماني والترك وغيرهم، وإن استطاعوا أن يقيموا دولا عظيمة، لم يؤسسوا حضارة، وكانت غاية جهودهم أن يستفيدوا بمشقة من حضارة الأمم التي قهروها، وعكس ذلك أمر العرب الذين أنشأوا بسرعة حضارة جديدة كثيرة الاختلاف عن الحضارات التي ظهرت قبلها، والذين تمكنوا من اجتذاب أمم كثيرة إلى دينهم ولغتهم فضلا عن حضارتهم الجديدة، واتصلت بالعرب أمم قديمة، كشعوب مصر والهنود، واعتنقت معتقدات العرب وعاداتهم وطبائعهم وفن عمارتهم، واستولت بعد ذلك الدور أمم كثيرة على الأقطار التي فتحها العرب فظل نفوذ العرب فيها ثابتا، ويلوح لنا رسوخ هذا النفوذ إلى الأبد في جميع البقاع الآسيوية والإفريقية التي دخلوها، والتي تمتد من مراكش إلى الهند، والإسپان وحدهم هم الذين استطاعوا أن يتخلصوا من الحضارة العربية، ولكنهم لم يصنعوا هذا إلا ليقعوا في الانحطاط العضال كما يأتي بيانه. (3) خلفاء محمد الأولون
لم يكن عمل محمد حين وفاته في سنة 632م في غير دور التكوين، وكانت ضروب الأخطار تنذر بزواله إلى الأبد، وكانت وحدة بلاد العرب السياسية التي تمت على يده نتيجة الوحدة الدينية التي أنشأها، وكان من الممكن أن تنقضي هذه الوحدة الدينية بانقضاء موجدها.
أجل، استطاع العرب أن يدينوا لرسول من الله، ولكن لم يدل شيء على وجوب نصب خليفة بعده، وهنالك قبائل كثيرة، ضحت بحريتها ونزعت ما فيها من حقد على أي سلطان إجابة لدعوة رسول الله، لم تر أن تخضع لحكم خلفاء لم يحدث عنهم حتى يدعوا ممارسة مثل سلطانه.
شكل 3-7: قطعة أخرى من نقود صلاح الدين.
وكانت هنالك أخطار أخرى أعظم من تلك تهدد بخنق عمل محمد في مهده، فقد ظهر متهوسون كثيرون هزهم ما نال محمد من التوفيق، ورأوا أن يدعوا النبوة أيضا، فاستطاع أحدهم أي يجعل سكان نصف اليمن من أتباعه، ولولا قتل بعض المؤمنين إياه لخسر الإسلام أحسن ولاياته، واقتصر متهوس آخر على إضافة بعض السور إلى القرآن، وبلغ من النفوذ، لزمن معين، ما يقرب من نفوذ الخلفاء الأولين.
إذن، كانت أمام دين محمد عوائق كثيرة اقتحمت بفضل عبقرية أصحابه الذين اختاروا خلفاء لم يفكروا في غير تنفيذ شريعة القرآن واحترامها، ولم يطعهم العرب في الظاهر، بل أطاعوا شريعة ذات مصدر إلهي لم يجادلوا فيه.
شكل 3-8: قطعتان من نقود الملك الكامل ضربتا في أوائل القرن الثالث عشر من الميلاد، وعلى أحد وجهيها اسم الخليفة العباسي ببغداد.
وكان الخلفاء الأولون، وهم أبو بكر (632م-534م) وعمر (634م-644م) وعثمان (644م-655م) وعلي (655م-660م)، من صحابة محمد، وقد اقتدى هؤلاء الخلفاء بمحمد في زهده وبسيط عاداته، فلم يترك أبو بكر حين وفاته غير ثوبه الذي كان يلبسه، وبعيره الذي كان يركبه، ومولاه الذي كان يخدمه، ولم يأخذ من بيت المال في حياته سوى خمسة دراهم مياومة ليعيش بها، وكان عمر يلبس ثوبا مرقعا، وينام على درج المسجد بين المساكين مع اقتسامه هو وجنوده مغانم كثيرة.
شكل 3-9: قطعة من نقود السلطان بيبرس.
ولم ينتقل العرب من النظام الديمقراطي إلى النظام الملكي إلا بالتدريج، وكانت المساواة تامة في عهد الخلفاء الأولين، وكانت الشريعة للجميع على السواء، فمثل علي بين يدي القاضي لمقاضاة من اعتقد أنه سارق سلاحه، وأتى ملك غسان وقومه الذين اعتنقوا الإسلام مكة للاجتماع بعمر، ولطم عربيا وطئ إزاره واشتكى العربي إلى عمر، ورأى عمر العمل بما تأمر به الشريعة من إقامة الحد، فقال الملك: «كيف ذلك يا أمير المؤمنين، وأنا ملك وهو سوقة؟» فقال عمر: «إن الإسلام جمعكما، وسوى بين الملك والسوقة في الحد.»
شكل 3-10: تسع قطع من نقود عرب الأندلس (متحف العاديات الإسپاني).
ولم يدم ذلك العدل زمنا طويلا، فقد صار الخلفاء ملوكا مستبدين، وإنما بقي العرب متساوين أمام القرآن حتى الزمن الحاضر.
شكل 3-11: شعار الموحدين العربي (متحف العاديات الإسپاني).
وأبو بكر هو خليفة النبي الأول، وكان محمد قد أمره، ذات مرة، أن يقوم مقامه في الصلاة فكان هذا عاملا في انتخابه خليفة، وصار الانتخاب عامل شقاق، وأخذ هذا الشقاق يحدث عند نصب الخلفاء، وروى مؤرخو العرب أن أول خطبة لأبي بكر، بعد مبايعته بالخلافة، كانت ما يأتي:
أيها الناس، قد وليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني وإن أسأت فقوموني، الصدق أمانة، والكذب خيانة، والضعيف فيكم قوي عندي حتى أريح عليه حقه إن شاء الله، والقوي منكم ضعيف عندي حتى آخذ الحق منه إن شاء الله ... أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم ...
شكل 3-12: مفاتيح عربية لبعض المدن والقصور (متحف العاديات الإسپاني).
وكان أبو بكر مضطرا إلى مقاومة الطامعين في الخلافة، وإلى محاربة القبائل التي امتنعت عن أداء ما فرض القرآن من الزكاة، ولم يلبث أبو بكر أن رأى أن أحسن وسيلة لمعالجة انقسام العرب هو أن يوجه العرب إلى البلاد الأخرى كيما يمارسون عاداتهم في الحرب والقتال، وسار الخلفاء الذين أتوا بعده على هذه السياسة الرشيدة التي انتشر بها الإسلام.
وأخذ العرب يتقاتلون بعد أن خلا العالم من بلد يفتحونه، وحلت ساعة تفرق كلمتهم، ودخلوا دور الانحطاط، وقوضوا كيانهم بسلاحهم أكثر مما قوض بسلاح الأمم التي خضعت لسلطانهم.
وبدأت الفتوحات الكبيرة في زمن الخليفة الثاني عمر بن الخطاب فقط، أجل، إن العرب نالوا عدة انتصارات في سورية في خلافة أبي بكر، ولكن مهارتهم الحربية كانت ضعيفة مع شجاعتهم العظيمة - كما قلنا - فكان يتخلل تلك الانتصارات نوازل إلى أن حذقوا صنع السلاح كأعدائهم.
وكان عمر بن الخطاب قائدا بارعا وسياسيا ماهرا، وكان عنوان العدل والإنصاف، وقد روى مؤرخو العرب أنه علا المنبر بالمدينة حينما أفضت إليه الخلافة وقال: «يا أيها الناس، والله ما فيكم أحد أقوى عندي من الضعيف حتى آخذ الحق له، ولا أضعف عندي من القوي حتى آخذ الحق منه.»
والحق أن الدولة العربية العظمى بدأت في خلافة عمر بن الخطاب، وأما القيصر هرقل الذي أكره على مغادرة سورية والالتجاء إلى عاصمته القسطنطينية فقد أدرك أن العالم سيكون له سادة جدد. (4) خلاصة تاريخ العرب
نلخص فيما يأتي تاريخ وقائع العرب الحربية المهمة في القرون الثمانية التي دامت فيها حضارتهم:
القرن الأول من الهجرة:
كانت فتوحات خلفاء محمد الأولى في بلاد العراق الخاضعة لدولة الفرس، وفي بلاد سورية الخاضعة لقيصر القسطنطينية هرقل، وكان بدء فتح هذين القطرين في زمن الخليفة الأول الذي لم يلبث أن توفي فواصله عمر الذي دخل القدس بنفسه فخسر الروم، في سبع سنين، بلاد سورية التي ظلوا حاكمين لها سبعمائة سنة.
ودوخ جنود عمر بلاد العراق وفارس من فورهم، أي كفى لثلهم عرش بني ساسان وهدمهم الدولة الفارسية العريقة في القدم حروب شهرين.
ونالت كتائب عمر، التي كان يقودها المجاهد الشاعر عمرو بن العاص، في الغرب انتصارات سريعة، واستولت على بلاد مصر والنوبة، وكانت الدولة العربية التي ولدت منذ عشرين سنة على جانب كبير من الاتساع حين وفاة عمر في سنة 644م.
وداوم الخليفة الثالث عثمان، الذي بلغ الثمانين من عمره، على الفتوح، وأتم قواده فتح بلاد فارس، ووصلت جيوشه إلى بلاد القفقاس، وأخذت ترتاد الهند.
شكل 3-13: دبوس أمير عربي في مصر على الطراز الفارسي العربي (هذا السلاح والسلاح الآتي من تصوير پريس الأڨيني).
وكان الخليفة الرابع علي، وهو صهر النبي (655م)، هدفا للدسائس التي كادت الدولة العربية تنهار بسببها، وقتل علي بعد خلافة دامت خمس سنين، فختم بوفاته دور الخلفاء الأولين الذين كانوا من أصحاب محمد السابقين المعدودين آباء الإسلام.
وفتح دور خلفاء بني أمية بمعاوية (660م)، ونقل هؤلاء مقر الخلافة إلى دمشق، وصاروا يسيرون على نمط ملوك آسية.
وأرسل الخليفة الجديد كتائب إلى شمال إفريقية الذي جعل منه حكومة منفصلة، ولم يعق زحفها غير المحيط الأطلنطي، وجاب البحر المتوسط أسطول مؤلف من 1200 قطعة، فاستولى على جزره وأغار على صقلية.
وحوصرت القسطنطينية سبع سنين على غير جدوى، وعبر نهر جيحون، ورفع قواد الخليفة رايته حتى سمرقند.
ومات معاوية (680م) بعد حكم دام عشرين سنة.
وثابر بنو أمية على الفتح، وبلغت جيوشهم حدود الصين من الشرق والمحيط الأطلنطي من الغرب، وجاوز العرب مضيق جبل طارق في سنة 712م، ودخلوا إسپانية، ووفقوا لنزعها من مملكة القوط النصرانية، وأقاموا فيها مملكة خضعت لسلطان العرب نحو ثمانية قرون.
ولم ينقض القرن الأول من الهجرة حتى كانت راية النبي تخفق من الهند إلى المحيط الأطلنطي، ومن القفقاس إلى الخليج الفارسي، وغدت إسپانية، التي هي إحدى الممالك النصرانية الكبرى في أوربة، خاضعة لشريعة محمد.
القرن الثاني من الهجرة:
اتسع نطاق الفتوح العربية قليلا في القرن الثاني من الهجرة، وأصبح هم العرب مصروفا إلى تنظيم دولتهم العظمى على الخصوص، وتوغلت جيوشهم في بلاد الغول حتى اللوار حيث دحرها شارل مارتل، واستقروا بجنوب فرنسة إلى أن طردهم شارلمان منه نهائيا.
ونقل، في القرن الثاني من الهجرة، مقر الخلافة من دمشق إلى بغداد التي أنشأها المنصور في سنة 762م، بعد أن تمت الخلافة فيه لبني العباس (عم النبي) الذين هدموا دولة الأمويين في سنة 752م، وقتلوهم خلا طريد منهم استطاع أن يفر اتفاقا، وأن يقيم دولة مستقلة في إسپانية سنة 756م.
واتسعت رقعة الدولة العربية منذ أوائل القرن الثاني من الهجرة، وبلغت من الحدود ما لم تقدر على مجاوزته باسطة حكمها من جبال البرنات وجبل طارق إلى الهند، ومن شواطئ البحر المتوسط إلى رمال الصحراء.
شكل 3-14: خنجر أمير عربي في مصر.
وصار معظم آسية خاضعا لسلطان الخلفاء الممتد من جزيرة العرب إلى التركستان، ومن وادي كشمير إلى جبال طوروس، وعبدت بلاد فارس، وصار ملوك كابل وجميع أمراء وادي السند يعطون الجزية، وأضحى العرب في أوربة مالكين لإسپانية ولجزر البحر المتوسط، وأضحوا في إفريقية مالكين لشمالها ولمصر.
وانتهى دور الفتوح، وبدأ دور التنظيم، وحول الفاتحون نشاطهم إلى ميدان الحضارة، وكان عهد بني العباس الأولين عهد ازدهار لحضارة العرب في الشرق، وكان عهدا اقتبس العرب فيه ثقافة اليونان، فلم يعتموا أن أبدعوا حضارة ساطعة ازدهرت فيها الآداب والعلوم والفنون.
ونهضت الفنون والعلوم والصناعة والتجارة بسرعة في زمن هارون الرشيد (786-809) على الخصوص، وصار الشعراء والعلماء وأرباب الفن يشيدون بذكر بطل ألف ليلة وليلة في أقاصي العالم، وأعطته القسطنطينية جزية، وأرسل إليه إمبراطور الغرب، شارلمان ، وفدا، ولم يقل عصر المأمون عن عصر سلفه الرشيد نضارة.
ولم تكن الروابط بين الأمم التي اجتمعت تحت راية الدولة العربية العظمى متينة، ولم تلبث هذه الروابط أن انحلت، ولم تلبث هذه الأمم أن أخذت تستقل تباعا مع دوام الحضارة على سيرها زمنا طويلا، وسيكون القرن الثالث من الهجرة شاهدا على هذا الانقسام الذي أخذ يبدو منذ أواخر القرن الثاني.
القرن الثالث من الهجرة:
كان قيام خلافة قرطبة في الغرب قبل ذلك نذير انقسام دولة العرب، فظهرت في بلاد فارس والهند بشرق بغداد إمارات كثيرة، ولم تنشب هذه العاصمة أن أحاط بها أمراء مستقلون.
ويشتري ابن طولون استقلاله السياسي بمصر، ويقيم فيها مملكة، ويلقى حبل إفريقية على غاربها، ويملك إسپانية خلفاء مستقلون استقلالا تاما.
القرن الرابع من الهجرة:
استمرت الدولة العربية على الانقسام في القرن الرابع من الهجرة، وقامت دول مستقلة في كثير من ولاياتها، وخسرت بغداد ما للعواصم من المزايا، وصارت القاهرة قاعدة الإسلام الحقيقية، وأصبحت إسپانية أنضر مقر للحضارة العربية مع دوام عاصمة الخلفاء القديمة على إلقاء أشعتها الساطعة، ويقصد طالبو العلم من جميع أقطار الأرض، ومنها أوربة النصرانية، جامعات العرب الكبيرة في طليطلة وغرناطة وقرطبة.
شكل 3-15: حربة أمير عربي في مصر.
القرن الخامس من الهجرة:
شهد القرن الخامس من الهجرة أمرين مهمين؛ وهما: الحروب الصليبية، وظهور الأتراك السلجوقيين في العالم العربي، وكان قد جيء بهؤلاء السلجوقيين البرابرة من التركستان كأسرى حرب في بدء الأمر، ثم تألف منهم حرس الخلفاء ببغداد، فابتلعوا السلطة الحقيقية شيئا فشيئا غير تاركين للخلفاء من السلطة سوى المظاهر.
شكل 3-16: فأسا أمير عربي في مصر.
وجعل السلجوقيون مقرهم أمام القسطنطينية بعد أن ملكوا جميع الولايات المجاورة لبغداد، واستولوا على سورية، وأحلوا تعصبهم محل تسامح العرب، ونهوا النصارى عن القيام بشعائر دينهم، وجاروا على حجيجهم، فاضطربت أوربة وثارت، بعد أن كانت تخشى تقدم المسلمين منذ زمن طويل.
ونشأ عن مواعظ بطرس الراهب ودعوة البابا أوربان الثاني أن جرد الأوربيون حملتهم الصليبية الأولى في سنة 1095م وانقضوا على فلسطين، واستولوا عليها، وأنشأ غودفروا البويوني مملكة القدس النصرانية الهزيلة.
ومما حدث في القرن الخامس من الهجرة أن طرد العرب من صقلية، وأن حالف نصارى إسپانية بعض التوفيق، فاستولى الأذفونش القشتالي على طليطلة، فكان هذا بداءة الفتح الذي لم يتم إلا بعد جهود أربعة قرون.
القرن السادس من الهجرة:
أدى انتصار النصارى الأول في الشرق إلى زيادة الحماسة في أوربة، فجردت أوربة حملة صليبية ثانية على الإسلام في سنة 1147م، فكانت نتيجة هذه الحملة وبالا على الصليبيين كأية حملة جردتها أوربة بعدئذ على العالم الإسلامي، فقد استولى سلطان مصر الشهير صلاح الدين الأيوبي على بلاد فلسطين، وطرد منها النصارى، وبقي سيد المدينة المقدمة على الرغم من الحملة الصليبية الثالثة التي جردتها أوربة في سنة 1189م بقيادة فردريك بار باروس وفليب أوغست وقلب الأسد: ريكاردس.
القرن السابع من الهجرة:
جرد الأوربيون على الإسلام عدة حملات صليبية كان نصيبها الحبوط الذريع، واكتسح الصليبيون في حملتهم الرابعة التي جردوها في سنة 1202م مدينة القسطنطينية المسيحية بدلا من مقاتلة المسلمين، وأقاموا فيها دولة لاتينية شرقية لم يكتب لها البقاء أكثر مما كتب لدولة القدس، ولم تكن الحملات الصليبية الأربع الأخيرة أوفر حظا مما تقدمها، وأسر الملك سان لويس في الحملة السابعة، وافتدى نفسه بفدية عظيمة، ومات هذا الملك في الحملة الثامنة بالطاعون حين اقترب من أسوار تونس طامعا في تنصير أميرها.
شكل 3-17: خوذة أمير عربي في مصر (على الطراز الفارسي العربي).
وكانت هذه الحملة الثامنة آخر الحملات الصليبية، وأدرك العالم النصراني بها أنه لا يزال عاجزا عن قهر المسلمين، وعدل عن فتح فلسطين، وظلت الراية الإسلامية تخفق فوقها حتى الآن.
وبينما كان العرب يدفعون نصارى الغرب في أثناء الحروب الصليبية، ويخرجون منها ظافرين - ظهر في الشرق الأقصى عدو مخيف، فقد قذفت نجود التتر تيار المغول الذي انقض على آسية بقيادة جنكيزخان، واكتسح بلاد الصين وفارس والهند، ثم استولى المغول على بغداد في سنة 1258م، وقضوا على العباسيين الذين كان لهم السلطان منذ خمسمائة سنة.
وعلى ما بين الترك والمغول من شبه في الهمجية كان المغول أكثر استعدادا للثقافة، فالمغول وإن لم يكونوا أهلا لإبداع حضارة جديدة كما أبدع العرب، استطاعوا أن ينتفعوا بحضارة العرب الذين، وإن زال ملكهم في الشرق، ظلت حضارتهم تهيمن عليه.
وانحصر سلطان العرب في مصر وإسپانية بعد أن تكمش أمام أولئك الفاتحين.
القرن الثامن من الهجرة:
كان القرن الثامن من الهجرة حافلا باقتتال الترك والمغول على ميراث العرب في الشرق، وقد دقت ساعة انحطاط هؤلاء الآخرين.
القرن التاسع من الهجرة:
قضي على دولة العرب وحضارتها في إسپانية التي ملكوها نحو ثمانمائة سنة، وذلك أن فردياند استولى على عاصمة العرب الأخيرة غرناطة في سنة 1492م، وأنه أخذ يمعن في قتلهم وتشريدهم جماعات جماعات، وأن خلفاءه ساروا على سنته، وأنه قتل من العرب وشرد ثلاثة ملايين نفس، فخبت إلى الأبد شعلة حضارة العرب التي كانت تنير أوربة منذ ثمانية قرون.
وكانت خاتمة دولة العرب في القرن التاسع من الهجرة، ولم يبق للعرب في الشرق من الشأن الكبير في غير دينهم ولغتهم وحضارتهم، وحاولت الأمم التي قهرت العرب أن تسير على نحو العرب كما صنع البرابرة الذين قهروا الرومان، فأحلت الهلال باسم القرآن محل الصليب في القسطنطينية التي كانت عاصمة الروم، فارتعدت فرائص العالم النصراني فرقا من ذلك.
ولكن الترك، وإن كانوا أهل حرب وقتال، لم يكونوا أهلا ليصعدوا في سلم الحضارة، ولم يقدروا على الانتفاع بتراث العرب المغلوبين الثقافي، فضلا عن إنمائه، ويقول العرب: «لا ينبت العشب على أرض يطأها الترك»، والحق أنه لم ينبت، فسترى في فصل آخر دركة الانحطاط التي هبطت إليها دولة العرب القديمة بسرعة بين أيدي سادتها الجدد.
هوامش
الباب الثالث
دولة العرب
الفصل الأول
العرب في سورية
(1) اختلاف البيئات التي لاقاها العرب
وقفنا هذا الفصل وما يليه في فصول هذا الباب على البحث في شأن العرب في مختلف البلدان التي استولوا عليها، وغايتنا من ذلك بيان حضارة العرب بيانا مجملا، وإيضاح تأثيرهم في الأمم التي عاشروها، وتأثير هذه الأمم فيهم، ونرى أن نقدر حضارة العرب بالبحث في آثارهم في كل بلد افتتحوه، فإذا تيسر لنا ذلك أمكننا أن ندرس، في فصول هذا الكتاب، مختلف العناصر التي تتألف من مجموعها حضارة العرب.
كانت أمم البلاد التي استولى العرب عليها في آسية وإفريقية وأوربة وأقاموا عليها دولتهم العظمى متباينة أشد التباين حين الفتح العربي، فأنت، إذ كنت ترى بينها أمما من أنصاف البرابرة، كالتي في بعض أجزاء إفريقية، كنت ترى منها أمما بلغت الذروة من الحضارة اليونانية والحضارة اللاتينية كالتي في سورية.
إذن، كانت الأحوال التي صاقبت العرب مختلفة باختلاف الأماكن، وكان من الحق أن يجد الإنسان تفاوتا في درجات حضارتهم تبعا لتفاوت البيئات.
ذلك ما يتجلى لنا في تاريخ حضارة العرب كلما توغلنا في تفصيلاته، وتشتمل حضارة العرب التي دامت ثمانية قرون على درجات كثيرة خلافا لما ذهب إليه المؤرخون الذين تعودوا، حين البحث في حضارة العرب، أن ينظروا إليها من خلال أمة واحدة ودور واحد، وكان للعمارة والآداب والعلوم والفلسفة والدين درجات تطور مختلفة باختلاف الأقطار التي خضعت لسلطان العرب، ولم يمنع ذلك من أن يكون للعرب تراث مشترك من الناحية الدينية والناحية اللغوية ما دام الإسلام دينهم والعربية لغتهم، ولكن وحدة اللغة والدين لا تعني وحدة حضارة العرب في مختلف البلدان التي خضعت لشريعة محمد، كما أنك لا تستطيع أن تخلط حضارة الأمم النصرانية في القرون الوسطى بحضارتهم في عصر النهضة أو في الوقت الحاضر. (2) استقرار العرب بسورية
كان البلد الغني، سورية، قد أصبح رومانيا قبل الفتح العربي بنحو سبعة قرون، ويوجد ارتباك وغموض في أخبار المعارك الأولى التي أدت إلى فتح العرب لسورية، فأما مؤرخو العرب، وعلى رأسهم الواقدي الذي يرجع إليه على العموم، فإنهم مزجوا الحقائق بالخيال، فحط ذلك من قيمة قصصهم، فأنت إذا أنعمت النظر في روايات الواقدي رأيته يذكر، حين بحثه في وقائع العرب الحربية، بأبطال أوميرث مع رفع لقيمة المرأة في تلك الوقائع، وأما مؤرخو الروم فقد التزموا جانب الصمت عن فتح سورية الذي كان كله عارا على دولة بزنطة القوية.
شكل 1-1: أسوار دمشق (من صورة فوتوغرافية).
ومهما تكن دقائق الفتح العربي لسورية فإن سورية خضعت لحكم العرب بعد حرب سجال بين العرب والروم.
وفتح دمشق من أهم فتوح العرب في سورية، ولم تلبث دمشق الشهيرة أن أصبحت في العهد الأموي عاصمة الدولة العربية بدلا من المدينة.
وتم فتح دمشق يوم وفاة الخليفة الأول أبي بكر في السنة الثالثة عشرة من الهجرة (634م)، وصرخ هرقل حين أتاه خبر سقوط دمشق قائلا: «وداعا يا سورية!»
حقا لقد خسر الروم سورية، فقد استولى العرب بعد معركة اليرموك الشهيرة، التي دامت ثلاثة أيام وانتهت بانتصار العرب، على جميع مدن سورية، وفتحوا عنوة تدمر وبعلبك وأنطاكية وطبرية ونابلس والقدس وطرابلس وغيرها، وأكره القيصر على مغادرة سورية إلى الأبد بعد أن ملكها أسلافه منذ سبعة قرون.
وكان لفتح القدس دوي عظيم بين المدن التي استولى عليها المسلمون، وكان المسلمون يعلقون أهمية كبيرة على فتح هذه المدينة التي كانوا يقدسونها تقديس النصارى لها، ففيها توفي المسيح الذي هو عند المسلمين من أعاظم الأنبياء، وفيها الصخرة الشهيرة التي عرج منها محمد في السماء.
هجم العرب على القدس بشدة كالتي أبديت للذب عنها، وحث البطرك صفرونيوس الحماة النصارى على الدفاع عن قبر الرب فلم يجد ذلك نفعا تجاه القدر الذي قضى بأن تحل راية الإسلام محل الصليب فوق قبر يسوع، ورأى صفرونيوس أن يذعن بعد حصار دام أربعة أشهر، واشترط أن يتسلم الخليفة عمر القدس بنفسه فقبل ذلك، فركب عمر بعيرا، وغادر المدينة وحده تقريبا، ولم يأخذ معه من الزاد سوى قربة ماء وجراب شعير وأرز وتمر، وأغذ عمر في السير ليل نهار؛ ليصل إلى القدس في وقت قصير، فلما دخل القدس أبدى من التسامح العظيم نحو أهلها ما أمنوا به على دينهم وأموالهم وعاداتهم، ولم يفرض سوى جزية زهيدة عليهم.
وأبدى العرب تسامحا مثل هذا تجاه المدن السورية الأخرى كلها، ولم يلبث جميع سكانها أن رضوا بسيادة العرب، واعتنق أكثر أولئك السكان الإسلام بدلا من النصرانية، وأقبلوا على تعلم اللغة العربية، وظلت سورية بلدا عربيا إسلاميا كما كانت في أوائل الفتح العربي مع تداول كثير من الفاتحين لسيادتها بعد ذلك.
ولما توالت هزائم الروم في سورية استحوذ عليهم خوف عظيم من العرب الذين أمعنوا في ازدرائهم.
ومن الأدلة على ذلك الكتاب الآتي الذي أرسله عمر بن الخطاب إلى هرقل يطالبه فيه بإطلاق قائد عربي أسره الروم في إحدى الوقائع:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله، من عبد الله عمر بن الخطاب إلى هرقل ملك الروم، أطلقوا الأسير المسلم، عبد الله بن حذافة، حين وصول كتابي هذا إليكم، فإن فعلتم ذلك رجوت من الله أن يهديكم الصراط المستقيم، وإن لم تفعلوا فإنني أبعث إليكم رجالا لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن الجهاد في سبيل الله، والسلام على من اتبع الهدى.
ولم يكن القيصر هرقل ليغضب من هذا الكتاب الشديد، فقد أطلق الأسير مصحوبا بهدية ثمينة إلى الخليفة، وهرقل هذا هو وارث عرش القياصرة الجبارين الذين دوخوا العالم، فخلف من بعدهم خلف فقدوا المشاعر التي كان فيها سر عظمتهم.
وعاد عمر إلى المدينة بعد أن تم فتح سورية، ونظم شؤون الدولة الفتية موصيا قواده بتوسيع رقعتها، ووزع عمر الغنائم العظيمة التي أخذها المسلمون من الروم والفرس على أصحابه، وجعل لهم، على حسب قدم خدمهم، رواتب سنوية تترجح بين ألف درهم وخمسة آلاف درهم. (3) حضارة سورية أيام سلطان العرب
استردت سورية أيام الحكم العربي ما أضاعته من الرخاء منذ زمن طويل، وبلغت درجة رفيعة من الرقي في العهد الأموي والصدر الأول من العهد العباسي، وكان العدل بين الرعية دستور العرب السياسي، وترك العرب الناس أحرارا في أمور دينهم، وأظل العرب أساقفة الروم ومطارنة اللاتين بحمايتهم، فنال هؤلاء ما لم يعرفوه سابقا من الدعة والطمأنينة، وبلغت الصناعة والزراعة درجة رفيعة في سورية، وازدهرت بسرعة كبريات المدن السورية كالقدس وصور وصيدا ودمشق.
شكل 1-2: حي الميدان بدمشق (من صورة فوتوغرافية التقطها المؤلف).
وكانت سورية من أغنى أقطار العالم دائما ما لم تنلها أيدي التخريب، فهي ذات أرض كانت تنبت البر والقطن والشعير والأرز والتوت والزيتون والليمون والبرتقال من غير عناء، وكانت جبال لبنان مستورة بأعز الأشجار، كشجر البلوط والدلب
1
والجميز ... إلخ، ولولا الإنسان لكان هذا البلد القديم جنة الأرض، واستحق تسمية العبريين له بأرض الميعاد، ذلك البلد العجيب الذي وصف شعراء العرب كل جبل فيه بأنه يحمل الشتاء على رأسه، والربيع على كتفيه، والخريف على صدره على حين يرقد الصيف متثاقلا على قدميه.
شكل 1-3: شارع في دمشق (من صورة فوتوغرافية).
ويستدل على حضارة سورية أيام سلطان العرب بما رواه الكتاب، وبما لا يزال قائما فيها من المباني.
وروى المؤرخون أن سورية لم تلبث أن ازدهرت بعد أن فتحها العرب، فقد جد العرب في دراسة كتب اليونان والرومان مثلما جدوا في ميادين القتال، وأنشأوا المدارس في كل مكان، وصاروا أساتيذ من فورهم بعد أن كانوا تلاميذ، وأنهضوا العلوم والشعر والفنون الجميلة أيما إنهاض.
ودام رخاء سورية حتى دور الانقسام الذي زلزل دولة الخلافة، وأخذ ينقص، ولم يتم زواله إلا حين غدت سورية تابعة لدولة الترك، فصرت لا ترى فيها شيئا مما كان في أيام الحكم العربي من النفائس والفنون والصناعة، وأصبحت المدن الكبيرة القديمة، كصيدا وصور، قرى حقيرة، وتعرت الجبال تماما، وهجر الناس الحقول الغنية بعد ازدهارها فيما مضى، وأضحت هذه الأماكن الخصبة لا تنبت عشبا ما ثقلت عليها وطأة الترك، قال مسيو داڨيد في تاريخه عن سورية:
كأن من العبث أن أدت حضارة الخلفاء في قرنين، كما أدى الأغارقة والرومان، إلى إنشاء المباني الرائعة، وصنع النفائس الفاخرة، ونشر اللغة الراقية، ووضع طرائف نحوها المنطقية، وقول أشعارها البليغة، وكأن من العبث أن سقت دمشق الفولاذ، وغزلت حلب الحرير اللامع، وكأن من العبث أن ازينت ربا حوران وهضابها بالزرع وأشجار الفاكهة الذهبية، وأن أبدى أهلوها نشاطا فائقا، فقد حرق، عن عمد، أجلاف القفقاس، الذين بزوا جميع قدماء الفاتحين جهلا وقسوة وطمعا، آثار الفن والعلوم، وهدموا المصانع، وقتلوا العمال، وسحقوا كل شيء لم يستطيعوا نقله.
وعادت سورية لا تكون غير بلاد جديبة خربة في الوقت الحاضر، واستوقفت ندرة نباتها نظري حين طفت فيها، ولاح لي أنها بلغت من الفقر ما لا تأتي معه بغير كلأ قليل، ومررت من الطريق الواقعة بين بيروت ودمشق فلم أجد أثرا للنبات في غير ما قرب من أبواب المدن، وعاد لبنان وما وراء لبنان لا يكونان سوى صخور عارية، وليس الجدب في أبواب القدس أقل من ذلك، ولا ترى في كل مكان سوى الحجارة والصخور، ولا تجد شيئا من الكلأ.
2 (4) المباني التي تركها العرب في سورية
لم تكن المباني التي تركها العرب في سورية كثيرة، وإنما يفيد درسها كثيرا لقدمها وروعتها.
شكل 1-4: ساحة المسجد الكبير في دمشق (من صورة فوتوغرافية).
ذكرنا آنفا أنه كان للعرب مدن مهمة قبل ظهور محمد، وأنه كان في الكعبة الشهيرة أكثر من ثلاثمائة صنم، وإننا نجهل، مع الأسف، كيف كان فن العمارة العربية قبل الإسلام، وأن ما حدث في الحرم المكي، وهو البناء العربي القديم الوحيد المعروف، من الترميم المتصل يجعل وصف ما كان عليه أيام الجاهلية أمرا صعبا، وكل ما نتصوره هو أن المسلمين حافظوا على ترتيبه الأول.
ومهما يكن من أمر فإن مما لا ريب فيه أن مباني الدور الإسلامي الأول لم تكن من صنع العرب، وأن عمال البلاد التي دانت لهم هم الذين غيروا معالم الكنائس؛ لتكون موافقة لعبادة المسلمين، وأنهم أقاموا مباني العرب بأنقاض الكنائس، وأن عمال الفرس والروم هم الذين أتيح للعرب، على الأكثر، أن يستخدموهم في سورية ريثما يكونون أهلا لذلك.
وكان شأن العرب بالنسبة إلى المهندسين الأجانب الذين استخدموهم في دور الفتح كشأن الرجل الغني الذي يقيم لنفسه بيتا، فكما أن المهندس الذي يرسم بيت ذلك الغني يراعي فيه، لا ريب، ذوقه نرى مهندسي الروم قد راعوا ذوق العرب فيما أقاموا لهم من المباني الأولى، فتجلت عبقرية العرب فيها.
ولم يلبث العرب ، بعد أن تحرروا من المؤثرات الأجنبية، أن أصبح لعمارتهم من الأشكال والنقوش الخاصة ما صار يتعذر معه خلطها بغيرها، وإن أمكن أن يرى شيء من الأثر البزنطي أو الفارسي أو الهندي في بعض زخارفها مع محافظة البناء في مجموعة على طابعه العربي.
ولنبحث الآن في بعض المباني المهمة التي تركها العرب في سورية: (4-1) جامع عمر
جامع عمر الشهير القائم في القدس هو عند المسلمين أقدس مكان في الأرض بعد الحرم المكي والحرم المدني، وقد كان دخوله، حتى السنين الأخيرة، محرما على كل أوربي، وإلا قتل، وقد قضى الصليبيون منه أعظم العجب حين اقتحموا القدس، وقد عدوه معبد سليمان، وقد نال شهرة عظيمة في أوربة فأقيمت فيها كنائس كثيرة على طرازه، وقد يكون جامع عمر البناء الديني العالمي الوحيد المقدس عند المسلمين واليهود والنصارى على السواء.
بني جامع عمر على مكان هيكل سليمان الشهير الذي جدده هيرودس، وأعجب بأبهته تيطس، ذات ساعة، حين حاول إنقاذه من اللهب، وعلى الصخرة التي أراد إبراهيم ذبح ابنه عليها امتثالا لأمر الله كما تقول القصة، والأماكن التي تجمع في العالم من الذكريات مثل هذا المكان قليلة إلى الغاية ولا تجد مكانا اتفق له من التقديس ما اتفق لهذا المكان لا ريب، ففيه كان سليمان يعبد رب اليهود القادر، وعليه كان الرومان يسبحون بحمد ملك الآلهة والناس جو پيتر العظيم، وفيه وضع الصليبيون صورة المسيح، والآن يعبد المسلمون فيه إله النبي محمد.
شكل 1-5: مئذنة عيسى في المسجد الكبير بدمشق.
ولم تكن قيمة جامع عمر بما يثير من الذكريات فقط، بل هو من أهم ما شاده الإنسان أيضا، وهو أعظم بناء يستوقف النظر في فلسطين بالحقيقة.
ويقوم جامع عمر في وسط ساحة فسيحة يبلغ طولها خمسمائة متر، وتعدل مساحتها ربع مساحة القدس تقريبا، ويحيط بها سور يطلق العرب عليه اسم الحرم الشريف، وتشتمل على مبان مهمة كثيرة نذكر منها المسجد الأقصى على الخصوص.
شكل 1-6: مدرسة وأساتذتها وتلاميذها في دمشق (من صورة فوتوغرافية التقطها المؤلف).
وأثبتت مباحث علم الآثار الحديثة أن ساحة الحرم القدسي هي ذروة جبل مرية التي مهدها سليمان وسواها وأنشأ عليها هيكله، ووسع ملوك اليهودية، ولا سيما هيرودس، نطاقها مرة بعد مرة، ونرجح أن الصخرة المقدسة الواقعة في وسط جامع عمر كانت أعلى نقطة في ذروة جبل مرية؛ فاحترمها سليمان في أثناء تلك التسوية.
وبني جامع عمر على رقعة من الرخام قائمة الزوايا مرتفعة ثلاثة أمتار من أرض الحرم، وقام جامع عمر على المكان الذي كان فيه هيكل إسرائيل على التحقيق، ويرقى إليه بمراق كثيرة قليلة الدرج تعلوها حنايا مصنوعة على رسم البيكارين قائمة على أعمدة رخامية ذات تأثير حسن جدا.
ويزين تلك الرقعة من الحرم منابر للوعظ ومحاريب للصلاة ... إلخ، ويرى بعض هذه الآثار طريفا إلى الغاية.
ويخطئ الأوربيون حين يسمون ذلك المسجد جامع عمر، فهذا البناء ليس مسجدا في الحقيقة، ولم ينشئه عمر، وإنما أشار عمر، الذي لم يمكث في القدس سوى زمن قصير، إلى المكان الذي رغب في إقامة مسجد عليه، ويرى مسيو دوڨوغيه أن بناء هذا الجامع تم بعد وفاة عمر بمدة طويلة، أي في السنة الثانية والسبعين من الهجرة (691م)، ولا يسميه العرب بغير اسم قبة الصخرة؛ لاشتماله، بالحقيقة، على الصخرة المقدسة التي تكلمنا عنها.
ويذكرنا ذلك البناء الإسلامي القديم في مجموعه بالطراز البزنطي، ولكن ملوك المسلمين أصلحوه وأتموه في مختلف الأدوار، فاشتمل على نماذج مهمة للفن العربي في تلك الأدوار.
3
وجامع عمر مثمن الزوايا، ويدخل من أربعة أبواب مقابلة للجهات الأربع، ويكسو الرخام جوانبه السفلية، ويستر الميناء الفارسي الجميل جوانبه العليا التي تم تصفيحها به بعد إنشائه بزمن طويل، أي في زمن السلطان سليمان القانوني (سنة 1561).
ويتلألأ ذلك الميناء الجميل كالحجارة الكريمة حين تلقي الشمس أشعتها على جامع عمر فيكتسب خارج هذا الجامع منظرا سحريا خياليا لا عهد لجوانب المباني الأوربية الدكن بمثله، والمرء قد يفكر في تلك القصور السحرية التي يبصرها بخياله أحيانا، ولكن الخيال دون الحقيقة في أمر جامع عمر.
وليس داخل جامع عمر شيء من التعقيد ، ففيه نطاقان مثمنان ذوا مركز واحد، ويحاط هذان النطاقان بسياج مدور حول الصخرة الشريفة التي هي في وسط هذا الجامع.
وزينة داخل جامع عمر غنية إلى الغاية، وسيقان أعمدة نطاقه الأول من الرخام المأخوذ من المباني القديمة والمختلف شكلا وارتفاعا، وتختلف تيجان هذه الأعمدة في الشكل أيضا، ويرجع أكثرها إلى أوائل العصر البزنطي، ويستر أعلى جدران هذا الجامع فسيفساء باهرة ترجع إلى القرن العاشر من الميلاد كما يظن، ويحيط بقاعدة قبته عصابة عريضة مزينة بآيات قرآنية عن المسيح مكتوبة بخطوط كوفية ذهبية.
شكل 1-7: مسجد عمر في القدس (من صورة فوتوغرافية التقطها المؤلف).
وجددت قبة جامع عمر في سنة 1021م، أي في زمن ازدهار الفن العربي، وهي ذات زخرف داخلي رائع، أي مكسوة بالفسيفساء والنقوش والرسوم العربية الجميلة المتشابكة المعقدة إلى الغاية.
شكل 1-8: جامع عمر بالقدس (من تصوير المؤلف الفوتوغرافي).
وداخل المسجد باهر جميعه، فحواجزه مستورة بالميناء والفسيفساء والرسوم الذهبية وصحائف البرونز المطرقة، ونوافذه مزينة بقطع زجاجية ملونة في القرن السادس عشر، موصول بعضها ببعض وصلا منسجما بالجص، لا بالرصاص كما في أوربة، وينشأ عن هذا الوصل المنسجم ما لا نراه في كنائسنا من الظل والنور.
وترى في وسط جامع عمر تلك الصخرة الشريفة التي يقال: إن ملكيصادق وإبراهيم وداود وسليمان كانوا يضحون بقرابينهم عليها، ونرى مع ذلك، أن تلك الصخرة هي ذروة جبل مرية التي احترمها سليمان حين توطئته لهذا الجبل، كما ذكرنا آنفا، فاتخذها مذبحا في هيكله لا ريب.
شكل 1-9: داخل مسجد عمر (من صورة فوتوغرافية التقطها المؤلف).
ويبلغ طول تلك الصخرة المقدسة سبعة عشر مترا، ويبلغ ارتفاعها مترين، ويحيط بها سياج حديدي مصنوع في زمن الصليبيين، ويشار في الغار الذي تحت تلك الصخرة إلى المكان الذي روي أن داود وسليمان صليا فيه.
وتقول القصة العربية: إن محمدا ذهب على الدابة الخيالية التي تكلمنا عنها آنفا من ذروة تلك الصخرة ليكلم الله، وتؤيد هذه القصة بوجود سرج رخامي لتلك الدابة لا يزال مرصعا في قبة الصخرة، وتذهب هذه القصة إلى أن جبريل هو الذي منع تلك الصخرة من مصاحبة محمد في رحلته بعد أن ارتفعت من الأرض بضعة أمتار، وأن تلك الصخرة بقيت معلقة في الهواء منذ ذلك الحين راغبة عن العودة إلى حيث كانت، وهذا ما يردده سدنة جامع عمر للزائرين بإخلاص، ومع ذلك، فقد أتيح لي في أثناء دراستي الطويلة لجامع عمر وحديثي الكثير مع قيمه أن أسأل هذا القيم عن رأيه في ذلك فرأيته ضعيف الإيمان بصحته، وظهر لي أن حاكم القدس العثماني في الوقت الحاضر حظر على سدنة ذلك الجامع رواية هذه الأسطورة للنصارى.
ويعلو قبة جامع عمر هلال عظيم.
ويرى في الحرم، أمام جامع عمر، منبر عربي جميل مصنوع من الرخام الأبيض وتعلوه قبة صغيرة قائمة على حنايا مصنوعة على شكل نعل الفرس، ويسمى هذا المنبر منبر عمر وإن أنشئ بعد عمر بزمن طويل، أي في القرن الخامس عشر من الميلاد.
ونذكر من بين الأبنية المهمة القائمة في الحرم البناء المعروف بقبة السلسلة أو محكمة داود، وهذا البناء جوسق حجري أنيق مبني على الطراز البزنطي ومستور بالميناء الفارسي، وتقول القصة: إن محكمة داود كانت قائمة هنالك. (4-2) المسجد الأقصى
بني المسجد الأقصى في الحرم القدسي، وهو قديم أيضا، وأصل المسجد الأقصى كنيسة بناها القيصر جوستنيان تبجيلا للعذراء، وحولها العرب إلى مسجد بأمر الخليفة عمر، ثم هدم الزلزال المسجد الأقصى، وجدد بناؤه في سنة 785م، ثم نالته يد الإصلاح وأكسبته مسحة عربية مع الزمن، ولو في الجزئيات على الأقل، ثم رممه صلاح الدين في سنة (583ه / 1187م)، ثم جدد في القرن الخامس عشر من الميلاد، بعض أجزائه، كرواقه مثلا.
ويشتمل المسجد الأقصى على أعمدة أخذت من مبان كثيرة، ونرجح أن صحونه المركزية، التي هي على الطراز البزنطي، أنشئت في القرن السابع.
وأقواس المسجد الأقصى مصنوعة على رسم البيكارين على العموم، وسكن الصليبيون المسجد الأقصى، واتخذوا دهليزه مستودعا لأسلحة فرسان الهيكل.
ويحتوي المسجد الأقصى على محراب أنيق مزين بالفسيفساء، وتدل كتابته على أن صلاح الدين هو الذي أنشأه في سنة (583ه / 1187م)، وأقيم منبره العجيب المصنوع من الخشب المنقور المرصع بالعاج والصدف في سنة (564ه / 1168م) ويعود زجاج نوافذه التي تعلو محرابه إلى القرن السادس عشر من الميلاد.
ويرى في جانبي المسجد الأقصى كوتان طريفتان للصلاة؛ إحدهما: ذات أعمدة مبرومة، وحنايا مصنوعة على رسم البيكارين، وتدعى محراب عمر على زعم أن عمر صلى فيه، وتدعى الأخرى: محراب زكريا عادة.
4 (4-3) المباني العربية الأخرى في القدس
مباني العرب الأخرى في القدس أقل أهمية مما ذكرناه آنفا، ونكتفي بأن نذكر منها: باب دمشق الجميل الذي جدد السلطان سليمان بناءه، وإن شئت فقل رممه، في سنة (944-1537م).
ونحن إذا استثنينا المباني الأثرية الأخرى القليلة، ككنيسة القيامة،
5
لم نر في القدس غير المباني العصرية، وللنفوذ الأوربي في القدس أثر ظاهر مؤد إلى نزع طابعها الشرقي بالتدريج، والمرء حينما يقترب من القدس عن طريق يافا، يشعر بتبدد أحلامه، فهو يرى أديار الرهبان والمشافي والقنصليات الكثيرة فيظن نفسه في ضاحية إحدى المدن الكبيرة، ومن يرغب في اجتلاء عظمة القدس وجلالها فليصعد في جبل الزيتون على الخصوص، ثم ليرجع البصر ليرى القدس الزاخرة بالقباب والمآذن والأسوار والبروج ذات الشرفات والبيوت ذات الباحات.
وما في القدس من الذكريات يكفي وحده؛ لجعلها موضع تمجيد، ولاجتذاب الحجاج إليها من أقصى أقطار الأرض، ويا لسحر تلك الذكريات ويا لروعتها في قلوب المؤمنين الذين يزورون القبر المقدس وجبل الزيتون ووادي قدرون ووادي يهو شافاط وضريح العذارء وتربة ملوك اليهودية والطريق المقدس وجبل صهيون ... وما إلى ذلك من الأمكنة التي تكثر في الجوار!
ومهما يكن المرء ملحدا فإنه لا يستطيع ألا يكترث للقدس التي هي منبت إحدى الديانات الكبرى، ويخيل إلى الإنسان أن ظل المسيح يشرف على القدس التي شهدت وفاته، ولا يزال اسمه يطن فيها، وليس بجائز أن يبحث بحثا عميقا في أمر هذه الأماكن المقدسة؛ لما في هذا من حط لنفوذها، والخيال الذي أملاه الإيمان المتين هو الذي دل عليها مع ضياع أثرها منذ زمن طويل، فهل تلك الحديقة هي حديقة الزيتون التي ندب المسيح فيها حظه؟ وهل تلك الطريق هي الطريق التي مشى عليها المسيح ليصلب؟ وهل ذلك القبر الذي يعظمه النصارى هو القبر الذي ضم جثمان المسيح بعد موته؟
إن علم الآثار الحديث شديد في أجوبته عن هذه الأسئلة، فهو يقول: إن القدس الحاضرة قائمة، عدة أمتار، على أنقاض القدس الماضية التي أمر بهدمها تيطس، فيتعذر رسم خططها القديمة، ولكن الإيمان وحده يكفي المؤمن، ولا غرو، فالإنسان لا يقدس غير الخيالات، والقديم منها أكثر ما يكرم؛ لأنه أكثر ما أكرم. (4-4) برج الرملة العربي
أذكر برج الرملة من بين مباني العرب القديمة القليلة في سورية، ويقوم هذا البرج بالقرب من مدينة الرملة الصغيرة الواقعة بين القدس ويافا.
شكل 1-10: سقف الرواق الأول الداخلي في جامع عمر (من صورة فوتوغرافية التقطها المؤلف).
ويسمي العرب برج الرملة ببرج الشهداء الأربعين، ويؤكد العرب أنه دفن فيه أربعون شهيدا من المسلمين.
وبرج الرملة مثال جميل لفن العمارة العربية، وهو مربع الشكل، ويدخله النور من نوافذ مصنوعة على رسم البيكارين، وتبلغ ذروته بمرقاة مؤلفة من 120 درجة لا تزال في حالة جيدة خلا الدرجات الأخيرة منها.
وعد بعضهم برج الرملة أثرا صليبيا، وهو يذكرنا بالطراز الذي نقله الصليبيون إلى أوربة في الحقيقة، ولكنه لا ينبغي الشك في أصله العربي الثابت بدقائقه وفن بنائه، وبالكتابة التي تدل على أنه أنشئ في سنة (700ه / 1310م)، والتي تطابق ما رواه أحد مؤرخي العرب من أن ابن السلطان قلاوون هو الذي بناه، وتنفي الحالة التي عليها الحجر المنقوشة عليه تلك الكتابة كل احتمال بإضافة هذا الحجر مؤخرا إلى برج الرملة. (4-5) مباني العرب في دمشق
ذكرنا، حين بحثنا في أحوال العرب قبل ظهور محمد، أن دمشق كانت مستودع تجارة الشرق في فجر التاريخ، وكان العرب يعرفون دمشق قبل ظهور محمد بعدة قرون لجلبهم محاصيل بلادهم إليها، وكانت دمشق جنة الدنيا في نظرهم، وكانت دمشق من أروع مدن العالم في غابر القرون كما هي الآن، ودمشق هي التي قال القيصر جوستنيان إنها «نور الشرق.»
شكل 1-11: محراب زكريا في المسجد الأقصى (من صورة فوتوغرافية التقطها المؤلف).
وكانت دمشق من الأهمية ما اتخذها العرب معه عاصمة لدولتهم بدلا من المدينة، كما قامت بغداد مقام دمشق بعد زمن طويل.
شكل 1-12: محراب عمر في المسجد الأقصى (من صورة فوتوغرافية التقطها المؤلف).
وظلت دمشق مركزا كبيرا للتجارة والعلوم والصناعة في الشرق حتى بعد أن عادت لا تكون عاصمة لدولة العرب، وكانت لمدرستها الطبية ومرصدها الفلكي وقصورها ومساجدها شهرة عالمية.
وظلت دمشق، التي كانت معاصرة لدور الأهرام، موجودة مع استيلاء الآشوريين والميديين والمصريين والفرس والأغارقة والرومان والعرب والترك عليها بالتتابع، ولكن انتهابها وإحراقها مما أتى على قصورها تقريبا.
والعرب، وإن زالت سيادتهم عن دمشق، يملكونها بدينهم وعاداتهم ولغتهم، وقد تكون دمشق من أكثر مدن العالم اصطباغا بصبغة العرب، وقد نجت دمشق من النفوذ الأوربي تماما؛ لعطلها من مكان للأوربي إلا نادرا، وذلك خلافا لبقية سورية، وليست دمشق كالقاهرة التي تتفرنج كل يوم مع أن العرب هم الذين أنشأوا القاهرة، وثبت ملكهم فيها عدة قرون، ومع أن القاهرة تشتمل على أبنية عربية أعظم قيمة مما في دمشق.
وعلى من يريد أن يطلع على طبائع الشرق، وأن يرجع إلى منبع التاريخ، ويعيش في الماضي، أن يزور دمشق.
وتبدو دمشق ذات المآذن الجميلة، وغوطتها للناظر من بعيد ذات منظر ساحر أجمع السياح على امتداحه وإن لم أره يعدل منظر القاهرة الفتان من فوق قلعتها، قال مسيو داڨيد:
يرى السائح الذي يقترب من دمشق أنه لا شيء يعدل عظمتها وروعتها وسحرها، فلدمشق غوطتها النضرة التي تقع بين سهل واسع، والتي تتخللها منازل القوم وحدائقهم، والتي تحيط بأغرب ما في الدنيا وأسطع ما فيها من أسوار خلافا لمعاقل الغرب الشاحبة الكامدة القذرة، وتبدو هذه الأسوار، المؤلفة من حجارة صفر وسود مدورة ومربعة ومثلثة على ألف شكل مع الانسجام، خملة موشاة بالزبارج كما وصفها شعراء الشرق.
وليس ذلك النطاق كل ما يبدو للأعين، فهنالك أسوار في داخل المدينة تفصل بين أحيائها، وهنالك أسوار ذات أبراج مربعة قائمة على جوانبها، وهنالك أسوار تعلوها زخارف على شكل عمائم.
ولكن هذا ليس سوى المرحلة الأولى من المنظر، فصميم المدينة أسنى وأبهى، وهو يتألف من أشجار تألفه من بيوت، وذلك أن هنا صفا من شجر السرو، وهنا محلا للنزهة، وهناك أقواسا عربية، وهناك سوقا للأخذ والعطاء، وهنالك نخلا تهز رءوسها الجميلة فوق حوض على شكل نصف دائرة لعين عظيمة، وهنالك أشجارا مثمرة مصفوفة على شكل رقاع الشطرنج داخل قصر إسلامي، ثم هنالك أكثر من ألف قبة تعلوها الأهلة النحاسية والمآذن الرفيعة القائمة على جوانبها.
ولتلك الروضة المزهرة أشجار عالية وحدائق جميلة ذات وقع في النفوس كأشعة الشمس الوهاجة، ولها شعب بردى السبع المتلوية الفضية التي تهب دمشق سحر الألوان أيضا؛ تلك هي دمشق التي يسميها العرب بالشام، والشام ما يسمي به العرب بلاد سورية.
والأوربي، حين يدخل دمشق التي يسميها العرب درة الشرق، لا تستهويه أول وهلة، وإنما تؤثر فيه طرق معوجة قذرة تقوم على طرفيها بيوت خربة ذات جدران مصنوعة من طين وتبن، وتؤثر فيه أعفار تعمي الأبصار بما لا يتصوره الإنسان، ولا يزول هذا التأثير السيئ عن الأوربي إلا بعد تألفها.
وتجارة دمشق الواسعة القائمة بينها وبين بقية الشرق تمنحها حياة عظيمة وطابعا شرقيا خاصا، والقوافل التي تأتي من بغداد توصل إليها منتجات فارس والهند، وتحمل القوافل إلى ذينك البلدين نسائجها الحريرية المشهورة وبزوزها وجلودها المدبوغة ونحاسها المكفت بالفضة.
وأقول، مكررا: إنه يجب على من يرغب في اجتلاء الشرق وألوانه اللامعة أن يزور دمشق، وأهم ما يستوقف النظر في هذه المدينة القديمة ويبدو متنوعا هو طرقها وأسواقها التجارية الطريفة، واستجلاء أمثلة مختلف أمم الشرق في بضع ساعات، ففيها يرى الفرس ذوو القلانس الفروية والخناجر الزنارية، ويرى السوريون ذوو الحلل المخططة والكوفيات والعقل الوبرية، وترى النساء العربيات ذوات المآزر البيض التي تلمع عيونهن المتوقدة من خلالها، ويرى الدمشقيون ذوو الطرابيش الحمر أو العمائم البيض والألبسة الحريرية المخططة بخطوط بيض وسود والمشدودة بزنانير، ويرى حجاج البيت الحرام ذوو الثياب الرثة، ويرى قواسو القناصل ذوو السياط والملابس الموشاة الزرق والخطوات الموزونة، ويرى الموظفون العثمانيون ذوو الأردية الرسمية القاتمة، ويرى فرسان الدروز ذوو العجب المنطقون بالسلاح والراكبون عتاق الخيل التي تعلوها سروج جلدية قرمزية مزينة بقطع لامعة من الذهب والفضة، وترى قطر الجمال يحرسها تجار آتون من كرمان والأناضول وشواطئ الفرات، ويرى الأكراد والأعراب والأرمن والموارنة واليهود وروم الأرخبيل، ويرى في هذه الأخلاط اختلاف في الألوان كالذي يرى في قوس قزح، ويرى فيها ذوو البياض الناصع وذوو السواد الحالك وذوو الألوان التي بين اللونين.
وقد خيل إلي، حينما كنت جالسا على متكأ في إحدى القهوات العربية بدمشق، وكنت أتأمل أولئك الناس من خلال دخان نارجيلتي، أي من خلال هذا المنظار السحري الغريب، أن قدرة ساحرة نقلتني من فوري، ولساعة، إلى بيئة حاوية لأمم آسية في غابر الأزمان.
أجل، رأيت، على ما يحتمل، منظرا منوعا كذلك على الجسر الممتد من غلطة إلى الضفة الأخرى من القرن الذهبي في الآستانة، ولكن العنصر الأوربي هو الغالب هنالك مقدارا فمقدارا، ومن ثم أرى أن الشرق عاد لا يتجلى وحده في الآستانة مع ما فيها من الأمثلة المتباينة لمختلف شعوب العالم.
ويستعذب علماء الآثار وهواة التحف ورجال الفن طول الإقامة بدمشق؛ لما يجدون فيها من بقايا المباني ما يتطلب وصفه مجلدا ضخما، وما يخشى أن يزول بعد زمن قليل لتداعيه يوما بعد يوم، ويرى في كل خطوة من ضاحية الميدان الواقعة على مدخل طريق مكة أنقاض مساجد وعيون وأبنية أخرى ترجع إلى ما قبل مئتي سنة أو ثلاثمائة سنة، وتشتمل على ضروب من الزينة القديمة وفق تقاليد العرب، ويشاهد في تلك الآثار أثر للفن الفارسي غير قليل.
ويمكن الباحث أن يلاحظ في دمشق وحدها قصورا على الطراز العربي القديم مشتملة على وسائل للراحة والرفاهية مع الذوق لا يرى مثلها في أرقى مساكن أوربة، ومن دواعي الأسف أن نرى سنة الكون تجري حكمها على هذه القصور فتزول.
شكل 1-13: محراب المسجد الأقصى ومنبره بالقدس (من تصوير المؤلف الفوتوغرافي).
وبما أنني سأتكلم في فصل آخر عن أحد هذه القصور فإنني أكتفي الآن بذكر الجامع الكبير الذي هو أقدم مباني دمشق.
شكل 1-14: برج الرملة (من صورة فوتوغرافية).
بني الجامع الكبير، الذي يرجع قسم منه، على الأقل، إلى ما بعد الهجرة بزمن قليل، على أنقاض معبد وثني حوله النصارى إلى كنيسة، ثم التهمته النيران في سنة (461ه / 1069م) فجدد بناؤه، وهو دون ما كانت عليه حالته الأولى، وأقل أهمية من مساجد القاهرة على الخصوص.
وأقيم جامع دمشق الكبير على هيئة المساجد الإسلامية الأولى، فهو يتألف مثلها من ساحة كبيرة قائمة الزوايا ذات أروقة خصص بعضها للصلاة، وأقيمت على أركانها مآذن، وسنصف في الفصل الذي نتكلم فيه عن عرب مصر مساجد كثيرة من هذا الطراز.
وروى مؤرخو العرب أن الرخام النادر كان يستر أسفل جدران ذلك المسجد الجامع، وأن الفسيفساء كانت تستر أعلاها كما تستر قبته، وأن سقفه كان مصنوعا من الخشب المموه بالذهب، وأن مصابيحه، وعددها ستمائة، كانت من الإبريز، وأن محاريبه كانت مرصعة بالحجارة الثمينة.
ولم يبق من تلك الزينة سوى الشيء القليل، وتزين جدرانه الآن خطوط جميلة، ويزين نوافذه زجاج ذو ألوان كثيرة، ويشاهد في مواضع منه أثر للفسيفساء القديمة.
ويشتمل ذلك الجامع الكبير على مئذنتين مربعتي الشكل، وعلى مئذنة ثالثة أنيقة مثمنة الشكل ذات أروقة منضدة ومنتهية بكرة وهلال، ومئذنة العروس أقدم هذه المآذن الثلاث، وترجع في قدمها إلى القرن الأول من الهجرة كما يعتقد، ومئذنة عيسى، وهي إحدى هذه المآذن، مربعة الشكل، وتقول القصة العربية: إن عيسى سينزل على ذروتها يوم الحساب لا ريب.
ظهر مما تقدم أن العرب احترموا منذ دور الفتح الأول، آثار الأمم التي ملكوها ولم يفكروا في غير الانتفاع بحضارتها وترقيتها، وذلك خلافا لكثير من الأمم الفاتحة التي جاءت بعدهم، وأن العرب الذين كانوا أميين في بدء الأمر لم يلبثوا أن فاقوا أساتذتهم، وأنهم تعلموا بسرعة ما كانوا يجهلون من فنون الحرب، واستعمال آلات الحصار الرومية؛ فسبقوا أعداءهم في ذلك، وأنهم بعد أن كانوا مبتدئين في العلوم والفنون ماثلوا الأمم الأخرى فيها بفضل ما أنشأوا من المدارس ثم تقدموها، وأنهم، بعد أن كانوا غير عالمين بفنون العمارة، وبعد أن استخدموا مهندسين من الروم والفرس في تشييد مبانيهم، استطاعوا بالتدريج أن يتخلصوا كل الخلاص من كل مؤثر أجنبي بما أحدثوا من التغيير والتبديل في فنون العمارة وفق ذوقهم الفني كما نرى ذلك عما قليل.
هوامش
الفصل الثاني
العرب في بغداد
(1) حضارة العرب في الشرق في دور الخلافة ببغداد
دور الخلافة في بغداد بآسية ودورها في قرطبة بإسپانية أنضر أدوار الحكم العربي، ولما استقلت تانك الدولتان بسرعة، وفصلت بينهما مساوف عظيمة، كان لهما أصل واحد ودين واحد ولغة واحدة، تقدمتا تقدما متوازيا عدة قرون، وكانت المدينتان الكبيرتان، بغداد وقرطبة، وهما القاعدتان اللتان كان السلطان فيهما للإسلام من مراكز الحضارة التي أضاءت العالم بنورها الوهاج أيام كانت أوربة غارقة في دياجير الهمجية.
ولم يلبث دور ازدهار حضارة العرب أن بدأ بعد أن فرغوا من فتوحهم، وما بذلوا من الجهود في الوقائع الحربية في البداءة وجهوا مثله إلى الآداب والعلوم والصناعة، فتقدموا في الفنون السلمية مثل تقدمهم في الفنون الحربية.
ورأينا أن دمشق أصبحت عاصمة دولة الأمويين العربية بعد المدينة، فلما قبض العباسيون على زمام الخلافة في سنة (132ه / 740م) عزموا على تبديل العاصمة، فأقاموا بالقرب من بابل وعلى شاطئ دجلة، مدينة بغداد التي لم تلبث أن صارت أشهر مدن الشرق.
ولم يبق من المباني التي شادها الخلفاء في بغداد مثل ما بقي في سورية، ولكن ما انتهى إلينا من آثار العرب في العلم والأدب في ذلك الدور وما ورد في كتب مؤرخيهم يكفي لتمثل حضارتهم في القرن التاسع من الميلاد، وما نذكره الآن، وما ندرسه في الفصول الآتية من تاريخ العلوم والفنون، يلقي نورا على ناحية مهمة من نواحي الحضارة العربية لم نوضحه في الفصل السابق.
بلغت بغداد ذروة الرخاء في عصر بطل رواية ألف ليلة وليلة هارون الرشيد الشهير (786م-809م) وابنه المأمون (813م-833م) وصارت أهم مدن الشرق، وذاع صيت الرشيد، وطبق الآفاق، فأرسلت بلاد التتر والهند والصين رسلا إلى بلاطه، وأرسل عاهل الغرب الحقيقي وصاحب الحول والشوكة، الإمبراطور شارلمان، الذي كان يملك ما بين المحيط الأطلنطي ونهر الإلب، وهو الذي لم يملك غير أناس من الهمج - وفدا ليبلغ الرشيد أطيب تحياته، ويلتمس منه الحماية لحجيج القدس، فأجابه الرشيد إلى سؤاله، ورد إليه وفده مع هدايا عظيمة، ومن بينها فيل مجهز بأفخر جهاز، والفيل كانت تجهله أوربة تماما، ولآلئ وجواهر وحلي وعاج وعطور ونسائج حريرية وساعة دقاقة تدل على الوقت، وقد قضى إمبراطور الغرب شارلمان العجب من هذه الساعة هو وحاشيته المتبربرون اللذين لم يكن بينهم من قدر على إدراك كنهها، والذين حاول شارلمان عبثا أن يحملهم على إحياء حضارة الرومان.
وجلس الرشيد على عرش الخلافة في الثالثة والعشرين من سنيه، وكان تنظيم شؤون دولته الواسعة أول ما فكر فيه، فوصلت ولايات الدولة بوسائل نقل منظمة، وأنشئت مرابط؛ لتتمكن البرد بها من قطع المساوف الكبيرة على عجل، وعني بحمام الزاجل لربط ما بين المدن بالرسائل كما هو واقع بين بعض المدن في الوقت الحاضر، وكانت إدارة البريد ببغداد من أهم وظائف الدولة كما في أوربة الحديثة.
وكان الولاة على رأس الولايات، وكانوا يمتثلون أوامر الخليفة، وكان يقوم مقام الخليفة في الولايات النائية، كشمال إفريقية، أمراء وراثيون استقلوا مع الزمن استقلالا تاما.
وكانت مالية الدولة دقيقة الضبط، وكان دخل الدولة قائما على الجزية والخراج والمكوس وإحياء الموات واستخراج المعادن، وروى مؤرخو العرب أن دخل الخلافة السنوي بلغ مئتي مليون فرنك، أي مبلغا عظيما في ذلك الزمن.
وكان يقوم بأعمال الجباية لجنة تدعى الديوان، قال ابن خلدون: «إن ديوان الأعمال والجبايات من الوظائف الضرورية للملك، وهي: القيام على أعمال الجبايات، وحفظ حقوق الدولة في الدخل والخرج، وإحصاء العساكر بأسمائهم وتقدير أرزاقهم وصرف أعطياتهم في إباناتها، والرجوع في ذلك إلى القوانين التي يرتبها قومة تلك الأعمال وقهارمة الدولة، وهي كلها مسطورة في كتاب شاهد بتفاصيل ذلك في الدخل والخرج مبني على جزء كبير من الحساب لا يقوم به إلا المهرة من أهل تلك الأعمال، ويسمى ذلك الكتاب بالديوان، وكذلك مكان جلوس العمال المباشرين لها.»
وكانت إدارة الدولة موزعة بين أربعة دواوين مماثلة لدواوين الزمن الحاضر: وهو ديوان الغنائم ونفقات الجند، وديوان الضرائب، وديوان الجباية، وديوان رقابة الدخل والخرج.
وكانت جميع أوامر الخلفاء تكتب في سجل مصون؛ ليرجع إليها فيه من يأتون بعدهم.
وكان الوزير مرجع شؤون الدولة الأعلى، وكان أكثر الخلفاء يتركون له مقاليد الحكم تماما، ويشابه منصبه في عصر الخلفاء منصب رئيس الوزراء في أيامنا.
ولم تكن الشرطة في عهد الخلفاء أقل انتظاما من البريد والمالية، وكانت للتجار نقابة مسئولة لرقابة أمور البيع والشراء ومنع الغش والتدليس.
وكانت انتظام مالية الخلفاء سببا في القيام بأعمال عظيمة تعود على الناس بالخير، كتعبيد الطرق وإنشاء الفنادق والمساجد والمشافي والمدارس في جميع نواحي الدولة، ولا سيما بغداد والبصرة والموصل ... إلخ.
واتسع نطاق الزراعة والصناعة، واشتهر نبيذ شيراز وأصبهان، وصار يصدر إلى البلاد البعيدة، وأنشئت مصانع للنسائج الحريرية في الموصل وحلب ودمشق، وصار العرب يستغلون الممالح ومناجم الكبريت والرخام والحديد والرصاص ... إلخ، بطرق فنية.
ووسعت دائرة التعليم العام، واستدعي الأساتذة من مختلف أقطار العالم، وبلغ علم الفلك درجة رفيعة من التقدم، وانتهى إلى نتائج لم ينته إليها الأوربيون إلا في العصر الحاضر، كقياس دائرة نصف النهار، ونقلت إلى اللغة العربية كتب علماء اليونان واللاتين، ولا سيما كتب الفلسفة والرياضيات، وصارت تدرس في جميع المدارس، وبحث العرب في آثار القدماء، فسبقوا الأوربيين إلى ذلك ببضعة قرون.
وأقدم العرب على تلك المباحث، التي لم يكن لهم عهد بها، بشوق ونشاط، وأكثروا من إنشاء المكتبات العامة والمدارس والمختبرات في كل مكان، وكانت لهم اكتشافات مهمة في أكثر العلوم كما سترى ذلك في الفصول التي ندرس فيها تفاصيل حضارتهم.
وترى من الخلاصة السابقة أن العرب بلغوا درجة رفيعة من الثقافة بعد أن أتموا فتوحهم بزمن قصير، ولكن الإدارة الرشيدة والفنون المعقدة كالتعدين وطراز العمارة، والعلوم كعلم الفلك؛ إذ كانت مما لا يأتي عفوا لم يفعل العرب غير مواصلة الحضارات التي ظهرت قبلهم، كالحضارة اليونانية اللاتينية، فكانت لهم مبتكرات فيما ورثوه من علومها وفنونها وطرق حكمها، وكانوا بذلك على نقيض الروم الذين سلموا إلى العرب تراث تلك الحضارات من غير أن ينتفعوا به، والذين سقطوا في أسفل دركات الانحطاط.
شكل 2-1: مسجد أورفة (العراق، من تصوير فلاندان).
وكان حب العرب للعلم عظيما، ولم يترك الخلفاء في بغداد طريقا لاجتذاب أشهر العلماء ورجال الفن في العالم إلا سلكوها، ومن ذلك أن شهر أحد أولئك الخلفاء الحرب على قيصر الروم؛ ليأذن لأحد الرياضيين المشهورين في التدريس ببغداد.
وكان العلماء ورجال الفن والأدباء من جميع الملل والنحل، من يونان وفرس وأقباط وكلدان، يتقاطرون إلى بغداد، ويجعلون منها مركزا للثقافة في الدنيا، وقال أبو الفرج عن المأمون إنه «كان يخلو بالحكماء، ويأنس بمناظرتهم، ويلتذ بمذاكرتهم علما منه بأن أهل العلم هم صفوة الله من خلقه ونخبته من عباده ... فلهذا السبب كان أهل العلم مصابيح الدجى وسادة البشر، وأوحشت الدنيا لفقدهم.»
وكان أولئك يحيطون بخلفاء بغداد، وكان يمكن هؤلاء الخلفاء أن يعدوا قصرهم أول قصور العالم وأنضرها، وتتجلى لنا أبهة بغداد الشرقية بالقول الآتي الذي وصف به المؤرخ العربي، أبو الفداء، استقبال أحد الخلفاء العباسيين لسفير قيصر الروم في سنة 305ه.
قال أبو الفداء:
قدم رسل ملك الروم إلى بغداد، فلما استحضروا عبئت لهم العساكر وصفت الدار بالأسلحة وأنواع الزينة، وكان العساكر المصفوفون حينئذ مائة ألف وستين ألفا ما بين راكب وواقف، ووقف الغلمان ذوو الزينة الحجرية والمناطق المحلاة، ووقف الخدام الخصيان كذلك، وكانوا سبعة آلاف، أربعة آلاف خادم أبيض وثلاثة آلاف خادم أسود، ووقف الحجاب كذلك، وهم حينئذ سبعمائة حاجب، وألقيت المراكب والزوارق في دجلة بأعظم زينة، وزينت دار الخلافة، فكانت الستور المعلقة عليها ثمانية وثلاثين ألف ستر، منها اثنا عشر ألفا وخمسمائة ستر من الديباج المذهب، وكانت البسط اثنين وعشرين ألفا، وكان هناك مائة سبع مع مائة سباع، وكان في جملة الزينة شجرة من ذهب وفضة تشتمل على ثمانية عشر غصنا، وعلى الأغصان والقضبان الطيور والعصافير من الذهب والفضة، وكذلك أوراق الشجرة من الذهب والفضة، والأغصان تمايل بحركات موضوعة، والطيور تصفر بحركات مرتبة، وشاهد الرسل من العظمة ما يطول شرحه، وأحضروا بين يدي المقتدر، وصار الوزير يبلغ كلامهم إلى الخليفة، ويرد الجواب عن الخليفة.
شكل 2-2: عبور الفرات عند بيره جك (من تصوير فلاندان).
وكانت قوة الخلفاء الحربية في بغداد تناسب أهمية دولتهم، ويمكننا اجتلاء ما كانت عليه من الهيبة في الخارج بما أكره عليه قيصر بزنطة الوارث لعظمة اليونان والرومان من دفع الجزية حين تمنع عن إعطائها عبثا، فلما رفض خليفة الإمبراطورة إيرين، القيصر نيقفور، إعطاء الجزية في كتاب أرسله إلى الخليفة هارون الرشيد أجابه هارون الرشيد بالكتاب الموجز العنيف الدال على درجة الاحتقار الذي أضحى عرضة له أبناء اليونان والرومان الضعفاء، وإليكه:
بسم الله الرحمن الرحيم، من هارون الرشيد أمير المؤمنين إلى نيقفور كلب الروم، قد قرأت كتابك يا ابن الكافر، والجواب ما تراه، لا ما تسمعه.
رأى «كلب الروم» الجواب، فقد خرب هارون الرشيد بلاده تماما، وأرغم قيصر القسطنطينية النصراني على دفع الجزية إلى أمير المؤمنين.
ومن الإنصاف أن عد سلطان العرب السياسي في عصر الرشيد وابنه المأمون أقصى ما انتهى إليه سلطان العرب في الشرق، فقد كانت بلاد الصين حدا لدولة العرب في آسية، ودحر العرب قبائل إفريقية المتوحشة إلى حدود بلاد الحبشة، ودحروا الروم إلى البسفور، ولم يقفوا في الغرب إلا عند المحيط الأطنلطي، والحق أن هؤلاء القوم الشجعان الذين لبوا دعوة محمد، وغدوا أمة واحدة، أقاموا دولة بلغت ما بلغته دولة الرمان من الاتساع في أقل من قرنين، وأن هذه الدولة بدت أكثر دول الأرض هيبة وتمدنا.
بيد أن مصير الدول الحربية العظمى المطلقة تابع لاقتدار ولاة أمورها، فإذا كان هؤلاء الولاة من العباقرة، كهارون الرشيد وابنه المأمون، أينعت تلك الدول وتقدمت، وإذا لم يكونوا أبناء بجدتها هبطت بسرعة أعظم من التي قامت بها.
ولم يكن كثيرا على أعاظم الرجال أن يحفظوا للخلافة هيبتها تجاه ما كان يبدو من تفرق كلمة العرب في أنحاء الدولة، وتجاه الأمم التي دحروها حينا من الزمن من غير أن يقوضوا أركانها، وقد استقل البربر بعيد استقلال الأندلس، وقد أخذ الترك يقبضون بدسائسهم على السلطة التي سينالونها كاملة بسلاحهم ذات يوم.
ولم تخب شعلة الخلفاء العباسيين إلا في القرن العاشر من الميلاد، ولكن الخلافة العباسية كانت قد خسرت سلطانها منذ زمن طويل حينما غابت عن التاريخ.
لم يكن الترك الذين جيء بهم إلى بغداد من غير الأسرى أو الموالي الذين أعجبت الخلفاء قدودهم ففوض الخلفاء إليهم أمر حراستهم، ولم يلبث هؤلاء الموالي أن صنعوا كما صنع المماليك بمصر، فانفردوا بالأمر غير تاركين لسادتهم الخلفاء سوى سلطة اسمية.
ولم يقدر الخلفاء على مقاومة جميع المطامع التي كانت تحيق بهم، فانقسمت دولتهم إلى إمارات مستقلة، فلما توارى آخر العباسيين عادت بغداد لا تستطيع الادعاء بلقب آخر غير كونها الملجأ الأول لعلوم الشرق وآدابه.
شكل 2-3: منظر في بغداد بالقرب من مسجد أحمد كهيا (من تصوير فلاندان).
والمغول هم الذين قضوا على الخلافة العباسية، والمغول جيل من الآدميين البدويين يؤلف مع الترك عروقا مختلفة نعد منها أجلاف هضبة آسية الوسطى الواسعة التي تحدها الجبال الفاصلة لها عن سيبرية من الشمال، والتي تحدها الصين والتبت وبحر قزوين من الجنوب، ويرى علماء وصف الإنسان ولا سيما صديقي العالم الأستاذ دالي، أن الترك والمغول والمماليك، وأهل التبت على ما يحتمل، من أصل واحد يدعى الأرومة المغولية، وظاهرة هذه الأرومة هي هيئة وجوهها الخاصة وجلودها المصفرة الكامدة وشعورها المسندرة
1 ... إلخ، ولا نزال نجد شبها بين التركمان والمغول، ومثل هذا الشبه كان موجودا في غابر القرون بين الترك الخلص والمغول لا ريب، فقد ذكر رشيد الدين في تاريخه عن المغول، الذي ألفه في القرن الثالث عشر، أن المغول والترك متشابهون تشابها يستوقف النظر، وأن اسم هذين الجيلين كان واحدا في غابر الأزمان.
ومن المستحيل أن ترى اليوم قرابة بين المغول وترك أوربة، ويرجع ذلك، لا ريب، إلى تزوجهما في قرون كثيرة بنساء من العرق القفقاسي كالكرجيات والشركسيات، والفارسيات على الخصوص.
واستولى المغول على بغداد سنة (656ه / 1258م) وخربوها تماما، وخنقوا آخر العباسيين، المستعصم بالله، بأمر رئيس الغالبين «هولاكو» ونهبوا ما في بغداد من الأموال، وحرقوا كتبها التي جمعها قبل هذه الكارثة الهائلة محبو العلم وألقوها إلى نهر دجلة، فتألف منها جسر كان يمكن الناس أن يمروا عليه رجالا وركبانا، وأصبح ماء دجلة أسود من مدادها، كما روى قطب الدين الحنفي.
شكل 2-4: منظر في بغداد (من تصوير فلاندان).
ولكن أولئك الوحوش الضارية الذين أضرموا النار في المباني، وأحروقوا الكتب ، وخربوا كل شيء نالته أيديهم خضعوا لسلطان حصارة المغلوبين بدورهم، حتى إن «هولاكو» الذي خرب بغداد وأمر بجر جثة آخر العباسيين تحت أسوارها بهرته عجائب حضارة العرب الجديدة في نظره، فلم يلبث أن صار من حماتها، وفي المدرسة العربية تمدن المغول، واعتنقوا دين العرب وحضارتهم، وشملوا متفنني العرب وعلماءهم برعايتهم، وأقاموا في بلاد الهند دولة قوية عربية من فورهم كما يمكن أن يقال، وذلك لأنهم أحلوا حضارة العرب محل الحضارة القديمة، ولأن سلطان حضارة العرب لا يزال مسيطرا هناك حتى اليوم.
شكل 2-5: منظر في بغداد (من تصوير فلاندان).
أجل، قامت بغداد من تحت الأنقاض، ولكن الترك استولوا عليها بعد ثلاثة قرون فأصيبت بانحطاط تام، فغابت عنها المكتبات ورجال الفن والعلماء إلى الأبد.
واليوم لا تزال بغداد مركزا مهما بفضل موقعها التجاري، ولكنها مدينة عصرية لا تجد فيها غير الأنقاض من مباني الخلفاء، وما يصادف فيها اليوم من الأبنية، المتداعية على العموم، حديث نسبيا، وهو فارسي أكثر منه عربيا، قال مسيو فلاندان: «تتوارى تحت طبقة كثيفة من الغبار أسس المباني، ولا تكاد تجد فيها أثر هارون الرشيد وزبيدة، وهنا وهناك يكتشف في بعض زوايا الأسواق وعلى الشاطئ وبين أنقاض أضاعت اسمها وحوه جدران يقرأ عليها بصعوبة قطع من خطوط كوفية، ومئذنة يشهد خرابها على قدمها، وبقايا رتاج
2
ذي ميناء وذي فسيفساء لامعة تنفصل على أساس البناء المحطم. «ولم يبال الترك بضياع هذه الأدلة على حضارة منافسة لحضارة بزنطة، ونحن إذا ما استثنينا تلك البقايا النادرة المجردة من الفائدة معا كان من العبث إزالة الغبار المتراكم ببغداد، فالحق أن هذه المدينة العظيمة لم يبق فيها ما يذكر بخلفائها الأعزاء كما يمكن أن يقال.»
هذه هي حال بغداد اليوم، وقد لحقت بغداد الخلفاء، في أعفار الماضي، بطيبة وبابل ومنفيس وكل عاصمة كبيرة كانت سيدة الدنيا، ولكن هذه المدن لم تسيطر على العالم بغير السلاح، وخلفاء بغداد ملكوا العالم بحضارتهم على الخصوص.
ويجب، لنحسن تقدير تلك الحضارة، أن نخرج من دائرة الإجمال، التي التزمناها في هذا الجزء من كتابنا، وأن ندخل دائرة التفصيل، فندرس ما أسفرت عنه من العلوم والآداب والفنون والصناعة، وهذا ما نفعله في فصول أخرى بعد أن نتم دراستنا المختصرة لتاريخ العرب في مختلف الأقطار التي استولوا عليها.
وكلما تقدمنا في الكتاب بدا لنا، بوضوح، أمران جوهريان لم نفعل غير الإشارة إليهما حتى الآن، وهما: أن العرب استطاعوا أن يبدعوا حضارة جديدة مستعينين بما استعاروا من الفرس واليونان والرومان، وأن حضارة العرب كان لها من المناعة ما استطاعت أن تهيمن به على البرابرة الذين حاولوا هدمها، وقد ظهر لنا أن جميع أمم الشرق الكثيرة التي ساعدت على قهر العرب، ومنها الترك، أعانت بلا استثناء على نشر نفوذ العرب، وأن أمما قديمة قدم العالم، كالمصريين والهنود، اعتنقت ما جاءها به العرب أو ورثتهم من الحضارة والدين واللغة.
هوامش
الفصل الثالث
العرب في بلاد فارس والهند
(1) العرب في بلاد فارس
تختلف بقايا حضارة العرب باختلاف البلدان التي استولوا عليها، وإذ كان درس هذه الحضارة يقوم على البحث في آثار العرب العلمية أو الأدبية أو الفنية أو الصناعية، فإننا لا نستطيع أن نسير في فصول هذا الكتاب على نهج واحد، وقد رأيت أننا اعتمدنا في كلامنا عن سورية على الآثار الماثلة، وأننا سلكنا طريقا آخر حينما بحثنا في أمر بغداد التي لا تجد فيها آثارا شاخصة، فاقتصرنا حين الكلام عنها على التنويه بتنظيم العرب السياسي والمالي والإداري وما إلى ذلك، فإذا ما وصلنا تلك العناصر المختلفة بعضها ببعض أمكننا أن نرسم صورة جامعة لحضارة العرب في مختلف الأزمنة.
ولا نعرف إلا القليل عن آثار العرب في بعض البلدان التي دانت لهم، كبلاد فارس على الخصوص، فترانا مضطرين إلى الإيجاز في ذلك، ومع ذلك يثبت علمنا القليل عنها أن ذلك الشأن كان عظيما جدا.
رأى العرب أنفسهم، حين هدموا دولة بني ساسان الفارسية، تجاه حضارة قديمة قويمة، فاقتبسوا الشيء الكثير من فنونها على الخصوص.
وتم النصر للعرب على بلاد فارس في الدور الأول من الإسلام ، كما اتفق لهم في سورية، واستولوا على أصبهان في خلافة عمر بن الخطاب (645م)، ودام السلطان للخلفاء في بلاد فارس مدة ثلاثة قرون، وكان تاريخ بلاد فارس مرتبطا في تاريخ بغداد بعض الارتباط، ثم تداولت حكم بلاد فارس دول مستقلة مؤقتة كان يدال منها، ونعد من تلك الدول دولة الترك السلجوقيين الذين قضى المغول على سلطانهم في القرن الثالث عشر، ثم دولة التركمان الذين طردوا المغول من بلاد فارس في سنة 1403م.
ونشأ عن تتابع الغزو هدم المباني القديمة التي شادها العرب وبنو ساسان في بلاد الفرس وزوال ما كان منها في مدينة أصبهان، على الخصوص، زوالا تاما، وما نراه الآن في أصبهان هو من صنع الشاه الفارسي الشهير عباس الذي اتخذها قاعدة ملكه في سنة (998ه / 1589م) والذي استرد من الترك معظم بلاد فارس، ويظهر أن ذلك القطر استرد رخاءه القديم لمدة قرن، فقد قاتل الفرس منصورين دولة المغول في الهند سنة 1539م، وانتزعوا منها ولايات كثيرة واقعة غرب نهر السند، ثم سادت الفوضى والانحطاط بلاد فارس، ونرى اليوم بلاد فارس، الواقعة بين الروس الذين يرغبون في التقدم نحو بلاد الهند والإنكليز الذين يمانعون في ذلك، مهددة بأن تكون ميدان قتال لهذين الفريقين، وأن تقع فريسة للغالب منهما، فكأنه كتب على بلاد فارس أن تكون مسرح حروب تمهيدا لإقامة الأجنبي الغالب دولة عالمية كما تم في القرون الغابرة.
وثبت تأثير العرب في الفرس من اعتناق الفرس لدين العرب ونظمهم، ومن شيوع اللغة العربية بينهم شيوع اللغة اللاتينية في أوربة في القرون الوسطى، وذلك من غير أن تكون لغة البلاد الدارجة كما ثبت من استمرار الفرس إلى الوقت الحاضر على تلقي علم التوحيد والتاريخ والعلوم الأخرى من كتب العرب.
وتبدو بقايا ما تركه العرب من الآثار الماثلة في بلاد فارس من القلة ما لا تكفي معه لبيان تأثير هاتين الأمتين إحداهما في الأخرى، ولا نعرف حال فن العمارة الفارسي قبل الإسلام بالضبط وفي ظل العرب، وما بحث فيه بعض الرواد من المباني لم يخرج عن حد الأنقاض التي يصعب معها بيان الحالة التي كانت عليها فيما مضى، ونقول مع ذلك، وبعد إنعام النظر في تلك البقايا وفيما رواه المؤرخون: إن قصور أكاسرة الفرس قبل الفتح العربي كانت على جانب عظيم من الزخرف والزينة، وإن الفرس كانوا يعرفون إقامة القباب، وإنهم كانوا يعلمون كيف يكسون المباني بالميناء، وإن العرب رضوا في دور الفتح بفن العمارة الفارسي مع قليل من التبديل، وإن أهم ما اقتبسه العرب من متفنني الفرس في ذلك الدور الأول هو جزئيات الزخرف واستعمال الميناء على الخصوص، لا طراز البناء الذي استعاروه في البداءة، من البزنطيين في سورية ومصر على الأقل.
ثم تغيرت الأوضاع مع الزمن، فصار العرب يؤثرون في الفرس، فاقتبس الفرس من العرب شكل قبابهم والنقوش المتدلية (المقرنصات) وضروب الزينة كالكتابات، وسنعود إلى هذه المسائل في الفصول التي خصصناها للبحث في فنون العرب.
شكل 3-1: جوسق چهل ستون في أصبهان (من تصوير كوست).
ولم يبق في بلاد فارس من مباني دور خلفاء العرب الأولين سوى عدد قليل، كبقايا مسجد همذان التي نشرنا صورتها في فصل آخر، ويظهر أن في مدينة مشهد بقايا من مباني ذلك الدور امتزج فيها الطراز العربي بالطراز الفارسي، وهي التي تكلم عنها مسيو دوكانيكوف، فتجلى الطراز الفارسي في أقواسها ومينائها ومآذنها المخروطة الشكل التي لا رواق لها في غير رأسها، وتجلى الطراز العربي في خطوطها المزخرفة وأعمدتها الهيف ومتدلياتها ... إلخ.
شكل 3-2: داخل مسجد في أصبهان (من تصوير كوست).
شكل 3-3: جامع أصبهان الكبير (من تصوير كوست).
وما بين بقايا مباني عصر الخلفاء في بلاد فارس والمباني التي أقامها الشاه عباس في أصبهان مؤخرا من التقارب يثبت لنا سير المهندسين على نمط قديم واحد، وسنرى في الفصل الذي ندرس فيه تاريخ فن العمارة العربية، أنه طرأ على ذلك النمط القديم بعض التغيير في الجزئيات المهمة مع الزمن ولا سيما في شكل القباب، فبعد أن كانت القباب منخفضة، ثم ذات نصف كرة، صارت مخصرة بصلية الشكل.
ومهما يكن من أمر فإن لفن العمارة الفارسي طابعا خاصا، ونعد المآذن المخروطة الشكل
والأبواب العظيمة المفرطحة القناطر والجدران المزينة بالميناء الملون من أهم ما اختص به فن العمارة الفارسي ذو التأثير في مباني الهند كما نقطع في ذلك.
وانتحل المغول، بعد أن قهروا العرب، دين العرب وحضارتهم، واستخدموا في بلاد فارس والهند التي استولوا عليها مهندسين من الهندوس والفرس، فمزج هؤلاء المهندسون مختلف الفنون في المباني التي أقاموها كما تراه بعد قليل، وتدل بقايا الآثار في مدينة سمرقند العظيمة، التي اتخذها تيمورلنك عاصمة لدولته سنة 1404م، فأصبحت نصف متداعية اليوم - على المؤثرات الفارسية في فن العمارة، وأعظم من ذلك ما كان للعرب من التأثير في الهند في بدء الأمر على الأقل.
ويظهر أنه صار للمغول فن عمارة خاص، مع أنهم لم يبدعوا أي عنصر في هذا الفن الخاص، وقد قام هذا الفن على مزج فنون مختلف الأمم التي خضعت لحكمهم فيما شادوا من المباني كما تدل عليه الصور التي نشرناها.
والخلاصة هي أن تأثير العرب في بلاد فارس كان كبيرا في أمور الدين والعلوم واللغة، وأنه كان ضعيفا بعض الضعف في العادات وفن العمارة، وأن الفرس، خلافا للمصريين، حافظوا على أقسام حضارتهم القديمة الأساسية مع صلتها بحضارة الغالبين، وذلك خلافا للمصريين. (2) العرب في بلاد الهند
لم يتفق للعرب في بلاد الهند شأن سياسي أعظم مما كان لهم في بلاد فارس، وللعرب، مع ذلك، تأثير ديني قوي ونفوذ مدني كبير في بلاد الهند منذ القديم، ففي الهند يخضع نحو خمسين مليون نفس لشريعة النبي في الوقت الحاضر.
وبدأ ظهور العرب في الهند منذ السنة الأولى من الهجرة (637م)، فقد خرجت أساطيل عربية من عمان والبحرين، وتقدمت إلى مصاب السند، ثم أدى ملك كابل الجزية إلى العرب في سنة 664م، وفتح جيش العرب في سنة 711م مملكة السند التي كانت تمتد إلى كشمير من الشرق ونهر السند والبحر من الغرب.
ولم يكن لاستقرار العرب هنالك أهمية كبيرة، فقد انتهى في سنة 750م، فآل الحكم فيها إلى ملوك من الهندوس، فإلى الترك والمغول الذين اعتنقوا الإسلام.
شكل 3-4: جوسق المرايا في أصبهان (من تصوير كوست).
وملوك غزنة أهم أولئك وأقدمهم. والغزنويون أخذوا يفتحون بلاد الهند حوالي سنة 1000م، وانتهى قتالهم في هذه السبيل بعد إحدى عشرة معركة قاموا بها في خمس وعشرين سنة، واستولوا نهائيا على ضفة السند الشرقية وعلى كشمير والپنجاب ولاهور وأجمير، وأعلن الغزنويون عن أنفسهم في كل مكان أنهم دعاة دين العرب وحضارتهم، ومنحهم خلفاء بغداد لقب أيامن المؤمنين، وهكذا خضعت الهند للفاتحين من الأجانب للمرة الأولى منذ زمن الإسكندر.
وكان سلطان الإسلام السياسي والديني قويا في بلاد الهند، ورسخ فيها ثمانية قرون بفضل ملوك الإسلام الذين تداولوا حكمها، ولا يزال سلطان الإسلام الديني قائما في بلاد الهند، وإن توارى سلطانه السياسي عنها، وهو يمضي قدما نحو الاتساع.
ووجد المسلمون، حين أوغلوا في الهند، حضارة قديمة أرقى من حضارتهم، وعرفوا كيف يمزجونها بها، ومما يستوقف النظر ما استطاعوه في زمن قصير من نشرهم لمعتقداتهم في قسم كبير من هذا القطر الواسع.
شكل 3-5: باب مسجد قطب وعمود الملك دهاوا المصنوع من الحديد «بالقرب من دهلي» (من تصوير فريث الفوتوغرافي).
وأعجب غزاة المسلمين بمباني الهندوس المغلوبين، واسمع ما قاله محمود الغزنوي في كتاب أرسله إلى أحد قواده عن مدينة مترا، التي كانت مشهورة أيضا، في القرن الخامس عشر قبل الميلاد:
تحتوي مدينة مترا العجيبة على أكثر من ألف من المباني المتينة متانة أهل الإيمان، والمصنوع أكثرها من الرخام، ولا يشتمل هذا العدد على معابد الكافرين، وإذا عد المال الذي أنفق على إنشاء هذه المباني بلغ ألوف الألوف من الدنانير، فضلا عن أنه لن يقام مثل هذه المدينة في أقل من قرنين، ووجد جنودي في معابد المشركين خمسة أصنام من الذهب ذوات عيون من ياقوت أحمر تساوي قيمته خمسين ألف دينار، ووجدوا فيها صنما آخر من الذهب مزخرفا بما زنته أربعمائة مثقال من الياقوت الأزرق، وذا نصمة بلغ وزنها عند الصهر ثمانية وتسعين مثقالا من الذهب الخالص، ووجدوا فيها، فضلا عن ذلك، نحو مائة صنم من الفضة يعدل وزنها حمل مائة بعير.
وقام ملوك جدد مقام أصحاب غزنة، ثم جاء المغول فحلو محلهم، وهنا نرى تنبيه القارئ إلى أن الذين تم لهم السلطان على الهند لم يكونوا عربا بدمائهم، وإنما كانوا من دعاة دين العرب وحضارتهم.
ويصل الباحث، حين يدرس تأثير العرب في الأمم التي اختلطوا بها، إلى إحدى النتيجتين الآتيتين، وهما: إما أن تكون حضارة العرب قد حلت محل حضارة الأمة المقهورة كما حدث في مصر، وإما أن تكون قد امتزجت بحضارة الأمة المغلوبة كما حدث في بلاد فارس والهند، وفي بلاد الهند بلغ امتزاج حضارة العرب بحضارة الهند مبلغا بدت علائمه حتى على المذاهب الدينية، ثم حدث أن أتى بعدئذ عنصر الحضارة الفارسية، فاشترك هذا العنصر أيضا في ذلك الامتزاج.
ويدل درس المباني في بلاد الهند على درجة تأثير العرب فيها في مختلف الأدوار، وعلى درجة تمازج تلك العناصر الثلاثة، وكان تأثير العرب سائدا لمباني الدور الأول، كباب علاء الدين الذي يكاد يكون أثر الفن الفارسي فيه غير موجود، والذي لا يبدو أثر الفن الهندي في غير تفرعاته؛ لعدم ملاءمة معابد الهند القديمة لمناحي الحضارة الجديدة، فاقتصر أتباع النبي على الانتفاع ببعض أجزاء هذه المعابد.
وظل تأثير الفن العربي في تلك المباني واضحا بضعة قرون أخرى وإن توارى العرب عن مسرح العالم بالتدريج، ثم أخذ المجال يتسع للفن الفارسي فتم له النفوذ على حساب الفن العربي والفن الهندوسي اللذين أخذ نطاقهما يضيق.
شكل 3-6: منارة قطب بالقرب من دهلي (من صورة فوتوغرافية).
وكان دور تحول مباني الهند بعد الإسلام طويلا، وتأخر زمن ظهور المباني التي كان للعبقرية العربية أثر فيها، ويرجع سبب هذا إلى أن دعاة شريعة الرسول لم يكونوا من العرب، بل من الترك والمغول المشابهين للبرابرة الذين استولوا على العالم الروماني، والذين لم يهضموا حضارة المغلوبين إلا بعد انقضاء زمن طويل.
حقا إنهم لم يهضموها إلا بعد زمن طويل، وبهذا البطء يبدو لنا الفرق الأساسي بين الأمم التي تكون على جانب كبير من الذكاء فتتطور بسرعة، كالأمة العربية، والأمم المنحطة التي تتطور ببطء كبرابرة القرون الوسطى الذين قضوا على دولة الرومان، وكأجلاف الآسيويين الذين غمر طوفانهم دولة محمد.
ولقد أبدع العرب من فورهم تقريبا، حضارة جديدة أفضل من الحضارات التي جاءت قبلها، وذلك بعد أن استعانوا بحضارة اليونان وحضارة الرومان وحضارة الفرس، وكانت عقول البرابرة عاجزة عن إدراك كنه الحضارة التي قهروا أهلها، وكان انتفاعهم بها ممسوخا في بدء الأمر، وهم لم يسيروا بها نحو الرقي إلا بعد أن صقلت أدمغتهم، وصارت قادرة على إدراك معانيها بعد زمن طويل.
والواقع أن تقدم أولئك البرابرة الذين هدموا الدولة الرومانية لم يحدث إلا بتوالي الأجيال، وأنهم، لبطء تقدمهم، لم يستطيعوا إقامة حضارة جديدة على أنقاض حضارة العالم السابق إلا بعد جهود استمرت قرونا كثيرة.
ودام سلطان أصحاب غزنة حتى سنة 1186م وحل الغوريون، الذين هم من التركمان، محلهم، ونذكر من ملوكهم المشهورين قطب الدين الذي توفي سنة 1210م، والذي أقام في بلاد الهند مباني ذات قيمة كما سيأتي بيان ذلك.
شكل 3-7: باب علاء الدين بالقرب من دهلي (من تصوير فريث الفوتوغرافي).
وأصبحت مدينة دهلي، في سنة 1250م، ملجأ لرجال العلم والفن من الغرباء، وصارت تحدب عليهم حدب بغداد فيما مضى، ثم أتى المغول، وصاروا يغزون الدولة الجديدة، ونازلهم علاء الدين تحت أسوار دهلي في سنة 1297م فوجد أمامه خمسمائة ألف رجل، على ما يروى، فدحرهم.
وفتح تيمور لنك مدينة دهلي عنوة في سنة 1378م، ولم يكن أمره غير عابر سبيل، فقد نشأ عن الفوضى التي أسفرت عنها فتوحه قيام دولة مستقلة مؤقتة هنا وهنالك، ولما حلت سنة 1517م استولى ملك كابل، الذي هو من ذرية تيمورلنك، على مدينة دهلي، وأسس دولة المغول الكبرى التي كتب لها البقاء مدة ثلاثة قرون، ثم قضى عليها الإنكليز.
والآن ندرس على طريقتنا أهم ما في الهند من المباني العربية أو المباني التي كان للفن العربي أثر واضح فيها، فما نقش على الحجارة أفصح مما جاء في الكتب.
شكل 3-8: مزار أكبر في سكندرا (من صورة فوتوغرافية). (2-1) منارة قطب
يرجع أقدم ما انتهى إلينا من المباني العربية في الهند إلى أواخر القرن الثاني عشر من الميلاد، ونعد مسجد قطب - الذي أقيم في سنة 1190م بالقرب من دهلي - ومنارة قطب من أهم تلك المباني.
ومنارة قطب، ذات الشرف الكثيرة المخرمة، برج طويل مخطط ذو نقوش عربية مخروط الشكل مشدود بنطق مزينة بالكتابة.
ولا نرى ما هو عربي في منارة قطب سوى زخارفها وأروقتها، وقد أقامها، أو أتم إنشاءها، قطب الدين، فأضيف اسمها إلى اسمه مع الاختصار، فعرفت في أوربة باسم منارة قطب.
ويدل شكل منارة قطب الخاص على أن مهندسيها من الهندوس، ويعدونها في الهند من العجائب، قال السيد أحمد خان، الذي عرف عنه مسيو غراسين دوتاسي مخطوطا هندوسيا مهما خاصا بدهلي: «إن عظمة هذه المنارة وجمالها مما لا يمكن وصفه كما يجب، فهي مما لا نظير له على وجه الأرض»، ويرى ذلك المؤلف أن الملك الهندوسي پيثوره هو الذي بدأ بإنشائها في سنة 1143م فأتمها قطب الدين.
ويشاهد بالقرب من منارة قطب الدين أنقاض معبد هندوسي قديم حول إلى مسجد، ويرجع تاريخ إنشائه إلى (سنة 587ه / 1191م). (2-2) باب علاء الدين
يشتمل ذلك النطاق الذي يحوي مسجد قطب ومنارته على كثير من الآثار المهمة الأخرى كمعبد پيثوره، وأهم تلك الآثار الباب العظيم الشهير الذي أنشأه علاء الدين في سنة 1310م، والذي يستوقف النظر بجماله الرائع من حيث تاريخ الفن عند المسلمين، والذي هو من أهم آثار الفن العربي التي انتهت إلينا، ولم أشاهد بين الأبواب ما يماثله سوى بعض أبواب الحمراء الداخلية مع ما بينها وبينه من التفاوت في الاتساع كالذي بين الفسطاط والكتدرائية.
وإن القارئ الذي يتأمل صورة ذلك الباب الصادقة التي نشرناها في هذا الكتاب ليعجب من عبقرية المهندسين الذين استطاعوا أن يمزجوا مختلف الفنون، فأقاموا باب علاء الدين المبتكر المنسجم الذي تبدو أعمدة أطره هندوسية، وتبدو قناطره ومعظم دقائق زخارفه عربية، ويكاد باب علاء الدين يذكرنا في مجموعه بالأبواب الفارسية الضخمة.
شكل 3-9: معبد بندرابن بالقرب من متره (من صورة فوتوغرافية).
وتناسب متانة باب علاء الدين ضخامته، فقد قامت حجارته مقام الآجر الذي شيدت به قصور العرب في الأندلس، وحلت نقوش حجارته محل نقوش قوالب الحمراء السهلة. (2-3) مزار ألتمش
نجد بالقرب من مسجد قطب مزار الملك ألتمش الذي أنشئ في سنة (633ه / 1235م) على طراز البناء المذكور آنفا، فيعد من أقدم المباني العربية في الهند. (2-4) معبد بندرابن
كان أول ما تجلى به تأثير العرب في الهند تطعيم مبانيها القديمة بالفن العربي.
وأقتصر، لبيان ذلك، على نشر صورة لقسم من معبد بندرابن الذي بني على طراز شمال الهند، وأقيمت قنطرة بابه على الطراز الفارسي العربي. (2-5) مزار أكبر في سكندرا
شكل 3-10: تاج محل في أغرا (من صورة فوتوغرافية).
قامت المباني التي نذكرها الآن أيام سلطان المغول، وكان قد انتهى شأن العرب السياسي في الهند، فحصر نفوذهم في العلوم والفنون والدين، وقد أشال نفوذ الفرس والهندوس كفة فن العرب، فنشأ عن ذلك امتزاجه بالفنون الأخرى، فصرت لا ترى التأثير البالغ لطراز العرب في مباني الهند كما كان مع بقائه حيا فيها.
شكل 3-11: قاعة تاج محل المثمنة الكبرى وقبته من الداخل.
ويعد مزار الملك أكبر - الذي أقيم حوالي سنة 1600م في سكندرا الواقعة بالقرب من دهلي - من أهم مباني ذلك الدور الجديد، وهذا المزار شرع بناؤه في زمن الملك أكبر، وانتهى في زمن شاهجهان.
وكان أكبر - الذي هو من حفدة تيمورلنك - من أعظم من عرفتهم بلاد الهند، فقد بلغت بلاد الهند في عهده، الذي دام من سنة 1550م إلى سنة 1605م، ما لم تعرفه من الرخاء قبله، وكان عصره عصر فن العمارة الذهبي في الهند.
حقا لقد كان أكبر راغبا في شيد المباني، فقد أقام في عشر سنين، بدأت من سنة 1560م، وعلى الصحراء القريبة من أغرا، مدينة فتح پور وقصورها التي تذكرنا أنقاضها العجيبة بمدن رواية ألف ليلة وليلة البائدة، ولما أعياه جو هذه المدينة بعد قليل، وهي التي يتمنى بعض الدول الأوربية العظمى أن تكون عاصمة لها، ارتحل عنها هو وسكانها هاجرا لها ولقصورها ومساجدها التي أصبحت مأوى للنمر وبعض الزهاد بعدئذ.
ولم يقتصر أكبر على إقامة المباني، بل كان يعنى بشؤون الفلسفة أيضا، فقد عن له ذات يوم وهو الذي كان متسامحا غير متين العقيدة، أن يصهر جميع الأديان في دين واحد، فعقد مؤتمرا من رجال الأديان المعروفة، ومنها النصرانية؛ ليبسط لهم خطته.
ومن دواعي الأسف أن نسي أكبر أن كل واحد من مستمعيه كان يعتقد أنه على الحق الواضح وأن الآخرين على الضلال المبين، وأن التوفيق بين المؤتمرين من المستحيل، فلم يسفر ذلك المؤتمر عن غير تشاتم هؤلاء وتلاعنهم.
وأيقن أكبر بذلك أن الملوك، وإن قدروا مثله على بناء المدن والقصور في الصحراء، لأعجز من أن يبددوا الأوهام القوية التي تسيطر على قلوب الناس، فالتاريخ لم يعرف ديانة قامت على مناقشات باردة أملاها العقل. (2-6) تاج محل في أغرا
شكل 3-12: حاجز من الرخام الأبيض المنقوش المحيط بقبر شاهجهان وزوجه في تاج محل.
يرى في مدينة أغرا عدة أبنية مهمة قامت على الطراز الهندوسي الفارسي العربي، ولا سيما مزار تاج محل الشهير الذي يتطلب وصفه الكامل أكثر من مجلد. بدأ الملك شاهجهان ببناء تاج محل في سنة 1631م ليكون ضريحا لزوجه التي لم يقدر على سلوها، فعزم على إقامة أثر لها أجمل من كل ما عرفه بنو الإنسان، ودعا الملك شاهجهان مهندسي الشرق إلى التسابق في وضع رسمه، وحمل أقصى البلاد على جلب أغلى الحجارة وأعزها لرفعه، وأنفق، على ما يقال، ستين مليونا في سبيل إنشاء ذلك الأثر العظيم، خلا عوض أعمال الفعلة الذين كانوا يسخرون، ورأى تاڨرنيه أن إقامة تاج محل اقتضت جهود عشرين ألفا من العمال في اثنتين وعشرين سنة، فبناء مثل تاج محل لا يقام في أوربة بثلاثة أمثال هذا المبلغ.
بني تاج محل الذي نشرنا بعض صوره الصادقة في هذا الكتاب، مع عدم كفايتها لإظهار جماله، من المرمر الأبيض في وسط قاعدة فسيحة رخامية تعلو خمسة أمتار عن وجه الأرض، وتمتد مائة متر من كل جانب، ويقوم على زوايا تلك القاعدة الأربع أربع مناور، ويلمس ماء النهر أسفل إحدى جنباتها، وتحيط الحدائق ذات النبات الجميل بجنباتها الثلاث الأخرى إحاطة تأخذ بمجامع القلوب، ويحف حول تلك الحدائق سور ذو شرفات، وتدخل من باب كبير أنشئ على الطراز الفارسي.
ولتاج محل أبعاد كبيرة، فترتفع قبته عن سطح الأرض أكثر من ثمانين مترا، ويدخل من أربعة أبواب يبلغ ارتفاع كل واحد منها عشرين مترا، ويرى في وسط تاج محل ضريح شاهجهان وضريح زوجته المحبوبة.
ويعد السياح تاج محل من عجائب الدنيا، وإليك ما قاله كاتب لم يصرح باسمه في مجلة المصور مع صورة مقتبسة من ميناء هندي صحيحة صحة الصور الفوتوغرافية تقريبا:
إن تاج محل مصنوع من المرمر الناصع المصقول، ويكاد البصر يخطف من نور هذا البناء العجيب حينما تلقي الشمس أشعتها عليه، ولذا تجد نور القمر الشاحب أليق بتاج محل الأنيق، وإن كل ما يمكن الفن أن يجود به من الكمال صبه في تاج محل الساحر، فترى فيه الجدران المرمرية المنقوشة بما لا يتصوره الإنسان من الأزهار والأوراق والورد والزخارف العربية الزاهية، وترى فيه الأعمدة الصغيرة الهيف والأطر الغانية والأورقة النيرة والنقوش المتدلية والفسيفساء المتقنة الثمينة الباهرة، ترى فيه كتابات جميلة من الرخام الأسود، وترى في ذلك المكان الساحر جميع ما يسمح به الفن على الوجه الفياض الأكمل.
شكل 3-13: المسجد الكبير في دهلي (من صورة فوتوغرافية).
شكل 3-14: داخل ردهة في قصر ملوك المغول بدهلي (من صورة فوتوغرافية).
وإذا نظرت إلى الضريحين المصنوعين من المرمر الناصع رأيتهما مثقلين بالكتابات والزينة الغنية مع عظيم إتقان وظرف، وعلمت أن أزهارهما المرصعة بالفسيفساء، والتي تطفح بها من الأسفل إلى الأعلى، من أجمل ما صنع الإنسان، فتتألف كل زهرة من مائة من الحجارة الصقيلة الملونة المتنوعة التي جمع ما بينها صانع ماهر فأكسبها الصورة التي أرادها، وتلك الحجارة الملونة هي من اللازورد والزبرجد والعقيق واليصب والرخام السماقي والمرمر الأصفر الذهبي ... إلخ، وزين أسفل الإطار المثمن والغرف القريبة منه بما ارتفاعه متر و30 سنتيمترا من الألواح الرخامية الناصعة الكبيرة ذات النقوش البارزة من الفسيفساء على شكل الأزهار وأواني الأزهار، ومثل تلك الألواح مما يشاهد أيضا في أسفل القباب التي تعلو مداخل تاج محل المزينة بالخطوط العربية المكتوبة بالرخام الأسود.
وتاج محل هو من المباني الإسلامية النادرة التي تفلتت من يد التخريب الإنكليزية المنظمة، والمصادفة هي التي أنقذت تاج محل من عدوان الإنكليز، فقد رأى الحاكم الإنكليزي لورد بنتنك أن تاج محل لا يدر شيئا، فاقترح أن يهدم وتنزع فضته وتباع قطعه في الأسواق، ولولا ما لتاج محل، الذي هو من أعظم المباني التي شادها الإنسان، من الأهمية العالمية الكبرى التي تكفي وحدها لزيارة الهند لنكب العالم بهدمه، والحق أن الذوق الفني مما لا يلائم الطبائع التجارية التي قد يؤدي طغيها على العالم إلى دخوله في دور يستباح فيه تحطيم تمثال كتمثال أفروديت (ڨينوس دوميلو) لتصنع منه أجران وهواوين! (2-7) مسجد المعطي أو مسجد اللؤلؤ في أغرا
ومن بين مباني أغرا المهمة أذكر أيضا «مسجد المعطي» الذي أمر بإنشائه شاهجهان في سنة 1658م وفق طراز عهده، وهذا هو المسجد الذي صاح الأسقف إيبرت حين رآه قائلا: إن الخزي ليعتريه وقتما يفكر في عجز أبناء دينه عن إقامة مثل بيت الله هذا. (2-8) المسجد الكبير في دهلي
تشتمل مدينة دهلي على كثير من المباني التي أقيمت على الطراز الإسلامي في زمن المغول، والتي نعد بعضها باختصار، والمسجد الكبير الذي أقيم في سنة (1060ه / 1650م)، هو أول ما نذكر منها.
بني هذا المسجد الضخم على ذروة ساحة فسيحة يوصل إليها بدرجات عظيمة مؤدية إلى مدخل هائل أنشئ على الطراز الفارسي، وبني من حجارة رملية حمر، ويستر مقدمه رخام أبيض ورخام أسود متداخلان تداخلا بديعا، ولم يشذ عن طراز تلك المباني التي تمازج فيها الفن العربي والفن الفارسي والفن الهندي، وتجد في الصورة التي نشرناها ما يكفي للوقوف على شكله الخاص. (2-9) قصر المغول في دهلي (أو قلعة شاهجهان)
تم بناء هذا القصر، الذي أنشأه شاهجهان، في سنة (1058ه / 1648م) وهذا القصر هو أجمل القصور الإسلامية التي أقيمت في بلاد الهند وفارس، وما في رداهه من الفسيفساء يجعلها قطعا من الحلي.
ولم ينل هذا القصر الشهير (الذي هو من أعجب ما شاده البشر، والذي ضن به البرابرة الذين دوخوا دهلي غير مرة ونهبوها فلم يخربوه) من الإنكليز ما يستحق من العناية، فقد هدموا جميع أجزائه التي رأوا أنهم لا ينتفعون بها، وأقاموا في مكانها ومن أنقاضها ثكنا، ولم يحترموا سوى الرداه التي رأوا فيها بعض النفع لهم، وذلك مع علمنا أن الإنكليز، الذين حسبوا مقدما نفقة تنظيف تلك الرداه من فسيفسائها وزخارفها الجميلة عند تحويلها إلى إسطبلات ومراقد للجنود، لم يروا للخلاص من تلك النفقة ما هو أسهل من تكليسها، فسخط العالم على هذا العمل الهمجي الذي تحمر منه وجوه وحوش البرابرة خجلا، فاضطر الإنكليز إلى كشط ما جنت أيديهم من عمل حقير، وما أبقاه الإنكليز من ذلك القصر يكفي، مع ذلك، لبيان ما كانت عليه حاله قبل أن تصيبه يدهم الهدامة، ويمكن القارئ أن يتمثله بسهولة عند نظره إلى الصورة التي نشرناها في هذا الكتاب عن إحدى رداهه.
قال مسيو روسله: «إن أبهة داخل ذلك القصر مما لم تسمعه أذن، فقد زينت أساطينه وحناياه وأطرقبته بالنقوش العربية العجيبة التي رسمت بالحجارة الكريمة المرصعة في الرخام، وتهب الشمس وقتما تلقي أشعتها على فسيفساء ذلك القصر من خلال حناياه، الحياة لطاقات زهوره المصنوعة من اللازورد والعقيق واليصب، وما لا يحصى من أنواع الحجارة الثمينة.»
وزار هذا القصر الشهير في إبان عظمته فرنسيان، أحدهما: طبيب اسمه بيرنيه، والآخر: صائغ اسمه تاڨرنيه، ووصفا دقائق كنوزه في سنة 1670م وسنة 1677م، وأذن للصائغ تاڨرنيه في فحص حجارته الكريمة ورسمها، وتجد في كتابه تقديرا ورسوما لأهمها، ومما جاء فيه أن في القصر سبعة تيجان مرصعة بالألماس، وأن ثمن أهم هذه التيجان السبعة يقدر ب 160500000 فرنك.
وليس من الصعب أن نستعين بما ذكرناه آنفا، وبما جاء في كتب المتقدمين من الوصف، فنتصور الحال التي كان عليها بلاط ملوك الهند المعاصرين لملك فرنسة لويس الثالث عشر تقريبا، فالسائح الذي يقترب من دهلي يشاهد في الأفق غابة من القباب والمناور التي تناطح السماء، ثم يمتع - بعد أن يدخل دهلي - نظره بمئات القصور والمباني الساحرة المكسوة بالميناء الملون الذي لا يقدر على الإعراب عن جماله غير التصوير، ويجب عليه، إذا ما رغب في اجتلاء طلعة سيد تلك العجائب، أن يسأل عن الساعة التي يذهب فيها إلى المسجد، وهو يشاهد، في أثناء انتظاره صابرا أزوف تلك الساعة، الرياض الغن ذات الجواسق المخرمة المغطاة بالفسيفساء والمنعكس رخامها في مياه الفساقي والحياض العميقة والبارزة من بين أزهار الجلول
1
والياسمين وشجر البرتقال والليمون والأشجار العطرة الطيبة الرائحة التي لا تعرف بلادنا مثلها.
وبينما يقضي السائح العجب من تلك العجائب، فيقول في نفسه: إن ملائكة رواية ألف ليلة وليلة لا تستطيع أن تبدع ما هو أروع منها، يسمع ألوف الصنوج تدق إيذانا بمجيء الملك، ويرى أنه يخرج من باب القصر الهائل جمع كبير من الخدم المتسربلين بسرابيل براقة، ومن الجنود المدججين بالسلاح اللامع، ومن العبيد السمر ذوي الخلاخل الفضية، والحاملين للمحامل الزاهية ذات المظلات المخملية، ويرى، في وسط موكب من فرسان الهندوس والفرس والتركمان الحاملين سيوف الهند المرهفة، ومن أكابر الأمراء والأعيان اللابسين أفخر الثياب المطرزة بالذهب والفضة والحجارة الكريمة، صاحب الجلالة الملك الراكب فيلا ضخما متزن الخطا، والذي تظلله مظلة من الحرير المطرز بالألماس والزمرد، ويرى الجمهور وهو يخر ساجدا لذلك الملك المطلق الذي هو سيد الهند، وظل الله الحي المرهوب في الأرض، والمالك لخمس عشرة مملكة، والذي هو ملك أغرا ودهلي وكابل ولاهور وكجرات ومالوا وبنغال وأجمير، ويرى على جوانبه فريقا من حاشية الملك يحرك مراوح من ريش الطاووس ذوات أهداب مرصعة بالحجارة الكريمة على حين تلقي الشمس أشعتها الذهبية على ذلك الموكب الملكي الشرقي الباهر.
هوامش
الفصل الرابع
العرب في مصر
(1) حال مصر حين الفتح العربي
درس شأن العرب في مصر ذو فائدة عظيمة، فمصر من البلدان التي طالت إقامة العرب بها، وهي من البلدان التي أنشأوا فيها دولة مهمة، وهي من البلدان التي كان تأثيرهم فيها أعظم مما في أي بلد آخر ، ولا شيء يستوقف النظر كحفدة قدماء المصريين الذين قاوموا نفوذ الأغارقة والرومان على الخصوص، ثم اعتنقوا دين العرب ولغة العرب وحضارة العرب الغالبين، وصاروا عربا خالصي العروبة، وفي فارس والهند امتزجت حضارة العرب بالحضارة السابقة، وفي مصر توارت أمام حضارة أتباع النبي الجديدة حضارة الفراعنة القديمة وحضارة اليونان والرومان التي تنضدت فوقها في قليل من المدن.
وتثبت دراسة آثار العرب الماثلة في مصر أن ذلك الاستبدال كان تاما، والعرب لم يقتبسوا شيئا من المباني القديمة الكثيرة التي وجدوها في أنحاء القطر المصري.
شكل 4-1: من عرب وادي النيل (مصر العليا، من صورة فوتوغرافية التقطها المؤلف).
وتنطوي دراسة العرب في مصر على فائدة عظيمة من الناحية الإثنوغرافية، وقد ذكرنا في فصل سابق أنه لم ينشأ عن توالد العرب والمصريين عرق جديد وسط بين العرقين، وأن المصريين الذين صاروا عربا باللغة والدين والحضارة لم يصيروا عربا بدمائهم، فالشبه الوثيق بين فلاحي شواطئ النيل المعاصرين ووجوه أجدادهم المنقوشة على آثار العصر الفرعوني يدل على أن دم القدماء لا يزال يجري في عروق أهل مصر.
ورأى العرب حينما استولوا على مصر أنهم في بلاد تختلف بطرق معايشها وبيئتها عن جزيرة العرب وسورية، وكان كل شيء في مصر، من حضارة وسكان وأرض وجو، جديدا غير مألوف لديهم.
ولا بد لنا من النظر إلى تاريخ مصر وأحوال العيش الخاصة فيها لإدراك أسباب السرعة في استيلاء العرب على مصر، ولفهم سر تأثيرهم فيها.
وترجع بعض الآثار المصرية القديمة إلى ما قبل سبعة آلاف سنة أو ثمانية آلاف سنة، كما دلت عليه المباحث الحديثة، ومهما بعدنا في الرجوع إلى عصور التاريخ وجدنا المصريين أصحاب حضارة راقية.
ونجهل مصدر حضارة قدماء المصريين تماما، وإن كنا نعلم أنها أقدم من جميع الحضارات التي أينعت على شواطئ البحر المتوسط، وأنها قامت على ضفتي النيل قبل أن تقتبس الشعوب الإغريقية منها فنونها ومعتقداتها بقرون كثيرة.
شكل 4-2: نخيل الجيزة (من صورة فوتوغرافية).
وظن العلماء المعاصرون، حين أحيوا بمباحثهم مصر الغابرة، أنها لم تتبدل مع الزمن، ولكن إنعام النظر في آثارها التي تمت في مختلف الأدوار يدل على أنها لم تشذ عن سنة التطور العامة، وإن سارت حضارتها ببطء فيما مضى.
ويظهر أن كل شيء ثابت خالد في معابدها ذات الأبواب الهائلة، وفي أهرامها التي تتحدى الدهر، وفي تحنيطها الذي يزري بسنة الزمن، ونظمها التي تحرم كل تغيير وتبديل.
شكل 4-3: جزيرة الروضة في القاهرة (من تصوير إيبر).
ولم يسهل، والحالة هذه، على الفاتحين أن يؤثروا في أمة تلك حضارتها، فلقد تتابع غزو الأجنبي لمصر فظلت ثابتة على قديمها، واستولى الأغارقة والرومان على مصر من غير أن يؤثروا فيها، ونرى في المباني التي شادها البطالمة والقياصرة في مصر على طراز فن العمارة المصري القديم من الأدلة ما يكفي لإثبات ثبات الحضارة المصرية القديمة بتوالي القرون.
وكانت مصر، حين ظهور العرب على مسرح التاريخ طعمة للغزاة الفاتحين منذ قرون كثيرة، فقد استولى الإسكندر عليها في سنة 332ق.م، وطرد الفرس منها وأقام مدينة الإسكندرية فيها، ثم نادى أحد قواده، بطليموس سوتر، بنفسه ملكا عليها في سنة 304ق.م، وملكت أسرة البطالمة مصر مدة 274 سنة، وكان آخر من تولوا أمور مصر من تلك الأسرة الملكة كليوباترة الشهيرة، ولما هزم أكتاڨيوس كليوپاترة وأنطونيوس في معركة أكسيوم في سنة 30ق. م، أصبحت مصر ولاية رومانية، ولما قسمت الدولة الرومانية على أثر وفاة ثيودوز في سنة 395م كانت مصر من نصيب دولة الشرق الرومانية، وظلت مصر تابعة لهذه الدولة حتى سنة 640م، أي السنة التي فتحها العرب فيها.
وداومت مصر في زمن البطالمة على تقاليدها القديمة، وعاشت فيه عيش رغد ورخاء، وصارت الإسكندرية فيه مركزا تجاريا مهما وملجأ ثقافيا، وأقيمت فيه أبنية عظيمة على الطراز الفرعوني، كما تشهد بذلك بعض تلك الأبنية التي لا تزال قائمة في جزيرة الفيلة، فتعد مصدقة لما قلناه من انتحال جميع الفاتحين الجدد لتقاليد المصريين، وأنت إذا ما استثنيت المدن الإغريقية الرومانية التي أقيمت في مصر، كالإسكندرية مثلا، لم تكد تشعر بأي تأثير كان لأولئك الغزاة في مصر.
شكل 4-4: منظر القاهرة، ويرى مسجد قاغباي في أول الصورة (من صورة فوتوغرافية).
وعندما أصبحت النصرانية دين دولة القسطنطينية الرسمي أمر القيصر ثيودوز، في سنة 389م، بهدم جميع تماثيل الآلهة المصرية القديمة ومعابدها وجميع ما يذكر الناس بها، واكتفى بتشويه كتابات المعابد المصرية التي كانت من المتانة بحيث لم يقدر على هدمها بسهولة.
ولا تزال مصر ملأى بأنقاض ذلك التخريب الذي أملاه التعصب، وتعد تلك الأعمال من أفظع ما عرفه التاريخ من أثر عدم التسامح والبربرية، ومن دواعي الأسف أن كان من بواكير أعمال ناشري الدين الجديد، الذي حل محل دين الأغارقة والرومان، هدم المباني التي احترمها أكثر الفاتحين منذ خمسة آلاف سنة.
وأدت هذه الأعمال الوحشية بسرعة إلى إمحاء الحضارة المصرية، وزوال دور الخط الهيروغليفي الذي حلت رموزه في الزمن الحاضر، وأكرهت مصر على انتحال النصرانية، وهبطت بذلك إلى دركات الانحطاط مقدارا فمقدارا إلى أن جاء العرب.
وكان قيصر الروم هرقل سيد مصر حينما حاول العرب فتح مصر بقيادة أحد رجال الخليفة الثاني، وكان أشد البؤس والشقاء مما تعانيه مصر التي غدت ميدان قتال للمذاهب النصرانية، وكانت هذه المذاهب تكثر في ذلك الزمن وتتلاعن وتتقاتل.
وكانت مصر التي أكلتها الانقسامات الدينية، ونهكتها مظالم الحاكم تحقد أشد الحقد على سادتها الكئيبين، وكانت تعد من يحررونها من أيدي قياصرة القسطنطينية منقذين، فحفظ هذا الشأن للعرب.
تلك هي حال مصر عند ظهور أتباع النبي، ولنتكلم عن طرق حياتها الخاصة في ذلك الزمن:
يجب أن ننتقل إلى وادي النيل؛ لكي نطلع على أخلاق قدماء المصريين، وطرق حياتهم، ولأرض مصر وجوها من الخواص الثابتة بتقادم الزمن ما جعل الحياة فيها غير متحولة، ووصف مصر الحاضرة وسكانها المعاصرين يتضمن تمثل ما كان عليه وادي النيل وأهلوه عندما ظهر العرب في هذا القطر.
من المعلوم أن مصر هي الوادي الضيق الذي أوجده النيل في سواء الصحراء، ويبلغ طول هذا الوادي مستقيما من الشلال الأول الواقع على حدود بلاد النوبة إلى البحر نحو مئتي فرسخ، ويبلغ طوله معوجا من ذلك الشلال إلى البحر أكثر من ثلاثمائة فرسخ.
ويختلف وادي النيل عرضا، فبينما تراه لا يزيد على خمسة كيلو مترات في مصر العليا تراه يزيد على عشرين كيلو مترا في مصر الوسطى، وهو لا يكون عظيم الاتساع إلا بالقرب من مصب نهر النيل حيث ينقسم إلى ضلعيه اللتين يتألف من ابتعاد إحداهما عن الأخرى شكل 7، فيسمى السهل الواقع بينهما بالدلتا؛ لمشابهته الحرف اليوناني الذي يحمل هذا الاسم، ويبلغ أكبر طول في المثلث الذي يتألف على هذا الوجه نحو أربعين فرسخا، ويبلغ أكبر عرض في هذا المثلث، أي من ناحية البحر، ستين فرسخا.
والغرين
1
الذي تتألف منه مصر خصب جدا، وهو لا يحتاج إلى أكثر من نضحه بالماء ليخرج زرعه، والنيل هو الذي يقوم بذلك حين فيضانه، وفي مصر نظام للري، كالذي كان في زمن الفراعنة لا ريب، يؤدي إلى توزيع المياه بين أقسام الأرض التي لا يصل إليها النيل بنفسه.
وبلغت أقسام كثيرة من تلك الأرضين العجيبة من الخصب مبلغا تخرج معه في كل سنة ثلاثة زروع في كثير من الجهات، ويتم زرع تلك الأرضين من غير عناء تقريبا، أي أنها لا تحتاج في الغالب إلى من يثيرها لبذرها، وهي تغل أكثر من أراضي البلدان الأخرى مع ذلك، فبينما تعطي البرة ما يترجح بين خمسة أمثالها وعشرة أمثالها في أخصب أراضي فرنسة تراها تعطي خمسة عشر مثلا في أراضي مصر.
2
ولا يحتاج سكان مصر، بسبب جوها الحار،
3
إلى وفرة القوت، ولا إلى ثقيل الثياب، ولا إلى محكم المنازل،
4
فالفلاح المصري يقتصر في طعامه على كسر يابسة من الخبز وقليل من الفواكه والبقول، ويسكن كوخا حقيرا من تراب النيل المجبول بالتبن والماء، ويلبس جلبابا أزرق، وإذا ما كان عمره أقل من أربع عشرة سنة كان من العراة، وقد رأيت في مصر العليا وبالقرب من حدود النوبة، على الخصوص، عمالا كثيرين لا يكاد يزيد ثوب كل واحد منهم على زنار عرضه بضعة سنتيمترات مشدود على وسطه، وتترجح جميع نفقات الفلاح المصري السنوية في زماننا، الذي كثرت فيه نفقات الإنسان، بين سبعين فرنكا و120 فرنكا، ويندر أن تزيد أجرته اليومية على خمسين سنتيما، وأنبأني دليلي في الأقصر، أحمد، وهو لم يكن من سفلة الناس، أن نفقاته السنوية، هو وزوجه وأولاده الأربعة، نحو أربعمائة فرنك، وأنه يعيش بهذا المبلغ عيشا لائقا كثيرا.
ولم تتقدم طرق الزراعة والاستغلال في مصر ما كانت عليه في زمن الفراعنة، ولا نرى من الفوائد ما يحفزها إلى تغييرها ما دام النيل والشمس يغنيان فيها عن الأسمدة والحرث.
شكل 4-5: منظر القلعة ومسجد محمد علي في القاهرة (من صورة فوتوغرافية).
وتنظيم شؤون الري مقدارا فمقدارا بزيادة القنوات والترع هو كل ما يمكن إصلاحه وما تقضي المصلحة بإصلاحه، فبهذا يمكن إنقاذ أجزاء مصر التي يصل إليها ماء النيل من الصحراء، وتحويلها إلى حقول خصبة.
ولا بد من أن تكون مصر الغنية قد أثرت تأثيرا حسنا في العرب الفاتحين الذين جاءوا من صحاري بلادهم، فالكتابان الآتيان اللذان تبادلهما عمر بن الخطاب وعامله عمرو بن العاص يثبتان درجة تقديرهما لفتح مصر.
كتب خليفة أبي بكر، عمر بن الخطاب، إلى عامله عمرو بن العاص يقول له: «أطلب منك يا عمرو أن تصف لي مصر وصفا دقيقا عند أخذك كتابي هذا؛ لأتمثل ذلك البلد الجميل والسلام عليك.»
واسمع جواب عمرو بن العاص:
ورد إلي كتاب أمير المؤمنين، أطال الله بقاءه، يسألني عن مصر، اعلم يا أمير المؤمنين، أن مصر تربة غبراء، وشجرة خضراء، طولها شهر، وعرضها عشر، يكتنفها جبل أغبر، ورمل أعفر، يخط وسطها نهر مبارك الغدوات، ميمون الروحات، يجري بالزيادة والنقصان كجري الشمس والقمر له أوان، يدر حلابه، ويكثر عجاجه، وتعظم أمواجه، فتفيض على الجانبين، فلا يمكن التخلص من القرى بعضها إلى بعض إلا في صغار المراكب، وخفاف القوارب، وزوارق كأنهن المخايل،
5
أو ورق
6
الأصائل، فإذا تكامل في زيادته نكص على عقبه كأول ما بدأ في جريته وطما
7
في درته، فعند ذلك تخرج ملة محقورة يحرثون بطون الأرض، ويبذرون بها الحب، يرجون بذلك النماء من الرب، لقيهم ما سعوا من كدهم، فناله عنهم أناس بغير جدهم، فإذا أشرق الزرع وأشرف، سقاه الندا، وغذاه من تحته الثرى، فبينما مصر يا أمير المؤمنين لؤلؤة بيضاء، فإذا هي عنبرة سوداء، فإذا هي زمردة خضراء، فإذا هي ديباجة رقشاء، فتبارك الله الخالق لما يشاء، والذي يصلح هذه البلاد ويقر قاطنها فيها ألا يقبل قول خسيسها في رئيسها، وألا يستأدى خراج ثمرة إلا في أوانها، وأن يصرف ثلث ارتفاعها في عمل جسورها وترعها، فإذا تقرر الحال مع العمال على هذه الأحوال تضاعف ارتفاع المال، والله يوفق إلى حسن الحال.
وقد يكون نهر النيل الذي فيه سر غنى مصر سبب بؤسها، فإذا ما كان فيضانه دون الدرجة الكافية ضربت المجاعة أطنابها في مصر، وإذا دام القحط في مصر عدة سنين لم يبق أمام الكثيرين من الفلاحين سوى الموت جوعا، ومن ذلك القحط الهائل الذي نكبت به مصر سنة (462ه / 1069م) أيام الحكم العربي، فقد روى مؤرخو العرب أنه حين نقص فيضان النيل عن درجة الكفاية خمس سنين متتابعة، وتعذر جلب القمح من الخارج بسبب الحروب الكثيرة التي كانت تقع في تلك السنين بلغت المجاعة في مصر مبلغا صارت تباع معه البيضة الواحدة بخمسة عشر فرنكا والهرة الواحدة بخمسة وأربعين فرنكا، وأن الناس أكلوا في أثناء تلك المجاعة جمال الخليفة وأفراسه التي كان عددها عشرة آلاف، وأنهم رموا في إبانها وزير الخليفة عن ظهر بغلته حينما كان ذاهبا إلى الصلاة في المسجد فذبحوها وأكلوها على مرأى منه، ثم أكلوا جثث الذين قتلوا بسبب هذا الاعتداء، ودامت تلك المجاعة، وكانت كلما دامت أكل الناس بعضهم بعضا، فكان يذبح من يخرج من البيوت من الأولاد والنساء ويؤكل لحمه مع عويله، ومما حدث أن نجت امرأة وكتب لها حظ البقاء حية بعد أن أكل بعضها في تلك الأيام، فكان الناس يشيرون إليها لطويل زمن بعد انقضاء المجاعة. (2) استيلاء العرب على مصر
فتح القائد عمرو بن العاص، الذي هو من عمال الخليفة الثاني، عمر، بلاد مصر في السنة الثامنة عشرة من الهجرة (639م)، وقد ذكرنا ما كان عليه عمرو بن العاص من الحذق والمهارة نحو سكان مصر، فهو لم يتعرض إلى ديانتهم، ولا إلى نظمهم ولا عاداتهم، ولم يطالبهم بغير جزية سنوية قدرها خمسة عشر فرنكا عن كل رأس مقابل حمايتهم، فرضي المصريون بذلك شاكرين، ولم يند سوى الروم، أي الجنود والموظفين ورجال الدين الذين أبوا أن يخضعوا للغزاة فالتجأوا إلى الإسكندرية، فحاصرها العرب حصارا دام أربعة عشر شهرا، وقتل في أثنائه ثلاثة وعشرون ألفا من العرب.
وكان عمرو بن العاص سمحا رحيما نحو أهل الإسكندرية مع تلك الخسارة التي أصيب بها العرب، ولم يقس عليهم، وصنع ما يكسب به قلوبهم، وأجابهم إلى مطالبهم، وأصلح أسدادهم وترعهم، وأنفق الأموال الطائلة على شؤونهم العامة.
وأما إحراق مكتبة الإسكندرية المزعوم؛ فمن الأعمال الهمجية التي تأباها عادات العرب، والتي تجعل المرء يسأل: كيف جازت هذه القصة على بعض العلماء الأعلام زمنا طويلا؟ وهذه القصة دحضت في زماننا فلا نرى أن نعود إلى البحث فيها، ولا شيء أسهل من أن نثبت بما لدينا من الأدلة الواضحة أن النصارى هم الذين أحرقوا كتب المشركين في الإسكندرية قبل الفتح العربي بعناية كالتي هدموا بها التماثيل ولم يبق منها ما يحرق.
وكان فتح الإسكندرية مهما لدى العرب كفتح القدس، فقد أسفر عن فتحهم لمصر فتحا نهائيا، وكان لهم به مصدر ثراء قوي، ونقطة ارتكاز يقدرون أن يستندوا إليها لقيامهم بفتوح جديدة أخرى.
ونحن، لكي نقدر أهمية فتح العرب للإسكندرية ومقدار تأثيره في العالم، نرى أن نوجز ما كانت عليه حين دخول العرب بلاد مصر.
كانت الإسكندرية من أهم مدن العالم منذ أنشأها الإسكندر (سنة 332ق.م) إلى أن فتحها عمرو بن العاص، أي في مدة ألف سنة، وكان يمكن عدها، وهي مركز لتجارة البحر المتوسط بأسره، ثانية مدن الإمبراطورية الشرقية، أي المدينة التي تأتي بعد القسطنطينية، وكان البطالمة قد اجتذبوا إليها أشهر علماء العالم وفلاسفته، وكانت تشتمل على أشهر المكتبات والمدارس.
بيد أن ذلك الرقي العلمي لم يدم، فكانت، حين فتحها الرومان بقيادة قيصر (سنة 48ق.م) قد أخذت في الذبول منذ زمن طويل.
ولم يكد فتح الرومان لها يتم حتى أخذت تنهض وتنتعش، وصارت ثانية المدن في الدولة الرومانية، ولكن هذا الرخاء كان مؤقتا، فهي لم تلبث أن صارت مسرحا للاختلافات الدينية، وتوالت فيها الثورات والفتن منذ القرن الثالث مع ما قام به القياصرة من أعمال القمع، ولما أصبحت النصرانية دين الدولة الرسمي أمر القيصر النصراني ثيودوز، لا الخليفة عمر بن الخطاب، بإبادة معابدها وتماثيلها وكتبها الوثنية كما ذكرنا ذلك آنفا.
وحافظت الإسكندرية على شيء من مكانتها التجارية مع ما أصابها من النقص في عهد قياصرة الروم، وكان فيها من البقايا المهمة ما أدهش عامل عمر بن الخطاب.
ولم يشاهد العرب مدينة منتظمة انتظام الإسكندرية، ونحن، وإن لم يكن عندنا علم قاطع بالحال التي كانت عليها حين الفتح العربي، نعرف بالضبط ما كانت عليه في القرن الثاني من الميلاد، ونحن، إذا ما أغضينا عما أصاب مبانيها من الهدم، رجحنا أنه لم يطرأ على رسمها تبديل كبير منذ ذلك القرن.
شكل 4-6: داخل مسجد عمرو بن العاص (من تصوير كوست).
كانت الإسكندرية مستطيلة الشكل ذات طول 5000 متر وذات عرض 1800 متر، وكانت تقطعها طرق مستقيمة طولا وعرضا، فتفصلها إحدى هذه الطرق إلى قسمين.
ونعد من الآثار المهمة، التي كانت في الإسكندرية: دار الصناعة الكبرى، والقصور الفخمة، ومعبد نپتون الذي كانت أساطينه تستوقف نظر الملاحين من بعيد، والتيمونيوم الذي رأى أنطونيوس أن يقضي بقية عمره فيه معتزلا بعد هزيمته في أكسيوم، والسيزاروم الذي أقام به قيصر منذ قيامه بالحصار، والمسلتين، وغيرهما من الآثار الكثيرة، والأمپوريوم القائم على طول الأرصفة حيث كانت تباع السلع العالمية، والموزيوم حيث كانت المكتبة الشهيرة التي هي أعظم مكتبة في ذلك الحين، ولم يكن في ذلك الدور المنحط من العلماء غير أصحاب الكرامات والنحاة واللغويين ورجال الدين، وكان يقوم على تل، حيث ينتصب عمود بونپيوس اليوم، معبد السراپيوم ذو الأبواب الضخمة والتماثيل الهائلة المصنوعة من الغرانيت.
وكانت جزيرة فاروس تواجه الإسكندرية، وتقوم عليها المنارة الشهيرة التي صنعت من الرخام الناصع، والتي كان نورها يرى من مسافة عشرة فراسخ من البحر، فتعد من عجائب الدنيا السبع، وكانت تتصل تلك الجزيرة بالبر بطريق معبدة طولها 1200متر.
أقام عمرو بن العاص حامية في الإسكندرية بعد الاستيلاء عليها، وأرسل كتائبه إلى داخل مصر، فاختارت مكانا على شاطئ النيل حيث نصب فسطاطه، وأنشأت أكواخا مؤقتة لم تلبث أن بدلت، بعد مدة قصيرة، بيوتا للجنود وقصورا للقادة، وكانت هذه الأبنية نواة لمدينة القاهرة المنافسة القادمة لبغداد، وسميت بالفسطاط، نسبة إلى الفسطاط الذي نصبت عليه.
وراق مكان الفسطاط عمرو بن العاص، فعزم على جعله عاصمة له فحصنه بالأسوار مقيما عليه بيته، وقد ظل ذلك المكان عاصمة لمصر من زمن عمرو، أي منذ أكثر من اثني عشر قرنا.
ودل ما قام به عمرو بن العاص من تنظيم مصر على عظيم حكمته، وعامل عمرو بن العاص الفلاحين بما لم يعرفوه من العدل والإنصاف منذ زمن طويل، وأنشأ للمسلمين وحدهم محاكم منظمة دائمة ومحاكم استئناف، فإذا كان أحد الخصوم مصريا حق للسلطات القبطية أن تتدخل، واحترم عمرو بن العاص نظم المصريين وعاداتهم ومعتقداتهم.
ولم يمنع عمرو بن العاص من عادات المصريين سوى عادة اختطاف إحدى العذارى الحسان من أبويها في كل سنة، وقذفها في النيل؛ لكي يمن إله النيل على مصر بما تحتاج إليه من ارتفاع الماء وقت الفيضان، وقد استبدل عمرو بن العاص بتلك العادة العادة التي لا تزال موجودة إلى يومنا، وهي قذف تمثال خزفي، يدعى العروس، في النيل في يوم معين من كل سنة، وإني أرى من المحتمل أن تكون هذه العادة، التي ترجع في القدم إلى ستة آلاف سنة، قد أتت من عادة تقريب القرابين البشرية في الديانة المصرية الأولى.
وسار عمرو بن العاص في مصر على غرار عمر بن الخطاب في القدس، فشمل الديانة النصرانية بحمايته، وسمح للأقباط بأن يستمروا على اختيار بطرك لهم كما في الماضي، ومن تسامحه أن أذن للنصارى في إنشاء الكنائس في المدينة الإسلامية التي أسسها.
شكل 4-7: ساحة مسجد ابن طولون وحوضه ومئذنته (من تصوير إيبر).
وإذ لم يكن للمسلمين مساجد في مصر، وإذ زاد عدد من أسلم من النصارى، أقام عمرو بن العاص مسجدا جميلا على طراز الحرم المكي، ولا يزال المسجد الشهير الذي أنشأه قائما مع عدم اكتراث الحكومة المصرية لتصدعه.
ولم يكتف عمرو بن العاص بفتح مصر الدنيا، بل زحف بجيشه إلى بلاد النوبة، أي أوغل في إثيوبية الرومان القديمة على رأس عشرين ألف جندي، ولم تخرج هذه الحملة عن صفة الغزوات التي لا تؤدي إلى تنظيم جدي ما دام العرب لم يستقروا ببلاد النوبة استقرارا ثابتا، بل اقتصروا على غزوها بين وقت وآخر، ومع ذلك فقد اعتنق النوبيون دين العرب ولغتهم كما اعتنقهما المصريون، واليوم إذا نظرت إلى النوبيين، وقد أتيح لي أن ألتقط صورا فوتوغرافية لهم، رأيتهم قوما مختلفي الألوان والملامح، فمنهم البيض الذين ينتسبون إلى عرب الحجاز، ومنهم سود الجلود، ومنهم من هم حسنو الخلقة، ومن النوبيات من يشابهن مصريات العصر الفرعوني مشابهة عظيمة.
وغزا العرب، غير مرة بلاد الحبشة، أو القسم المجاور منها للبحر الأحمر على الأقل، فكان تأثيرهم فيها دون تأثيرهم في بلاد النوبة، فقد حافظ الأحباش، الذين انتحلوا النصرانية منذ القرن الرابع، على دينهم، وإن شاعت اللغة العربية بينهم وصاروا أخلاطا من الآدميين.
والمدة بين فتح العرب لمصر في سنة 639م وفتح الترك لها سنة 1517م نحو تسعمائة سنة تداولت حكم مصر في أثنائها تسع دول:
شكل 4-8: داخل مسجد ابن طولون (من تصوير إيبر).
خضعت مصر لخلفاء المشرق (639م-870م)، ثم استقل ولاتها فأسسوا الدولة الطولونية (870م-905م)، ثم استرد خلفاء بني العباس سلطانهم عليها لمدة قصيرة (905م-934م)، ثم قامت فيها الدولة الأخشيدية القليلة الأهمية (934م-972م)، ثم استولى عليها الفاطميون (972م-1171م) الذين اشتملت دولتهم على شمال إفريقية وجزيرة سردينية وجزيرة صقلية وجزر البحر المتوسط وسورية فبلغت مصر في عهدهم ذروة الرقي والرخاء.
ثم أصاب خلفاء مصر مثل ما أصاب خلفاء بغداد، فقد استحوذ عليهم صنف من المرتزقة الذين عرفوا في التاريخ باسم المماليك، والذين تألف منهم حرسهم، والذين كانوا ينتسبون إلى الشعب الذي ينتسب إليه مرتزقة بغداد، ولم يتركوا لهم شيئا من السلطة الحقيقية، فلما جاءت سنة 1250م استبد المماليك بالحكم نهائيا، وقد دام سلطانهم 267 سنة.
وأقام المماليك في مصر دولتين من أصلين مختلفين، فأما الدولة الأولى: فهي دولة التركمان المماليك (1250م-1381م) التي كان قوامها أناس من الترك، كما في بغداد، أسروا في القفقاس، وفيما جاور بحر قزوين؛ فبيعوا كالأرقاء، فهؤلاء الناس هم من الملاح الأقوياء الذين لاح أنه سيتألف منهم حرس مختار للخلفاء، والذين كانوا ذوي منظر رائع بملابسهم الزاهية، وأسلحتهم الجميلة المرصعة بالأشعرة التي قلدهم بها الفرسان الصليبيون فاخترعوا علائم الشرف، والذين تقلد رؤساؤهم أعلى المناصب بالتدريج؛ لما نالوا من الحظوة فانفردوا بالملك فأقاموا دولتهم.
وأما دولة المماليك الثانية فهي الدولة المعروفة في التاريخ بدولة الشراكسة المماليك الذين لم يكونوا من ترك آسية العليا؛ بل من بلاد الشركس (1382م-1516م)، والذين طمع سلاطين دولة التركمان المماليك في قوتهم؛ ليدرأوا بهم كيد التركمان الأشرار الذين خان أسلافهم العرب فيما مضى، وقد خيب هؤلاء الشراكسة ظنهم، فاستبدوا بالحكم، وأقاموا دولتهم التي دامت إلى سنة 1516م حين قضى عليها السلطان سليم الأول، وحول مصر إلى ولاية تركية.
هنالك حانت ساعة انحطاط مصر، ثم شملها سلطان الأوربيين الحديث الخفي فلم يزدها إلا انحطاطا.
وصارت مصر ولاية تركية، ولم يلبث المماليك الذين قهروا في بدء الأمر أن عاد إليهم نفوذهم الحقيقي، وكان المماليك من أشد من حاربهم ناپليون، ولم تنج مصر منهم إلا بفضل الجبار الذكي محمد علي الذي قتلهم على بكرة أبيهم.
وكان المماليك يجمعون بانضمام أناس إليهم من الخارج، أي كان شراكسة مصر يشترون الموالي من بلاد الشركس؛ لإتمام عددهم ما دام جو مصر القتال لا يلائم تناسل الأجانب، وكان شراكسة مصر ينقادون لفريق من بكواتهم الذين ظلوا يختارون أجمل غلمان الشركس لكتائبهم. (3) حضارة العرب في مصر
استقت حضارة العرب في مصر من الينبوع الذي استقت منه حضارتهم في سورية وبغداد، وقامت حضارتهم في مصر بعناصر اقتبسوها من البزنطيين على الخصوص، ودلت مباني العرب الأولى في مصر على ذلك المصدر، ولم يلبث العرب أن تحرروا من المؤثرات الأجنبية كما تدل عليه مبانيهم التي أقيمت بعد مباني الزمن الأول.
ويتصف عصر الفاطميين، الذي بلغت حضارة العرب فيه بمصر ذروة الرقي، بنضج الفنون، وما تؤدي إليه الفنون من الصناعات، وبارت القاهرة بغداد في الفنون لا العلوم، فمدارس القاهرة لم تبلغ من الشهرة ما بلغته جامعات بغداد، وسنعود إلى هذا حينما نبحث في النواحي الثقافية من حضارة العرب التي لا نبحث في غير قسمها المادي الآن.
وزاد دخل خلفاء مصر على دخل خلفاء بغداد في نهاية الأمر، وذلك بفضل خصب أرضي مصر وصلاتها التجارية التي سنتكلم عنها في فصل آخر، وكان خلفاء مصر يقفون معظم ذلك الدخل على أمور الترف وبناء القصور، ولم تكن نفقات الإنشاء في ذلك العهد باهظة في وادي النيل ما دامت أجرة البناء اليومية في أوائل القرن الحاضر ثمانين سنتيما، وأجرة الحفار خمسة عشر سنتيما، وثمن متر حجر البناء المكعب، ومنه أجرة قلعه ونقله، فرنكا واحدا وعشرين سنتيما.
شكل 4-9: باب السيدة بالجامع الأزهر في القاهرة (من تصوير كوست).
شكل 4-10: القسم الأعلى من مآذن الجامع الأزهر (من صورة فوتوغرافية التقطها المؤلف).
وضربت الصناعة والصياغة والحياكة والنجادة والزخرفة بسهم كبير في الكمال في زمن الفاطميين (972م-1171م) كما روى المؤرخ العربي المقريزي الذي جاء البحث في آثار زمانه مصدقا لروايته، فكانت جدران البيوت تغطى بألواح القاشاني المطلي أو بالملاط الكلسي الرخامي المزين بالزخارف الزاهية والنقوش العربية كما نتمثله بسهولة من بعض القصور العربية الحاضرة في القاهرة، وكانت أرض تلك القصور تفرش بالفسيفساء، أو البسط الموشاة، وكان أثاثها يصنع من الخشب الثمين المرصع بالصدف أو العاج، وكانت متكآتها ذات رياش مزين في لحمته بصور الحيوان، وكانت نمارقها تكسى بالنسائج الأرجوانية الرائعة.
وارتقت الصناعة المعدنية في زمن الفاطميين إلى حد بعيد أيضا، كما يشهد بذلك ما انتهى إلينا من الأواني والأكواب والأباريق والأطباق والمصابيح، وغيرها من ألوف المصنوعات التي نشرنا صور نماذج كثيرة لها في هذا الكتاب.
وكانت قصور الخلفاء الفاطميين فخمة، ويثبت ما نراه في المساجد المصرية القديمة، التي ظلت قائمة، من الزخرف أنه لم يكن في وصف الكتاب لها شيء من المبالغة.
وقص المؤرخون علينا نبأ القصر العربي القديم الذي بناه خمارويه ابن طولون سنة (271ه / 884م)، أي قبل ظهور الفاطميين، فقد كان يحيط بذلك القصر، على حسب ما جاء في الأخبار العربية، رياض واسعة ذات زهور على شكل آي من القرآن، وكان يرى في رداهه الذهبية المقه
8
تماثيل لذلك الأمير ونسائه ذات ثياب ثمينة، وكانت له حظيرة جميلة للحيوانات الكثيرة، وكان يوجد تحت أحد أروقته الرخامية حوض زئبق عرضه ثلاثون مترا فينعكس عليه نور النهار وأشعة القمر والنجوم، وكان يشاهد من جوسق أنيق فيه منظر جميل لحدائقه وللنيل والريف.
شكل 4-11: نافذة في جامع السلطان قلاوون .
ولا تكفي الأوصاف المختصرة التي جاءت في كتب العرب عن القصور العربية في مصر منذ ألف سنة، فترانا مضطرين إلى إتمامها بما رواه أوربي يدعى غليوم الصوري في كتابه التاريخي عن حروب أمراء النصارى في فلسطين مستندا إلى ما قصه السفراء الذي أرسلوا إلى بلاط ملك مصري، قال غليوم الصوري:
نعتمد في وصف قصر الأمير الرائع الذي لم يكن له نظير في زماننا على ما قصه أولئك السفراء الذين زاروه فرأوا فيه ما ليس في غيره من الجلال والنضارة والعظمة، فقد وصل أولئك السفراء، بعد أن مروا من مسالك وقاعات كثيرة، إلى أروقة النزهة، والرياضة ذات العماد المرمرية، والسقوف الذهبية الدقيقة الصنعة والبلاط الزاهي الألوان، وبهرهم جمال ما رأوا فبهتوا، ولم تشبع عيونهم من النظر إلى تلك البدائع التي لم تكن لتخطر على قلوبهم، ومما شاهدوه: حياض السمك الرخامية، وأنواع الطيور المغردة الملونة البراقة التي لم يسبق لنا علم بها، ثم طاف الخصيان بهم في غرف تفوق ما تقدم حسنا ورواء، ومما رأوا هنالك أنواع ذات القوائم الأربع العجيبة، التي لا يقدر على تصويرها سوى ريشة رسام تابع لهواه أو شاعر متحلل أو من يسبح روحه في أحلام الليل ، والتي تنتجها بلاد الجنوب والشرق لا بلاد الغرب التي لا تراها، والتي قلما تسمع عنها شيئا.
ويمكن تصور ما كان عليه الخلفاء الفاطميون من الثراء عند النظر إلى قائمة الأموال التي روى المؤرخ المقريزي أن الخليفة المستنصر (427ه / 1037م) اضطر إلى بيعها؛ إرضاء لأولئك المرتزقة الذين تكلمنا عنهم آنفا، وقلنا: إنهم استبدوا بالملك تقريبا، ولا يطعن في صحة رواية المقريزي الذي استند إلى محضر وكيل الوزير ناصر الدولة، فالمرء حين يقرأها يرى أن ثروات العالم التقت وتكدست في مصر منذ قرون كثيرة؛ لكي تنثر على أحط الجنود في آخر الأمر كما قال مسيو مارسيل.
قال مسيو مارسيل نقلا عن المقريزي:
ذكر في تلك القائمة العجيبة ما لا حصر له من أمداد
9
الزمرد والياقوت واللآلئ والمرجان، وما إلى ذلك من الحجارة الكريمة ، وذكر فيها 18000 من آنية البلور، ثمن بعضها ألف دينار (15000 فرنك)، و36000 قطعة أخرى من البلور، وبساط من الذهب وزنه 54 أوقية، وأربعمائة قفص كبير من الذهب، و22000 حلية من العنبر، وعمامة مرصعة بالجواهر قيمتها 13000 دينار (1950000 فرنك) وديوك وطواويس وغزلان ذات حجم طبيعي مصنوعة من الذهب ومرصعة باللآلئ والياقوت، وموائد مصنوعة من اليصب كبيرة يستطيع أن يجلس حولها آكلون كثيرون معا، ونخلة من الذهب في صوان من الذهب، وثمار وأزهار ذات حجم طبيعي من اللؤلؤ والياقوت، وحديقة ذات تراب من الفضة المذهبة، وأرض من العنبر، وأشجار من الفضة وثمرات من الذهب والحجارة الكريمة، وخيمة مصنوعة من المخمل والديباج الموشى بالذهب، دائرتها خمسمائة ذراع (625 قدم) وارتفاعها 64 ذراعا (90 قدما) وبسطها تعدل حمل مائة بعير، وخيمة أخرى مصنوعة من الإبريز قائمة على أعمدة من الفضة، وأخبية وزنها ثلاثة قناطير، وألفان من الزرابي المزخرفة بالذهب ثمن إحداها 22000 دينار (330000 فرنك) وثمن أقلها ألف دينار (15000 فرنك)، وخمسون ألف قطعة من النسائج الحريرية الموشاة بالذهب ... إلخ.
وذلك إلى أن أمين بيت المال ابن عبد العزيز ذكر في قائمته أكثر من مائة ألف سلعة ثمينة ومئتي ألف قطعة من السلاح سلمت أمامه.
شكل 4-12: شارع في القاهرة (من صورة فوتوغرافية).
ويسأل الإنسان، عندما يعلم مقدار تلك الثروات: من أين أتت؟ ومن أي ينبوع كان الخلفاء يأخذون دخلهم الذي استطاعوا أن يجمعوا من الكنوز ما لا يملك مثله أي واحد من ملوك الزمن الحاضر؟
كانت ثروة الخلفاء الفاطميين تستند إلى مصدرين مختلفين: الحاصلات الزراعية والأعمال التجارية، والواقع أن مصر كانت مستودعا للتجارة بين أوربة والهند وجزيرة العرب، وأن جميع سلع الشرق كانت تمر، مضطرة، من طريق الإسكندرية إلى الغرب.
وروى فريسكو بالدي الفلورنسي أنه كان يرى من السفن في ميناء القاهرة في زمانه، أي في سنة 1384م، أكثر مما في جنوة أو البندقية، وأن عدد الزوارق في نهر النيل كان 36000، فتستخدم في الوسق والتفريغ، ويرى من أثمان السلع التي ذكرت في رحلة أحد أصحاب ڨاسكودوغاما أن مكاسب خلفاء مصر منها كانت وافرة إلى الغاية، وأن الأبازير والتوابل كانت تباع في القاهرة بثمن أعلى مما عليه في كلكتة خمس مرات.
ودام مصدر الثراء الواسع هذا إلى أن جاوز ڨاسكودوغاما، في سنة 1497م، رأس الرجاء الصالح، وبلغ شاطئ ملبار الذي لم يره أوربي قبله، والذي لم يختلف إليه أحد غير العرب حتى ذلك التاريخ.
وكانت الضربة التي نزلت بثروة خلفاء مصر بسبب هذا الاكتشاف عظيمة جدا، ولم يستطع الخلفاء أن يمنعوا بأساطيلهم الپرتغاليين من الاستقرار بالهند، ومن القضاء على تجارة العرب في الشرق الأقصى، أي على المصدر الأصلي لثروة ملوك مصر. (4) مباني العرب في مصر
مصر هي البلاد الوحيدة التي ترى فيها المباني العربية القائمة منذ الدور الإسلامي الأول، والتي يمكن الباحث أن يدرس فيها تحول فن العمارة العربي في مختلف الأدوار.
وإذ كان جميع تلك المباني العربية القديمة القائمة هو من المساجد على وجه التقريب، وكان أهمها في القاهرة، كان من السهل درسها.
شكل 4-13: منظر جامع السلطان حسن (من تصوير إيبر).
وظلت مدينة القاهرة، وإن شئت فقل أقسامها البعيدة من الأوربيين على الأقل، عربية تماما، ولنا بحالها الحاضرة، فكرة عما كانت عليه في عصر الخلفاء.
والناظر إلى القاهرة من بعيد يراها ذات طابع شرقي يستوقف النظر، أي يراها ذات طابع لا يشاهد مثله في أية مدينة أخرى على ما يحتمل، فهي مؤلفة من بيوت بيض ذوات سقوف مستوية يشرف عليها مئات من المآذن الهيف منفصلة عن النخل ارتفاعا، وتسحر القاهرة من ينظر إليها من أعلى القلعة، ولا أعلم مدينة تسحر القلوب بمنظرها كالقاهرة.
وشوارع القاهرة ضيقة متلوية غير منتظمة كشوارع كل مدينة شرقية، وتكاد أطناف نوافذ البيوت في أحياء مصر القديمة، على الخصوص، تتماس، والحكمة في ضيق تلك الشوارع هي الاستكثار من الظل واستبقاء الرطوبة، ومن يقطع شوارع القاهرة وميادينها الكبيرة التي أنشئت على النمط الأوربي تحت وهج الشمس يعلم سر تفضيل الناس، في مثل ذلك الجو، للشوارع الضيقة المملوءة بالظل على الشوارع الواسعة التي تلهبها نار الشمس على الدوام.
ويستوقف تزاحم الأقدام في شوارع القاهرة نظر السياح في كل حين، ويغري منظرها النفوس مع زيارة دمشق، فقد قضينا ساعات كثيرة في تأملها.
قال الدكتور إيزانبر: «يرى، في الجمهور الأنمر
10
المتزاحم، الفلاح المتواضع، والبدوي المتبختر، والقبطي أو اليهودي العبوس، واليوناني النشيط اليقظ، والقواس الألباني الثقيل المتزيد، وأصناف الزنوج الذين تترجح ألوانهم بين الأبنوسي الخاص بالسوداني واللمعان الخاص بالبربري، ويتألف منظر لا يمل منه الأجنبي من القوافل الآتية من نواحي إفريقية وجزيرة العرب، ومن الجمال الوئيدة المشي المتزنة الخطا، ومن الحمير السريعة الخطو التي يركبها صغار السادة من الشرقيين أو النساء المتحجبات بأزر قاتمة، ومن الباشوات الذين يمتطون بملابسهم الرسمية صهوة الخيل، ومن السقائين الذين يحملون أسقية جلدية لزجة، ومن أنواع الحمالين، ومن السواس الصخابين الذين يضربون العربي البليد بسياطهم، ومن الفلاحات البائسات المتباطئات.»
أنشئت مدينة القاهرة الجديدة سنة (359ه / 970م)، وهي تضم مدينة الفسطاط القديمة التي أقامها عمرو بن العاص فقامت مقامها، وعادت مدينة الفسطاط لا تكون اليوم إلا ضاحية لتلك المدينة تعرف الآن باسم مصر القديمة، وإن كانت مدينة عمرو بن العاص هذه لم تحمل سابقا هذا الاسم غير المطابق للأصل.
وتم إنشاء القاهرة بعد أن وضع حجرها الأول بثلاث سنين، وأنفق الفاطميون جزءا كبيرا من دخلهم الواسع على تجميلها وزخرفتها ، ولم يأل كل عاهل جهدا في أن يسبق سلفه في ذلك، ثم سار المماليك الذين حلوا محل الخلفاء العرب على غرار هؤلاء في تزيين القاهرة، ولم ينقطع أمر عمرانها إلا بعد أن أصبحت مركز ولاية تركية، فقد أهملها الترك، فضلا عن عدم زخرفتهم لها، واليوم تتدرج مبانيها المهمة إلى الخراب، وصار يخشى زوالها في المستقبل القريب لعدم إصلاحها، وقد قال لي أحد علية القوم في مصر: إنني أصبت في زيارتي لتلك المباني، فقد لا يبقى منها شيء يستحق المشاهدة بعد سنين قليلة.
والآن ندرس، على عجل، أهم مباني القاهرة وفق قدمها، وقد اخترنا من مساجد القاهرة، التي تترجح بين أربعمائة مسجد وخمسمائة مسجد، ما هو أدل على تطور فن العمارة في جميع أدوارها، أي منذ إنشائها حتى الأزمنة الأخيرة: (4-1) جامع عمرو بن العاص (21ه / 642م)
جامع عمرو بن العاص من أقدم معابد المسلمين وأقدسها، وقد شهد بناءه ثمانون صحابيا.
شكل 4-14: بركة وضوء في جامع السلطان حسن كما هي في الوقت الحاضر (من صورة فوتوغرافية).
وأنشأ هذا المسجد فاتح مصر عمرو بن العاص فحمل اسمه، وكان المسجد الجامع الوحيد الذي اشتملت عليه مدينة الفسطاط في عهد الخلفاء الأربعة الأولين وفي زمن الدولة الأموية، ثم اتخذ رسمه نموذجا زمنا طويلا ما بدا مثال المساجد الأولى.
ورسم المساجد الإسلامية الأولى بسيط، ومن ينعم النظر في أحدها يميزها كلها، ويتألف كل واحد من هذه المساجد من ساحة مستطيلة محاطة بأروقة واسعة ذات سقوف مستندة إلى صفوف كثيرة من الأعمدة، ويخصص أكبر هذه الأروقة الأربعة مكانا للعبادة، ويقع في وسط هذه الساحة بركة للوضوء، وتقوم على أركان المسجد أبراج مرتفعة تسمى مآذن.
شكل 4-15: مسجد آخور في القاهرة (من صورة فوتوغرافية).
ويوجد أمام أكثر المساجد القديمة ساحة محاطة بمساكن للغرباء، وإصطبلات للخيل والجمال، وحمامات للعامة، ومناهل للشرب، وذلك أن المساجد الأولى ليست أماكن للعبادة وحدها، بل هي منازل للمسافرين أيضا.
واستعيرت أعمدة جامع عمرو بن العاص من مختلف المباني اليونانية والرومانية، وتعلوها أقواس لا تختلف عن الأقواس القديمة إلا بانكسار خفيف في أعلاها، وبأشكالها التي تشابه نعل الفرس في أسفلها والتي أصبحت، بعد تعديل، من صفات فن العمارة العربي مع الزمن، ومنح شكل نعل الفرس، بتطبيقه على قاطع القباب بعد ذلك، هذه القباب هيفا وروعة أسنى مما تجده في فطس القباب البزنطية.
شكل 4-16: مسجد برقوق المشتمل على قبور الخلفاء (من صورة فوتوغرافية).
ولم يبق لساحة جامع عمرو بن العاص المستطيلة التي تحيط بها الأروقة سوى أعمدة قائمة في جانبين متقابلين منها، ويوجد في أحد هذين الجانبين صف واحد من الأعمدة، وفي الجانب الآخر المقابل الذي هو مكان للصلاة ستة صفوف من الأعمدة، وتبلغ أقواس كل واحد من هذه الصفوف إحدى وعشرين قوسا، ويكون، بذلك، مجموع الأعمدة التي في مكان الصلاة 126 عمودا، وإذا نظرنا إلى الصف الأول من مكان الصلاة فرأيناه ذا أعمدة مضاعفة كان الحاصل الحقيقي لأعمدة مكان الصلاة 147 عمودا.
ويوجد في جامع عمرو بن العاص، كما في كل جامع إسلامي، محراب مقنطر يتجه نحو مكة، ويقيم المسلمون أمامه صلواتهم، وفيه منبر للوعظ، والمحراب والمنبر المذكوران بسيطان إلى الغاية.
ومثلهما بساطة مئذنتاه القليلتا الارتفاع، اللتان لم يكن لكل واحدة منهما سوى رواق واحد ورأس دقيق.
ولا ترى في جامع عمرو بن العاص شيئا من الزينة والنقوش البارزة والدقائق التي اتصف بها فن العمارة العربي في المستقبل، ويوجد لجامع عمرو بن العاص روعة مع بساطته وغابة أعمدته وأقواسه، ومن المحزن حقا أن يعتريه الوهن كما يعتري أكثر المساجد القديمة في القاهرة.
11 (4-2) جامع ابن طولون (243ه / 876م)
قام جامع ابن طولون على الطراز البسيط، وإن كان أكثر زخرفا من جامع عمرو، فرسمه العام مثل رسم جامع عمرو، وهو، كجامع عمرو، مؤلف من ساحة مربعة تحيط بها الأقواس من كل جانب، وتقوم هذه الأقواس، المصنوع أعلاها على رسم البيكارين، والمصنوع أسفلها على شكل نعل الفرس بما هو أبرز مما في جامع عمرو، على أركان قوية تلتصق بزواياها أعمدة ذات تيجان منقوشة على الطراز البزنطي، وذلك بدلا من أن تقوم على أعمدة كما في جامع عمرو، ويظهر أن هذه الأركان هي المصدر الذي اقتبس منه طراز الأعمدة المنضمة التي ترى في كنائسنا القوطية كثيرا.
وباطن سقف جامع ابن طولون، المستند إلى تلك الأقواس، مصنوع من الخشب كما في جامع عمرو أيضا، ولا ترى فيه زخارف ونقوش متدلية، وما في أطنافه ونوافذه وأسفل حناياه من الأزهار والأغصان المصنوعة يذكرنا بالطراز البزنطي مبشرا بظهور فن الزينة العربي.
وتقرأ على أطناف باطن ذلك السقف خطوط كوفية منقورة في الخشب.
وتعلو جدران ذلك الجامع شرف ذات منافذ للضياء.
وبني ذلك الجامع من الآجر المكسو بملاط من الكلس والرخام، وصنعت نقوشه وزخارفه من هذا الملاط أيضا.
ولم يبق لذلك الجامع سوى مئذنة واحدة، وهي برج مدرج مربع في أسفله، أسطواني في وسطه مثمن الزوايا في أعلاه.
شكل 4-17: سهل القبور في أسفل القلعة وجامع محمد علي (من صورة فوتوغرافية).
ويرى في ساحة ذلك الجامع حوض جميل مغطى ذو نوافذ مثلثة في أعلى بابه.
وأصاب الوهن جامع ابن طولون، ولم تبال حكومة مصر بهذا الأثر الفني العربي القديم، كما أنها لم تبال بغيره من الآثار العربية، ويرى الناظر سقفه وجدرانه وكل شيء فيه على شفا الانهيار، ولن تمضي سنون قليلة حتى يصبح أنقاضا، وقد اضطررنا لدخوله إلى كسر أحد أبوابه المسمرة؛ منعا للناس من زيارته. (4-3) الجامع الأزهر (359ه / 970م)
شكل 4-18: داخل جامع المؤيد (من تصوير كوست).
الجامع الأزهر أرقى زخرفا من جامع ابن طولون، ولكنه يجب على من يدرسه أن يذكر أن كثيرا من دقائقه تم بعد إنشائه بزمن طويل.
شكل 4-19: جامع قايتباي (من صورة فوتوغرافية).
ويتمتع الجامع الأزهر، الذي بدأ بعمله مثل جامعة منذ سنة 375ه، بشهرة واسعة بين المساجد الإسلامية. وللجامع الأزهر الآن تأثير كبير في بلاد الإسلام، والطلاب يقصدونه أفرادا وأرسالا من أنحاء العالم الإسلامي، وكيف لا وهو الملجأ الأخير لعلوم العرب في الشرق. وفي الجامع الأزهر أساتذة يقبضون رواتبهم من دخله، ويدرسون فيه العلوم والآداب والتوحيد والفقه والطب والفلك والرياضيات والتاريخ، وكان عدد طلابه اثني عشر ألفا فيما مضى، ولا يقل الآن عن هذا العدد كثيرا، ويقوم بنفقات طلابه الفقراء.
ويشابه رسم الجامع الأزهر رسم المساجد السابقة، وما يحيط به من مختلف المساكن يفسد رسمه القديم بعض الفساد.
وعلى من يريد أن يتمثل طراز الجامع الأزهر القديم أن يدرس صحنه الكبير، فأقواسه الحادة تقوم على 380 عمودا من الرخام السماقي والمرمر والغرانيت، وقواعد هذه الأعمدة وتيجانها أخذت من أبنية قديمة، وقوس القناطر حادة أكثر مما في المساجد الأولى، ومآذنه الرائعة أنشئت بعد إقامته بزمن، وقد نشرنا في هذا الكتاب صورة فوتوغرافية التقطناها لها من أحد أرصفته، كما نشرنا أيضا صورة لمحراب فيه مزين بشتى الألوان، وذلك في ردهة اتخذت ضريحا لرجل عظيم. (4-4) جامع قلاوون (683ه / 1283م)
جامع قلاوون مثال لما كاد يبلغه فن العمارة في أرقى أدواره، ومن دواعي الأسف أن لطخ الدهانون بعض أجزاء جدرانه وباطن سقفه بحجة الإصلاح والترميم.
ويذكرنا جامع قلاوون في مجموعه بالمباني القوطية الأولى، وقد استوقفت هذه المشابهة أنظار العلماء الذين زاروه ك «كوست» و«إيبر»، قال إيبر:
ومما يستحق الذكر في مقدم جامع قلاوون ومزاره مشابهته لمقدم الكنائس القوطية الأوربية، وما فيه من أقواس الدعم الطويلة التي تقوم بينها أقواس صغيرة مستندة إلى أعمدة، وما كان من عدم وجود أفاريز فيه، وما فيه من الأساطين العاطلة من السطوح، وما فيه من الرتاج
12
الذي يزيد المدخل زخرفا وزينة، والذي يرى فيه كثير من الحنايا المتداخلة المرتكزة على أعمدة صغيرة متفاوتة، يذكرنا في مجموعه الفاقد النظام والانسجام بالمباني التي أقيمت في ذلك الدور في فرنسة وألمانية وشمال إيطالية، وإننا - مع إضافتنا إلى ذلك الطراز العربي ما تطلبه جو أوربة البارد الماطر وعاداتها الدينية ونقاشة تماثيلها وسقوفها المرتفعة وسطوحها الحادة الزوايا ومزاريبها الناتئة وقباب أجراسها وتماثيلها - وجدنا أن النقوش البارزة هي زخرف فن العمارة العربي الذي نقل إلى إحدى الأمم النصرانية في الشمال: وذلك الطراز هو الذي نسميه الطراز القوطي؛ فنرى مثاله الجميل في سنت شانيل الباريسية التي أقيمت في القرن الثالث عشر، أي في القرن الذي بني فيه جامع قلاوون.
ويرى في جامع قلاوون مزار مقبب يضم قبر بانيه، وتقوم قناطر هذا المزار الرائع الطويلة على أركان ذات أعمدة متصلة بزواياها، ويذكرنا هذا المزار، وتذكرنا نوافذه المصنوعة على رسم البيكارين، بمباني أوربة التي أقيمت على الطراز القوطي كما يذكرنا جامع قلاوون نفسه بها.
وكان يلحق بجامع قلاوون مشفى، وليس هذا المشفى موجودا في الوقت الحاضر مع وصفه مطولا في دليل نشر حديثا في الشرق. (4-5) جامع السلطان حسن (757ه / 1356م)
بلغنا أنضر أدوار فن العمارة العربي بالتدريج، وهو ما أقيم فيه جامع السلطان حسن الذي هو أجمل مباني القاهرة.
وتذكرنا سعة جامع السلطان حسن العظيمة بأكبر كنائسنا، وهو يزيد على كنيسة نوتردام الباريسية حجما، ويبلغ ارتفاع قبته العظيمة 55 مترا، ويبلغ ارتفاع أعلى مآذنه 86 مترا، أي ضعف ارتفاع عمود ڨندوم في باريس، ويبلغ طوله 140 مترا وعرضه 75 مترا، ويبلغ ثخن جدرانه ثمانية أمتار، وقد بنيت هذه الجدران من الحجارة المنحوتة خلافا لجدران المساجد القديمة التي بنيت من الآجر والرخام.
شكل 4-20: محراب جامع قايتباي ومنبره (من صورة فوتوغرافية).
ولجامع السلطان حسن في مجموعه منظر رائع لا نجد مثله في مساجد الهند الكبيرة التي تكلمنا عنها آنفا.
شكل 4-21: باب الفتوح (من تصوير إيبر).
ويختلف رسم جامع السلطان حسن العام بعض الاختلاف عن الرسم المعتاد الذي تكلمنا عنه، فهو قائم على شكل الصليب الإغريقى بدلا من أن يكون مربعا، وهو، بدلا من أن يكون محاطا بالقناطر كما في المساجد السابقة، تجد في كل واحدة من جهات ساحته الداخلية مدخل بهو فسيح ذي قنطرة عظيمة مصنوعة على رسم البيكارين نافذ إليها، وتقام الصلاة في أكبر أبهائه ذي القبة التي يبلغ ارتفاعها 21 مترا، ويشتمل هذا البهو الكبير على محراب ومنبر للوعظ كما تراه في جميع المساجد، وتستر قواطع الجدران كتابات ونقوش عربية، وتقوم في وسط تلك الساحة بركة رائعة متداعية مع الأسف.
شكل 4-22: بئر يوسف التي صنعها العرب في القاهرة (من تصوير كوست).
ويشتمل جامع السلطان حسن على قبر بانيه، وهذا القبر في بهو يبلغ عرض قبته 21 مترا مع نقوش متدلية في القاعدة.
وتحيط بالبهو كتابات جميلة منقورة في خشب ارتفاعه متر واحد تقريبا.
ونرى أقواسه مخصرة قليلا كما في أكثر المساجد السابقة، ولم تعم الأقواس المصنوعة على شكل نعل الفرس إلا في المباني التي شادها العرب في الأندلس على العموم.
ويبلغ ارتفاع الرتاج الشمالي لجامع السلطان حسن عشرين مترا، وهو مجوف على شكل نصف الدائرة، ويرتكز نصف القبة التي تعلوه على حجارة متدلية، وتغطي قواطعه نقوش عربية كثيرة.
ولم ينل جامع السلطان حسن من العناية أكثر مما نالته مساجد القاهرة الأخرى، فما فيه من الفسيفساء والنقوش والروافد
13
يندثر شيئا فشيئا، وقد لا يبقى من هذا الأثر الرائع سوى الجدران بعد سنين قليلة.
وجميع مساجد ذلك الدور تستحق الذكر، فتمثل، هي والمباني التي أقيمت في القرن الذي جاء بعدها، عصر فن العمارة العربي الذهبي بمصر.
ومن مباني ذلك الدور أذكر، على الخصوص، جامع الأمير آخور ذا القبة الرائعة، والمباني الآتية. (4-6) جامع برقوق (784ه / 1384م)
بني هذا الجامع من مداميك منظمة حجرية بيض وحمر، وهو من المباني التي نسميها مزارات الخلفاء، وتعبر مئذنته، مع مئذنة جامع قايتباي، عن المآذن العربية أحسن تعبير، ولقبابه المخصرة قليلا هيف يشمل النظر، وللقبة التي هي فوق ضريح برقوق منظر داخلي ذو روعة وجلال، وتمسك أركان البهو المربع هذه القبة بمدليات رائعة.
ويشتمل جامع برقوق على منبر عجيب من الرخام المنقوش، ويعد هذا المنبر، الذي هو تخاريم حجرية بالحقيقة، من روائع الفن العربي، فإهمال مثل هذا المنبر وتعريضه للنهب من الجرائم الوحشية التي لا تغتفر. (4-7) جامع المؤيد (818ه / 1415م)
جامع المؤيد في مجموعه أقل أهمية من أكثر المساجد التي ذكرناها مع ما فيه من فيض الزخارف، وهو إذا ما نظر إليه من ناحية زخارفه عد من أغنى مساجد القاهرة، وسيصبح أنقاضا بعد قليل من الزمن لإهمال أمره كما سيصير إليه أكثر المباني التي ذكرناها، وفي هذا الجامع شاهدت سقوفا ذات رقاع منقورة مدهونة ملونة يندر وجودها في القاهرة الآن، وشاهدت أبوابا عظيمة ذات أعمدة تعلوها أقواس مخصرة قليلا في قاعدتها مصنوعة على رسم البيكارين، وشاهدت نوافذ جميلة مصنوعة أيضا على رسم البيكارين تحيط بها كتابات وفسيفساء أنيقة. (4-8) جامع قايتباي (872ه / 1468م)
يشتهر هذا الجامع بقبته الكاسية بالزينة العربية البارزة النقوش، وبمئذنته الرائعة المثلثة الطبقات المغطاة بالنقوش، والمعدودة عنوان فن العمارة العربي الأخير على ما يحتمل، والناظر إلى هذه المئذنة يشاهد درجة ذوق العرب الفني في الزخرف البارز على الحجارة التي تصنع منها المساند والأطناف والأروقة الناتئة عن مستوى جدران المآذن، والتي تكتسب بها المآذن منظرا رائعا لا ترى مثله في البرج المربع أو البرج الأسطواني.
ويعد جامع قايتباي كما يعد جامع برقوق، من المباني المتصدعة التي يسميها الناس مزارات الخلفاء، وأقيم أكثر هذه المباني في زمن المماليك الشراكسة، وذلك في سهل رملي قريب من القاهرة، ويتألف من مجموع هذه المباني منظر من أجمل ما رأيت، ويرى في الناحية الأخرى من القاهرة، وبالقرب من القلعة، سهل آخر ذو مزارات مهمة ممتعة كثيرا بنيت في مختلف الأدوار، ويعلو هذه المزارات متنوع المآذن والقباب، ولا أرى أن أفصل أمرها لما في ذلك من الخروج عن نطاق هذا الفصل، ومع ذلك فقد نشرنا صورة فوتوغرافية لهذه المقبرة في هذا الكتاب. (4-9) المساجد التركية في القاهرة
لا أرى بين المساجد والقصور القليلة التي أنشئت منذ أوائل القرن السادس عشر، أي منذ استيلاء الترك على مصر، مسجدا واحدا أو قصرا واحدا يستحق الذكر، ولو نظرت إلى أهم المباني التركية في مصر، أي إلى جامع محمد علي الضخم ذي القبة الفطساء والمآذن الأسطوانية الهزيلة التي تنتهي بما يشبه المطفأة، لرأيت الهوة العميقة التي تفصل بين ذوق العرب الفني وذوق الترك.
شكل 4-23: ردهة استقبال عربية في القاهرة (من تصوير پريس الأفيني).
نعم، لم يكن العرب حين فتحوا مصر من رجال الفن المتضلعين، ولكن ما فطروا عليه من الذوق الفني العالي حفزهم إلى ابتداع طراز عمارة جديد من عناصر الفن البزنطي، وغير ذلك أمر أولئك الترك الذين لم يكونوا أهلا للانتفاع بمواهب أساتذة الفن وأمثلته، والذين لم يروا، حين أرادوا إنشاء جامع في القاهرة، غير نسخ عمارة أيا صوفية الثقيلة التي كانت كنيسة بزنطية، والتي هي عنوان مرحلة فنية جاوزها العرب منذ زمن طويل، فعند تلك المرحلة وقف الترك، ولم يستطيعوا قطعها. (4-10) الآثار العربية الأخرى في القاهرة
أبواب المدينة، القلعة، بئر يوسف ... إلخ: أذكر، من بين الآثار العربية التي أقيمت في عصر الخلفاء والتي يتجلى فيها فن العمارة العربي، بابين من أبواب القاهرة، وهما: باب النصر وباب الفتوح اللذان أنشأهما الخليفة الفاطمي المستنصر في القرن الحادي عشر من الميلاد.
وأذكر كذلك قلعة القاهرة التي أنشأها السلطان صلاح الدين في القرن الثاني عشر، وتستقي هذه القلعة ماءها من بئر منقورة في الصخر نقرا يدل على مهارة مهندسي ذلك الزمن، ويبلغ عمق هذه البئر 88 مترا، ويبلغ مدخلها ثمانية أمتار، وتقسم إلى طبقتين، ويرفع ماؤها بقوة الثيران التي تحرك دولابها ذا السبح والقلل، ويمكن النزول حتى الطبقة الأولى من هذه البئر بطريق مستديرة سهلة الانحدار ذات قصفان
14
واطئة إلى حد يسهل معه نزول الثيران إليها وصعودها منها.
ونشاهد في القاهرة آثارا كثيرة للحضارة العربية، كالمنازل والأسلحة ومختلف المصنوعات وغيرها من الأشياء التي سندرسها في فصول أخرى، فإذا أضاف القارئ درس هذه الأشياء إلى درس الآثار التي ذكرناها آنفا اتضح له أمر الحضارة التي أقامها رجال القرآن في مصر.
هوامش
الفصل الخامس
العرب في إفريقية الشمالية
(1) إفريقية الشمالية قبل الفتح العربي
نقصد بإفريقية الشمالية البلاد التي تشتمل على مراكش والجزائر وتونس وطرابلس الغرب، وتمتد إفريقية الشمالية من المحيط الأطلنطي إلى غرب مصر الملحقة بالشرق على العموم، وتحد إفريقية الشمالية بالبحر المتوسط في الشمال وبأقسام الصحراء المجاورة للسودان من الجنوب.
وكان الرومان يقسمون إفريقية الشمالية إلى خمسة أقسام: (1)
بلاد برقة الواقعة في غرب مصر. (2)
بلاد إفريقية القنصلية (طرابلس الغرب وتونس). (3)
بلاد نوميدية (ولاية قسنطينة). (4)
موريتانية القيصرية (قسم من الجزائر الحاضرة). (5)
موريتانية الطنجية (مراكش)، وكانت رومة تمارس سلطانها على هذه الولايات بما ترسله إليها من الولاة والمندوبين والحكام.
وسمى العرب إفريقية الشمالية والأندلس بالمغرب في البداءة، وأطلق اسم إفريقية على تونس وطرابلس الغرب حين استقر العرب بالقيروان وتونس، وصارت كلمة المغرب لا تدل على غير بلاد إفريقية الغربية في نهاية الأمر.
وصار العرب يسمون البلاد التي تحتوي الآن على الجزائر، تقريبا، بالمغرب الأوسط، والبلاد التي تحتوي الآن على مراكش بالمغرب الأقصى.
واستولت شعوب كثيرة على شمال إفريقية، وكانت لها آثار متفاوتة فيها، وملكها قبل العرب كل من القرطاجيين والرومان والوندال والقوط والبزنطيين.
ولم يتبدل أهل شمال إفريقية مع كثرة فتوح الأجانب لها، وهؤلاء الأهلون هم البربر الذين حافظوا على دينهم ولغتهم وعاداتهم خارج المدن على الأقل.
وينطوي تاريخ استقرار العرب بإفريقية على النزاع الذي دام طويلا بينهم وبين البربر، وكان للبربر من الشأن في إفريقية والأندلس ما يجب درسه؛ لفهم ذلك التاريخ، وتزيد ضرورة ذلك الدرس كلما أمعن العلماء في الغلط حين يتكلمون عن البربر بسبب بلاد الجزائر.
وجميع أمم إفريقية الشمالية التي سماها الرومان بالنوميديين واللوبيين والإفريقيين والمغاربة والجيتول ... إلخ، من عرق البربر، ويمكن القول بأن من لم يكن زنجيا في شمال إفريقية كان بربريا، وذلك قبل العرب.
ولا يقل جهلنا للأصل البربري عن جهلنا لأصول أكثر العروق.
بيد أن ما نراه في شواطئ إفريقية العليا من البيض بين الزنوج يدلنا على أن البربر نتيجة اختلاط مختلف الشعوب التي هاجرت إلى شمال إفريقية في أقدم القرون، وقد قلنا «أقدم القرون» لما ليس لدينا من الروايات والتاريخ ما يدون ذلك، وقد قلنا «مختلف الشعوب» لما نشاهد بين سود الشعور من زرق العيون شقر الشعور.
ويمكننا أن نأتي بافتراضات معقولة عن الأمكنة التي صدرت عنها تلك الهجرة فنقول: إن أولئك المهاجرين لم يأتوا من الجنوب الذي لا يرى فيه غير الزنوج، ولا من الشمال الذي لم يكن إلا بحرا خضما لم يفكر الأقدمون في عبوره، وإنما جاء أولئك المهاجرون من الشرق، أي من آسية، مارين من الأرض الضيقة التي تصلها بإفريقية، أو جاءوا من الغرب، أي من مضيق جبل طارق.
والحق أن المهاجرين السود الشعور أتوا من شواطئ الفرات ومن شمال جزيرة العرب، أو من مكان أبعد منها على ما يحتمل، وأن المهاجرين الشقر الشعور الزرق العيون أتوا من شمال أوربة، ولا ريب في مجيء هؤلاء من شمال أوربة مارين، على الأرجح، من أقصى طرف غربي بإفريقية، وذلك بدليل ما بين آثارهم الحجرية في إفريقية وما بين الآثار الحجرية التي اكتشفت في شمال أوربة من المطابقة التي لا ترى مثلها عند مقايسة تلك الآثار بآثار الوندال الذين أوغلوا في إفريقية بعد الميلاد بزمن طويل.
وهنالك بعض الأدلة على هجرة شقر الشعور إلى إفريقية، ففي مصر من المباني التي أقيمت منذ أكثر من أربعة عشر قرنا، أو خمسة عشر قرنا، قبل الميلاد ما رسمت عليه صور إفريقيين شقر الشعور زرق العيون، وأخبر الجغرافي سلاكس في رحلته التي قام بها في أطراف البحر المتوسط قبل الميلاد بقرنين بوجود شعب من شقر الشعور قاطن في الولاية التي تعرف اليوم بتونس، وعدد هؤلاء قليل في الوقت الحاضر، وتراهم الآن شراذم مبعثرة في إفريقية، وترى منهم أشخاصا بين الطوارق في الصحراء.
شكل 5-1: منظر تونس (من صورة فوتوغرافية).
وتفوق سود الشعور على شقر الشعور يدل على أهمية تلك الهجرة من آسية وتغلبها.
ودحر العرب البربر من الشواطئ، وكان البربر يقطنون قبل ذلك فيما بين البحر المتوسط وبلاد السودان من البقاع الواسعة، وتمازج سكان الجنوب من البربر والزنوج، فنشأت عن ذلك أمثلة من البربر مختلفة يراها من يطوف في مدن إفريقية، ولا سيما مدن مراكش.
ويقسم العرق البربري من الناحية السياسية إلى عدة فروع لعرق واحد، ومن هذه الفروع القبائل في الجزائر، والطوارق في الصحراء، والشلوح في مراكش.
ونقول، مع ما نجد من صعوبة في وصف البربر وصفا دقيقا من الناحية الإثنوغرافية: إذا بحثت عن البربر الخلص وجدتهم يسكنون الجبال الوعرة، وأما في المدن وفي المناطق القريبة من الساحل فقد تحولوا بفعل توالدهم هم والرومان والأغارقة والوندال وغيرهم، ولا سيما العرب الذين عادلوهم في بعض الأزمان كما نبين ذلك عما قليل.
شكل 5-2: قرية بربرية في الجزائر (من صورة فوتوغرافية التقطها جايزر).
ويصعب على الباحث، إذن، أن يبصر المثال البربري الخالص بعد ذلك التوالد، ونقترب من الصواب إذا قلنا إن المثال الذي نراه غالبا بين البربر يختلف عن المثال العربي بثخنه وثقله ووجهه المسطح العريض الوجنتين الضيق في أسفله، وبشفتيه الغليظتين وأنفه القصير مع قليل فطس وغالب خنس
1
وبعينيه الصغيرتين الدجناوين وبسواد شعره، وهذا إلى أنني شاهدت من أمثلة البربر ما يصعب تمييزه من المثال العربي بسبب ما حدث بين الجيلين من التوالد لا ريب، وذلك كما ذكرت.
وللبربر لغة عريقة في القدم يحتمل أن تكون مشتقة من الفنيقية، وبهذه اللغة حرض جوغورته جنوده على ماريوس، وبها تكلم الجيتول.
وإذا استثنيت ما يسمع في إفريقية الشمالية من اللغات الأوربية علمت أن العربية والبربرية هما اللغتان اللتان يتكلم بهما سكان إفريقية الشمالية، ولكن اللغة العربية هي الأوسع انتشارا، ولا يتكلم أحد بالبربرية في غير الجبال أو البقاع البعيدة جدا من المدن، وللبربرية لهجات كثيرة مختلفة فيما بينها اختلاف ما بين الفرنسية والإسپانية أو بينهما وبين الإيطالية، وتعربت البربرية، كما تعرب البربر أنفسهم، نتيجة لاتصالها باللغة العربية، ويتألف نحو ثلث البربرية التي يتكلم بها سكان منطقة القبائل الكبرى من كلمات عربية، وأمر طريف مثل هذا يثبت لنا مرة أخرى مقدار تأثير العرب العظيم الذي لم يكتب مثله لأية أمة أخرى، ومن هذه الأمم اليونان والرومان الذين دام سلطانهم في شمال إفريقية دوام سلطان العرب من غير أن يتفق للغتيهم أي أثر في اللغة البربرية.
ويقطن أهل الحضر من البربر بقرى تقوم في أعالي الجبال على العموم، ويختلف منظرها قليلا عن منظر القرى الأوربية، والبربر صبر على العمل الشاق فلا يرتدون عنه، ويثيرون ما يملكون من الأراضي الضعيفة بجد ونشاط، ويكتفون بما يمسك الرمق لاحتياجاتهم القليلة، وهم ذوو استعداد صناعي يكفي لصنع ما يحتاجون إليه من مختلف الأدوات والنسائج والأسلحة والحلي ... إلخ، وهم يرسلون إلى الخارج ما يزيد من مصنوعاتهم، ورأيت بين ما يصنعون من الحلي ما لا يقل دقة عما تراه في مخازن أكثر الصاغة الباريسيين أناقة.
2
ولدراسة طبائع البربر المعروفين بالقبائل وعاداتهم التي ثبتت مع تعاقب الفاتحين أهمية خاصة: تشتمل كل قرية بربرية على أسر كثيرة مؤلفة من أناس منحدرين من أصل واحد، ومن أناس انضموا إليهم بالولاء، وتعد كل واحدة من تلك الأسر وحدة سياسية شرعية قادرة على التملك والبيع والشراء.
وتتألف القبيلة من اجتماع عدة قرى، والقرية، لا القبيلة، هي عنوان الوحدة السياسية البربرية خلافا لما هو عند العرب، والقرية البربرية هي جمهورية صغيرة مستقلة يدير شؤونها رئيس منتخب يسمونه الأمين، وأهم وظائف هذا الأمين أن يرأس جمعية البالغين من أهل قريته، وتتمتع هذه الجمعية بالسلطة الاشتراعية والسلطة القضائية وتقرر شؤون السلم والحرب، وسلطة أمين القرية مقيدة جدا، والوكيل هو الذي يرقبه، والوكيل هو الذي يشكوه إلى تلك الجمعية إذا أتى عملا يستحق اللوم والتعنيف، ومن ذلك ترى أن الاستقلال البلدي الذي يحلم به بعض الاشتراكيين تام عند البربر الذين حرموا بسببه تأليف أمة في كل زمن.
والامتلاك أمر فردي عند البربر، ولكن للأسرة البربرية وللقرية البربرية أملاكهما المماثلة لأملاك بلدياتنا، والأسرة البربرية هي الوارثة حين لا يكون للمورث ورثة أو حين يكون ورثته بعيدين.
وقانون العقوبات عند البربر بسيط، وعقوبات البربر فاضحة على الخصوص، ولا يعرف البربر أمر السجون، وتندر عندهم الجرائم، ولا سيما السرقة، ويعيش البربري في غير معزل عن عشيرته؛ فيخشى مغبة الإجرام، ويرى للرأي العام سلطان عظيم في تلك الجمهوريات البربرية المكرسكوبية التي يعرف فيها كل واحد من أفرادها.
شكل 5-3: بربري من الجزائر (من صورة فوتوغرافية).
ويدين البربر في الوقت الحاضر بالإسلام مع فتور، وكان البربر قبل الفتح العربي يعبدون آلهة قرطاجة ك «غرزيل ومستبمان» وغيرهما من الآلهة القساة، وروى ترتوليان أن البربر كانوا يضحون ببعض الأولاد تقربا إلى إله الزمن كيوان؛ وكانوا يعبدون النار أيضا، وانتحل النصرانية كثير من قبائل البربر المجاورة للمستعمرات اليونانية أيام الحكم المسيحي.
ويقتصر البربري على زوجة واحدة، ولا تتمتع المرأة البربرية بأكثر مما تتمتع به الأوربيات من الحقوق، وإن كانت في وصاية أقل مما هن فيه.
والمرأة البربرية على جانب كبير من الحمية، وهي تحارب بجانب زوجها أحيانا، وخلد أوميرس ذكرها حين تغنى بخبر تلك الملكة والنسوة المترجلات اللائي فتحن بلاد لوبية وبعض آسية الصغرى.
شكل 5-4: امرأة بربرية تصنع الكسكسو (من صورة فوتوغرافية).
ومن النساء البربريات من جلسن على عرش الملك، ويدل هذا الأمر، الذي ينفر منه العرب كثيرا، على تباينهما في النظر إلى بعض الشؤون.
ولقي العرب الأمرين في دور فتوحهم، وذلك من مقاومة الملكة البربرية الكاهنة التي ألفت بين كثير من قبائل البربر، وتسلمت القيادة، وقاتلت العرب ، وكتب لها النصر في المعركة الأولى وهزمت العرب، واستولت على جميع شمال إفريقية، ولما عاود العرب الكرة بجيش عرمرم عزمت الكاهنة على تخريب البلاد؛ لمنعهم من فتحها ثانية، فهدمت جميع القرى التي كانت بين طرابلس الغرب وطنجة، وكاد مصير شعب هذه السيدة، التي ألقت الرعب في قلوب العرب والروم، يكون غير ما حدث لو لم تقتل في إحدى المعارك.
وانتهى العلماء الذين بحثوا في أمر البربر إلى نتائج متناقضة كثيرا، ويمكن توفيق ما بين هذه النتائج المتناقضة عند تدبر ما قلناه عن أخلاق العرب التي تختلف باختلاف طرق حياتهم، فما قلناه عن العرب يصح أن يقال عن البربر الذين تباينت فروعهم فتباينت طبائعهم، وصار ما يقال عن الطوارق البدويين النهابين الغدارين لا يقال مثله عن سكان الجبال من البربر.
وقد تعد روح البربر قريبة جدا من روح العرب على أن يقاس حضريو أولئك وبدويوهم بحضريي هؤلاء وبدوييهم.
شكل 5-5: أحد أبواب مسجد سيدي عقبة في القيروان (من صورة فوتوغرافية).
ولطرق الحياة تأثير كبير في أخلاق جميع الأمم، فإذا تماثلت طرق حياة الأمم تماثلت هذه الأمم في التفكير والسير في الغالب.
والبربري الحضري، كالعربي الحضري، جلد على العمل صبور حازم ماهر، والبربري البدوي، كالعربي البدوي، طليق محراب قنوع خفيف طواق للمشاق ختار للأعداء، ولا يختلف البربري عن العربي إلا في أنه أقل من العربي ذكاء وأشد منه حقدا وطغيانا .
وتجلى غدر البربر منذ أوائل الفتح العربي، فلما سأل الخليفة في دمشق فاتح إسپانية موسى بن نصير عن البربر، أجابه بقوله: «هم أشبه العجم بالعرب لقاء ونجدة وصبرا وفروسية، غير أنهم أغدر الناس، ولا وفاء لهم ولا عهد.»
واشتهر البربر قبل الفتح العربي بطويل زمن بأنهم ممن لا يوثق بكلامهم، وقد كان عددهم كبيرا في جيوش قرطاجة، فأوجبوا اشتهار الحروب اليونانية بسوء السمعة لا ريب.
ولم يكن تقسيم البربر إلى أهل بدو وأهل حضر أقل أهمية من تقسيم العرب إلى مثل هذا كما يرى، وإلى هذا انتبه ابن خلدون في القرن الرابع عشر الميلادي فقال: «هذا الجيل من الآدميين هم سكان المغرب القديم ملأوا البسائط والجبال من تلوله وأريافه وضواحيه وأمصاره، ويتخذون البيوت من الحجارة والطين ومن الخوص والشجر ومن الشعر والوبر، ويظعن أهل العز منهم والغلبة لانتجاع المراعي فيما قرب من الرحلة لا يجاوزون فيها الريف إلى الصحراء والقفار الملس، ومكاسبهم الشاء والبقر، والخيل في الغالب للركوب والنتاح، وربما كانت الإبل من مكاسب أهل النجعة منهم، شأن العرب، ومعاش المستضعفين منهم بالفلح ودواجن السائمة، ومعاش المعتزين أهل الانتجاع والإظعان في نتاج الإبل وظلال الرماح وقطع السابلة.»
وظهر مما تقدم خطأ كثير من المؤلفين المعاصرين الذين رأوا أن يفرقوا بين العرب والبربر، فزعموا أن البربر أهل حضر وزراعة وأن العرب أهل بدو، وانتهوا إلى قولهم: إن البربر أهل للتمدن، وإن العرب غير أهل له؛ وذلك عندما تكلموا عن سكان بلاد الجزائر.
ولكن نتيجة مثل هذه تقوم على أساس باطل، وذلك أن العرب والبربر أهل حضر وأهل بدو على سواء، وأن هذين الطرازين يصدران عن البيئة التي يكونون فيها بالحقيقة، فترى العربي حضريا دائما في البقاع الخصيبة من جزيرة العرب ومصر والجزائر، وتراه بدويا، وبدويا دائما، في الصحاري الرملية من تلك الأقطار.
شكل 5-6: مئذنة مسجد سيدي عقبة الكبير في القيروان (من صورة فوتوغرافية).
ومن يسكن الصحراء الكبرى من عرب أو بربر أو من أية أمة أخرى لا يكون إلا بدويا، ومن ذلك أنك تبصر الطوارق الذين هم بربر خلص من النوميديين عريقين في البداوة، فيقوم معاشهم على الحرب والسلب والنهب خاصة، كأعراب جزيرة العرب، وأنك تبصر البربر من سكان الجبال، التي تتعذر معيشة أهل البدو فيها، يبنون البيوت ويزاولون أمور الزراعة.
وذلك هو شأن البربر قبل فتح العرب لإفريقية وبعده، ويتعذر حمل بدوييهم، الذين تأصلت فيهم البداوة بفعل القرون حتى صارت فيهم طبيعة ثانية، على الحضارة والاستقرار ومزاولة الزراعة كما يتعذر منع كلب الصيد من تعقب الطرائد، وقد يتم ذلك، ولكن بعد قرون، لا في يوم واحد.
وإذا ما قيس البربر الحضريون بالعرب الحضريين لم ير ما يسوغ الادعاء بأن البربر أكثر استعدادا للتمدن من العرب، وعكس ذلك ما تثبته حوادث التاريخ، فلقد بلغ العرب، لا البربر، درجة رفيعة من الحضارة.
وأرى العرب والبربر غير مستعدين في الوقت الحاضر، لهضم طرق حياة الأوربيين ومشاعرهم ونظرهم إلى الأمور، وذلك أن الحضارة عند أكثر الأوربيين هي قضاؤهم لمعظم أوقاتهم، وإن شئت فقل عشر ساعات أو اثنتي عشرة ساعة، في المعامل أو المكاتب أو الحقول؛ لنيل عيشهم اليومي على أن يستأنفوا العمل في الغد، وأن عيشا مثل هذا مما لا يرضاه العربي والبربري اللذان ليس لديهما من الاحتياجات المصنوعة ما عند الأوربي، واللذان يأبيان أن يكون لهما مثل تلك الاحتياجات.
والأوربي في نظر العربي أو البربري سيد يعانيه ما ظل مغلوبا على أمره، فإذا سنحت الفرصة للتحرر منه لم يحجم عن اهتبالها. (2) استقرار العرب بإفريقية
لاقى العرب في فتح إفريقية من المصاعب ما لم يلاقوه في فتح مصر، ولم يستقر أمرهم بها إلا ببطء شديد، أي أن البربر لم يتوانوا عن مقاتلة العرب، وإنهم استردوا استقلالهم غير مرة.
وخضعت إفريقية الشمالية للوندال، الذين أتوا من إسپانية، أكثر من مائة سنة (429م-545م) بعد أن خضعت للرومان عدة قرون، ثم طردهم منها جيش جوستينيان الذي أرسله بقيادة بيليزير، ثم استولى قوط إسپانية عليها، وكان القوط مالكين لبعضها حين ظهور العرب على مسرح التاريخ.
ويحيط بتاريخ ولايات إفريقية شيء من الغموض أيام الفتح العربي، ونعلم مع ذلك، أن إفريقية كانت على شيء من الطمأنينة والهدوء وقتما أراد القيصر هرقل أن يمنع تقدم العرب، فكان هذا القيصر يفكر في السفر بحرا إلى قرطاجة؛ ليتخذها عاصمة له بدلا من القسطنطينية التي كانت تأكلها الفتن.
شكل 5-7: مسجد القيروان القديم (من صورة فوتوغرافية).
ولم يكن سكون إفريقية غير مؤقت، والواقع أن إفريقية كانت ميدانا لمختلف المذاهب الدينية التي تقيمها وتقعدها فضلا عن غزو الأجنبي.
نعم، أصبحت إفريقية نصرانية كمصر، ولكن انتحالها للنصرانية لم يتم إلا بعد أن أريقت سيول من الدماء، وذلك أن قسطنطين، لما جلس على العرش، رأى تلك المذاهب الدينية سبب كل اضطراب وهيجان فلم ير غير قهرها بالأسنة والسيوف.
وأنشأ الرومان والبزنطيون مدنا مهمة في إفريقية، وزينوها بمختلف المباني التي لا تزال خرائبها باقية، وكان نفوذهم محليا، ولم يعد هذا النفوذ حدود المدن، فبدوا فاتحين لإفريقية أكثر من أن يكونوا مستعمرين لها.
وكانت مقاومة الروم للعرب في شمال إفريقية ضعيفة كما في مصر، ولولا البربر لتم للعرب فتحها بسرعة، ونشأ عن استبسال البربر في مقاومة العرب أن اضطر العرب إلى خوض خمس معارك هائلة، وقعت في نحو نصف قرن؛ ليكونوا سادة شمال إفريقية.
وكانت غزوة العرب الأولى في السنة الثالثة والعشرين من الهجرة (644م)، وكانت ولاية برقة القريبة من مصر أول ما استولوا عليه، ثم فتحوا ولاية طرابلس الغرب، واستولوا على مدن كثيرة في سنة 646م، ثم جلوا عن البلاد بعد أن أعطوا فدية، ولم يظهروا ثانية إلا بعد عشرين سنة حينما امتشقوا الحسام، وأوغلوا في البلاد حتى المحيط الأطلنطي.
شكل 5-8: زخارف من القاشاني المطلي بالميناء في مسجد القيروان (من صورة فوتوغرافية).
وبنى العرب عاصمة إفريقية العربية القادمة، القيروان، في سنة 675م، واستولوا على قرطاجة في سنة (691م / 69ه)، وهزموا الجيش الكبير الذي جمعته ملكة البربر الكاهنة لمقاتلتهم، وصار لهم في سنة 711م من القوة ما فتحوا به بلاد إسپانية.
وكان يقوم بأمور الحكومة في إفريقية، حتى أوائل القرن التاسع من الميلاد، أمراء بالنيابة عن الخلفاء، فلما صار سلطان الخلفاء هنالك اسميا منذ عهد هارون الرشيد، انفرد الأمراء بالحكم، واتخذوا القيروان عاصمة لهم.
وتداول الحكم في إفريقية من سنة 800م إلى سنة 909م أحد عشر أميرا من الأغالبة متخذين القيروان عاصمة لهم، وكان هم هؤلاء الأغالبة مصروفا إلى مزج العرب بالبربر؛ فتمتعت إفريقية في أيامهم بطمأنينة عظيمة، ثم قلب البربر دولتهم، ونصبوا أميرا فاطميا من أصل بربري خليفة، فغدت إفريقية مستقلة عن العباسيين الذين لم تكن إفريقية تابعة لهم إلا بالاسم منذ زمن طويل.
شكل 5-9: خشب محفور في مسجد القيروان (من صورة فوتوغرافية).
وقامت بأمور إفريقية دول بربرية مستقلة حتى الفتح التركي الذي وقع في القرن السادس عشر من الميلاد، ولم يلبث ذلك الاستقلال البربري أن صار شؤما على إفريقية، فقد انقسم البربر إلى زمر لا تحصى تبعا لغريزتهم التي كانت تمنعهم من تأليف أمة كبيرة، وقامت في إفريقية دويلات كثيرة مستقلة متقاتلة قياما لم تر إفريقية معه سوى بصيص من الحضارة.
ولا يمكننا أن نقدر طبيعة تأثير العرب في إفريقية إلا إذا تذكرنا أن لفتوحهم دورين مختلفين كل الاختلاف، وأن لهذين الدورين نتائج إثنوغرافية مختلفة كثيرا.
والدور الأول هو دور الفتوح الأولى التي تمت في القرن السابع من الميلاد، ولم تخرج عن كونها احتلالا عسكريا محدودا جدا.
ولو اقتصر العرب في إفريقية على ذلك الاحتلال؛ لاستغرقتهم جموع البربر في بضعة أجيال كما حدث لهم في مصر، ولكان أثرهم في التمدن لا في الدم.
بيد أنه كان للغارة العظيمة الجديدة التي شنها العرب شأن آخر، فلما حشر العرب جموعا كثيرة في إفريقية حولوا فريقا كبيرا من البربر إلى عرب.
وتدفق العرب كالسيل على إفريقية في أواسط القرن الحادي عشر، أي في وقت كان البربر قد استردوا فيه استقلالهم تقريبا، واستقروا بشمالها، ودحروا البربر إلى جبال التل وإلى البقاع الجنوبية.
شكل 5-10: محراب مسجد سيدي الحبيب في القيروان (من صورة فوتوغرافية).
وقام بذلك الغزو أعراب الحجاز الذين كانوا يقطنون بمصر العليا في زمن الخلفاء الفاطميين، والذين بلغ ما قاموا به من أعمال السلب والنهب مبلغا أصبحت الإقامة بها لا تطاق معه، فعزم الخليفة المستنصر على الخلاص منهم بحضهم على بربر إفريقية وإغرائهم بهم.
وكان الأمر غارة أمة، لا غارة عسكرية، فقد ظعن أولئك العرب رجالا وأولادا ونساء وقطاعا عن مصر، وروى بعض علماء العرب أن عدد الظاعنين كان مليونا، وروى بعض آخر أن عددهم كان نحو 250000، والذي أراه أن الغارة الأولى لم تلبث أن ردفتها غارات كثيرة أخرى.
وتمت تلك الهجرة ببطء، ولم يملأ العرب شمال إفريقية إلا بالتدريج، فقد جاوز العرب طرابلس الغرب بعد أن مكثوا بها سنتين، وزحفوا خطوة خطوة، وولجوا في الأودية جماعات على مهل، واختلطوا بالسكان رويدا رويدا، وزاد عددهم شيئا فشيئا، وفرضوا، بفضل كثرتهم، على البربر عاداتهم ودينهم ولغتهم بعد بضعة أجيال، ولم يتركوا لأمراء البربر سوى سلطة وهمية، ولم يتفلت من نفوذهم غير القبائل التي دحرت إلى جبال التل وبعض البقاع الجنوبية.
ولم تؤد تلك الغارات إلى نتائج مدنية عمرانية؛ ففي إفريقية حافظ أعراب جزيرة العرب أولئك على جلفهم الذي هو نقيض كل ثقافة جدية، وأخذت تلك الحضارة، التي كادت تلمع، تذوي بسرعة.
ولم يؤد ما كان يقع بين القبائل من الفتن والفساد، وما كان يقع بين الدويلات المستقلة المتناظرة من القتال، إلى غير الانحطاط السريع، فلما ظهر الترك في القرن السادس عشر أمام الجزائر لم يصعب عليهم فتح شمال إفريقية بسرعة.
ومراكش وحدها هي التي حافظت على استقلالها العربي حتى الوقت الحاضر، ولكن مراكش لم تصن نفسها من الانحطاط الذي عم جميع ولاياتها شيئا فشيئا، فقد أصاب الوهن مدينة فاس التي كانت منافسة لبغداد في القرن العاشر، والتي روى مؤرخو العرب أن عدد نفوسها كان خمسمائة ألف، وأنها كانت تشتمل على ثمانمائة مسجد ومكتبة عامة زاخرة بالمخطوطات اليونانية واللاتينية، وأضحى سكان مراكش الذين قدر عددهم الآن بستة ملايين شخص، أو سبعة ملايين شخص، من مولدي العرب والبربر والزنوج. (3) مباني العرب في شمال إفريقية
لم تصب حضارة العرب في إفريقية ما أصابته من الازدهار في مصر والأندلس، وكان للعرب في إفريقية، مع ذلك، مدن مهمة وبعض مبان ذات قيمة، ولا سيما في زمن الأغالبة، وأنشأ العرب في إفريقية مدنا كالقيروان وتونس وفاس، وجددوا مدنا قديمة كتلمسان وبجاية والجزائر ... إلخ، ولم تكن نضارة تلك المدن غير مؤقتة، ولم يكن تنافس البربر وقلة استعدادهم للتمدن، وغارات أعراب العرب، وفقدان المراكز المهمة كبغداد في المشرق والقاهرة في مصر - مساعدا على تقدم الحضارة في إفريقية، ولا ينتظرن القارئ، إذن، بيانا عن مبان عربية مبتكرة ثمينة في إفريقية الشمالية كالتي في الأندلس ومصر، وسيرى القارئ في الفصل الذي خصصناه للبحث في تاريخ فن العمارة العربي أن عرب إفريقية لم يوفقوا في فنهم للتحرر من النفوذ البزنطي.
شكل 5-11: داخل مسجد سيدي أبي مدين في تلمسان (من صورة فوتوغرافية).
شكل 5-12: مقدم الجامع الكبير في الجزائر.
والآن نكتفي بذكر أهم مباني العرب الأثرية مختارين من مبانيهم الدينية ما سمح الدهر ببقائه في شمال إفريقية كما صنعناه سابقا. (3-1) جامع القيروان
أنشأ فاتح إفريقية الشهير عقبة بن نافع مدينة القيروان، وبنى فيها، في سنة (55ه / 675م) جامعها الكبير المربع الذي جدد بناؤه عدة مرات فيما بعد، ولا سيما في سنة (205ه / 820م) والذي تعلوه قباب منخفضة، ويحيط به سور، وتشرف عليه مئذنة كبيرة مربعة عريضة القاعدة ذات ثلاث طبقات متفاوتة الاتساع، وذاع طراز هذه المئذنة المربعة في إفريقية الشمالية، وكان شائعا في الأندلس على الأرجح.
ولجامع القيروان الكبير وآثارها الدينية الأخرى قيمة أثرية كبيرة مع ما نالته من التجديد والترميم غير مرة كما نذكر ذلك في فصل آخر، ولم تنشر صور هذه المباني، التي لم يزرها الأوربيون إلا في الزمن الأخير، في أي كتاب حتى الآن.
ودفن عقبة بن نافع، الذي أنشأ القيروان، بالقرب من بسكرة، ويعد مسجد «سيدي عقبة» الذي يضم قبره، أقدم المباني الإسلامية في إفريقية، ولهذا المسجد مئذنة مربعة. (3-2) مسجد سيدي أبي مدين في تلمسان
كانت تلمسان عاصمة المغرب الأوسط فيما مضى، وبني مسجدها في سنة (739ه / 1388م) وتم إنشاء المدرسة التابعة لهذا المسجد في سنة 747ه، وتعد هذه المدرسة من أهم المباني التي من نوعها في إفريقية حتى الآن، وكانت تدرس العلوم والتاريخ فيها أيام ارتقاء العرب، ويمكن القارئ أن يتمثل فن عمارتها من الصورة التي نشرناها في هذا الكتاب. (3-3) مساجد الجزائر
تكاد مساجد الجزائر تكون عصرية، ولذا فليس فيها ما يستحق البحث، وأهم ما فيها مسجدها الجامع الكبير الذي أقيم في القرن العاشر من الميلاد، والذي أصابته يد التغيير في مختلف الأزمنة، فبنيت مئذنته المربعة في القرن الرابع عشر من الميلاد .
شكل 5-13: مئذنة المسجد الكبير في طنجة (من صورة فوتوغرافية).
وليس في داخل هذا المسجد الجامع الكبير الذي كلس في الوقت الحاضر شيء من الزينة، وتقوم أقواسه التي يستند إليها سقفه على أعمدة مربعة، وأنشئت هذه الأقواس المفرض كثير منها على شكل نعل الفرس ورسم البيكارين.
ويحيط بأحد وجوه هذا المسجد الجامع الكبير رواق جميل مؤلف من أقواس محززة، وصنعت هذه الأقواس على شكل نعل الفرس، ورسم البيكارين كالأقواس السابقة، وتقوم هذه الأقواس على أعمدة من الرخام؛ ويذكرنا ذلك الرواق، الذي أقيم بعد بناء ذلك المسجد الجامع بزمن طويل، بأعمدة رواقات القصر الداخلية في أشبيلية.
وإذا ما استثنيت ذلك المسجد الجامع لم تر في الجزائر من المباني ما يجدر ذكره سوى المزار الذي يضم رفات عبد الرحمن والمسمى باسمه، والذي بني في القرن الخامس عشر من غير أن يكون على شيء من الإبداع مع هيفه. (3-4) مساجد مراكش
يرى الإنسان في مراكش مساجد جميلة كثيرة، ولا سيما مسجد مولاي إدريس ومسجد القرويين في فاس، ولهذا المسجد شهرة عظيمة في تلك الديار، وهو يشتمل على 270 عمودا و16 صحنا، ويشتمل كل واحد من هذه الصحون على عشرين قوسا، ولا يستطيع الأوربي أن يدخله من غير أن يعرض نفسه للقتل.
وأقيم أكثر مساجد مراكش على طراز مساجد إفريقية الشمالية، وهي مثلها ذات مآذن مربعة يندر نظيرها في مصر، وعلى هذا الطراز رفعت في طنجة مئذنة الجامع الكبير، والتي ننشر صورة لها في هذا الكتاب؛ فيمكن القارئ أن يتمثل بها ما أقيم على طرازها.
شكل 5-14: منظر مدينة طنجة العام (من صورة فوتوغرافية).
ولا يرى في مراكش من المباني العربية المهمة سوى عدد قليل من المساجد، وإنما يرى فيها من العادات والأزياء والمظاهر الشرقية ما يندر مثله في بلد آخر، ويجب على من يرغب في اجتلاء حياة العرب في عصر الخلفاء أن يزورها؛ ففيها يرى السائح ما لا يراه في بلاد الجزائر وسورية المائلة إلى التفرنج خلا دمشق.
وإنني أنصح لرجال الفن أن يطوفوا في بلاد مراكش التي لا تصعب السياحة فيها، والسائح المحب للفن الذي يقله القطار فيقطع فرنسة وإسپانية في بضعة أيام، ثم تستقله الباخرة من مالقة يصل إلى مدينة جبل طارق الإنكليزية الغبراء الكالحة، ولا يأسف لبعد إنكلترة من هنالك؛ لما يراه بعد رحلة بحرية تدوم بضع ساعات من الفرق في مدينة طنجة المراكشية حيث يقضي العجب.
حقا إن مدينة جبل طارق عنوان الحياة المدنية العصرية، وإن مدينة طنجة ذات المساكن البيض والأهلين البلق
3
والحكام الحزمة عنوان الحياة العربية منذ ألف سنة، وتثير مناظر مساجد مدينة طنجة العجيبة ومآذنها وأبراجها المشرفة، وأسواق نخاستها ونسائها المتحجبات وعربها المدثرين بأبهى الملابس في السائح بعض ما جاء في رواية ألف ليلة وليلة كما لو وقع هذا بقدرة ساحر، وتتجلى للسائح حقيقة تلك الرواية كلما سار في مدينة طنجة القديمة التي تقول الأساطير: إن هركول بانيها، فكانت شهيرة في عهد أمير المؤمنين هارون الرشيد، أي في عهد هذا المعاصر الشهير للقيصر شارلمان الكبير.
هوامش
الفصل السادس
العرب في إسپانية
(1) إسپانية قبل العرب
فكر العرب في فتح إسپانية بعد أن طردوا الروم من شمال إفريقية، وردوا جماح البربر، وتم لهم، بصعوبة، فتح الأقطار الإفريقية التي كانت مسرحا لحروب رومة وقرطاجة ولمغازي ماسينيسه وجوغورته ... وغيرهما من القادة المشهورين.
ولم يكن حب التوسع وحده هو الذي حفز العرب، الذين ترامت أطراف دولتهم، إلى فتح إسپانية، وإنما دفعهم إلى ذلك رغبتهم في إلهاء البربر الذين كانوا أشد من حاربهم العرب من الأعداء، والذين ظلوا مرهوبين؛ لشجاعتهم، وميلهم إلى الاستقلال، وحبهم للقتال على الرغم من قهر العرب لهم، فكان من السياسة الرشيدة إرواء غرائزهم الحربية في الغارة على البلدان الأجنبية.
وروى ابن خلدون أن الجيش الأول الذي عبر مضيق جبل طارق، ودخل بلاد إسپانية كان مؤلفا من اثني عشر ألف مقاتل، وأن هذا الجيش كان من البربر تقريبا.
ونرى قبل أن نقص خبر ذلك الفتح الإسلامي، أن نوجز تاريخ إسپانية قبله؛ ففي ماضي الأمم سر حوادثها الحاضرة، وبماضي إسپانية يفسر سبب السرعة في فتح أتباع الرسول لها.
كان للفنيقيين والأغارقة والقرطاجيين مستعمرات في إسپانية التي يسكنها السلت الغوليون، ومن لم يعلم أصلهم جيدا من الإيبريين والليغوريين، وأنشأ القرطاجيون مدينة قرطاجنة في إسپانية بعد أن فتحوها؛ لتكون تابعة لقرطاجة، ثم فتح الرومان بلاد إسپانية على أثر الحروب اليونانية، وذلك قبل الميلاد بقرنين.
وملك الرومان بلاد إسپانية حتى القرن الخامس من الميلاد، وازدهرت مدن فيها أيام حكمهم، ووهبت لرومة رجالا مشهورين مثل سينيك ولوكن ومرسيال، ووهبت لها قياصرة مثل تراجان وأدريان ومرك أوريل وثيودوز ... إلخ.
وكان لإسپانية نصيب من إدبار رومة بعد أن كان لها حظ من إقبالها، فقد انقض الوندال والألين والسويف الذين هم من برابرة الشمال على إسپانية بعد أن خربوا بلاد الغول، ولم يلبث القوط، الذين هم من البرابرة أيضا، أن قهروهم، واستولوا على إسپانية في القرن السادس من الميلاد، وظلوا سادة لها تماما إلى أن جاء العرب.
شكل 6-1: ذراعا صليب ذهبي قوطي طليطلي مرصع بالحجارة الثمينة (القرن السابع، من صورة فوتوغرافية).
ولسرعان ما اختلط القوط البرابرة باللاتين في إسپانية، فاتخذوا اللاتينية لغة لهم، وانتحلوا النصرانية التي كانت دين الدولة الرسمي بدلا من عبادة الأصنام، وخضعوا بذلك لسلطان الحضارة اللاتينية، وحاولوا كغيرهم من قاهري الدولة الرومانية أن يهضموها على قدر عقولهم.
وبقيت شريعة القوط دستور إسپانية النصرانية إلى منتصف القرن الثالث عشر، ودلت الحوادث على أنهم امتزجوا بالعنصر اللاتيني الذي كان مالكا لقسم من البلاد، وتم اختلاطهم بنصارى الشمال بعد أن دحرهم المسلمون إلى جبال أشتورش، وظل لقب «ابن القوطي» من ألقاب الشرف حتى بعد أن استردوا إسپانية بزمن طويل، وعندي أن من مظاهر الدم القوطي ما نجد الآن في إسپانية من أصحاب الشعور الشقر الكثيرين.
وكان اختلاط القوط باللاتين، قبل الفتح العربي، مقتصرا على علية القوم، وكان سكان البلاد الأصليون من الأرقاء الذين ليس لديهم شيء يدافعون عنه، والذين كانوا مستعدين لقبول أي سلطان عليهم، فلم يكن الجيش المؤلف من أمثال هؤلاء مما يعتمد عليه.
ومن سوء حظ المملكة القوطية أن كان النظام الملكي القوطي قائما على الانتخاب، وأن كان المرشحون للعرش كثيرين، فيقتتل أنصار هؤلاء المرشحين على الدوام، ويمزقون باقتتالهم المملكة القوطية، ولذا لم يكن الأشراف ممن يركن إليهم.
نزاع اجتماعي، وفتن داخلية، وفقدان للروح العسكرية، وفتور عن الدفاع بين الأهلين المستعبدين، هذه هي الحال التي كانت عليها مملكة القوط حين ظهور العرب، وكان من المنافسات التي تمزق الدولة القوطية أن سهل الأمير يليان ورئيس أساقفة أشبيلية، وهما من علية الإسپان، فتح إسپانية على العرب. (2) استقرار العرب بإسپانية
دخل جيش إسلامي مؤلف من اثني عشر ألف جندي بلاد إسپانية في سنة 711م، أي في زمن الخليفة العاشر الذي كانت دمشق عاصمته.
ومن يقطع القسم الجنوبي الخصب من بلاد إسپانية يعلم مقدار التأثير الذي أثر به في نفوس العرب حينما استولوا عليه؛ فقد بهرتهم تربته وهواؤه ومدنه ومبانيه.
ووصفت إسپانية في كتاب أرسله قائد الجيش العربي إلى الخليفة الأموي بأنها: «شامية في طيبها وهوائها، يمنية في اعتدالها واستوائها، هندية في عطرها وذكائها، أهوازية في عظم جباياتها، صينية في معادن جواهرها، عدنية في منافع سواحلها.»
واستولى المسلمون على ساحل إسپانية مبتدئين بجبل طارق الذي اقتبس اسمه من اسم طارق بن زياد البربري الذي هو من رجال القائد العربي موسى بن نصير.
وكان العرب قد قضوا خمسين سنة في فتح إفريقية البربرية، ولم يقضوا سوى بضعة أشهر في فتح جميع إسپانية النصرانية، وتقرر مصير مملكة القوط في المعركة الأولى المهمة التي خاض المسلمون غمارها، والتي كان رئيس أساقفة أشبيلية حليفا لهم فيها، والتي خسر القوط فيها ملكهم وخسروا إسپانية.
وعجب موسى بن نصير من ذلك النصر السريع الذي لم يتوقعه، ولا غرو، فقد كان يتصور ما لاقاه من الشدائد في فتح إفريقية، وكان يعتقد أنه سيلقى في أوربة من الشجاعة وحب الاستقلال ما لقيه في البربر، فلما تبين له خطؤه أراد أن يشارك طارق بن زياد في مجد الفتح؛ فعبر البحر بجيش مؤلف من اثني عشر ألف جندي عربي وثمانية آلاف جندي بربري ؛ ليواصل فتح إسپانية.
أتم العرب فتح إسپانية بسرعة مدهشة، وذلك أن المدن الكبيرة سارعت إلى فتح أبوابها للغزاة، فدخل الغزاة قرطبة ومالقة وغرناطة وطليطلة صلحا تقريبا، ووجد العرب في طليطلة التي كانت عاصمة النصارى تيجان خمسة وعشرين ملكا قوطيا، وأسروا أرملة للملك القوطي، رودريك، التي تزوجها ابن القائد موسى بن نصير فيما بعد.
شكل 6-2: داخل جامع قرطبة.
وأحسن العرب سياسة سكان إسپانية كما أحسنوا سياسة أهل سورية ومصر، فقد تركوا لهم أموالهم وكنائسهم وقوانينهم وحق المقاضاة إلى قضاة منهم، ولم يفرضوا سوى جزية سنوية تبلغ دينارا (15 فرنكا) عن كل شريف ونصف دينار عن كل مملوك، فرضي سكان إسپانية بذلك طائعين، وخضعوا للعرب من غير مقاومة، ولم يبق على العرب إلا أن يقاتلوا الطبقة الأريستوقراطية المالكة للأرضين.
ولم يدم القتال طويلا، وذلك أن العرب كسروا كل مقاومة، ودانت لهم جميع إسپانية في سنتين، ولكن لا إلى الأبد، فقد استرد النصارى ما خسروه بعد جهاد ثمانية قرون.
ويروى، مع التوكيد، أن موسى بن نصير فكر، بعد فتح إسپانية، في العودة إلى سورية من بلاد الغول وألمانية، وفي الاستيلاء على القسطنطينية، وفي إخضاع العالم القديم لأحكام القرآن، وأنه لم يعقه عن ذلك العمل العظيم سوى أمر الخليفة إياه بأن يعود إلى دمشق، فلو وفق موسى بن نصير لذلك؛ لجعل أوربة مسلمة، ولحقق للأمم المتمدنة وحدتها الدينية، ولأنقذ أوربة، على ما يحتمل، من دور القرون الوسطى الذي لم تعرفه إسپانية بفضل العرب.
ولنتكلم، أولا، عن امتزاج أهل البلاد بسادتهم الجدد قبل أن نقص عليك ماذا تم للعرب في إسپانية: كان أوائل الغزاة لإسپانية من العرب والبربر، وكان يوجد بضع قبائل سورية في الجيوش التي استولت عليها بعدئذ، ولم يكن عدد ما اشتملت عليه هذه القبائل كثيرا، ولم يظهر أمرها إلا في دور الفتح الأول، فماذا كان شأن العرب والبربر وأهل إسپانية بعد ما دانت إسپانية للعرب؟
يرى المحقق البصير في تاريخ المسلمين بإسپانية أن الإمامة الثقافية ورسالة التمدن كان يقوم بهما العرب، وأن البربر اختلطوا بطبقات الأهلين الوسطى والدنيا، وأن العرب حافظوا على شرفهم الثقافي حتى بعد أن قبض البربر على زمام الحكم.
وليس لدينا من الوثائق ما نتمكن به من تقدير نسبة العرب والبربر في مئات السنين الثماني التي دام فيها سلطان الإسلام بإسپانية، ولكن سير الأمور يدل على أن العنصر البربري أخذ يزيد بعد انفصال إسپانية عن خلافة المشرق، ولا سيما بعد توالي غارات بربر مراكش التي كانوا يشنونها عليها.
والحق أن العرب، بعد ذلك الانفصال، كانوا يعتمدون في بقائهم في إسپانية على تناسلهم، وأن البربر كانوا يزيدون فيها بمن يعبر جبل طارق من إخوانهم المراكشيين طلبا للثراء.
ويظهر أن التوالد لم يقتصر على العرب والبربر وحدهم، بل توالد العرب والبربر وسكان إسپانية الأصليون أيضا، فكان العرب يتزوجون النصرانيات على الخصوص، فيمدون بذلك دوائر حريمهم ويديمون بذلك نسلهم.
شكل 6-3: محراب جامع قرطبة (من تصوير مورفي).
وروى مؤرخو العرب أن العرب تزوجوا في بدء الفتح ثلاثين ألف نصرانية، ولا يزال يرى في قصر أشبيلية ردهة تدعى ردهة الصبايا اللائي كان النصارى يلزمون بتقديم مائة منهن إلى أحد ملوك العرب في كل سنة كجزية، فنحن إذا ما رأينا أن هؤلاء النصرانيات كن من مختلف الأجناس، وأنه كان يجري في عروقهن الدم الإيبري واللاتيني واليوناني والقوطي ... وغير ذلك، علمنا أنه نشأ عن توالد النصارى والبربر والعرب، الذي دام في بيئة واحدة قرونا كثيرة، عرق جديد مختلف عن العروق التي فتحت إسپانية اختلافا بينا، وأن العناصر الكثيرة التي أدى تمازجها إلى ظهور ذلك العرق كانت في أحوال تؤدي إلى تكوينه تكوينا مطابقا لما ذكرناه في فصل سابق عن فعل البيئة والتوالد.
ولا أبحث هنا في تاريخ ملوك العرب أو البربر الذين ملكوا إسپانية ثمانمائة سنة، وإنما أوجز أهم الحوادث السياسية التي وقعت في تلك المدة الطويلة إيجازا يكفي لفهم هذا الفصل: كانت إسپانية، التي تم فتحها في سنة 711م، تابعة لخلفاء دمشق حتى سنة 756م، وكان ينوب عن هؤلاء الخلفاء أمراء في شؤون حكمها، فلما كانت سنة 756م انفصلت إسپانية عن خلافة المشرق، وقامت فيها دولة مستقلة عرفت في التاريخ بخلافة قرطبة التي أصبحت عاصمة لها.
شكل 6-4: رسم جامع قرطبة (كما جاء في كتب العرب القديمة).
وأخذ نجم العرب السياسي في إسپانية يأفل بعد أن مضى على سلطانهم ثلاثة قرون بلغت الحضارة العربية فيها ذروتها، وشرع النصارى الذين دحرهم العرب إلى الشمال يستفيدون مما كان يقع بين المسلمين من الفساد والفتن، وصاروا يغيرون عليهم.
واستغاث عرب إسپانية ببربر مراكش في سنة 1085م، ليحولوا دون توالي انتصارات ملك قشتالة وليون: الأذفونش السادس، ولم يلبث هؤلاء البربر الذين جاءوا إلى إسپانية حلفاء للعرب أن ظهروا لهم بمظهر السيد، وأسفر تنازع العرب والبربر عن انقسام دولة العرب إلى عشرين دويلة، وعن قبض المرابطين والموحدين وغيرهم من البربر على زمام الأمور، وعن تكمش العرب إزاء البربر، وعن تدرج الحضارة العربية إلى الانزواء.
واهتبل النصارى تلك الفرص، فوسعوا دائرتهم على حساب المسلمين، وأقاموا دويلات كثيرة كبلنسية وقشتالة ومرسية وغيرها مما انتهى إلى أربع دول، وهي: البرتغال ونبرة وأرغونة وقشتالة.
شكل 6-5: باب الشمس في طليطلة (من صورة فوتوغرافية).
ولم يبق للعرب في أواخر القرن الثالث عشر سوى مملكة غرناطة، ولما تزوج ملك أرغونة فرديناند الكاثوليكي ملكة قتشالة إيزابلا، وتمت بذلك وحدة تينك الدولتين، حاصر في سنة 1492 غرناطة، التي كانت آخر معقل للإسلام في إسپانية، وفتحها، ثم ضم إليه مملكة نبرة، فأصبحت جميع إسپانية، خلا البرتغال، تابعة لعرش واحد.
شكل 6-6: مقدم القصر في أشبيلية (من صورة فوتوغرافية).
ودامت دولة العرب في إسپانية نحو ثمانية قرون، أي ما يقرب من مدة سلطان الروم، وأدى انقسامها إلى زوالها أكثر مما أدت إليه الغارات الأجنبية، فالعرب، وإن كانت عبقريتهم الثقافية من الطراز الأول، لم يبد نبوغهم السياسي غير ضعيف.
شكل 6-7: سقف محراب جامع قرطبة القديم (طراز بزنطي عربي، آثار إسپانية المعمارية).
وعاهد فرديناند العرب على منحهم حرية الدين واللغة، ولكن سنة 1499م لم تكد تحل حتى حل بالعرب دور الاضطهاد والتعذيب الذي دام قرونا، والذي لم ينته إلا بطرد العرب من إسپانية، وكان تعميد العرب كرها فاتحة ذلك الدور، ثم صارت محاكم التفتيش تأمر بإحراق كثير من المعمدين على أنهم من النصارى، ولم تتم عملية التطهير بالنار إلا بالتدريج؛ لتعذر إحراق الملايين من العرب دفعة واحدة، ونصح كردينال طليطلة التقي، الذي كان رئيسا لمحاكم التفتيش، بقطع رءوس جميع من لم يتنصر من العرب رجالا ونساء وشيوخا وولدانا، ولم ير الراهب الدومينيكي، بليدا، الكفاية في ذلك؛ فأشار بضرب رقاب من تنصر من العرب ومن بقي على دينه منهم، وحجته في ذلك أن من المستحيل معرفة صدق إيمان من تنصر من العرب، فمن المستحب، إذن، قتل جميع العرب بحد السيف؛ لكي يحكم الرب بينهم في الحياة الأخرى، ويدخل النار من لم يكن صادق النصرانية منهم، ولم تر الحكومة الإسپانية أن تعمل بما أشار به هذا الدومينيكي الذي أيده الإكليروس في رأيه لما قد يبديه الضحايا من مقاومة، وإنما أمرت، في سنة 1610م، بإجلاء العرب عن إسپانية، فقتل أكثر مهاجري العرب في الطريق، وأبدى ذلك الراهب البارع، بليدا، ارتياحه لقتل ثلاثة أرباع هؤلاء المهاجرين في أثناء هجرتهم، وهو الذي قتل مائة ألف مهاجر من قافلة واحدة كانت مؤلفة من 140000 مهاجر مسلم حينما كانت متجهة إلى إفريقية.
وخسرت إسپانية بذلك مليون مسلم من رعاياها في بضعة أشهر، ويقدر كثير من العلماء، ومنهم سيديو، عدد المسلمين الذين خسرتهم إسپانية، منذ أن فتح فرديناند غرناطة حتى إجلائهم الأخير، بثلاثة ملايين، ولا تعد ملحمة سان بارتلمي إزاء تلك المذابح سوى حادث تافه لا يؤبه له ، ولا يسعنا سوى الاعتراف بأننا لم نجد بين وحوش الفاتحين من يؤاخذ على اقترافه مظالم قتل كتلك التي اقترفت ضد المسلمين.
ومما يرثى له أن حرمت إسپانية عمدا هؤلاء الملايين الثلاثة الذين كانت لهم إمامة السكان الثقافية والصناعية.
ثم رأت محاكم التفتيش أن تبيد كل نصراني ترى فيه شيئا من النباهة والفضل، فكان من نتائج هذه المظالم المزدوجة أن هبطت إسپانية إلى أسفل دركات الانحطاط بعد أن بلغت قمة المجد، وأن انهار معا كل ما كان فيها من الزراعة والصناعة والتجارة والعلوم والآداب والسكان.
وها هي ذي عدة قرون مضت على ذلك الدور من غير أن تستطيع إسپانية أن تنهض من هبوطها مع ما بذل من الجهود، وقد صار عدد سكان طليطلة في الوقت الحاضر 17000 بعد أن كان 200000 أيام الحكم العربي، وقد أصبح عدد سكان قرطبة في الوقت الحاضر 42000 بعد أن كان مليونا أيام الحكم العربي؛ ولم يبق من مدن ولاية شلمنقة، التي كان عددها أيام الحكم العربي 125 مدينة، سوى 13 مدينة.
وسيرى القارئ في الفصل الذي خصصناه للبحث في وارثي العرب مقدار الانحطاط الذي أسفر عن إبادة العرب، وإذا كنت قد أشرت إلى هذا هنا فلأن شأن العرب المدني لم يبد في قطر ملكوه كما بدا في إسپانية التي لم تكن ذات حضارة تذكر قبل الفتح العربي؛ فصارت ذات حضارة ناضرة في زمن العرب، ثم هبطت إلى الدرك الأسفل من الانحطاط بعد جلاء العرب، وهذا مثال بارز على ما يمكن أن يتفق لعرق من التأثير. (3) حضارة العرب في إسپانية
كانت إسپانية النصرانية ذات رخاء قليل وثقافة لا تلائم غير الأجلاف في زمن ملوك القوط، ولم يكد العرب يتمون فتح إسپانية حتى بدأوا يقومون برسالة الحضارة فيها، فاستطاعوا في أقل من قرن أن يحيوا ميت الأرضين، ويعمروا خرب المدن، ويقيموا فخم المباني، ويوطدوا وثيق الصلات التجارية بالأمم الأخرى، ثم شرعوا يتفرغون لدراسة العلوم والآداب، ويترجمون كتب اليونان واللاتين، وينشؤون الجامعات التي ظلت وحدها ملجأ للثقافة في أوربة زمنا طويلا.
شكل 6-8: داخل ردهة في القصر بإشبيلية (من صورة فوتوغرافية).
وأخذت حضارة العرب تنهض منذ ارتقاء عبد الرحمن إلى العرش على الخصوص، أي منذ انفصال إسپانية عن المشرق بإعلان خلافة قرطبة في سنة 756م، فغدت قرطبة، بالحقيقة، أرقى مدن العالم القديم مدة ثلاثة قرون.
ولم يكد عبد الرحمن يقبض على زمام الحكم في إسپانية حتى أخذ يسعى في حمل العرب على عد إسپانية وطنا حقيقيا لهم، فأنشأ جامع قرطبة الشهير الذي هو من عجائب الدنيا؛ لتحويل أنظار العرب عن مكة، وصار ينفق دخل بيت المال في إصلاح البلاد وعمرانها بدلا من إنفاقه في الغزوات البعيدة، ثم سار خلفاؤه على سنته في ذلك.
وامتازت حضارة العرب في إسپانية في ذلك الدور بميل العرب الشديد إلى الفنون والآداب والعلوم على الخصوص، وأنشأ العرب في كل ناحية مدارس ومكتبات ومختبرات، وترجموا كتب اليونان، ودرسوا العلوم الرياضية والفلكية والطبيعية والكيماوية والطبية بنجاح، وسنرى في فصول أخرى أهمية اكتشافاتهم في هذه العلوم المختلفة.
ولم يكن نشاطهم في الصناعة والتجارة أقل من ذلك، فكانوا يصدرون منتجات المناجم ومعامل الأسلحة ومصانع النسائج والجلود والسكر إلى إفريقية والشرق بواسطة تجار من اليهود والبربر.
وبرع العرب في الزراعة براعتهم في العلوم والصناعات، ولا يوجد في إسپانية الحاضرة من أعمال الري خلا ما أتمه العرب، وأدخل العرب إلى حقول الأندلس الخصبة زراعة قصب السكر والتوت والأرز والقطن والموز ... إلخ، وأصبحت إسپانية، التي هي صحراء حقيقية في الوقت الحاضر، عدا بعض أقسام في جنوبها، جنة واسعة بفضل أساليب العرب الزراعية الفنية.
ووجه العرب نشاطهم إلى كل فرع من فروع العلوم والصناعة والفنون، ولم تقل أشغالهم العامة عن أشغال الرومان أهمية، فأكثروا من إنشاء الطرق والجسور والفنادق والمشافي والمساجد في كل مكان.
وظن رئيس الأساقفة الإسپاني أكزيمينيس أنه، بإحراقه مؤخرا ما قدر على جمعه من مخطوطات أعداء دينه العرب (أي ثمانين ألف كتاب)، محا ذكرهم من صفحات التاريخ إلى الأبد، وما درى أن ما تركه العرب من الآثار التي تملأ بلاد إسپانية، خلا مؤلفاتهم، يكفي لتخليد اسمهم إلى الأبد.
وكانت عاصمة الخلافة، قرطبة، دارا للعلوم والفنون والصناعة والتجارة، وتستطيع أن تقابلها بعواصم دول أوربة العظمي الحديثة، وهي على خلاف قرطبة الحاضرة التي أضحت مقرا للأموات، ومن المؤلم أن كنت أسير عدة ساعات في هذه المدينة الواسعة، التي كان يقم بها مليون شخص، قبل أن أصادف مارا نشيطا ...
شكل 6-9: داخل ردهة في منصر بأشبيلية (من صورة فوتوغرافية).
أجل، كان من النصر العظيم أن أحل النصارى الصليب محل الهلال في قرطبة، ولكن الهلال كان يهيمن على أغنى مدن العالم وأجملها وأكثرها أهلا، فيشرف الصليب اليوم على بقايا تلك الحضارة القويمة التي قوضها عباده من غير أن يقيموا حضارة أخرى مقامها.
وكان نظام الحكم العربي في إسپانية مشابها لنظام الحكم الذي تكلمنا عنه في فصل «العرب في بغداد» أي كان الخليفة، وهو وكيل الله في الأرض، حاكما مطلقا جامعا لجميع السلطات المدنية والدينية والحربية مع اختياره مجلسا لإسداء النصح إليه في جميع أمور الدولة.
وكان يقوم بحكم الولايات ولاة ينصبهم الخليفة جامعون لمثل سلطاته كلها.
وكان قانون الدولة المدني يستند في نصوصه إلى القرآن وتفسير القرآن، كما نوضح ذلك في فصل آخر؛ فيتخذ القضاة القرآن دستورا في أحكامهم، وكانت المحاكم على درجتين؛ فتقوم محاكم الدرجة الثانية (الاستئناف) بإصلاح ما تصدره محاكم الدرجة الأولى من الأحكام.
وكان الخليفة، كملوك ذلك العصر، غير ذي جيش دائم، وكانت الكتيبة الوحيدة المسلحة على الدوام مؤلفة من حرس ولي الأمر الشخصي الذي يبلغ عدده عشرة رجال أو اثني عشر رجلا،
1
وإن كان يستطيع أن يجند كل شخص قادر على حمل السلاح من أبناء الدولة.
وكانت البحرية قوية جدا، وكانت تتم بفضلها صلات العرب التجارية بجميع مرافئ أوربة وآسية وإفريقية، وظل العرب وحدهم سادة البحر المتوسط زمنا طويلا.
وكان دخل بيت المال يقوم على الضرائب والمناجم، كما في بغداد، وكانت مناجم الفضة والذهب والزئبق غنية في ذلك الزمن، وكانت الضرائب تتألف من العشر العيني لمحاصيل أراضي المسلمين، ومن الجزية التي يعطيها النصارى واليهود، ومن الجمارك والمكوس، فبلغ دخل دولة الخلافة في إسپانية ثلاثمائة مليون في إبان عظمتها، أي في عهد الحكم الثاني.
وقلنا: إن الإمامة الثقافية كانت للعرب في البلاد، وأما العوام فكانوا من البربر، ومن سكان البلاد القدماء على الخصوص، وكان باب المناصب مفتوحا للنصارى، وكان النصارى يستخدمون في الجيش غالبا، ولم يكن توالد المسلمين والنصارى غير قليل، وكانت أم الخليفة عبد الرحمن الثالث نصرانية.
واستطاع العرب أن يحولوا إسپانية ماديا وثقافيا في بضعة قرون، وأن يجعلوها على رأس جميع الممالك الأوربية، ولم يقتصر تحويل العرب لإسپانية على هذين الأمرين؛ بل أثروا في أخلاق الناس أيضا، فهم الذين علموا الشعوب النصرانية، وإن شئت فقل حاولوا أن يعلموها، التسامح الذي هو أثمن صفات الإنسان، وبلغ حلم عرب إسپانية نحو الأهلين المغلوبين مبلغا كانوا يسمحون به لأساقفهم أن يعقدوا مؤتمراتهم الدينية، كمؤتمر أشبيلية النصراني، الذي عقد في سنة 782م ومؤتمر قرطبة النصراني الذي عقد في سنة 852م، وتعد كنائس النصارى الكثيرة التي بنوها أيام الحكم العربي من الأدلة على احترام العرب لمعتقدات الأمم التي خضعت لسلطانهم.
شكل 6-10: بهو ملوك المغاربة في القصر بأشبيلية (من صورة فوتوغرافية).
وأسلم كثير من النصارى، ولكنهم لم يسلموا طمعا في كبير شيء، وهم الذين استعربوا فغدوا هم واليهود مساوين للمسلمين قادرين مثلهم على تقلد مناصب الدولة، وكانت إسپانية العربية بلد أوربة الوحيد الذي تمتع اليهود فيه بحماية الدولة ورعايتها، فصار عددهم فيه كثيرا جدا.
وكان عرب إسپانية يتصفون بالفروسية المثالية خلا تسامحهم العظم، وكانوا يرحمون الضعفاء، ويرفقون بالمغلوبين، ويقفون عند شروطهم ... وما إلى هذا من الخلال التي اقتبستها الأمم النصرانية بأوربة منهم مؤخرا، فتؤثر في نفوس الناس تأثيرا لا تؤثره الديانة.
وللفروسية العربية شروطها كما للفروسية الأوربية التي ظهرت بعدها، فلم يكن المرء ليصير فارسا إلا إذا تحلى بهذه الخصال العشر: «الصلاح، والكرامة، ورقة الشمائل، والقريحة الشعرية، والفصاحة، والقوة، والمهارة في ركوب الخيل، والقدرة على استعمال السيف، والرمح، والنشاب.»
ونرى تاريخ العرب في إسپانية حافلا بالأنباء الدالة على كثرة انتشار تلك الخصال، ومن ذلك أن والي قرطبة لما حاصر، في سنة 1139م مدينة طيطلة التي كانت بيد النصارى أرسلت إليه الملكة بيرنجر التي كانت فيها من بلغه أنه لا يليق بفارس بطل شهم كريم أن يحاصر امرأة، فارتد القائد العربي من فوره محييا الملكة.
وذاعت خصال الفروسية تلك بين النصارى، ولكن ببطء، ويمكننا أن نتمثل ما كانت عليه الفروسية النصرانية في القرن الحادي عشر عند النظر إلى أمر السيد الكنبيطور رودريك الڨيڨاري.
لم يكن هذا البطل الشهير الذي تغنى به الشعراء كثيرا سوى رئيس عصابة بالحقيقة، أي كان محل مزايدة، فيبيع نفسه من العرب تارة ويبيعها من النصارى تارة أخرى، ومما حدث أن دخل مدينة بلنسية صلحا فلم يحجم عن شي حاكمها الهرم على النار؛ ليكرهه على كشف ما كان يظن وجوده في القصر من الكنوز.
قال مسيو ڨياردو: إن ذلك الفارس الشهير الذي يثير اسمه ذكريات البطولة هو البطل الشعبي الذي اقتحم المخاطر والأهوال أكثر مما اقتحمه هركول وثيزه وقدماء أنصاف الآلهة مجتمعين.
بيد أنه، وإن كان من المؤلم تجريد اسم عظيم من بعض ما أسبغته القرون عليه، لم يوضع التاريخ ليؤيد بأحكامه أقاصيص الأدباء وخيالات الشعراء.
لم يحز رودريك، أو روي دياز الڨيڨاري، غير صفات الجندي، أي كان رئيس عصابة من المرتزقة قاسيا جشعا حقودا شديدا في قوله وعمله كثير الجلف مستخفا بالعدل والإنصاف.
شكل 6-11: برج لاجيرالده (برج لعبة الهواء) في أشبيلية (من تصوير جيرول دوپرانجه).
وكان نصارى أرغونة أول من أعمل السلاح فيهم لحساب المسلمين الذين منحوه لقب «السيد» فعرف به، ثم باع سيفه من شانشه القوي؛ ليساعده على تجريد ما لإخوته وأخواته من المقاطعات، ثم حالف هذا وذاك محالفة الغادرين، ولم يبال بعهد الأمان الذي قطعه لمدينة ساغونتة ومدينة بلنسية؛ فأطعم الكلاب بعض الأسرى، ونكل ببعضهم، وحرق بعضا آخر منهم إكراها لهم على كشف كنوزهم. «حقا إنه أطفأ ما تم له من مجد النصر بما قام به من أعمال الختر
2
والخسة والإجرام، وإني أحيل القارئ الذي يريد التثبت في مصداق قولي إلى ما قاله مسيو دوزي في مباحثه عن تاريخ عرب إسپانية السياسي والأدبي في القرون الوسطى.»
شكل 6-12: محراب مسجد قصر الحمراء (من تصوير جونس).
وليس من الإنصاف أن نقسو على السيد الذي لم يعمل بغير ما كانت تبيحه طبائع زمنه، ولكن من الواجب أن نشير إلى تلك الطبائع؛ ليتجلى لنا مقدار ما أسدت به الأمة التي عملت على زوال تلك الطبائع من خدمة عظيمة بتأثير تعاليمها التي لا مؤيد لها سوى الرأي.
ويقولون: إن الدين يهذب الطبائع، وأذهب إلى هذا الرأي أحيانا وإن لم يكن في التاريخ سوى أدلة قليلة على ذلك، وإنما الذي لا ريب فيه هو أن قواعد الفروسية التي جاء بها العرب أدت إلى إصلاح تلك الطبائع أكثر من جميع التعاليم الدينية.
نعم، إن إحراق السيد شيخا ليسلب ماله يبديه لنا وحشا، غير أن طبائع أهل ذلك الزمن كانت تبيح ذلك، وأن كل أمير نصراني كان يقترف مثل ذلك.
ومن ذلك أن دعا الطاغية بطره ملك غرناطة، أبا سعيد، إلى قصره فأعجبه ما كان يتحلى به الملك أبو سعيد من الجواهر، فلم ير غير سلبه إياها بقتله غدرا.
3
فآثام مثل هذه مما لم يقترفه العرب قط. والعرب أحسنوا كثيرا إلى الحضارة بنشرهم من المشاعر في أنحاء العالم ما يحول دون ارتكابها.
واعترف الكتاب القليلون الذين درسوا تاريخ العرب بفضلهم الخلقي، وإليك ما قاله العالم الثبت مسيو سيديو: «كان العرب يفوقون النصارى كثيرا في الأخلاق والعلوم والصناعات، وكان من طبائع العرب ما لا تراه في غيرهم من الكرم والإخلاص والرحمة، وكان من طبائعهم التي امتازوا بها في المحافظة على الكرامة ما يؤدي الإفراط فيه إلى المبارزة والشحناء.
وكان ملوك قشتالة ونبرة على علم من صدق العرب وقراهم، ولم يتردد الكثير منهم في المجيء إلى قرطبة؛ ليعالجهم أطباؤها المشهورون.
وكان أفقر المسلمين يحافظ على شرف أسرته محافظة أشد الرؤساء صلفا.» (4) مباني العرب في إسپانية
استخدم العرب، في بدء إقامتهم بإسپانية، مهندسين من الروم، ولكن العرب لم يلبثوا أن أثروا بعبقريتهم الفنية في أولئك المهندسين، وبلغ إيحاؤهم في أمور الزينة مبلغا صار يتعذر معه على أقل الناس دقة أن يخلط مبانيهم بالمباني البزنطية.
ولم يلبث العرب في إسپانية أن تحرروا من النفوذ البزنطي كإخوانهم في مصر، فاستبدلوا النقوش العربية الممزوجة بالكتابة بالزخرفة الذهبية، وأكثروا، كما في المشرق، من المتدليات المؤلفة من الأقواس الصغيرة التي يعلو بعضها بعضا على شكل نخاريب النخل، فيكون منظرها ساحرا عجيبا حينما يزين بها داخل إحدى القباب كما في الحمراء، وكانت هذه الأقواس على شكل نعل الفرس الظاهر في البداءة، ثم اختلطت بأنواع الأقواس الأخرى البسيطة المصنوعة على رسم البيكارين، والأقواس المفلوقة المصنوعة على رسم البيكارين، والأقواس المنقوشة على شكل الأزهار والأغصان المصنوعة على رسم البيكارين ... إلخ، وأما الأقواس المجاوزة فقد أهملها العرب تقريبا.
ونعد جامع قرطبة الذي بني في القرن الثامن من الميلاد وبعض المباني في طليطلة من آثار الدور الأول لفن العمارة العربي بإسپانية، ونعد منارة لاجيرالدة (لعبة الهواء) الأشبيلية، التي أقيمت في القرن الثاني عشر من الميلاد، والقصر الأشبيلي من آثار الدور الأوسط لفن العمارة العربي، ونعد قصر الحمراء الغرناطي الذي شيد في القرن الرابع عشر من الميلاد عنوانا لما انتهى إليه فن العمارة العربي.
شكل 6-13: مقدم مسجد قصر الحمراء في غرناطة.
وعلى ما في هذه المباني التي أنشئت في إسپانية في مختلف الأدوار من التباين في الطرز نرى لها طابعا خاصا يدل على أصلها أول وهلة.
ويرى مثل هذا الطابع الخاص في مختلف المباني التي شادها العرب في مختلف الأقطار، فقصر الحمراء في غرناطة أو جامع السلطان حسن في القاهرة أو باب علاء الدين في دهلي أو غيره، وإن بدا عليه تأثير البيئة التي كان يعيش فيها المهندسون الذين رسموه، جمعت بينه وبين المباني الأخرى التي شادها العرب في الأقطار الأخرى صفات فن العمارة العربي العامة، وتنم هذه على مهارة صانعيها في إبداع الآثار الجديدة بالمواد القديمة، ولا جرم أن باب علاء الدين الذي ألف فيه بين عناصر الفن العربية والفارسية والهندوسية هو من الأمثلة المهمة لتأثير الفن العربي العجيب الذي طبع سمته على كل ما مسه، والذي ظل عربيا مع ما اقتبسه من الهندوس في الهند ومن الفرس في بلاد فارس ومن البزنطيين في إسپانية.
ولنتكلم الآن بإيجاز عن المباني المهمة التي تركها المسلمون في إسپانية، وسنتبع طريقتنا في نشر صور صادقة عنها نشرا يغنينا عن الوصف المفصل، وذلك على أن نعود إلى الكثير منها في الفصل الذي ندرس فيه تاريخ فن العمارة العربي. (4-1) المباني العربية في قرطبة
إن جامع قرطبة الشهير الذي بدأ عبد الرحمن بإنشائه في سنة 780م، والذي يعده علماء المسلمين قبلة أنظار المغرب، من أجمل المباني التي شادها العرب في إسپانية، قال كونده: بني ذلك المسجد الجامع في أواخر القرن الثامن من الميلاد بأمر عبد الرحمن الأول وإشرافه، وروي أن عبد الرحمن الأول هذا أراد أن يجعله مماثلا لجامع دمشق على أوسع نطاق، ومذكرا الناس بفيض زخارفه، بعجائب هيكل سليمان القدسي المجيد الذي هدمه الرومان. «وكان جامع قرطبة يفوق معابد الشرق قاطبة بعظمته وروعته، وترى ارتفاع مئذنته أربعين ذراعا، وترى قبته الهيفاء تقوم على روافد من الخشب المحفور وتستند إلى 1093 عمودا مصنوعا من مختلف الرخام على شكل رقعة الشطرنج، فيتألف منها تسعة عشر صحنا واسعا طولا وثمانية وثلاثون صحنا ضيقا عرضا، وترى في وجهه الجنوبي المقابل للوادي الكبير تسعة عشر بابا مصفحا بصفائح برونزية عجيبة الصنع خلا الباب المتوسط الذي كان مصفحا بألواح من الذهب، وترى في كل من وجهه الشرقي الجانبي ووجهه الغربي الجانبي تسعة أبواب مشابهة لتلك الأبواب.»
ولا يزال جامع قرطبة من المباني المهمة مع ما أحدثه الإسپان فيه من التلف والفساد، ومع تلك الكنيسة الواسعة التي أقاموها فيه لتطهيره، ومما صنعه الإسپان أن كلسوا زخارف جدره وكتاباته، ونزعوا منه فسيفساء أرضه، وباعوا تحف سقفه الخشبية المحفورة المزوقة، فيجب على من يرغب في تمثل شيء مما كان عليه جامع قرطبة أن ينظر إلى محرابه الذي تفلت وحده من التخريب.
شكل 6-14: قاعة البركة في قصر الحمراء (من تصوير جونس).
ويقوم سقف جامع قرطبة على أعمدة، ويتكون من اجتماع هذه الأعمدة صفوف من الصحون الكبيرة المتوازية المؤدية إلى باحته، وتتقاطع هذه الصحون وصحون أخرى كتقاطع الأضلاع الذي ينشأ عنه زوايا قائمة، ويتألف من مجموع تلك الأعمدة غابة من الرخام واليصب والغرانيت، وتعلو تلك الأعمدة أقواس رائعة منضدة مصنوعة على شكل نعل الفرس.
ولا يؤدي ارتفاع سقف جامع قرطبة الذي لا يزيد على عشرة أمتار إلى ما نراه في الكتدرائيات القديمة، التي أقيمت على الطراز القوطي في القرون الوسطى، من الجلال الأدجن ككتدرائية كولونية وستراسبرغ، وإنما ينشأ عن تنضد أقواسه وتنوع زخارفه منظر مبتكر بديع قلما تجد مثله في مبان أخرى.
وأما محراب جامع قرطبة فإننا، من غير أن نجاري جيرول دوپرانجه في قوله: «إنك لا ترى أحسن من زخرفه وسنائه في أي أثر قديم أو حديث مماثل»، نعترف بأنه من أجمل ما تقع عليه عين بشر.
وأقيم جامع قرطبة أيام كان الفن العربي في فجره، وتدرج الفن العربي إلى الكمال، فأقيمت على الطراز العربي الكامل مبان عجيبة كالحمراء تخبر، بما لها من الروعة والجلال قادم الأجيال بما كان للقوم الذين شادوها من الذوق الفني وحب كل ما هو ساطع بديع عجيب.
شكل 6-15: منظر التقط في قاعة الأختين بقصر الحمراء (من تصوير جونس).
شكل 6-16: قاعة بني سراج في قصر الحمراء (من تصوير مورفي).
شكل 6-17: ليوان في قصر الحمراء بغرناطة.
شكل 6-18: داخل قاعة لندرجة في قصر الحمراء.
وأرى، قبل أن أغادر قرطبة، أن أذكر، أيضا، قصر الزهراء الساحر الذي بناه عبد الرحمن في القرن العاشر بعيدا بضعة فراسخ من قرطبة، والذي درس رسمه وقص التاريخ نبأه، وإن الضبط الذي وصف به كتاب العرب جامع قرطبة لدليل على صدق ما وصفوا به قصر الزهراء من الأوصاف التي أوجزها جيرول دوپرانجه فيما يأتي:
كان يزين ذلك القصر 4300 عمود من الرخام الثمين الكامل الصنع، وكانت رداهه مبلطة بقطع من الرخام المنقوش بمهارة على ألف شكل، وكانت حواجز هذه الرداه مغطاة بالمرمر ومزخرفة بالأفاريز ذات الألوان الباهرة، وكانت سقوفه ذات نقوش ذهبية لازوردية متشابكة، وكانت جسور هذه السقوف وترابيعها الأرزية دقيقة متقنة الصنع، وكان في بعض رداهه عيون عجيبة تصب مياهها الصافية في صهاريج رخامية ذات أشكال منوعة أنيقة، وكان في ردهة الخليفة عين مصنوعة من اليصب ومزينة بإوزة عجيبة من الذهب عملت في القسطنطينية، وكانت الدرة الشهيرة، التي أتحف قيصر الروم عبد الرحمن الناصر بها، تعلو هذه العين، وكانت الحدائق العظيمة ذات الأشجار المثمرة والرياحين قريبة من القصر، وكان في وسط هذه الحدائق، وعلى مكان مشرف منها، قبة الخليفة القائمة على أعمدة رخامية بيض ذات تيجان مذهبة، وكان في وسط هذه القبة حوض كبير من الرخام السماقي مملوء بالزئبق الذي كان يتدفق بشكل عجيب تدفقا مستمرا، فكانت أشعة الشمس تنعكس عليه بما يأخذ بمجامع القلوب، وكان في هذه الحدائق الجميلة حمامات ذات صهاريج رخامية وبسط ورياش حريري ذهبي موشى بصور غريبة طبيعية من الأزهار والغاب والحيوانات، وجلب الرخام الأبيض إلى قصر الزهراء من المرية، والوردي والأخضر من قرطاجة وتونس، وصنعت في سورية، وفي القسطنطينية على رواية، عينه الذهبية المنقوشة، وكان يرى هنالك ما جلبه أحمد الرومي من الصور البشرية المنقوشة، وأمر الخليفة بأن تنصب هنالك صور من الذهب والحجارة الثمينة لاثني عشر حيوانا مصنوعة في المعمل الملكي بقرطبة، فكانت المياه تتدفق من أفواهها تدفقا مستمرا، وكان سقف ردهة الخليفة مذهبا مؤلفا من قطع رخامية لامعة مختلفة الألوان، وكانت جدره مزخرفة مثل سقفه، وكان في وسط هذه الردهة حوض رخامي عظيم مملوء بالزئبق، وكان في كل جانب من هذه الردهة ثمانية أبواب معقودة على حنايا من العاج والأبنوس مزينة بالذهب والحجارة الثمينة، قائمة على أعمدة من الرخام المنوع والبلور الصافي، وروى ابن حيان أن قصر الزهراء اشتمل على 4312 سارية مختلفة الحجوم، وأنه جلب 1013 سارية منها من إفريقية و19 سارية منها من رومة، وأن قيصر الروم أتحف عبد الرحمن ب 140 سارية منها، وأن بقية السواري أخذت من مختلف بقاع الأندلس وطركونة وغيرها، وصنعت أبواب قصر الزهراء من الحديد أو من النحاس المموه بالذهب والفضة. (4-2) المباني العربية في طليطلة
مدينة طليطلة القديمة الحاضرة صورة صادقة لما كانت عليه المدن الأوربية في القرون الوسطى، وما هو ماثل فيها الآن من الكتدرائية الفخمة ودير سان جوان دولوس ريس يكفي لشهرتها، فإذا استثنيت هذين الأثرين رأيت في كل خطوة منها ما يساعد على درس تأثير العرب في الأمم التي حلت محلهم.
ولا يزال يحيط بطليطلة حصونها وأبراجها العربية، ونذكر من أبوابها القديمة باب بيزاغرة (باب شقرة) الشهير الذي أنشئ في القرن التاسع من الميلاد، وباب الشمس الشهير الذي أنشئ في القرن العاشر من الميلاد فيصعب علي أن أعده، كما عده غيري، من الآثار التي شيدت على الطراز البزنطي، وذلك لشكله العربي العام، ولما يرى فيه من الأقواس والزخارف العربية.
وأذكر من المباني العربية في طليطلة، أو المباني العربية اليهودية فيها، سنتا ماريا لا بلانكا، أي الكنيس القديم الذي بني في القرن التاسع.
ويعد بالألوف ما تم في طليطلة من ضروب الزخارف على يد عمال من العرب كانوا من رعايا النصارى قبل إجلاء العرب العام الذي حدث بعد فتح النصارى لجميع بلاد إسپانية، وإلى هؤلاء العمال العرب يعود الفضل فيما ترى من دقائق النقوش والزينة في مباني طليطلة التي شيدت على الطراز الرومني أو الطراز القوطي، وقد نشأ عن هذا المزج بين الطراز العربي والطراز النصراني ذلك الطراز الذي يسمى المدجن، والذي اتصل أمره في إسپانية زمنا طويلا، والذي لم يعف أثره فيها كما تشهد بذلك بعض الأبنية التي شيدت في أشبيلية حديثا. (4-3) المباني العربية في أشبيلية
يرى في أشبيلية، كما يرى في طليطلة، أثر للعرب في كل خطوة، وإن كان ذلك بمعنى آخر، فإذا نظرت إلى أكثر بيوت أشبيلية العربية العصرية رأيته مبنيا على الطراز العربي، وإذا نظرت إلى الرقص البلدي والموسيقا المحلية في أشبيلية رأيتهما على النهج العربي، وإذا نظرت إلى نسوة أشبيلية، على الخصوص، رأيت الدم العربي يجري في عروقهن.
وإن البرج المسمى لاجيرالدة (برج لعبة الهواء) هو أقدم المباني العربية في أشبيلية، وهو بناء جميل مربع مبني من الآجر الوردي، وهو يشابه برج مار مرقس في البندقية وأكثر مناور إفريقية، وإنني أرجح أن يكون قد بني مئذنة للمسجد الجامع الذي أقامه المنصور في سنة 1195م.
ووجوه برج لاجيرالدة الخارجية مستورة بشبكة من النقوش المحفورة، ومن النوافذ ذات الأقواس المصنوع بعضها على شكل نعل الفرس، والمصنوع بعضها الآخر على رسم البيكارين، وكان يعلو ذلك البرج كرة معدنية مذهبة فأزالها الإسپان وبنوا في محلها برجا للناقوس، ثم وضعوا فوق هذا البرج تمثالا؛ ليكون رمزا للإيمان.
والقصر الأشبيلي قصر عربي قديم يرجع إنشاؤه إلى أدوار مختلفة، وقد بدئ بإنشائه في القرن الحادي عشر، وشيد معظمه في القرن الثالث عشر، وبنى مقدمه عمال من العرب في عهد الطاغية بطره، ثم حاول شارلكن أن يزوقه فأضاف إليه من الزخارف الإغريقية الرومية ما دل على فساد ذوق الصانع.
شكل 6-19: قاعة الأسود في قصر الحمراء (من صورة فوتوغرافية).
واتخذ ملوك النصارى قصر أشبيلية منزلا لهم، ويعد البناء الوحيد الذي حفظ من نوعه في إسپانية، وإن الناظر إلى رداه هذا القصر المزخرفة بشتى الألوان، والتي أزال الكلس عنها دوك مونپانسه بعد أن كلسها الإسپان وفق عاداتهم، ليتمثل ما كانت عليه رداه الحمراء قبل أن يكلسها الإسپان أيضا، وإن ردهة الصبايا اللائي كان النصارى يقدمون مائة منهن كجزية إلى ملوك المغاربة في أشبلية في كل سنة، كما روي، وكذلك ردهة السفراء، هما من أروع رداه القصر الأشبيلي، وتعد ردهة السفراء هذه من العجائب بغير ما أضيف إليها من الزخرف الرخيص، وإذا استثنينا مباني دمشق العربية وبعض مساجد القاهرة العربية لم نر في غير القصر الأشبيلي تلك السقوف المغطاة بالخشبان المحفورة المطلية المذهبة التي يفتخر أثمن قصورنا باشتماله على مثلها.
والحق أن أشبيلية أكثر مدن إسپانية حياة وتمدنا، وهي نقيض غرناطة التي حافظت على توحش القرون الوسطى، وعلى كرهها الشديد للأجانب. (4-4) المباني العربية في غرناطة
تتجلى عظمة فن العمارة العربي الأندلسي في قصر الحمراء الذي أنشئ في القرن الرابع عشر من الميلاد.
أقيم قصر الحمراء على منحدر جبل شلير الذي يشرف على مدينة غرناطة وعلى المروج الواسعة الخصيبة، والذي يعد من أجمل أمكنة العالم.
شكل 6-20: جزئيات نافذة في قصر الحمراء.
وإذا ما نظر المرء إلى الحمراء من أسفل الصخور التي تتوجها رآها أبراجا مربعة ذات ألوان قرمزية يناطح أعلاها السحاب، ويسفر أدناها عن نبات أخضر كثيف، وإذا ما مر المرء من تحت الأشجار التي تحف بها وسمع تغريد الطيور التي عليها وخرير الماء الذي يجري في السواقي والقنوات القريبة منها، فدخل ذلك القصر الشهير رأى ما تغنى به الشعراء، ولا سيما صاحب المشرقيات (ڨكتورهوغو) الذي أنشد قائلا:
أيتها الحمراء! أيها القصر الذي زينتك الملائكة كما شاء الخيال، وجعلتك آية الانسجام! أيتها القلعة ذات الشرف المزخرفة بنقوش كالزهور والأغصان والمائلة إلى الانهدام! حينما تنعكس أشعة القمر الفضية على جدرك من خلال قناطرك العربية يسمع لك في الليل صوت يسحر الألباب.
ويتعذر وصف الحمراء بوصف دقيق، وقلم الرسم وحده هو الذي يستطيع ذلك، وهو ما نستعين به، وما نشرنا في هذا الكتاب من صور للحمراء يغني عن كل ما يمكن قوله.
وكل ما في قصر الحمراء عجيب، والمرء يقضي العجب من جدرانه المزينة بالنقوش العربية الأنيقة المحفورة المفرضة وأقواسه المصنوعة على رسم البيكارين، وقبابه ذات الزخارف الساحرة المتدلية (المقرنصات) المطلية فيما مضى باللازورد والأرجوان والإبريز.
ولا تشابه الحمراء قصور أوربة مطلقا، شأن كثير من القصور العربية، فهي عاطلة من المقدم، وتنحصر زخارفها في داخلها الذي نرى كل شيء فيه عجيبا، وإن كان صغيرا، وليس فيها رداه فخمة مملة باردة مثل رداه قصورنا الأوربية رسمت ليعجب بها الزائرون، لا لتلائم ساكنيها.
ويمكننا أن نتمثل حياة ملوك العرب عند النظر إلى الحمراء؛ فالعين لا ترى من نوافذها غير آفاق لا نهاية لها، وهي تثير ذكريات ما كان يحدث في رياضها الغن التي كانت حظايا ملوك غرناطة، وقد كن من أجمل غواني الغرب والشرق، يتفيأن في غياضها ويتنسمن شذا أزاهرها النادرة.
وكان يحف بصاحب تلك العجائب جمع من المتفننين والعلماء والأدباء الذين كانوا أعلام ذلك العصر، وكان لذلك الصاحب أن يعد الملوك الآخرين من الحاسدين له، وكان له أن يكتب على باب قصره كما صنع ذلك الملك الهندي الذي حكت عنه القصة: «إن كان في الأرض فردوس فهو هذا!»
واشتهر أهم أقسام قصر الحمراء بفضل الفوتوغرافية والرسم، فذاع صيت قاعة الأسود وغرفة الأختين وحجرة بني سراج وردهة العدل، والقارئ الذي ينعم النظر في الصور التي نشرناها عن تلك الأقسام في هذا الكتاب يرى أنها ليست دون شهرتها، وانتهت الشهرة إلى قاعة الأسود على الخصوص، قال جيرول دوپرانجه: «يعجز الإنسان عن بيان ما يشعر به حين يمر من قاعة البركة، ويدخل قاعة الأسود فيرى فيها الأروقة التي تزينها الأقواس المنوعة المزخرفة بالنقوش المزهرة والزخارف المتدلية والتخاريم التي كانت ذهبية ملونة، وتقع عينه على غابة من الأعمدة الهيف التي وضع بعضها منفردا وبعضها مزدوجا وبعضها مجتمعا على شكل بديع، فيبصر من خلالها التماع مياه فسقية الأسود المتدفقة.»
وتقول القصة: إن رقاب بني سراج الستة والثلاثين ضربت على تلك الفسقية، وتقول العامة: إنه يشاهد في كل ليلة طيف أولئك القتلى متوعدا متهددا.
ولا تمت أسود تلك الفسقية إلى أي حيوان بوجه شبه حقيقي، فهي ناقصة الشكل نقصا قصده المثالون الذين أرادوا بها نوعا من الزينة.
ويكاد زائرو الحمراء لا يصدقون، أول وهلة، أن زخارف جدرانها منقوشة على الجص، لا على الحجارة، كما هو الأمر في القاهرة والهند، ويرى أولئك الزائرون الذين يتأملون قرن تلك الزخارف وسطها الأملس المصقول أن من المستحيل ألا تكون منقوشة على الرخام، ولم أر أنها من الجص إلا بعد أن حلل لي أحد أعضاء المجمع العلمي، مسيو فريدل، قطعة صغيرة منها.
والجص الممزوج بقليل من المواد العضوية هو، إذن، ما صنعت منه جميع نقوش الحمراء، ولا نستطيع سوى الاعتراف بإتقان صنع ذلك الجص الذي قاوم تقلبات الجو خمسمائة سنة من غير أن يفسد، ولا أعتقد أن مهندسا أوربيا في الوقت الحاضر يمكنه أن يعاهد على صنع نوع من الجص يستطيع أن يدوم مثل هذا الزمن الطويل بلا عطب.
ولا يستدل على بقاء جدر الحمراء بملاءمة جو إسپانية لها ما تطرق الفساد إلى أجزائها التي رممت بعد إجلاء العرب بزمن طويل، ويعرف هذا الفساد، بسهولة، من انثلام تلك الأجزاء المرممة وانخفاضها وانتفاخها.
وقص جميع رجال الفن الذين زاروا قصر الحمراء العجيب، والألم ملء قلوبهم، ما لا يكاد العقل يصدقه من أنباء التخريب الفظيع الذي أحدثه الإسپان فيه، فقد هدم شارلكن قسما مهما منه لينشئ في مكانه بناء ثقيلا، وعدته جميع الحكومات الإسپانية مجموعة من الخرائب القديمة التي لا تنفع لغير الاستفادة من موادها، قال مسيو دڨليه في كتابه عن إسپانية: «لقد بيعت ألواح الميناء التي كانت تزين رداه الحمراء منذ بضع سنين لصنع الملاط، وبيع باب مسجدها البرونزي كنحاس عتيق، وحرقت منها أبواب ردهة بني سراج الخشبية الأنيقة كما يحرق الحطب، ثم اتخذ من رداهها الجميلة سجون للمجرمين ومخازن للميرة بعد أن بيع ما أمكن نزعه منها.»
وأراد الإسپان تطهير جدران الحمراء المزينة بالنقوش العربية الجميلة، فكسوها طبقة كثيفة من الكلس، ويظهر أن التكليس الذي تساوى في حبه الإسپان والإنكليز هو مما يرغب فيه بعض الشعوب المتمدنة التي لا ترى ما هو أطيب منه للزينة،
4
وهو مما يروق بالتدريج أولئك الأوربيين الذين يرون فيه مظهرا للمساواة ووحدة الشكل المبتذلة.
شكل 6-21: قصر شقوبية (من صورة فوتوغرافية).
ولما يمض زمن طويل على تذمر المتفنين من تخريب قصر الحمراء، ونزع أولو الأمر من الإسپان إلى المحافظة على ما بقي من هذا القصر الساحر بعد أن قيل لأهل غرناطة، غير مرة، إنهم يملكون به إحدى العجائب التي تجلب إليهم السياح من كل جانب، فأزيل شيء من الكلس الذي سترت به تلك النقوش العربية، وبدئ بالترميم، والإسپان عاملون على ذلك ببطء لعدم وجود عمال في إسپانية قادرين على إنجاز هذا الترميم الذي يسهل أمره عند النظر إلى النماذج.
ويرى بجانب الحمراء قصر عربي آخر يسمى جنة العريف، وقد بالغ الإسپان في تكليس جدران هذا القصر، فصرت لا تستطيع أن تتمثل حالته الأولى، وصار لا يستحق الحماسة التي يصفه بها مطوفو السياح خلا روضته.
وأما مدينة غرناطة فلا أنصح أحدا بأن يزورها بعد أن وصفها شعراء العرب بأنها أنضر مدينة تنالها أشعة الشمس وبأنها دمشق الأندلس.
شكل 6-22: قصر شقوبية (من صورة فوتوغرافية).
ولا أقدر أن أصف الحال التي كانت عليها غرناطة فيما مضى، ولكن غرناطة الحديثة لم تكن سوى قرية كبيرة كئيبة قذرة ليس فيها ما يجدر ذكره غير كتدرائيتها الفخمة وحمرائها، فضلا عن أنها قائمة على مكان يعد من أجمل أمكنة العالم، ولم تبن بيوتها الحديثة على طراز معروف، وأمعنت في البحث عن زخارفها التي قص أدباء معاصرون مشهورون علينا خبرها فلم أجد لها أثرا.
حقا لم تكن غرناطة الجديدة سوى مدينة ميتة، ويعرف أهلها بأنهم من الجهلة الثقلاء البعيدين من القرى، وهي نقيض مدينة أشبيلية التي تشاهد فيها مسحة من الحياة، والتي تجد فيها من بائعي الكتب ما لا تجد في غرناطة.
أكتفي بذكر ما تقدم من مباني العرب، فإذا أضفنا إليه قصر شقوبية وبعض الأبنية التي نتكلم عنها في الفصل الذي خصصناه للبحث في تأثير العرب في أوربة كانت لدينا صورة كافية للآثار العربية الماثلة الآن في إسپانية والتي هي بقايا عصر زاهر، والتي تكفي وحدها للدلالة على عظمة العرب ولو لم ينته إلينا شيء من علومهم وآدابهم.
هوامش
الفصل السابع
العرب في صقلية وإيطالية وفرنسة
(1) العرب في صقلية وإيطالية
يدلنا درس تاريخ العرب في مختلف الأقطار التي دخلوها على أن لغزواتهم مناحي مختلفة، أي يدلنا على أنهم إما أن يكونوا قد أغاروا عليها؛ ليستقروا بها نهائيا، وإما أن يكونوا قد اكتفوا بغزوهم الخاطف لها، فأما في الحالة الأولى فقد كان من سياستهم الثابتة أن يكونوا على وئام مع الأهلين المغلوبين، وأن يحترموا دينهم وشرائعهم، وأن يكتفوا بأخذ جزية طفيفة منهم كما صنعوا في سورية ومصر وإسپانية، وذلك خلافا لعادة جميع الفاتحين في زمانهم، وأما في الحالة الثانية فقد ساروا على سياسة كل فاتح، فعدوا البلاد التي أغاروا عليها كإيطالية، وفرنسة على الخصوص، من الفرائس وانتهبوا بسرعة ما وصلت إليه أيديهم منها، وخربوا فيها ما لم يقدروا على حمله غير مبالين بسكانها.
وسار العرب على ذينك النجدين في صقلية، فبما أن عدد من أغار منهم على صقلية وعلى قطعة من إيطالية كان قليلا وقفوا عند حد الغزو المؤقت وما ينشأ عنه عادة من التخريب والنهب وقتل من يقاوم من الأهلين ثم العودة السريعة، ولما تكررت غزواتهم لتلك البلاد وأصابهم فيها من النجاح والتوفيق ما أصابهم رأوا أن يستقروا بها، وأن يحسنوا سياسة أهلها، ولما رسخت أقدامهم فيها كفوا عن عادة نهبها، وأنعموا عليها بنعم الحضارة، وكان لهم فيها مثل ما كان لهم في إسپانية من الأثر النافع البالغ.
ويمكننا، ببيان هذه الفروق الأساسية في سياسة العرب، إدراك تاريخ العرب في مختلف الأقطار التي استولوا عليها، وإيضاح علة اختلاف سياسة العرب أنفسهم في البلدان المتجاورة.
ومسلمو إفريقية هم الذين غزوا صقلية وإيطالية، وأكثر هؤلاء المسلمين من البربر؛ لما كان من قلة عدد العرب في ذلك الدور، وهؤلاء البربر من أشد الشعوب التي دانت لشريعة الرسول بأسا، وأضعفهم تمدنا كما ذكرنا.
وأغار العرب على صقلية وجزر البحر المتوسط بضع مرات منذ القرن الأول من الهجرة، ولم يحاول العرب الاستيلاء على صقلية جديا إلا في أوائل القرن الثالث من الهجرة حين استقل شمال إفريقية عن خلافة المشرق، وحين حدث ما شجعهم على ذلك.
وكانت جزيرة صقلية من أعمال حكومة بزنطة، وكانت حكومة بزنطة ترسل إليها حكاما ليمارسوا السلطة فيها، ومما حدث أن عهد إلى أمير البحر أوفيميوس (فيمي) في الدفاع عنها، وأن علم أوفيميوس أن قيصر بزنطة أمر بقتله، وأن قتل أوفيميوس حاكم صقلية ونصب نفسه أميرا عليها، وأن ثار أهلها عليه ففر إلى إفريقية طالبا حماية المسلمين، وأن عاد إلى صقلية مع جيش من المسلمين لم يلبث أن سار على حساب نفسه، فأتم فتح صقلية بدخوله بلرم بعد وقائع دامت بضع سنين (212ه / 217ه).
ولم يقتصر العرب، بمقاتلتهم الروم، على غزو صقلية، فقد استولوا على جنوب إيطالية أيضا، وبلغوا في تقدمهم ضواحي رومة، وأحرقوا كنيسة القديس بطرس وكنيسة القديس بولس اللتين كانتا قائمتين خارج أسوار رومة، ولم يرجعوا عنها إلا بعد أن وعدهم البابا يوحنا الثامن بدفع جزية إليهم، واستولى العرب على مدينة برنديزى الواقعة على شاطئ البحر الأدرياتي ومدينة تارانت، وأغاروا على دوكية بنيڨنت، وصاروا سادة البحر المطلقين بفتحهم صقلية وأهم جزر إيطالية وقورسقة وقندية (الخندق) ومالطة وجميع جزر البحر المتوسط، ولم يسع البندقية إزاء ذلك إلا أن تعدل عن محاربتهم لطويل زمن.
والنورمان هم الذين قضوا على سلطان العرب السياسي في صقلية في القرن الحادي عشر من الميلاد، وداوم العرب، بعد زوال سيادتهم، على القيام برسالتهم الثقافية فيها كبير وقت، وذلك أن ملوك النورمان، إذ كانوا من الذكاء ما يستطيعون أن يدركوا به تفوق العرب العظيم استندوا إلى العرب؛ فظل نفوذ أتباع الرسول في أيامهم بالغا.
وإذ كان لتاريخ النورمان صلة وثيقة بتاريخ العرب في صقلية رأيت أن أحدث عن وقائعهم بإيجاز لفهم تاريخ حضارة العرب فيها، ومن المفيد أيضا أن أذكر أسلوب الحرب في ذلك الزمن، وأن أبين أعمال التخريب، التي لام مؤرخو اللاتين العرب عليها، هي مما كان يستبيحه مقاتلو جميع الأمم.
شكل 7-1: مقدم قصر العزيزة العربي في صقلية (من صورة فوتوغرافية).
نعد الأحوال التي ساقت النورمان من أمكنة بعيدة إلى فتح صقلية من غريب الحوادث، وذلك أن كوكبة من فرسان الفرنج والنورمان كانت قادمة، حوالي سنة 1015م، من بيت المقدس إلى جنوب إيطالية لتزور، وفق العادة، غار جبل غورغانو الذي اشتهر بظهور الملك ميكائيل فيه، وأن كونت أڨيلينو، روفريد، لما علم ذلك استنجد بهم للدفاع عن ساليرم التي كان العرب يحاصرونها، وأنهم استطاعوا أن يدخلوها، وأن يشدوا عزائم أهلها الذين لم يلبثوا أن فكوا الحصار وهزموا العرب، وأن أهل ساليرم وأميرهم فرحوا بذلك، ودارت الحمية في رؤوسهم، فأجزلوا عطاء أولئك الغرباء، ودعوهم إلى الإقامة بين ظهرانيهم.
ومع أن أولئك الحجاج لم يرضوا بذلك لرغبتهم في رؤية وطنهم مرة ثانية وعدوا بأن يبعثوا إليهم فتيانا منهم للدفاع عن النصرانية ببسالة، ثم توجهوا إلى وطنهم الذي كانوا في أشد الشوق إليه، وأخذوا معهم من الهدايا نسائج ثمينة وحللا فاخرة وسروجا ذهبية وفضية زاهية، وما لم تعرفه فرنسة قبل ذلك الزمن من البرتقال الناضج، قاصدين بذلك أن يرى بنو قومهم تلك المنتجات، وأن يتشوقوا إلى زيارة ذلك القطر الذي ينتج مثلها.
ولم يكد أولئك الفرسان النورمان يصلون إلى وطنهم حتى أخذوا يقصون على أهله من الأنباء ما ألهبوا به حميتهم، وما دفعوا به عددا كبيرا منهم إلى غزو صقلية.
ذلك هو سبب غارة النورمان الذين كان همهم مصروفا إلى النهب على حسب عادة ذلك الزمن أكثر مما هو مصروف إلى الدفاع عن دينهم، والذين تساوى الأغارقة والإيطاليون والعرب في نظرهم فصاروا يسلبون هؤلاء جميعا بنشاط، والذين عدوا في خمسين سنة، أي حتى تم لهم الفتح، جزيرة صقلية وما جاورها من إيطالية بلادا مباركة يمكن الاغتناء فيها بسهولة.
ولم ينشأ عن أعمال حماة الدين من النورمان سوى تخريب تلك البلاد بسرعة، ولم يلبث أهلوها أن اعترفوا بأن صداقة فرسان النورمان أشد وقرا من عداوة العرب، فاستغاثوا بالبابا لينقذهم من النورمان، ولم يجد إنذار البابا للنورمان نفعا، فأرسل إلى قيصر القسطنطينية كتابا يدلنا على سوء معاملة جيش نصراني في ذلك الزمن لبلاد صديقة استولى عليها.
وإليك كتاب البابا ليون التاسع الذي بعث به إلى قيصر القسطنطينية:
يكاد قلبي يتفطر من الأخبار المحزنة التي أنبأني بها رسل ابني أرجيروس، فعزمت على تطهير إيطالية من ظلم هؤلاء الأجانب النورمان المردة الأشرار الزنادقة الذين لا يحترمون شيئا عند اندفاعهم، والذين يذبحون النصارى، ويسومونهم أشد العذاب غير راحمين ولا مفرقين بين الجنسين والأعمار، والذين ينهبون الكنائس ويحرقونها ويهدمونها، والذين يعدون كل شيء فريسة يباح سلبها، والذين أكثرت من لومهم على فسادهم، ومن إنذارهم بسوء أحكامي، وخوفتهم من سخط الرب، فلم يزدهم ذلك إلا عتوا، فكان أمرهم كقول الحكيم: إن من يتركه الرب يظل خبيثا على الدوام، وإن من يكون مجنونا لا يصلحه الكلام، ولهذا فقد عزمت على شهر الحرب الدينية المشروعة على هؤلاء الغرباء الثقلاء الذين أمعنوا في الظلم وصار أمرهم لا يطاق، وهذا دفاعا عن الشعوب والكنائس.
وإذ لم ينل البابا ليون التاسع أية مساعدة من قيصر الروم سعى إلى عقد حلف ضد النورمان، وخاطب الألمان في ذلك، ورأى الأسقف أيشتات عارا في قيادة البابا لجيش يحارب به النصارى، ومنع ملك جرمانية، هنري الثالث، من الانضمام إليه، هنالك جمع البابا جيشا أكثر عددا من الجيش النورماني، وهجم على النورمان بصولة متوكلا على الرب فكسر وأسر، وهنالك حاول البابا أن يستعطف قاهريه فاسترد حرمانه إياهم ومنحهم البركة، ولم يؤثر هذا في مشاعر النورمان، ولم يسرحوه إلا بعد سنة، وبعد أن أخذوا عليه العهود والمواثيق الغليظة.
وداوم النورمان، الذين خلا لهم الجو بذلك على اقتراف جرائم النهب عمدا في صقلية وإيطالية، ودام النزاع بين الحاكمين والمحكومين زمنا طويلا، وتعوده الأهلون، وصاروا يألفون ما يقع كل يوم من حوادث السلب والقتل التي قص المؤرخون خبر كثير منها كما لو كان ذلك من الوقائع اليومية التي لا أهمية لها، ومن ذلك أن فرسان النورمان كانوا يفاجئون الأديار السيئة التحصين، ويسلبون كل ما فيها، ويبقرون بطون رهبانها على بكرة أبيهم خشية الفضيحة، وأن الرهبان من ناحيتهم كانوا يتغفلون بعض أولئك الفرسان بين حين وآخر فينتقمون منهم أشد الانتقام.
وتاريخ اللاتين حافل بوصف أنباء تلك المجاملات المتقابلة، ومن بين ألف حادثة منها أختار الخبر الآتي الذي اطلع عليه مسيو دولاپريموديري في وثائق رهبان جبل كاسينو للدلالة على طبائع أهل ذلك الزمن:
صعد الكونت رادلف في جبل كاسينو ذات يوم، وكان معه خمسة عشر نورمانيا، فترك هؤلاء النورمان، على حسب العادة، أسلحتهم وخيولهم عند باب الدير الذي دخلوه للصلاة، وبينما كان هؤلاء النورمان جثيا أمام هيكل القديس «بنوا» أغلق الرهبان أبواب الدير من فورهم، وقبضوا على تلك الأسلحة والخيول، ودقوا النواقيس إيذانا بالخطر، فتدفق أنصار الدير كالسيل، وهجموا على هؤلاء النورمان الذين لم يبق لهم ما يدفعون به عن أنفسهم سوى السبحات التي كانت بأيديهم.
وذهب عبثا ما تضرعوا به لاحترام ذلك المكان المقدس الذي لم يحدث أن احترموا أمثاله، وذهب عبثا قسمهم إنهم لم يدخلوا الدير إلا للعبادة وللاتفاق مع رئيسه، فقد جعل الرهبان أصابعهم في آذانهم، ولم يرضوا أن يضيعوا ما سنح لهم من فرصة الانتقام، وقد قتل أصحاب الكونت الخمسة عشر، ولم ينج الكونت نفسه من القتل إلا بفضل شفاعة رئيس الدير الذي اهتبل هذه الفرصة فأعاد إلى الدير ما كان هذا الكونت قد اغتصبه من الأملاك والأموال، وقصر القديس أندره وحده هو الذي حاول المقاومة.
شكل 7-2: داخل قصر العزيزة في صقلية (من تصوير جيرول دوپرانجة).
واستمر النورمان على نهب صقلية إلى أن فكر رئيس ماهر من رؤسائهم، اسمه روجر، في فتحها بحزم، والفرصة كانت سانحة لتحقيق ذلك.
وكان الانقسام يأكل المسلمين، وكان ما بين العرب والبربر من المنافسة يقودهما إلى الهلاك في صقلية كما كان يقودهما إليه في إسپانية، وكانت صقلية في ذلك الزمن، أي في سنة 1061م، مجزأة إلى الإمارات الخمس: بلرم ومسينة وقطانية وأطرابنش وجرجنتة، وأطلق المؤرخون لقب ملك على أمير بلرم، ولكن هذا الملك كان يقتتل هو والأمراء المسلمون الآخرون مع استيلاء النورمان على نصف جزيرة صقلية.
وجعل انقسام العرب في صقلية فتح النورمان لها من الممكنات، وتم استيلاء النورمان عليها بدخولهم بلرم سنة 1072م، فأفل نجم العرب السياسي عن صقلية في تلك السنة، وإن دام تأثيرهم الثقافي بعدها زمنا طويلا بفضل دراية روجر وخلفائه.
وبدا روجر الأول، الذي نودي به أميرا على صقلية، منظما قديرا كما بد مقاتلا شجاعا، ويجب عده من أعاظم رجال زمنه، ويستحق ابنه الذي خلفه مثل هذا المديح.
وكانت حضارة العرب زاهرة في صقلية حين فتحها النورمان، وأدرك روجر وخلفاؤه أفضلية أتباع النبي؛ فانتحلوا نظمهم، وشملوهم برعايتهم، وتمتعت صقلية برخاء دام إلى أن قبض ملوك من السوآب على زمامها في سنة 1194م فأجلوا العرب عنها.
وكان يسكن صقلية، حينما نظم روجر أمورها، خمسة شعوب ذات لغات وعادات مختلفة، وهي: الفرنج (النورمان ولا سيما البريتان) والأغارقة واللنبار واليهود والعرب، وكان لكل من هذه الشعوب شريعة خاصة، أي كان الأغارقة يعملون بقانون جوستنيان، واللنبار يعملون بالفقه اللنباري، والنورمان يعملون بالفقه الفرنجي، والعرب يعملون بالقرآن، وكان لا بد لمن يريد أن يحسن سياسة هذه الشعوب المختلفة من التحلي بروح التسامح والعدل والإنصاف، وكان العرب يدركون ذلك فجاء روجر فأدركه أيضا، وكانت إمامة الثقافة والصناعة للمسلمين، فأخذ روجر يحافظ عليهم أحسن المحافظة، وكانت مراسيم روجر تكتب بالعربية واليونانية واللاتينية، وكان نصف الكتابة في دائرة نقوده بالعربية والنصف الآخر باليونانية أو اللاتينية، وكان بعضها يشتمل على رمز المسيح، وبعض منها يشتمل على رمز محمد، وبعض آخر يشتمل على كلا الرمزين.
وسار خلفاء روجر على سنته، ومنهم غليوم الثاني الذي درس لغة العرب، وكان يرجع إليهم في أهم شؤونه، وكانوا يقابلون عطفه بإخلاصهم له، فينضوون إليه ويساعدونه على إطفاء ما يقع من الفتن.
وروى مؤرخو العرب أن عدد العرب في صقلية أصبح كثيرا في سنة 1184م، أي بعد قرن من ذلك الفتح، وأنه كان لهم في بلرم أحياء واسعة ومساجد كثيرة وأئمة وقاض للفصل في خصوماتهم، وأزهر بلاط ملوك النورمان في صقلية بفضل العرب، وبالغ أبو الفداء في تقديره؛ فشبهه ببلاط الخلفاء في بغداد، وببلاط الخلفاء في القاهرة. (2) حضارة العرب في صقلية
إن المصادر التي يرجع إليها في تصوير حضارة العرب في صقلية قليلة، وليس لدينا منها غير ما هو مبعثر في كتب المؤرخين من الفقر، وقليل من المباني التي لم تنلها يد التخريب، وبعض النقود، وتكفي هذه المصادر، مع ذلك، لإثبات أن حضارة العرب كانت في صقلية على شيء من التقدم، وإن لم تكن مثل ما كانت عليه في مصر وإسپانية، وأن صقلية كانت حين جلاء العرب عنها أرقى ثقافة وصناعة واجتماعيا منها حين دخلوها، ونحن إذا علمنا أن قيمة تأثير إحدى الأمم في أمة أخرى من ناحية الحضارة تقدر بمقدار نهوضها بها وإصلاحها لها رأينا أنه كان للعرب تأثير عظيم في صقلية.
وعقب دور تنظيم العرب لصقلية دور فتحهم لها، فقسم العرب صقلية إلى ثلاث ولايات بعد أن كانت مقسومة، منذ زمن القرطاجيين إلى الولايتين: بلرم وسرقوسة، فكان تقسيم العرب لها إلى ثلاث ولايات أكثر ملاءمة لجغرافيتها، وكان على رأس كل واحدة من هذه الولايات الثلاث وال، وكانت كل ولاية مقسمة إلى عدة أعمال، وكان يقوم بشؤون كل واحد من هذه الأعمال قائد تابع للوالي، وكان يقيم ببلرم مفت، وكان يقيم بكل ناحية قاض ومسجل، وكان في كل مدينة جاب، وكان يشرف على إدارة أمور المال والمحاسبة ديوان كبير.
شكل 7-3: جزئيات إحدى وجهات قصر القبة العربي في صقلية (من صورة فوتوغرافية).
وترك لنصارى صقلية كل ما لا يمس النظام العام، فكان للنصارى، كما في زمن الروم، قوانينهم المدنية والدينية وحكام منهم للفصل في خصوماتهم وجباية الجزية السنوية التي فرضها العرب عليهم، وهي 48 دينارا عن كل غني، و24 دينارا عن كل موسر، و12 دينارا عن كل من يكسب عيشه بنفسه، وكانت هذه الجزية، التي هي دون ما كان يأخذه الروم، لا تؤخذ من رجال الدين والنساء والأولاد.
وجعل العرب كل ما له علاقة بالحقوق المدنية، كالتملك والإرث وما إليهما، ملائما لعادات صقلية، ولم يرغب النورمان عنه حين استولوا عليها.
وسمح العرب، في أيام سلطانهم، للنصارى بالمحافظة على قوانينهم وعاداتهم وحريتهم الدينية، وقد روى الدومينيكي كواردين، وكان رئيسا لدير القديسة كاترين في بلرم، أن القساوسة كانوا أحرارا في الخروج لابسين حللهم الدينية ليناولوا المرضى القربان الأقدس، وقد روى الأب مور كولي أنه كان ينصب في الحفلات العامة بمسينة رايتان: إحداهما إسلامية وعليها صورة برج أسود في حقل أخضر، والأخرى نصرانية وعليها صورة صليب مذهب في حقل أحمر، ولم يمس العرب الكنائس القائمة في صقلية حين فتحهم لها، وإن لم يأذنوا لهم في بناء كنائس جديدة فيها كما كانوا يأذنون لنصارى إسپانية.
شكل 7-4: نقود نصرانية عربية لملوك النورمان في صقلية.
ولم تكد أقدام العرب ترسخ في صقلية حتى أقبلوا على الزراعة والصناعة، فانتشلوهما بسرعة من الانحطاط الذي كانتا فيه، وأدخلوا إلى صقلية زراعة القطن وقصب السكر والدردار
1
والزيتون، وحفروا فيها الترع والقنوات التي لا تزال باقية، وأنشأوا فيها المجاري المعقوفة التي كانت مجهولة قبلهم.
وتقدمت الصناعة في صقلية بفضل العرب، واستغل عرب صقلية ثروتها الطبيعية، واستخرجوا منها الفضة والحديد والنحاس والكبريت والرخام والغرانيت ... إلخ، بأساليب فنية، وأدخلوا إليها صنع الحرير، ومما يرى في نور نبرغ رداء من الحرير كان يلبسه ملوك صقلية مطرزا بكتابات كوفية مع تاريخ سنة 520ه / 1133م، ويحمل كل شيء على القول بانتشار فن صباغة المنسوجات في أوربة من صقلية.
وانتعشت التجارة، واتسع نطاقها أيام العرب بعد أن كانت صفرا، تقريبا، قبلهم كما يدل على ذلك ما انتهى إلينا من جداول مكوسهم التي أدرجت فيما نظمه النورمان من القوائم في أوائل الفتح فتثبت درجة تحول تجارة صقلية حين هذا الفتح.
ولم يبق من المباني الإسلامية في صقلية سوى عدد قليل، وأشهر هذه المباني قصر العزيزة وقصر القبة القائمان بالقرب من بلرم، واللذان ثبت بهما أنه لم يكن من المبالغة ما رواه المؤرخون عن فخامة مباني العرب في صقلية، فعن هذه المباني المزينة بالرخام الثمين والفسيفساء الزاهرة والمحاطة بأجمل الرياض تكلم الراهب ثيودوز والعالم الجغرافي الإدريسي مع الإعجاب، والراهب ثيودوز هذا أسر في أثناء حصار سرقوسة في سنة 878م، ونقل إلى بلرم، وامتدح قصور هذه المدينة المهمة ومساجدها وضواحيها.
واسمع في وصف بلرم ما قاله العالم الجغرافي العربي الإدريسي الذي ألف كتاب رحلته الكبير في بلرم في عهد الملك روجر الثاني أي بعد الفتح النصراني بزمن قليل:
بلرم هي المدينة السنية العظمى، والمحلة البهية الكبرى، والمنبر الأعظم الأعلى، علم بلاد الدنيا، وإليها في المفاخر النهاية القصوى، ذات المحاسن الشرائف، ودار الملك في الزمان المؤتنف والسالف، ومنها كانت الأساطيل والجيوش تغدو للغزو وتروح كما هي عليه الآن من ذلك، وهي على ساحل البحر في الجانب الغربي والجبال الشواهق العظام محدقة بها، وساحلها بهج مشرق فرج، ولها حسن المباني التي سارت الركبان بنشر محاسنها في بناءاتها ودقائق صناعاتها وبدائع مخترعاتها، وهي على قسمين: قصر وربض، فالقصر هو القصر القديم المشهور فخره في كل بلد وإقليم، وهو في ذاته على ثلاثة أسمطة؛ السماط الأوسط يشتمل على قصور منيفة، ومنازل شامخة شريفة، وكثير من المساجد والفنادق والحمامات وحوانيت التجار الكبار، والسماطان الباقيان فيهما أيضا قصور سامية، ومبان فاخرة عالية، وبهما من الفنادق والحمامات كثير، وبهما الجامع الأعظم الذي كان بيعة
2
في الزمن الأقدم، وأعيد في هذه المرة على حالته في سالف الزمان، وصفته الآن تعزب عن الأذهان، لبديع ما فيه من الصنعة والغرائب المفتعلة المنتخبة المخترعة، ومن أصناف التصاوير وأجناس التزويق والكتابات، وأما الربض؛ فمدينة أخرى تحدق بالمدينة من جميع جهاتها، وبه المدينة القديمة المسماة بالخالصة التي كان بها سكنى السلطان والخاصة في أيام المسلمين، وباب البحر ودار الصناعة التي هي للإنشاء، والمياه بجميع جهات مدينة صقلية مخترقة، وعيونها جارية متدفقة، وفواكهها كثيرة، ومبانيها ومتنزهاتها حسنة، تعجز الواصفين، وتبهر عقول العارفين، وهي بالجملة فتنة للناظرين، والقصر المذكور من أكبر القصور منعة وأعلاها رفعة، لا ينال بقتال، ولا يطاق على حال، وبأعلاه حصن محدث للملك المعظم رجار مبني بالفصوص الجافية والحجارة المنحوتة الضخمة، وقد أحكم نسقه وأعليت رقعه، وأوثقت مناوره ومحارسه، وأتقنت قصوره ومجالسه، وشيدت بنيانا ونمقت بأعجب المغتربات، وأودعت بدائع الصفات، فشهد لها بالفضل المسافرون، وغلا في وصفها المجولون، وقطعوا قطعا أن لا مباني أعجب من مباني المدينة، ولا مكان أشرف من مغانيها، وأن قصورها مشارف القصور، وأن دورها منازه الدور، والربض المحدق بالقصر القديم المتقدم ذكره هو في ذاته كبير القطر كثير الفنادق والديار والحمامات والحوانيت والأسواق، وله سور يحيط به وخندق وفصيل، وله في داخله، بساتين كثيرة ومتنزهات عجيبة وسقايات ماء عذبة جارية مجلوبة إليها من الجبال المحدقة ببقعتها، وبخارج الربض من الجهة الجنوبية منها نهر عباس، وهو نهر جار عليه جمل من الأرحاء الطاحنة لا يحتاج معها إلى غيرها.
وتفسر إمامة العرب في الفنون والصناعات والعلوم سبب حماية ملوك النورمان لهم، وكان الرهبان يعجبون بحذق العرب وإن كانوا يعزون اكتشافاتهم إلى السحر، وإنني أنقل، العبارة الغريبة الآتية التي وردت في كتاب تاريخي لاتيني، وذلك من بين العبارات الطريفة الكثيرة التي قيلت في العرب، وذلك للدلالة على رأي أعداء العرب في العرب ، قال المؤرخ:
اكتشف الكونت روبرت ويسكارد في إحدى غزواته تمثالا على عمود رخامي متوج بإطار من نحاس منقورة فيه هذه الكلمة: «سأكون عند طلوع الشمس من اليوم الأول من شهر مايو صاحبا لتاج من ذهب»، فلم يستطع أحد أن يدرك مغزاها، ولكنه كان عند الكونت روبرت أسير من عرب صقلية عنده علم الجفر، كجميع أبناء هاجر فأخبر الكونت هذا بأن لديه مفتاح ذلك اللغز وبأنه يقول له معنى تلك الكلمة إذا أطلق، فوعده الكونت بذلك، فأشار ذلك العربي عليه بأن يحفر حين طلوع الشمس من اليوم الأول من شهر مايو المحل الذي يدل عليه منتهى ظل ذلك التمثال، فصنع الكونت ما نصحه به فوجد كنزا كبيرا. (3) غزو العرب لفرنسة
شن العرب غارات كثيرة على فرنسة بعد فتحهم إسپانية، ولم يقع ما يدل على أنهم كانوا يريدون الإقامة الجدية بفرنسة، وفسر هذا بعدم ملاءمة المناطق الباردة لهم.
والحق أن الرخاء كان يصبح حليف العرب في المناطق المعتدلة الجنوبية، وأن العرب استقروا بأقصى جنوب فرنسة زمنا طويلا.
وكان يملك بلاد فرنسة، حين ظهر فيها العرب في القرن الثامن من الميلاد، أمراء يعرفون بالملوك الكسالى، وكانت تأكلها الفوضى الإقطاعية، وكانت مستعدة لتكون غنيمة لغزاة العرب الذين استولوا على أكثر مدنها الجنوبية بسهولة، ودخل العرب قرقشونة ونيم وليون وماكون وأوتون ... إلخ، بالتتابع بعد أن فتحوا أربونة من إقليم لنغدوكة، وحاصروا في سنة 721م مدينة طلوشة التي كانت عاصمة أكيتانية على غير جدوى، وانتشر العرب في جميع وادي الرون وفي دوفينة وبورغونية.
واستولى العرب بالتدريج على نصف فرنسة الحاضرة الذي يبدأ من ضفاف نهر اللوار وينتهي إلى مقاطعة فرنش كونته، ولم يقصد العرب الاستقرار بتلك البلاد، بل اكتفوا باحتلال بعض المراكز المهمة؛ لتكون قواعد يستطيعون أن يشنوا منها غارات جديدة على بعض البقاع حيث يأملون أن يجدوا ما يغنمون.
وأهم تلك الغارات هي التي كانت بقيادة عبد الرحمن الغافقي فوقفها شارل مارتل (قارلة) بالقرب من پواتيه سنة 732م.
جمع عبد الرحمن الغافقي جيشا على شيء من الأهمية في إسپانية وعبر نهر الغارون، واستولى على بوردو (برديل) على الرغم من دفاع الأكيتان والڨاسكون الذين كان يقودهم دوك أوديس، ثم توجه إلى پواتيه فاستغاث دوك أوديس بشارل مارتل الذي كان يلقب بأمير القصر، ويمارس السلطة باسم ملكين ضعيفين من ملوك الميروڨنجيين في المقاطعتين: أسترازية ونسطرية.
وروى أحد مؤرخي العرب أن كثيرا من سنيورات الفرنج اشتكوا إلى شارل مارتل من الأضرار التي أحدثها المسلمون، ومن الخزي الذي يمكن أن يصيب البلاد من جراء دحر أناس غير مدربين، وغير حاملين سلاحا كافيا؛ لمحاربين مجهزين بالدروع وبعدة الحرب الكاملة، فأجابهم شارل مارتل قائلا: «دعوهم يصنعوا ما يشاءون، فهم الآن مستأسدون، وهم كالسيل الذي يأتي على كل ما يعترضه، وما عندهم من الحماسة والشجاعة يقوم مقام الدروع والحصون، ولكنهم إذا ما أثقلتهم الغنائم، وطاب لهم المقام بالبيوت الجميلة، وألفوا رفاهية العيش، واستحوذ الطمع على قادتهم، ودب الشقاق في صفوفهم - زحفنا عليهم واثقين من النصر.»
شكل 7-5: إبريق عربي مصنوع من البلور في القرن العاشر من الميلاد (متحف اللوفر، صورة أخذت من جريدة الفنون الجميلة).
أجل، كان رأي شارل مارتل صائبا، غير أن الرعب الذي ألقاه العرب في القلوب كان من الشدة ما تركوا معه ينهبون البلاد التي قطعوها بدلا من محاولة وقفهم.
واستطاع عبد الرحمن الغافقي أن يسير، إذن، منتصرا غير هياب إلى الأمام، وأن يخرب الحقول الخصبة الواقعة بين مدينة بوردو ومدينة تور، وأن يأخذ غنائم كثيرة من المدن، ونحن إذا علمنا أنه لم يكن من عادة العرب أن ينهبوا البلدان التي يرغبون في استيطانها، كما ذكرنا ذلك غير مرة، رأينا أن سلوك عبد الرحمن الغافقي يدل على أنه، بدخوله فرنسة، لم يفكر في غير الغنائم، ويتجلى لنا ذلك عندما نعلم أن العرب ، حينما وصلوا إلى مدينة تور، كانوا مثقلين بالغنائم وأنهم لم يستطيعوا التقدم إلا بمشقة، وأن عبد الرحمن الغافقي لما علم زحف شارل مارتل الذي جمع جيشا من الممالك المتحدة تحت لواء كلوڨيس فيما سلف، فكر في الارتداد فنزل إلى پواتية واضطر إلى منازلة شارل مارتل الذي كان يتعقبه.
وكان جيش شارل مارتل مؤلفا من البوغورن والألمان والغول، وكان جيش عبد الرحمن الغافقي مؤلفا من العرب والبربر، وظلت المعركة غير حاسمة بعض اليوم، فلما كان المساء انفصلت فرقة من جيش الفرنج لتغير على معسكر المسلمين، فترك المسلمون ميدان القتال ليحافظوا على غنائمهم، فأسفرت هذه الحركة الخرقاء إلى خسرانهم، فاضطروا إلى القتال متقهقرين إلى الجنوب، وقد تتبعهم شارل مارتل من بعيد، وحاصر أربونة غير موفق، وأخذ ينهب البلاد المجاورة على حسب عادات ذلك الزمن، وحالف أمراء النصارى العرب؛ ليتخلصوا منه، وحملوه على القتال مرتدا.
ولم يلبث المسلمون، بعد أن أفاقوا من تلك الضربة التي أصابهم بها شارل مارتل، أن أخذوا يستردون مراكزهم السابقة، وقد أقاموا بفرنسة قرنين بعد ذلك، وقد سلم حاكم مرسيلية مقاطعة الپروڨنس إليهم في سنة 737م، واستولوا على الآرل، ودخلوا مقاطعة سان ترويز في سنة 889م، ودامت إقامتهم بمقاطعة الپروڨنس إلى نهاية القرن العاشر من الميلاد، وأوغلوا في مقاطعة الڨالة وسويسرة سنة 935م، وروى بعض المؤرخين أنهم بلغوا مدينة ميس.
شكل 7-6: أسلحة عربية صنعت في مختلف الأزمنة (من صورة فوتوغرافية التقطها المؤلف).
وتثبت إقامة العرب بفرنسة مدة تزيد على قرنين بعد شارل مارتل أن النصر الذي أحرزه في پواتية لم يكن مهما كما زعم المؤرخون، ولم يقم إجماع هؤلاء المؤرخين الذين قصوا علينا أن شارل مارتل أنقذ أوربة والنصرانية من العرب على أساس متين كما يبدو لنا، فلم تكن غزوة عبد الرحمن الغافقي سوى حملة قام بها؛ ليمون جنوده، ويمكنهم من أخذ مغانم كثيرة، وما كان العرب ليفعلوا أكثر من نهب مدينة تور وبضع مدن أخرى، سواء انتصر شارل مارتل أو لم ينتصر، وما كان همهم مصروفا إلى غير العودة بما غنموه على أن يعيدوا الكرة في سنة أخرى إلى أن يجدوا أمامهم من التحالف ما يدحرهم.
ولم يستطع شارل مارتل أن يطرد العرب من أية مدينة احتلوها عسكريا، واضطر شارل مارتل إلى التقهقر أمامهم تاركا لهم ما استولوا عليه من البلدان، والنتيجة المهمة الوحيدة التي أسفر عنها انتصاره هي أنه جعل العرب أقل جرأة على غزو شمال فرنسة، ونتيجة مثل هذه، وإن كانت مفيدة، لم تكف لتكبير أهمية انتصار هذا القائد الفرنجي.
ويرى المؤرخون الذين يجسمون قيمة انتصار شارل مارتل على العرب بالقرب من پواتية أنه لولا هذا الانتصار؛ لاستمر العرب على غزواتهم، واستولوا على أوربة، ثم يسألون مذعورين عن مصير الشعوب النصرانية لو خفقت فوقها راية النبي، قال مسيو هنري مارتن في كتابه عن تاريخ فرنسة الشعبي: «لقد تقرر مصير العالم في تلك المعركة، ولو غلب الفرنج فيها لكانت الأرض قبضة محمد ... ولخسرت أوربة والدنيا مستقبلهما، فليس النشاط الذي يحفز الناس إلى التقدم مما تجده في عبقرية المسلمين التي تتلخص في فكرتهم عن الله، وإله المسلمين قد جنح إلى العزلة والسكون بعد أن خلق العالم، وهو لا يحث الناس على العمل في سبيل الرقي.»
والجواب عن ذلك هو أن النصر لو تم للعرب ما طرأ تبديل على مقادير البلاد، فإذا ما كان العرب غالبين انتهبوا بضع مدن، على ما يحتمل، زيادة على المدن التي انتهبوها كما قلنا آنفا، ثم ارتدوا حاملين غنائمهم إلى ملجأ أمين، ثم عادوا في السنين القادمة إلى سيرتهم الأولى ريثما يلقاهم عدو قوي يدحرهم كما وفق له شارل مارتل.
ولكن لنفرض جدلا أن النصارى عجزوا عن دحر العرب، وأن العرب وجدوا جو شمال فرنسة غير بارد ولا ماطر كجو إسپانية فطابت لهم الإقامة الدائمة به، فماذا كان يصيب أوربة؟ كان يصيب أوربة النصرانية المتبربرة مثل ما أصاب إسپانية من الحضارة الزاهرة تحت راية النبي العربي، وكان لا يحدث في أوربة التي تكون قد هذبت ما حدث فيها من الكبائر كالحروب الدينية، وملحمة سان بارتلمي، ومظالم محاكم التفتيش ... وكل ما لم يعرفه المسلمون من الوقائع التي ضرجت أوربة بالدماء عدة قرون.
ويجب أن يكون المرء جاهلا تاريخ حضارة العرب جهلا مطبقا؛ ليوافق على ما زعمه ذلك المؤرخ العالم من «أن النشاط الذي يحفز الناس إلى التقدم ليس مما تجده في عبقرية المسلمين»، ومن «أن أوربة والدنيا كانتا تخسران مستقبلهما»، فمزاعم مثل هذه ليست مما يقف أمام سلطان النقد عندما يعلم أن التمدن اللامع حل بالبلاد التي خضعت لأتباع الرسول محل الهمجية، وأن النشاط الذي يحفز الإنسان إلى التقدم لم يكن قويا في أمة مثل قوته في العرب.
ولم يكن احتلال العرب لجنوب فرنسة عدة قرون غير ذي أثر ضعيف، فبما أن المدن التي استولوا عليها في جنوب فرنسة من القواعد الحربية التي كانوا يستندون إليها في غاراتهم لم يبالوا بتمدينها، ولم يكن لهم في جنوب فرنسة مراكز مهمة للحضارة كما اتفق لهم في إسپانية وبلاد المشرق.
ومع أن إقامة العرب بفرنسة نشأت عن بعض السرايا نراهم قد تركوا أثرا عميقا في اللغة وفي الدم كما نذكر ذلك في فصل آخر، وذلك أنه استقر أناس كثيرون منهم بالأرضين القريبة من المدن التي استولوا عليها وتعاطوا فيها أمور الزراعة والصناعة، وأنهم أدخلوا صناعة البسط إلى أبوسون، وأنهم أدخلوا كثيرا من أساليب الفلاحة كما عزي إليهم، وأنهم امتزجوا بسكان البلاد بسبب محالفاتهم الكثيرة لأمراء النصارى الإقطاعيين المتقاتلين على الدوام، وأنه وجد حفدة للعرب في أماكن كثيرة من بلاد فرنسة كالمقاطعات: كروز والألب الأعلى ومونتمور (جبل المغاربة) وبنيو (شارانت) وبعض قرى لاند وروسيون ولنغدوكة وبيارن كما أثبت ذلك علم وصف الإنسان، فيمكن الإنسان أن يعرفهم بجلودهم السمر وشعورهم السود وأنوفهم القنو وعيونهم الثاقبة اللامعة، ويمكن المرء أن يعرف نساءهم بألوانهن الزيتية ووجوههن الأسيلة وأعينهن النجل الدعج وحواجبهن الزج وصدورهن الناهدة ... إلخ، وإذا كانت هذه الصفات قد ظلت باقية فلم تمح بغرقها في صفات السكان المجاورين، تبعا للسنن الإنتروپولوجية التي بيناها، فلأن حفدة العرب أولئك ألفوا جماعات صغيرة منفصلة عن بقية الأهلين غير متصلة بهم بصلات التوالد.
شكل 7-7: قرب عربية (من صورة فوتوغرافية التقطها المؤلف).
انتهينا من تاريخ العرب في مختلف الأقطار التي دانت للإسلام، وعلمنا درجة اختلاف هذا التاريخ باختلاف البيئات التي أقاموا بها وبحسب مقاصدهم من الاستيلاء عليها، ورأينا أنهم ذوو أثر بالغ في تمدين الأقطار التي خضعت لهم خلا فرنسة على ما يحتمل، وأن كل بلد خفقت فوقه راية النبي تحول بسرعة، فازدهرت فيه العلوم والفنون والآداب والصناعة والزراعة أيما ازدهار.
ولندع جانبا بياننا المجمل الذي اقتصرنا عليه حتى الآن، ولنبدأ بتفصيل تاريخ حضارة العرب ودرس مبتكراتهم في مختلف المعارف البشرية التي زاولوها، فمهما يكن تاريخ إحدى الأمم السياسي مبهما أو زاهرا، فإن شأن هذه الأمة الحقيقي في العالم يقاس باكتشافاتها وتأثيرها في ميدان الحضارة.
هوامش
الفصل الثامن
اصطراع النصرانية والإسلام
الحروب الصليبية (1) منشأ الحروب الصليبية
كان سلطان العرب السياسي في أواخر القرن الحادي عشر من الميلاد، أي في الدور الأول من الحروب الصليبية، في طور الانحطاط، وإن لم يذو نفوذ اسمهم في العالم، فقد كانت إفريقية وإسپانية قبضتهم، ولم يتقادم بعد الزمن الذي كانوا فيه سادة البحر المتوسط وسادة جزء من فرنسة وملوكا لصقلية، والذي أوغلوا فيه حتى رومة فأكرهوا البابا على دفع جزية إليهم، ولم يصل قياصرة الرومان في إبان مجدهم إلى ما وصل إليه اسم محمد من إلقاء الرعب في برابرة أوربة، فهجوم أوربة النصرانية على الإسلام الذي كانت فرائص العالم ترتجف فرقا منه منذ خمسة قرون، وذلك في عقر داره، من الأعمال العظيمة التي كانت تتطلب حماسة دينية بالغة، واعتمادا كبيرا على الرب، وجيشا مؤلفا من مليون جندي.
وكل يعلم كيف أجاب العالم النصراني دعوة ذلك المجذوب، وكيف انقضت أمم على الشرق، وكيف أن سوق تلك الجيوش الهائلة لم يؤد إلى غير نصر وهمي، وكيف فلت عزيمة مجاهدي النصارى الذين لم ينقطع سيلهم مدة قرنين من أجل فتح القدس، والمحافظة عليها أمام هلال الإسلام.
واصطلح الناس على تسمية ذلك الصراع بين النصرانية والإسلام بالحروب الصليبية، وكان لتلك الحروب نتائج مهمة في تاريخ حضارة أوربة العام، وليس من الجائز أن نصمت عنها إذن في هذا الكتاب الذي لم نقتصر فيه على بيان حضارة العرب وحدها، بل عزمنا فيه على درس تأثيرهم في العالم أيضا.
ولنقل كلمة عن حال الغرب والشرق في زمن الحروب الصليبية.
كانت أوربة، ولا سيما فرنسة، في القرن الحادي عشر الذي جردت فيه الحملة الصليبية الأولى في أشد أدوار التاريخ ظلاما، وكان النظام الإقطاعي يأكل فرنسة، وكانت مملوءة بالحصون التي كان أصحابها، وهم من أنصاف البرابرة، يقتتلون دائما ولا يملكون سوى أناس من العبيد الجهال، ولم يكن في ذلك الحين نفوذ شامل لسوى البابا، وكان الناس يخشون البابا أكثر من احترامهم له.
وكانت دولة الروم في الشرق قائمة، وكانت القسطنطينية، مع انحطاطها، عاصمة لدولة كبيرة، وكانت ميدانا للمنازعات الدينية وأنواع المشاحنات، وكانت تخسر كل يوم جزءا من أملاكها، فضلا عن انطفاء سلطانها في إيطالية، وكان كل من بابا رومة وبطرك بزنطة قد حرم الآخر فصار للنصارى كنيستان.
وكان قسم من سورية تابعا للترك السلجوقيين، وكان القسم الآخر تابعا لسلاطين مصر، ولم يكن الخليفة ببغداد غير شبح، وكانت دولة العرب السياسية في دور الانحلال مع محافظة حضارتهم على سلطانها، ولم يكن الصراع العظيم الذي كان يتمخض عنه العالم، إذن، غير نزاع عظيم بين أقوام من الهمج وحضارة تعد من أرقى الحضارات التي عرفها التاريخ.
وكانت الصلات بين أوربة والشرق مقصورة على زيارة حجيج النصارى لفلسطين في ذلك الدور، وواظب النصارى على زيارة فلسطين مع زيادة منذ زمن قسطنطين، ولا سيما منذ حسنت العلاقات بين هارون الرشيد وشارلمان.
وزاد عدد زيارات النصارى لفلسطين مع الزمن، وكان يتألف من بعض قوافل حجاج النصارى جيش حقيقي، ومن ذلك أن استصحب الأب ريشارد سبعمائة حاج في سنة 1045م، ولم يستطع أن يصل إلى ما هو أبعد من قبرس، ومن ذلك أن رئيس أساقفة مايانس، سيغفروا، وأربعة أساقفة يقودون قافلة من سبعة آلاف حاج في سنة 1064م ومشتملة على بارونات وفرسان، فحاربت هذه القافلة الأعراب والتركمان.
وما كان يعتور زيارات القدس من المصاعب والمخاطر أوجب فرض الإكليروس لها عادين إياها مكفرة عن أسوأ الجرائم، وما كان عدد أكابر المجرمين قليلا في ذلك الزمن، وما كان خوف جهنم والشيطان ضئيلا في نفوس البرابرة، فزاد عدد الحجيج لهذا السبب، وأنت إذا ما عدوت بعض المغامرين والأتقياء الحمس وجدت أولئك الحجاج مؤلفين، على العموم، من أسفل المجرمين المفطورين على أخطر الجرائم، والذين ما كان غير الفزع من النار ليدفعهم إلى قصد تلك البلاد البعيدة.
شكل 8-1: باب دمشق في القدس (من صورة فوتوغرافية).
وكان عدد حجيح النصارى يزيد كل يوم، وكان ضجيجهم يزيد على ما كان عليه، وكان التركمان الذين قاموا مقام العرب في سورية أقل تسامحا من العرب، فجادل هؤلاء التركمان أولئك النصارى في حق المرور من وسط البلاد الإسلامية بلا إذن إيفاء لزيارة بيت المقدس، وأكرهوا حجيج النصارى على دخول القدس بخشوع بدلا من أن يسمحوا لهم بدخولها ظافرين على صوت الصنوج وضوء المشاعل كما كان العرب يسمحون به، وأخذوا يحملونهم على دفع الفدى غير تاركين وسيلة لإيذائهم إلا أتوها.
وحدث أن جاء لزيارة بيت المقدس جندي قديم كان قد ترهب بعد أن طرأ على حياته الروحية ما كدر صفوه، وكان اسم هذا المجذوب المتعصب النشيط بطرس، فأضاف التاريخ إلى اسمه لقب «الناسك».
واشتاط بطرس الناسك غيظا من سوء ما عومل به في فلسطين، وغاص بطرس الناسك في بحر من الأحلام فرأى أنه مرسل لدعوة أوربة إلى إنجاد الأرض المقدسة.
وملكت هذه الأوهام مشاعره فتوجه إلى رومة ليستعين بالبابا، فأذن له الباب أوربان الثاني في دعوة النصارى إلى إنقاذ الأماكن المقدسة، فصار يجوب بلاد إيطالية وفرنسة، ويلقي الخطب النارية ممزوجة بالبكاء والعويل وصب اللعنات على الكافرين، وبوعد الرب للذين يزحفون لإنقاذ قبر المسيح بالمغفرة، وتؤثر فصاحته التمثيلية الخيالية في قلوب الجموع، ويعده الناس نبيا في كل مكان.
ولم تكن الجموع التي ألهبها بطرس الناسك لتستطيع عمل شيء وحدها، وإنما حدث ما حفز السنيورات الذين كانوا سادة للجموع إلى دعم تلك الحركة، وذلك أن قيصر الروم، ألكسيس كومنين، الذي كانت دولته تخسر كل يوم قطعة من أملاكها، استغاث بالبابا وملوك أوربة حينما حاصر الترك القسطنطينية، فأقام ذلك العالم النصراني وأقعده بالإضافة إلى مواعظ بطرس الناسك.
ورأى البابا أن يشجع تلك الحركة، فعقد في إيطالية مؤتمرا دينيا لم يسفر عن نتيجة، ثم عقد في سنة 1095م مؤتمرا ثانيا في كليرمون بأوڨرن، وحضر بطرس الناسك هذا المؤتمر الأخير، وتحالف المؤتمرون، تلبية لدعوته الصارمة وترديد الجموع الهائجة لكلمة: «الرب يريد ذلك!» على الزحف إلى فلسطين لإنقاذ قبر الرب ملصقين الصلبان على أكتافهم، وأجمع المؤتمرون على أن يبدأ بالزحف في عيد انتقال العذراء من السنة القادمة حتى يجمع أولياء الأمور جيشا كبيرا قادرا على القيام بذلك. (2) خلاصة الحروب الصليبية
نشأ عن عزم القوم على غزو فلسطين اشتعال النفوس حمية، وصار كل واحد يرجو إصلاح حاله، فضلا عما يناله في ملكوت السماوات، فغدا العبيد يطمعون في فك رقابهم، وغدا أبناء الأسر الذين حرموا الميراث بسبب نظام البكرية والسنيورات الذين كانت قسمتهم ضئزى
1
يطمعون في الاغتناء، وغدا الرهبان الذين أضنتهم حياة الأديار وجميع المحرومين طيب العيش، وكان عددهم كبيرا يعللون أنفسهم بأطيب الأماني.
حقا لقد أصاب القوم نوبة حادة من الجنون، فرغب السنيورات والعبيد والرهبان والنساء والأولاد وجميع الناس في الزحف، وأخذ كل امرئ يبيع ما يملك ليتجهز، واستعد من الرجال 130000 مقاتل لغزو فلسطين حالا.
شكل 8-2: قسم من أسوار القدس (من صورة فوتوغرافية التقطها المؤلف).
وكانت تلك النوبة تزيد حدة كل يوم، ولم يرغب الذين بكروا في انتظار تأليف جيش منظم، وما كاد ربيع سنة 1096م يحل حتى توجهت عصابات كبيرة من كل صوب وحدب إلى نهر الدانوب.
وكانت الحركة شاملة ما بين بحر الشمال ونهر التيبر، وكانت تجرف سكان بعض القرى آخذين ما عندهم من الأموال، وكانت أوربة كلها تنقض على آسية.
وكلما اقتربت تلك العصابات من هدفها المأمول زادت جنونا، ودارت المعجزات والكرامات في أدمغتها المشتعلة التي طارت منها العقول إلى الأبد.
وكان بطرس الناسك والفارس الفقير غوتيه على رأس أهم العصابات الزاحفة إلى الشرق، وأكرمت هذه العصابات في البلدان الأوربية التي كانت تمر منها في بدء الأمر، ولكنها لم تكد تصل إلى بلغارية حتى التقت بأناس من ضعاف الإيمان أبوا أن يضيفوهم مجانا، وساء هذا الرفض الصليبيين، ولم يحجموا عن اغتصاب ما منعوه، وعن نهب قرى تلك البلاد وذبح أهليها، ولم يصبر الأهلون على ذلك فأخذوا ينتقمون ويقتلون فريقا كبيرا منهم أو يغرقونه، وجد الصليبيون في طلب النجاة بسرعة، وبلغوا القسطنطينية ناقصي العدد، ووجدوا فيها عصابات من التوتون والطلاينة والغسكون والغول والپروڨنسيين كانت قد سبقتهم إليها، وهنالك انضم هؤلاء إلى أولئك، وأخذوا يقتلون وينهبون، ويأتون ما يفوق الوصف من الأعمال الوحشية، ويعزم البزنطيون على التخلص منهم، وينقلونهم بالسفن إلى ما وراء البسفور.
وبلغ عدد من سيق من الصليبيين إلى آسية الصغرى على ذلك الوجه مائة ألف، واقترف هؤلاء من الجرائم نحو المسلمين والنصارى ما لا يصدر عن غير المجانين من الأعمال الوحشية، وكان من أحب ضروب اللهو إليهم قتل من يلاقون من الأطفال وتقطيعهم إربا إربا وشيهم كما روت آن كومنين بنت قيصر الروم.
وكان من حقوق الترك أن يقابلوهم بالمثل، ولذا صار الترك يتصيدونهم كما يتصيدون الحيوانات المفترسة مقيمين من عظامهم هرما عظيما.
ولم يلبث جيش الصليبيين الأول المؤلف من مئات الألوف أن أبيد، وإنما كانت تأتي من خلفه فيالق منظمة تامة العدة مؤلفة من سبعمائة ألف مقاتل بقيادة أقوى السنيورات، أي كان يأتي من الفيالق ما لم يسبق للعرب أن جمعوا جيشا لجبا مثله.
ومن هذه الفيالق نذكر الفيلق الذي كان يقوده دوك اللورين الدنيا، غودوفروا البويوني، والذي كان مؤلفا من ثمانين ألف مقاتل من سكان اللورين وباڨارية وسكسونية.
وحاصر الصليبيون مدينة إزنيق الواقعة في آسية الصغرى، وهزموا جيشا تركيا، وقطعوا رؤوس جرحى الترك وربطوها بسروج خيولهم وعادوا إلى معسكرهم، ثم رموها إلى تلك المدينة التي كانت محاصرة.
ولم يكن ذلك مما يرضي الأهلين، فسلم الأهلون - الذين علموا ماذا كان ينتظرهم - أمر أنفسهم إلى القيصر بالقسطنطينية، فاضطر حلفاؤه الصليبيون إلى القتال مرتدين.
وبقي على الصليبيين أن يقطعوا نحو مئتي فرسخ ليصلوا إلى سورية، وكان همهم مصروفا إلى الاغتناء ، ولم يحسنوا سياسة الأهلين، وخربوا البلاد، وكشر الجوع لهم عن أنيابه، واضطرب حبل نظامهم، وتفرقوا، وتقاتل من قادتهم القائدان المهمان: تانكريد وبودوين، ثم انفصل بودوين عن رفقائه هو وفيلقه كي يسلب ويحارب لحساب نفسه.
وفتكت الأمراض والمجاعة بالصليبيين فتكا ذريعا، وقنط بطرس الناسك من النصر وفر من المعسكر، وأعيد إليه، فاستقبله تانكريد بضرب العصي.
ودبت الفوضى في مفاصل الجيش الصليبي، وشاع التجسس فيه، وأمر بوهيموند بتقطيع الجواسيس وطهيهم وإطعامهم للجنود الجائعين، فتدابير كهذه تخبرنا عن حال جيش اضطر إلى اتخاذها.
ويدل سلوك الصليبيين في جميع المعارك على أنهم من أشد الوحوش حماقة، فقد كانوا لا يفرقون بين الحلفاء والأعداء، والأهلين العزل والمحاربين، والنساء والشيوخ والأطفال، وقد كانوا يقتلون وينهبون على غير هدى.
ونرى في كل صفحة من الكتب التي ألفها مؤرخو النصارى في ذلك الزمن براهين على توحش الصليبيين، ويكفي لبيان ذلك أن ننقل الخبر الآتي الذي رواه الشاهد الراهب روبرت عن سلوك الصليبيين في مدينة مارات للدلالة على سياسة الصليبيين الحربية، وذلك بالإضافة إلى ما حدث حين الاستيلاء على القدس، قال المؤرخ الراهب التقي روبرت:
وكان قومنا يجوبون الشوارع والميادين وسطوح البيوت؛ ليرووا غليلهم من التقتيل، وذلك كاللبؤات التي خطفت صغارها، وكانوا يذبحون الأولاد والشبان والشيوخ ويقطعونهم إربا إربا، وكانوا لا يستبقون إنسانا، وكانوا يشنقون أناسا كثيرين بحبل واحد بغية السرعة، فيا للعجب ويا للغرابة أن تذبح تلك الجماعة الكبيرة المسلحة بأمضى سلاح من غير أن تقاوم! وكان قومنا يقبضون على كل شيء يجدونه؛ فيبقرون بطون الموتى ليخرجوا منها قطعا ذهبية، فيا للشره وحب الذهب! وكانت الدماء تسيل كالأنهار في طرق المدينة المغطاة بالجثث، فيا لتلك الشعوب العمي المعدة للقتل! ولم يكن بين تلك الجماعة الكبرى واحد ليرضى بالنصرانية دينا، ثم أحضر بوهيموند جميع الذين اعتقلهم في برج القصر، وأمر بضرب رقاب عجائزهم وشيوخهم وضعافهم ، وبسوق فتيانهم وكهولهم إلى أنطاقية لكي يباعوا فيها، وحدث قتل الترك ذلك في يوم الأحد الموافق 12 من ديسمبر، وإذ لم يمكن إنجاز كل شيء في ذلك اليوم قتل قومنا ما بقي من أولئك في اليوم التالي.
وليس من العسير أن ندرك رأي الشرقيين المتمدنين في أولئك، فتواريخهم مملوءة بما كانوا يوحون به إليهم من الاحتقار العظيم، قال الشاعر الفارسي الكبير سعدي بعد زمن: «لا يستحق أولئك أن يسمو بشرا.»
وكان عدد الصليبيين مليون شخص حينما خرجوا من أوربة، فأخذت المجاعة والأوبئة والدعارة والوقائع والمنازعات تبيد هذا الجيش العظيم الذي كان يمكنه فتح العالم لو ألف من أناس آخرين، ولم يبق منه عند بلوغه القدس سوى عشرين ألفا.
وكانت القدس تابعة، في ذلك الحين، لسلطان مصر الذي استردها من الترك فاستولى عليها الصليبيون في 15 من يوليه سنة 1099م، وقد جاء في الأقاصيص أن القديس جورج تراءى للصليبيين من جبل الزيتون، وأنه حرضهم على القتال فانقضوا على أسوار القدس واقتحموها.
وكان سلوك الصليبيين حين دخلوا القدس غير سلوك الخليفة الكريم عمر بن الخطاب نحو النصارى حين دخلها منذ بضعة قرون، قال كاهن مدينة لوپوي، ريموند داجيل:
حدث ما هو عجيب بين العرب (!) عندما استولى قومنا على أسوار القدس وبروجها، فقد قطعت رءوس بعضهم، فكان هذا أقل ما يمكن أن يصيبهم (!) وبقرت بطون بعضهم، فكانوا يضطرون إلى القذف بأنفسهم من أعلى الأسوار، وحرق بعضهم في النار فكان ذلك بعد عذاب طويل، وكان لا يرى في شوارع القدس وميادينها سوى أكداس من رءوس العرب وأيديهم وأرجلهم، فلا يمر المرء إلا على جثث قتلاهم، ولكن كل هذا لم يكن سوى بعض ما نالوا ...
شكل 8-3: منظر القدس (من صورة فوتوغرافية التقطها المؤلف).
وروى ذلك الكاهن الحليم خبر ذبح عشرة آلاف مسلم في مسجد عمر، فعرض الوصف اللطيف الآتي:
لقد أفرط قومنا في سفك الدماء في هيكل سليمان، وكانت جثث القتلى تعوم في الساحة هنا وهنالك، وكانت الأيدي والأذرع المبتورة تسبح كأنها تريد أن تتصل بجثث غريبة عنها ، فإذا ما اتصلت ذراع بجسم لم يعرف أصلها، وكان الجنود الذين أحدثوا تلك الملحمة لا يطيقون رائحة البخار المنبعثة من ذلك إلا بمشقة .
ولم يكتف الفرسان الصليبيون الأتقياء بذلك، فعقدوا مؤتمرا أجمعوا فيه على إبادة جميع سكان القدس، من المسلمين واليهود وخوارج النصارى، الذين كان عددهم نحو ستين ألفا فأفنوهم على بكرة أبيهم في ثمانية أيام، ولم يستثنوا منهم امرأة ولا ولدا ولا شيخا.
وأراد الصليبيون أن يستريحوا من عناء تذبيح أهل القدس قاطبة، فانهمكوا في كل ما يستقذره الإنسان من ضروب السكر والعربدة، واغتاظ مؤرخو النصارى أنفسهم من سلوك حماة النصرانية مع اتصاف هؤلاء المؤرخين بروح الإغضاء والتساهل، فنعتهم برنارد الخازن بالمجانين، وشبههم بودان الذي كان رئيس أساقفة دول، بالفروس التي تتمرغ في الأقذار.
شكل 8-4: الحرم الشريف في القدس، وفيه ترى ساحة جامع عمر في الوقت الحاضر وساحة هيكل سليمان فيما مضى (من صورة فوتوغرافية التقطها المؤلف).
وهاج العالم الإسلامي من استيلاء الصليبيين على القدس كما هاج العالم النصراني، ولاح، لوقت قصير، تضعضع نفوذ أتباع النبي الذي تأصل منذ خمسة قرون، وتناسى المسلمون جميع عوامل الانقسام الذي كان يفت في عضدهم مع ما أحدثه ذلك الاستيلاء من الذعر الكبير فيهم، وأغضى سلطان القاهرة عن منافسته لخليفة بغداد فتبادلا السفراء للبحث في عمل ما يجب لتلافي تلك المصيبة.
أجل، لقد خسر النصارى مليون رجل، وخرب بعض أوربة في سبيل فتح القدس، وكان النصارى يرجون أن يحتفظوا بثمرة هذا الفتح العزيز، غير أن أملهم خاب، فلم يلبث المسلمون أن استردوا القدس، وعادت القدس إلى حظيرة الإسلام إلى الأبد.
واختير غودفروا ملكا على القدس لشجاعته التي أقام الدليل عليها، ولكن الشجاعة لا تكفي لتنظيم دولة، فقد كان غودفروا عاجزا عن إدارة شؤون دولته الفتية مع شدة بأسه، ثم مات غودفروا بعد زمن قليل، ولم يكن خليفته بودوان أقدر منه على تدبير أمور الحكم.
وكان قد مضى على وجود الفرنج في فلسطين عشرون سنة حينما توفي بودوان في سنة 1119م، ولم ينشأ عن حكم الفرنج لها سوى خرابها وإقفارها، وكان من نتائج هذا الحكم أن عرفت البلاد نظام الإقطاع كما في أوربة، وأن قسمت إلى الإمارات الإقطاعية المتقاتلة على الدوام: طرابلس وعسقلان ويافا ... إلخ، ولم يلبث طغاتها الصغراء الذين لم يكونوا ليفكروا في غير الاغتناء أن خربوها بعد أن كانت زاهرة أيام الحكم العربي الرشيد، وإليك ما قاله أسقف عكا الصليبي جاك دوڨيتري عن أنباء الصليبيين الأولين، وذلك في تاريخه عن القدس:
خرج من الصليبيين الأولين الأتقياء المتدينين جيل من الفجرة الأشرار الفاسدين المنحلين الفاسقين كما يخرج الثفل من السلاف
2
والدردي
3
من الزيت والشيلم
4
من البر والصدأ من القلز
5 ... وكان هؤلاء الأبناء يختصمون ويقتتلون لأتفه الأسباب، حتى إن بعضهم كان يستعين على بعض بأعداء النصارى في الغالب ... وكان لا يرى منهم في أرض الميعاد غير الزنادقة والملحدين واللصوص والزناة والقتلة والخائنين والمهرجين والرهبان الدعار والراهبات العواهر.
ولم يكن غليوم الصوري أقل صراحة من ذلك، فقد قال، بعد أن وصم أبناء الصليبيين بأنهم «من السفهاء الفاسدين والملاحدة الفاسقين»: «تلك هي رذائلهم الوحشية التي لو أراد كاتب أن يصفها؛ لخرج من طور المؤرخ ليدخل في طور القادح الهاجي.»
وبينا كان النصارى يخربون القدس كان المسلمون يستردون بالتدريج، ما خسروه، وقد أورث تقدمهم في سورية واستيلاؤهم على الرها (أورفة) هلعا في قلوب النصارى بفلسطين، فاستغاث النصارى بأوربة.
ونظمت حملة صليبية ثانية لإمداد أولئك، ونجح سان برنارد في إيقاد نار التعصب الديني، فقد توجه ملك فرنسة لويس السابع على رأس الحملة الصليبية الجديدة إلى فلسطين، وتبعه الملك الألماني كونارد الثالث، غير أن جيش لويس السابع الذي كان عدده مائة ألف مقاتل لم يكد يصل إلى آسية الصغرى حتى أبيد على بكرة أبيه، ففر لويس السابع بطريق البحر ليذهب إلى أنطاكية، ويتوجه منها إلى القدس كحاج عادي، وما كان جيش كونارد الثالث أوفر حظا من جيش لويس السابع.
ولم يبد سلوك الصليبيين في هذه الحملة الثانية أحسن من سلوك رجال الحملة الصليبية الأولى، قال الكاهن أنكتيل في تاريخه: «قلما كان يوجد صليبي يسير بوحي ديني، فلم يترك أولئك الصليبيون جرائم وحشية وضربا من قطع الطرق وفضائح مزرية إلا اقترفوها»، وعزا سان برنارد ذلك الحبوط إلى ما ارتكبه هؤلاء الصليبيون من تلك المظالم.
وتم طرد الصليبيين من القدس على يد السلطان صلاح الدين الأيوبي الشهير، وذلك أن صلاح الدين دخل سورية بعد أن أصبحت مصر وجزيرة العرب والعراق قبضته، وأنه غلب ملك القدس الأسيف غي دولوزينيان، وأسره، واسترد القدس في سنة 1187م.
ولم يشأ السلطان صلاح الدين أن يفعل في الصليبيين مثل ما فعله الصليبيون الأولون من ضروب التوحش فيبيد النصارى على بكرة أبيهم، فقد اكتفى بفرض جزية طفيفة عليهم مانعا سلب شيء منهم.
قضي على مملكة القدس اللاتينية بعد أن عاشت 88 سنة، ومرت سبعة قرون على تلك الحوادث من غير أن تخرج هذه المدينة المقدسة من أيدي أتباع محمد على الرغم من جميع الجهود التي قام بها العالم النصراني منذ ذلك الحين.
ولا نرى فائدة كبيرة في تاريخ الجهود غير المجدية التي قامت بها أوربة لاسترداد القدس، أي في تاريخ الحملات الصليبية الست الأخيرة، وإنما نكتفي بذكرها الخاطف.
ورئيس أساقفة مدينة صور في فنيقية، غليوم، هو الذي حرض أوربة على تجريد الحملة الصليبية الثالثة (1189-1192م)، وقد قاد هذه الحملة الثالثة ملك فرنسة: فليب أوغست، وملك إنكلترة: قلب الأسد ريكاردس، وقيصر ألمانية: فريدريك بارباروس، أي أقوى ملوك أوربة.
فأما بارباروس: فقد مات في آسية الصغرى، حينما كان يغتسل في نهر البردان (قره صو)، ولم يصل سوى بقايا جيشه إلى سورية، وأما فيليب أوغست: فقد تعب سريعا، وأبحر إلى صور بعد إقامة قصيرة بفلسطين تاركا خلفه جيشا مؤلفا من عشرة آلاف مقاتل بقيادة أمير بورغونية، ولذا ظلت القيادة العليا في يد قلب الأسد ريكاردس الذي اقترف جرائم وحشية كالتي اقترفها رجال الحملة الصليبية الأولى.
وكان أول ما بدأ به ريكاردس هو قتله، أمام معسكر المسلمين، ثلاثة آلاف أسير مسلم سلموا أنفسهم إليه بعد ما قطع لهم عهدا بحقن دمائهم، ثم أطلق لنفسه العنان في اقتراف أعمال القتل والسلب.
شكل 8-5: منبر من رخام في الحرم القدسي يعرف بمنبر عمر (من صورة فوتوغرافية التقطها المؤلف ).
وليس من الصعب أن يتمثل المرء درجة تأثير تلك الكبائر في صلاح الدين النبيل الذي رحم نصارى القدس ولم يمسهم بأذى، والذي أمد فليب أوغست وقلب الأسد ريكاردس بالأزواد والمرطبات في أثناء مرضهما، فقد أبصر الهوة العميقة بين تفكير الرجل المتمدن وعواطفه وتفكير الرجل المتوحش ونزواته، وأدرك أنه لا يجوز أن يعامل أولئك الحمقى بغير ما تعامل به الوحوش الضارية.
وأكره ريكاردس من فوره على مغادرة فلسطين قبل أن يرى القدس، ولم يكن للحملة الصليبية الثالثة التي قادها ملوك أوربة الأقوياء الثلاثة المتحالفون نتيجة غير بقاء النصارى مالكين لبضع مدن الساحل.
ثم نظمت الحملة الصليبية الرابعة (1202-1204م) بقيادة أمير الفلاندر: بودوان، وعزم الصليبيون في هذه المرة على بلوغ فلسطين بحرا، لا برا كما في الماضي، وأبحروا من ميناء زاره متوجهين إلى عاصمة الدولة النصرانية: القسطنطينية، ولما بلغوها رأى بعضهم أن سورية لا تزال بعيدة، وأن الصليبيين السابقين نهكوها غير تاركين فيها نهابا، وأن كل الصيد في جوف القسطنطينية، فانضم بقية الصليبيين إلى هذا الرأي الصائب، وأخذوا ينهبون ما فيها وإن دخلوها حلفاء.
وكانت القسطنطينية تشتمل في ذلك الحين على ما تركه الأغارقة والرومان من كنوز الفن والأدب، ولم ير صليبيو أوائل القرن الثالث عشر في هذه الكنوز شيئا نافعا يمكن تقديمه إلى قبيلة من أصحاب الجلود الحمر (الپوروج)، فصاروا يحطمون كل ما لم يكن من الذهب أو الفضة أو يلقونه إلى البحر، وصاروا يكسرون التماثيل الرخامية التي صنعها ليزيب وفيدياس وپراكزيتيل، ويتلفون، في يوم واحد، تآليف ديموستين وديودرس، وپوليب ... إلخ. المهمة.
ولم يفكر بودوان وأصحابه في الزحف إلى فلسطين بعد أن شبعوا من الغنائم فنصب بودوان قيصرا؛ وأجاز البابا إينوسان الثالث ذلك مع بيانه أن الصليبيين اقترفوا أفظع الجرائم.
ولا احتياج إلى ذكرنا أن سلطة هذا القيصر الجديد كانت مؤقتة، فلم يكن الصليبيون من غير الهمج العاجزين عن إقامة دولة دائمة وعن غير التخريب، ولم ينشأ عن إقامتهم القصيرة بالقسطنطينية غير إبادة كنوز العالم اليوناني اللاتيني القديم.
ولم تكن الحملتان الصليبيتان، الخامسة والسادسة، من الحملات المهمة، ولم تباليا بالجهاد في سبيل القدس، وإنما ذهب أكثر رجالهما إلى مصر طمعا في الغنائم فاضطروا إلى التقهقر بعد أن أوغلوا قليلا فيها.
وتوجه جيش صغير إلى القدس بقيادة فردريك الثاني الألماني الذي تعاهد هو والمسلمون، فسمح له المسلمون بدخول القدس حليفا، فعاد إلى أوربة مكتفيا بهذه المجاملة الحقيرة.
ومع ذلك فإن الحملات الصليبية أخذت تفقد صبغتها الأوربية الشاملة التي اصطبغت بها في بدء الأمر، فقد قام مقام أخلاط الزمر الأولى، التي كانت تنقض على آسية، بعض السرايا الصغيرة التي ركبت كل واحدة منها متن هواها فلم تبحث عن غير ما فيه الثراء.
وظلت القدس، وفلسطين تقريبا، قبضة المسلمين على الرغم من الحملات الصليبية الخمس التي جردت بعد الحملة الصليبية الأولى، ثم عزم ملك فرنسة، سان لويس، على العود إلى الجهاد فجرد حملة صليبية سابعة في سنة 1248م، وقد غادر إيغمورت على رأس خمسين ألف مقاتل متوجها إلى مصر، وقد احتل دمياط، وزحف إلى القاهرة التي كسر جيشه قبل أن يبلغها، ووقع أسيرا، وافتدى نفسه، وذهب إلى سورية، وأقام بها سنتين من غير أن يظفر بطائل، ثم رجع إلى فرنسة قبل أن يرى القدس.
ولم تنثن عزيمة سان لويس مع هذا الانكسار، فقد جهز حملة صليبية جديدة بعد ست عشرة سنة، وقد غادر إيغمورت في 4 من يوليه سنة 1270م على رأس جيش مؤلف من ثلاثين ألفا من المشاة وستة آلاف من الفرسان، وقد توجه إلى تونس طمعا في حمل أميرها على انتحال النصرانية، فأصابه الطاعون حينما كان محاصرا لها، فمات في 25 من أغسطس سنة 1270م.
وكانت تلك الحملة الثامنة أخرى الحملات الصليبية، فبها ختمت تلك المغازي الكبيرة إلى الأبد، وبقي المشرق خاضعا لأتباع النبي العربي.
ولم يلبث النصارى أن خسروا ما كانوا يملكون من النواحي القليلة في فلسطين، وأراد البابوات أن يوقظوا حمية النصارى الدينية على غير جدوى، فقد فترت حرارة الإيمان في النفوس، وصار هم شعوب الغرب مصروفا إلى أهداف أخرى.
ولا أحاول ، في خاتمة هذه الخلاصة القصيرة التي سردتها عن تاريخ الحروب الصليبية، تسويغ ذلك الاعتداء الذي وجهته أوربة إلى المشرق أو ذمه، فأمور مثل هذه من نوع المجادلات التي تروق شبان المؤرخين ولا تستحق أن يبالى بها، ولا أعلم أن فاتحا في القرون القديمة أو الحديثة فكر ثانية في عدل جهاده الحربي أو ظلمه ما لاءم ذلك الجهاد مصالحه، وما رأى وصوله إلى مقصده من غير خطر كبير، فإذا كتب له النجاح في جهاده كفاه نجاحه ولم يبق ما يستلزم تسويغه، ولم يعدم، عند الضرورة، فرسان بيان لتمجيد ما صنع، وإذا ما هجا بعض الكتاب مظالم القوة قائلين: إن على القوة ألا تتغلب على الحق كان ذلك من قبيل ذم الأمور الطبيعية غير المجدي، كشكوانا من السقم والهرم والموت.
حقا إن مبادئ الحقوق النظرية المدونة في الكتب لم تكن دليل أمة في أي زمن، وإن المبادئ التي احترمتها الأمم هي التي أيدتها قوة السلاح كما أثبته التاريخ، وإن البابوات لم يسيروا على غير سنن الفاتحين في الماضي والمستقبل، حينما حرضوا النصارى على الحروب الصليبية الطاحنة المنافية لأبسط قواعد الإنصاف من الناحية النظرية، فلا يفيد لومهم على ما فعلوا، ولنترك، إذن، كل بحث من هذا النوع، ولندرس النتائج القريبة والبعيدة لذلك النزاع العظيم بين عالمين.
شكل 8-6: باب يافا في القدس (من صورة فوتوغرافية التقطها المؤلف). (3) نتائج الحروب الصليبية بين الغرب والشرق
آراء المؤرخين في نتائج الحروب الصليبية متناقضة إلى الغاية، وقد أسهب أكثرهم في مدحها، وعدها بعضهم ذات نتائج سيئة.
وإذا نظرنا إلى هدف الحروب الصليبية القريب الذي هو فتح فلسطين رأيناها لم تسفر عن أية نتيجة مع ما خسرته أوربة في قرنين من المال والرجال، فقد بقي المسلمون سادة لتلك الأماكن التي أراد النصارى أن يستولوا عليها بأي ثمن كان.
ولكننا إذا نظرنا إلى النتائج البعيدة التي أسفرت عنها الحروب الصليبية تجلت لنا أهمية تلك النتائج التي كان بعضها نافعا وبعضها ضارا، وإن شال الميزان ورجحت كفة النافع منها، فقد كان اتصال الغرب بالشرق مدة قرنين من أقوى العوامل على نمو الحضارة في أوربة، وتكون الحروب الصليبية قد أدت بهذا إلى نتائج غير التي نشدتها، وليس التاريخ خاليا من الأمثلة على عدم المطابقة بين الضالة المنشودة والهدف المدرك، بل هو حافل بهما، حتى يكاد البصير يرى في ذلك قاعدة مطردة.
وإذا أراد المرء تصور تأثير الشرق في الغرب وجب عليه أن يتمثل حال الحضارة التي كانت عليها شعوبهما المتقابلة، فأما الشرق فكان يتمتع بحضارة زاهرة بفضل العرب، وأما الغرب فكان غارقا في بحر من الهمجية، وقد ظهر من بياننا الوجيز عن الحروب الصليبية أن الصليبيين كانوا في سلوكهم وحوشا ضارية، وأنهم كانوا ينهبون الأصدقاء والأعداء ويذبحونهم على السواء، وأنهم خربوا في القسطنطينية ما لا يقدر بثمن من الكنوز القديمة الموروثة عن اليونان والرومان.
ولم يكن عند أولئك البرابرة ما يفيد الشرق، ولم ينتفع الشرق منهم بشيء في الحقيقة، ولم يكن للحروب الصليبية عند أهل الشرق من النتائج سوى بذرها في قلوبهم الازدراء للغربيين على مر الأجيال، ولم ينشأ عن جهالة الصليبيين وغلظتهم وتوحشهم وسوء نيتهم غير حمل الشرقيين أسود الأفكار عن نصارى أوربة وعن النصرانية، وغير إيجاد هوة عميقة لا يمكن سدها بين أمم الشرق وأمم الغرب، وما إلى ذلك من النتائج الضارة التي أشرنا إليها آنفا.
ولم تكن العداوة العادلة التي يحملها الشرقيون تجاه أمم الغرب كل ما صدر عن الحروب الصليبية من النتائج الضارة، فقد نشأ عنها، أيضا، زيادة سلطة البابوات الذين كانوا رؤساء عالين للصليبيين، وزيادة سلطة رجال الدين الذين اغتنوا بأرضين اضطر السنيورات إلى بيعها منهم ليقوموا بنفقات الغزو، وقد نجم عن نمو سلطة أولئك واغتناء هؤلاء أن رغب البابوات في السيطرة على الشعوب والملوك وأن عم فساد الإكليروس، فأدى هذا الفساد بعد زمن إلى الإصلاح الديني وما قاسته أوربة بسببه من المنازعات الدامية.
ومن أشأم نتائج الحروب الصليبية: أن ساد عدم التسامح العالم عدة قرون، وأن صبغته بما لم تعرفه ديانة، خلا اليهودية، بصبغة القسوة والجور ، أجل، كان العالم قبل الحروب الصليبية يعرف الشيء الكثير من عدم التسامح، ولكنه ندر أن كان عدم التسامح هذا يصل إلى حد الجلف والطغيان، وقد بلغ عدم التسامح هذا مبلغا من الحميا الشديدة في الحروب الصليبية ما لا يزال العالم يقاسي أثره إلى زماننا تقريبا، فلم يلبث رجال الدين الذين تعودوا سفك الدماء أن صاروا ينشرون المعتقد ويبيدون أصحاب البدع على الطريقة التي كانوا يبيدون بها الكافرين، ويرون أنه يجب إخماد أقل انحراف بأفظع تعذيب، ومن نتائج ما نما في الحروب الصليبية من روح عدم التسامح المشؤومة: ما حدث من ذبح اليهود والألبيجوا وكل ذي بدعة، ومن إنشاء محاكم التفتيش، ومن الحروب الدينية، ومن الحروب الوحشية التي ضرجت أوربة بالدماء زمنا طويلا.
ولنبحث الآن في نتائج الحروب الصليبية النافعة بعد أن ذكرنا نتائجها الضارة الثابتة: كان من النتائج السياسية التي نشأت عن الحروب الصليبية أن تضعضع النظام الإقطاعي في فرنسة وإيطالية على الأقل، وذلك أن السنيورات لم يخسروا كثيرا من أرضيهم التي باعوها؛ لينفقوا على ما جهزوه من الحملات فقط، بل باعوا أيضا ما كانت تصبو إليه المدن من الحرية والامتيازات، فصارت هذه المدن دويلات مستقلة ضمن دول الإقطاع تابعة للملك وحده، ثم أصبح اشتراء المدن لحريتها مبدأ عاما، فقامت بلدية مستقلة في كل مدينة، فكانت نتيجة ذلك أن ضعف شأن الإمارات الإقطاعية الصغيرة لا الكبيرة التي مالت إلى التوسع، وأن أضحى ملك فرنسة حكما بين الڨسالات وسادتهم السابقين أكثر مما في الماضي، وأن زادت بذلك سلطة ملوك فرنسة، الضعيفة قبل الحروب الصليبية، على حساب سلطة ڨسالاتهم التي كادت تساوي سلطة الملك فيما مضى، والتي عادت لا تكون في غير الظواهر في بضعة قرون.
شكل 8-7: قدح عربي يعرف بقدح شارلمان، ويرجح أنه جيء به من الشرق أيام الحروب الصليبية (متحف شارتر).
ولم يتقلص النظام الإقطاعي بفعل الحروب الصليبية إلا في فرنسة وإيطالية، لا في إنكلترة وألمانية اللتين لم يشترك سنيوراتهما في الحروب الصليبية الأولى إلا قليلا، واللتين حافظوا على إقطاعاتهم فيهما، وصاروا رقباء على ملوكهما الذين تورطوا فيها كثيرا، فاستفادوا من ذلك فقيدوا سلطة هؤلاء الملوك، ونحن إذا أنعمنا النظر فيما نشأ عن سير الحوادث من النتائج البعيدة بدا لنا أن أصول دستور إنكلترة السياسي المتين ترجع إلى حوادث الحروب الصليبية.
أجل، اشترك ثلاثة من قياصرة ألمانية في الحروب الصليبية، فلما مات فردريك الثاني الذي هو آخرهم كانت السلطة القيصرية من الأوهام، واشترك ثلاثة من ملوك فرنسة في الحروب الصليبية، فأما رحلة فليب أوغست فكانت قصيرة، وأما سلطة الأشراف في غياب لويس السابع ولويس التاسع فكانت غير خطرة لما ذكرنا، فسهل على نائب الملك سوجر والملكة بلانش أن يردا جماحها.
وكان لاصطراع أوربة وآسية تأثير كبير في التجارة أيضا، فقد نشأ عن تجهيز الجيوش الكبيرة التي قذفت بها أوربة في الشرق في قرنين وتموينها ونقلها حركة عظيمة في التجارة البحرية؛ فاغتنى بذلك أهل مرسيلية وپيزة وجنوة والبندقية على الخصوص، وبلغت بحرية مرسيلية درجة عظيمة من النمو استطاعت معه؛ في سنة 1190م؛ أن تنقل إلى الأرض المقدسة جيش قلب الأسد ريكاردس.
ولم يقف نمو التجارة بعد طرد الصليبيين من آسية؛ فقد عقد أكثر جمهوريات إيطالية وأمراء المسلمين معاهدات تجارية؛ وكانت صلات البندقية التجارية الوثيقة بالمشرق سبب عظمتها، واطرد تقدم هذه التجارة مع الزمن إلى أن اكتشفت طرق بحرية جديدة، فانتقل زمامها إلى أيد أخرى.
ولم يكن تأثير الحروب الصليبية في الصناعة والفنون أقل من ذلك، فقد استوقفت نفائس الشرق الباهرة أنظار السنيورات الصليبيين مع جلفهم، فوجدوا في التجارة وسيلة تقليدها، فنرى اقتباس نفائس الشرق في أسلحة الغرب وثيابه ومساكنه في القرن الثاني عشر، والقرن الثالث عشر على الخصوص.
وكلما نمت النفائس أدت إلى تقديم الصناعة بحكم الضرورة، وتبحث الصناعة عن المنتجات التي تطلبها التجارة منها بطبيعة الحال، فتحفزها الضرورة إلى القيام بذلك من فورها.
شكل 8-8: إناء عربي مصنوع من النحاس المكفت، ويعرف بإناء معمودية سان لويس (متحف اللوڨر).
وإذ كانت صنائع الخشب والمعادن والميناء والزجاج تتطلب معارف كثيرة فقد اقتبسها الأوربيون من آسية مع جهلهم لها قبل دور الحروب الصليبية، وعم أمرها بذلك في أوربة، فعن صور أخذت البندقية نماذج صناعة الزجاج، وعن المسلمين أخذت أوربة صناعة النسائج الحريرية والصباغة المتقنة، وعن سورية أخذ عمال الحملات الصليبية التي دام أمرها قرنين وصانعو أسلحتها ومهندسوها ونجاروها ومن إليهم ما كانوا يجهلون من المعارف الصناعية، وذلك في أثناء إقامتهم الطويلة بها.
وكان تأثير فنون الشرق في الغرب عظيما أيضا، فقد نشأ عن إيلاف الصليبيين ضروب منتجات الشرق الممتد من القسطنطينية إلى مصر تهذيب أذواقهم الغليظة، ولم يلبث فن العمارة أن تحول في أوربة تحولا تاما، ولا يصعب علينا، والحالة هذه، أن نثبت في فصل آخر قوة تأثير آثار حضارة العرب في أطواره الأولى.
وأما استفادة الصليبيين من علوم العرب الخالصة فكانت ضعيفة إلى الغاية خلافا لما ذهب إليه كثير من المؤرخين؛ فالجيوش الصليبية إذ كانت جاهلة للعلماء لم تكن لتبالي بالمعارف والأصول مبالاتها بشكل البناء أو الأسلوب الصناعي.
شكل 8-9: طبق عربي قديم مصنوع من النحاس.
وإذا كنت لم أقل إن تأثير الصليبيين في تقدم أوربة العلمي صفر فلما بين العلوم والصناعات من الصلة، ولما تجر إليه إحداهما إلى بحث قليل في الأخرى غالبا.
ولا يحتج علينا بأن القرون الوسطى استنبطت معارفها العلمية والأدبية من مؤلفات الشرقيين، فالواقع أن تلك المعارف لم تدخل أوربة بفضل الحروب الصليبية قط كما نبين ذلك في فصل آخر.
ولم يكن تأثير آداب العرب في الصليبيين صفرا، بل كان كذلك، ضعيفا جدا، أي استوحاها كثير من شعراء الغرب وكتابهم، فكان سحرة مصر وعجائب الشرق وغودفروا وتانكريد وغيرهما موضوع قصص مهم للشعراء المجولين الذين كانوا ينشدونه بين قصر وقصر.
ظهر مما تقدم أن تأثير الشرق في تمدين الغرب كان عظيما جدا بفعل الحروب الصليبية، وأن ذلك التأثير كان في الفنون والصناعات والتجارة أشد منه في العلوم والآداب، وإذا ما نظرنا إلى تقدم العلاقات التجارية العظيم باطراد بين الغرب والشرق ، وإلى ما نشأ عن تحاك الصليبيين والشرقيين من النمو في الفنون والصناعة - تجلى لنا أن الشرقيين هم الذين أخرجوا الغرب من التوحش، وأعدوا النفوس إلى التقدم بفضل علوم العرب وآدابهم التي أخذت جامعات أوربة تعول عليها؛ فانبثق عصر النهضة منها ذات يوم.
هوامش
الباب الرابع
طبائع العرب ونظمهم
الفصل الأول
أهل البدو وأهل الأرياف من العرب
(1) تمثل حياة قدماء العرب
سنحاول أن نرسم بإيجاز، في هذا الفصل والفصل الذي يليه، حياة العرب بعد ظهور محمد ببضعة قرون، فبالبحث في طبائع العرب وعاداتهم نستطيع أن نقف على مصدر نظمهم السياسية والاجتماعية التي كانت سائدة لدولتهم.
ونستنبط خطوط هذا الرسم الموجز الأساسية من التأمل في حال العرب المعاصرين، واستقراء مثل هذا لا يصلح لغير عدد قليل من الأمم، ولا سيما الأمم الشرقية التي ندرس تاريخها.
وسرعة التحول من أظهر ما تتصف به حضارة أمم الغرب، فإذا ما قابلنا بين عصر شارلمان وعصر لويس الرابع عشر مثلا بدا لنا عالمان مختلفان أشد الاختلاف في الفن والصناعة والعلم والحياة الاجتماعية واللغة.
ولكن التحولات التي تحدث بين دور وآخر لا تبدو بعيدة الغور إلا لأن التاريخ لا يبالي بغير الطبقات الاجتماعية العليا، فإذا ما نظرنا إلى الطبقات الوسطى أو الدنيا التي هي ركن كل أمة رأينا تحولها ضعيفا إلى الغاية، فالعلوم والآداب والفنون والصناعات التي تتألف من مجموعها حضارة أحد الأدوار لم تكن غير ذات تأثير ضئيل في المجموع مع انقضاء القرون؛ فالفرق بين صاحب لشارل مارتل وأحد حفدته في زمن لويس الرابع عشر عظيم لا ريب، وهو ضعيف بين حداد أو تاجر أو فلاح في عصر الأول وبنيه في عصر الثاني، واليوم قلما نجد فرقا بين الفلاح البريتاني الحاضر وأجداده الذين ظهروا منذ ألف سنة.
شكل 1-1: واحة بسكرة (الجزائر، من صورة فوتوغرافية).
ومهما يكن الفرق ضعيفا فإنه موجود بفعل البيئة على كل حال، فالفلاح البريتاني، وإن لم يفق أجداده في مزاجه النفسي، نراه، وهو محافظ على لهجته الإقليمية الخاصة، وهو قابع في قريته الغامض أمرها، يعيش في بيئة تختلف عن البيئة التي كان أجداده يعيشون فيها، أي يرى وميضا من حضارة تتحول باستمرار.
وترى أوربة أن أمم الشرق لا تتحول، ونحن نرى أن أمم الشرق تتحول قليلا في الوقت الحاضر لا ريب، وأن طبقاتها العليا، على الأقل، كانت تتحول كثيرا في غابر الأزمان، فالفرق عظيم بين أمير عربي من حاشية الملك أبي عبد الله الصغير وصاحب لعمر بن الخطاب، وهو أعظم من ذلك بين عالم في جامعة بغداد أو جامعة قرطبة وأحد رعاة بلاد العرب الأقدمين.
ولم يكن التحول ضعيفا في غير طبقات المجتمع الدنيا كما يشاهد مثل ذلك في كل مكان كما ذكرنا، والفرق، إذن، قليل بين سكان الأرياف من العرب في زمن محمد وبين ذراريهم في زماننا، وهو أقل بين أهل البدو في ذينك الدورين.
ولذا نرى فروقا في تحول أمم الشرق كالتي رأيناها في أمم الغرب، ونرى ألا يخلط، عند البحث، بين تطور طبقات الشعب الواحد الاجتماعية لما بينها من تفاوت.
ومع ذلك، يجب أن يعترف بأن العرب أقل تحولا من الأوربيين بين قرن وقرن، ولم ينشأ استقرارهم العتيد عن زوال حضارتهم فقط، بل نشأ، أيضا، عن كون القرآن دستور المسلمين الديني والسياسي والمدني على الخصوص، وعن أن ثبات أي أمر من هذه الأمور الثلاثة المتماسكة كان يوجب ثبات الأمرين الآخرين بحكم الضرورة، وهكذا لم يلبث المسلمون أن رأوا أنفسهم مقيدين بسلسلة من التقاليد والعادات التي تأصلت بحكم الوراثة، فأصبحت من الرسوخ بحيث لا تؤثر فيها الزعازع، وهكذا كادت طبائع أكثر العرب وعاداتهم تكون ثابتة لا تتبدل منذ قرون، وهكذا أصبح من الممكن تمثل حياتهم الماضية بدرس حياتهم الحاضرة.
وكان تحول أهل الأرياف والبدو من العرب، على الخصوص، ضئيلا، وكان تحول أهل المدن الذين انتابهم الفاتحون أظهر من ذلك، ولكن هؤلاء الفاتحين إذ اتخذوا القرآن دستورا لهم، وكان القرآن نافذا في أدق شؤون العرب لم تتغير طبائع العرب وعاداتهم إلا قليلا، وحاضر العرب، وإن لم يكن، لذلك التحول القليل، صورة تامة عن ماضيهم، يكفي لتمثله مع ذلك.
وبما أنه يوجد لحياة العرب الاجتماعية صور مختلفة باختلاف حياتهم البدوية أو الريفية أو الحضرية دائما، فقد رأينا أن ندرس كل واحد من هذه الوجوه على حدة. (2) حياة أهل البدو من العرب
لقد وصفنا سجايا أهل البدو من العرب بما فيه الكفاية، ولا نرى أن نعود على ذلك مرة أخرى، وإنما نتم الآن ما قلناه في فصل آخر بأن نصف معايشهم من الناحية المادية: إن بيان عادات أولئك الأعراب وطبائعهم أسهل من بيان عادات سكان الأرياف والأمصار وطبائعهم، وذلك أن حياة الأعراب بسيطة إلى الغاية، وأنها طليقة من تلك الزيادات المعقدة التي أوجبها الاستقرار والتوطن، وفي الوصف الآتي الذي أقتطفه من كتاب لكوست تصوير كاف لعادات الأعراب، أجل؛ إن كوست صور بهذا الوصف قبائل صحاري وادي النيل العربية منذ خمسين سنة، ولكن ما تسفر عنه حياة الصحراء من تبدل قليل في المعايش يجعل ذلك الوصف صالحا لتمثل الأعراب المعاصرين لسليمان، أو المعاصرين لمحمد، أو الذين سيولدون بتعاقب الأجيال إلى أن تبدل الأرض غير الأرض، وتكون آسية وإفريقية خاليتين من الصحاري، قال كوست: يمتطي الأعرابي صهوة فرسه وقت الفجر، ولا يرجع إلى خيمته إلا وقت الغروب، ويغتذي الأعرابي في النهار بالتمر وقليل من الذرة أو البر، ويرعي فرسه بالكلأ الذي يجده في طريقه، فإذا دخل خيمته عشاء ناولته زوجه كوب لبن وقليل تمر وعسلا.
شكل 1-2: مخيم أعراب في الجزائر (من صورة فوتوغرافية).
ولا يتردد الأعرابي إلى المدن إلا ليبيع ما تنتجه مواشيه وإبله وخيله، ولا ينام الأعرابي في المدن، وإذا ما نزل الأعرابي بأرض زرع في بضعة أفدنة منها ما يحتاج إليه من البر والشعير والذرة، ويبدو الأعرابي، على خلاف الفلاح الذليل، فخورا بحريته ذا خطو ثابت وعينين لامعتين ثاقبتين، ولا يصاب الأعرابي بما يصاب به الفلاحون من الأمراض لقناعته وحياته المنظمة، ودم الأعرابي صاف صفاء نسيم الصحراء الذي يتنسمه.
ومن أهم ما تعتني به الأعرابيات حلب الشياه والبقر، وصنع الدقيق بمطحنتين يدويتين صغيرتين، وصنع الخبز والطعام، وتربية الأطفال، وحوك الثياب الصفيقة والبسط والخيام.
شكل 1-3: سوق في مراكش (من صورة فوتوغرافية).
وإذا ما عزمت القبيلة على الرحيل ركبت نساؤها الهوادج اثنتين اثنتين، والهوادج نوع من السلال التي توضع على ظهور الجمال، وتصنع من أغصان الدفلى،
1
ويبطن أسفلها بجلد الضأن، ويستر أعلاها بنسيج للوقاية من تقلب الريح ووهج الشمس، ويأخذ الأعربيات، بعد أن يجثمن في الهوادج، في طحن البر بمطاحنهن اليدوية الصغيرة، ويهيئن العجين، ثم يخبزن الخبز في أول موقف على الملة
2
أو على موقد صغير أو على الرضف
3
ويستعملن بعر الجمال وقودا.
وتكون خيمة الرئيس في الوسط، وتليها خيام أبنائه المتزوجين، فخيام الأقرباء، فخيام الخدم، وتكون الأفراس أمام الخيام؛ لتكون حاضرة عند أول إشارة، ثم تليها حظيرة البقر والإبل والضأن والمعز.
وتصف الجمال، في الغالب، حول خيمة الحرس على شكل دائرة، وتنصب خيام الأرصاد الصغيرة بعيدة من المخيم قليلا للرقابة ليلا.
وتكون تلك الخيام قليلة الارتفاع، ولا يستطيع المرء أن ينتصب في غير وسطها، وتظهر مربعة الشكل، ولا تكون مدورة مطلقا، ويمكن إغلاقها من كل جانب، وإن كان شمالها يترك مفتوحا لدخول النسيم، وتصنع تلك الخيام من المرعز والوبر، وينحدر عنها ماء المطر من غير أن ينفذ منها، ولا تؤثر فيها العواصف والرياح والشمس.
وأضيف إلى ما تقدم ما تشتمل عليه تلك الخيام من متاع بسيط ملائم للحياة البدوية، فكل خيمة تحتوي على أسلحة ورمح طوله ثلاثة أمتار أو أربعة أمتار ولوح حديدي للخبز وقدر للطبخ وإبريق للقهوة ومهراس لها ودلو وبضعة ثياب وما إلى ذلك، ولذلك ليس من العسير أن نعلم أن أناسا ذوي احتياجات ضئيلة، كأهل البدو، لم يعرفوا سادة لهم قط. (3) حياة أهل الأرياف من العرب (3-1) الحياة الاجتماعية
يسكن جزيرة العرب وما جاورها من البقاع، في كل زمن أناس يعتمدون في معايشهم على الزراعة، ويسكنون الأرياف البعيدة من المدن، ويخضعون، دائما، لأحكام بيئة واحدة مشتملة على طبقة ضيقة من التقاليد والعادات، ولا يعانون شيئا من التحول المهم غير ما يتحول به دينهم ، وأولئك هم الذين يجب البحث في أحوالهم للوقوف على بعض ما جاء في القرآن من النظم.
وإنني أتخذ، من مختلف السكان، عرب حوران مثالا للبحث، وتقرب من بادية الشام بلاد عرب حوران الذين هم من أنصاف المستقلين، والذين أجاد مسيو لوپليه درس شؤونهم في كتابه الممتع عن عمال الشرق، فنرى من المفيد أن نبحث في أحوالهم لنتمثل كيف يعيش السكان الذين تختلف طبائعهم عن طبائع جيرانهم من أهل الحضر وأهل البدو، ولنعلم ما نشأ عن هذا الجوار من النظم.
يعد أهل حوران الذين أدرس حياتهم الاجتماعية من العرق العربي وإن لم يقيموا بجزيرة العرب، فقد كان يسكن حوران بعد ظهور المسيح بزمن قصير قبائل عربية (من القحطانيين على رأي فتزشتاين) كانت قد هاجرت من جنوب جزيرة العرب وأقامت دولة السليحيين ثم دولة الغساسنة التي كانت تحت رعاية الرومان، ونصب، فليب، الذي هو من عرب حوران، قيصرا رومانيا في سنة 244م، وليس بمجهول أن عاشت دولة الغساسنة خمسمائة سنة، ولم تنقرض إلا باستيلاء خلفاء محمد علي أملاكها، ويعود إلى الغساسنة فضل إقامة الآثار العظيمة التي لا تزال ماثلة في بلاد حوران، ولا سيما في عاصمتها القديمة بصرى، ولا تزال ترى هنالك كتابات بالخط الحميري الذي سمي باسم لغة بعض القبائل القديمة في جزيرة العرب.
ويتألف عرب حوران المجاورون لبصرى من أعراب وحضريين، فأما الأعراب: فلا يظهرون في حوران إلا صيفا، ويرحلون في الشتاء إلى العراق أو إلى وادي الأردن، أما الحضريون: فهم جمع من الزمر التي تجمع بينها صلة القرابة، فتخضع لرئيس أسرة خضوعا تشابه به نظام القبيلة الفطري كما يرى.
وجميع تلك الزمر من الزمر الزراعية، وهي إذ كانت قليلة الأهلين بالنسبة إلى اتساع الأرضين الصالحة للفلاحة لا تحرث كل واحدة منها سوى قسم.
وأرضو كل قرية مشاعة بين أفرادها، ويستطيع كل واحد من هؤلاء أن يزرع منها بنسبة ما عنده من البقر، وتباع الحبوب، التي تزيد على احتياجات بقر كل زمرة وجمالها من الأعراب أو من تجار دمشق، أو أن القوافل تنقلها إلى سواحل سورية لترسل إلى أوربة.
وتكون المنتجات مال الزمرة خلا الدخل القليل الذي يناله بعض الأفراد من بعض المصادر وينفقونه كما يشاءون.
وتعد الصناعة، هنالك، في حكم المعدوم تقريبا، وذلك أن الأهلين يصنعون قليلا من النسائج، ويبتاعون ما يحتاجون إليه منها من تجار دمشق الذين يشترون حبوبهم.
وتتألف كل زمرة من أسر كثيرة، قال مسيو دپلبه:
لا يدل اسم الزمرة التي تضم أناسا كثيرين يعيشون تحت سقف واحد على كل واحد من أفرادها دلالة واضحة، وإنما يضاف اسم ذلك الفرد إلى اسم أبيه فيقال: فلان بن فلان، وإذا ما كان للوالدين ولد أضيف اسم كل منهما إلى اسمه فيقال: فلان أبو فلان أو فلانة أم فلان، وفي الغالب يحذف اسم كل من الوالدين فيقال أبو فلان أو أم فلان، وإذا لم يكن للزوجين ولد لم يكنيا لما في التكنية الوهمية من السبة، ويتسمى الناس باسم أسر حينما تكون أسماء هذه الأسر من أسماء ذوي المجد والجاه من الأجداد الذين تصلح أسماؤهم أن تكون مدار فخر للحفدة، وقد جرت العادة، مع هذا، على إطلاق اسم جد الأسرة المجيد على ربها العتيد وحده، وإن كان ذلك من حقوق جميع أفراد تلك الأسرة.
ويبلغ عدد أفراد كل أسرة في الزمرة، ومنهم الخدم، نحو ثلاثين شخصا تابعين لرئيسها الذي هو أكبر أفرادها سنا، وتقوم النساء بتدبير منزل الأسرة حصرا، ويعاملن برفق ولطف وإن كن يرقبن رقابة وثيقة، وإذا حدث أن اقترفت إحدى الفتيات خطيئة، وهذا ما يندر وقوعه، قتلها أقرباؤها.
ويرجع إلى القرآن والعادة في أحوال حضريي العرب الشرعية، ويفصل شيخ في خصوماتهم، وقد يرضى أهل القتيل بالدية، ويفضلون القصاص عليها في الغالب، ويؤدي كل قتل إلى تعاقب حوادث القتل بتعاقب الأجيال.
شكل 1-4: مخيم أعراب بالقرب من طنجة (من صورة فوتوغرافية).
ولا تقع حوادث القتل إلا نادرا لما ينشأ عنها من النتائج الخطرة، ويحترم الأعراب أنفسهم حياة الإنسان حين النهب خوفا من الثأر، وما يؤدي إليه الثأر من تأصل العداوة وتأرثها .
ويكون الثأر نافعا عند من هم على الفطرة، وإن ظهر أول وهلة عملا همجيا، فهو يمنع حوادث القتل التي تقع، لا محالة، عندما يكون القانون رحيما، وهم يرونه أحسن القوانين؛ لأنه الدواء الوحيد.
ولا نظام يكره الأفراد على العيش ضمن الزمر، وإنما الضرورة تلجئهم إلى ذلك، ففي المجتمعات التي لا يركن الإنسان فيها إلى حماية الحكومة يكون، وهو منفرد، من الضعف ما يعد معه محكوما عليه بالزوال، وبهذا أيضا نفسر التفاف كل زمرة عربية في كل مكان حول رئيس حفظا لحياة أفرادها، والحق أن هذه الزمر الصغيرة ليست غير شركات لا بد منها لحفظ حياة الأعضاء الذين تتألف منهم، ويقوم نظام القبائل البدوية على مثل هذه الضرورة، ويتصف نظام القبائل هذا بعدم التحول اتصافها به.
وليس ببعيد أن كان عجز الفرد في كل مجتمع ضعيف النظام سببا لظهور تلك الزمر، فإذا ما قامت حكومة مركزية مقام الزمر في حماية الأفراد زالت تلك الزمر عن الوجود أو كادت.
ونذكر، بجانب أفراد الأسر التي تتألف منها الزمر وتقاسمها المنافع، فريق الخدم الذين إما أن يكونوا قد أتوا من الخارج طلبا للرزق، وإما أن يكونوا من زمر أخرى لم يألفوا العيش فيها، وإما أن يكونوا من زمر منحلة لنكبة حلت بها أو لعلة أخرى.
وأمور الزراعة هي أكثر ما يمارسه هؤلاء الخدم الذين يصبحون بذلك من المزارعين، والذين يتقاضون ربع الغلة غالبا في مقابل أعمالهم، ثم يعد هؤلاء الخدم من الأسرة ويأكلون من طعامها، وليس من القليل أن يتزوج خادم إحدى بناتها، ومما يحدث على العموم أن يشرط على الخادم ألا يأخذ أجرة سوى طعامه وثيابه لسنين كثيرة، وعقد مثل هذا يذكرنا بما صنعه يعقوب مع لابان ليتزوج راحيل، وعقد مثل هذا يثبت لنا ضعف التحول في طبائع العرب وعاداتهم منذ العصر الإسرائيلي، وقد يحدث أحيانا، كما كان يحدث في ذلك العصر، أن يطالب الحمو بإطالة مدة الخدمة وإن لم يشرط ذلك في العقد.
وسواء على الخادم أتزوج إحدى بنات سيده أم اقتصد مبلغا من المال؛ ليتزوج، وليشتري بعض الأنعام، وليؤلف أسرة، وليزرع لحسابه الخاص، لا تكون الخدمة عند أولئك الناس الذين هم على الفطرة سوى مرحلة لبلوغ ما هو أعلى منها.
وجميع من ذكرنا من الأهلين هم من القائلين بمبدأ تعدد الزوجات، شأن جميع الشرقيين، والضرورات هي التي تبيح لهم تعدد الزوجات كما نبين ذلك في فصل آخر، والزوجات هن اللائي يحرضن أزواجهن قبل أي إنسان على تزوج نسوة أخرى.
ويوجد لحضريي حوران، ككل بلد مجاور للصحراء وكمعظم جزيرة العرب، صلات بالأعراب الذين يضطرون إلى السلب؛ لعدم كفاية ما تنتجه مواشيهم وخيولهم وجمالهم.
ومصالح الأعراب والحضريين متناقضة تناقض مصالح الصائد والطائر، فالصائد يرغب في أكل الطائر، والطائر يسعى لكيلا يأكله الصائد، ولكن الضرورة التي هي أقوى مهيمن على الإنسان لم تلبث أن وفقت بين مصالح فريقي العرب المتناقضة، وذلك أن الحضريين يدفعون إلى الأعراب في كل سنة من المال ما يقابل حمايتهم لهم، وأن الأعراب يذبون عن الحضريين طمعا فيما يأخذون منهم، وهذا يعني أن الحضريين يتركون بعض غلاتهم لينقذوا بقيتها، وهذا لا يختلف، في غير الشكل، عما يدفعه الرجل المتمدن إلى إحدى شركات التأمين من المبالغ لتضمن له ماله، ولا عما يدفعه إلى الحكومة من الضرائب؛ لتؤدي منها رواتب الشرط والقضاة وسائر الموظفين الذين يكفون الأذى عنه.
والحق أن أولئك العرب، الذين لم تكن لهم حكومة لتدفع رواتب إلى الشرط والجند ولتمنع بذلك سلبهم، يضطرون إلى مداراة قطاع الطرق، والنتيجة واحدة، وليست النفقات أشد وطأ.
وتصبح القبائل البدوية حليفة للقرى المجاورة في مقابل ما تدفع إليها هذه القرى من الأتاوى، وتقوم بالدفاع عنها إزاء الأعراب الآخرين الذين يمكنهم أن يهاجموها، ولا يحدث مثل هذا الهجوم إلا نادرا لقلة ما يظفرون به من الغنائم من غزوهم لقرية تحافظ عليها قبيلة أخرى.
وتشابه مساكن حضريي حوران مساكن سورية، فيتألف كل بيت فيها من جناح للغرباء، ومن جناح للأسرة، ومن مرافق وساحات وأصابل وما إليها، وتحيط الحواجز بغماء
4
البيت، ويصنع هيكله من الخشب وجدره من الصلصال،
5
ويتألف أثاثه من الفرش التي ينام عليها. (3-2) المساكن
شكل 1-5: جمالة في مصر (من صورة فوتوغرافية).
لندع الآن جانبا حياة العرب الاجتماعية، وهم الذين اتخذتهم مثالا، ولنتكلم قليلا عن حياة العرب المنزلية في مختلف الأرياف فنتحدث عن منازلهم وطعامهم وأزيائهم: إن بيوت طبقات العرب الوسطى والدنيا على جانب كبير من البساطة، وهي تختلف عن بيوت أغنياء العرب الزاهية التي سنصفها في الفصل الآتي.
شكل 1-6: عرب معتقلون بالقرب من تونس (من صورة فوتوغرافية).
وطراز تلك البيوت العام واحد في الشرق كله، وهي تفقد كثيرا من مظاهرها الشرقية الأصلية في البلاد التي صار للأوربيين نفوذ فيها، وليذهب إلى بعض القرى في سورية والجزائر ومراكش من يرغب في رؤية تلك البيوت المربعة البيض ذات السطوح والشكل المكعب والفرج الضيقة، والتي تكتسب منظرا عريقا في شرقيته عندما يحيط النخل بها.
وتختلف أنواع المواد التي تبنى بها تلك المنازل، كالحجارة والملط وغيرها، باختلاف البلدان والبيئات، فإذا نظرت إلى منازل العرب القائمة على ضفاف النيل، مثلا، رأيتها مبنية من الآجر المصنوع من طين ذلك النهر الممزوج بالتبن والمجفف بفعل الشمس، وأنه يندر أن يزيد ارتفاع بعضها على ثلاثة أمتار، وأنها لا تدخل إلا من باب ضيق جدا، وأنه لا يوجد في منازل فقراء الفلاحين من المنافذ سوى أبوابها، وأن منازل ذوي اليسار منهم تتألف من أقسام كثيرة مستقلة: من بيوت للسكن، وحظائر للأنعام، وأبراج للحمام ... إلخ، وأنه يحيط بتلك المنازل جدر طينية مكلسة، وأن أثاثها يتألف من فرش فقط، وأنه قلما يوجد فيها متكأ، وأن الثياب تعلق على حيطانها، وأن الفرش واللحف تطوى في كل صباح وتوضع على الرفاف، وأنه يحيط بأغمية البيوت حياط على العموم.
وهنا أنبه القارئ إلى أن المنازل العربية وأبراج الحمام في مصر تمت إلى المباني الفرعونية القديمة بصلة القرابة، وقد كانت تتمثل لي من بعيد أبراج الحمام المصرية، الكبيرة أحيانا كبعض البيوت الأوربية، وما يحيط بها من المرافق أطلالا لبعض المعابد المصرية، فأبراج الحمام المصرية مقتبسة من صروح قدماء المصريين ، والمنازل المصرية تميل إلى الشكل الهرمي الذي يظهر أنه دستور فن العمارة الفرعونية، وبهذا وحده يبدو تأثير الطراز المصري القديم في طراز البناء الإسلامي، ويزول العجب عندما نعلم أن سكان وادي النيل حفدة لقدماء المصريين أكثر من أن يكونوا عربا. (3-3) الطعام
يقتصر فقراء العرب في طعامهم على الطلم
6
وبعض الخضر والفواكه كالموز والتين والرطب، ويحتوي طعام الموسرين منهم على اللحم في الغالب، وتعد الفراريج المقطعة المحاطة في الصحن بالأرز أكلة المصرين الوطنية، ويعتمد أهل الجزائر في طعامهم على الكسكسو المصنوع من العجين المحبب المخلوط بأنواع اللحوم ولا سيما لحم الضأن.
ومهما يكن العربي فقيرا، ومهما يكن العربي بدويا، يبالغ في اقتراء الضيف، وينفق في هذا السبيل من سعة، ويؤتى بصحون الطعام على طبق كبير من النحاس، ويجلس من حوله القرفصاء، ويتناول الطعام بالأيدي، لا بالملاعق والشوكات التي ليست موجودة، ويكون اللحم مقطعا سلفا، وتؤخذ من مختلف الصحون قطع من اللحم وتدحرج في الكف حتى تصبح كبة، ومن أدب المائدة عند العرب: أن تقدم هذه الكبة إلى الضيف ليزدردها، ومن سوء الأدب رفضها، فإذا ما كانت تلك الكبة من صنع أعرابي لم يقم بما أمر به القرآن من الوضوء كانت من نوع حبوب المرضى العسيرة الهضم، وإذا ما فرغ الضيوف من طعامهم أحضرت إليهم الطسوت ليغسلوا أيديهم.
ولا تزال الطباخة العربية في المراحل الأولى، وقد أتيح لي، مع ذلك، أن أرى على الموائد العربية من أنواع الطعام ما تجهله الموائد الأوربية، ولا سيما الحلويات الفاخرة والقشديات المتقنة، وقد حذق العرب عمل الحلاوى والمرببات كثيرا.
والماء هو ما يشربه المسلمون عادة، ولكنهم في الشرق يشربون العرق المصنوع من البلح والممزوج بالمصطكاء، وذلك مع قليل من الجهر.
وليس بمجهول أن موائد النساء العربيات مستقلة عن موائد الرجال، وأن أزواج رب العائلة وبناته يبالغن في خدمته ولا يأكلن إلا بعد أن يتم طعامه. (3-4) الأزياء
يعجب المرء، حين يتصفح إحدى المجلات التي صدرت منذ قرن والمشتملة على صور للأزياء التي شاعت في أوربة وحدها في غضونه من تحول آراء الأوربيين وأذواقهم في الأزياء ومحافظة العرب على أزيائهم التي ألفوها منذ اثني عشر قرنا مما يدل على ثبات تقاليدهم، أجل، لم تكن أزياء المسلمين واحدة في جميع أنحاء إفريقية ومصر وسورية وجزيرة العرب، ولكنه يسهل تبين ما بينها من الشبه العظيم، وهي ترد إلى جلباب وعباءة دائما، والعباءة زرقاء أو سوداء في مصر، وبيضاء في الجزائر، ومخططة بخطوط بيض وسود في سورية ... إلخ.
وقد يكون غطاء الرأس أكثر ما يتحول من الأزياء العربية، ومع ذلك فإن غطاء الرأس قد تحول ضمن دائرة ضيقة، ففي مصر يلبسون الطربوش والعمامة، وفي سورية يلبسون الكوفية، وهي منديل زاهي الألوان يلف به الرأس، وهو مصنوع من وبر الإبل، وفي الجزائر يستر الرأس بغطاء أبيض يستقر عليه بشطن
7
مماثل للعقال.
وليس لأزياء النساء أنواع في غير الطبقات الموسرة، ويتألف لباس المرأة الفقيرة من حلة طويلة مشدودة من الوسط بنطاق، ومن غطاء لا يترك من الوجه شيئا ظاهرا سوى العينين، ويتألف ثوب المرأة المصرية من جلباب أزرق مصنوع من القطن، ولا تعرف المرأة المصرية، ولا الشرقية، المشد وما إلى المشد من وسائل التجميل المصنوعة، ومع ذلك فإن الفلاحة المصرية ذات بخترة تائهة تدهش رجال الفن، وتذكرنا ببخترة إلاهات قدماء الأغارقة، والإنسان، وقتما يرى الفلاحة المصرية الناهدة الضامرة الكتف الحاملة إناء على رأسها تمشي باتزان، يقطع حقا بأن أمهر الخياطين في أوربة لم يوفقوا لمنح المرأة الأوربية مثل هذه المشية على الرغم مما يلجأون إليه من وسائل التجميل المصنوعة الغالية.
وأقول زيادة على ما تقدم، وذلك لكيلا أعود إلى دراسة الأزياء عندما أبحث في شؤون عرب المدن، إن ملابس أغنياء العرب معقدة، ولكنها أنيقة، وهي مؤلفة من قمص من الحرير أو الشفوف، ومن صدرات مطرزة بالذهب، ومن سراويل واسعة ... إلخ، وإن النساء يلبسن، وقتما يخرجن من بيوتهن، مآزر ويسترن وجوههن ببراقع.
شكل 1-7: أعربيتان من جوار بعلبك (سورية، من صورة فوتوغرافية).
وليس من المفيد أن نسهب في بيان الزي عند العرب بأكثر مما تقدم ، وما نشرنا في هذا السفر من الصور الكثيرة أفضل من كل إيضاح، فأرجو أن يتبين القارئ عالم الشرق، الذي يختلف عن عالمنا، من خلال صور الأزياء والأمثلة والمباني وما إليها أكثر مما يوصف ذلك العالم الذي لا يتجلى من غير أن يلقى في الروع باهر الصور وزاهي الألوان.
هوامش
الفصل الثاني
عرب المدن: طبائعهم وعاداتهم
(1) المجتمع العربي
إن مما يستوقف النظر ما نراه من التضاد بين ثبات نظم الشرقيين، وتسليمهم بالأمر الواقع الذي ليس له دافع، والإخاء السائد لمختلف طبقاتهم من جهة وثورات الأوربيين الدائمة وهرجهم وتنازعهم الاجتماعي من جهة أخرى.
وأظهر ما يتصف به الشرقيون: هو أدبهم الجم، وحلمهم الكبير، وتسامحهم العظيم نحو الناس والأموال، ودعتهم ووقارهم في جميع الأحوال، واعتدالهم الكثير في الاحتياج، وقد منحهم إذعانهم الهادئ لمقتضيات الحياة طمأنينة روحية قريبة من السعادة المنشودة على حين تورثنا أمانينا واحتياجاتنا المصنوعة قلقا دائما بعيدا من تلك السعادة.
ومن السهل ذم ذلك التسليم الفلسفي وبيان محاذيره، ولا ينكر، مع ذلك، أن المفكرين الذين درسوا تقلبات الأمور لم يوفقوا بعد لاكتشاف ما هو أكثر ملاءمة لحكمة الحياة، فلا يجوز، والحالة هذه، ازدراء مزاج نفسي يمنح المرء سعادة وطمأنينة وإن لم يساعد على تقدم الحضارة في كل وقت.
وليس من الصعب أن نتمثل الحال التي كان عليها المجتمع العربي أيام ازدهار حضارة أتباع النبي بطريق البحث في حالة المجتمع العربي الحاضرة وفي حوادث الماضي، فقد دل وصفنا لحاضر العرب في مختلف الأقطار التي كانوا سادة لها على أن ما يشاهد من أنسهم وتسامحهم كان يشاهد أيام حضارتهم أيضا، وقد وصفنا طبائعهم النبيلة وفروسيتهم، ورأينا أن أوربة المتبربرة اقتبستهما منهم.
وإن ما نراه خاصا بالطبقات الأوربية العليا من الأدب والوقار، هو من الأمور الشائعة بين مختلف طبقات الشرق كما أجمع عليه السياح، وإليك ما قاله الڨيكولت ڨوغيه عندما تكلم عن تزاور أفقر طبقات العرب: «لا يسعني سوى الإعجاب بما يسود اجتماعات أولئك القرويين الفقراء من الوقار والأدب، وما أعظم الفرق بين اتزان أقوالهم ونبل أوضاعهم ولغط بني قومنا ووقاحتهم!»
وأتيح لي، غير مرة، أن أتصل بكثير من العرب في مختلف أنحاء العالم الإسلامي، فقضيت العجب في كل مرة من الوقار والترحاب اللذين كان يستقبلني بهما أناس لا تعلو طبقتهم الاجتماعية طبقة فلاحي أوربة، لا فرق في ذلك بين أن يكون رب البيت فقيرا أو غنيا، وذلك أن الواحد منهم يتقدم نحوك ليحييك على الطريقة الشرقية، أي بوضع يده على صدره وجبينه، وليدعوك إلى الجلوس على متكأ في صدر البيت المقابل للباب، ثم يعرض عليك سيغارة أو نارجيلة للتدخين وقهوة للشرب، وينتظر منك بأدب أن توضح له سبب زيارتك. (2) المدن العربية، البيوت، الأسواق ... إلخ (2-1) المدن العربية
يكفي كثير من المدن العربية الحاضرة، كدمشق وبعض الأحياء في القاهرة؛ لتصور ما كانت عليه المدن العربية في سالف الأزمان، وقد تكلمت عن منظر شوارعها الملتوية المشوشة غير مرة، ولا فائدة في الرجوع إلى ذلك الآن، وإذا ما أغضيت عن المدن الشرقية التي تلمس فيها نفوذ الأوربيين، كالمدن الساحلية السورية مثلا، رأيت شبها عظيما بين مدن الشرق قاطبة، فالسائح الذي ينتقل إليها فجأة بقوة ساحر يعلم من فوره حقيقة الجزء الذي هو فيه من الكرة الأرضية.
وتنقطع الحركة في شوارع جميع المدن العربية مع غروب الشمس، وتغلق الحوانيت في ذلك الوقت، ويدخل الناس بيوتهم، ولا يخرج الإنسان من بيته ليلا إلا حاملا فانوسا لعدم الإنارة المصنوعة.
ولا عهد للشرقيين بما في مدن أوربة من الحركة الليلية ومن الحوانيت والقهوات المضاءة بأبهى الأنوار، ومع ذلك يجد الشرقيون في حياتهم المنزلية من الروعة ما يستغنون به عن ملاهي الليل، فإذا قيض لأناس منهم أن يزوروا أوربة بهرتهم حركة مدنها الليلية، وقالوا: إن ملال الغربيين في بيوتهم يدفعهم إلى الخروج منها وملازمتهم الأندية أو القهوات، وقد قال لي تاجر بغدادي وقور زار عواصم أوربة كثيرا: «إن ذلك من النتائج السيئة للاقتصار على زوجة واحدة لا ريب.»
شكل 2-1: شارع قديم في القاهرة (من صورة فوتوغرافية).
وليست شوارع الشرق موضوع عناية أحد، وترك أمر إزالة ما يلقى فيها من الأقذار للكلاب، والكلاب لا تترك منها شيئا، ولا صاحب لهذه الكلاب التي تشتمل كل مدينة على الألوف منها فتعيش جماعات يكون في كل حي واحدة منها، ولا يخرج كلب من حي من غير أن يمزق، ولذا ليس من الممكن أن يقتني رجل كلبا في الشرق، فإذا ما حدث أن كان له كلب وقطع معه شارعا مزقته كلاب الأحياء التي يمر منها حتما.
ويعامل الشرقيون الكلاب وجميع الحيوانات برفق عظيم، ولا ترى عربيا يؤذي حيوانا، وإيذاء الحيوان من عادة سائقي العربات في أوربة، وليس من الضروري، إذن، أن يؤلف العرب جمعيات رفق بالحيوان.
شكل 2-2: شارع في طنجة (مراكش، من صورة فوتوغرافية).
والحق أن الشرق جنة الحيوانات، وفي الشرق تراعى الكلاب والهررة والطيور ... إلخ، وتحلق الطيور في المساجد، وتوكر في أطنافها مطمئنة، وتأوي الكراكي إلى الحقول من غير أن تؤذى، ولا تجد صبيا يمس وكنا، وقد قيل لي في القاهرة بصيغة التوكيد، وهذا يؤيد ما ذكره بعض المؤلفين، إن في القاهرة مسجدا تأتيه الهررة في ساعات معينة؛ لتتناول طعامها وفق شروط أحد الواقفين منذ زمن طويل.
وجزئيات كتلك تدل على طبائع الأمة، وتدل على درجة افتقار الأوربيين إلى تعلم الشيء الكثير من حلم الشرقيين وأنسهم.
ولا يعرف الشرق من أمور العربات سوى الشيء اليسير، ولا ترى في الشرق غير طرق قليلة صالحة لسير العربات، ولا يعتمد الشرقيون في شؤون النقل إلا على الخيل والجمال والحمير، والناس في مصر يستخدمون الحمير على الخصوص، والناس في القاهرة يركبون الحمير في جولاتهم اليومية، والحمير المصرية أجمل من الحمير الأوربية التي فقدت صيتها، ولا يرى علية القوم في مصر ولا نساؤهم غضاضة في امتطائها.
شكل 2-3: دابة في القاهرة (من صورة فوتوغرافية التقطها سباه).
ولكل حمار في مصر سائق يدفعه إلى العدو بصوته أكثر مما بعصاه، ولا يطيع الحمار المصري غير سائقه، ولا يأبه لكل حث يقوم به أي سائق مؤقت آخر. (2-2) المساكن
يميل سكان المدن من العرب إلى إنشاء مساكنهم على الطراز الأوربي في الوقت الحاضر، ولذلك تصبح القصور العربية القديمة نادرة جدا.
وتشاهد أجمل البيوت المبنية على الطراز العربي في دمشق، وليس في مناظر هذه البيوت الخارجية ما يستوقف النظر على العموم، وفي داخل المنازل، لا في خارجها، تتجلى حياة الشرقيين الذين لا يضحون بشيء في سبيل المظاهر، وتدخل تلك البيوت، على العموم، من مسلك ضيق مقبب يجلس فيه الخدم، وإذا ما انتهيت منه دخلت ساحة كبيرة، وإن شئت فقل حديقة مفرشة بالرخام ومشتملة في وسطها على حوض محاط بأشجار الصفصاف والبرتقال والليمون والرمان وأنواع الرياحين التي تنشر شذاها داخل البيت، ويحيط بتلك الساحة أقسام البيت الصالحة للسكن، والتي يحتوي داخلها كل زخرف عجيب، والصورة التي التقطناها عن داخل أجمل قصور دمشق فنشرناها في فصل آخر أفصح دليل على ذلك، والوصف أعجز من أن يصور لنا ما لسقفه من الروافد الناتئة والأشكال الهندسية المجوفة التي نقش المتفننون أجمل النقوش العربية على خشبها الأرزي والحماطي،
1
والوصف أعجز من أن يصور لنا، كذلك، رسوم قطعه الزجاجية العجيبة، وجدره المكسوة خطوطا وكتابات، وأفاريزه المتدلية التي تربط السقف بجوانب حياطه.
وتقسم الردهة المهمة المرتفعة ارتفاع طبقتين في ذلك القصر إلى ثلاثة أقسام على العموم، وتحيط هذه الأقسام بساحة مبلطة، وتتوسط هذه الساحة فسقية رخامية منقوشة مثمنة الزوايا فوارة.
ويتألف رياش ذلك القصر من أريكة كبيرة مغطاة بالحرير المطرز بالذهب والفضة حول حياط ردهته، وتشتمل بقية أمتعته على متكآت ومقاعد صدفية ومشاك مستورة بالرخام والخشب الثمين والزجاج والميناء الفارسي؛ لتوضع فيها الأواني الصينية والفضة وفناجين القهوة المستقرة بظروف صغيرة مخرمة والنارجيلات والمباخر ... إلخ.
وينشد العربي الراحة في تلك الملاجئ
2
الهادئة الساحرة العطرة التي يتخللها الرخاء
3
ولا ينفذ من نوافذها سوى ضياء قليل، ولا يعكر صفوها غير خرير ماء الحياض المرمرية، ويستطيع العربي الذي تحيط نساؤه به هنالك أن يطلق لخياله العنان فيخيل إليه أنه انتقل إلى جنة محمد من خلال دخان نارجيلته.
ويختلف طراز البيوت العربية في الجزائر ومراكش بعض الاختلاف عن طراز بيوت العرب في دمشق، فقد استبدلت القاعة فيها بالحدائق لضيق الاتساع، وتحيط بالقاعة أجزاء المسكن.
وإذا ما نظر الإنسان إلى تلك البيوت من الخارج رآها مكعبات حجرية بيضا كبيرة تعلوها سطوح، وينفذ النور إلى أجزائها من قاعات محاطة بأقواس تقوم عليها طبقات من الأروقة التي تدخل الغرف منها، وهي مبلطة بالآجر المطلي، ويغطي الميناء جدرانها، ويستر الخشب المحفور سقوفها من الداخل، ويتألف أثاثها من الحصر والبسط ومن متكأ يوضع في أقصى الغرفة ويصلح للجلوس في النهار والنوم في الليل، ومن صناديق خشبية مدهونة لصيانة الثياب والحلي، ويستر أعلى تلك القاعات بنسج ذات حبال مربوطة بكلاليب على السطوح منعا لحرارة الشمس، والواقع أن البيوت القائمة على هذا الطراز تلائم البلاد الحارة، وأن الناس في المدن العربية القديمة في إسپانية، ولا سيما في أشبيلية، يشيدون بيوتهم على طرازها حتى الآن.
شكل 2-4: باب بيت قديم في القاهرة (من صورة فوتوغرافية التقطها المؤلف).
وفن عمارة إحدى الأمم عنوان صادق لاحتياجاتها، وإذا ارتحلت أمة عن قطر إلى آخر حولت فن عمارتها إلى ما يلائم بيئتها الجديدة، ولهذا نرى اختلافا بين البيوت العربية في القاهرة، مثلا، والبيوت الموصوفة آنفا؛ ففي المدن الكبيرة كالقاهرة، حيث تضيق المساحات، تقام البيوت على ثلاث طبقات في الغالب، ولا تكون رداهها مرتفعة كما في دمشق، وتفتح نوافذها على الشوارع لعدم كفاية قاعاتها الضيقة لتجديد هوائها، ولكن العرب إذ يرون أن تكون النوافذ مغلقة أمام الغرب لم يعتموا أن اخترعوا الشبابيك الخشبية ذات التخاريم وسموها المشربيات.
والآن لا يرى في القاهرة غير عدد قليل من البيوت القديمة التي أنشئت على طراز العمارة في عصر الخلفاء والتي تنقلب إلى خرائب، وأذكر منها بيت مدير المساجد العام، ويرى أغنياؤها في الوقت الحاضر إنشاء بيوتهم على الطراز الأوربي لما يجدون فيها من الهيف! وتمتاز البيوت القديمة في القاهرة من بيوت كثير من المدن الشرقية بأبوابها المزخرفة إلى الغاية. (2-3) الأسواق
الأسواق من أهم أجزاء المدن في الشرق، فيرى في كل مدينة مهمة كثير من الأبنية التي يتألف من مجموعها حي للتجارة وحدها يسمى السوق، وتحتوي السوق على أروقة طويلة مغطاة بألواح أو حصر، وعلى دكاكين متجمعة على حسب أنواع السلع، ويضاف نوع السلع التي تباع في الرواق إلى كلمة السوق فتعين بذلك فيقال، مثلا، سوق الأسلحة وسوق الأزياء وسوق الأبازير ... إلخ، وإذا عدوت كبريات المدن لم تجد غير السوق مكانا للبيع ولو كانت السلع مما يستهلك يوميا.
ولا شبه بين الدكاكين الشرقية المظلمة والحوانيت الأوربية، ولا عهد للدكاكين الشرقية بفن العرض على الخصوص، وتبدو هذه الدكاكين مجوفات مظلمة يترجح عرضها بين مترين وثلاثة أمتار ولا تزيد على هذا طولا، وتكون السلع منضدة فيها، ويجلس البائع أمامها، وتحتوي على ثروات واسعة أحيانا مع حقارة منظرها.
والسوق ملقى الناس المفضل في الشرق، وهي المكان الوحيد الذي يكون فيه شيء من النسيم في الغالب، والنساء يقصدنه ليمكثن فيه مدة ساعات.
والرجال وحدهم هم الذين يقومون في الشرق بإدارة شؤون دكاكين الأسواق، ومنها دكاكين النصارى.
وينتظر التاجر المشتري أمام دكانه متزنا صابرا، ولا يزعج أحدا من المارين ما لم يكن التاجر يهوديا، فإذا كان التاجر يهوديا ألحف على المشتري بدناءة، فلم يستطع أن يتخلص منه إلا بعد عناء كبير.
ومن عادات التاجر الشرقي، مهما كان جنسه، أن يطلب، أول وهلة، خمسة أمثال ما تساويه سلعته، كما أن من العادات الثابتة ألا تتم الصفقة إلا بعد جدل طويل، وإذا كانت السلعة على شيء من القيمة استمرت المساومة أياما كثيرة، وقد اقتضى اشترائي للنارجيلة النحاسية المكفتة بالفضة، والتي نشرت صورتها في هذا الكتاب، مساومة دامت أسبوعا كاملا، فكأن الشرقي لا يخرج عما يملك إلا بعناء، فعلى من يرغب في ابتياع شيء من الشرقي أن يكون صبورا مثله.
شكل 2-5: سقف بيت عربي قديم في القاهرة (من صورة فوتوغرافية التقطها المؤلف). (3) الأعياد والاحتفالات: الولادة، والختان، والزواج، والدفن (3-1) الولادة والختان
الولادة من أفراح العرب الخاصة، والختان من أفراحهم العامة، فإذا بلغ الصبي السنة السادسة أو السابعة من عمره ختن، ويوم الختان يسار بالصبي في موكب عظيم في المدينة لابسا أفخر الثياب، مبرقع الوجه، راكبا حصانا مجهزا بأثمن عدة، ومخفرا بأولاد آخرين لابسين مثله، ويتقدم الموكب الحلاق الذي سيختنه ورجال الموسيقا، ويعترض النساء بين الفينة والفينة للموكب مزغردات، ثم يصل الموكب إلى المسجد المنار بأبهى الأنوار، ثم يسار منه إلى بيت الأبوين؛ ليتناول الناس الطعام من مائدتهما، ثم يبدأ بالألعاب التمثيلية في الغالب، ويختن الحلاق الصبي عند الانتهاء من الأكل وعلى صوت الصنوج خنقا لصوته، ويحيي المدعوون الكثيرون ليلتهم بشرب المرطبات والقهوة والنارجيلات. (3-2) الزواج
تعد حفلات الزواج من الأفراح كحفلات الختان، وأقتصر الآن على بيان الأعراس دراسا في فصل آخر حال المرأة في الشرق: حينما يرغب الفتى في الزواج يفوض إلى امرأة كبيرة العمر أن تبحث له في الأسر عن الفتيات الصالحات للزواج، ويختار واحدة ممن وصف له جمالهن وكمالهن، ثم يفوض إلى شخص أمر خطبها، وتسأل المخطوبة عن رأيها صورة، ولا يكون لديها ما يسوغ رفضها تزوجه ما دامت لا تراه إلا بعد عقد الزواج، ثم يفاوض الخطيب أباها في مقدار مهرها، وذلك لأن الرجل هنالك، لا المرأة كما في أوربة، هو الذي يدفع المهر، فإذا تمت المفاوضة جاء الخطيب ومعه أصدقاء له إلى بيت حماه حيث يكون منتظرا إياه هو وبعض الأصدقاء والشهود وأحد الكتبة، وعندئذ يلفظ بصيغة العقد الشرعية، ويدون الكاتب ما وقع، وبهذا يكون عقد النكاح قد انتهى شرعا، ومن هنا ترى أن ذلك الزواج عقد خاص لا يتطلب تأييدا دينيا أو مراسم مدنية، ولا تزف العروس إلى زوجها إلا بعد أيام تقام فيها الحفلات، وترسل العروس المبرقعة في موكب مؤلف، من الأصحاب والموسيقيين إلى الحمام، ثم تعود إلى بيت أبيها حيث الموائد، وتبعث مبرقعة في اليوم التالي إلى بيت زوجها المعد المنار بعناية لاستقبالها، وذلك في وسط موكب تتقدمه جماعة من الموسيقيين والمهرجين والمصارعين، فإذا ما انصرف الناس أمكن الزوج أن يرفع النقاب عن زوجه وأن يتأملها لأول مرة.
شكل 2-6: نافذة في قاعة الحريم من قصر أسعد باشا بدمشق (من صورة فوتوغرافية التقطها المؤلف).
ولا تقام تلك الحفلات إلا في الأحوال التي يكون فيها عقد نكاح، وعندما لا يصار إلى طريقة عقد النكاح يذهب المرء إلى أسواق النخاسة الكثيرة التي لا تزال موجودة في الشرق، ولا سيما في القاهرة، مع إنكار وجودها في الكتب، ويأخذ واحدة من الإماء الشركسيات أو الكرجيات الحسان بمبلغ قد يصل أحيانا إلى ستة آلاف فرنك، وتكون هذه الأمة من الأسرة، وتكون لأولادها ما لأولاد الزوجات من الحقوق، ويعامل الإماء برفق ولا يفكرن في التحرر، وإن كان التحرر من الأمور السهلة إلى الغاية، فما عليهن في مدينة كالقاهرة، التي تعاني مناحي أوربة، إلا أن يذهبن إلى أولياء السلطة؛ ليعربن عن رغبتهن فيه. (3-3) المآتم
مراسم الدفن عند المسلمين فخمة فخامة مراسم الزواج، فالميت يوضع، بعد أن يكفن، في تابوت ويغطى التابوت بشال كشميري، ويتناوب حمله خمسة أو ستة من أصدقائه، ويتقدم الجنازة فريق من العميان والمساكين مرتلين بعض آي القرآن، ويأتي خلفها الأقرباء والأصحاب والنائحات، ويصلى على الميت في المسجد، ثم يدفن في المقبرة، ويوجه وجهه إلى مكة، وإذا كان الميت عظيما أقيم حول قبره بنيان مكعب تعلوه قبة، وإذا حلت الأعياد زينت القبور بالأزهار، وقضى النساء أياما حولها بالدعاء. (4) مختلف عادات العرب: الحمامات، القهوات، التدخين، تعاطي الحشيش (4-1) الحمامات
شكل 2-7: سقف بيت حديث بدمشق (من تصوير بورغوان).
حمامات الشرق أفضل من حمامات الغرب صحة وراحة، وهي، عدا ذلك، محل للاجتماع والمحادثة، ولا تقل شأنا عما كان لها عند قدماء الرومان.
وتنشأ حمامات الشرق على نمط واحد، ولا يختلف بعضها عن بعض في غير الزينة والنفائس.
ويوجد متكأ كبير، في ردهة الحمام حيث يستريح المستحم ويخلع ثيابه وتحفظ، وترى فسقية من الرخام في الوسط، ويتلفف المستحم بمنشفة، وينتعل نعلا من الخشب، ويدخل غرفة تبلغ حرارتها نحو خمسين درجة، ويستلقي على بلاطة من الرخام ويمسد، ثم يدخل غرفة ثالثة ويدلك جسمه، ويغسل بالصابون ويتوضأ، ويصب الماء الفاتر والبارد عليه غير مرة، ثم يعود إلى تلك الردهة ويستلقي على ذلك المتكأ مشتملا بالمناشف ويشرب النارجيلة والقهوة، ولا شيء ينعش الإنسان، بعد نصب النهار، مثل ذلك الاستحمام، فنتمنى أن يشتمل جميع مدن أوربة المهمة على مثل تلك الحمامات. (4-2) القهوات والتدخين وتعاطي الحشيش
يتردد الناس هنالك كثيرا إلى القهوات، ولكن لا عهد لتلك القهوات بما في قهوات أوربة من وسائل الترف، وذلك أن متاع تلك القهوات يتألف من حصر وأكواب ونارجيلات في الغالب، ومع ذلك تمتاز القهوة التي تعرض فيها بحسن الصنع، والأوربي الذي يتعودها في الشرق لا يعود إلى نقيع القهوة في بلاده إلا على مضض.
شكل 2-8: موكب عرس في القاهرة (من صورة فوتوغرافية التقطها سباه).
وليس بمجهول أن معرفة الشرقيين للقهوة أمر حديث، وأنهم لم يعرفوها أيام ازدهار حضارة العرب.
ومن العادة في الشرق أن يتناول المرء، في أثناء شرب القهوة، التبغ الأشقر العطر اللذيذ الذي لا يعرف الغرب غير نوع مقلد منه، وفي الشرق يستعملون ذلك التبغ على العموم في النارجيلات الطويلة الأنابيب وذات النماذج الكثيرة، فيمر الدخان من آنيتها المملوءة بالماء متطهرا بذلك من عناصره السامة قبل أن يصل إلى الأفواه، ويبلل التبغ، ويوضع في أعلى النارجيلات، وتوضع عليه نويرات تحترق مع التنفس من أطراف تلك الأنابيب الأخرى، وتجد السيغارة شائعة في الشرق، ويجهل الشرق السيغار.
4
والحشيش، الذي هو مادة مسكرة، من أهم وسائل اللهو والتسلية عند أمم الشرق منذ قرون، والفلاح الشرقي الحقير يصبح وقتما يتعاطاه سعيدا حينا فلا يرضى بحظ أعظم ملوك الأرض بدلا من حظه، والشرقيون قد حلوا بفضله مشكلة وضع السعادة في الزجاجة التي لا تعسر حيازتها، وإذ لا يزال ذا شأن عظيم في حياتهم نرى من المفيد أن نقول كلمة في خواصه: يصنع الحشيش من القنب الهندي كما يعلم العالم، ويباع في القاهرة والقسطنطينية على العموم كمربب وحلوى ومعجون وملبس ... إلخ، ويمزج، لتعديل خواصه، بجوز القيء والزنجبيل والقرفة والقرنفل وما إلى ذلك، وكذلك بالذراح
5
على ما يقال.
ويظهر أن الحشيش كان معروفا في القرون القديمة ولم يستخرج الترياق، الذي حكى عنه أوميرس والمادة التي روى ديودورس الصقلي أن نساء ديوسكوپوليس المصرية كن يزلن بها هموم أزواجهن وغضبهم، من غير القنب الهندي على ما يظن، ومما لا ريب فيه أن أمر الحشيش كان شائعا في سورية أيام الحروب الصليبية.
وللأثر الذي ينشأ عن تناول الحشيش علاقة بحال الإنسان الروحية، وأرى أن أثره النفسي يلخص بأنه يجسم الخيالات التي تجول في النفس، وأن هذه الخيالات تشتد وتمزج بالحقائق، فإذا كانت النفس طيبة غرقت على العموم في بحر من الملاذ بما يلائم ما تبالي به من الأعمال عادة، وعلى هذا الوجه يرى الشرقيون الذين يتناولون الحشيش بين حريمهم أنهم ينقلون إلى ما في جنات محمد من حور العين مسحوري العيون برقص نسائهم مشنفي الآذان بأغانيهن.
6
ولم يدرس تأثير الحشيش، من الناحية العلمية، درسا كافيا مع ما يؤدي إليه درسه من النتائج الطريفة في علم النفس، وقد ذكرنا في كتاب نشرناه حديثا عن تأثير الحشيش النفسي أنه ينشأ عن تعاطيه انفتاق شخصية الإنسان كما يحدث للسائر في النوم، فتقوم الذات غير الشاعرة التي تكون راقدة في الأحوال العادية، والتي هي أساس حركة الإنسان بالحقيقة، مقام الذات الشاعرة، فيفقد الإنسان كيانه، ويحدث عن نفسه إلى شخص ثالث، ويبدو التغير في قوله وسلوكه وأخلاقه، وتظهر حقيقة أمره، وهنالك يمكن حمله على إظهار سرائره، وقد يستعان بالحشيش في الأحوال الخطرة؛ فيعترف به بعض المجرمين بذنوبهم، ويجتنب الخطأ القضائي بذلك. (5) الألعاب والتمثيل والراقصون والقاصون ... إلخ
تختلف ألعاب العرب قليلا عما نعرفه في أوربة، فلعبة الشطرنج ولعبة النرد ولعبة الدامة مما ألفه العرب، والمصارعة والرماية ولعبة الكرة، والمسايفة ولعبة الصولجان مما هو شائع بين العرب، ولعبة الرمح، وسباق الخيل من أكثر ما يولع به الأعراب.
والتمثيل من وسائل التسلية عند الشرقيين أيضا، ولكن الممثلين في الشرق يكونون من اللعب في الغالب، أو، كما رأيت بنفسى، من الأشخاص الذين لم يحذقوا فن التمثيل أحيانا فيلقون فصولهم برصانة كالقارئ من غير أن تمت أوضاعهم بصلة إلى حقيقة ما يرغبون في الإعراب عنه من العواطف.
ويتذوق الشرقيون الموسيقا والأغاني كثيرا، وقلما تدخل قهوة شرقية من غير أن تسمع فيها ما لا يروق الأوربيين من ألحان الرباب والكمان والمزمار الحادة المحزنة.
شكل 2-9: نارجيلة عربية مصنوعة من النحاس المكفت بالفضة (من صورة فوتوغرافية التقطها المؤلف).
ويعد الرقص في الشرق من الأمور التي يقوم بها أشخاص مأجورون، ويحمر وجه العرب خجلا من الرقص العلني الذي يشابه رقص الأوربيين في الرداه العامة، وليس مما يلائم الذوق السليم عند العرب أن يرقص رجل متزن في المسرح على أنغام آلات الطرب.
والنساء اللائي يلقبن بالعوالم هن اللاتي يرقصن في الشرق، والرقصات التي رأيتها في مدن آسية وإفريقية ومصر العليا أقل من شهرتها، وتتألف هذه الرقصات من حركة البطن والخصر دون بقية البدن، ورقصة السيف التي شاهدتها ليلا حول وقدة في أريحا من أروع تلك الرقصات، فقد اشتركت فيها فلاحات شاهرات سيوفا رفيعة كن يدرنها حول رأسي زاعقات في أذني على حين كانت الراقصات الأخر يغنين أغان يمتدحن فيها ما يفترضن وجوده في الضيف من الجاه والصيت والكرم، وكن يقلن مثلا: إنه قهر أعداءه، وإن ذراعه لا تنثني، وإن فرائص أقوى الشجعان ترتعد فرقا حين سماع صوته ... إلخ، وتتجلى مهارة الراقصات في مسهن بالسيوف رأس الضيف الكريم من غير أن يجرحنه، وقد حاولت عبثا أن أحمل أولئك الفتيات الأعرابيات على إبداء ذلك الحذق فوق رءوس أبناء قومهن، مع أن الشيخ المفوض إليه أمر حراستي أخبرني بأن من النادر إصابة أحد من ذلك بأذى.
شكل 2-10: نارجيلة فارسية عربية (من صورة فوتوغرافية التقطها المؤلف).
ولم يبق لعوالم مصر العليا ما كان لهن في غابر الأزمان من رونق وبهاء، واللباس الذي يلبسنه أمام الجمهور هو جلباب طويل يفقدن به كل روعة، ولكنهن إذا ما كن بين الخلان خلعنه بسهولة، ورقصن لابسات ثوبا بسيطا كالذي تعزوه القصة إلى حواء.
شكل 2-11: دكان صانع أسلحة عربي في سورية (من صورة فوتوغرافية).
وأعد قصص العجائب التي يتلوها القاصون المحترفون من أهم وسائل التسلية عند العرب، وهؤلاء القاصون منتشرون في أنحاء الشرق، ولهم حظوة كبيرة في كل مكان، ويقص القاصون القصص ارتجالا في بعض الأحيان، ويقتصرون في الغالب على إنشاد قصيدة أو تلاوة قصة من رواية ألف ليلة وليلة، ولا أزال أذكر أنني زرت حيا من أحياء يافا الشعبية ذات ليلة، فشاهدت فيه جمعا عربيا من الحمالين والنواتي والأجراء ... إلخ، يستمعون على نور مصباح إلى قصة عنترة بعناية، فتراني أشك في نيل قاص مثل ذلك النجاح لو أنشد جماعة من فلاحي فرنسة ما تيسر من شعر لامارتين أو شاتوبريان.
وندرك ناحية من أخلاق العرب بما نراه من تأثير القاصين في الجمهور العربي الذي نعلم أنه ذو حيوية مع وقار، وقوة خيال مع تمثيل، والذي يبدو أنه يرى ما يسمع، والذي يبلغ من فرط التأثر ما يظهر أنه يسمعه حقا.
قال أحد السياح صارخا: «لينظر الإنسان إلى أبناء الصحراء أولئك حينما يستمعون إلى قصصهم المفضلة، فهو يرى كيف يضطربون وكيف يهدأون، وكيف تلمع عيونهم في وجوههم السمر، وكيف تنقلب دعتهم إلى غضب وبكاؤهم إلى ضحك، وكيف تقف أنفاسهم ويستردونها، وكيف يقاسمون الأبطال سراءهم وضراءهم، حقا إن تلك لروايات وإن الحاضرين لممثلون أيضا، وحقا إن الشعراء في أوربة، مع نفوذ أشعارهم وسحر بيانهم وجمال وصفهم، لا يؤثرون في نفوس الغربيين الفاترة عشر معشار ما يؤثر به في نفوس سامعيه ذلك القاص الذي هو من الأجلاف، فإذا ما أحيط ببطل الرواية ارتجف السامعون وصرخوا قائلين: «لا! لا! حفظه الله!» وإذا ما كان في حومة الوغى محاربا كتائب أعدائه بسيفه أمسكوا سيوفهم كأنهم يريدون إنجاده، وإذا ما كاد يذهب فريسة الغدر والخيانة قطبوا وصرخوا قائلين: «لعنة الله على الخائنين!»، وإذا ما قضى عليه أعداؤه الكثيرون تأوهوا وقالوا: «تغمده الله برحمته وفسح له في دار السلام!» وإذا ما كان العكس فرجع ظافرا منصورا هتفوا قائلين: «المجد لرب الجند!» ويكون هتافهم وقتما يذكر القاص محاسن الطبيعة ولا سيما الربيع: طيب! طيب!» ولا شيء يعدل السرور الذي يبدو على ملامحهم عندما يصف القاص امرأة جميلة، فتراهم ينصتون له إنصات من يكاد لبه يطير من الوجد، وإذا ما أتم وصفه قائلا: «الحمد لله الذي خلق المرأة! قالوا قول المعجب الشاكر: «الحمد لله الذي خلق المرأة! (6) الرق في الشرق
تثير كلمة «الرق» في نفس الأوربي، القارئ للقصص الأمريكية منذ ثلاثين سنة، صورة أناس يائسين مقرنين في الأصفاد، مقودين بالسياط، رديئي الغذاء، مقيمين بمظلم المحابس.
شكل 2-12: بائعون جائلون في القاهرة (من صورة فوتوغرافية التقطها سباه).
ولا أبحث هنا في صحة صورة الرق هذه عند الأنغلو أمريكيين منذ بضع سنين، ولا في صحة تفكير صاحب رقيق في إيذاء مال غال كالزنجي والقضاء عليه، وإنما الذي أراه صدقا هو أن الرق عند المسلمين غيره عند النصارى فيما مضى، وأن حال الأرقاء، في الشرق أفضل من حال الخدم في أوربة، فالأرقاء في الشرق يؤلفون جزءا من الأسر، ويستطيعون الزواج ببنات سادتهم أحيانا كما رأينا ذلك سابقا، ويقدرون أن يتسنموا أعلى الرتب، وفي الشرق لا يرون في الرق عارا، والرقيق فيه أكثر صلة بسيده من صلة الأجير في بلادنا.
شكل 2-13: كاتب عرائض في القدس (من صورة فوتوغرافية).
قال مسيو أبو: «لا يكاد المسلمون ينظرون إلى الرق بعين الاحتقار، فأمهات سلاطين آل عثمان، وهم زعماء الإسلام المحترمون، من الإماء، ولا يرون في ذلك ما يحط من قدرهم، وكانت أسر المماليك الذين ملكوا مصر زمنا طويلا تلجأ، لتدوم، إلى اشتراء صغار الموالي من القفقاس وتتبناهم في سن البلوغ، وليس من القليل أن يربي أمير مصري أحد صغار الأرقاء، ويعلمه ويدربه، ويزوجه ابنته، ويفوض إليه إدارة شؤونه، وترى في القاهرة أكابر من الوزراء والقادة والقضاة اشتري الواحد منهم في شبابه بما لا يزيد على ألف وخمسمائة فرنك.»
واعترف جميع السياح الذين درسوا الرق في الشرق درسا جديا بأن الضجة المغرضة التي أحدثها حوله بعض الأوربيين لا تقوم على أساس صحيح، وأحسن دليل يقال تأييدا لهذا هو أن الموالي الذين يرغبون في التحرر بمصر ينالونه بإبداء رغبتهم فيه أمام أحد القضاة، وأنهم لا يلجأون إلى حقهم هذا، قال مسيو إيبر مشيرا إلى ذلك: «يجب عد الرقيق في بلاد الإسلام مبخوتا على قدر الإمكان.»
ومن السهل أن أكثر من اقتباس الشواهد على صحة ذلك، ولكنني أكتفي بذكر الأثر الذي أوجبه الرق في الشرق في نفوس المؤلفين الذين أتيح لهم درسه في مصر حديثا، قال مسيو شارم: «يبدو الرق في مصر أمرا لينا هينا نافعا منتجا، ويعد إلغاؤه فيها مصيبة حقيقية، ففي اليوم الذي لا يستطيع وحوش إفريقية الوسطى أن يبيعوا فيه أسرى الحرب، ولا يرون فيه إطعامهم، لا يحجمون عن أكلهم، فالرق، وإن كان لطخة عار في جبين الإنسانية، أفضل من قتل الأسرى وأكل لحومهم إذا ما نظر إليه من وجهة نظر هؤلاء الأسرى، وذلك على الرغم من رأي محبي الإنسانية من الإنكليز الذين يقولون: إنه أجدر بكرامة الزنوج أن يأكلهم أمثالهم من أن يسودهم أجنبي!»
وقال مدير مدرسة اللغات في القاهرة مسيو دو ڨوجانى: «ترى الأرقاء الذين يستفيدون من الحرية الممنوحة لهم قليلين إلى الغاية مع أن هذه الحرية تسمح لهم بأن يعيشوا كما يشاءون من غير إزعاج، فالأرقاء يفضلون حال الرق السالم من الجور على حال القلق الذي يكون مصدر آلام ومتاعب لهم في الغالب. «وترى الأرقاء في مصر أحسن حالا مما كانوا عليه قبل استرقاقهم بدلا من أن يكونوا من البائسين المناكيد، وبلغ الكثيرون منهم، ولا سيما البيض، أرقى المناصب في مصر، ويعد ابن الأمة في مصر مساويا لابن الزوجة في الحقوق، وإذا كان ابن الأمة هذا بكر أبيه تمتع بكل ما تمنحه البكرية من الامتيازات، ولم تكن من غير الأرقاء زمرة المماليك التي ملكت مصر زمنا طويلا. وفي أسواق النخاسة اشتري علي بك وإبراهيم بك ومراد بك الجبار الذي هزم في معركة الأهرام، وليس من النادر أن ترى اليوم قائدا أو موظفا كبيرا في مصر لم يكن في شبابه غير رقيق، وليس من النادر أن ترى رجلا في مصر كان سيده المصري قد تبناه وأحسن تعليمه وزوجه ابنته.»
وليست مصر القطر الوحيد الذي يعامل فيه الأرقاء برفق عظيم، أي أن ما تراه في مصر ترى مثله في كل بلد خاضع للإسلام، واسمع ما قالته السيدة الإنكليزية بلنت في كتاب رحلتها في بلاد نجد ذاكرة محادثتها لعربي: «إن مما لم يستطع أن يفهمه ذلك العربي هو وجود نفع للإنكليز في تقييد تجارة الرقيق في كل مكان، ولما قلت له إن مصلحة الإنسانية اقتضت ذلك» أجابني: «إن تجارة الرقيق لا تنطوي على جور، ومن ذا الذي رأى إيذاء زنجي؟» والحق أننا لا نزعم أننا رأينا ذلك، ومن الأمور المشهورة أن الأرقاء عند العرب يكونون من الأبناء المدللين أكثر من أن يكونوا من الأجراء.
شكل 2-14: سقاءان في القاهرة (من صورة فوتوغرافية).
ولا شيء يستحق الذم واللوم كالرق، ولكن المبادئ التي صنعها الإنسان ذات شأن ضعيف في سير الأمور، وإذا ما نظر المرء إلى الرق بمنظار الزنجي المخلوق المنحط وجده أمرا طيبا، فلا شيء أصلح لهؤلاء المخلوقات الضعيفة الفطرية القليلة الحذر والتبصر من أن يكون لها سيد يرى من مصالحه أن يقوم بشؤونها، ودليلنا على هذا ما أصاب أرقاء أمريكة من الانحطاط المحزن الذي نشأ عن تحريرهم بعد حرب الانفصال، وإلقاء حبالهم على غواربهم.
ويتطلب منع النخاسة منع البحث عن الأرقاء كما يزعم الإنكليز أنهم يفعلون، أي تبديل طبائع الشرق كله، وتغيير بقية العالم بعض التغيير، ولم ينشأ عن تدخل الأوربيين القائم على الرياء والمداجاة فيما لا يعنيهم سوى الفشل ومقت الشرقيين لهم.
قال المؤلف الإنكليزي «ج. كوپر» في كتاب حديث درس فيه أمر النخاسة في إفريقية: «لم تكن الحملات التي جردت على تجار الرقيق في السودان إلا من نوع الغزوات التي تضيف إلى المذابح مذابح أخرى، أجل، لقد قضت تلك الحملات على بعض مراكز أولئك التجار، ولكن هذه المراكز لم تلبث أن أعيد تأسيسها بعد انصراف تلك الحملات، ولم ينجم عن النفقات العظيمة والدماء المسفوكة فيها كبير طائل، ولم تؤد إلى تقييد النخاسة.»
ولا ريب في أن الأوربيين الذين يتدخلون في أمور الشرق لمنع النخاسة قسرا من محبي الإنسانية الصالحين، ومن ذوي النيات الطيبة الخالصة، ولكن الشرقيين لا يعتقدون صدقهم، وحجة الشرقيين في ذلك هو أن أولئك المحبين للإنسانية الصالحين والراحمين للزنوج هم الذين أكرهوا الصينيين بقوة المدافع على أن يدخلوا إلى بلادهم ذلك الأفيون الذي أهلك من الناس في سنة واحدة ما لم تهلكه تجارة العبيد في عشر سنين.
هوامش
الفصل الثالث
نظم العرب السياسية والاجتماعية
(1) مصدر نظم العرب
تختلف النظم السياسية والاجتماعية، لأكثر الأمم التي يعنى بها التاريخ، اختلافا عظيما بين أمة وأخرى، ويدل إنعام النظر على أن قيمة تلك النظم أمر نسبي، فما صلح منها لأمة لا يصلح لأمة أخرى في الغالب.
وتحتاج تلك الحقيقة إلى برهان، ولا تسلم بها النفس حالا، ويظهر العكس من الحقائق أول وهلة، أي أنه يرى وجوب اتخاذ النظم التي عزيت إليها عظمة إحدى الأمم مثالا للاقتداء، وأن من الحكمة انتحالها وحمل الناس عليها طوعا أو كرها، وهذا ما اعتقده أقطاب السياسة والمؤرخون زمنا طويلا، ولا يزال أكثرهم يراه.
واليوم فقط بدأنا نعلم خطر ذلك الرأي، فقد أثبت البحث العميق في حياة الأمم، أن نظم الأمم عنوان مشاعرها واحتياجاتها الموروثة التي هي وليدة ماض طويل، وأنها لا تتبدل كما يشاء الإنسان، حقا روى المؤرخون وجود مشترعين، كموسى وليكورغ وسولون ونوما وغيرهم، فرضوا على أممهم شرائع ابتدعوها، ولكن الواقع غير ذلك، فلم يكن لمشترع مثل تلك القدرة التي لم تتفق لأقوى الفاتحين وأعنف الثورات إلا لوقت قصير، فإذا أكرهت أمة على قبول نظم تختلف عن نظمها كان ذلك من قبيل إرغام حيوان على تبديل وضعه الطبيعي حينا من الزمن، وإذا ما زال عامل القهر عاد الماضي إلى مجراه، وظهر أن الأمر لم يعد حد تغيير بعض الكلمات.
وهنالك حوادث تاريخية كثيرة تظهر في بدء الأمر مناقضة لما تقدم، فيجب درسها درسا حقيقيا؛ ليرى زوال هذا التناقض، خذ العرب مثلا ترهم قد فرضوا نظمهم على أمم مختلفة، ولكنك إذا ما بحثت في أمم آسية وإفريقية التي سارت على سنة العرب علمت أن النظم السابقة لأكثر هذه الأمم لا تختلف عن نظم العرب إلا قليلا، وأنه إذا كان بينها وبين نظم العرب اختلاف في الأمور الجوهرية، كنظم البربر مثلا، بدا لك ضعف أثر القرآن فيها، والعرب، وهم أعقل من كثير من أقطاب السياسة المعاصرين، كانوا يعلمون جيدا أن النظم الواحدة لا تلائم جميع الشعوب، فكان من سياستهم أن يتركوا الأمم المغلوبة حرة في المحافظة على قوانينها وعاداتها ومعتقداتها.
ولا تتبدل النظم، وهي عنوان احتياجات الأمة ومشاعرها التي نبتت فيها، إلا بتبدل تلك الاحتياجات والمشاعر، وقد أثبت التاريخ أنها لا تتحول إلا بتعاقب الوراثة، ومن ثم ببطء عظيم، وقد اقتضى تحول البرابرة الذين قضوا على العالم الروماني إلى ما صاروا إليه في دور النهضة مرور القرون الوسطى التي دامت ألف سنة.
وتسيطر سنن تطور ذوات الحياة على تطور النظم الاجتماعية، وقد اكتسب، بتعاقب الأزمنة، بعض ذوات الحياة، التي كانت تعيش في البحر في الأدوار الجيولوجية، من الأعضاء ما تمكن به من العيش في الهواء، وليس بعيدا الزمن الذي كان علماء الطبيعة يجهلون فيه تطور ذوات الحياة والحلقات التي تصل بين طرفيها، وليس بعيدا الزمن الذي كان علماء الطبيعة يعتقدون فيه أن قدرة علوية خلقت ذوات الحياة في أوقات مختلفة، فلما تقدم العلم أثبت أن هذه التحولات العظيمة لم تحدث فجأة، بل هي وليدة تطورات غير محسوسة اكتسبها كل جيل، وتراكمت بالوراثة في عدة قرون، وأسفرت عن تحولات عظيمة جدا.
ونعد العرق والبيئة وطرق المعايش والعوامل المختلفة، التي نرى الضرورة أولها وعزيمة الرجال أضعفها، أسبابا رئيسة في نشوء النظم، والزمن وحده هو القادر على توطيدها، وإذا رأينا أمة ذات نظم واحدة منذ زمن طويل أيقنا بأن هذه النظم خير ما يلائمها، وإذا كانت الحرية أمرا طيبا لدى بعض الشعوب كانت صرامة ولي الأمر المطلق أفضل للشعوب الأخرى، ولذا فإن من قصر النظر أن نقف عند حد ثقافتنا الاجتماعية التقليدية الخطرة، وأن نرى من الممكن تطبيق نظم لاءمت أمة بتعاقب الأزمان على أمة أخرى، وهذا لا يختلف كثيرا عن محاولة حمل السمك على التنفس في الهواء بحجة أن جميع الحيوانات العليا تتنفس في الهواء، فالسمك يموت حيث تحيا ذوات الثدي.
وما تنشأ به نظم الأمم، وما تتحول به، من البطء العظيم يجعلنا لا نبصر التحولات، على العموم، إلا إذا جهر بها مشترع عظيم، فنعزو إلى هذا المشترع وضع القوانين مع أنها وليدة ماض طويل، وليس شأن المشترعين الحقيقي سوى إثباتهم، بما لهم من سلطان، عادات مستقرة بالأذهان بعض الاستقرار، وإلغائهم العادات غير الصالحة أو الضارة التي لولاهم لدام أمرها مدة أخرى، أجل، إن تأثير المشترعين مهم، ولكن هذا التأثير لا يكون إلا إذا كانت التحولات التي هي وليدة استنباطهم ضئيلة إلى الغاية، وهنالك يمكنهم أن يرددوا قول سولون: «إنني لم أمنح أهل أثينة أفضل ما يتصور الإنسان من القوانين، بل منحتهم أفضل القوانين التي يطيقونها»، فسولون لم يختر القوانين التي جاء بها في الحقيقة من غير العادات السابقة التي رسخت في أذهان القوم ومعتقداتهم.
شكل 3-1: داخل حوش في القاهرة (من صورة فوتوغرافية).
ومثل ذلك شأن محمد الذي عرف كيف يختار من نظم العرب القديمة ما كان يبدو أقومها، فدعمها بنفوذه الديني العظيم، ولكن شريعة محمد لم تنسخ جميع العادات التي قامت مقامها كما أن قانون الألواح الاثني عشر لم يقض على قوانين الرومان القديمة، ومحمد، حين رأى أن يحرم بعض العادات القديمة كالوأد، لم يفعل غير ما يلائم المشاعر المنتشرة بدرجة الكفاية وما تقره هذه المشاعر.
وشريعة محمد، في فصولها غير الدينية، هي خلاصة عادات قديمة إذن، وهي، كالشرائع الأخرى، تكشف بسهولة عن الحالة الاجتماعية للأمة التي ظهرت فيها، ولا كتاب تاريخ يعدل دراسة قوانين إحدى الأمم في بعض الأحيان، فالقوانين تدل، بما تبصر من الاحتياجات، وبما تأمر به وما تنهى عنه، على أحوال المجتمع الذي نشأت فيه كما نبين ذلك غير مرة.
شكل 3-2: كوب عربي قديم من البلور (من تصوير إيبر).
وليس من الضروري أن يعتمد على شريعة إحدى الأمم وحدها في استجلاء حالتها الاجتماعية إذا كان لهذه الأمة آثار أخرى في التاريخ، وهي إذا كانت ذات حضارة وأنسال كان أسهل على الباحث أن يدرس بقايا تلك الحضارة والأنسال للوقوف على حالتها الاجتماعية كما صنعنا ذلك في الفصول السابقة، ونحن حين وصفنا حياة العرب ورجعنا إلى الأزمنة التي نشأت فيها نظمهم أعددنا القارئ، بما فيه الكفاية، ليتمثل النظم التي ندرسها الآن، وليدرك تأثير المشترعين الضئيل في تكوينها.
ومن الضروري أن يبحث على هذا النمط في شؤون الأمم التي يراد وصفها واكتناه نظامها الاجتماعي عربا كانت هذه الأمم أو غيرهم، ونرجو أن يحل الوقت الذي يدرك الفقهاء فيه أهمية هذا، فيصبح علم الحقوق غير قائم على سرد مواد القوانين المعقدة والمناقشات البزنطية. (2) نظم العرب الاجتماعية
خصصت مطالب كثيرة من هذا الكتاب للبحث في أهم نظم العرب الاجتماعية كنظام الأسرة والرق وتعدد الزوجات ... إلخ، فأقتصر هنا على بيان أهم ما جاء في القرآن من الأحكام الاشتراعية.
واختلط شرع العرب المدني بشرعهم الديني اختلاطا وثيقا، وتألف منهما علم قائم على تفسير القرآن.
وما كان القرآن ليبصر جميع ما يحدث في كل يوم، وهو لم يستدرك غير القليل من ذلك، وكان الناس منذ البداءة يرجعون مضطرين إلى النبي وخلفائه من بعده لحل المعضلات الشرعية اليومية، فتألف مما روي من أحكامهم المجموعة منذ القرون الأولى من الهجرة ما سمي بالسنة.
ثم ظهر بعد زمن قصير أن القرآن والحديث غير كافيين، ورئي إتمامهما بوضع دستور مدني وديني مشتق من تفسير القرآن، وقامت بذلك جماعة كبيرة من الأئمة في القرن الأول والقرن الثاني من الهجرة، واعترف بأربعة منهم، وهم: أبو حنيفة والشافعي ومالك وابن حنبل؛ وإلى هؤلاء تنسب المذاهب الأربعة التي يقتدي بها مختلف شعوب الإسلام، فأما المذهب المالكي فاتبع في إفريقية، وأما المذهب الحنفي فاتبع في تركية والهند، وأما المذهب الشافعي فاتبع في مصر وجزيرة العرب مع عمل المحاكم المصرية بالمذهب الحنفي، وأما المذهب الحنبلي فمهجور في أيامنا (!)
ثم صار لكل واحد من هذه المذاهب الأربعة كثير من الشراح، ومن ذلك أن كان خليل، المتوفى سنة 1422م، شارحا للمذهب المالكي المنتشر في بلاد الجزائر، فعد كتابه الذي ترجم إلى الفرنسية مرتين، إحداهما بقلم الدكتور بيرون والثانية بقلم مسيو سغنت، أهم رسالة في الفقه المالكي.
وإذا عدوت هذه المصادر في علم الكلام الإسلامي وفي الفقه الإسلامي وجدت للأحوال التي لا تجد لها قاعدة مقررة، والتي لا يمكن القياس في أمرها، مجموعة أحكام سلطانية تعرف بالفتاوى.
وتجد بجانب الدساتير المدونة فقها قائما على العادة مختلفا باختلاف الأمكنة فدل هذا على أن الفقه الإسلامي غير مقيد بالقرآن خلافا لما يظن أول وهلة، وقد يكون للعادات من الفعل ما ليس للقانون المدون، ومن هذا نسخ القبائل البربرية لما جاء في القرآن من الأحكام في حقوق النساء في الميراث، ومن هذا أنك لا ترى عند قبائل اليمن سوى فقه قائم على العادات متغير بتغير هذه القبائل مختلف عن تعاليم النبي غالبا. قال الرحالة مسيو هاليڨي الذي ساح في اليمن حديثا: «إن لكل قبيلة اشتراعا خاصا.»
شكل 3-3: إناء عربي قديم مصنوع من النحاس.
والعقوبات تستند إلى القرآن وتفاسير القرآن أيضا، أي تقوم على مبدأ القصاص كما قامت عليه شريعة موسى، ومبدأ القصاص هذا هو المبدأ الممكن في جميع الشرائع الفطرية كما قلنا، ومما بيناه في كتابنا السابق أن حق المجازاة كان في البداءة خاصا بالمعتدى عليه، وأن الجزاء كان يفرض على المذنب أو على أسرته ما كانت الأسرة وحدة في جميع المجتمعات القديمة، وأن الثأر إذا لم يدرك من الوالد أدرك من ابنه أو حفيده ما نصت التوراة على أن الرب ينتقم «من الأبناء حتى الجيل الثالث والجيل الرابع» لذنب اقترفه الأب.
ومن فوائد القصاص أنه يقلل حوادث القتل كثيرا، ومن محاذيره أنه يؤدي إلى استمرار أعمال الثأر زمنا طويلا غالبا، ولذا رئي أن تقوم الدية التي تدفع إلى أهل المقتول مقامه أحيانا، ولذا دام هذا النظام إلى أن جاء الوقت الذي صار المجتمع يقوم فيه بمعاقبة المذنب بدلا من أن يقوم بها المعتدى عليه أو أسرته، ولكن هذا الطور الجزائي الأخير لا يكون في غير المجتمعات التي يقوم فيها نظام مركزي قوي، ونظام مركزي مثل هذا إذ لم يقم أيام محمد ظل نظام العقوبات الذي نص عليه القرآن مستندا إلى مبدأ القصاص ومبدأ الدية الفطريين، وبقي أمره سائدا ما خضع للدستور الديني بشكله القديم.
ومن ثم ترى أن ما جاء في شريعة موسى من حق القصاص القائل: إن العين بالعين والسن بالسن هو، مع مبدأ الدية الذي جاء ملطفا له، مبدأ الفقه الجزائي الأساسي في القرآن، ومع ذلك فقد أوصى القرآن بالعفو على أنه خير من الثأر، ونعد هذا تقدما عظيما ما عد الإنسان في الأدوار الفطرية عدم الانتقام عارا، وإليك مبادئ القرآن الأساسية في الجرائم وما يقابلها من العقوبات:
وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين (من سورة النحل)
يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان ذلك تخفيف من ربكم ورحمة فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم (من سورة البقرة)
من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا (من سورة المائدة)
والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله والله عزيز حكيم (من سورة المائدة)
والمفسرون نصوا على أحكام الدية، فإذا وقع القتل عمدا كان القصاص جزاء القاتل، ما لم يقبل أهل القتيل الدية.
وإذا وقع القتل خطأ كانت الدية مائة جمل، ولا ترد الدية، ويختلف التعويض في حالة الجروح باختلاف أهميتها.
وأهل القاتل أو أفراد أسرته هم الذين يؤدون الدية، وإذا كان القاتل مجهولا دفعتها الزمرة التي ينتسب القاتل إليها، ومن هنا تبصر مقدار التضامن بين عرب الأسرة الواحدة أو الزمرة الواحدة.
شكل 3-4: قفل عربي.
وجرائم القتل والجرح وحدها هي التي يمكن العوض منها كما جاء في القرآن وفي أكثر الشرائع القديمة، وأما العقوبات التي تفرض على السارقين وقطاع الطرق فمتنوعة، فتقطع يد السارق اليمنى في المرة الأولى مثلا، ثم تقطع رجله اليسرى في المرة الثانية، والحبس أو البتر أو القتل جزاء قطاع الطرق، والرجم جزاء الزناة والزواني من الأزواج على أن يثبت الزنا بشهادة أربعة شهود أو بإقرار المذنب، والحد الذي يقام على شارب الخمر، أو الذي كان يقام عليه فيما مضى، أربعون جلدة.
وأحكام الحقوق المدنية كثيرة إلى الغاية في كتب الفقه التي ألمعنا إليها آنفا، وما نذكره عن حقوق التملك والميراث ... إلخ، يكفي لتنور أقسامها المهمة.
ليس في القرآن غير الإجمال لحق التملك، ولكن المفسرين أحسنوا ترتيبه.
وبالغ العرب في احترام حق التملك، حتى ما كان منه خاصا بالمغلوبين، ومن ذلك أن الأراضي التي أخذت من المغلوبين بالفتح أعيدت إليهم على أن يؤدوا خراجا قلما يزيد على خمس محصولاتها.
ويؤدي إحياء الموات عند العرب إلى حق التملك، فالعرب يرون أن إحياء الموات يتضمن منح الأرض قيمة، ومن ثم يتضمن حقا لتملكها.
وأكثر المفسرين من غير القائلين بمبدأ مرور الزمن، وحق الادعاء عندهم لا يسقط بمرور الزمن، ومع ذلك فإن من أحكام المذهب المالكي أن مدة مرور الزمن عشر سنين بين الغرباء وأربعون سنة بين الأقارب.
شكل 3-5: صندوق للسلطان قلاوون (من تصوير پريس الأفيني).
ولا يستطيع الأجنبي أن يتملك أرضا أو يشتري عبدا في دار الإسلام، ولكن كلمة الأجنبي لا تشتمل على غير الكافرين، أي ليس المسلمون أجانب في نظر بعضهم إلى بعض مهما اختلفت الشعوب التي ينتسبون إليها، ولا فرق في دار الإسلام بين الصيني المسلم والعربي المسلم في التمتع بجميع الحقوق، وبهذا تختلف الحقوق الإسلامية عن الحقوق الأوربية اختلافا أساسيا.
وتعد مبادئ المواريث التي نص عليها القرآن بالغة العدل والإنصاف، ويمكن القارئ أن يدرك هذا من الآيات التي أنقلها منه، ولم يبصر في القرآن جميع الأحوال التي عالجها المفسرون فيما بعد وإن أشير فيه بدرجة الكفاية إلى روحها العامة، ويظهر من مقابلتي بينها وبين الحقوق الفرنسية والإنكليزية أن الشريعة الإسلامية منحت الزوجات، اللائي يزعم أن المسلمين لا يعاشرونهن بالمعروف، حقوقا في المواريث لا تجد مثلها في قوانيننا.
جاء في القرآن:
للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون مما قل منه أو كثر نصيبا مفروضا
1 (من سورة البقرة)
يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك وإن كانت واحدة فلها النصف ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث فإن كان له إخوة فلأمه السدس من بعد وصية يوصي بها أو دين آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا فريضة من الله إن الله كان عليما حكيما * ولكم نصف ما ترك أزواجكم إن لم يكن لهن ولد فإن كان لهن ولد فلكم الربع مما تركن من بعد وصية يوصين بها أو دين ولهن الربع مما تركتم إن لم يكن لكم ولد فإن كان لكم ولد فلهن الثمن مما تركتم من بعد وصية توصون بها أو دين وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة وله أخ أو أخت فلكل واحد منهما السدس فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث من بعد وصية يوصى بها أو دين غير مضار وصية من الله والله عليم حليم
2 (من سورة النساء)
يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك وهو يرثها إن لم يكن لها ولد فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك وإن كانوا إخوة رجالا ونساء فللذكر مثل حظ الأنثيين يبين الله لكم أن تضلوا والله بكل شيء عليم
3 (من سورة النساء)
شكل 3-6: حجر عربي منقوش (من صورة فوتوغرافية التقطها المؤلف في القاهرة).
والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول غير إخراج (من سورة البقرة)
ونظام القضاء والمرافعات عند المسلمين بسيط إلى الغاية، أي أنه يقوم بالقضاء قاض منفرد معين من قبل ولي الأمر، ولا تستأنف أحكام القاضي، ويحضر الخصوم أمام القاضي بدعوة، ويترافعون إليه مشافهة ، ويعرضون عليه بيناتهم التي قد تكون قائمة على الإقرار أو الشهادة أو التحليف، فينطق بالحكم حالا، وقد أتيح لي في مراكش أن أشاهد إصدار هذه الأحكام المختصرة، فرأيت القاضي جالسا في الساحة التي هي أمام قصر الوالي، والخصوم والشهود حوله جثيا موجزين قضاياهم، وأحكام القاضي تنفذ فورا حينما يكون ذلك ممكنا كأن يأمر بجلد المذنب بضع جلدات.
أجل، قد لا تضمن تلك الطرق البسيطة العدل كما تضمنه طرقنا الأوربية المعقدة، ولكنها لا تضيع وقت المتقاضين الثمين على كل حال، ولا تثقلهم بالنفقات القضائية التي تدفع عادة في العالم المتمدن فتخرب بيوتهم غالبا.
وتكون أحكام أولئك القضاة عادلة على العموم مع بساطة تلك الطرق، فروح العدل والإنصاف نامية كثيرا في العرب، ويرجع نموها فيهم إلى أن العدل أساس الحياة في تلك المجتمعات التي لا تزال على الفطرة، لا إلى أمر القرآن وحده بالعدل على أن العدل من أحسن الفضائل.
ونختم قولنا في نظم العرب الاجتماعية بأن نذكر أن العرب يتصفون بروح المساواة المطلقة وفقا لنظمهم السياسية، وأن مبدأ المساواة الذي أعلن في أوربة قولا، لا فعلا، راسخ في طبائع الشرق رسوخا تاما، وأنه لا عهد للمسلمين بتلك الطبقات الاجتماعية التي أدى وجودها إلى أعنف الثورات في الغرب ولا يزال يؤدي، وأنه ليس من الصعب أن ترى في الشرق خادما زوجا لابنة سيده، وأن ترى أجراء منهم قد أصبحوا من الأعيان.
والكتاب الأوربيون الذين بحثوا عن بعد في شؤون أولئك الأقوام، وهم الذين لا يعلم الأوربيون من أمورهم سوى القليل، يستخفون بتلك النظم، ويقولون إنها أدنى من نظمنا كثيرا، ويتمنون قرب الوقت الذي تستولي فيه أوربة الطامعة على تلك البقاع.
وغير ذلك ما يبديه الباحثون المحققون، وإليك، مثلا، ما جاء في كتاب ثمين وضعه العالم المتدين مسيو لوپله الذي هو ممن أجادوا درس أمور الشرق:
صان المسلمون أنفسهم حتى الآن من مثل خطايا الغرب الهائلة فيما يمس رفاهية طبقات العمال، وتراهم يحافظون بإخلاص على النظم الباهرة التي يسود بها الإسلام بين الغني والفقير والسيد والأجير على العموم ، وليس من المبالغة أن يقال، إذن: إن الشعب الذي يزعم الأوربيون أنهم يرغبون في إصلاحه هو خير مثال في ذلك الأمر الجوهري. (3) نظم العرب السياسية
ذكرنا في الفصل الذي خصصناه للعرب في بغداد أهم عناصر دستورهم السياسي، وقلنا: إن إدارة الحكم العربية، ولا سيما المالية والضرائب والشرطة، كانت تسير سيرا رشيدا، ومن المؤسف أن كانت تلك الإدارة الرشيدة تستند إلى نظم سياسية ضعيفة إلى الغاية.
ولا شيء أكثر بساطة من نظم العرب السياسية، فقد قامت على مساواة الجميع التامة تحت سيد واحد، أي تحت وكيل الله في الأرض الذي كان الصاحب الوحيد لكل سلطة مدنية ودينية وحربية، والذي لم يكن في الدولة سلطة غير سلطته أو سلطة مندوبيه، ولم يعرف العرب قط نظام الإقطاع والأريستوقراطية والوظائف الوراثية.
وكان نظام العرب السياسي ديمقراطيا يديره سيد مطلق في الحقيقة، وساد مبدأ المساواة التامة في هذا النظام، ومن ذلك ما ذكرته من حكم عمر بن الخطاب في أمر لطمة ملك الغساسنة، الذي أسلم بعد واقعة اليرموك، لذلك العربي، فقد قضى عمر بن الخطاب أن يفتدي ذلك الملك الغساني نفسه، وإلا أمر ذلك العربي بأن يلطمه، وقد قال عمر بن الخطاب لذلك الملك الغساني: «إن الإسلام جمعكما وسوى بين الملك والسوقة.»
وكانت خلافة الخلفاء الأولين أمرا انتخابيا، ثم أصبحت الخلافة وراثية، أي صار الخلفاء يختارون من بين أبناء أسرتهم الذكور أصلحهم، وأمر مثل هذا حسن لعدم استناده في منح السلطة إلى النسب وحده، ولكنه كان يؤدي إلى تنافس أولئك الأبناء وتنازعهم تنازعا شديدا يمكن تلافيه لو كان النسب وحده حكما.
وإذ لم يكن الخلفاء قادرين على ممارسة سلطانهم في جميع أنحاء دولتهم كانوا مضطرين إلى إنابة ولاة عنهم؛ ليقوموا مقامهم في القضاء والقيادة والإدارة، وكان ينشأ عما يتمتع به هؤلاء الولاة من السلطة طمعهم في الاستقلال فيجدون فيما لديهم من السلطان المطلق وسائل لبلوغ ذلك، فكان على خلفاء المشرق والمغرب أن يحاربوهم على الدوام.
ولم ينشأ ضعف الخلفاء عن فتن الولاة الدائمة وحدها، بل هنالك علل كانت تفت في عضد الدولة العربية أيضا، ومن أهمها: اختلاف الشعوب التي خضعت لشريعة القرآن فيما بين مراكش والهند، فإذا كان القرآن ملائما لاحتياجات بعض الأمم فإنه لم يلائم احتياجات بعضها الآخر، وإذا كان السوريون واليهود والبربر والنصارى ... إلخ، قد خضعوا لنظم قاهريهم حينا من الزمن فإنهم لم يقصروا في التخلص منها بعد أن رأوها غير ملائمة لاحتياجاتهم بدرجة الكفاية.
شكل 3-7: نبراس مسجد في القاهرة.
وكانت تلك النظم السياسية سبب عظمة العرب مع ما فيها من عوامل الضعف، ولا شيء أصوب من جمع محمد لجميع السلطات المدنية والحربية والدينية في يد واحدة أيام كانت جزيرة العرب مجزأة، ما استطعنا أن نقدر قيمة ذلك بنتائجه، فقد فتح العرب العالم في قرن واحد بعد أن كانوا قبائل من شباه البرابرة المتحاربين قبل ظهور محمد.
وقد يؤدي مثل هذه النظم إلى عظمة الأمة أو انحطاطها تبعا للزمن، وقد أوضحت هذا التناقض الظاهر في الفصل الذي خصصته في كتابي السابق لدرس ما لاستعداد المجتمعات من التأثير المتقلب في تطورها، فبعد أن بينت فيه أن الأمم التي خضعت لشرائع ثابتة استطاعت أن تخرج من طور الهمجية ذكرت أن الأمم المتمدنة التي داومت على التقدم هي التي تخلصت من دائرة تلك الشرائع بالتدريج. والعرب، الذين استطاعوا بفضل محمد أن يحققوا أحد ذينك الشرطين فيخرجوا من جاهليتهم، لم يعرفوا كيف يلائمون الشرط الثاني فدخلوا دور الانحطاط، والعرب، بعد أن جاءهم رجل عظيم جمع كلمتهم المتفرقة بشريعته، لم يظهر منهم رجل عظيم آخر ليخرجهم من دائرة تلك الشريعة.
وعاد القرآن، الذي لاءم مشاعر الأمة العربية واحتياجاتها أيام محمد ملاءمة تامة، غير ما كان عليه بعد بضعة قرون، ولو كان القرآن دستورا دينيا فقط ما كان هنالك كبير محذور، ولكن القرآن إذ كان دستورا سياسيا ومدنيا أيضا، وكان بطبيعته ثابتا، بدت عدم المطابقة بينه وبين الاحتياجات الدائمة التحول والأمم ونظمها الثابتة، وحالت هذه النظم دون تقدم تلك الأمم التي قيدت بقيود الماضي .
ويبدو أكثر النظم المشتقة من القرآن على شيء من المرونة مع ثباتها، وإنما الذي هو ثابت غير مرن منها هو النظام الإسلامي السياسي القائل بجمع جميع السلطات في يد سيد عال مطلق معدود وكيل الله في الأرض.
وإذا نظرت إلى العرب أيام سلطانهم، أو إلى مختلف الأمم التي داومت بعدهم على نشر القرآن، رأيت نظمها السياسية متجلية في شكل ملكي حربي وديني مطلق، وإذا كانت هذه النظم قادرة على إقامة الدول الكبيرة بسرعة لم تكفل بقاءها إلا نادرا كما دل على ذلك تاريخ العرب والمغول والترك الذين لم تتقدم دولهم العظيمة، وهي التي كان عليها أن تكافح المصاعب الداخلية والخارجية المتنوعة، إلا عندما كان على رأسها رجال عظماء.
من أجل ذلك ترى الدول الحربية الواسعة التي تقوم بسرعة تسقط بسرعة غالبا، ويدب الانحطاط في مفاصلها عندما يخلف الرجل العبقري الذي قبض على زمامها رجل أو اثنان من ذوي العقول المتوسطة، شأن الأندلس والمشرق، فبعد أن كان عصر هارون الرشيد وابنه المأمون أنضر ما رأته دولة الخلافة في بغداد جاء دور الانحطاط حالا.
شكل 3-8: شارع في طنجة (من صورة فوتوغرافية).
وكان عهد آخر الأمويين في إسپانية أقوى ما وصل إليه العرب فيها بفضل وزيره الأكبر المنصور، فلما مات هذا الوزير في أوائل القرن الحادي عشر من الميلاد سقط ملكهم معه، وأصبح البربر سادة البلاد، وصار كل وال ينادي بنفسه ملكا، ثم أفل نجم العرب السياسي في إسپانية بفعل هذا الانقسام أكثر مما كان بفعل أعدائهم في الخارج، وبهذا أثبت لنا العرب أن النظم التي تبلغ الأمة بها أعلى درجات العظمة يمكن أن تسقط بها في هوة الانحطاط، وذلك كما قلنا آنفا.
شكل 3-9: سوق كبيرة في طنجة (مراكش) (من صورة فوتوغرافية).
هوامش
الفصل الرابع
المرأة في الشرق
(1) أسباب تعدد الزوجات في الشرق
لا يدرك المرء نظم أمة أجنبية إلا إذا تناسى، قليلا، مبادئ البيئة التي يعيش فيها وفرض نفسه من أبناء تلك الأمة، ولا سيما إذا كانت تلك النظم من نوع مبدأ تعدد الزوجات الذي لما تعلم حقيقة أمره إلا قليلا فأسيء الحكم فيه.
ولا نذكر نظاما أنحى الأوربيون عليه بالائمة كمبدأ تعدد الزوجات، كما أننا لا نذكر نظاما أخطأ الأوربيون في إدراكه كذلك المبدأ، وذلك أن أكثر مؤرخي أوربة اتزانا يرون أن مبدأ تعدد الزوجات حجر الزاوية في الإسلام، وأنه سبب انتشار القرآن، وأنه علة انحطاط الشرقيين، ونشأت عن هذه المزاعم الغريبة، على العموم، أصوات سخط رحمة بأولئك البائسات المكدسات في دوائر الحريم، واللائي يرقبهن خصيان غلاظ، ويقتلن حينما يكرههن سادتهن.
ذلك الوصف مخالف للحق، وأرجو أن يثبت عند القارئ الذي يقرأ هذا الفصل، بعد أن يطرح عنه أوهامه الأوربية جانبا، أن مبدأ تعدد الزوجات الشرقي نظام طيب يرفع المستوى الأخلاقي في الأمم التي تقول به، ويزيد الأسرة ارتباطا، ويمنح المرأة احتراما وسعادة لا تراهما في أوربة.
وأقول، قبل إثبات ذلك: إن مبدأ تعدد الزوجات ليس خاصا بالإسلام، فقد عرفه اليهود والفرس والعرب وغيرهم من أمم الشرق قبل ظهور محمد، ولم تر الأمم التي اعتنقت الإسلام فيه غنما جديدا إذن، ولا نعتقد، مع ذلك، وجود ديانة قوية تستطيع أن تحول الطبائع فتبتدع، أو تمنع، مثل ذلك المبدأ الذي هو وليد جو الشرقيين وعروقهم وطرق حياتهم.
وتأثير الجو والعرق من الوضوح بحيث لا يحتاج إلى إيضاح كبير، وبما أن تركيب المرأة الجثماني وأمومتها وأمراضها ... إلخ. مما يكرهها على الابتعاد عن زوجها في الغالب، وبما أن التأيم المؤقت مما يتعذر في جو الشرق، ولا يلائم مزاج الشرقيين، كان مبدأ تعدد الزوجات ضربة لازب.
وفي الغرب، حيث الجو والمزاج أقل هيمنة، لم يكن مبدأ الاقتصار على زوجة واحدة في غير القوانين، لا في الطبائع حيث يندر.
ولا أرى سببا لجعل مبدأ تعدد الزوجات الشرعي عند الشرقيين أدنى مرتبة من مبدأ تعدد الزوجات السري عند الأوربيين، وأبصر العكس فأرى ما يجعله أسنى منه، وبهذا ندرك مغزى تعجب الشرقيين الذين يزورون مدننا الكبيرة من احتجاجنا عليهم ونظرهم إلى هذا الاحتجاج شزرا.
ومن السهل أن ندرك علل إقرار الشرائع الشرقية لمبدأ تعدد الزوجات بعد أن نشأ عن العوامل الجثمانية المذكورة آنفا، فحب الشرقيين الجم لكثرة الأولاد، وميلهم الشديد إلى حياة الأسرة وخلق الإنصاف الذي يردعهم عن ترك المرأة غير الشرعية بعد أن يكرهوها، خلافا لما يقع في أوربة، وغير ذلك من الأسباب الكثيرة التي أعود إليها عما قليل، كلها أمور تحفز الشرائع إلى تأييد العادات التي هي وليدة الطبائع، وإذا نظرنا إلى أن القوانين لا تلبث أن تطابق العادات كان لنا أن نقول: إن تعدد الزوجات غير الشرعي في أوربة لا يلبث أن تؤيده القوانين.
شكل 4-1: بائعة خزف في مصر العليا (صورة مأخوذة من إيبر).
شكل 4-2: فتاة قبطية (من تصوير إيبر).
ومن أسباب تعدد الزوجات التي لم أذكرها بعد ما هو خاص ببعض الطبقات، وما يفيد بيانه للدلالة على سيطرته في بعض البلدان، حتى إن أكثر الأوربيين تدينا اضطروا إلى الاعتراف بضرورته حينما أنعموا النظر في الشعوب التي ظهر فيها مبدأ تعدد الزوجات؛ ومن ذلك أن رأى مؤلف كتاب «عمال الشرق» العالم «مسيو لوپله» بيان الضرورة التي تدفع أرباب الأسر الزراعية في الشرق إلى زيادة عدد نسائهم، وكون النساء في هذه الأسر هن اللائي يحرضن أزواجهن على البناء بزوجات أخر من غير أن يتوجعن، قال مسيو لوپله:
يتزوج رب الأسرة صغيرا على العموم، وتضعف زوجته الأولى بعد أن تكون ذات أولاد كثيرة على حين يبقى تام القوة، فيضطر إلى الزواج مرة أخرى بتحريض الزوجة الأولى غالبا وبموافقتها تقريبا ... وقد يعجب المرء أول وهلة، من حمل امرأة زوجها على الزواج بامرأة أخرى، ولكن العجب يزول حينما نعلم أن النساء في الأسر الإسلامية «الزراعية» هن اللائي يقمن بشئون المنزل مهما كانت شاقة، وذلك أن الفلاحين إذ كانوا يجهلون أمر اتخاذ الخوادم لم يبق للنساء غير الاستعانة بالإماء والقريبات اللائي يكن في الزمرة نفسها، وقد لا يكون هنالك قريبات، وقد لا تسمح الأحوال باشتراء إماء، وقد تصبح الإماء عند اشترائهن جواري منافسات للزوجة الأولى في الحظوة لدى رب الأسرة، فلا يكون لدى الزوجة الأولى ما يستلزم تفضيل الإماء هؤلاء على الزوجات الشرعيات الأخر، ومن ثم ترى أن الزوجة تشير في تلك الأحوال على زوجها بأن يبني بزوجة أخرى، ولا سيما إذا علمت أنها تصنع ذلك حينما تكون آخذة في الهرم منهمكة في واجبات الأمومة.
ومن العوامل المهمة التي ذكرها ذلك المؤلف في تعدد الزوجات عند الشرقيين هو «حبهم للذرية الكثيرين، ولا عجب، فالعقم عند الشرقيين من أعظم ما يصاب به إنسان، والشرقي إذا ما رزق بضعة أولاد طمع في زيادة عددهم، وتزوج بنساء أخر وصولا إلى هذا الغرض.»
ولاحظ ذلك المحقق أن تعدد الزوجات عند الشرقيين لا يؤدي إلى تحاسدهن وتنافسهن، ويرى الأوربيون استحالة ذلك لما يساورهم من مبتسرات لا ريب، ورأي الأوربيين هذا ناشئ عن نظرنا إلى الأمور من خلال مشاعرنا، لا من خلال مشاعر الآخرين، ويكفي انقضاء بضعة أجيال لإطفاء مبتسرات أو إحداثها، ويمكننا أن ندرك ضرورة تبديل رأينا في هذا الأمر عند الرجوع إلى أدوار المجتمعات الفطرية الأولى حين كان النساء شيئا مشاعا بين رجال القبيلة الواحدة، أو إلى الأدوار التي هي أقرب من تلك حين كان النساء شيئا مشاعا بين أفراد الأسرة الواحدة، أو إلى أيامنا التي نرى فيها وجود هذه الطبائع في بعض أجزاء الهند. (2) تأثير الإسلام في أحوال النساء في الشرق
لم يقتصر الإسلام على إقرار مبدأ تعدد الزوجات الذي كان موجودا قبل ظهوره، بل كان ذا تأثير عظيم في حال المرأة في الشرق، والإسلام قد رفع حال المرأة الاجتماعي وشأنها رفعا عظيما بدلا من خفضها خلافا للمزاعم المكررة على غير هدى، والقرآن قد منح المرأة حقوقا إرثية أحسن مما في أكثر قوانيننا الأوربية كما أثبت ذلك حينما بحثت في حقوق الإرث عند العرب، أجل، أباح القرآن الطلاق كما أباحته قوانين أوربة التي قالت به، ولكنه اشترط أن يكون «للمطلقات متاع بالمعروف.»
وأحسن طريق لإدراك تأثير الإسلام في أحوال النساء في الشرق هو أن نبحث في حالهن قبل القرآن وبعده.
يمكننا استجلاء الحال التي كانت عليها النساء قبل ظهور النبي من التحريم الآتي الذي جاء في القرآن:
حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات الأخ وبنات الأخت وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة وأمهات نسائكم وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف إن الله كان غفورا رحيما .
وتحريم مثل هذا، وإن كان لا يدل على رقي عادات الأمة التي اقتضته، يهون أمر دلالته عندما نعلم أن ما أشار إليه من العادات كان شائعا بين جميع الأمم السامية، فالتحريم الذي جاء في التوراة (الأصحاح الثامن عشر من سفر اللاويين 6-18) مثل ما جاء في القرآن، ويشير إلى أمور أشد خطرا مما أشار إليه القرآن.
شكل 4-3: امرأة بربرية من الجزائر (من صورة فوتوغرافية).
وكان الرجال قبل ظهور محمد يعدون منزلة النساء متوسطة بين الأنعام والإنسان من بعض الوجوه، أي أداة للاستيلاد والخدمة، وكانوا يعدون ولادة البنات مصيبة، وشاعت عادة الوأد، وصار لا يجادل فيها كما لو كانت البنات جراء
1
يقذف بها في الماء، ويمكننا أن نتمثل عادة الوأد عند العرب من المحاورة الآتية التي وقعت بين رئيس بني تميم قيس ومحمد، حينما رأى قيس محمدا يضع إحدى بناته على ركبتيه، والتي رواها كوسان دوپرسڨال:
قيس :
من هذه الشاة التي تشمها؟
محمد :
ابنتي.
قيس :
والله كان لي بنات كثير، فوأدتهن من غير أن أشم واحدة منهن.
محمد (صارخا) :
ويل لك، يظهر أن الله نزع الرحمة من قلبك، فلا تعرف أطيب النعم التي من الله بها على الإنسان.
وإذا أردنا أن نعلم درجة تأثير القرآن في أمر النساء وجب علينا أن ننظر إليهن أيام ازدهار حضارة العرب، وقد ظهر مما قصه المؤرخون، فنذكره فيما بعد، أنه كان لهن من الشأن ما اتفق لأخواتهن حديثا في أوربة، وذلك حين انتشار فروسية عرب الأندلس وظرفهم.
وقد ذكرنا في فصل سابق أن الأوربيين أخذوا عن العرب مبادئ الفروسية وما اقتضته من احترام المرأة ، والإسلام، إذن، لا النصرانية، هو الذي رفع المرأة من الدرك الأسفل الذي كانت فيه، وذلك خلافا للاعتقاد الشائع، وإذا نظرت إلى سنيورات نصارى الدور الأول من القرون الوسطى رأيتهم لم يحملوا شيئا من الحرمة للنساء، وإذا تصفحت كتب تاريخ ذلك الزمن وجدت ما يزيل كل شك في هذا الأمر، وعلمت أن رجال عصر الإقطاع كانوا غلاظا نحو النساء قبل أن يتعلم النصارى من العرب أمر معاملتهن بالحسنى، ومن ذلك ما جاء في تاريخ غاران لولوهيران عن معاملة النساء في عصر شارلمان وعن معاملة شارلمان نفسه لهن كما يأتي: «انقض القيصر شارلمان على أخته في أثناء جدال، وأخذ بشعرها وضربها ضربا مبرحا، وكسر بقفازه الحديدي ثلاثا من أسنانها»، فلو حدث مثل هذا الجدل مع سائق عربة في الوقت الحاضر لبدا هذا السائق أرق منه لا ريب.
ومن الأدلة على أهمية النساء أيام نضارة حضارة العرب كثرة من اشتهر منهن بمعارفهن العلمية والأدبية، فقد ذاع صيت عدد غير قليل منهن في العصر العباسي في المشرق والعصر الأموي في إسپانية، ونذكر منهن بنت أحد الخلفاء، الذي كان جالسا على عرش الخلافة سنة 860 (!) ولادة التي لقبت بسافو قرطبة، وقال كونده ملخصا ما ذكره مؤرخو عبد الرحمن الثالث:
كان عبد الرحمن الثالث، وهو يتمتع بأطايب مدينة الزهراء، يحب أن يستمع إلى أغاني جاريته وأمينة سره العذبة مزنة وإلى فتاة قرطبة الكريمة عائشة، التي روى ابن حيان أنها كانت أعقل بنات عصرها وأجملهن وأعلمهن، وإلى صفية التي كانت شاعرة باهرة الجمال ...»، وأضاف مؤرخو الحكم الثاني إلى ذلك قولهم: «إن نساء ذلك الزمن - الذي كان للعلم والأدب شأن عظيم فيه ببلاد الأندلس - كن محبات للدرس في خدورهن، وكان الكثير منهن يتميزن بدماثتهن ومعارفهن، وكان قصر الخليفة يضم لبنى، أي هذه الفتاة الجميلة العالمة بالنحو والشعر والحساب وسائر العلوم والكاتبة البارعة التي كان الخليفة يعتمد عليها في كتابة رسائله الخاصة، والتي لم يكن في القصر مثلها دقة تفكير وعذوبة قريض، وكانت فاطمة تكتب بإتقان نادر، وتنسخ كتبا للخليفة ، ويعجب جميع العلماء برسائلها، وتملك مجموعة ثمينة من كتب الفن والعلوم، وكانت خديجة تنظم الأبيات الرائعة وتنشدها بصوتها الساحر، وكانت مريم تعلم بنات الأسر الراقية في أشبيلية العلم والشعر مع شهرة عظيمة فتخرجت في مدرستها نساء بارعات كثيرات، وكانت راضية، المعروفة بالكوكب السعيد والتي حررها الخليفة عبد الرحمن وتنزل عنها لابنه الحكم، نابغة عصرها في القريض ووضع القصص الرائعة فساحت في الشرق بعد موت الخليفة، وكانت محل هتاف العلماء في كل مكان.
وخبت حضارة قدماء الخلفاء الساطعة في عهد وارثي العرب، ولا سيما في عهد الترك، فنقص شأن النساء كثيرا، وسأبين في مكان آخر أن حالتهن الحاضرة أفضل من حالة أخواتهن في أوربة حتى عند الترك، وما تقدم يثبت أن نقصان شأنهن حدث خلافا للقرآن، لا بسبب القرآن على كل حال.
وهنا نستطيع أن نكرر، إذن، قولنا: إن الإسلام، الذي رفع المرأة كثيرا، بعيد من خفضها، ولم نكن أول من دافع عن هذا الرأي، فقد سبقنا إلى مثله كوسان دوپرسڨال ثم مسيو بارتلمي سنت هيلر.
شكل 4-4: امرأة بربرية من جوار بسكرة (من صورة فوتوغرافية).
ولم يقتصر فضل الإسلام على رفع شأن المرأة، بل نضيف إلى هذا أنه أول دين فعل ذلك، ويسهل إثبات هذا ببياننا أن جميع الأديان والأمم التي جاءت قبل العرب أساءت إلى المرأة، وهذا ما أوضحناه في كتابنا الأخير، فلا نرى غير تكرار ما ذكرناه فيه لإقناع القارئ: كان الأغارقة، على العموم، يعدون النساء من المخلوقات المنحطة التي لا تنفع لغير دوام النسل وتدبير المنزل، فإذا وضعت المرأة ولدا دميما قضوا عليها، ومن ذلك قول مسيو تروپلونغ: كانت المرأة السيئة الحظ التي لا تضع في إسپارطة ولدا قويا صالحا للجندية تقتل، وقال: كانت المرأة الولود تؤخذ من زوجها بطريق العارية؛ لتلد للوطن أولادا من رجل آخر.
ولم ينل حظوة من نساء الإغريق في دور ازدهار الحضارة اليونانية سوى بنات الهوى اللاتي كن وحدهن على شيء من التخرج.
وكان جميع قدماء المشترعين يبدون مثل تلك القسوة على المرأة ، ومن ذلك قول شرائع الهندوس: «ليس المصير المقدر والريح والموت والجحيم والسم والأفاعي والنار أسوأ من المرأة.»
ولم تكن التوراة أرحم بالمرأة من شرائع الهند، ومن ذلك قول سفر الجامعة: «إن المرأة أمر من الموت»، وإن «الصالح أمام الله ينجو منها ... رجلا واحدا بين ألف وجدت، أما امرأة فبين كل أولئك لم أجد.»
شكل 4-5: فتاة مراكشية (من صورة فوتوغرافية).
وليست أمثال مختلف الأمم أكثر اعتدالا، فالمثل الصيني يقول: «أنصت لزوجتك ولا تصدقها»، والمثل الروسي يقول: «لا تجد في كل عشر نسوة غير روح واحدة»، والمثل الإيطالي يقول: «المهماز للفرس الجواد والفرس الجموح، والعصا للمرأة الصالحة والمرأة الطالحة»، والمثل الإسپاني يقول: «احذر المرأة الفاسدة ولا تركن إلى المرأة الفاضلة.»
شكل 4-6: فتاة عربية من الجزائر (من صورة فوتوغرافية).
وتعد جميع الشرائع الهندوسية واليونانية والرومانية والحديثة المرأة من فصيلة الإماء أو الصبيان، ومن ذلك قول شريعة منو: «تخضع المرأة في طفولتها لأبيها، وفي شبابها لزوجها، وفي تأيمها لأبنائها إذا كان لها أبناء، وإلا فإنها تخضع لأقرباء بعلها، أي لا يجوز ترك أمرها لها»، ويقرب من هذا ما ورد في شرائع اليونان والرومان، فقد كان سلطان الرجل في رومة على زوجته مطلقا، وكانت تعد أمة لا قيمة لها في المجتمع، ولم يكن لها قاض سوى زوجها الذي بيده حق حياتها وحق موتها، ولم تعامل الشريعة اليونانية المرأة بأحسن من هذا، وهي لم تعترف لها بأي حق، ولا بحق الميراث.
ومن غير أن نذهب بعيدا إلى أحكام القوانين والديانات القديمة في نقص المرأة عقلا وأخلاقا، أذكر أن بعض العلماء المعاصرين أثبتوا ذلك النقص مستندين إلى عوامل تشريحية ونفسية كثيرة، فحاولوا إقامة الدليل على أن الحضارات كلما تقدمت اختلفت المرأة عن الرجل ذكاء.
2
ولا يظن القارئ أن العرب، الذين احترموا المرأة أكثر من أية أمة ظهرت، لم يوافقوا على الرأي القديم القائل بنقص المرأة عقلا وأخلاقا، فشكوكهم في وفاء المرأة كبيرة إلى الغاية، وذلك أن المرأة في نظرهم من المخلوقات الصغيرة الجميلة الفاتنة العابثة اللاهية التي لا يركن إلى ثبات جنانها طرفة عين، وقديما قال مشترع الهند الرزين منو الذي ظهر قبل محمد بأكثر من ألفي سنة: «تعد المرأة زانية إذا خلت بالرجل مدة تكفي لإنضاج بيضة.»
أجل، إن المدة التي حددها منو لإصدار هذا الحكم الصارم قليلة، ولكنه نشأ عن اعتقاد الشرقيين صحة ذلك تقييدهم لحرية المرأة وإكراهها على العيش في دوائر الحريم، وهذا لا يعني أنهم يرون عصمة المرأة بين الجدر والخصيان، وإنما حملوها على العيش في هذه الدوائر لعدم اكتشافهم علاجا أفضل منه، ومن ينعم النظر في أقاصيصهم الشعبية ير فيها أثرا لهذا الاعتقاد، فاقرأ رواية ألف ليلة وليلة العجيبة، مثلا تجد أن فاتحتها الدقيقة تدور حول ميل المرأة إلى الخداع بطبيعتها، وأن المرأة لو حبست في قفص من زجاج وراقبها ملك مغيار لاستطاعت، في الغالب، أن تخادع كما تشاء، والشرقيون، إذ كانوا مطلعين بغرائزهم على سرائر الأمور، يرون من طبيعة المرأة أن تكون غادرة غير وفية كما أن الطيران من طبيعة الطير، والشرقيون، إذ كانوا حريصين على صفاء نسلهم، اتخذوا ما يروقهم من وسائل الحذر منعا لحدوث ما يخشون. (3) الزواج عند العرب
أباح القرآن للمسلم أن يتزوج أربع نسوة من الحرائر وما شاء من الإماء، ويعد أولاد الإماء شرعيين كأولاد الحرائر.
وللزوج أن يطلق زوجته، ولكنه يجب عليه أن يصنع ما يكفل به مصيرها.
وفي بلد كالشرق، حيث يسهل الزواج فيتزوج الرجال والنساء في ميعة الشباب يدرك السر في إمكان صرامة الطبائع بأشد مما في أوربة، والحق أن الطبائع في الشرق صارمة، وأن من النادر أن ترى رجلا يتملق زوجة رجل آخر لمخالفة ذلك للطبيعة عند الشرقيين مع عده أمرا طبيعيا لدى الأوربيين، «فلا ترى هنالك، كما قال الدكتور إيزنبرت، مثل ما يكدر صفو الحياة الزوجية في أوربة من الخيانة التي هي أعظم إفسادا للأخلاق من تعدد الزوجات على ما يحتمل.»
3
وتحاط المرأة في الشرق برقابة شديدة، ولا يزورها رجل، ولا تخرج من بيتها إلا مبرقعة، وإذا عدوت الآستانة وجدت النساء الشرقيات مصحوبات على العموم، ولا يتعرض أحد لهن إلا نادرا، ولا نعجب كثيرا، إذن، من قول الشرقيين إن نساءهم أفضل من الأوربيات.
ولا يزال رب الأسرة الشرقية محافظا على سلطانه خلافا لما هو واقع في الغرب، ولا تكلم النساء الشرقيات أزواجهن إلا بأدب، ويقتدي الأولاد بهن بطبيعة الحال، ويتمتع رب الأسرة الشرقية، في الحقيقة، بمثل ما كان يتمتع به رب الأسرة في رومة الغابرة من السلطان والامتيازات، ولا يجد الشرقيون فينا ما يثير حسدهم من هذه الناحية.
وينظر العرب شزرا إلى العزوبة، والعزوبة تزيد في الغرب شيوعا كل يوم كما دلت عليه الإحصاءات، ومتى بلغ العربي العشرين من عمره تزوج على العموم، ومتى بلغت العربية ما بين السنة العاشرة والسنة الثانية عشرة من عمرها تزوجت على العموم، وقد اعترف إيبر بفائدة هذه العادة فقال: «لا يسعنا إلا الشهادة بحسن تلك الروح البيتية، وصلاح تلك الحياة المنزلية.»
شكل 4-7: فتاة سورية (من صورة فوتوغرافية).
ويمتاز الزواج الشرقي من الزواج الأوربي، فيما عدا مبدأ تعدد الزوجات، بأن الزوج في الشرق هو الذي يدفع إلى أهل الزوجة مهرا متحولا بحسب ثروتيهما، وبأن الزوجة عند أكثر الغربيين، ولا سيما طبقاتهم الموسرة، هي التي تدفع مبلغا من المال يعرف بالدوتة لتنال زوجا.
وحقوق الزوجة التي نص عليها القرآن ومفسروه أفضل كثيرا من حقوق الزوجة الأوربية، فالزوجة المسلمة تتمتع بأموالها الخاصة فضلا عن مهرها، وعن أنه لا يطلب منها أن تشترك في الإنفاق على أمور المنزل، وهي إذا أصبحت طالقا أخذت نفقة، وهي إذا تأيمت أخذت نفقة سنة واحدة، ونالت حصة من تركة زوجها.
وتعامل المرأة المسلمة باحترام عظيم فضلا عن تلك الامتيازات، وتنال بذلك حالا أجمع الباحثون المنصفون، ومنهم من ناصب بعاطفته مبدأ تعدد الزوجات العداء، على الاعتراف بحسنها، ومن هؤلاء مسيو دو أمسيس الذي قال في معرض الحديث عن المرأة في الشرق، وذلك أن أنحى باللائمة على تعدد الزوجات وفق وجهة نظره الأوربية: «إن المرأة في الشرق تحترم بنبل وكرم على العموم، فلا أحد يستطيع أن يرفع يده عليها في الطريق، ولا يجرؤ جندي أن يسيء إلى أوقح نساء الشعب حتى في أثناء الشغب، وفي الشرق يشمل البعل زوجته بعين رعايته، وفي الشرق يبلغ الاعتناء بالأم درجة العبادة، وفي الشرق لا تجد رجلا يقدم على إلزام زوجته بالعمل ليستفيد من كسبها، وفي الشرق يدفع الزوج مهرا إلى زوجته فلا تجيء الزوجة إلى بيت زوجها مصحوبة بأكثر من جهازها ومن بضع إماء لها، وإذا طلقت الزوجة في الشرق أو هجرت أعطاها الرجل نفقة لتعيش عن سعة، وحمل الزوج بعد الفراق على القيام بهذا الإنفاق يمنعه من إساءة معاملتها حذر مطالبته بالفراق.»
شكل 4-8: امرأة تركية بالزي البلدي (من صورة فوتوغرافية).
والاعتراض الوحيد الظاهر الذي يوجه إلى مبدأ تعدد الزوجات هو أنه يجعل المرأة تعسة، وقد أجمع على فساد هذا الزعم الذي طال أمده جميع الأوربيين الذين درسوا أمره في الشرق عن كثب، فبعد أن ذكر مسيو إيبر، الذي بدا خصما لمبدأ تعدد الزوجات مع تردد، أن المسلمات لا يتظلمن منه قال: «قد يظهر لأخواتهن الأوربيات أنهن من الذليلات، ولكنهن لا يشعرن بأنهن أسيرات مطلقا، وهن يقلن - في الغالب - لنسائنا اللاتي يزرنهن: إنهن لا يقبلن استبدال حالنا بحالهن.»
ولم يكن مدير مدرسة اللغات في القاهرة، مسيو دوڨوجاني، أقل صراحة من ذلك: فقد قال: «تعد المسلمات أنفسهن غير تعسات من حياة العزلة التي يفرضها عليهن نظام الحريم، فهن إذ يولدن في دوائر الحريم غالبا يترعرعن فيها جاهلات وجود حياة لبنات جنسهن أفضل من تلك الحياة معرضات عن الحرية التي تتمتع بها الأوربيات، ولا غرو، فدوائر الحريم كانت مسرح طفولتهن ومسراتهن الأولى وهواجسهن الأولى. «ويقال إن العادة طبيعة ثانية، فإذا صح هذا القول كانت حياة الحريم طبيعة ثانية لبنات الشرق، فهن إذ يتعودن السير في دائرة يعرفن حدودها لا يفكرن حتى في التحرر منها، وهن حين يتزوجن ينتقلن من دوائر آبائهن إلى دوائر أزواجهن حيث يتمتعن بأنعم جديدة ويفتحن قلوبهن، الخالية من ترح تورثه تربية دقيقة، لمعاني السعادة، وما يلاقينه من رعاية أزواجهن يجعل هذه السعادة أمرا ميسورا، والمسلم يحبو بكل جميل وبكل ثمين، والمسلم يحب أن يعرض في دوائر حريمه كل ما ينم على الترف والزخرف مع أنه يرضى لنفسه برقعة متضعة إذا ما قيست بتلك.»
ونقض ذلك العالم الرأي القائل: «إن نساء الشرق جاهلات جهلا عميقا»، وذكر أنهن أعظم تعليما من أكثر نساء أوربة، وأن منهن من ينتسبن إلى أرقى الطبقات، وقال: «إن التعليم كثير الانتشار في دوائر الحريم، وليس من القليل أن تجد نساء متزوجات وغير متزوجات تجيد كل واحدة منهن العربية والفرنسية والإنكليزية والتركية تكلما وكتابة، فإذا ما اجتمع عدد كبير من المسلمات الراقيات في دوائر الحريم تحادثن باللغة الفرنسية غالبا»، وأما أنا فلم أشاهد عددا كبيرا من الباريسيات اللاتي يتكلمن بأربع لغات تكلما صحيحا أو غير صحيح.
ولا تقل: إن طرق حياة النساء في الشرق مانعة من تعليمهن في كل وقت، فقد رأيت مما تقدم أن عدد النساء اللاتي اشتهرن أيام ازدهار حضارة العرب بعلومهن كان كثيرا إلى الغاية، ولم يستند الكتاب الذين تحدثوا عن جهل المرأة الشرقية إلا إلى حال الإماء اللاتي يجلبن من أقاصي الأقطار، ويشترين من أسواق النخاسة ويشاهدن في بعض دوائر الحريم، وما هؤلاء الكتاب إلا كمن يستنبط رقي السيدة الباريسية الفاضلة من حال خادمة غرفتها. (4) الحريم في الشرق
كلمة «الحريم» لفظ عام يدل عند العرب على كل ما هو مقدس، فإذا ما طبقت هذه الكلمة على منزل دلت على أمنع قسم منه وأشده حرمة لدى المسلم، أي على المكان الذي تسكنه نساؤه.
وينسج الأوربيون، على العموم، أفسد الآراء حول دوائر الحريم في الشرق، ويعدون دوائر الحريم دور فسق يسكنها نساء سجينات تعسات يقضين أوقاتهن في البطالة ويلعن حظهن.
وقد بينا درجة بعد هذه الأحكام من الصحة، ويقضي جميع الأوربيين الذين يدخلون دوائر الحريم كل العجب من حب النساء فيها لأزواجهن، ومن تربيتهن لأولادهن، وتدبيرهن لأمور منازلهن، ورضاهن بما قدر لهن، واعتقادهن تقهقرهن إذا ما حملن على تبديل حال الأوربيات بحالهن، وهن يتوجعن بإخلاص من إلزام الأوربيات بالأشغال وبالأعمال اليدوية مع أنهن لا يعتنين إلا بأسرهن وأزواجهن ذاهبات إلى أن المرأة خلقت لهذا.
وينظر الشرقيون إلى الأوربيين الذين يكرهون نساءهم على التجارة والصناعة والأشغال ... إلخ، كما ننظر إلى حصان أصيل يستخدمه صاحبه في جر عربة أو إدارة حجر رحى، فيجب ألا يكون على المرأة، عند الشرقيين، غير إدخال السرور إلى قلب الرجل وتربية الأسرة، ولا يرى الشرقيون أن المرأة التي تزاول أعمالا أخرى تستطيع أن تقوم بدورها هذا على الوجه اللائق.
وتترك الأمم بعض الأثر في نفس من يزورها، ولذا أشارك الشرقيين في رأيهم ذلك مشاركة تامة، وأقول، مع ذلك: إن كل شيء في دوائر الحريم لا يسير كما يرام، وإن دوائر الحريم في المدن التركية الكبيرة على الأقل، ولا سيما في الآستانة، تورث فسادا كبيرا، وإن أخلاق الحريم في الآستانة هينة في الوقت الحاضر كالتي تشاهد في عواصمنا الغربية الكبرى، وإن نفوذ الأوربيين وزيادة الترف والفقر الشائع، بعد الحرب الأخيرة على الخصوص، أمور أدت إلى انحلال الأخلاق، وإنك تجد في الآستانة نساء كثيرات، ومنهن من ينتسبن إلى بعض الأعيان، لا يصعب نيل الحظوة لديهن بدراهم تدفع إلى حرس الحريم من غير ضرورة إلى كبير عناء في الغالب.
شكل 4-9: داخل قصر أسعد باشا في دمشق (من صورة فوتوغرافية التقطها المؤلف).
وروت زوجة محمد باشا القبرسي الذي كان رئيسا للوزارة العثمانية في كتابها «الإنكليزي» الحديث الذي اسمه «ثلاثون سنة في الحريم»، وذلك بعد أن قضت حياتها في دوائر حريم أكابر الأعيان: أنه كان من عادة نساء السلطان عبد المجيد أن ينادين السابلة من نوافذ قصرهن، وأن من يلبي الدعوة من أولئك السابلة يخنق في الغد كتما للسر، وأن خبر ما وقع من الفسق لا يشيع على العموم، وأنه كان من حذر نازلي هانم بنت عزيز مصر، محمد علي، أن تقتل جميع عشاقها من المارين، وأنها كانت مع ذلك شديدة الغيرة كما يدل عليه ما يأتي: «حدث أن قال المرحوم زوجها، ذات مرة، للجارية التي أحضرت إليه ماء: «كفى يا حملي!»، فلما وصل خبر هذه الكلمة إلى تلك الأميرة اضطربت، وأمرت بخنق تلك الجارية التعسة، وحشو رأسها بالأرز وطهوه ووضعه في طبق وتقديمه إليه، فلما عرض عليه قالت له: «كل قطعة من حملك إذن»، فرمى هنالك منشفته وتوارى، ولم يبد مليا كارها لها بعد ذلك.»
شكل 4-10: كفة ميزان نحاسية مكفتة بالفضة مصنوعة في دمشق (من صورة فوتوغرافية التقطها المؤلف).
نقلت ما تقدم ليطلع القارئ على ما يقال في مدح مبدأ تعدد الزوجات، وعلى ما قد يقال في ذمة، وإنما أرى أن مساوئه تتجلى، على الخصوص، في دوائر حريم أعيان الترك حيث تحاك الدسائس التي هي سياسية أكثر منها غرامية، لا في دوائر حريم الطبقات الوسطى، وأرى أن مثل من يحاول تقدير نظام الحريم بتلك الروايات كمثل من يقدر مبدأ الاقتصار على زوجة واحدة بالفضائح التي تضج محاكمنا منها في كل يوم، أو بالقضايا التي ترفع على بعض رجال الدين النصراني؛ لعدم قيامهم بما يجب عليهم من الطهر والعفاف.
وإنني أطمع أن يعتقد القارئ، بعد وقوفه على ما تقدم، أن مبدأ تعدد الزوجات أمر طيب، وأن حب الأسرة وحسن الأدب وجميل الطبائع أكثر نموا في الأمم القائلة به مما في غيرها على العموم، وأن الإسلام حسن حال المرأة كثيرا، وأنه أول دين رفع شأنها، وأن المرأة في الشرق أكثر احتراما وثقافة وسعادة منها في أوربة على العموم تقريبا.
هوامش
الفصل الخامس
الدين والأخلاق
(1) تأثير الدين في المسلمين
تكلمنا فيما تقدم عن أحكام القرآن كما علمه محمد منذ ثلاثة عشر قرنا، ولكن القرآن دستور مكتوب، ويوجد فرق بين التعاليم المكتوبة والعمل بها في الغالب، وإذا ما أراد الإنسان أن يعلم أهمية هذه التعاليم وجب عليه أن يدرس درجة تأثيرها في الحياة، وحدود هذا التأثير هو الذي تهم معرفته إذن، وهذا لا نستطيعه إلا بالدخول فيما لم نأته حتى الآن من التفصيل: تأثير دين محمد في النفوس أعظم من تأثير أي دين آخر، ولا تزال العروق المختلفة التي اتخذت القرآن مرشدا لها تعمل بأحكامه كما كانت تفعل منذ ثلاثة عشر قرنا، أجل، قد تجد بين المسلمين عددا قليلا من الزنادقة والأخلياء، ولكنك لن ترى من يجرؤ منهم على انتهاك حرمة الإسلام في عدم الامتثال لتعاليمه الأساسية كالصلاة في المساجد وصوم رمضان الذي يراعي جميع المسلمين أحكامه بدقة مع ما في هذه الأحكام من صرامة لا تجد مثلها في صوم الأربعين الذي يقوم به بعض النصارى كما شاهدت ذلك في جميع الأقطار الإسلامية التي زرتها في آسية وإفريقية، ومن ذلك أن أتيح لي أن أركب سفينة نيلية كان فيها أفراد عصابة عربية مقرنين في الأصفاد، ومتهمين بأنواع الجرائم؛ فقضيت العجب حين رأيتهم، وهم الذي خرقوا حومة جميع القوانين الاجتماعية مستخفين بأقسى العقوبات، ولم يجرؤوا على انتهاك تعاليم النبي، وحين شاهدتهم يرفعون تلك الأصفاد عنهم وقت الصلاة ليسجدوا لله القهار ويعبدوه.
وعلى من يرغب في فهم حقيقة أمم الشرق، التي لم يدرك الأوربيون أمرها إلا قليلا، أن يتمثل سلطان الدين الكبير على نفوس أبنائها، وللدين ذي التأثير الضئيل فينا نفوذ عظيم فيهم، وبالدين يؤثر في نفوسهم، ولولا الدين ما حرك ساكن المصريين منذ الثورة الحديثة التي ضرجت مصر بالدماء، وقد تجلت لي صعوبة إدراك الناس لروح الأمم الأخرى من مطالعة الصحف الأوربية التي ذكرت أن ثورة عرب مصر الأخيرة حدثت لينالوا من الحقوق السياسية ما يجهلونه بالحقيقة جهلا تاما، وذلك أن العرب إذ تعودوا الإذعان لأهواء رب، ولم يصعب عليهم الإذعان لوكلائه، وأن الرجل الذي يخاطب العرب باسم الله يطاع لا محالة، ما علموا أنه يتكلم باسم الله حقا، فعلى الراصد المؤمن أو الملحد أن يحترم هذا الإيمان العميق الذي استطاع العرب أن يفتحوا العالم به فيما مضى، وهم اليوم يصبرون به على قسوة المصير.
حقا إن مثل تلك المعتقدات يورث الجموع أوهاما جميلة تعد عنوان السعادة، والجموع تبصر من خلالها نعيم الآخرة الذي لا ترى مثله في هذه الحياة الدنيا، وهي تصونها من الوقوع في اليأس وما يجر إليه اليأس من الفتن الشديدة، ويجب على من يستخف بتلك الأوهام أن يستخف بجميع الأوهام؛ ليكون منطقيا فيزدري المجد والطموح والحب وجميع الخيالات الساحرة الجديرة بالاحترام التي نقضي حياتنا وراء تحقيقها، وهذه الأوهام أعظم عامل في سير الإنسان حتى الآن، والمفكر الذي يكتشف ما يغني الناس عنها لم يولد بعد. (2) الطقوس الدينية في الإسلام (2-1) الفرق الإسلامية
أرى أن أقول بضع كلمات عن الفرق الإسلامية قبل وصف طقوس العرب الدينية الأساسية: يشتمل الإسلام على عدة فرق ككل دين، وبلغ عدد الفرق الإسلامية، منذ أوائل التاريخ الهجري، اثنتين وسبعين فرقة، وأكثر من هذا عدد الفرق الپروتستانية وحدها.
وفرقة أهل السنة وفرقة الشيعة أقدم الفرق الإسلامية وأهمها، فأما الشيعة: فيزعمون أن الخلافة لصهر النبي علي، ويحترمون عليا كاحترامهم لمحمد تقريبا، وأما أهل السنة: فيرون خلافة الخلفاء صحيحة وفق ترتيبهم، ويمثل أهل السنة الفريق الصحيح.
وإذا ما استثنينا تينك الفرقتين رأينا فرقا ثانوية في الإسلام، وأهمها الوهابية التي ظهرت منذ قرن فأقامت دولة قوية في وسط جزيرة العرب، وتزعم الوهابية أنها تعيد إلى الإسلام صفاءه القديم، والوهابيون پروتستان الإسلام في الحقيقة.
شكل 5-1: محراب في الجامع الأزهر بالقاهرة (من صورة فوتوغرافية التقطها المؤلف).
والفرس من الشيعة، والعرب والترك من أهل السنة، وأهل نجد من الوهابيين.
وينظر بعض تلك الفرق إلى بعض بعين التسامح، وتصلح الفرق في سورية - على الخصوص - أن تكون قدوة لمختلف الفرق النصرانية، وأنت لا تجد في العالم الإسلامي محاكم مثل محاكم التفتيش ألفت لحمل أنصار فرقة على انتحال مبادئ فرقة أخرى بالحديد والنار، وأنت تجد أساتذة منتسبين إلى مختلف المذاهب يعيش بعضهم بجانب بعض متفاهمين في الجامع الأزهر الذي هو أهم موئل للتعليم الديني في الشرق.
ولنذكر الآن طقوس العرب الدينية المهمة:
الصلاة:
الصلاة من أهم العبادات التي نصت عليها شريعة محمد. المسلم لا يفر من أدائها مهما كانت أمته وطبقته.
شكل 5-2: ضريح ولي عربي في غابة البليدة المقدسة (الجزائر، من صورة فوتوغرافية).
ويجب أن تؤدى الصلاة خمس مرات في أوقات معينة من كل يوم كما أمر النبي، ويدعو المؤذنون من المآذن، في بلاد الإسلام الواسعة، معشر المسلمين إلى الصلاة بأصواتهم الجهيرة وقت الفجر ووقت الظهر ووقت العصر ووقت المغرب ووقت العشاء، وصيغة الأذان هي:
الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدا رسول الله، حي على الصلاة.
وإذا ما تم الأذان قام المسلمون إلى الصلاة رافعين أيديهم إلى آذانهم، ثم وضعوها تحت سراتهم تالين ما تيسر من القرآن، ثم ركعوا وسجدوا غير مرة.
ويؤدي المسلمون صلاة الجمعة وقت الظهر في المساجد بعد أن يستمعوا إلى خطبة الإمام، ويدوم ذلك ثلاثة أرباع الساعة.
وعلى المسلم أن يتوضأ قبل الصلاة، وتجد في كل مسجد حوضا للوضوء.
الصوم:
الصوم من أهم عبادات الإسلام أيضا، ويصوم المسلمون على اختلاف طبقاتهم، ويراعي المسلمون في صيامهم شروط الصوم الشديدة بدقة يصعب على الأوربي أن يتصورها، ويقوم الصوم في شهر رمضان الذي يحل في فصول مختلفة مع السنين، على الامتناع عن الأكل والشرب والتدخين من الفجر إلى غروب الشمس.
ويتضمن امتناع المسلم عن الشرب والتدخين في النهار قهرا لنفسه، فإذا ما اقترب وقت الغروب رأيت المسلم حاملا سيغارته أو ممسكا أنبوب نارجيلته منتظرا، فارغ الصبر، إيذان المؤذن بحلول وقت الإفطار، وإذا ما غربت الشمس استدرك المسلم ما فاته، وتناول طعاما وافرا.
شكل 5-3: القسم الأعلى لمزار العباسيين الذي اكتشف حديثا في القاهرة (من صورة فوتوغرافية).
وفي ليالي شهر رمضان تنار القهوات، وتمثل الروايات، وتشاهد الألعاب بعد الإفطار، وتضاء المساجد.
الأعياد الدينية:
أعياد المسلمين الدينية، خلا رمضان كثيرة، وأذكر منها يوم مولد النبي، وليلة نصف شعبان المرهوبة التي توزن فيها مصاير الناس وتنظم، وعيد الأضحى الذي يدوم أربعة أيام من آخر أشهر السنة ويرمز إلى ضحية إبراهيم.
وتذبح كل أسرة خروفا أو حيوانا آخر في عيد الأضحى، ويلبس المسلمون أفخر الملابس، ويمشون في الأسواق، وتضاء المساجد بالمصابيح ذات الألوان، وأعد الليلة التي نظرت فيها إلى ميناء رودس المنار ليلة عيد الأضحى من أروع ما رأيت في حياتي .
وبلغ تأثير الإسلام في أدق شؤون العرب مبلغا تكون معه جميع مراسمهم أعمالا دينية، ومن تلك المراسم: أنكحتهم وختاناتهم التي وصفناها في فصل سابق، والتي ليست، في الحقيقة، سوى أعمال دينية ومدنية معا.
الحج:
يعد حج المسلم لمكة مرة في العمر من أهم ما أمر به محمد من الأمور الدينية والسياسية.
شكل 5-4: سقف جامع المؤيد في القاهرة (من تصوير كوست).
ويتم الحج بواسطة القوافل العظيمة التي يعد أهمها ما يخرج من القاهرة والشام، وتكون الرحلة طويلة، ويهلك فيها حجاج كثير، وتهون المشقة في سبيل زيارة الكعبة المشرفة الشهيرة أيام محمد، والتي يرجع أصلها إلى أقدم قرون التاريخ.
وإذا ما اقترب الحجاج من مكة حلقوا، وخلعوا ثيابهم، وقاموا بضروب الوضوء، ولبسوا الأزر، ثم طافوا حول الكعبة سبع مرات، واستلموا الحجر الأسود الشهير الذي تكلمنا عنه في فصل آخر، ثم توجهوا إلى جبل عرفات القريب من مكة وسمعوا فيه خطبة الإمام، ثم أفاضوا إلى حيث يرمون الشيطان بحصيات في الوادي الذي طرده منه إبراهيم، ثم نحروا الذبائح، ثم زار أكثرهم حمية المدينة التي تضم قبر الرسول.
وفي الغالب يبلغ عدد الذين يزورون مكة كل سنة مئتي ألف حاج، وفي موسم الحج يتقابل المسلمون الذين يجيئون من أنحاء العالم الإسلامي الممتد من مراكش إلى الهند وحدود الصين مارا بإفريقية الوسطى.
والحق أن المؤمنين إخوة كما أمر القرآن، وأن الحج فرض لتوثيق عرا الإخاء الإسلامي كما ذهب إليه متكلمو العرب، فإذا ما عقد الحجاج اجتماعاتهم التي لا يستطيع نصراني أن يلج فيها من غير أن يقتل استقصى بعضهم احتياجات بعض، وتفاهموا في شؤون الإسلام، ثم نشروا ذلك في جميع نواحي الإسلام، ولا نرى أن نسهب في بيان ما قد ينشأ من النتائج السياسية المهمة عن اجتماع الحجيج الذين يأتون مكة في موسم الحج من الأقاصي فتوحد بينهم المصالح الدينية المشتركة.
شكل 5-5: نافذة في مسجد عربي بالقاهرة (من صورة فوتوغرافية التقطها المؤلف).
ولمكة أهمية تجارية كبيرة إلى الغاية عدا أهميتها الدينية والسياسية، فمكة من أعظم أسواق العالم، وفيها يتقايض بالسلع التي تردها من أنحاء الدنيا.
أذكار الدراويش:
عرف الإسلام الزهد والذكر كما عرفتهما الأديان الأخرى، وأدى الزهد والذكر إلى تأليف الطرق الدينية التي تهدف إلى النجاة الأبدية، وتظهر الطرق الدينية في الأديان التي تميل إلى التشاؤم عادة، وليس القرآن أقل تشاؤما من الإنجيل؛ فالقرآن، كالإنجيل، يعد الحياة الدنيا طريق ابتلاء وامتحان للوصول إلى الآخرة، وأوجب هذا ميل ذوي الورع والقلق إلى التحرر من مفاسد الدنيا، ودخول ملكوت السماوات بالزهد.
وأذكر، من بين الطرق الدينية التي تستوقف النظر، طريقة الدراويش الدوارين (المولوية) وطريقة الدراويش الصخابين، ونعت هؤلاء بهذا الاسم؛ لما يأتون من الأعمال والحركات التي يصلون بها إلى درجة الوجد والانجذاب كما كان يصنع رهبان أديارنا كثيرا.
وفي الآستانة شاهدت الدراويش الدوارين في أثناء أذكارهم فرأيت حالهم، بعد أن يدوروا كثيرا على أنفسهم، قريبة من حال السائرين في النوم، ويقوم الدراويش الدوارون، قبل دورانهم على أنغام الناي والطبل والرباب، ببعض التراتيل التي تشابه تراتيل كنائسنا، وإن كانت أعذب وأشجى مع عدم طنينها.
شكل 5-6: نافذتا مسجد في القاهرة (من صورة فوتوغرافية التقطها المؤلف).
وجربت تأثير تلك الموسيقا في المؤمنين بنفسي، وسبحت في بحر من الرؤى حين سمعتها، قال تيوفيل غوتيه موضحا هذا التأثير في الأسطر الآتية:
كان ذلك اللحن العجيب يثير في قلبي ما لا يعرف من الحنين إلى الأوطان، وكان يثير فيه ما لا يوصف من الوله والجذل، وكان يثير فيه ميلا إلى الانسياق مع التيار، وما أكثر ما كان يهيج في نفسي من الذكريات والمناظر الخيالية الجميلة الساحرة! وما أكثر ما كنت أتمثل به ما نسيت من الصور والرسوم والمشاهد والأماني اللطيفة فأترنح مسلما أمري إلى سحره! وهو المؤثر الذي يناقض ما تعودناه.
شكل 5-7: نافذة مسجد عربي (من صورة فوتوغرافية التقطها المؤلف).
وإذا ما دام تأثير تلك الأنغام بعض الزمن خلع أولئك الدراويش أرديتهم، ولم يبق عليهم سوى قمصهم، باسطين أذرعهم كالصليب، راقصين حول أنفسهم بانتظام، متدرجين ببطء مائلي الرؤوس، فاتحي الأفواه مغمضي العيون فاقدي المشاعر، وما كان وضع ذرعانهم المتعب، الذي لا يحتمله الإنسان في الأحوال العادية إلا لبضع دقائق؛ ليزعجهم في ربع ساعة، وما كنت لأجد في حركاتهم غير العذوبة والانتظام الرائع، فيخيل إلي أنني تهت فيما لا حد له من الأخيلة التي يعجز عن وصف سحرها القلم، قال ذلك الكاتب:
ما يرون في تلك الرؤى التي ترنحهم؟ أيرون فيها جنة محمد التي تشتمل على غابات من الياقوت، وجبال من العنبر، وقصور من الألماس، وخيام من اللؤلؤ؟ لا ريب في أنهم، في تلك الرؤى، يقبلون بمباسمهم العطرة، الحور العين البيض والخضر والحمر، ويشاهدون نور الله الساطع الذي يعشي الأبصار فتبدو الشمس بجانبه مظلمة، ويشاهدون الأرض، التي يمسكونها بطرف أباهمهم، تطوى كورقة دفتر ملقاة في كانون، ويتمايلون بهيام في صورتي الله، أي في الخلود، وفيما لا حد له.
ومتى خرج الدراويش الدوارون من ولههم وقفوا وركعوا وخرجوا من القاعة.
ولم أشاهد أذكار الدراويش الصخابين، ولكني أرى، مما وصفوا به، أنهم يدخلون في حال من التنويم كالحال التي يكون عليها الدراويش الدوارون بفعل الرقص والموسيقا، وذلك أنهم يصلون إلى درجة من عدم الإحساس ما يقدرون أن يثقبوا به أعضاءهم بآلات مذربة
1
من غير أن يشعروا بشيء كما يفعل العيساوية. (2-2) المباني الدينية
المساجد والزوايا والمدارس ... إلخ.
المسجد:
مركز الحياة الحقيقي عند العرب؛ فالعرب يتخذون المسجد محلا للاجتماع والعبادة والتعليم، والسكن عند الاقتضاء، لا لعبادة الله فقط كبيع النصارى.
وقد أوضحنا في فصل سابق رسم المساجد العام، فذكرنا أن المساجد القديمة بنيت على نمط واحد، أي أنها مؤلفة من ساحات قائمة الزوايا محاطة بأروقة، وأن الصلاة تقام في أوسع تلك الأروقة، وتجد في وسط كل ساحة حوضا للوضوء، وتجد في مكان الصلاة محرابا في الحائط متجها نحو مكة، ومنبرا للوعظ، وقمطرا يفتح عليه المصحف عند القيام بالأعمال الدينية، ومصابيح كثيرة معلقة بالسقف، وتجد الحصر والبسط كل ما فيه من أثاث.
وتوجد بجانب مكان الصلاة، في الغالب، حجرة تضم ضريح مؤسس المسجد.
وتقوم على أركان المساجد مآذن؛ ليدعى المؤمنون من فوقها إلى الصلاة.
شكل 5-8: شمعدان للسلطان قلاوون (من تصوير پريس الأفيني).
ومن توابع المساجد، على العموم: حمامات وفنادق وأصابل ومشاف ومدارس، وهكذا يتجلى اختلاط الحياة المدنية بالحياة الدينية عند المسلمين في مساجدهم.
تظل المساجد مفتحة الأبواب من الفجر إلى العشاء، أي إلى نحو الساعة الثانية بعد الغروب.
وكل مسجد مستقل عن الآخر، وينفق على المسجد من ريع ما وقفه عليه مؤسسوه مع ما يضاف إليه من الحبس، ويدير شؤونه قيم يساعده جماعة من الأئمة والحجاب والمؤذنين والسقائين والخدم ... إلخ، ممن تجدهم حتى في أصغر المساجد، ويمارس أئمة المساجد، في الغالب، مهنا أخرى بالإضافة إلى أمهم المصلين في الأوقات المعينة.
وكما أن مساجد المسلمين مراكز للاجتماع وملاجئ للغرباء ومراجع للمرضى هي، كذلك، موائل للتعليم، وفي أصغر المساجد يعلم الأولاد، وتعد المساجد الكبيرة من الجامعات التي لا تقل، أحيانا، عن جامعات أوربة أهمية، ونذكر منها: الجامع الأزهر الشهير القائم في القاهرة، والذي يضم ثلاثمائة أستاذ، وأكثر من عشرة آلاف طالب يقصدونه من جميع نواحي العالم الإسلامي.
شكل 5-9: شمعدان للسلطان قلاوون (من تصوير پريس الأفيني).
حقا إن الجامع الأزهر مركز ديني وأدبي مهم إلى الغاية، وأنه يتخرج على أساتذته خلق كثير من الوعاظ والعلماء والقضاة والأعيان والنافذين ... إلخ، ومن دواعي الأسف أن يظل التعليم في الجامع الأزهر على الحال التي كان عليها عند بدء انحطاط العرب، وأن يسير على برنامج مماثل لبرنامج جامعاتنا في أواخر القرون الوسطى، ويدرس في الجامع الأزهر علم الحساب والهندسة والفلك والنحو والأدب والبيان والمنطق، وذلك عدا تلاوة القرآن وتفسيره.
وليس التدريس في المساجد مشابها لما في جامعاتنا السابقة من حيث البرامج وحدها؛ بل نرى شبها بينهما في المناهج، وفي حياة الطلاب أيضا، فلما قيض لي أن أجوب الجامع الأزهر في أثناء دروس أساتذته رأيتني قد انتقلت، بعصا سحر، إلى إحدى جامعاتنا القديمة في القرن الثالث عشر، فتمثل لي ما كان فيها، كما في الجامع الأزهر، من التشويش في دروس علم الكلام ودروس الأدب، وتمثل لي ما كان فيها مثل ما في الجامع الأزهر من المناهج، ونظم جمعيات الطلاب، وتمتعهم بالحرية والإعفاء.
ويجلس كل أستاذ على حصير في أكبر رواق من الجامع الأزهر، وهو المصلى، وتحيط به حلقة من التلاميذ اللابسين الجباب السود والعمائم البيض، والحاملين أقلاما قصبية؛ ليكتبوا بها ما يملى عليهم، والمدخلين محابر إلى زنانيرهم، وينفق الجامع الأزهر على الفقراء من تلاميذه ويسكنهم حجراته.
وقد رأيت جميع أولئك الشبان جادين في أعمالهم مجتهدين في دروسهم، ومنهم من أتى لنيل العلم من الهند ومن مراكش؛ فالعلم الذي استهانت به الأديان الأخرى يجله المسلمون حقا، وإلى المسلمين يعزى القول الصائب: «من البشر من يتعلمون فيعلمون، ويعد من سواهم من الحشرات أو ممن لا يصلحون لشيء ولا ينفعون.»
ولدى المسلمين أماكن دينية أخرى أقل أهمية من المساجد، كمزارات الأولياء التي هي أبنية صغيرة مكعبة تعلو كل واحدة منها قبة، والتي لا يخلو منها بلد إسلامي تقريبا، ويقع مزار الولي الذي نشرنا صورته في هذا الكتاب في الغابة المقدسة الرائعة الواقعة بالقرب من البليدة.
وأذكر، بجانب تلك المباني الدينية، الزوايا التي يقيم بها أصحاب الطرق من الدراويش، والتي أرى عددنا قليلا إذا ما قيست بعدد الأديار الواسعة الانتشار لدى الأمم النصرانية في أوربة، ولا تختلف الزوايا عن مباني المسلمين الأخرى إلا قليلا، ولا ترى فيها منظر أديارنا الأدجن. (3) الأخلاق في الإسلام
أصول الأخلاق في القرآن طيبة؛ فالقرآن يأمر بالصدقة والإحسان والقرى والاقتصاد في الرغائب والوفاء بالعهد وحب الأقربين واحترام الوالدين وحماية الأيامى واليتامى وبما نجده مكررا فيه من درء السيئة بالحسنة، وتطابق أصول الأخلاق في القرآن ما ورد في الإنجيل تقريبا.
شكل 5-10: مسرجة مسجد قديمة مصنوعة من البرونز (من صورة فوتوغرافية التقطها المؤلف).
بيد أنه لا أهمية كبيرة لدراسة ما في أحد الكتب من أصول الأخلاق ما كانت مبادئ الأخلاق في كل دين طيبة، وليست مكارم الأخلاق التي تؤمر بها الأمم، إذن، هي التي تجب معرفتها عند البحث في شؤونها؛ بل ينظر إلى ما عملت به منها ، ولا عجب ، فقد دلت المشاهدة على أن مطابقة الأعمال للأقوال ضعيفة جدا على العموم.
وقد حاولنا، في الفصل الذي خصصناه في كتابنا الأخير للبحث في نشوء الأخلاق، أن نثبت أن شأن الدين في تكوين الأخلاق أمر ثانوي على العموم، وأن الأخلاق وليدة المنفعة والبيئة والرأي وقواعد الحقوق والانتخاب الطبيعي والتربية والذكاء ... وما إلى ذلك، وقد ذكرنا فيه أن أقدم الديانات لم تنص على أصول الأخلاق، وأن النص على مبادئ الأخلاق لم يكن في غير أديان الهندوس وأديان موسى وعيسى ومحمد، وأن هذه الأديان لم تصنع أكثر من تأييدها لما كان معروفا، وأن هذا التأييد قام على الأمل في الثواب والخوف من العقاب في اليوم الآخر، وأن خوف العقاب لم يكن مهيمنا على أكثر الناس ما جعلت تلك الأديان غفران الذنوب أمرا سهلا.
شكل 5-11: مصباح عربي قديم كان في مسجد الحمراء (يبلغ ارتفاعه مترين و15سنتيمترا، متحف العاديات الإسپاني).
ومن يطف قليلا في العالم، ويدرس أحوال الناس في غير الكتب ير الدين أمرا مستقلا عن الأخلاق استقلالا تاما، ولو كان بين الدين والأخلاق سبب؛ لكان أكثر الأمم تدينا أكثرها أخلاقا مع أن العكس هو الواقع. وعندي أن إسپانية وروسية أكثر بلاد أوربة عملا بالشعائر الدينية، وعندي أن مستوى الأخلاق فيهما دونه في البلاد الأخرى كما ذهب إليه من درس أمرهما بعناية.
وليس في ديانة الأمة، إذن، ما يجب أن يبحث عن علل أخلاقها ما كان لجميع الأديان، كما قلت، أصول أخلاقية طيبة لو عمل بها لدخل العالم في دور ذهبي، وما اختلفت طريقة العمل بتلك المبادئ باختلاف البيئات والأزمنة والعروق والأحوال، وما تباينت الأمم ذات الديانة الواحدة في مقاييسها الأخلاقية.
ويطبق ما تقدم على جميع الأديان، ومنها الإسلام، فمبادئ الأخلاق التي نص عليها القرآن، وإن كانت كاملة، اختلف تأثيرها باختلاف الشعوب والبيئات والأجيال.
وكانت أخلاق العرب في أدوار الإسلام الأولى أرقى كثيرا من أخلاق أمم الأرض قاطبة، ولا سيما الأمم النصرانية، وكان عدلهم واعتدالهم ورأفتهم وتسامحهم نحو الأمم المغلوبة ووفاؤهم بعهودهم ونبل طبائعهم مما يستوقف النظر ويناقض سلوك الأمم الأخرى، ولا سيما الأمم الأوربية أيام الحروب الصليبية.
شكل 5-12: دراويش دوارون (مولوية، من رسم إعدادي).
ولو صح أن يكون للأديان ما يعزى إليها من التأثير لوجب أن نقول: إن القرآن أفضل من الإنجيل ما بدت أمم الإسلام أسمى أخلاقا من أمم النصرانية فيما مضى، ولكن ما قلناه من استقلال الأديان على الأخلاق يدل على انتفاء صحة هذا الاستنتاج، فأخلاق المسلمين، كأخلاق النصارى، اختلفت باختلاف العوامل المذكورة صعودا وهبوطا.
ونشأ عن سيادة الترك الطويلة ونظامهم السياسي انحطاط في أخلاق الشرقيين الذين خضعوا لحكمها، وإذا كانت مكارم الأخلاق تتبخر، ويعم الفساد في بلاد كتركية، حيث يكون دين ولي الأمر وعماله أهواءهم، وحيث يكون كل إنسان عرضة لمظالم هؤلاء الطامعين في انتهاب ما في أيدي الناس ليغتنوا، وحيث يقنط الناس من العدل فلا ينالون شيئا إلا بالرشوة، فإنك ترى أخلاق الشرقيين الخاضعين لسلطان الترك قد انحطت بحكم الضرورة، ولكن القرآن بريء من هذا الانحطاط براءة الإنجيل من انحطاط النصارى الخاضعين لمثل ذلك السلطان.
شكل 5-13: نوافذ زجاجية في مكان الصلاة من المسجد الأقصى بالقدس (من تصوير المؤلف الفوتوغرافي).
وما تقدم يثبت، بدرجة الكفاية، فساد الرأي الأوربي القائل: «إن دين محمد هو سبب ما يشاهد في بعض أمم الشرق من الانحطاط»، ورأي فاسد مثل هذا مصدره ما قيل من إبداعه لمبدأ تعدد الزوجات، وما زعم من أن جبريته تحمل الإنسان على الكسل، وما أذيع من أن محمدا لا يطالب أتباعه بغير الشعائر السهلة؛ فالقارئ الذي سار معنا إلى هنا يرى درجة بعد هذه المزاعم من الصحة، وقد رأينا أن مبدأ تعدد الزوجات كان شائعا في الشرق قبل ظهور محمد بقرون كثيرة، وأن جبرية القرآن ليست أشد مما جاء في كتب الأديان الأخرى، وأن العرب، إذا كانوا جبريين بسجيتهم، ولم تؤد جبريتهم إلى الخمول ما شادوا دولة عظيمة، وأن أصول الأخلاق في القرآن سامية سمو ما جاء في أي كتاب ديني آخر، وهذا إلى أن القرآن لو كان عاملا في انحطاط مسلمي الشرق لوجب أن يتفلت من ذلك الانحطاط الشرقيون الذين لا يقولون بمبدأ تعدد الزوجات ولا يبدون جبريين كنصارى سورية. ونصارى سورية، كما أجمع كل من بحث في أمور الشرق، أحط أخلاقا من المسلمين بدرجات.
وكان يمكننا أن نختم هذا الفصل بقولنا: إن أصول الأخلاق في القرآن عالية علو ما جاء في كتب الديانات الأخرى جميعها، وإن أخلاق الأمم التي دانت له تحولت بتحول الأزمان والعروق مثل تحول الأمم الخاضعة لدين عيسى، وإن التحول نشأ عن عوامل لم يكن للمبادئ الدينية أثر كبير فيها، غير أن أهم نتيجة يمكن استنباطها من جميع ما تقدم: هي تأثير القرآن العظيم في الأمم التي أذعنت لأحكامه، فالديانات التي لها ما للإسلام من السلطان على النفوس قليلة جدا، وقد لا تجد دينا اتفق له ما اتفق للإسلام من الأثر الدائم، والقرآن هو قطب الحياة في الشرق، والقرآن هو ما نرى أثره في أدق شؤون الحياة.
أجل، دخلت دولة العرب في ذمة التاريخ، بيد أن الدين، الذي كان سببا في قيامها لا يزال ينتشر، ويسيطر ظل النبي من قبره على ملايين المؤمنين الذين يسكنون أقطار إفريقية وآسية الواسعة الواقعة بين مراكش والصين والبحر المتوسط وخط الاستواء.
أجل، إن الإنسان ألعوبة في يد كثير من السادة من غير أن يدري، ولكن أشد هؤلاء السادة جبروتا هم الذين يقضي الإنسان حياته مستغيثا بهم خائفا منهم، ويسفك الدماء ويذرف الدموع من أجلهم، ويشهر أقسى الحروب، ويقترف أفظع الجرائم في سبيلهم، مع أنهم ليسوا غير ظلال عابرة مقيمة بعالم الرؤى والأوهام.
حقا إنها لظلال خفيفة، ولكنها مرهوبة، وحقا أن فاتحين كثيرين سادوا العالم، وأخضعوا الناس لسلطانهم، ولكنك لا تجد واحدا منهم كان له من السلطان ما يساوي سلطان بعض الأموات.
هوامش
الباب الخامس
حضارة العرب
الفصل الأول
مصادر معارف العرب: تعليمهم ومناهجهم
(1) مصادر معارف العرب العلمية والأدبية
كانت حضارة الفرس وحضارة بزنطة العظيمتان تقذفان نيرانهما الأخيرة حينما بدأت فتوح العرب، وقد استوقف العالم الذي فتحه أتباع النبي خيالهم المضطرم ، فأخذوا يدرسون الآداب والفنون والعلوم بمثل نشاطهم في فتوحهم، ولم يلبث الخلفاء، بعد أن شادوا دولتهم، وأن أنشأوا في جميع المدن المهمة مراكز للتعليم، وجمعوا حولهم كل عالم قادر على ترجمة أشهر الكتب، ولا سيما كتب اليونان.
وحدث ما جعل أمر تلك الترجمة سهلا، فقد كانت معارف اليونان والرومان العلمية القديمة منتشرة في بلاد الفرس وسورية منذ زمن، وبيان ذلك أن النساطرة لما نفوا من دولة الروم أقاموا في مدينة الرها (أورفة) العراقية مدرسة لنشر معارف اليونان في آسية، وأن تلك المدرسة لما هدمت في عهد زنون الإيزوري احتضن أكاسرة بني ساسان أساتذتها، وأنه كان من نتائج هذا القبول الحسن أن قصد علماء أثينة والإسكندرية بلاد فارس عندما أغلقها جوستينيان فنقلوا إلى أكثر لغات الشرق انتشارا، كالسريانية والكلدانية ... إلخ، أهم كتب علماء اليونان مثل أرسطو وجالينوس وذيسقوريدس.
ووجد العرب في بلاد فارس وسورية، حينما استولوا عليها، خزائن من العلوم اليونانية، وأمروا بنقل ما في اللغة السريانية منها إلى اللغة العربية، ولم يلبثوا أن أمروا بأن ينقل إليها ما لم يكن قد نقل، فأخذت دراسات العلوم والآداب تسير قدما إلى الأمام.
ولم يدم اكتفاء العرب بما نقل إلى لغتهم طويلا، فقد تعلم عدد غير قليل منهم اللغة اليونانية، على الخصوص، ليستقوا منها علوم اليونان، ثم تعلموا اللغة اللاتينية واللغة القشتالية في إسپانية، كما يشهد بذلك ما في مكتبة الإسكوريال من المعجمات العربية اليونانية والعربية اللاتينية والعربية الإسپانية التي ألفها علماء من المسلمين.
وكانت معارف اليونان واللاتين القديمة أساسا لثقافة متعلمي العرب في الدور الأول، وكان هؤلاء كالطلاب الذين يتلقون في المدرسة ما ورثه الإنسان من علوم الأولين، وكان اليونان أساتذة العرب الأولين إذن، ولكن العرب المفطورين على قوة الإبداع والنشاط لم يكتفوا بحال الطلب الذي اكتفت به أوربة في القرون الوسطى؛ فلم يلبثوا أن تحرروا من ذلك الدور الأول.
والإنسان يقضي العجب من الهمة التي أقدم بها العرب على البحث، وإذا كانت هنالك أمم تساوت هي والعرب في ذلك فإنك لا تجد أمة فاقت العرب على ما يحتمل، والعرب كانوا إذا ما استولوا على مدينة صرفوا همهم إلى إنشاء مسجد وإقامة مدرسة فيها، وإذا ما كانت تلك المدينة كبيرة أسسوا فيها مدارس كثيرة، ومنها المدارس العشرون التي روى بنيامين التطبلي المتوفى سنة 1173م أنه شاهدها في الإسكندرية، وهذا عدا اشتمال المدن الكبرى كبغداد والقاهرة وطليطلة وقرطبة ... إلخ، على جامعات مشتملة على مختبرات ومراصد ومكتبات غنية، وكل ما يساعد على البحث العلمي، وكان للعرب في إسپانية وحدها سبعون مكتبة عامة، وكان في مكتبة الخليفة الحكم الثاني بقرطبة ستمائة ألف كتاب منها أربعة وأربعون مجلدا من الفهارس كما روى مؤرخو العرب، وقد قيل، بسبب ذلك: «إن شارل الحكيم لم يستطع، بعد أربعمائة سنة، أن يجمع في مكتبة فرنسة الملكية أكثر من تسعمائة مجلد يكاد ثلثها يكون خاصا بعلم اللاهوت. (2) مناهج العرب العلمية
ليست المكتبات والمختبرات والآلات غير وسائل للدرس والبحث، وتكون قيمتها في معرفة الاستفادة منها، وقد يستطيع المرء أن يكون مطلعا على علوم الآخرين، وقد يبقى عاجزا عن التفكير وابتداع أي شيء مع ذلك، فيظل تلميذا غير قادر على الارتقاء إلى درجة أستاذ، وسيبدو، من الاكتشافات التي نذكرها في الفصول الآتية مقدار ما اكتشفه العرب بما لديهم من وسائل الدرس، والآن أقتصر على ذكر المبادئ العامة التى وجهت أبحاثهم: لم يلبث العرب، بعد أن كانوا تلاميذ معتمدين على كتب اليونان، أن أدركوا أن التجربة والترصد خير من أفضل الكتب، وعلى ما يبدو من ابتذال هذه الحقيقة جد علماء القرون الوسطى في أوربة ألف سنة قبل أن يعلموها.
شكل 1-1: باب مسجد ومدرسة في دمشق (من صورة فوتوغرافية التقطها المؤلف).
ويعزى إلى بيكن، على العموم، أنه أول من أقام التجربة والترصد، اللذين هما ركن المناهج العلمية الحديثة، مقام الأستاذ، ولكنه يجب أن يعترف اليوم بأن ذلك كله من عمل العرب وحدهم، وقد أبدى هذا الرأي جميع العلماء الذين درسوا مؤلفات العرب، ولا سيما هنبولد، فبعد أن ذكر هذا العالم الشهير أن ما قام على التجربة والترصد هو أرفع درجة في العلوم قال: «إن العرب ارتقوا في علومهم إلى هذه الدرجة التي كان يجهلها القدماء تقريبا.»
وقال مسيو سيديو: «إن أهم ما اتصفت به مدرسة بغداد في البداءة هو روحها العلمية الصحيحة التي كانت سائدة لأعمالها، وكان استخراج المجهول من المعلوم، والتدقيق في الحوادث تدقيقا مؤديا إلى استنباط العلل من المعلولات، وعدم التسليم بما لا يثبت بغير التجربة - مبادئ قال بها أساتذة من العرب، وكان العرب، في القرن التاسع من الميلاد، حائزين لهذا المنهاج المجدي الذي استعان به علماء القرون الحديثة بعد زمن طويل للوصول إلى أروع الاكتشافات.»
شكل 1-2: زاوية قديمة للدراويش، وعين ومدرسة في القاهرة (من تصوير كوست).
قام منهاج العرب على التجربة والترصد، وسارت أوربة في القرون الوسطى على درس الكتب والاقتصار على تكرار رأي المعلم، والفرق بين النهجين أساسي، ولا يمكن تقدير قيمة العرب العلمية إلا بتحقيق هذا الفرق.
واختبر العرب الأمور وجربوها، وكانوا أول من أدرك أهمية هذا المنهاج في العالم، وظلوا عاملين به وحدهم زمنا طويلا، قال دو لنبر في كتاب «تاريخ علم الفلك»: «تعد راصدين أو ثلاثة بين الأغارقة، وتعد عددا كبيرا من الرصاد بين العرب»، وأما في الكيمياء فلا تجد مجربا يونانيا مع أن المجربين من العرب يعدون بالمئات.
ومنح اعتماد العرب على التجربة مؤلفاتهم دقة وإبداعا لا ينتظر مثلهما من رجل تعود درس الحوادث في الكتب، ولم يبتعد العرب عن الإبداع إلا في الفلسفة التي كان يتعذر قيامها على التجربة.
ونشأ عن منهاج العرب التجربي وصولهم إلى اكتشافات مهمة، وسترى من مباحثنا في أعمال العرب العلمية أنهم أنجزوا في ثلاثة قرون أو أربعة قرون من الاكتشافات ما يزيد على ما حققه الأغارقة في زمن أطول من ذلك كثيرا، وكان تراث اليونان العلمي قد انتقل إلى البزنطيين الذين عادوا لا يستفيدون منه منذ زمن طويل، ولما آل إلى العرب حولوه إلى غير ما كان عليه فتلقاه ورثتهم مخلوقا خلقا آخر.
ولم يقتصر شأن العرب على ترقية العلوم بما اكتشفوه، فالعرب قد نشروها، كذلك، بما أقاموا من الجامعات وما ألفوا من الكتب، فكان لهم الأثر البالغ في أوربة من هذه الناحية، وسترى في الفصل الذي ندرس فيه هذا التأثير أن العرب وحدهم كانوا أساتذة الأمم النصرانية عدة قرون، وأننا لم نطلع على علوم قدماء اليونان والرومان إلا بفضل العرب، وأن التعليم في جامعاتنا لم يستغن عما نقل إلى لغاتنا من مؤلفات العرب إلا في الأزمنة الحاضرة.
الفصل الثاني
اللغة والفلسفة والآداب والتاريخ
(1) اللغة العربية
تعد اللغة العربية من اللغات السامية، وتشبه اللغة العبرية كثيرا، وتختلف في مخارجها عن أكثر اللغات الأوربية، فيجد الأجانب صعوبة كبيرة في النطق بها.
ونجهل تاريخ نشوء اللغة العربية كما نعرفها الآن، ولكننا نعلم من الشعر العربي الذي قيل قبل ظهور محمد بقرن واحد أن اللغة العربية كانت قد وصلت إلى درجة كمالها الحاضر.
حقا، تشتمل اللغة العربية على لهجات كثيرة، ولكن كتاب المسلمين أجمعوا على أن لهجة قبيلة محمد تمتاز بأنها أفصح لهجات العرب، وكان من تأثير القرآن أن جعل من اللهجة التي كتب بها لغة عامة.
واللغة العربية من أكثر اللغات انسجاما، وهي، لا ريب، مختلفة اللهجات في سورية وجزيرة العرب ومصر والجزائر وغيرها، ولم يكن هذا الاختلاف في غير الأشكال، فترى المراكشي يفهم بسهولة لهجة المصريين أو لهجة سكان جزيرة العرب مثلا، مع أن سكان القرى الشمالية الفرنسية لا يفهمون كلمة من لهجات سكان القرى الجنوبية في فرنسة، واسمع ما قاله الرحالة بركهارد الذي يعد حجة في هذا الموضوع:
تجد اختلافا كبيرا، لا ريب، في لهجات اللغة العربية العامية أكثر مما في أية لغة أخرى على ما يحتمل، ولكنه لا يصعب عليك أن تفهمها جميعها إذا ما تعلمت إحداها، وذلك على الرغم من اتساع البلدان التي يتكلم أهلوها بها، وهي الواقعة بين مدينة مغادر (الصويرة) ومدينة مسقط، وقد يكون لاختلاف طبيعة البلدان تأثير في اختلاف تلك اللهجات التي هي عذبة في أودية مصر والعراق الدنيا، وجافة في سورية وجبال بلاد البربر، وأعظم فرق، كما أعلم، هو ما بين لهجة المغاربة في مراكش ولهجة الأعراب بالقرب من مكة في الحجاز، ولكن هذا الفرق بين تينك اللهجتين لا يزيد على اختلاف لهجة فلاحي سوآب (جنوب ألمانية) عن لهجة فلاحي سكسونية (شمال ألمانية).
شكل 2-1: دواة على الطراز الفارسي العربي مصنوعة من النحاس المكفت بالفضة (من صورة فوتوغرافية التقطها المؤلف).
ولم تتحول اللغة العربية، إذن، إلا قليلا منذ زمن محمد، ولكنه طرأ تغيير كبير على الخط، فالخط الأول المعروف بالخط الكوفي، الذي روي أنه اخترع في مدينة الكوفة، كان صعب القراءة لخلوه من حروف العلة، فتحول هذا الخط حوالي القرن الثامن من الميلاد بإدخال أصول الشكل والحركات إليه مع المواظبة على استعمال الخط الكوفي في الكتابات، فجعل هذا من العسير كثيرا أن يستدل على قدم هذه الكتابات مما عليها من الحروف المنقوشة.
وما قلناه في فصل آخر عن الدين نقول مثله عن اللغة العربية، فمع أن الفاتحين الذين ظهروا قبل العرب لم يستطيعوا أن يفرضوا على الأمم المغلوبة لغاتهم قدر العرب، بالعكس، على فرض لغتهم عليهم، ولما صارت اللغة العربية عامة في جميع البلاد التي استولوا عليها حلت محل ما كان فيها من اللغات، كالسريانية واليونانية والقبطية والبربرية ... إلخ، وكان للغة العرب مثل ذلك الحظ زمنا طويلا، حتى في بلاد فارس على الرغم من يقظة الفرس، أي ظلت اللغة العربية في بلاد فارس لغة أهل الأدب والعلم، وظل الفرس يكتبون لغتهم بالحروف العربية، وكتب ما عرفته بلاد فارس من علم الكلام والعلوم الأخرى بلغة العرب، وللغة العربية في هذا الجزء من آسية شأن كالذي كان للغة اللاتينية في القرون الوسطى، وانتحل الترك أنفسهم، وهم الذين قهروا العرب، الخط العربي، ولا تجد في تركية إنسانا على شيء من التعليم لا يستطيع أن يفهم لغة القرآن بسهولة.
ولم يشذ عن ذلك سوى الأمم اللاتينية الأوربية التي لم تقم اللغة العربية مقام لغاتها القديمة، ومع ذلك فإن اللغة العربية ذات أثر عميق في اللغات اللاتينية، وقد ألف دوزي وأنجلمن معجما في الكلمات الإسپانية والپرتغالية المشتقة من اللغة العربية.
وتركت لغة العرب أثرا مهما في فرنسة نفسها، وذكر سيديو، والحق ما ذكر، «أن اللهجات السائدة لولاية أوڨرن وولاية ليموزان الفرنسيتين محشوة بالكلمات العربية، وأن أسماء الأعلام فيهما ذات مسحة عربية.»
قال هذا المؤلف: ومن الطبيعي أن تقتبس فرنسة وإيطاليا من العرب، الذين كانوا سادة البحر المتوسط منذ القرن الثامن من الميلاد، أكثر الاصطلاحات البحرية مثل:
Amiral
و
Escadre
و
Corvette
و
Frégate
و
Flotte
و
Caravelle
و
Felouque
و
Chaloupe
و
Sloop
و
Barque
و
Chiourme
و
Darse
و
Calfat
و
Estacade
ولا سيما البوصلة
Boussole
التي عزي أمرها إلى أهل الصين على غير حق، وأن تقتبس جيوشهما ألقاب ضباط جيوش المسلمين، وتعابير وغى الحرب، واستعمال بارود المدافع والقنابل والحراقات والقذائف، وأن تأخذ عن حكومة بغداد وحكومة قرطبة التعابير الإدارية مثل:
Syndic
و
Aides
و
Gabelle
و
Taille
و
Tarif
و
Douane
و
Bazar ، وأن يقلد ملوك الأسرة الثالثة الفرنسية العرب في شيء فيأخذوا عنهم معظم اصطلاحات الصيد مثل:
Chasse
و
Maute
و
Laisse
و
Curée
و
Hallali
و
Core de Chasse
و
Fanfares ، وكذلك كلمة:
Tournoi
التي عدها علماء اللغة المعاصرون مشتقة من كلمة
Torneamentium ، وأهم من ذلك كله اصطلاحات العلوم التي اقتبسناها من العرب، فعلم الفلك عندنا مملوء بالتعابير العربية مثل:
Azimuts
و
Zénith
و
Nadir ، وبالاصطلاحات العربية لأجزاء الأسطرلاب مثل:
Alidade
و
Alancabuth
وبأسماء الكواكب مثل:
Aldébaran
و
Rigel
و
Althair
و
Wéga
و
Acarnar
و
Aghol ، وقل مثل ذلك عن الرياضيات حيث أخذنا عن العرب الاصطلاحات:
Chiffres ،
Zéro
و
Algébre
إلخ، وقل مثله عن الكيمياء حيث أخذنا عنهم الاصطلاحات:
Alchimie
و
Alcool
و
Alcali
و
Alambic
إلخ، وقل كذلك عن التاريخ الطبيعي والطب حيث أخذنا عنهم الاصطلاحات:
Bol
و
Elixir
و
Sirops
و
Juleps
و
Sorbet
و
Mirobolans
إلخ، والكلمة:
Haschich
التي اشتقت منها الكلمة:
Assassins .
وزعم مؤلف أحد المعجمات الاشتقاقية الفرنسية الذي ألف حديثا أن إقامة العرب بجنوب فرنسة لم تسفر عن أثر، لا في اللهجات، ولا في اللغة، فقلة قيمة هذا الرأي تبدو مما قلناه آنفا، ومن العجيب أن يكرر بعض المثقفين مثل هذا الزعم.
واللغة العربية غنية جدا، وزاد غناها بما أضيف إليها، دائما، من التعابير الجديدة التي تسربت فيها من اللهجات التي اتصلت بها، وانظر إلى المعجم الذي ألفه ابن سيده المتوفى سنة 1065م تجده مشتملا على عشرين مجلدا. (2) فلسفة العرب
كانت فلسفة العرب، حينما شرعوا يدخلون ميدان الحضارة، مقتصرة على مبادئ علم النفس العملية التي هي وليدة التجربة، لا الكتب، والتي ينتفع الإنسان بها وحدها في مضمار الحياة.
واليونان هم أساتذة العرب الأولون في الفلسفة كما أنهم أساتذتهم في مختلف العلوم، ولم تلبث كتب أرسطو وثاليس وأبيذقليس وهرقليوس وسقراط وأبيقور وجميع أساتذة مدرسة الإسكندرية من الفلاسفة أن ترجمت.
وفاق العرب أساتذتهم بسرعة في جميع العلوم التي تقوم على التجربة، ولكن بما أن الفلسفة لم تقم حينئذ على التجربة وما إليها لم يتفق للعرب فيها تقدم محسوس.
وكانت الجماهير تمقت الفلاسفة مع ما تم لهم من المقام الأسمى في جامعات العرب، وكان الخلفاء يرون أن يدرأوا ما ينشأ عن مذاهب الفلاسفة من الفتن الشعبية فيضطرون في الغالب إلى نفيهم لوقت معين.
وللجماهير ما تعتذر به عن معارضتها للفلاسفة، فقد نبذ الفلاسفة أكثر أحكام الإسلام، ولم يسلموا بغير العقائد الأساسية كوحدانية الله ورسالة محمد، ثم كانوا ينشرون آراءهم علنا، ويهاجمون بها عقائد المؤمنين بدلا من الاكتفاء بعرضها على المثقفين.
والحق يقضي بالاعتراف للعرب بأنهم أول من أغضى عما نسميه حرية الفكر في الوقت الحاضر، فمع ما كان يبديه الفلاسفة من التحفظ الكبير في كتبهم كانت تبدر منهم، في الغالب، تأملات مشتملة على جانب كبير من الشك والارتياب، ومن ذلك قول أبي العلاء التنوخي الذي عاش في القرن العاشر من الميلاد:
اثنان أهل الأرض: ذو عقل بلا دين
وآخر دين لا عقل له
شكل 2-2: كتابات دفة مصحف قديمة (من تصوير إيبر).
ثم رأى فلاسفة العرب أن يفصلوا الدين عن الفلسفة مراعاة للجماهير، وأجمل الفيلسوف الغزالي، الذي كان يدرس في القرن الحادي عشر من الميلاد في بغداد، ما انتهوا إليه في الكلمة الآتية:
ليست الحقائق التي يؤيدها العقل كل ما في الأمر، فهنالك من الحقائق ما يعجز إدراكنا عن الوصول إليها، ونحن نقول بها وإن كنا لا نقدر على استخراجها بقواعد المنطق وبالأصول المعروفة ، وليس مما يخالف الصواب وجود افتراض قائل بوجود دائرة أخرى فوق دائرة العقل، وإن شئت فقل دائرة التجلي الرباني، ونحن إذ كنا نجهل سنن تلك الدائرة ونواميسها جهلا تاما نجد الكفاية في قدرة العقل على الاعتراف بإمكانها.
شكل 2-3: كتابة زخرفية مؤلفة من تشابك حروف كوفية.
شكل 2-4: ختم الخلفاء الأربعة الأولين.
وأبعد فلاسفة العرب صيتا هو الفيلسوف الشهير ابن رشد الذي كان له أعظم تأثير في أوربة، أجل، يعد ابن رشد، عادة، شارحا لفلسفة أرسطو فقط، ولكنني أرى أن هذا الشارح سبق أستاذه في بعض الأحيان سبقا يثير العجب، وأن فلسفته مقبولة في كثير من الأمور أكثر من تلك، وإذا لم يكن ابن رشد مفكرا حرا بالمعنى العصري على ما يحتمل، فإنه فكر بحرية عظيمة في بعض الموضوعات: وتدل العبارة الآتية التي أنقلها من كتاب مسيو رينان حول خلود الروح وقواعد الأخلاق على عظيم استقلال ابن رشد، قال رينان:
يرى ابن رشد أن العقل العام المطلق باق على الدهر قابل للانفصال عن الجسم، وأن العقل الفردي فان مع البدن
وينكر ابن رشد الخلود والبعث ويصرح بأن على المرء ألا ينتظر ثوابا غير ما يلاقي في هذه الحياة الدنيا بكماله الخاص.
وعند ابن رشد أن الأشخاص يتميزون مادة ويتحدون صورة، وأن الخلود للصورة لا للمادة، وأن صورة الأشياء أساس تسميتها، وأن الفأس بلا حد ليست فأسا بل حديد، وأن من التجوز دعوة جسم الميت إنسانا، وأن الفناء لمادة الشخص والبقاء لنوعه.
ويقول ابن رشد: إن روح الفرد لا تدرك شيئا بغير تصور، فكما أن الحواس لا تشعر إلا إذا اتصلت بالأشياء لا تفكر النفس إلا إذا وجدت صورة أمامها، ومن ثم كان الفكر الشخصي غير خالد، وإلا وجب أن تكون الصور خالدة أيضا، وإذا كان الإدراك خالدا بذاته فإنه لا يكون كذلك عند الممارسة.
ولم يخف ابن رشد نفوره من أقاصيص العوام عن الحياة الآخرة، وهو يذهب إلى أنه يجب أن يعد من الأوهام الخطرة نظر المرء إلى الفضيلة وسيلة للسعادة؛ لما يتضمن ذلك من الإنكار للفضيلة نفسها، ومن معنى الامتناع عن الملاذ رجاء الثواب المضاعف، ومن طلب العربي للموت اتقاء لما هو أسوأ، ومن عدم احترام اليهودي لمال الآخرين طمعا في الكسب الزائد، وفي ذلك من الإفساد لروح القوم والأولاد، وعدم وجود نفع في إصلاحهم ما لا يخفى، ويعرف ابن رشد أناسا من ذوي الأخلاق يضربون بتلك الأوهام عرض الحائط، ولا يقولون بفضيلة من يتمسكون بها. (3) الأدب العربي (3-1) الشعر عند العرب
لا يزال أمر الأدب القديم في اليمن وفي مختلف أجزاء جزيرة العرب المتمدنة مجهولا لدينا تماما، وما علمناه من أشعار العرب قيل بعد المسيح وقبيل ظهور محمد، ولم تكن هذه الأشعار في غير الغزل وتمجيد الملاحم، وكان العرب يحبون أن يسمعوا شعراءهم يشيدون بمفاخرهم كما كان الأغارقة في عصر البطولة.
وتبدأ تلك الأشعار، في الغالب، بالتصوير والتشبيه، شأن شعر الأمم الفطرية التي تحس كثيرا وتفكر قليلا، وتختلف تلك الأشعار عن الشعر الإسرائيلي كثيرا في خلوها من التكهن والدجون والتغني بسفك الدماء، ولا تجد فيها ذكرا لمثل المجازر الوحشية والمذابح والإبادات ولعنات الرب الدائمة التي ملئت بها التوراة.
ونال الشعراء نفوذا كبيرا بفضل حب العرب للشعر، فكان الشعراء يحركون المشاعر، ويرفعون أقواما ويخفضون آخرين كما يشاؤون، وكان من نفوذهم أن منحت قريش الشاعر الأعشى مائة جمل حملا له على عدم نشر قصيدة مدح النبي بها.
وكان من عبادة العرب للشعر ما أقاموا معه، قبل محمد بعدة قرون، مؤتمرات أدبية يقصدونها من جميع نواحي جزيرة العرب، وكانت هذه المؤتمرات تقوم في مدينة عكاظ الصغيرة القريبة من الطائف والبعيدة من مكة مسافة ثلاثة أيام، وكانت القصائد التي تنال الحظوة فيها تكتب بحروف من ذهب على نسائج ثمينة وتعلق في الكعبة بمكة لتنقل إلى الأعقاب.
وبلغ الشعر العربي الذروة في القرن الذي سبق ظهور محمد، ونشأ عن ذلك أن صارت لغة الشعراء الفصحى عامة، وأن صهرت لهجات بلاد العرب المختلفة في لغة واحدة.
وانتهت إلينا المعلقات السبع بفضل حفظ أهم أشعار العرب في الكعبة ، ويرى في المعلقات السبع وصف لحروب العرب، ولحياة البادية الجافية القاسية، ولمغامرات الأعراب ... إلخ.
وإنني أقتطف الأبيات الآتية من معلقة طرفة التي وصف بها الحياة وصفا لا أرى أكثر الفلاسفة ارتيابا يضيف إليه شيئا كبيرا، قال طرفة:
كريم يروي نفسه في حياته
ستعلم إن متنا غدا أينا الصدي
1
أرى قبر نحام
2
بخيل بماله
كقبر غوي
3
في البطالة مفسد
أرى جثوتين
4
من تراب عليهما
صفائح صم من صفيح منضد
أرى الموت يعتام
5
الكرام ويصطفي
عقيلة
6
مال الفاحش المتشدد
أرى العيش كنزا ناقصا كل ليلة
وما تنقص الأيام والدهر ينفد
لعمرك إن الموت ما أخطأ الفتى
لكالطول
7
المرخى وثنياه
8
باليد
متى ما يشأ يوما يقده لحتفه
ومن يك في حبل المنية ينقد
وتقرب من تلك الأفكار الممتازة أنشودة حرب جاء بها پلغريڨ من نجد، ولم يعرف زمن قرضها، فمنها يبدو للقارئ بوضوح، كما يبدو له من القصيدة السابقة، ماذا كان يجول في خاطر المحارب العربي، وإليك تلك القصيدة:
أقول لها وقد طارت شعاعا
من الأبطال ويحك لن تراعي
فإنك لو سألت بقاء يوم
على الأجل الذي لك لن تطاعي
فصبرا في مجال الموت صبرا
فما نيل الخلود بمستطاع
ولا ثوب البقاء بثوب عز
فيطوى عن أخي الخنع
9
اليراع
10
سبيل الموت غاية كل حي
فداعيه لأهل الأرض داعي
وما للمرء خير من حياة
إذا ما عد من سقط المتاع
وداوم العرب على قرض الشعر دوام حضارتهم، وإن لم يسبقوا المستوى الذي وصل إليه قبل النبي، وكان يقرض الشعر كل رجل مثقف، سياسيا كان أو فلكيا أو طبيبا، ولم يكن لغوا قول بعضهم: «إن العرب وحدهم قرضوا من الشعر ما لم تقرضه أمم العالم مجتمعة»، وكان من حب العرب للشعر أن صاروا، في بعض الأحيان، يؤلفون كتب التوحيد والفلسفة والجبر نظما، ومن يطالع قصصهم ير أكثرها ممزوجا بقطع شعرية.
ومما بلغ درجة الثبوت في أيامنا، كما يظهر، أن الأوربيين اقتبسوا فن القافية من العرب، ودلت مباحث ڨياردو وغيره من الكتاب الكثيرين على هذا الأمر الذي كان الأسقف هويه قد بينه منذ زمن طويل.
ويعزى مصدر الشعر الإسپاني والشعر الپروڨنسي إلى ما كان لشعراء عرب الأندلس من التأثير، ويلوح لي هذا الرأي قويما كالرأي السابق، ولكن إيضاح الأسباب التي يستند إليها في هذا يتطلب إفاضة لا يحتملها صدر هذا الكتاب. (3-2) الروايات والأقاصيص
زاول العرب جميع أنواع الأدب، فضلا عن الشعر، ويوجد للعرب روايات في المخاطر والحب والفروسية ... إلخ، وترى في روايات العرب، مع قلة اعتنائهم بنفسية الأشخاص، فوائد كبيرة لاشتمالها على ضروب المغامرات العجيبة، وجمل العرب، بخيالهم الساطع، كل شيء لمسوه،
11
وهم الذين لا نظير لهم في الفن.
والعرب هم الذين ابتدعوا روايات الفروسية، قال سيديو: «كان خيال الشعراء يتجلى في الروايات والأقاصيص، وكان أتباع محمد من أكابر المحدثين دائما، وكانوا يجتمعون مساء تحت خيامهم؛ ليسمعوا بعض الأقاصيص العجيبة التي تتخللها الموسيقا والغناء كما في غرناطة، ويخبر ما في إسپانية من القصص المؤلفة من قطع مترجمة، أو التي قلد بها العرب، إخبارا صحيحا عن الأعياد وألعاب الخواتم وصراع الثيران وحروب النصارى والمسلمين، والتفاخر ورقص الفرسان والتشبيب والغزل ... وما إلى ذلك من الأمور التي اشتهر بها عرب الأندلس في أوربة.»
ومن أشهر أقاصيص العرب نذكر مقامات الحريري، ومقامات الهمذاني، ورواية ألف ليلة وليلة على الخصوص.
واشتهرت مقامات الحريري في الشرق بأسره. وولد الحريري سنة 1054م، وتوفي سنة 1121م في البصرة بعد أن ذاع صيته بأنه من علماء عصره، وتشتمل كل من مكتبة باريس الوطنية ومكتبة مسيو شيفر على نسخة خطية مصورة جميلة من مقاماته.
وكان الهمذاني، المتوفى سنة 1007م، ذا شهرة واسعة في ذلك المضمار أيضا، وكان الهمذاني ذا ذاكرة قوية فيحفظ القصيدة على ظهر القلب عندما يسمعها أول مرة، وكان الهمذاني مشهورا، أيضا، بصفاء لغته وانتقاء التعابير في ارتجالاته.
وتعد رواية ألف ليلة وليلة الباهرة أكثر القصص العربية شهرة لا ريب، واختلف كثيرا في مصدرها، ويظهر من الثابت اليوم أنها مجموعة قطع وضعت في أزمنة مختلفة جدا، وأن بعضها وضع قبل القرن العاشر من الميلاد لذكرها في كتاب مروج الذهب الذي ألفه المسعودي في ذلك الزمن، وتجد في هذه الرواية قصصا من أصل هندوسي وفارسي، ولكن أكثرها ألفه عرب مصر فيما بين القرن الثالث عشر والقرن الخامس عشر من الميلاد.
وذكر أستاذ اللغات الشرقية في هيدلبرغ، مسيوڨيل، وذلك في مقدمة الطبعة الألمانية لرواية ألف ليلة وليلة وفق النص الشرقي، أنه لا يجوز الشك في أن أكثر القصص فيها عربي، وأن ما فيها من أصل عربي يختلف كثيرا عما فيها من أصل هندوسي بارز في المجموعة المعروفة بذلك الاسم، أيضا، في القرون الأولى من الإسلام.
وتعد رواية ألف ليلة وليلة من أكثر كتب الأدب التي وضعها الإنسان إمتاعا مع ما فيها من نقائص واضحة جدا، وأضيف إلى ما فيها من متعة ما في قراءتها من فائدة، فيها ينال القارئ معارف صحيحة عن طبائع العرب ومشاعرهم ووجه تفكيرهم في بعض الأدوار.
شكل 2-5: إفريز كوب عربي ذي كتابة بتشويه القسم الأسفل من رسم الأشخاص.
وكل تاريخ يكون مدخلا لها يشمل النظر، وذلك لما يلقيه من نور قوي على أحوال الشرقيين النفسية الصميمة، ودوافعهم الخلقية، ورأيهم في المرأة ... إلخ، والحق أن أقاصيص الأمم وأساطيرها من الأدلة التي أهمل التاريخ أمرها زمنا طويلا، والتي أخذ العلماء يدركون شأنها في الوقت الحاضر، ومن ذلك أن توصلنا، بتحليل الأغاني الشعبية والأساطير، وذلك في درسنا أمر تلك الأمة الغريبة التي أتيح لنا أن نرقبها في جبال تترة، إلى معارف ثمينة تمكنا بها من رسم المزاج النفسي لأجداد شعب لم يكتب له تاريخ قط. (3-3) الحكايات والأمثال
الحكايات والرموز والأمثال من أكثر ما عني به في الشرق، ومنها يتألف نوع من الآداب التي تلائم النفس، وتحفظ في الذاكرة بسهولة، مع أن الأفكار المجردة تتعب وتنسى سريعا.
ويعد لقمان الأسطوري أشهر من جاء بالحكايات، وجعل محمد من لقمان، في القرآن، مثال الحكمة، ويرى فريق من العلماء أنه معاصر لداود، ويراه فريق ثان معاصرا لإبراهيم، ويرى فريق ثالث أن مؤلف الحكايات شخص غير لقمان ظهر بعد محمد ؛ ويدل ما بين حكايات لقمان وحكايات إيزوب من الشبه على أن ذلك اقتبس من هذا أو أن كليهما استقى من منبع واحد على الأقل.
وأمثال العرب كثيرة إلى الغاية، ومن أمثال العرب اقتبست إسپانية وبقية أوربة عددا من الأمثال غير قليل، ومن يدقق في حكمة سانكو پانسا ير قسمها الكبير، الذي لا ينضب معينه من أصل إسلامي.
وإنني، تنويرا للقارئ، أنقل بعضها الآتي من كتاب مسيو پياس:
العيش تحت جناح الذبابة خير من النوم في الجبانة.
استفد من شبابك فالعمر قصير.
انس همومك في ليلتك ما دمت جاهلا ما في غدك.
عاشر حدادا تضرج بالسناج،
12
وعاشر عطارا تنل شذا الأزهار ...
خشبة تلهب المحبة.
من يتزوج امرأة من أجل جمالها يخدع، ومن يتزوجها من أجل مالها يطمع، ومن يخترها من أجل رشادها يمتع.
إذا ما أحبكم النساء فتحن لكم الأسداد، وإذا ما كرهنكم أقمن أمامكم سورا من خيط العنكبوت كأنه من صنع حداد.
راحة بال مع فقر خير من هم مع يسر.
لا تدخل الذبابة فما يستطيع السكوت.
التدبير نصف المعيشة، وقد يكون به كل المعيشة.
لا تلد الفأرة إلا فأرة.
الشجرة التي تخرج الورد تخرج الشوك.
شاور من يبكيك لا من يضحكك.
في الصلاح سر النجاح.
ثلاثة خير من ثلاثين: الجمال والتقوى وكتمان الهوى.
منهومان
13
لا يشبعان: طالب علم وطالب مال.
شكل 2-6: كتابة عربية حديثة وجدها المؤلف في بيت بدمشق.
شكل 2-7: كتابة عربية حديثة وجدها المؤلف في بيت عربي بدمشق. (3-4) التاريخ
مؤرخو العرب كثيرون، وقد عد حاجي خليفة وحده في مكتبته الشرقية (كشف الظنون) 1200 مؤرخ عربي، وكان يعوز مؤرخي العرب روح النقد على العموم، كما كان يعوز جميع مؤرخي القرون الوسطى، وكما يعوز الكثيرين ممن قلدهم من الكتاب المعاصرين، وقد قلت «على العموم» لوجود مؤرخين قليلين بلغوا درجة عالية من تلك الروح المسيطرة كابن خلدون.
ونذكر من قدماء مؤرخي العرب: الطبري الذي ألف، في أواخر القرن التاسع من الميلاد، تاريخا عاما عن الزمن الذي مر منذ بدء العالم إلى سنة 914م، ونذكر من مؤرخي العرب المشهورين: المسعودي الذي عاش في القرن العاشر من الميلاد فألف عدة كتب في التاريخ، ككتاب أخبار الزمان وكتاب مروج الذهب ... إلخ.
قال مسيو كاترمير عن المسعودي: «إذا ما نظر الإنسان إلى كتبه بهت من تنوع المواد التي كتب فيها، ومن كثرة المسائل المهمة العويصة التي حلها، والحق أنه كان واسع الفضل في الزمن الذي نبغ فيه، لا لأنه قرأ جميع الكتب الخاصة بالعرب وتأمل فيها فقط، بل لإحاطة مباحثه الواسعة بتاريخ اليونان والرومان وجميع أمم الشرق حديثها وقديمها أيضا.»
وألف مؤرخو العرب كتبا كثيرة في التاريخ العام، ونذكر منهم أبا الفرج الذي توفي سنة 1286م.
شكل 2-8: جزء من كتابة صندوق فارسي مرصع بالصدف (مجموعة شيفر، من صورة فوتوغرافية التقطها المؤلف).
ويتصف ابن خلدون، الذي ولد في سنة 1332م، بروح النقد التي تكلمنا عنها آنفا، وألف ابن خلدون تاريخ البربر حيث عرضهم بادئا بمبادئ رائعة في النقد التاريخي، وترجم كتابه هذا إلى الفرنسية.
وألف المقريزي، المعاصر لابن خلدون، تاريخا عن مصر يعد أحسن مصدر للبحث فيها، ويظهر أن هذا التاريخ قسم من ثمانين مجلدا له في التاريخ العام.
وألف النويري، المتوفى في مصر سنة 1331م، موسوعة تاريخية كبيرة.
وألف صاحب حماة أبو الفداء، المتوفى سنة 1331م، والمشهور بأنه من علماء التاريخ والجغرافية ومن رجال الحرب معا، كتابا في أخبار البشر عظيم الفائدة في معرفة ما هو خاص بالشرق.
وكتب التراجم عند العرب كثيرة أيضا، وأشهرها كتاب المكتبة الشرقية (كشف الظنون) الذي ألفه حاجي خليفة المتوفى سنة 1658م، والذي هو معجم لأسماء نحو 18500 كتاب شرقي، والذي ألحق فيه اسم كل كتاب منها باسم مؤلفه مع بيان عنه. (3-5) البيان والبلاغة
اهتم مؤلفو العرب بالأسلوب كثيرا، وكثرت كتبهم في البلاغة والنحو، فأحصى الغزيري في مكتبة الإسكوريال، وهي التي ليس فيها سوى القليل من كتب الأدب العربي، التي تفلتت من يد الإبادة والتخريب، أكثر من ثلاثمائة كتاب في البلاغة، ولم تنقل هذه الكتب إلى اللغات الأخرى، ولا أرى كبير فائدة في نقلها إليها؛ لأن من شأن علم النحو والبلاغة تهذيب الأسلوب، لا ابتداعه، ولأن بدائع الفن، لا كتب النحو، هي التي يجب درسها للحكم في آداب الأمة، ولأن علم النحو وعلم البلاغة وليدا آداب الأمة.
ولا نستطيع أن نحكم في بلاغة العرب من رسائلهم في البيان وفي النحو، وما كان العرب ليعرفوا غير البلاغة الدينية خارج التعليم الجامعي، وما كان نظامهم السياسي ليحتمل غير هذا، والحق أن البلاغة الدينية ذات سلطان عظيم على النفوس في الشرق، ولكن ما أسفرت عنه قرائح خطبائهم لم ينته إلينا.
وليس ما تقدم سوى خلاصة لخلاصة تاريخ آداب اللغة العربية، ومع ذلك فإنه يكفي للإلمام بأهمية آثارهم الأدبية وتنوعها، ولن يكون لنا هدف غير هذا في كتاب مجمل كهذا الكتاب.
هوامش
الفصل الثالث
الرياضيات وعلم الفلك
(1) الرياضيات
اتسع البحث في الرياضيات، ولا سيما علم الجبر، عند العرب، وعزي إلى العرب اكتشاف علم الجبر، ولكن أصوله كانت معروفة منذ زمن طويل، ومع ذلك فقد حول العرب علم الجبر تحويلا تاما، وإليهم يرجع الفضل في تطبيقه على علم الهندسة.
وبلغ علم الجبر من الانتشار بين العرب ما ألف معه محمد بن موسى كتابا موطئا له بأمر المأمون في أوائل القرن التاسع من الميلاد، ومن ترجمة هذا الكتاب اقتبس الأوربيون معارفهم الأولى لعلم الجبر، بعد زمن طويل.
وأقتصر على ذكر أهم أعمال العرب الرياضية بإيجاز؛ لما في بيانها مفصلا من الدخول في الدقائق الفنية، وأقول: إن العرب هم الذين أدخلوا المماس إلى علم المثلثات، وأقاموا الجيوب مقام الأوتار، وطبقوا علم الجبر على الهندسة، وحلوا المعادلات المكعبة، وتعمقوا في مباحث المخروطات، وحولوا علم المثلثات الكرية بردهم حل مثلثات الأضلاع إلى بضع نظريات أساسية تكون قاعدة له.
ولإدخال المماس إلى علم المثلثات أهمية عظيمة، واسمع ما قاله مسيو شال في كتابه «خلاصة تاريخ أصول الهندسة»:
لم تؤثر تلك الثورة العلمية المباركة، التي أدت إلى طرح تلك الطرق المركبة الثقيلة في الجيب، وتمام الجيب، في علماء القرون الحديثة إلا بعد مرور خمسمائة سنة، وذلك بدعوة ريجيو مونتانوس، وإن جهل تلك الثورة كوپرنيك الذي ظهر بعد نحو قرن. (2) علم الفلك عند العرب
علم الفلك هو من أول ما اعتني به في بغداد، ولم يدرس العرب وحدهم مسائله، بل سار على طريقهم وارثوهم أيضا، ولا سيما حفيد تيمورلنك، أولوغ بك، الشهير بزيجه، والذي يمكن عده المثل الأخير لمدرسة بغداد التي دام زمن ازدهارها سبعة قرون (750م-1450م).
وكانت بغداد مركزا مهما لمباحث علم الفلك، ولكنها لم تكن مركز هذه المباحث الوحيد، فالمراصد التي كانت قائمة في البلاد الممتدة من آسية الوسطى إلى المحيط الأطلنطي كثيرة، ومنها ما كان في دمشق وسمرقند والقاهرة وفاس وطليطلة وقرطبة ... إلخ.
وأهم مدارس الفلك ما كان في بغداد والقاهرة والأندلس، ولنقل كلمة عن كل واحدة منها: أخذ خلفاء بني العباس، منذ اتخاذهم مدينة بغداد، التي أقيمت سنة 762م، عاصمة لدولتهم، يحثون على دراسة علم الفلك والرياضيات، وعلى ترجمة ما ألفه إقليدس وأرشميدس وبطليموس، وترجمة جميع كتب اليونان في تلك العلوم، ويستدعون العلماء الذين كانوا على شيء من الشهرة إلى بلاطهم.
وأدت مدرسة بغداد الفلكية في زمن هارون الرشيد، وفي زمن ابنه المأمون (814م-833م) على الخصوص، إلى أعمال مهمة، وأدمجت مجموعة الأرصاد التي تم أمرها في المراصد ببغداد ودمشق في كتاب «الزيج المصحح» الذي نأسف على ضياعه، ومع ذلك يمكننا أن نعلم صحة الأرصاد التي اشتمل عليها هذا الكتاب من الدقة العظيمة التي عين بها انحراف سمت الشمس في ذلك الزمن، فقد كان رقم الانحراف، كما حقق فيه، 23 درجة و33 دقيقة و52 ثانية، أي ما يعدل الرقم الحاضر.
ونشأ عن رصد العرب للاعتدال الشمسي تعيينهم مدة السنة بالضبط، وأقدم العرب على قياس خط نصف النهار الذي لم يوفق له إلا بعد مرور ألف سنة، وأنجزوا هذا القياس بحسابهم المسافة الواقعة بين نقطة البداءة التي سار منها الراصدون ونقطة النهاية التي ظهر فيها اختلاف في ارتفاع القطب درجة واحدة، ولم نعلم النتيجة؛ لجهلنا المقدار الصحيح لوحدة الطول التي اصطلحوا عليها، ونستبعد، مع ذلك، أن يكون الرقم الذي توصلوا إليه صحيحا تماما بعد النظر إلى قصر ذلك الخط.»
ونذكر من أعمال فلكيي مدرسة بغداد الأخرى ما وضعوه من التقاويم لأمكنة الكواكب السيارة، وتعيينهم بالضبط مبادرة الاعتدالين.
وقد انتهت إلينا أسماء بعض علماء الفلك في ذلك الزمن، ومن أشهرهم البتاني الذي عاش في القرن التاسع وتوفي سنة 929م، والذي كان له من الشأن بين العرب ما لبطليموس بين الأغارقة، وقد احتوى كتابه «زيج الصابي» على معارف زمنه الفلكية كما احتوى كتاب بطليموس، ولم يصل إلينا النص الأصلي لأزياجه التي لم تعرفها أوربة إلا من ترجمتها اللاتينية المحرفة مع الأسف، ووضع لالاند الشهير البتاني في صف الفلكيين العشرين الذين عدوا أشهر علماء الفلك في العالم.
وألف أماجور وابنه، اللذان قاما برصد بين سنة 883م وسنة 933م، أزياجا، وذهب هذا الأخير إلى تحول حدود أكبر دائرة من دوائر عرض القمر، خلافا لمن تقدمه من علماء الفلك، ولا سيما بطليموس، فأدى درس هذا الشذوذ في دوائر عرض القمر إلى اكتشاف اختلاف قمري ثالث.
واشتهر أبناء موسى بن شاكر الثلاثة، الذين عاشوا في القرن التاسع من الميلاد، بأنهم من علماء الفلك أيضا، فقد عينوا بضبط لم يكن معروفا قبلهم مبادرة الاعتدالين، ووضعوا تقاويم لأمكنة النجوم السيارة، وقاسوا عرض بغداد في سنة 959م، وقيدوه 33 درجة و20 دقيقة، أي برقم يصح بعشر ثوان تقريبا.
وأشهر علماء الفلك الكثيرين الذين ظهروا بعد أولئك هو أبو الوفاء المتوفى ببغداد في سنة 998م، ومما عرفه هذا العالم الفلكي هو الاختلاف القمري الثالث الذي أشرنا إليه آنفا، وذلك كما ظهر من كتابه العربي الخطي المهم الذي عثر عليه سيديو منذ بضع سنين، وذلك أنه استوقف نظره ما في نظرية بطليموس من النقص في أمر القمر فبحث في أسبابه فرأى اختلافا ثالثا، غير المعادلة المركزية والاختلاف الدوري، يعرف اليوم بالاختلاف.
والحق أن هذا الاكتشاف، الذي عزي بعد أبي الوفاء بستمائة سنة إلى تيخو براهه، عظيم إلى الغاية، فقد استدل مسيو سيديو به على وصول مدرسة بغداد، في أواخر القرن العاشر، إلى أقصى ما يمكن علم الفلك أن يصل إليه بغير نظارة ومرقب.
وكان أبو الوفاء مجهزا بآلات متقنة، فقد شاهد انحراف سمت الشمس بربع دائرة يبلغ نصف قطرها إحدى وعشرين قدما، أي يبلغ من الاتساع ما يعد كبيرا في المراصد الحديثة.
والحوادث التي أدت منذ أواخر القرن العاشر إلى انحطاط سلطان الخلفاء السياسي ببغداد أوجبت فتورا في الدراسات، ونشأ عن انقسام الدولة ومغازي السلجوقيين، والحروب الصليبية، وغارات المغول - اضطراب البلاد، وقيام القاهرة وجامعات الأندلس العربية العظيمة مقام بغداد في زعامة الإسلام العلمية.
ومع ذلك لم تكف بغداد عن مزاولة العلوم، وكان حب العرب للعلوم من القوة بحيث لم تمنعهم الحروب والفتن الأهلية وغارات الأجنبي من الاهتمام لها، وبلغ العرب من سعة المعارف ما أثروا معه تأثيرا كبيرا في قاهريهم، وما صار معه هؤلاء الغالبون حماة لهم من فورهم.
ولا شيء، يورث العجب أكثر من انتصار حضارة العرب على همجية جميع الغزاة، ومن تخرج هؤلاء الغزاة، من فورهم، على مدرسة العرب المغلوبين، فقد دام عمل العرب في حقل الحضارة إلى ما بعد زوال سلطانهم السياسي بزمن طويل، وقد دام بفضل ذلك تقدم بغداد العلمي بعد أن صارت قبضة الأجانب، وقد داومت مدرسة بغداد الفلكية على ازدهارها إلى أواسط القرن الخامس عشر من الميلاد، ولم تنقطع عن نشر رسائل مهمة في الفلك، ومن ذلك أن نشر البيروني، والذي كان مشيرا للسلطان محمود الغزنوي (سنة 1030م)، مقالته في «تصحيح الطول والعرض لمساكن المعمور من الأرض»، والبيروني هذا زار بلاد الهند وعلم الهندوس ما انتهت إليه مدرسة بغداد، ومن ذلك أن أمر السلطان ملكشاه السلجوقي، في سنة 1079م بالقيام بأرصاد أسفرت عن إصلاح التقويم السنوي بما هو أفضل من التقويم الغريغوري الذي تم بعد ستمائة سنة، وذلك لأن التقويم الغريغوري يؤدي إلى خطأ ثلاثة أيام في كل عشرة آلاف سنة، مع أن التقويم العربي لا يؤدي إلا إلى خطأ يومين في مثل ذلك الزمن.
ولم يكن المغول أقل اعتناء بالعلماء من السلجوقيين، فقد استدعى هلاكوخان في سنة 1259م أفضل علماء العرب إلى بلاطه، وأقام في مراغة مرصدا كبيرا نموذجيا، ولم يلبث كوبلاي خان، الذي هو أخ لهلاكو ، أن نقل إلى بلاد الصين التي افتتحها كتب علماء بغداد والقاهرة في علم الفلك، واليوم نعلم أن فلكيي الصين، ولا سيما كوشو كنغ (1280)، استنبطوا معارفهم الفلكية الأساسية من تلك الكتب، ولذا نقول: إن العرب هم الذين نشروا علم الفلك في العالم كله بالحقيقة.
شكل 3-1: أسطرلاب عربي قديم (متحف العاديات الإسپاني).
ولما استقر تيمورلنك بسمرقند، التي اتخذها عاصمة دولته العظمى المشتملة على التركستان وبلاد فارس والهند، جمع حوله فريقا من علماء العرب، ولما آل سلطان سمرقند إلى حفيده أولوغ بك الذي عاش في القرن الخامس عشر من الميلاد أقبل على علم الفلك بنشاط عظيم، وأحاط نفسه بعدد غير قليل من علماء المسلمين، واستطاع، بما لديه من الغنى، أن يصنع آلات رصدية كانت غير معروفة قبل ذلك التاريخ، فزعم أنه أنشأ ربع دائرة يبلغ نصف قطرها ارتفاع كنيسة أياصوفية في القسطنطينية، ويمكن عد أولوغ بك، الذي لا يفصله عن كيپلر سوى قرن ونصف قرن، آخر ممثل لمدرسة بغداد الفلكية، أي أداة وصل بين القدماء والمتأخرين؛ لما قام به من الأعمال المهمة.
شكل 3-2: الوجه الثاني للأسطرلاب السابق.
ويعد الكتاب الذي نشره أولوغ بك، سنة 1437م، صورة صادقة عن المعارف الفلكية التي انتهت إليها المدرسة العربية في أواسط القرن الخامس عشر من الميلاد، وقد بحث المؤلف في القسم الأول من هذا الكتاب في مسائل علم الفلك، ودرس فيه أقسام الوقت، وموضوع التقويم، ومبادئ علم الفلك العامة، ثم موضوعات هذا العلم العملية كحساب الكسوف والخسوف وتأليف الأزياج واستعمالها ... إلخ، وتشتمل هذه الأزياج على فهارس الكواكب، وحركات القمر والشمس والكواكب السيارة، وطول أهم مدن العالم وعرضها، ومن هذه المدن مدينة سمرقند التي ذكر أن عرضها 29 درجة و27 دقيقة و28 ثانية، فلم أجده في كتب المعاصرين.
وختم هذا الكتاب بمباحث فن التنجيم الخيالي الذي كان معتبرا كثيرا في زمن أولوغ بك.
وأدى اشتغال أولوغ بك بفن التنجيم إلى قتله، وذلك أنه تخيل، من اقترانات بعض الكواكب السيارة، أن ابنه البكر سيقتله، وأنه جرد ابنه هذا من مناصبه، وأن هذا الابن ثار على أبيه من فوره وغلبه، وأن أباه أولوغ بك، هرب إلى التركستان، ثم رجع إلى سمرقند على الرغم من نبوءة النجوم فقتله ابنه.
ومع ذلك فإن جميع علماء الفلك اعتقدوا صحة فن التنجيم، ومنهم فلكيو أوربة إلى زمن قريب، حتى إن كيپلر العظيم نفسه كان على هذا الاعتقاد فألف تقاويم نبوية.
ونذكر، بجانب مدرسة بغداد الفلكية: مدرسة القاهرة التي أخذت - بعد أن فصلت عن بغداد في أواخر القرن العاشر من الميلاد - تنافسها في ميدان العلم، فقد اعتنى ولاة أمورها بعلم الفلك اعتناء ولاة أمور بغداد به، وقد أصبح المرصد الذي أنشأوه على جبل المقطم، القائمة عليه القلعة في الوقت الحاضر، من الطراز الأول، وفي مرصد القاهرة وضع ابن يونس، المتوفى سنة 1007م، وذلك في عهد الحاكم (990-1021م)، الزيج الكبير الذي سماه «الزيج الحاكمي» والذي حل محل الأزياج التي وضعت قبله، واستنسخ الزيج الحاكمي في جميع كتب علم الفلك ومنها الكتاب الذي ألفه كوشو كنغ في الصين سنة 1280م.
وروى ابن السنبدي، الذي كان يقيم بالقاهرة سنة 1040م، أن مكتبة هذه المدينة كانت تشتمل - في القرن الحادي عشر من الميلاد - على كرتين فلكيتين، وستة آلاف كتاب في الرياضيات وعلم الفلك.
ولم تكن آثار العرب الفلكية في الأندلس أقل أهمية من آثار المسلمين الفلكية في المشرق، ولكنه لم يبق منها سوى القليل؛ لإبادة جميع مخطوطاتها تقريبا إبادة منظمة، ولم تترجم هذه الآثار القليلة التي نجت من التحريق، ونرجح أنها لن تترجم؛ لما تقتضيه من معرفة تامة للغة العرب، وللاصطلاحات الفنية التي لا يعلمها غير المتخصصين.
ولا نعرف عن أكثر فلكيي العرب في الأندلس شيئا غير أسمائهم، ولا نعلم عن كتبهم غير إشارات موجزة تكفي لبيان أهميتهم، ومن ذلك أن ولد الزرقيال، الذي كان حيا حوالي سنة 1080م ، قام ب 402 رصد؛ ليعين البعد الأقصى للشمس، وأنه عين مقدار حركة المبادرة السنوية لنقطتي الاعتدالين بخمسين ثانية، أي ما يعدل ما جاء في أزياجنا الحديثة بالضبط، وأنه كان يرقب الأفلاك بآلات اخترعها بنفسه، وأنه صنع ساعات دقاقة أعجب بها الناس في طليطلة أيما إعجاب.
وإذ لم تكن كتب عرب الأندلس في علم الفلك موجودة، أمكن الاستدلال على ما احتوته بما جاء في كتب نصارى ذلك الزمن، ومن ذلك ما توصل إليه سيديو (الذي درس رسائل الملك الأذفونش العاشر القشتالي الفلكية وما ماثلها) من النتائج القائلة: إن العرب سبقوا كيپلر وكوپرنيك في اكتشاف حركات الكواكب السيارة على شكل بيضي، وفي نظرية دوران الأرض، وإن أزياج الأذفونش العاشر المسماة «الأزياج الأذفونشية» مأخوذة عن العرب.
شكل 3-3: وجه سابق لأسطرلاب عربي محفوظ في المكتبة الوطنية بباريس (من صورة فوتوغرافية).
وكان علماء الفلك في إفريقية، ولا سيما طنجة وفاس ومراكش ينافسون علماء الفلك في الأندلس، ولكننا نجهل آثارهم جهلنا لآثار علماء الأندلس، ونعلم، مع ذلك، أن أبا الحسن المراكشي، الذي كان يعيش في القرن الثالث عشر من الميلاد، عين، بضبط لم يسبقه إليه أحد، العرض والطول لإحدى وأربعين مدينة إفريقية واقعة بين مراكش والقاهرة، أي ما مسافته تسعمائة فرسخ، وأنه قيد مشاهداته في كتابه «جامع المبادئ والغايات في علم الميقات» الذي اشتمل على معارف ثمينة لآلات الرصد العربية، فترجم سيديو بعضه.
شكل 3-4: وجه لاحق لذلك الأسطرلاب (من صورة فوتوغرافية).
ولم يعرف العرب سوى المزولة لتعيين الوقت بالضبط، ولم تكن ساعاتهم صالحة للمباحث الفلكية الدقيقة؛ لعدم تطبيقهم الرقاص عليها.
وكان العرب يعينون الزوايا بأرباع الدائرة والأسطرلاب، وقد وصل إلينا عدد غير قليل من الأسطرلابات، ويوجد في مكتبة باريس الوطنية وحدها ثلاثة أسطرلابات، فنشرنا صورة لأحدها في هذا الكتاب، فمن ينعم النظر في تركيبها يعلم أنها دالة على حذق كبير، وأنه يصعب صنع ما هو أحسن منها في الوقت الحاضر.
ويسهل بيان تركيب الأسطرلاب؛ فهو مؤلف من قرص معدني مقسم إلى درجات، ويدور على هذا القرص عداد ذو ثقبين في طرفيه، ويعلق الأسطرلاب من حلقته تعليقا عموديا، ثم يوجه العداد نحو الشمس، فمتى مرت أشعة الشمس من ذينك الثقبين قرئ ارتفاع الكوكب من الحد الذي وقف العداد عليه.
شكل 3-5: أسطرلاب عربي لفليب الثاني بإسپانية (متحف العاديات الإسپاني).
وكانت أرباع الدائرة كبيرة في المرصد أحيانا، ولا فائدة من استعمالها في الوقت الحاضر بعد اختراع آلة ڨرنيه الدقيقة التي نتمكن بها من معرفة الدقائق والثواني في أصغر الآلات، ولكن بما أن حيازة دائرة مشتملة على تقسيم الدرجات إلى دقائق والدقائق إلى ثوان، تتطلب نصف قطر كبير بحكم الطبيعة كان من عادة فلكيي العرب أن يكتفوا بتقسيم الدقيقة إلى اثني عشر قسما، فيدل كل قسم من هذه الأقسام على خمس ثوان.
وكذلك كان العرب يقيسون ارتفاع الشمس بامتداد ظل ميل على سطح أفقي، ويكون مثل هذا القياس دقيقا عندما تكون الآلة المنصوبة عالية.
وتلخص اكتشافات العرب الفلكية بما يأتي: إدخال المماس إلى الحساب الفلكي منذ القرن العاشر من الميلاد، ووضع أزياج لحركات الكواكب، وتعيين دقيق لانحراف سمت الشمس ونقصانه التدريجي، وتقدير مبادرة الاعتدالين بالضبط، وتحديد صحيح لمدة السنة، وتحقيق لشذوذ أعظم عرض للقمر، وكشف للاختلاف القمري الثالث المعروف بالاختلاف في الوقت الحاضر، والذي قيل إن تيخو براهه اهتدى إليه في سنة 1601م لأول مرة.
الفصل الرابع
العلوم الجغرافية
(1) ريادات العرب الجغرافية
كان العرب من السياح المقاديم في كل وقت، وكانوا لا يخشون المساوف والمراحل، واليوم، أيضا، نراهم يأتون مكة من أقصى البقاع، ويجوبون بقوافلهم داخل إفريقية كأمر بسيط، فيصادفهم فيها الأوربيون الذين لا يبلغونها إلا بشق الأنفس.
وكان للعرب، منذ السنين الأولى من قيام دولتهم، علائق تجارية بما كان الأوربيون يشكون في وجوده من البلدان، كالصين وبعض البقاع الروسية ومجاهل إفريقية ... إلخ.
والآن أشير بإيجاز إلى أعمالهم الجغرافية ورياداتهم وحدها، ما دمت سأذكر، في الفصل الذي خصصته للبحث في علاقات المسلمين التجارية، البلاد التي كانت لهم صلات تجارية بها، والطرق التي كانوا يسلكونها للوصول إليها.
وكانت طليعة رواد العرب مؤلفة من تجار يسيحون للتجارة، وعلى ما كان يعوز هؤلاء من الاستعداد الضروري للتأمل العلمي لم تخل رحلاتهم التجارية من طرائف مفيدة في بعض الأحيان.
حقا لم يخرج أمر سياحات العرب القديمة التي انتهى إلينا خبرها عن ذلك المعنى، ومنها سياحة التاجر سليمان لبلاد الصين في القرن التاسع من الميلاد، فقد أبحر سليمان من مرفأ سيراف الواقع على الخليج الفارسي حيث كانت تكثر المراكب الصينية، وجاوز المحيط الهندي، وبلغ شواطئ بلاد الصين، وكتب رحلته في سنة 851م، ثم أكمل أحد أبناء وطنه أبو زيد كتاب هذه الرحلة في سنة 880م، وأضاف إليها معارف أخذها عن عرب زاروا بلاد الصين.
وكتاب سليمان، الذي نقل إلى اللغة الفرنسية في أوائل القرن الأخير، هو أول مؤلف نشر في بلاد الغرب عن بلاد الصين.
شكل 4-1: خريطة عربية وضعت في أواسط القرن الثاني عشر من الميلاد (رسمها پريس الأڨيني في القاهرة).
وإذا كان سليمان باحثا عاديا فغير ذلك شأن المسعودي الشهير الذي ولد ببغداد في أواخر القرن التاسع من الميلاد، فقد قضى المسعودي خمسا وعشرين سنة من حياته في الطواف في مملكة الخلفاء الواسعة، وفي الممالك المجاورة لها كبلاد الهند، وقيد ما شاهده في تآليفه الكثيرة المهمة التي نعد كتاب «مروج الذهب» أشهرها، قال المؤرخ العربي العلامة ابن خلدون الذي ذكرناه غير مرة والذي ظهر بعد المسعودي بأربعمائة سنة ما يأتي:
فأما ذكر الأحوال العامة للآفاق والأجيال والأعصار فهو أس للمؤرخ تنبني عليه أكثر مقاصده، وتتبين به أخباره، وقد كان الناس يفردونه بالتأليف، كما فعله المسعودي في كتاب مروج الذهب، شرح فيه أحوال الأمم والآفاق لعهده في عصر الثلاثين والثلاثمائة (941م) غربا وشرقا، وذكر نحلهم وعوائدهم، ووصف البلدان والجبال والبحار والممالك والدول، وفرق شعوب العرب والعجم، فصار إماما للمؤرخين يرجعون إليه، وأصلا يعولون في تحقيق الكثير من أخبارهم.
ثم بدأ ابن حوقل، الذي ولد كالمسعودي في بغداد برحلاته بعد أن تمت رحلات المسعودي، واسمع ما قاله ابن حوقل في كتابه:
قد عملت كتابي هذا بصفة أشكال الأرض ومقدارها في الطول والعرض وأقاليم البلدان ومحل الغامر منها والعمران، من جميع بلاد الإسلام، بتفصيل مدنها، وتقسيم ما تفرد بالأعمال المجموعة إليها، وقد جعلت لكل قطعة أفردتها تصويرا وشكلا يحكي موضع ذلك الإقليم، ثم ذكرت ما يحيط به من الأماكن والبقاع، وما في أضعافها من المدن والأصقاع، وما لها من القوانين والارتفاع، وما فيها من الأنهار والبحار، وما يحتاج إلى معرفته من جوامل ما يشتمل عليه ذلك الإقليم من وجوه الأموال والجبايات والأعشار والخراجات والمسافات في الطرقات، وما فيه من المجالب والتجارات؛ إذ ذلك علم يتفرد به الملوك والساسة وأهل المروءات والسادة من جميع الطبقات.
ورافق البيروني السلطان محمودا الغزنوي في حملته التي جردها على بلاد الهند في سنة 1000م، ونشر ما شاهده في بلاد السند وشمال الهند، وحاول البيروني أن يصحح خريطة تلك البلاد مستندا إلى حسابه الفلكي.
ويمكن أن نعد من السياح أبا الحسن الذي عاش في القرن الثالث عشر من الميلاد وذكرناه بين علماء الفلك، فقد اجتاب بالحقيقة شمال إفريقية الممتد من مراكش إلى مصر، وعين، تعيينا فلكيا، مواضع أربع وأربعين مركزا مهما قاصدا تصحيح خريطة بطليموس عن الدوائر الإفريقية.
وآخر رحالة عربي كبير نذكره هو ابن بطوطة الذي بدأ بسياحاته في سنة 1325م، مسافرا من مدينة طنجة المراكشية ومجولا في إفريقية الشمالية ومصر وفلسطين والعراق وشمال جزيرة العرب إلى مكة، وفي روسية الجنوبية والقسطنطينية ... إلخ، والذي ذهب إلى بلاد الهند مارا من بخارى وخراسان وقندهار، فبلغ مدينة دهلي التي كانت من العواصم الإسلامية، والتي أوفده سلطانها إلى عاهل الصين فانتهى إلى بلاد الصين بحرا، وقد زار في طريقه إلى الصين سيلان وسومطرة وجاوة، ووصل إلى المدينة التي تعرف بپكين في الوقت الحاضر، ثم عاد إلى وطنه بطريق البحر.
ودامت تلك السياحات الأولى التي قام بها ابن بطوطة أربعا وعشرين سنة، ولكن ابن بطوطة لم يشعر في أثنائها بتعب، فقد زار بعدها بلاد الأندلس، وأوغل في قلب إفريقية، وانتهى إلى مدينة تنبكتو، وتوفي ابن بطوطة في مدينة فاس سنة 1377م بعد أن طاف، تقريبا، في جميع العالم الذي كان معروفا في عصره، فريادات كالتي أتاها تكفي لتمجيد من يقوم بها في زماننا أيضا. (2) التقدم الذي حققه العرب في الجغرافية
كان من نتائج ريادات العرب ومعارفهم الفلكية التي ذكرتها أن اتفق لعلم الجغرافية تقدم مهم ، ولا غرو؛ فالعرب الذين اتخذوا في البداءة علماء اليونان، ولا سيما بطليموس، أدلاء لهم في علم الجغرافية لم يلبثوا أن فاقوا أساتذتهم فيه على حسب عادتهم.
كانت مواضع المدن الكثيرة التي عينها بطليموس تعيينا جغرافيا غير مطابقة للحقيقة تماما، وبلغ مقدار غلطه في تعيين طول البحر المتوسط وحده أربعمائة فرسخ.
ويكفي أن نقابل بين الأمكنة التي عينها الأغارقة والأمكنة التي عينها العرب؛ ليظهر لنا مقدار التقدم الذي تم على يد العرب، فهذه المقابلة تدل على أن مقدار العرض الذي حققه العرب يقرب من الصحة بما لا يزيد على بضع دقائق، وأن خطأ الأغارقة فيه بلغ درجات كثيرة.
وكان تعيين الطول صعبا على العرب، وذلك لما يعوزهم في ذلك الحين من مقياس للزمان (كرنومتر) ومن تقاويم مضبوطة للقمر فكانت مغالطهم أظهر من ذلك، وإن لم يزد على درجتين إلا نادرا، أي وإن كانت دون غلط الأغارقة بمراحل.
حقا إن أغاليط الأغارقة في تعيين الطول كانت فاحشة في بعض الأحيان، ومنها أن غلط بطليموس، الذي اتخذ الإسكندرية مبدأ للطول، في طول طنجة نحو 18 درجة فجعله 53 درجة و30 دقيقة بدلا من 35 درجة و41 دقيقة، ومنها أن جعل بطليموس في تقاويمه طول المحور الكبير للبحر المتوسط الممتد من طنجة إلى طرابلس الشام تسع عشرة درجة زيادة على الحقيقة، أي ما يعدل أربعمائة فرسخ تقريبا، مع أن غلط تقاويم العرب فيه أقل من درجة واحدة.
وكتب العرب التي انتهت إلينا في علم الجغرافية مهمة إلى الغاية، وكان بعضها أساسا لدراسة هذا العلم في أوربة قرونا كثيرة.
شكل 4-2: خريطة الإدريسي العربية (1160، من رسم ف. دوسان مارتان).
وأقدم كتاب نعرفه عن العرب في علم الجغرافية هو الكتاب الذي نشره النضر البصري في سنة 740م، ففي هذا الكتاب عالج النضر مختلف الموضوعات التي لا تمت إلى علم الجغرافية بصلة في الغالب، والتي يلوح أنها خاصة بأعراب على الخصوص.
ثم جاء الإصطخري، فألف كتاب الأقاليم في أواسط القرن التاسع من الميلاد، فكان أرقى من كتاب النضر البصري، وكتاب الإصطخري هذا لم يكن ، مع ذلك، سوى إحصاء لما في مختلف الولايات من الأنهار والمدن والجبال ... إلخ.
وما كتبه المسعودي المعاصر للإصطخري والمقدسي في سنة 985م في علم الجغرافية هو من قبيل الرحلات أكثر من أن يكون من الكتب الجغرافية.
وأشهر جغرافيي العرب هو الإدريسي، ومن كتب الإدريسي، التي ترجمت إلى اللاتينية، تعلمت أوربة علم الجغرافية في القرون الوسطى.
ولد الإدريسي في الأندلس، ثم ساقت الإدريسي مغامرات كثيرة إلى بلاط ملك صقلية، روجر، بعد أن استولى النورمان عليها بزمن قصير، ولما كانت سنة 1154م ألف الإدريسي كتابه الجغرافي العظيم، مشتملا على ما قيده المتقدمون في علم الجغرافية، وعلى ما رواه عن السياح من المعارف الكثيرة، وعلى عدة خرائط؛ فاقتصرت أوربة على نسخه بدناءة مدة ثلاثة قرون.
وخريطة الإدريسي التي نشرت صورتها، والتي اشتملت على منابع النيل والبحيرات الاستوائية الكبيرة، أي على هذه الأماكن التي لم يكتشفها الأوربيون إلا في العصر الحاضر، أكثر خرائطه طرافة،
1
فهي تثبت أن معارف العرب في جغرافية إفريقية أعظم مما ظن زمنا طويلا.
وأذكر من جغرافيي العرب القزويني وياقوتا الحموي اللذين عاشا في القرن الثالث عشر من الميلاد، وأن كتاب هذا الأخير معجم جغرافي حافل بوثائق عن جميع البلدان التي تتألف منها دولة الخلافة.
وعرف صاحب حماة، وأبو الفداء (1271م-1331م)، بأنه من علماء الجغرافية أيضا، ولكنه لم يصنع غير تلخيص كتب أخرى، وقل مثل هذا عن المقريزي والحسن.
ويحتاج إحصاء أهم جغرافيي العرب وما ألفوا من الكتب إلى بيان طويل، فقد ذكر أبو الفداء وحده أسماء ستين عالما جغرافيا من الذين ظهروا قبله، وتكفي الخلاصة السابقة لإثبات شأنهم مع ذلك، ولولا إصرار الأوربيين الخاص على مبتسراتهم الموروثة، التي لا تزال باقية، حيال الإسلام؛ لتعذر إيضاح السبب في إنكار علماء أفاضل في الجغرافية، كمسيو ڨيڨيان دو سان مارتن، لذلك الشأن، ومع ذلك يكفي ما أتى به العرب من عمل كبير لإثبات قيمتهم، فالعرب هم الذين انتهوا إلى معارف فلكية مضبوطة من الناحية العلمية عدت أول أساس للخرائط، فصححوا أغاليط اليونان العظيمة في المواضع، والعرب، من ناحية الرياد، هم الذين نشروا رحلات عن بقاع العالم التي كان يشك الأوربيون في وجودها، فضلا عن عدم وصولهم إليها، والعرب، من ناحية الأدب الجغرافي، هم الذين نشروا كتبا قامت مقام الكتب التي ألفت قبلها؛ فاقتصرت أمم الغرب على استنساخها قرونا كثيرة.
هوامش
الفصل الخامس
الفيزياء وتطبيقاتها
(1) الفيزياء والميكانيكا
الفيزياء:
ضاعت كتب العرب المهمة في الفيزياء، ولم يبق منها غير أسمائها ككتاب الحسن بن الهيثم في الرؤية المستقيمة والمنعكسة والمنعطفة، وفي المرايا المحرقة، ومع ذلك فإننا نستدل على أهمية كتب العرب في الفيزياء من العدد القليل الذي وصل إلينا منها، ولا سيما كتاب الحسن في البصريات الذي نقل إلى اللغة اللاتينية واللغة الإيطالية؛ فاستعان كيپلر به كثيرا في كتابه عن البصريات، ويرى القارئ في كتاب الحسن فصولا دقيقة عن حرارة المرايا ومحل الصور الظاهر في المرايا، وانحراف الأشياء، وجسامتها الظاهرة ... إلخ، ويرى فيه، على الخصوص، حلا هندسيا للمسألة الآتية التي تتعلق بمعادلة من الدرجة الرابعة، وهي: إذا علم موضع نقطة مضيئة ووضع العين، فكيف تجد على المرايا الكرية والأسطوانية النقطة التي تتجمع فيها الأشعة بعد انعكاسها؟ فعد مسيو شال، الذي هو حجة في هذه الموضوعات، هذا الكتاب «مصدر معارفنا للبصريات.»
الميكانيكا:
معارف العرب الميكانيكية العملية واسعة جدا، ويستدل على مهارتهم في الميكانيكا من بقايا آلاتهم التي انتهت إلينا، ومن وصفهم لها في مؤلفاتهم.
ورأى الدكتور إ. برنارد الأكسفوردي أن العرب هم الذين طبقوا الرقاص على الساعة، غير أن ما أبداه من الأسباب لا يكفي، على ما يظهر، لإسناد هذا الاختراع المهم إلى العرب، والذي نرجحه هو أن الساعة الدقاقة التي أرسلها هارون الرشيد إلى شارلمان هي ساعة مائية تدق في كل ساعة بسقوط كراتها النحاسية على قرص معدني.
ولكن الذي لا ريب فيه هو أن العرب عرفوا الساعات ذات الأثقال التي تختلف كثيرا عن الساعات المائية، ودليلنا على ذلك: ما وصفت به ساعة الجامع الأموي الشهيرة في كتب كثير من المؤلفين، ولا سيما بنيامين التطيلي الذي زار فلسطين في القرن الثاني عشر من الميلاد، وقد اقتطفنا الوصف الآتي من ترجمة مسيو سلڨستر دوساسي لابن جبير، قال ابن جبير:
وعن يمين الخارج من باب جيرون في جوار البلاط الذي أمامه غرفة لها هيئة طاق كبير مستدير فيه طيان صفر قد فتحت أبوابا صغارا على عدد ساعات النهار، ودبرت تدبيرا هندسيا، فعند انقضاء ساعة من النهار تسقط صنجتان من صفر من فمي بازين مصورين من صفر قائمين على طاستين من صفر تحت كل واحد منهما، أحدهما: تحت أول باب من تلك الأبواب، والثاني: تحت آخرها، والطاستان مثقوبتان، فعند وقوع البندقيتين فيهما تعودان داخل الجدار إلى الغرفة، وتبصر البازين يمدان عنقيهما بالبندقيتين إلى الطاستين ويقذفانهما بسرعة بتدبير عجيب تتخيله الأوهام سحرا، وعند وقوع البندقيتين في الطاستين يسمع لهما دوي، وينغلق الباب الذي هو لتلك الساعة للحين بلوح من الصفر، لا يزال كذلك عند كل انقضاء ساعة من النهار، حتى تنغلق الأبواب كلها وتنقضي الساعات، ثم تعود إلى حالها الأول، ولها بالليل تدبير آخر، وذلك أن في القوس المنعطفة على الطيقان المذكورة اثنتي عشرة دائرة من النحاس مخرمة تعترض في كل دائرة زجاجة من داخل الجدار في الغرفة، يدير ذلك كله منها خلف الطيقان المذكورة وخلف الزجاجة مصباح يدور به الماء على ترتيب مقدار الساعة، فإذا انقضت عم الزجاجة ضوء المصباح، وفاض على الدائرة أمامها شعاع، فلاحت للأبصار دائرة محمرة، ثم انتقل ذلك إلى الأخرى حتى تنقضي ساعات الليل وتحمر الدوائر كلها، وقد وكل بها في الغرفة متفقد لحالها، درب بشأنها وانتقالها، ويعيد فتح الأبواب، وصرف الصنوج إلى مواضعها. (2) الكيمياء
كيمياء العرب مشوبة بالسيمياء، كما كان علم الفلك عندهم مشوبا بفن التنجيم، ولكن مزج العلم المثبت بالخيال لم يمنع العرب من الوصول إلى اكتشافات مهمة.
والمعارف التي انتقلت من اليونان إلى العرب في الكيمياء ضعيفة، ولم يكن لليونان علم بما اكتشفه العرب من المركبات المهمة كالكحول وزيت الزاج (الحامض الكبريتي) وماء الفضة (الحامض النتري) وماء الذهب ... وما إلى ذلك، وقد اكتشف العرب أهم أسس الكيمياء كالتقطير.
قال بعض المؤلفين: «إن لاڨوازيه واضع علم الكيمياء، وقد نسوا أننا لا عهد لنا بعلم من العلوم، ومنها علم الكيمياء، صار ابتداعه دفعة واحدة، وأنه وجد عند العرب من المختبرات ما وصلوا به إلى اكتشافات لم يكن لاڨوازيه ليستطيع أن ينتهي إلى اكتشافاته بغيرها.»
شكل 5-1: فرسان من العرب يقذفون بالنار اليونانية كما جاء في مخطوط عربي قديم محفوظ في المكتبة الوطنية بباريس.
وأقدم علماء العرب في الكيمياء وأكثرهم شهرة هو جابر الذي عاش في أواخر القرن الثامن من الميلاد، والذي ألف كتبا كثيرة فيها، ولكنه نشأ عن كثرة من تسموا باسمه من معاصريه صعوبة تمييز ما يجب نسبته إليه منها، ونقل عدد غير قليل من كتبه إلى اللغة اللاتينية، وقد نقل كتابه «الاستتمام»، الذي هو من أهم كتبه، إلى اللغة الفرنسية في سنة 1672م، فدل هذا على دوام نفوذه العلمي في أوربة مدة طويلة.
ويتألف من كتب جابر موسوعة علمية حاوية خلاصة ما وصل إليه علم كيمياء العرب في عصره، وتشتمل هذه الكتب على وصف كثير من المركبات الكيماوية التي لم تذكر قبله، كماء الفضة (الحامض النتري) وماء المهمين اللذين لا نتصور علم الكيمياء بغيرهما.
ويظهر أن جابر بن حيان عرف خواص بعض الأرواح، فقد ذكر: «أن الأرواح حينما تستقر بالأجسام تفقد شكلها وطبيعتها، وتصبح غير ما كانت عليه، وأنها في حالة التحليل إما أن تطير وحدها وتبقى الأجسام التي امتزجت بها، وإما أن تطير مع ما امتزجت به من الأجسام في آن واحد.»
وكان جابر يعتقد، كجميع السيماويين، أن المعادن مركبة من عناصر كثيرة غير معروفة، فيسمي هؤلاء هذه العناصر، على حسب الأحوال، ببعض الأسماء، كالكبريت والزئبق والزرنيخ ... إلخ.
ولكن هذه الأسماء لم تدل على خواص العناصر المفترضة التي أطلقت عليها، وإلى هذا الأمر أشار السيماويون، غير مرة، فيجب الانتباه إليه خوفا من الوقوع في مثل ما اقترفه مؤلفون كثيرون من الوزر نحوهم.
ويرى علماء الكيمياء من العرب أن جميع المعادن مؤلفة من عناصر واحدة، وأن بعض المعادن لا يختلف عن بعض إلا بسبب اختلاف نسب هذه العناصر، وأنه في حالة حل هذه العناصر، وإعادة تركيبها مرة أخرى على نسب ملائمة يظفر، كما هو ظاهر، بأي معدن آخر كما يراد، كالذهب مثلا. ورانت مسألة تحويل المعادن على قلوب سيماويي العرب قرونا كثيرة كما هو معلوم، فنشأ عن نظرياتهم، البعيدة من الذهنية الحاضرة بعض البعد، خدم للعلم حقيقة عند قيامهم بمباحثهم التي ما كانت لتقع بغيرها، أجل، إنه لا يكتشف ما يبحث عنه، ولكنه يكتشف ما لا يعثر عليه بغير طلب تحويل المعادن زمنا طويلا.
واشتملت كتب جابر على بيان كثير من المركبات الكيماوية التي كانت مجهولة قبله، كماء الفضة (الحامض النتري) وماء الذهب والپوتاس وملح النشادر وحجر جهنم (نترات الفضة) والسليماني والراسب الأحمر، وكان جابر أول من وصف في كتبه أعمالا أساسية كالتقطير والتصعيد والتبلور والتذيب والتحويل ... إلخ.
واكتشف العرب، أيضا، مركبات أخرى لا غنية للكيمياء والصناعة عنها، كزيت الزاج (الحامض الكبريتي) والكحول، وكان الرازي المتوفى سنة 940م أول من وصفها فقال: إن زيت الزاج يستخرج بتقطير كبريت الحديد، وإن الكحول تستخرج بتقطير المواد اللبية أو السكرية المختمرة.
شكل 5-2: قذائف محرقة استعملها العرب في القرن الثالث عشر من الميلاد (ترى في هذه الصورة فارسا حاملا رمحا ناريا، ولابسا كخادميه قميصا صفيقا من صوف ذي دسر معدا ليبلل بنفط يشعل فيما بعد، وذلك لإلقاء الرعب في الأعداء) من مخطوط عربي قديم محفوظ في بطرسبرغ.
ودرس أكثر علماء العرب الذين ألفوا في مختلف العلوم مسائل الكيمياء، وضاع أهم كتب الكيمياء العربية، خلا مؤلفات جابر والرازي، فنأسف على ذلك بعد أن تجلت لنا قيمة ما هو بين أيدينا منها.
ويظهر لنا مدى اكتشافات العرب الكيماوية من كثرة ما كان مجهولا قبلهم من المركبات التي ذكروها في مؤلفاتهم الطبية، وابتدع العرب فن الصيدلة، ويبدو لنا مقدار معارفهم في الكيمياء الصناعية من حذقهم لفن الصباغة، واستخراج المعادن، وصنع الفولاذ، ودباغة الجلود ... إلخ. (3) العلوم التطبيقية: الاكتشافات (3-1) المعارف الصناعية
لم يهمل العرب أمر التطبيقات الصناعية مع قيامهم بمباحثهم النظرية ، وكان لصناعات العرب تفوق عظيم بفضل معارفهم العلمية، ونعلم ما أدت إليه صناعاتهم من النتائج، وإن جهلنا أكثر طرقها، فنعرف، مثلا، أنهم كانوا يعلمون استغلال مناجم الكبريت والنحاس والزئبق والحديد والذهب، وأنهم كانوا ماهرين في الدباغة، وفي فن تسقية الفولاذ، كما تشهد بذلك نصال طليطلة، وأنه كان لنسائجهم وأسلحتهم وجلودهم وورقهم شهرة عالمية، وأنه لم يسبقهم أحد في كثير من فروع الصناعة إلى عصرهم.
ونرى، بين اختراعات العرب، ما لا يجوز الاكتفاء بذكره لأهميته، كاختراعهم للبارود مثلا، ولذا فإننا نقول بضع كلمات فيه:
بارود الحرب والأسلحة النارية
استعملت أمم آسية أنواع المركبات المحرقة في حروبها منذ القرون القديمة، ولكن أوربة لم تعرف هذه المركبات إلا في القرن السابع من الميلاد، ويظن أن الذي نقلها من آسية هو مهندس معماري اسمه كالينيك، واستفاد البزنطيون استفادة عظيمة من هذه المركبات في دحر العرب حينما وضعوا نطاقا أمام القسطنطينية، وأمر القيصر قسطنطين بورفيرو جينيت بعدها من أسرار الدولة وإن لم تلبث أن كشفت، وأسفرت مباحث رينو وفاڨيه عن القطع بأن هذه المركبات التي وصفت في كثير من المخطوطات القديمة مؤلفة من الكبريت، وبعض المواد الملتهبة كبعض الراتنجات والأدهان.
ولسرعان ما عرف العرب تركيب النار اليونانية، وبلغت هذه النار من الانتشار عندهم ما صارت معه «عامل الهجوم المهم» كما قال ذانك المؤلفان، وتفنن العرب في استخدامها، والقذف بها بشتى الطرق، وليس بمجهول خبر الرعب الذي ألقته في قلوب الصليبيين فورد ذكره في أحاديثهم، ومن ذلك أن أعلن جوانڨيل أنها أفظع شيء رآه في حياته، وأنها ضرب من التنانين الكبيرة الطائرة في الهواء، ولما أصبح جوانڨيل في جوار الملك سان لويس: «ركع ورفع يديه إلى السماء وقال باكيا: أي ربنا يسوع احفظنا واحفظ قومنا!»
شكل 5-3: أسلحة نارية استعملها العرب في القرن الثالث عشر من الميلاد (ترى في هذه الصورة مدفعيا حاملا بيده مدفعا صغيرا مقربا إياه من لهب لإشعال النار وقذف القنبلة، من ذلك المخطوط العربي القديم المحفوظ في بطرسبرغ).
ولا يخلو هذا الفزع من وهم، أي أن النار اليونانية إذا كانت نافعة في المعارك البحرية للقضاء على سفن العدو فإنها لم تكن كذلك في البر، ولم يرو أحد من المؤرخين أنها أودت بحياة أحد من رجال سان لويس أو غيرهم في البر، وأطبقت النار اليونانية على سان لويس، وكثير من فرسانه من غير أن تصيبهم بأذى، فالنار اليونانية، وإن كان من طبيعتها التحريق، لم تصلح للرشق، وهي، وإن كان يقذف بها، لم تنفع لرمي القذائف، وهي، وإن كانت من المحترقات، لم تكن لها خواص البارود في الانفجار.
وعزي اختراع البارود إلى روجر بيكن زمنا طويلا، مع أن روجر بيكن لم يفعل غير ما فعله ألبرت الكبير من اقتباس المركبات القديمة، ولا سيما ما وصفه منها مركوس غراكوس في مخطوط كتب في سنة 1230م بعنوان «كتاب النار لإحراق الأعداء، والحق أن كثيرا من هذه المركبات يشابه تركيب البارود، ولكنه كان يستعمل في الأسهم النارية فقط، وهو مقتبس من العرب، لا ريب، كجميع المركبات الكيماوية في القرون الوسطى. والعرب هؤلاء قد عرفوا الأسلحة النارية قبل النصارى بزمن طويل كما يأتي بيانه.
وأثبتت مباحث مسيو رينو ومسيو فاڨية، وقد سبقهما إليها الغزيري وأندره وڨياردو، أن العرب هم الذين اخترعوا بارود المدافع السهل الانفجار الدافع للقذائف، وبيان ذلك: أن ذينك المؤلفين رأيا في بدء الأمر كما رأى غيرهما، أن أمر هذا الاختراع يعود إلى الصينيين، وأنهما رجعا في مذكرة ثانية نشراها سنة 1850م، وذلك بعدما اطلعا على ما جاء في بعض المخطوطات التي عثر عليها حديثا، عن رأيهما معلنين أن العرب هم أصحاب هذا الاختراع العظيم الذي قلب نظام الحرب رأسا على عقب، ومما قاله ذانك المؤلفان: «إن الصينيين هم الذين اكتشفوا ملح البارود واستعملوه في النار الصناعية ... وأن العرب هم الذين استخرجوا قوة البارود الدافعة، أي أن العرب هم الذين اخترعوا الأسلحة النارية.»
وجرى المؤرخون على الرأي القائل: إن المعركة الأولى التي استعملت فيها المدافع هي معركة كريسي التي حدثت سنة 1346م، والحقيقة هي ما أثبته مؤرخو العرب في مؤلفاتهم من النصوص الكثيرة التي تدل على أن استعمال المدافع وقع قبل تلك السنة بزمن طويل، ومن ينظر إلى المختارات المقتطفة من المخطوطات التي ترجمها كونده يجد، على الخصوص، أن الأمير يعقوب حاصر زعيم ثوار في مدينة المهدية بإفريقية في سنة 1205، وأنه ضرب أسوارها بمختلف الآلات والقنابل ... أي ضربها بآلات لم يرها الناس قبل ذلك ... فكانت كل واحدة منها ترمي قذائف كبيرة من الحجارة وقنابل من الحديد، فتسقط في وسط المدينة.»
شكل 5-4: قطعة من نسيج عربي قديم (من تصوير إيبر).
ونرى ذلك صريحا في تاريخ ابن خلدون عن البربر حيث ذكر استعمال المدافع في الحصار بقوله: «ولما فتح السلطان أبو يوسف بلاد المغرب وجه عزمه إلى افتتاح سجلماسة (672ه / 1273م) من أيدي بني عبد الواد المتغلبين عليها، وإدالة دعوته فيها من دعوتهم، فنهض إليها في العساكر والحشود في رجب من سنة اثنتين وسبعين، فنازلها وقد حشد إليها أهل المغرب أجمع من زناتة والعرب والبربر وكافة الجنود والعساكر، ونصب عليها آلات الحصار من المجانيق والعرادات وهندام النفط القاذف بحصى الحديد ينبعث من خزانة أمام النار الموقدة في البارود بطبيعة غريبة ترد الأفعال إلى قدرة بارئها، فأقام عليها حولا يغاديها القتال ويراوحها إلى أن سقطت ذات يوم على حين غفلة طائفة من سورها بإلحاح الحجارة من المنجنيق عليها، فبادروا إلى اقتحام البلد فدخلوه عنوة من تلك الفرجة.»
وتثبت مخطوطات ذلك الزمن أن الأسلحة النارية شاعت بين العرب بسرعة، وأنهم استخدموها للدفاع عن مدينة الجزيرة التي هاجمها الأذفونش الحادي عشر سنة 1342م.
شكل 5-5: قطعة من نسيج عربي قديم.
وجاء في تاريخ الأذفونش الحادي عشر: «أن مغاربة المدينة كانوا يقذفون كثيرا من الصواعق على الجيش فيرمون عليه عدة قنابل كبيرة من الحديد كالتفاح الكبير، وذلك إلى مسافة بعيدة من المدينة، فيمر بعضها من فوق الجيش، ويسقط بعضها عليه.»
وحضر كونت دربي وكونت سالسبري الإنكليزيان ذلك الحصار، وشاهدا نتائج استخدام البارود، ونقلا ذلك الاختراع إلى بلادهم من فورهم، واستخدمه الإنكليز في معركة كريسي بعد ذلك بأربع سنين.
وتجد في المخطوطات العربية بيانا لتركيب ما كان العرب يستخدمونه من البارود والأسلحة النارية، وإليك النص الطريف الذي ورد في مخطوط كتب في أواخر القرن الثالث عشر من الميلاد فترجمه رينو:
وصف للذخيرة التي تدك في المدفع مع بيان نسبتها: تؤخذ عشرة دراهم من ملح البارود ودرهمان من الفحم ودرهم ونصف درهم من الكبريت، وتسحق حتى تصبح كالغبار، ويملأ منها ثلث المدفع فقط خوفا من انفزاره، ويصنع الخراط من أجل ذلك مدفعا من خشب تناسب جسامته فوهته، وتدك الذخيرة فيه بشدة، ويضاف إليها إما بندق، وإما نبل، ثم تشعل، ويكون قياس المدفع مناسبا لثقبه، فإذا كان عميقا أكثر من اتساع الفوهة بدا ناقصا.
شكل 5-6: قطعة من نسيج عربي قديم (من تصوير پريس الأڨيني).
الوراقة
كان الأوربيون في القرون الوسطى يكتبون على الرقوق لزمن طويل، وكان غلاء أسعارها مانعا من توافر المخطوطات فيها، ونشأ عن ندرتها أن تعود الرهبان حك كتب كبار المؤلفين من اليونان والرومان؛ ليستبدلوا بها مواعظهم الدينية، ولولا العرب لضاع أكثر هذه الكتب الرائعة القديمة التي زعم أنها حفظت في أروقة الأديار باعتناء.
وكان اكتشاف مادة تقوم مقام الرق، وتشابه بردي قدماء المصريين يعد من أعظم العوامل في نشر المعارف.
وتثبت المخطوطة التي عثر عليها الغزيري في مكتبة الإسكوريال والمكتوبة في سنة 1009م على ورق مصنوع من القطن، والتي هي أقدم من جميع المخطوطات الموجودة في مكتبات أوربة، أن العرب أول من أحل الورق محل الرق.
شكل 5-7: قطعة من نسيج عربي قديم (من رسم پريس الأڨيني).
وليس من الصعب أن يصل الباحث في الوقت الحاضر إلى تاريخ اختراع الورق، فمن الثابت أن الصينيين كانوا يعلمون منذ أقدم الأزمان صناعة الورق من شرانق الحرير، وأن هذه الصناعة أدخلت إلى مدينة سمرقند في أوائل التاريخ الهجري، فلما فتحها العرب وجدوا فيها مصنعا للورق الحريري، ولكن اختراعا مهما كهذا لم يكن لينفع في أوربة، التي لم تعرف الحرير تقريبا، إلا باستبدال مادة أخرى بالحرير، وهذا ما أتاه العرب حين أقاموا القطن مقامه، ولم يلبث العرب أن بلغوا في إتقان صناعة الورق من القطن شأوا لم يسبق، كما دل عليه البحث في مخطوطات العرب القديمة.
ومن الثابت أيضا أن العرب اخترعوا من الأسمال صناعة الورق الصعبة الكثيرة التراكيب، ويستند في هذا الرأي إلى أن العرب استخدموا هذا النوع من الورق في زمن أقدم من الزمن الذي استخدمته فيه الأمم النصرانية بمدة طويلة، فأقدم ورق موجود في أوربة من هذا النوع هو ورق الكتاب الذي أرسله جوانڨيل إلى الملك سان لويس قبيل وفاته في سنة 1270م، أي بعد حملته الصليبية المصرية الأولى، مع أن لدينا ورقا عربيا صنع من الأسمال قبل هذا التاريخ بنحو قرن، كالورق المحفوظ بين مخطوطات برشلونة، والمكتوبة عليه معاهدة السلم بين ملك أرغونة الأذفونش الثاني وملك قشتالة الأذفونش الرابع في سنة 1187م، والمصنوع في مصنع شاطبة العربي الشهير الذي امتدحه العالم الجغرافي الإدريسي في النصف الأول من القرن الثاني عشر من الميلاد.
شكل 5-8: سرج عربي قديم (المتحف الملكي بمدريد، من صورة فوتوغرافية التقطها لوران).
ونشأ عن كثرة المكتبات العامة والخاصة في الأندلس أيام سلطان العرب، بما لم تعرفه أوربة في ذلك الزمن أن اضطر العرب إلى زيادة مصانع الورق، فانتهوا إلى صنعه، بإتقان عظيم، من القنب والكتان الوافرين في الحقول في ذلك الحين.
استخدام البوصلة في الملاحة
البوصلة من اختراع الصينيين، ولكنه لم يقم دليل على استخدامهم لها في الملاحة.
وكان الصينيون من ضعاف الملاحين، ولم يبتعدوا في أسفارهم البحرية عن الشواطئ، فكانت البوصلة قليلة النفع لهم.
وغير ذلك كان شأن العرب الذين هم من أعاظم الملاحين، والذين كانت صلاتهم ببلاد الصين الواسعة كثيرة أيام شك الأوربيون في وجودها، فكان من الراجح أن يكونوا أول من استخدم البوصلة في الملاحة، ولكن هذا لا يخرج عن حد الافتراض الذي لا يجوز الإصرار عليه؛ لعدم قيامه على دليل.
وإنما الذي لا ريب فيه هو أن الأوربيين أخذوا هذا الاختراع المهم عن العرب الذين كانوا وحدهم ذوي صلات بالصين، والذين كانوا وحدهم قادرين على إطلاع الغرب عليه لهذا السبب، ومع ذلك فقد مر بعض الزمن على الأوربيين قبل إدراك فائدته، فالأوربيون لم يستخدموه قبل القرن الثالث عشر من الميلاد، مع أن الإدريسي الذي تكلم عنه في أواسط القرن الثاني عشر من الميلاد ذكره على أنه كثير الشيوع بين بني قومه.
ثبت مما تقدم أن اكتشافات العرب في الطبيعيات ليست أقل أهمية منها في الرياضيات وعلم الفلك، وأن معارف العرب كانت عالية في الفيزياء النظرية، ولا سيما البصريات، وأن العرب اخترعوا من الآلات الميكانيكية ما هو على جانب عظيم من الدقة، وأنهم اكتشفوا أهم المركبات الكيماوية كالكحول وماء الفضة (الحامض النتري) وزيت الزاج (الحامض الكبريتي)، وأنهم أبدعوا ألزم الأعمال كأصول التقطير، وأنهم طبقوا الكيمياء على الصيدلة والصناعة، ولا سيما استخراج المعادن وصنع الفولاذ والدباغة ... إلخ، وأنهم اخترعوا البارود والأسلحة النارية، وصنعوا الورق من الأسمال، وطبقوا البوصلة على الملاحة كما هو الراجح، وأدخلوا هذا الاختراع المهم إلى أوربة، وما يأتي يدل على مقدار فضلهم في الطبيعيات.
الفصل السادس
العلوم الطبيعية والطبية
(1) العلوم الطبيعية
لم يقم التاريخ الطبيعي عند العرب، في البداءة، على غير شروح مؤلفات أرسطو، ولكن العرب لم يلبثوا أن فضلوا درسه في الطبيعة على درسه في الكتب، وللعرب الفضل فيما وضعوا من الكتب الممتعة الكثيرة في الحيوانات والنباتات والمعادن والمتحجرات ... إلخ.
ويعد القزويني المتوفى سنة 1283م والملقب ب «پليني المشارقة» من أشهر علماء التاريخ الطبيعي بين العرب، وتقوم طريقة القزويني على الوصف على الخصوص، كما صنع بوفون بعده.
ولا تجد في كتب العرب ما تجد في الكتب الحديثة من التعميم والتقسيم، ولكنك ترى فيها من النصوص ما تعتقد به أن نفوسهم حدثتهم ببعض اكتشافات العلم الحديث المهمة، ومن ذلك أنك تجد في رسالة ابن سينا عن الحجارة فصلا عن منشأ الجبال لا يبتعد فيه عما يدرس اليوم كما هو ظاهر من العبارة الآتية، قال ابن سينا:
تنشأ الجبال عن سببين: فالجبال إما أن تكون نتيجة ارتفاع في قشرة الأرض بفعل أحد الزلازل الشديدة مثلا، وإما أن تكون نتيجة عمل الماء بأن يشق طريقا جديدا، ويحفر أودية ، ويحدث جبالا، وذلك لأنك تجد صخورا لينة، وصخورا ذات صلابة، فيذهب الماء والريح بالصخور اللينة، ويترك الأخرى سليمة، وهكذا يحدث أكثر التلال.
وللمعادن أصل كالجبال، ولا بد من انقضاء أزمنة طويلة لحدوث جميع هذه التحولات، ومن المحتمل أن تكون الجبال آيلة إلى الانخفاض في الوقت الحاضر.
ويقيم ابن سينا الدليل على ما تقدم، ويقول: «إن الذي يدل على أن الماء سبب أساسي لذلك هو وجود حيوانات مائية وغيرها على كثير من الصخور، ولا تصدر المادة الترابية والصفراء التي تستر وجه الجبال عما يصدر عنه هيكل الجبل، بل عن انحلال بقايا الأعشاب والوحل الذي يأتي به الماء، ومن المحتمل أن تأتي من وحل البحر القديم الذي كان يغطي جميع الأرض فيما مضى.»
ومن ذلك ترى أن ابن سينا أبصر أن تحولات الكرة الأرضية لم تنشأ عن الطوفانات الكبيرة كما اعتقد كوڨيه، وإنما هي نتيجة تطورات بطيئة تمت بتعاقب القرون كما أثبت ذلك علم الأرض الحديث.
وشاعت نظرية تطورات وجه الأرض بتنقل البحار، وتحول شكل الأرض بين العرب شيوعا تدخل به في أذهان الشعب كما نعلم ذلك من الرمز الآتي الذي نقطفه من كتاب العالم الطبيعي القزويني الذي تكلمنا عنه آنفا، قال القزويني:
قال الخضر: مررت بمدينة كثيرة الأهل والعمارة، سألت رجلا من أهلها: متى بنيت هذه المدينة؟ فقال: هذه مدينة عظيمة ما عرفنا مدة بنائها نحن ولا آباؤنا، ثم اجتزت بها بعد خمسمائة سنة فلم أر للمدينة أثرا، ورأيت هنالك رجلا يجمع العشب، فسألته: متى خربت هذه المدينة؟ فقال: لم تزل هذه الأرض كذلك، فقلت: أما كان ههنا مدينة؟ فقال: ما رأينا ههنا مدينة، ولا سمعنا بها عن آبائنا، ثم مررت بها بعد خمسمائة عام، فوجدت بها بحرا فلقيت هناك جمعا من الصيادين، فسألتهم: متى صارت هذه الأرض بحرا؟ فقالوا: مثلك يسأل عن هذا! إنها لم تزل كذلك، قلت: أما كانت قبل ذلك يبسا؟ قالوا: ما رأيناه ولا سمعنا به عن آبائنا، ثم اجتزت بها بعد خمسمائة عام وقد يبست فلقيت بها شخصا يختلي، فقلت: متى صارت هذه الأرض يبسا؟ فقال: لم تزل كذلك، فقلت له: أما كان بحر قبل هذا؟ فقال: ما رأيناه ولا سمعنا به قبل هذا، ثم مررت بها بعد خمسمائة عام فوجدتها مدينة كثيرة الأهل والعمارة أحسن مما رأيتها أولا، فسألت بعض أهلها: متى بنيت هذه المدينة؟ فقال: إنها عمارة قديمة ما عرفنا مدة بنائها نحن ولا آباؤنا.
وبحث علماء الطبيعة من العرب، أيضا، في النباتات وفي تطبيقاتها على الطب على الخصوص، وأنشأوا حدائق زرعوا فيها أندر النباتات وأكثرها طرافة، ومن ذلك أن اشتملت غرناطة على حديقة رائعة في القرن العاشر من الميلاد، ومن ذلك أن كان لعبد الرحمن الأول حديقة مثلها بالقرب من قرطبة، وأن أوفد جماعة من علماء الطبيعة إلى سورية وغيرها من أقطار آسية؛ ليأتوا إليها بأعز النباتات.
شكل 6-1: مدخل إحدى قاعات جامعة الأزهر بالقاهرة (من رسم إيبر). (2) العلوم الطبية
يعد الطب والفلك والرياضيات والكيمياء أهم العلوم التي عني بها العرب، وأتم العرب أعظم اكتشافاتهم في هذه العلوم، وترجمت مؤلفات العرب الطبية في جميع أوربة، ولم يتلف قسم كبير منها كما أصاب كتبهم الأخرى. (2-1) آثار العرب الطبية
عدد المؤلفين من أطباء العرب كبير إلى الغاية، وخصص ابن أبي أصيبعة مجلدا من كتابه لتراجم أطباء العرب فنكتفي بذكر بعض من اشتهر منهم.
نهض الأغارقة بالطب أكثر مما نهضوا بمعظم العلوم الأخرى، ووجد العرب في مؤلفاتهم مباحث مفيدة. وكان هارون (685م) أول من قام بترجمة كتب اليونان الطبية، وكانت مجموعته الطبية مقتطفات من كتب أطباء اليونان، ولا سيما جالينوس، ثم ترجمت كتب بقراط وبولس الإجيني ... إلخ. بعد ذلك بزمن قليل.
والرازي، الذي ذكرنا أنه من علماء الكيمياء، هو من أشهر أطباء العرب. وولد الرازي سنة 850م، وتوفي سنة 932م بعد أن زاول الطب في بغداد خمسين سنة، وألف الرازي في شتى الموضوعات كالفلسفة والتاريخ والكيمياء والطب ... إلخ، ووضع الرازي آثار من ظهر قبله من الأطباء على محك النقد الشديد فوق فراش المرضى، وكان ما كتبه في بعض الحميات ذات البثور كالحصبة والجدري معول الأطباء زمنا طويلا، وكان واسع الاطلاع على علم التشريح، وكان كتابه في أمراض الأطفال أول كتاب بحث في هذا الموضوع، ويرى في كتبه وسائل جديدة للمداواة، كاستخدام الماء البارد في الحميات المستمرة الذي أخذ به علم الطب الحديث، وكاستخدام الكحول والفتائل، وكاستخدام المحاجم المعالجة داء السكتة ... إلخ.
وكان الرازي متواضعا كما كان طبيبا حاذقا دقيقا، ومما روي أنه أعاد بطريقة جلد الجسم بشدة، ولا سيما الكعب، الحياة إلى شخص سقط فاقد الحس في أحد شوارع قرطبة، واعتقد الناس أنه مات، فلما امتدح الخليفة طريقته في إعادة الحياة إلى الإنسان أجابه أنه رأى تطبيق هذه الطريقة على أعرابي في البادية ذات مرة، وأن فضله ينحصر في تشخيصه لحالة ذلك المريض التي أعتقد، مستندا إلى بعض التفصيلات، أنها ضربة شمس، وإن لم يرو لنا التاريخ حقيقتها.
وأشهر كتب الرازي كتاب «الحاوي» الذي جمع فيه صناعة الطب، وكتاب «المنصوري» الذي بعث به إلى الأمير منصور والمؤلف من عشرة أقسام، وهي: (1)
التشريح. (2)
الأمزجة. (3)
الأغذية والأدوية. (4)
الصحة. (5)
دواء البشرة. (6)
نظام السفر. (7)
الجراحة. (8)
السموم. (9)
الأمراض على العموم. (10)
الحمى.
وترجمت أكثر كتب الرازي إلى اللغة اللاتينية، وطبعت عدة مرات، ولا سيما في البندقية سنة 1509م، وفي باريس سنة 1528م، وسنة 1748م، وأعيد طبع ترجمة كتابه في الجدري والحصبة سنة 1745م، وظلت جامعات الطب في أوربة تعتمد على كتبه زمنا طويلا، وكانت كتبه، مع كتب ابن سينا، أساسا للتدريس في جامعة لوڨان في القرن السابع عشر من الميلاد، كما ثبت ذلك من برنامج وضع سنة 1617م، وقد ظهر من هذا البرنامج أن مؤلفات علماء اليونان الطبية لم تنل من الحظوة إلا قليلا، وأنها اقتصرت على بعض جوامع الكلم لبقراط وبعض الخلاصات لجالينوس.
وروى مؤرخو العرب أن الرازي عمي في آخر زمانه بماء نزل على عينيه، فقال حينما قيل له لو قدحت: «لا، قد أبصرت من الدنيا حتى مللت منها فلا حاجة لي إلى عينين!»
ونذكر من أطباء العرب علي بن العباس المعاصر للرازي تقريبا، والذي عاش في أواخر القرن العاشر من الميلاد، ونذكر من كتبه كتاب «الملكي» المشتمل على الطب النظري والطب العملي، والذي استند فيه إلى مشاهداته في المشافي، لا إلى الكتب، وأظهر فيه عدة أغاليط لبقراط وجالينوس وأريباسيوس وبولس الإجيني ... إلخ، وابتعد فيه عن مبادئ الطب اليوناني كثيرا في معالجة الأمراض على الخصوص مع اعتماده عليها، وترجم إتيان الأنطاكي هذا الكتاب إلى اللغة اللاتينية سنة 1127م، وطبع هذا الكتاب في مدينة ليون سنة 1523م.
وابن سينا هو أشهر جميع أطباء العرب، وبلغ ابن سينا من التأثير في عالم الطب عدة قرون ما لقب معه بأمير الطب.
ولد ابن سينا سنة 980م، وتوفي سنة 1037م، وكان في مقتبل عمره جابيا فارتقى إلى منصب وزير، وكتب ابن سينا ممتازة مع وفاته غير مسن بسبب إفراطه في العمل وانهماكه في اللذات.
ويشتمل «القانون» الذي هو كتاب ابن سينا المهم في الطب، على علم وظائف الأعضاء، وعلم الصحة، وعلم الأمراض، وعلم المعالجة، والمادة الطبية، ووصفت فيه الأمراض بأحسن مما وصفت به في الكتب التي ألفت قبله.
ونقلت كتب ابن سينا إلى أكثر لغات العالم، وظلت مرجعا عاما للطب ستة قرون، وبقيت أساسا للمباحث الطبية في جميع جامعات فرنسة وإيطاليا، وكان طبعها يعاد حتى القرن الثامن عشر، ولم ينقطع تفسيرها في جامعة مونپلية إلا منذ خمسين سنة.
وكان ابن سينا منهمكا في الشهوات انهماكه في العلوم، وقصر انهماكه في الشهوات عمره كما ذكرنا ذلك آنفا ، ولذلك قيل: إن فلسفته لم تمن عليه بالحكمة، وإن طبه لم يمن عليه بالصحة.
1
وأبو القاسم القرطبي المتوفى سنة 1107م هو أشهر جراحي العرب، وتخيل أبو القاسم كثيرا من آلات الجراحة ورسمها في كتبه، ووصف أبو القاسم عملية سحق الحصاة في المثانة على الخصوص فعدت من اختراعات العصر الحاضر على غير حق.
ولم يعرف أبو القاسم في أوربة إلا في القرن الخامس عشر، وذاع صيته فيه، قال العالم الفزيولوجي الكبير هالر: «كانت كتب أبي القاسم المصدر العام الذي استقى منه جميع من ظهر من الجراحين بعد القرن الرابع عشر.»
والكتاب الكبير الذي درس أبو القاسم فيه أمور الجراحة ينقسم إلى ثلاثة أبواب: فالباب الأول في مسائل الكي، والباب الثاني في العمليات التي تحتاج إلى المبضع وفي جراحة الأسنان والعيون والفتق والولادة وإخراج الحصاة، والباب الثالث في الكسر والانخلاع، وعلى ما في هذا الكتاب من ضعف في التقسيم نرى ما فيه من المعارف العملية دقيقا جدا.
شكل 6-2: قطع من الحلي والحجارة الثمينة المنقوشة (متحف العاديات الإسپاني).
وطبعت الترجمة اللاتينية الأولى لكتاب أبي القاسم في الجراحة سنة 1497م، والطبعة الأخيرة لهذا الكتاب حديثة جدا، أي تمت سنة 1861م.
وكان لابن زهر الأشبيلي، الذي عاش في القرن الثاني عشر من الميلاد، شهرة عظيمة، وإن كانت دون شهرة أولئك، فقد كان مجربا مصلحا موطئا لعلم المداواة قائلا: إن في البدن قوة كامنة ناظمة للأعضاء كافية وحدها لشفاء الأمراض على العموم. وجمع ابن زهر دراسة الجراحة والطب والصيدلة مع نقص في التحقيق أحيانا، وتشتمل مباحثه في الجراحة على بيان صحيح في الكسر والانخلاع.
وألف ابن رشد، الذي ولد في قرطبة سنة 1126م وتوفي سنة 1188م، في الطب أيضا، وإن اشتهر فيلسوفا شارحا لكتب أرسطو أكثر من اشتهاره طبيبا، وترى له تفاسير لكتب ابن سينا، وكتابا في المداواة، وكتابا في السموم والحميات ... إلخ، وطبعت كتب ابن رشد في الطب كثيرا في أوربة.
علم الصحة عند العرب
لم يجهل العرب أهمية حفظ الصحة، وكان العرب يعرفون جيدا أن علم الصحة يعلمنا طرق الوقاية من الأمراض التي لا يستطيع الطب شفاءها، وكانت مناهجهم الصحية طيبة منذ القديم، وما أمر به القرآن من الوضوء، والامتناع عن شرب الخمر، ثم ما صار عليه أبناء البلاد الحارة من تفضيل الطعام النباتي على الطعام الحيواني غاية في الحكمة، وليس فيما نسب إلى النبي من الوصايا الصحية ما ينتقد.
وكان من عادة مؤلفي العرب الغالبة أن يوجزوا وصاياهم الصحية في كلمات جامعة يسهل حفظها، ومن ذلك ما قاله طبيب عربي في القرن التاسع من الميلاد:
ليس شيء أضر بالشيخ من أن تكون له جارية حسناء وطباخ ماهر.
ويظهر أن مشافي العرب التي أنشئت فيما مضى أفضل صحيا من مشافينا الحديثة؛ فقد كانت واسعة ذات هواء كثير وماء غزير.
ولما عهد إلى الرازي في اختيار أفضل حي في بغداد لإقامة مشفى عليه التجأ إلى طريقة لا ينكرها عليه أصحاب نظرية الميكروب الحديثة، وذلك أنه علق قطعة لحم في كل حي من أحياء العاصمة، وأعلن أن أصلح حي يقام عليه المشفى هو الحي الذي يتأخر فيه فساد قطعة اللحم المعلقة عن الأحياء الأخرى.
وكانت مشافي العرب، كمشافي أوربة في الوقت الحاضر، ملاجئ للمرضى وأماكن لدراسة الطلاب، وكان الطلاب يتلقون دروسهم في فرش المرضى أكثر مما يتلقونها في الكتب، ولم تقلدهم جامعات أوربة في القرون الوسطى إلا قليلا.
وأنشأ العرب مشافي للمصابين ببعض الأمراض كالمجانين، وكان عند العرب، كما عندنا جمعيات للإحسان تقوم بمعالجة فقراء المرضى مجانا في أيام معينة، وكان يرسل في الحين بعد الحين أطباء وأدوية إلى الأماكن القليلة الأهمية التي لا تستحق أن يقام فيها مشفى.
ولم يجهل العرب تأثير الجو الصحي، ومن ذلك نص ابن رشد في شروحه لكتب ابن سينا على تأثير الإقليم في داء السل وإيصاؤه المصابين به، كما يوصون الآن، بأن يقضوا فصل الشتاء في جزيرة العرب وبلاد النوبة، واليوم نرى المصابين بداء السل يرسلون، في الغالب، إلى بقاع النيل القريبة من بلاد النوبة.
وتنطوي وصايا مدرسة ساليرم على نصائح غالية في علم الصحة، ولا أحد يجهل أن هذه المدرسة، التي عدت أول مدرسة في أوربة زمنا طويلا، مدينة للعرب بشهرتها، وذلك أن النورمان، لما استولوا على صقلية وعلى جزء من إيطالية في أواسط القرن الحادي عشر من الميلاد، أحاطوا مدرسة الطب التي أنشأها العرب بما أحاطوا به المعاهد الإسلامية من الاعتناء الكبير، وأن قسطنطين الإفريقي، الذي كان من عرب قرطاجة، عين رئيسا لها، وأنه ترجم أهم كتب العرب الطبية إلى اللغة اللاتينية، فاقتطفت من هذه الكتب وصايا مدرسة ساليرم التي ظلت سبب شهرتها الفائقة زمنا غير قصير.
وكان العرب يعتمدون كثيرا على علم الصحة في معالجة الأمراض، وعلى الوسائل الطبيعية، وليس غير ذلك أمر الطب القائم على المداواة الطبيعية التي استقر عندها العلم الحديث كما يظهر. ويلوح لي، على الأرجح، أن الطب العربي في القرن العاشر من الميلاد، لم يؤد إلى وفيات أكثر مما يقع في هذه الأيام.
تقدم العرب في الطب
إن أهم تقدم للعرب في عالم الطب هو ما كان في الجراحة ووصف الأمراض وأنواع الأدوية والصيدلة، وظهرت للعرب عدة طرق يعود الطب الحديث إلى بعضها بعد إهمالها قرونا كثيرة كاستعمال الماء البارد في معالجة حمى التيفوئيد.
والطب مدين للعرب بعقاقير كثيرة كالسليخة والسنا المكي والراوند والتمر الهندي وجوز القيء والقرمز والكافور والكحول ... وما إلى ذلك، وهو مدين لهم بفن الصيدلة، وبكثير من المستحضرات التي لا تزال تستعمل كالأشربة واللعوق واللزقات والمراهم والدهان والمياه المقطرة ... إلخ، والطب مدين لهم، كذلك، بطرق طريفة في المداواة عاد إليها على أنها اكتشافات حديثة بعد أن نسيت زمنا طويلا، ومنها طريقة إمصاص النبات بعض الأدوية كما صنع ابن زهر الذي كان يعالج المرضى المصابين بالقبض بإطعامهم عنبا أشرب من بعض المسهلات.
وعلم الجراحة مدين للعرب، أيضا، بكثير من مبتكراته الأساسية، وظلت كتبهم فيه مرجعا للدراسة في كليات الطب إلى وقت قريب جدا، ومن ذلك أن العرب كانوا يعرفون في القرن الحادي عشر من الميلاد معالجة غشاوة العين بخفض العدسة أو إخراجها، وكانوا يعرفون عملية تفتيت الحصاة التي وصفها أبو القاسم بوضوح، وكانوا يعرفون صب الماء البارد لقطع النزف، وكانوا يعرفون الكاويات والفتائل إلخ، وكانوا يعرفون المرقد الذي ظن أنه من مبتكرات العصر الحاضر، وذلك باستعمال الزؤان لتنويم المريض قبل العمليات المؤلمة «حتى يفقد وعيه وحواسه.»
هوامش
الفصل السابع
الفنون العربية
الرسم والحفر والفنون الصناعية (1) أهمية الآثار الفنية في بعث الأدوار
لم تنل يد التحليل العلمي الدقيق التي قلبت رأينا في الكون رأسا على عقب عالم الشعر والفن، ويظهر أن من طبيعة الشعر والفن أن يبقيا بعيدين من مباحث العلماء، فالعلم قد يرى سننا دقيقة لتطور الكواكب وتحول الموجودات وسقوط الأجسام، ولكن هل يسود نظم القصائد أو إقامة المباني أو صنع التماثيل غير الإلهام والهوى؟ حقا إن أصحاب الفن يتفلتون حين يحلقون في سماء الخواطر من قيود السنن، ولا يعرفون لأنفسهم سادة.
لم يحل سحر هذه العقيدة دون تلاشيها يوم بسط العلم يده عليها، فقد قرر العلم، من فوره، أن آثار الفن والآداب لم تكن غير معبر صادق عن مشاعر أحد الأدوار ومعتقداته واحتياجاته، وأن من نتائج تعبيرها عنه أن كان أحسن صفات التاريخ هو ما تركه كل جيل من الآثار، وأن أصحاب الفن والكتاب لم يعملوا، بالحقيقة، غير الإعراب، بشكل منظور، عن أذواق الجمهور المحيط بهم وطبائعه وعواطفه واحتياجاته، وأنهم، وإن كانوا أحرارا في الظاهر تقيدوا، بالحقيقة، بقيود كثيرة من المؤثرات والمعتقدات والخيالات والتقاليد التي يتألف من مجموعها ما نسميه روح العصر، فرزحوا تحت أثقال روح العصر عاجزين عن الخلاص منها على مدى واسع.
والأثر الفني عنوان مادي لخيال العصر الذي يوضع فيه، فالپارتنون عنوان خيال الأغارقة واحتياجاتهم أيام عظمتهم، والإسكوريال عنوان مشاعر الإسپان في عصر فليب الثاني، والبيت ذو الطبقات الست عنوان حياة البرجوازي في الوقت الحاضر.
وتدل آثار الفن دلالة صحيحة على أحوال الزمن الذي أبدعت فيه إذا وجد من يعرف قراءتها، وإذا كان لكل جيل فنونه وآدابه فلأن لكل جيل احتياجاته الخاصة التي تقضيها الفنون والآداب، فالمسجد الذي هو معبد ومدرسة وفندق ومشفى في آن واحد أصدق دليل على تمازج الحياة المدنية والدينية عند أتباع النبي، والقصر العربي، كالحمراء مثلا، العاطل خارجه من كل زينة، والمشتمل داخله السريع العطب على كل زخرف يحدثنا عن حياة أمة ظريفة بارعة سطحية محبة للحياة المنزلية غير مفكرة في سوى الساعة الحاضرة تاركة أمر المستقبل لله، ولذلك أصاب من قال: أوضح الكتابات ما كتب على الحجر.
شكل 7-1: جزئيات معمارية في باب بقصر الحمراء (من صورة فوتوغرافية).
ولكن الحجر وحده هو الذي ينطق في الآثار الفنية، وكل أثر ماثل يكلم من يحسن السماع، والمباني تنطوي على دلائل عامة كما تنطوي عليها تقسيمات الكتاب ومختصرات فصوله، وتكمل بالآثار الفنية الفرعية التي يجب على الباحث ألا يحتقرها مهما صغر شأنها، ويجب عد آنية استنباط الماء والخنجر والأثاث وكل شيء يمتزج فيه الفن بالصناعة من أصدق الوثائق التي يمكن المؤرخين أن يعتمدوا عليها أيضا، ومتى عرف المؤرخون أن يستخرجوا من هذا كله حوادث التاريخ أخرج التاريخ من دائرة سرد الوقائع وسلاسل الأنساب والدسائس السياسية الممزوجة بتقديرات صبيانية لا تقف أمام سلطان النقد، والتي لا يوصل بتصفح أكداس الكتب الباحثة فيها إلى معرفة بصيص من حضارة الأزمنة التي تحدث عنها.
شكل 7-2: فوهة بئر عربية بقرطبة (من صورة فوتوغرافية).
والآثار الفنية والأدبية الخليقة بالازدراء، لملاءمتها ما لدى العروق السائرة نحو الانحطاط من الاحتياجات الوهمية، هي التي تنسخ بنذالة عن آثار الماضي لاستخدامها في شؤون الزمن الحاضر، كأن تقام محاطات الخطوط الحديدية أو المدارس الحديثة على الطراز القوطي مثلا، وكذلك لا معنى للبرج بغير فارس نبيل يحميه، فإضافة برج إلى البيت الريفي الحديث من قبيل المهازئ التي تحدث عندما يلبس برجوازي في الوقت الحاضر خوذة ودرعا كما كان يلبس شارلكن، فإذا كان صنع تمثال للقيصر شارلكن راكبا فرسا ولابسا خوذة ودرعا مما يزيد في روعة هذا التمثال لدلالته على زمن المعارك والطعان، فإن صنع مثله لأحد رجال المال والاقتصاد أو لأحد رجال القانون مما يستلزم قهقهة الناظرين لا محالة. والحق أن الأثر الفني إذا ما خرج عن زمانه وبيئته أضاع معناه، وأصبح المتحف أليق مكان له.
وهنا أذكر أن الپارتنون الذي أقيم تحت سماء اليونان الصافية على ذروة الأكروپول المهيمنة على أثينة هو من أجمل ما يتصوره الإنسان من المعابد، فلما أقمنا على طرازه كنيسة في ميدان المادلين بباريس كان هذا عملا سمجا باردا، ولو لم يبالغ المهندس في تجسيم هذه الكنيسة؛ لكانت محلا لسخرية الناس عند قياسها بالأبنية العالية التي تحيط بها.
والفنون، إذن، وليدة مشاعر الأمم واحتياجاتها ومعتقداتها كالنظم، وإذا تحولت هذه المشاعر والاحتياجات والمعتقدات وجب أن تتحول نظم تلك الأمم وفنونها أيضا، ولو لم يكن لدينا من دور النهضة الأوربية سوى آثاره الفنية لكفى قياسها بآثار القرون الوسطى؛ لإدراك تطور العالم الأوربي تطورا عميقا.
أجل، قد تحمل أمة أمة أخرى على انتحال دينها ولغتها ونظمها وفنونها، ولكن إنعام النظر يدل على أن هذه العناصر الجديدة لا تلبث أن تتحول تحولا ملائما لاحتياجات تلك الأمة التي انتحلتها، وكما أن النظم المشتقة من القرآن في بلاد فارس غيرها في بلاد الهند ومصر وإفريقية نرى الفنون العربية في بلاد فارس غيرها في تلك البلاد الأخرى، ولسرعان ما تطور فن العمارة العربي الذي أدخل مع القرآن إلى بلاد الهند؛ فاكتسب صفة الاستقرار والعظمة التي اتصفت بها مباني تلك البلاد العريقة في القدم.
شكل 7-3: قطعتان من نقود الخليفة عمر.
وإذ كانت الفنون عنوان مشاعر الأمة وتصوراتها كانت العوامل القادرة على تحويلها كثيرة كثرة العوامل التي تؤثر في المجتمعات، ويعد درس هذه العوامل وما لها من الأثر على جانب عظيم من الأهمية، وإن كنا لن نصنعه هنا، والمعارف التي لدينا في ذلك عامة الآن، ولا تؤدي إلى ما نتمناه من الشروح الدقيقة، وإذا ما قيض ذلك لأحد العلماء فأزال النقص تألفت لغة سهلة من قراءة آثار الفن. (2) مصادر الفنون العربية
يكفي الإنسان أن ينظر إلى إحدى البنايات التي أقيمت في دور راق من أدوار الحضارة العربية، مسجدا كان ذلك البناء أو قصرا، أو أن ينظر إلى ما صنع فيه من دواة أو خنجر أو جلد قرآن؛ ليرى لهذه الآثار طوابع خاصة لا يتطرق الوهم إليه في أصلها، والباحث في مصنوعات العرب، كبيرة كانت أو صغيرة، لا يرى فيها أية صلة ظاهرة بمصنوعات أية أمة أخرى؛ فالإبداع من مصنوعات العرب تام واضح.
والأمر يكون غير ذلك عندما ندرس آثار العرب في بداءة الحضارة العربية بدلا من درس آثارهم أيام ازدهارها، فلتلك الآثار صلة واضحة بفنون الفرس والبزنطيين الذين ظهروا قبل العرب.
شكل 7-4: قطعة حلي عربية (سورية، من صورة فوتوغرافية التقطها المؤلف).
ورأى كثير من العلماء ما بين آثار العرب الفنية الأولى وآثار بعض الأمم الشرقية من صلة؛ فاستنتجوا من ذلك أن العرب لم يكونوا أصحاب فن مبتكر، مع أن الوقع أن كل أمة تنتفع بآثار الأمم التي تقدمتها قبل أن تصبح صاحبة لآثار فنية ذاتية، وذلك كما قال پسكال بحق: «إنه يجب عد سلسلة الآدميين الذين ظهروا بتعاقب القرون إنسانا واحدا حيا في كل زمان محصلا للمعارف على الدوام»، والواقع أن كل جيل يستفيد في البداءة مما ادخرته الأجيال السابقة، وهو يضيف إليه إذا كان على ذلك من القادرين.
ولم تشذ أمة عن هذه السنة، وليس من الممكن تفسير أمر أمة يزعم عدم اتباعها لها، ومن ذلك أن عدت الحضارة اليونانية، إلى وقت قريب جدا، وذلك حين كانت مصادرها خافية تماما، أنها غير مدينة بأي شيء للأمم الأخرى، فأثبت العلم الرفيع أن أصول الفن اليوناني مقتبسة من الآشوريين والمصريين، ولا ريب في أن قدماء المصريين أنفسهم أخذوا عن أمم أخرى ظهرت قبلهم، ولو لم نفقد أكثر حلقات السلسلة التي تربطنا بشعوب القرون الخالية الأولى؛ لاستطعنا أن نعود إلى الوراء بالتدريج فنتمثل العصر الحجري الذي كاد الإنسان يتصل فيه بأنواع الحيوان التي تقدمته.
شكل 7-5: قطعة حلي فضية (سورية، من صورة فوتوغرافية التقطها المؤلف).
وقد استفاد العرب والأغارقة والرومان والفنيقيون والعبريون وكل أمة أخرى من مجهودات الماضي، ولولا ذلك لكان لزاما أن تبدأ كل أمة بما بدأت به الأمم الأخرى ولسد باب التقدم، وكل ما تفعله الأمة في بدء الأمر هو أنها تقتبس من الأمم التي جاءت قبلها، ثم تضيف إلى ما أخذته أمورا أخرى، وقد اقتبس الأغارقة في بدء أمرهم ما عند قدماء المصريين والآشوريين، ثم حولوا المعارف التي لم يبتدعوها بما أضافوا إليها من الإضافات المتتابعة، ثم اقتبس الرومان ما عند اليونان، ولكن الرومان إذ كانوا دون اليونان فنا لم يضموا إلى ما أخذوا عنهم إلا قليلا، ولم يصنعوا غير طبع الفن اليوناني بطابع الجلال والعظمة الذي هو عنوان دولتهم الكبرى.
ثم نقل مقر دولة الرومان إلى بزنطة، وتبدل فنهم بما أضيف إليه من الزيادات التي اقتضتها مشاعر الأمم الجديدة، أي أن المؤثرات الشرقية ضمت إلى المؤثرات الإغريقية الرومانية، فنشأ عن تمازجها جميعها الفن الجديد الخاص المسمى بالفن البزنطي.
ثم استولى البرابرة على الغرب، واستفادوا من عناصر الحضارة اللاتينية، ولكنهم حولوا ما استعاروه منها إلى ما يلائم احتياجاتهم ومعتقداتهم، فنشأ عن الطراز اللاتيني المشبع من المؤثرات البزنطية والجرمانية ما عرف في الغرب باسم الطراز الروماني الذي تحول بالتدريج إلى طراز القرون الوسطى القوطي.
ثم جاء القرن الخامس عشر، وتحولت فيه الأفكار والمشاعر بفضل ما تم فيه من الرقي والغنى والثقافة فتحول الفن أيضا، أي رجع إلى الطراز الإغريقي اللاتيني القديم مع مراعاة مقتضيات البيئة الجديدة، فظهر طراز عصر النهضة، ثم استمر الفن على التطور فصار جليلا رزينا أيام لويس الرابع عشر، ثم بدا عليه التكلف في عهد لويس الخامس عشر، ثم أصبح مبتذلا مشبعا من روح المساواة في الوقت الحاضر.
وظهر من الأدوار الكبيرة التي تتابعت على فن العمارة منذ القرون القديمة حتى الوقت الحاضر تأثير الماضي، وهل يقال: إن تلك الأدوار عاطلة من فن مبتكر؟ لم يقل بهذا أحد، ولذا يجب ألا يقال: إن العرب لم يكونوا أصحاب فن مبتكر؛ لأنهم اقتبسوا عناصر فنهم الأولى من الأمم التي ظهرت قبلهم.
شكل 7-6: إسكملة عربية مصنوعة من البرونز المكفت بالفضة (من صورة فوتوغرافية التقطها المؤلف).
وتتجلى قوة الإبداع الفني في الأمم في سرعة تحويل ما ظفرت به من عناصر الفن، وجعله ملائما لاحتياجاتها وابتكارها بذلك فنا جديدا، فإذا تحقق هذا لدينا علمنا أن العرب لم تسبقهم أمة.
وظهرت قوة العرب الإبداعية منذ أقاموا مبانيهم الأولى كجامع قرطبة الذي أملوا دقائق صنعته على ما استخدموا في بنائه من متفنني الأجانب.
ومن ذلك أن أعمدة المعابد القديمة التي أخذها العرب في قرطبة كانت قصيرة غير صالحة؛ ليقوم عليها سقف عال كسقف ذلك الجامع، وأنهم وضعوا بعضها فوق بعض ساترين عدم صلاحها بتلك الحنايا الدالة على مهارتهم الفائقة، فلو كان الترك في محل العرب ما عن مثل هذا الرأي لأدمغتهم الغليظة.
شكل 7-7: القسم الأعلى لإسكملة مصنوعة من البرونز المكفت بالفضة في القرن الثالث عشر (وقد عرضت هذه الإسكملة في أول هذا الكتاب، من صورة فوتوغرافية التقطها المؤلف في القاهرة).
وما على القارئ إلا أن يتصفح صور هذا الكتاب؛ ليعلم قيمة آثار العرب الفنية العظيمة وقوة الإبداع فيها، وقد استوقفت هذه الآثار أنظار جميع وارثي العرب، ولم يفعل الشرق منذ ظهور العرب على مسرح العالم غير تقليدها كما قلد الغرب الأغارقة والرومان منذ قرون حتى الزمن الحاضر.
والحق أن وارثي العرب قلدوا العرب، ومن خلال هذا التقليد نستطيع أن نتبين الفرق بين الفن المبتكر والفن غير المبتكر.
كان أمام الأمم التي حلت محل العرب عناصر بيزنطية وعربية وهندوسية وفارسية ... إلخ، مختلفة باختلاف البلدان، فلم تفعل سوى تنضيدها عاجزة عن استنباط طراز جديد من مجموعها، فإذا نظرت إلى إحدى بنايات المغول في الهند، مثلا، أمكنك أن تقول: إن هذا الجزء منها فارسي، وإن ذاك الجزء منها هندوسي، وإن ذلك الجزء منها عربي، وقل مثل هذا عن المباني التي أقامها الترك الذين نضدوا فيها عناصر الفنون السابقة من غير أن يمزجوا بعضها ببعض، ولكنك إذا أنعمت النظر في المباني العربية كالقصور التي أقامها العرب في الأندلس أو المساجد التي أقاموها في القاهرة رأيت العناصر الأولى التي تألفت منها بلغت من التمازج ما يتعذر معه من الانتباه إلى المصادر التي اشتقت منها.
والآن نلمس مزاج الأمة الإبداعي فنقول: مهما تكن عناصر الفن التي تصبح قبضتها تضع طابعها الخاص عليها، فإذا كانت الأمة مبدعة أمكن أن تتجلى قوتها الإبداعية في كل شيء حتى في بناء إصطبل أو صنع حذاء، وإذا كانت الأمة عاطلة من مثل هذه القوة لم تفعل سوى تنضيد عناصر الفن، كما هو شأن الترك الذين استطاعوا أن يقلدوا كنيسة أياصوفية في القسطنطينة عشر مرات، وأن ينضدوا فيما قلدوه بعض الزخارف العربية أو الفارسية، ولكن من غير أن تكون لهم فيه أية مسحة إبداع فني خاصة.
شكل 7-8: باب عربي قديم في القاهرة (من صورة فوتوغرافية التقطها المؤلف). (3) الجمال في فنون العرب
ترانا سائرين بحكم الطبيعة إلى تقدير جمال الفنون العربية بعد أن بحثنا في مصادرها وما فيها من إبداع عظيم، ولكن فقدان المقاييس المضبوطة يجعل هذا التقدير أمرا شخصيا ويقلل من شأنه، ولن يكون نفع الأثر الفني، أي مطابقته لغرضه، مقياسا صالحا لتقدير قيمته، فمن الممكن أن تقام عدة بيوت أو عدة بنايات متساوية الفوائد مختلفة القيم الفنية.
ويجب علينا أن نعرف الجمال والبشاعة قبل أن نعين بالضبط درجة الجمال أو البشاعة في الأثر الفني.
لقد دل البحث على أن قيمة الأمور التي هي من نوع الجمال والبشاعة تختلف باختلاف العروق والتربية والبيئة والزمن ... وما إلى ذلك من العوامل، والتعريف الوحيد الممكن الذي يلائم جميع العروق في كل زمان هو أن الشيء الجميل هو ما نستلذه.
وهذا التعريف ناقص جدا لا ريب، ولكن السعي في إكماله يؤدي إلى الاقتراب من دائرة سبب الأسباب المنيعة التي عجز العلم عن دخولها حتى الآن.
وإذا كنا نستلذ الشيء فلملاءمته أحوال أمزجتنا التي تختلف باختلاف الأشخاص والعروق، ولكن ما هذه الأحوال؟ ذلك ما لا نقدر على الإجابة عنه.
شكل 7-9: لوح باب خشبي قديم مرصع بالعاج في القاهرة (مجموعة شيفر، من صورة فوتوغرافية التقطها المؤلف).
وليس في الطبيعة جمال مطلق أو شناعة مطلقة، كما أنه ليس فيها صوت أو سكوت أو نور أو ظلام ... أو غير ذلك من الأمور التي هي وليدة ذهننا، والتي أثبتت الفزيولوجية الحديثة أنها أوهام خالصة، ولم يظهر الجمال والبشاعة في العالم إلا يوم صار لبعض الأشياء والأشكال تأثير حسن أو سيئ في حواسنا، وهذه أوجه للذة والألم وفق آخر تحليل.
وإذا كانت عناصر الأثر الفني منسجمة كان هذا الأثر الفني ذا تأثير حسن في حواسنا، ونقول إذ ذاك: إنه أثر جميل، وإذا كانت تلك العناصر فاقدة الانسجام كانت مؤذية لحواسنا، ونقول إذ ذاك: إنه أثر بشع، وإنما الذي لا نقدر عليه هو بيان السبب في تلذذ العين أو الأذن ببعض التراكيب وتألمها من بعضها الآخر، ونرى اليوم البعيد الذي يكتشف العلم فيه سبب حب شخص لبعض الأطعمة وكره شخص آخر لها هو اليوم الذي يكون العلم قد تقدم فيه كثيرا.
والوهم في تقدير قيمة الآثار الفنية نفسها يتطرق إلينا من إجماع فريق كبير من أبناء العرق الواحد على رأي واحد في بعض أوصاف الجمال، ومصدر هذا الإجماع هو في الحقيقة تماثل مزاج ذلك الفريق، فإذا ما نيط أمر الجمال أو البشاعة بمختلف العروق رأيت اختلافا في التقدير من فورك؛ فالبزنطي كان يفضل العذارى الضامرات الممطولات على إلاهات قدماء اليونان الضليعات، والبرابرة الميروڨنجيون كانوا يرون صورهم الغليظة أجمل مما أنتجته الحضارة اليونانية اللاتينية، والهمجي من إفريقية الجنوبية يرى المرأة الهوتنتية، التي هي من أشنع نساء العالم في نظرنا، جميلة جمال ڨينوس دوميديسيس وأپولون دو پلڨدير عند الأوربي.
ويعود بنا الإيضاح السابق، كما ترى، إلى التعريف الذي بدأنا به، وهو «أن الشيء الجميل هو ما نستلذه»، وإننا نتم هذا التعريف بقولنا: «إن الشيء الجميل هو ما يستلذه أكثر أبناء العرق الواحد في زمن معين»، ولا نستطيع أن نذهب إلى ما هو أبعد من ذلك.
ومهما تجد من نقص في تعريفنا للشيء الجميل تره يدلنا، مع ذلك، إلى حقيقة الفن وإلى ما نطالب به رجل الفن، فإذا كان رجل الفن يبحث عن أمثلته في الطبيعة طالبناه بأن يقتبس منها ما نستلذه، وأن يبالغ في إظهار ذلك مبالغة تروقنا.
ولا نألم من رجل الفن لصنعه تمثال امرأة أجمل مما نراه عادة، ففي تجميل الطبيعة، لا في نقلها حرفيا، يتجلى الفن، فانظر إلى تمثال ڨينوس دوميلو تراه آية في الجمال، وسبب الإعجاب به هو أن الطبيعة لم تمنح شخصا واحدا ضروب الكمال التي تشاهدها مجتمعة فيه.
ثم إذا حدث أن بذل رجل الفن ما عنده من حذق في صنع تمثال لامرأة عجوز عارية متكرشة أمكننا الثناء عليه، مع ذلك، لدقته ولما اقتحمه من المصاعب، وإذا كان هذا التمثال محلا للإعجاب فلما اصطلح الناس عليه في زمن معين.
وقد يؤدي اصطلاح الناس في زمن معين، ولا سيما في دور الانحطاط، إلى تبدل في أذواقهم، ومن ذلك تمني أنصار تصوير الطبيعة الحرفي أن تكون آثار الفن مطابقة للحقائق بدلا من أن تكون رائعة مثالية، وقد جهل هؤلاء أن الطبيعة مملوءة بالحقائق، لا بما هو جميل، وأن الفن إذا قام، كما يرون، على تصوير الطبيعة تصويرا حرفيا فإنه يعود غير موجود، وأن آلة التصوير التي تكفي لالتقاط قبيح الأشياء لا تدع في الناس احتياجا إلى عبقرية رجال الفن المبدعة.
وما على المرء إلا أن ينظر إلى آثار العرب الأدبية والفنية؛ ليعلم أنهم حاولوا تزيين الطبيعة دائما، وذلك لما اتصف به الفن العربي من الخيال والنضارة والبهاء وفيض الزخارف والتفنن في أدق الجزئيات.
والأمة العربية قد رغبت، بعد أن اغتنت (والأمة العربية أمة شعراء، وأي شاعر لا يكون متفننا) في تحقيق خيالاتها فأبدعت تلك القصور الساحرة التي تخيل إلى الناظر أنها مؤلفة من تخاريم رخامية مرصعة بالذهب والحجارة الكريمة.
ولم يكن لأمة مثل تلك العجائب، ولكن، فهي وليدة جيل فتي مضى وخيال خصب ذوى، ولا يطمعن أحد في قيام مثلها في الدور الحاضر المادي الفاتر الذي دخل البشر فيه. (4) الفنون الصناعية العربية
تدل كلمة الفنون الجميلة، عادة، على فن التصوير وفن النحت وفن العمارة وفن الموسيقا، وتدل كلمة الفنون الصناعية على صنع المنتجات ذات النفع العام التي تصنع بطرق آلية، وتكون مشربة روح الفن الجميل.
وإن مما يجادل في قيمته، لا ريب، تعبير «الفنون الصناعية»، ولكنني لن أفعل هذا هنا، وإنما أذكر أن الفنون الصناعية تشتمل، عادة، صناعة الخزف والزجاج الفني والفسيفساء والنجارة والصياغة والتكفيت ... وما إلى ذلك.
وقد تكون لدراسة منتجات الفنون الصناعية، من حيث الحضارة، أهمية كالتي تكون لدرس الفنون الجميلة؛ فقد يوجد في أتفه هذه المنتجات ما يدل على أدق شؤون الحياة الشعبية، وما يساعد على تقدير معارف صانعيها الفنية واحتياجات مبدعيها ومقتنيها.
والفنون الصناعية شائعة بين العرب في كل مكان، وروشم
1
الفران والدلو والسكين، مثلا، من الأشياء التي يصنعها العرب بروعة تدل على درجة اتصاف أحقر صناعهم بالذوق الفني، والحق أن الفن مستقل عن تطبيقاته، ويمكن أن يتجلى في أنفس الأدوات وأثمنها كما يمكن أن يتجلى في أحطها.
ومن دواعي الأسف أن يكون درس فنون العرب الصناعية الذي خصصنا له هذا الفصل ناقصا جدا لقلة ما عندنا من الوثائق، ولم يتصد أحد بعد لدرس تاريخ مصدر هذه الفنون وتطوراتها المتعاقبة مع ما في هذا من الفوائد الكثيرة.
شكل 7-10: لوح باب خشبي لردهة السفراء في القصر بأشبيلية (متحف العاديات الإسپاني).
ومباني العرب أهم آثار العرب الفنية، وسندرس تاريخ طرازها في الفصل الآتي درسا مجملا؛ لكثرة عددها، ولأن البحث فيها كان الغرض المهم من رحلاتنا، ولأن جمع المواد التي تؤدي إلى وصف ما برز فيه العرب من الفنون الأخر يتطلب نفقات عظيمة، ولذا نقتصر في هذا الفصل على بيان هذه الفنون الأخرى بيانا عاما عاجزين عن ذكر سلسلة تطورات كل واحدة منها بحسب الأزمنة، وذلك خلافا لما نصنعه في فن البناء. (4-1) التصوير
من الأقوال الشائعة أنه حرم على المسلمين تصوير الرب والموجودات الحية، ويعزو القرآن، أو تفاسير القرآن على الأقل، هذا المنع إلى النبي.
والواقع أن المسلمين لم يكترثوا لذلك إلا في زمن متأخر، وأنهم تجاهلوه زمنا طويلا كما تجاهلوا منع ذلك الكتاب المقدس للعبة الشطرنج والشرب بآنية من ذهب أو فضة.
وكان الخلفاء أول من خالف حظر تصوير ذوات الحياة، وظهر من صور النقود التي نشرناها في هذا الكتاب أنهم لم يترددوا في رسم صورهم على نقودهم.
والصور التي على النقود أو الصور غير القليل التي على الآنية العربية من الأدلة المفيدة على استعداد العرب للرسم، على معرفتهم للتصوير، ويمكن الاستدلال على معرفة العرب للتصوير بما ذكره مؤرخوهم الذين أنبأوا بوجود عدة مدارس عربية كثيرة للتصوير فيما مضى، ومن هؤلاء المؤرخ المحقق المقريزي الذي ترجم مصورين من المسلمين، وذكر أنه وجد في قصر الخليفة المستنصر، حين نهب في سنة 460ه، ألف قطعة من المنسوجات مصورة عليها حاشية خلفاء العرب مع مقاتلين ورجال مشهورين، وكانت البسط المصنوعة من نسائج الذهب والحرير والمخمل مستورة بتصاوير ممثلة لرجال من كل نوع.
ويدل ما ذكره المقريزي على حذق مصوري عرب القاهرة في القرن العاشر من الميلاد، وقد روى وجود صورتين لمغنيتين تبدو إحداهما، وهي لابسة ثوبا أبيض على أساس أسود، كأنها داخلة في الجدار المصورة عليه، وتبدو الأخرى، وهي لابسة ثوبا أحمر على أساس أصفر، كأنها خارجة منه نحو الناظر.
شكل 7-11: إسكملة خشبية مرصعة في القاهرة (من صورة فوتوغرافية).
ويظهر أن مصوري ذلك الزمن كانوا من المتقنين لضروب فن المناظر، فاستطاعوا تصوير السلم الذي روى المقريزي وجوده في أحد قصور القاهرة على شكل يخيل إلى الناظر معه أنه حقيقي.
ويحتوي كثير من المخطوطات العربية على صور، ولا سيما المخطوطات الخاصة بالتاريخ الطبيعي، وترويض الخيل ... إلخ، ولا يزال يوجد في المكتبات نسخ قديمة من مقامات الحريري زينها العرب بالصور، وذكر الغزيري أن أحد المخطوطات في مكتبة الإسكوريال يشتمل على أربعين صورة لملوك العرب والفرس والملكات والقادة وأعاظم الرجال ... إلخ، وأن هذا المخطوط يرجع إلى القرن الثاني عشر.
ويعلم جميع زائري الحمراء أن سقف قاعة الحكم فيها يشتمل على صور لمختلف الموضوعات، كمجلس أمراء من العرب، وكمطاردة فارس مغربي لفارس نصراني مطاردة المنتصر ... إلخ، وإن وجد خلاف في مصدرها، ولم يتردد مسيو لاڨوا في عزو قسم منها، على الأقل، إلى العرب، وهي لا تدل على نبوغ فني في مصوريها كما رأيت.
شكل 7-12: إسكملة خشبية عربية في القاهرة (من صورة فوتوغرافية).
ومع ذلك فإن تلك الوثائق والآثار لا تكفي للحكم في أمر مصوري العرب، وإنما يمكن تقدير نبوغ رساميهم بصور الحيوان والإنسان التي اشتملت عليها مخطوطاتهم أو مصنوعاتهم المعدنية.
وتطفو الكتابات والنقوش العربية - في الغالب - فوق صور ذوات الحياة التي رسمها العرب، وقد يحدث، أن تؤلف الحروف العربية من مزيج من صور الحيوانات والآدميين على شكل عجيب، ومن ذلك ما في الحافة الخارجية، التي نشرنا صورة بعضها، للكوب «المصنوع في القرن الثالث عشر، والمحفوظ في مكتبة باريس الوطنية» من الإفريز الذي تألفت أسطورة من تشابك صور أشخاصه في حروف عربية.
وأشهر الأواني العربية المشتملة على صور الآدميين هو الإناء الموجود الآن في متحف اللوڨر، والمعروف بإناء سان لويس للعماد، والذي استخدم زمنا طويلا لتعميد الصبيان في فرنسة، بعد أن فرض أن سان لويس أتى به أيام الحروب الصليبية، والذي أثبت مسيو دولونغپريه أنه من مصنوعات القرن الثالث عشر من الميلاد، والذي ظهر أن أزهار الزنبق أضيفت إليه بين ذلك القرن، والقرن الرابع عشر من الميلاد، وهذا مع ملاحظتي أن زهر الزنبق، أو رمزا آخر كثير الشبه به على الأقل، يوجد بكثرة بين زخارف المباني العربية في مصر.
ولكن المسلمين صاروا بعد زمن مختلف باختلاف البلدان لا يرسمون صور ذوات الحياة في مصنوعاتهم أبدا، مقيدين في ذلك بأقوال الفقهاء الذين تغلبت عليهم حرفية القرآن.
ولم تبال الأمم التي اعتنقت الإسلام، كالفرس والمغول، بمحظورات القرآن التي لم تلائمهم، فترى في بلاد الفرس - على الخصوص - صورا كثيرة لذوات الحياة، وإن كانت صور الآدميين منها متوسطة على العموم، وصور الأزهار والحيوانات منها على شيء من الجمال مع قليل خيال. (4-2) صنع التماثيل
صنع التماثيل كالتصوير من الأمور النادرة عند العرب، ولذا يجب أن نكتفي بما جاء في كتب التاريخ من الإشارات أو بالنماذج القليلة الناقصة جدا.
وقد أشرنا في فصل سابق إلى ذلك الخليفة المصري الذي كان قصره مملوءا بتماثيل نسائه، ومثل ذلك ما ذكرته تواريخ عرب الأندلس من التماثيل التي كانت في قصر عبد الرحمن الشهير، ولا سيما تمثال حظيته.
ولم يبق من تماثيل العرب غير ما هو تافه، كتماثيل الحيوانات الوهمية القائمة في قاعة الأسود من قصر الحمراء، وتمثال العقاب البرونزي الكائن في كانپو سانتو في پيزه، وتمثال الأسد البرونزي الذي صنع ليجري ماء إحدى العيون من فمه فتراه الآن في مجموعة فورتوني.
صنعت تلك التماثيل، التي هي من منتجات الفنون الصناعية، لغرض معين، لا للفن نفسه، ولا نستطيع أن نقدر قدرة العرب على صنع التماثيل بتلك الوثائق القليلة جدا .
شكل 7-13: روشم فران عربي مصنوع من الخشب. (4-3) صناعة المعادن والحجارة الثمينة
الصياغة وصناعة الحلي والترصيع والتكفيت: تقدم العرب كثيرا في الصناعة المعدنية، وبلغ إتقانهم لبعضها مبلغا يصعب الوصول إلى مثله في زماننا، وكانت آنيتهم وأسلحتهم مكفتة بالفضة ومموهة بالميناء المفرض ومرصعة بالحجارة الثمينة، وكان من تقدم العرب استطاعتهم أن يصنعوا من مادة قاسية كالبلور قطعا كبيرة مغطاة بالصور والحكم مما يعسر صنعه، ويغلو ثمنه في الزمن الحاضر، ومن ذلك الإبريق البلوري الذي صنع في القرن العاشر من الميلاد فتجده في متحف اللوڨر، وتجد صورة له في هذا الكتاب مع صور نماذج كثيرة لمصنوعات العرب من المعدن والحجارة الثمينة.
وتجلت روح الإبداع العربية - على الخصوص - في ترصيع المعادن الصالحة لصنع الأسلحة والآنية والأباريق وكفاف الموازين وأدوات المنازل ... وما إليها، وأطلق اسم الدمشقي على منهاج العرب مشتقا من اسم المدينة «دمشق» التي زاولته على الخصوص، وكانت دمشق والموصل أهم مراكز هذه الصناعة، ولا تزال هذه الصناعة رائجة في دمشق، ولكن على شكل منحط، ويعود انحطاطها، لا ريب إلى زمن تيمورلنك الذي استولى على دمشق في سنة 1399م، فساق جميع صانعي أسلحتها إلى سمرقند وخراسان.
ولا ترجع المصنوعات المعدنية المكفتة العربية الموجودة الآن إلى أقدم من أوائل القرن العاشر من الميلاد، وأكثرها صنع في القرن الثاني عشر والقرن الثالث عشر من الميلاد، والأسلحة المصرية التي نشرنا صورها في جزء آخر من هذا الكتاب هي لطومانباي (1511م)، وهي مصنوعة على الطراز الفارسي العربي.
وإنني أقتبس وصف مسيو لاڨوا لطرق الشرق في التكفيت، وذلك مع التنبيه إلى أن ما ذكره عن صناعة التكفيت الحاضرة في القاهرة لم يكن غير ما في دمشق، فعمال القاهرة الذين يحسنون التكفيت في زماننا قليلون جدا، وأكثر ما في أسواق القاهرة من المصنوعات النحاسية هو من دمشق. قال مسيو لاڨوا:
وترى طرق كثيرة لصناعة التكفيت عند الشرقيين، ويتم التكفيت بإدخال خيط من الذهب أو الفضة إلى فرض محدثة في المعدن بالمنقاش واسعة القعر ضيقة الوجه، ويكون هذا الخيط بارزا أو مسوى على حسب رأي الصانع ، فتارة تركب زهرة دقيقة من الذهب أو الفضة على أساس من الفولاذ أو النحاس بين خطين متوازيين، وتطرق الأطراف طرقا خفيفا، فينجم عن هذا ما يشبه الإطار، وهذا ما يفعل في دمشق غالبا، وتارة يمر الصانع بمهارة عجيبة منقاشه المهمازي الشكل بسرعة على المعدن الذي يرغب في زخرفته، ويركب خيط الفضة بالمدق على هذه الأجزاء المعدة؛ ليعلق بها فتمسكه، وهذا الطراز في التكفيت هو ما لا يزال يفعله العمال في القاهرة، وهو ما يقوم به صناع الفرس على الخصوص.
شكل 7-14: رصفة رخام في بيت قديم بالقاهرة.
شكل 7-15: فسيفساء من رخام وصدف في الجامع الكبير بدمشق.
والطريقة الأخيرة هي التي يستعملها صناع دمشق في الوقت الحاضر أيضا، وهي على ما فيها من السرعة لا تؤدي إلى صنع ما هو متين، أي لا تنظف الأزهار المكفتة بها من غير أن تخلع، مع أن المعدن المرصع على حسب الطرق السابقة يؤلف جزءا من المعدن المرصع، ولا يجوز قياس مصنوعات دمشق المعدنية الحاضرة بمصنوعات عصر الخلفاء التي نذكر منها - على سبيل المثال - الإسكملة الرائعة المصنوعة من البرونز، والتي قدمت لوحة لها في هذا السفر.
شكل 7-16: صندوق صغير مصنوع في القرن الحادي عشر من الميلاد (طراز فارسي عربي، متحف العاديات الإسپاني). (4-4) النقود والأوسمة
روى المؤرخ المقريزي في رسالته عن النقود أن الخليفة الأموي عبد الملك هو أول من ضرب النقود الإسلامية، وكان المسلمون حتى السنة السادسة والستين من الهجرة (695م) يستخدمون نقود الروم الذهبية والفضية أو يقلدونها مع إضافة بعض الكلمات العربية إليها كاسم الخليفة، وكالكلمات: الحمد لله، ولا إله إلا الله ... إلخ.
وللنقود العربية ثلاثة أنواع: الدينار: وهو من الذهب، تترجح قيمته بين اثني عشر فرنكا وخمسة عشر فرنكا، والدرهم: وهو من الفضة، تعدل قيمته ستين سنتيما، والدانق: وهو من النحاس.
ونشرنا في هذا الكتاب، صورا غير قليلة لنقود العرب في مختلف الأقطار، ولا سيما مصر والأندلس، وهي جميلة على العموم، والحروف فيها واضحة جدا. (4-5) المصنوعات الخشبية
وصل العرب في إتقان مصنوعاتهم الخشبية وترصيعها بالصدف والعاج إلى درجة تقضي بالعجب حقا، واليوم لا تقلد، إلا بثمن عال، تلك الأبواب العجيبة التي ترى في بعض المساجد القديمة، وتلك المنابر ذات التقاطيع والتراصيع، وتلك السقوف ذات النقوش المتشابكة، وتلك المشربيات المخرمة.
شكل 7-17: صندوق عربي قديم مصنوع من الخشب المرصع في القاهرة (من صورة فوتوغرافية).
وبلغت تلك الصناعة درجة الكمال قبل القرن الثاني عشر من الميلاد، كما تدل عليه القطع الأثرية التي انتهت إلينا من ذلك العصر، فنذكر منها منبر المسجد الأقصى القدسي الرائع.
وكان العرب يتقنون صناعة حفر العاج إتقانا نادرا أيضا، كما تشهد بذلك القطع الكثيرة النفيسة التي وصلت إلينا كالصندوق العاجي الصغير الذي صنع لأحد ملوك أشبيلية في القرن الحادي عشر من الميلاد فيعرف بصندوق سان إيزيدور الليوني، وكصندوق كتدرائية بايو العاجي الذي صنع في القرن الثاني عشر من الميلاد، فأتي به من مصر أيام الحروب الصليبية كما نرجح فيبدو مزخرفا بالفضة المموهة بالذهب، وبضروب الزينة المرصعة والمخرمة على أشكال الطيور ولا سيما الطواويس.
وهنا أذكر على العموم، وذلك في معرض البحث في صناعات العرب الخشبية والعاجية والمعدنية، ما يدل على مهارة الصناع الشرقيين العجيبة، وذلك أنهم يصنعون أدق المصنوعات بأغلظ الآلات وأقلها عددا، أجل، لا يقاس ما يصنع اليوم في القاهرة ودمشق من الحلي والقطع المرصعة بما كان يصنع منها في عصر الخلفاء، ولكنني لا أعتقد وجود صناع أوربيين قادرين في الوقت الحاضر على صنع مقعد مرصع، أو نارجيلة مكفتة، أو سوار بمثل تلك الآلات الابتدائية التي رأيتها في الشرق.
شكل 7-18: صندوق صغير من العاج المنقوش في القرن الحادي عشر من الميلاد (متحف كنسنغتن، من صورة فوتوغرافية التقطها مسيو شارل رلڨا). (4-6) الفسيفساء
عرف الرومان استعمال الفسيفساء، واقتبسها البزنطيون منهم مع إكمال صنعها بإدخال أساس ذهبي إلى الترصيعات الكثيرة الألوان.
ولم يتح لي أن أحقق إتيان العرب بتعديلات مهمة في صناعة الفسيفساء التي لم يلبثوا أن فضلوا عليها صناعة الميناء في زخارفهم السهلة الإنجاز.
وللفسيفساء نوعان عند العرب: فالنوع الأول: هو ما كانوا يكسون به وجه الأرض وأسفل الجدر من قطع المرمر أو الخزف المطلي الملون المختلف المقاييس، والنوع الثاني: هو ما كانوا يكسون به الجدر، ولا سيما جدر المحاريب، فنرى أن صنعه بيزنطي تماما.
وقد رأيت تماثلا بين قطع الفسيفساء التي هيئ لي أن أدرسها في بلاد اليونان وتركية وسورية ومصر ونماذجها التي أتيت بها من الكنائس البزنطية في أثينة ومن أياصوفية في القسطنطينية وجامع عمر في القدس ومساجد القاهرة، أي تتألف قطع الحجارة الملونة، وقطع الزجاج التي يسفر ضم بعضها إلى بعض عن صور من مكعبات صغيرة يبلغ ضلع الواحد منها نحو سنتيمتر، ويشتمل كل صباغ فيها على ثلاثة ألوان، على العموم، صالحة لإحداث تمازج نور وانعكاسه، والمكعبات الحجرية ملونة في جملتها، والمكعبات الزجاجية المعدة لإحداث أساس ذهبي مذهبة في وجهها فقط، وتقوم الطريقة الدقيقة التي اتبعت لبقاء تلك الطبقة الذهبية ودوامها لامعة على طلاء كل مكعب مذهب بطبقة زجاجية رقيقة رقة الطبقات الزجاجية التي تكون فوق المستحضرات المكروسكوبية في المختبرات، وأرى أن بقاء هذه الطبقة الذهبية مدة ألف سنة على حالها الأول حدث بفضل ذلك الطلاء الواقي. (4-7) صناعة الزجاج
زاولت جميع الأمم الشرقية، ولا سيما الفرس والمصريون، صناعة الزجاج منذ أيام الفنيقيين الذين عزي إليهم أمر اختراعه، واكتشفت في نينوى أدوات زجاجية صنعت قبل ظهور المسيح بمدة تترجح بين سبعة قرون وثمانية قرون، ثم سيق صانعو الزجاج في الإسكندرية إلى رومة أيام الرومان، وصنعوا فيها أكوابا زجاجية جميلة مطلية بالميناء، ولما ظهر العرب لم يبق لهم، إذن، إلا إتقان تلك الصناعة التي كانت موجودة قبلهم.
شكل 7-19: صندوق صغير مصنوع في قرطبة من العاج المنقوش، وذلك في القرن العاشر من الميلاد (متحف كنسنغتن) (من صورة فوتوغرافية التقطها شارل رلڨا).
ولم يلبث العرب أن تقدموا في صناعة الزجاج تقدما عظيما، كما يشهد بذلك ما انتهى إلينا من أوانيهم المذهبة والمطلية بالميناء، ويمكننا أن نتمثل ذلك بسهولة من إنعام النظر في الصور المبعثرة في هذا الكتاب، ولا سيما لوحة مصابيح بعض المساجد.
ويرى كثير من المؤلفين أن مورانو والبندقية مدينتان لصانعي الزجاج من العرب بطرقهما التي اكتسبتا بها شهرة كبيرة في صناعة الزجاج، والعرب من تعلم من اتصال البندقية بهم اتصالا تجاريا مستمرا. (4-8) الصناعة الخزفية
استعمال الخزف المطلي بالميناء الملون قديم جدا، وقد وجدت قطع منه في بقايا القصور الفارسية القديمة، ولم يلبث العرب أن استخدموه بدلا من الفسيفساء؛ لما يتطلبه صنع الفسيفساء من انقضاء زمن أطول من الزمن الذي يتطلبه ذلك، ومن مصاعب أشد مما يستلزمه ذلك، وتجد في أقدم المساجد، كمسجد قرطبة ومسجد القيروان ... إلخ، نماذج شتى للخزف المطلي بالميناء.
وما اتفق للعرب في فن العمارة بسرعة اتفق لهم مثله في صناعة الخزف، وقد استطاع العرب، بعد أن اقتبسوا من الأمم الأخرى طرق صنع الخزف الفنية، أن يبتدعوا منه، في بلاد الأندلس على الخصوص، قطعا مبتكرة رائعة متقنة لم يسبقهم إليها أحد كمالا.
شكل 7-20: إناء عربي مأخوذ من قصر الحمراء (كما جاء في صورة قديمة).
وترجع صناعة المسلمين للخزف المطلي بالميناء في بلاد الأندلس إلى القرن العاشر من الميلاد، وقد كان لهم فيها مصانع شهيرة تبيع مصنوعاتها في جميع أنحاء العالم، وقد شاهدنا في قصر الحمراء ألواحا رائعة مستورة بالخزف المطلي بالميناء ذي الانعكاس المعدني، ومصنوعة في القرن الثالث عشر من الميلاد ومتشابهة هي والمصنوعات الإيطالية، التي عرفت مؤخرا بالمصنوعات الماجوليكية، تشابها يستوقف النظر، وإن في اشتقاق كلمة «ماجوليكة»، لا ريب، من «ميورقة» التي كان فيها مصنع عربي مهم لصنع الخزف المطلي بالميناء دليلا على أن طرق الإيطاليين في صنعه مقتبسة من العرب.
وأشهر نموذج لصناعة الخزف المطلي بالميناء الإسلامية هو الإناء الذي وجد في قصر الحمراء، والذي يبلغ ارتفاعه مترا وخمسة وثلاثين سنتيمترا، وهو مكسو برسوم زرق ذهبية (على أساس أبيض ضارب إلى صفرة) وبنقوش عربية وكتابات وصور حيوانات خيالية تذكرنا بالوعل، وهو حائز، شكلا لطابع الإبداع الخاص بجميع آثار العرب.
وكانت أهم المراكز العربية لصناعة الخزف المطلي بالميناء في بلنسية ومالقة. قال الرحالة العربي ابن بطوطة مشيرا إلى مالقة سنة 1350م: «وبمالقة يصنع الفخار المذهب العجيب، ويجلب منها إلى أقاصي البلاد.»
ومن أشهر معامل صنع الخزف: معمل جزيرة ميورقة الذي يظهر أنه قديم جدا؛ لافتتاح النصارى لها في سنة 1230م.
ولما تم إجلاء العرب عن إسپانية هبطت فيها صناعة القاشاني وجميع الصناعات إلى الحضيض بسرعة. قال مسيو دو سوميرار: «إن درجة الإنتاج في إسپانية صفر، واليوم لا تصنع معاملها سوى الأواني المنزلية الغليظة.»
واكتشفت قطع من القاشاني في صقلية، وافترض بسببها وجود مصانع إسلامية للقاشاني فيها سابقا، غير أن نماذج تلك القطع التي وجدت إذ كانت أقرب إلى الفن الفارسي منها إلى الفن العربي صار من المحتمل أن تكون قد أدخلت إلى صقلية بطريق التجارة فيما مضى، ويشتمل متحف كلوني على مجموعة نفيسة من القاشاني الذي يفترض أنه صقلي عربي.
وتشتمل المتاحف الأوربية على كثير من الأواني الخزفية التي صنعت تقليدا لأواني عرب الأندلس، ويسهل تبين هذا التقليد بما فيها من قطع الكتابات العربية الممزوجة بالزخارف، وقد حرف صانعو الخزف من الأجانب هذه الكتابات، التي اتخذوها أساسا للزينة، حين اقتباسها.
شكل 7-21: صيني مطلي بالميناء في الباب الرئيسي لضريح تيمورلنك (من مجموعة الجنرال كوفمن الفوتوغرافية).
ولا يزال يرى في بلاد العرب وفي أهم مدن الشرق مصنوعات من الخزف الصيني المزين بالكتابات العربية المذهبة على أساس من اللون الأزرق أو الأبيض، ولا ريب في أن عمالا من مسلمي الصين هم الذين يصنعونها، ووجب ألا يكون عددهم قليلا بين الملايين العشرين المسلمين الذين تشتمل عليهم مملكة ابن السماء. (4-9) المنسوجات والبسط والزرابي
لم يصل إلينا شيء من المنسوجات والبسط العربية التي صنعت أيام ازدهار حضارة العرب، وأقدم ما هو موجود منها في الوقت الحاضر لا يرجع، مع ندرته، إلى أبعد من القرن الثاني عشر من الميلاد.
ونعلم من تواريخ العرب أنه كان يوجد على بسطهم وقطفهم ومنسوجاتهم الحريرية، التي صنعت في معامل قلمون وبهنسا ودمشق وغيرها من المدن، صور للآدميين والحيوانات، وقد نشرنا في هذا الكتاب صورا لنسائج عربية قديمة، أو صورا لنسائج عربية صنعت على النماذج القديمة، وعاد الشرق لا يصنع منسوجات ذات صور للإنسان منذ زمن طويل.
بقي علينا أن ندرس فن عمارة العرب، وبهذا نحتم بحثنا في الآثار العجيبة التي أبدعها أتباع النبي، والتي هي عربية أحيانا، فتانة غالبا، مبتكرة دائما.
هوامش
الفصل الثامن
فن عمارة العرب
(1) معرفتنا الحاضرة لفن عمارة العرب
لم يعتن علم الآثار الحديث بمباني العرب إلا قليلا، وأكثر هذه المباني في أماكن بعيدة، ولا يسهل درسها دائما، وإذا عدوت ثلاثة كتب أو أربعة كتب مهمة خاصة بالبحث في قصر الحمراء ومساجد القاهرة والقدس وجدت الكتب غافلة عنها تقريبا، قال باتيسيه الذي هو مؤلف لتاريخ من أحسن ما لدينا من تواريخ فن البناء، وذلك في الطبعة الأخيرة التي طبع بها كتابه «تاريخ فن البناء» في سنة 1880م: «إن مباحث تاريخ العمارة الإسلامية تحتاج إلى توسيع كبير»، ثم أسف هذا المؤلف على نقص معالجته لهذا الموضوع، والحق أن هذا المؤلف اقترف عدة غلطات، ومن ذلك أنك لا تجد بين صور كتابه المهم الكثيرة صورة لبناء إسلامي في بلاد سورية وفارس والهند، ولم يكن المسجد المصري، الذي نشر صورته فيه مثالا، إلا أسوأ نموذج للمباني المصرية القائمة على الطراز العربي، وذلك ببابه ونوافذه القائمة الزوايا وقبته البصلية الشكل.
وقال سيديو في الطبعة الثانية، التي تمت سنة 1877م، لكتابه «تاريخ العرب العام»: «من دواعي الأسف أننا لم نبحث حتى الآن بحثا عاما في المباني التي أقامها العرب في بلاد سورية والعراق وفارس، حتى الهند، في مختلف أدوار سيادتهم، ففي هذه المباني، لا ريب صفات خاصة نرى من المفيد تعيينها.»
ومنذ زمن طويل أبدى ج. دوپرنجه مثل هذا الرجاء في كتابه الممتع عن فن عمارة العرب في الأندلس على الخصوص، وقال: «نعد من حب الدرس أن يبحث في أهم المباني التي أقامها العرب في بلاد سورية وفارس ومصر وإفريقية (نسي المؤلف أن يذكر بلاد الهند)، وما الرسوم العامة للمسجد الأقصى الذي أقامه عمر (!) في القدس، ومساجد دمشق، ومسجد عمرو بن العاص، ومسجد ابن طولون في القاهرة، ومسجد القيروان؟ وما أوضاع هذه المباني الخاصة؟ وما دقائقها؟ وما زخارفها؟ وما طابعها؟»
شكل 8-1: أقواس جامع قرطبة.
إن المقابلة بين مباني العرب في مختلف البلدان التي دانت لهم من الأمور التي لا غنية عنها للوصول إلى معرفة طرازها، فبهذه المقابلة يظهر تماثلها الذي نشأ عن وحدة النظم والمعتقدات، ويظهر تباينها الذي نشأ عن اختلاف البيئات والعروق التي كانت تلك النظم والمعتقدات سائدة لها، وما لدينا من كتب الوصف القليلة طرح هذه المسائل المهمة جانبا.
وقد يقع الباحث، حين يقتصر على دراسة فن العمارة العربي في أحد الأقطار التي كانت للعرب سلطان عليها، في مثل الغلطات الفظيعة التي اقترفها شاتو بريان في كتابه الذي سماه «رحلة من باريس إلى القدس»، وذلك وقتما تكلم عن مساجد القاهرة، وذكر أنها تشابه مباني قدماء المصريين، والحق أنه لا أحد يستطيع في الوقت الحاضر أن يأتي مثل هذا الزعم، فإذا وجد طرازان متباينان أشد التباين من جميع الوجوه كان ذانك الطرازان الطراز الفرعوني والطراز العربي، ولن يجد المرء مثالا يستند إليه في اقتباس العرب شيئا من الفراعنة مهما كان صغيرا.
ولم يدر في خلدنا أن نفصل في فصل مختصر كهذا الفصل تاريخ فن العمارة العربي الذي غفل العلم عن بيانه، ومع ذلك فإنه يمكننا أن نذكر تقسيماته الأساسية، وأن نبين وجوه الشبه ووجوه الاختلاف بين البنايات التي أقيمت على الطراز العربي، والتي لا تزال ماثلة في الأقطار الممتدة من الأندلس إلى الهند.
وليس هذا العمل سهلا كما يظن، فهو يتطلب منا أن نسلك طريقا لم يسبقنا إليها أحد، فضلا عن عدم اتساع دائرة هذا الكتاب لغير أهم البواعث. (2) عناصر فن عمارة العرب المميزة
بينا في الفصول السابقة مصادر فن العمارة العربي، وذكرنا فيها ما اقتبسه العرب من الفرس والبزنطيين، وأوضحنا كيف تحرروا من هذه المصادر، وانتهوا إلى إبداع طراز مستقل خصب.
وإنني، قبل أن أبحث عن المباني التي تركها العرب في مختلف البلدان بحثا جامعا، أرى أن أدرس العناصر التي يتألف منها فن عمارتهم درسا موجزا:
المواد الإنشائية :
تختلف المواد الإنشائية التي استخدمها العرب في إقامة مبانيهم باختلاف البلدان التي استولوا عليها وباختلاف مقاصدهم من إنشائها، وكان الآجر أول ما استعملوا في إنشائها، ولسرعان ما استخدموا الحجارة في إقامة ما هو مهم منها كقصر العزيزة، وقصر القبة في صقلية، وجامع السلطان حسن في القاهرة ... إلخ، وكانوا في الأندلس يستعملون في إنشاء مبانيهم، غالبا، نوعا من البيتون الذي هو مزيج من المواد «الكلس والرمل والصلصال والحصباء» التي لا تلبث أن تصبح طبقة صلبة كحجارة النقش.
شكل 8-2: أبراج عدة كنائس في طليطلة أقيمت تقليدا لمآذن عربية قديمة.
ويقال: إن عيب المباني العربية في قلة متانتها، فإذا صح هذا القول بالنسبة إلى الكثير منها فإنه غير صحيح بالنسبة إليها كلها، وذلك أن العرب كانوا إذا أرادوا إنشاء بناء على جناح السرعة، مكتفين بالظاهر، أقاموه غير متين كما نقيم بيوتنا في الوقت الحاضر، وأن ما شادوا من المباني التي لا تزال قائمة مع مرور أكثر من ألف سنة عليها يدل على معرفتهم إنشاء بنايات خالدة عند الضرورة، وها هي ذي قصورهم البسيطة، كقصورهم في صقلية، لا تزال تقاوم تقلبات الفصول مع مرور ثمانمائة سنة عليها، وها هو ذا قصر الحمراء نفسه لا يزال يقاوم مع خفته الظاهرة.
الأعمدة وتيجانها:
وجد العرب، في جميع البلاد التي استولوا عليها، عددا كبيرا من المباني الإغريقية والرومانية والبزنطية المتداعية أو المهجورة، وانتفعوا بأعمدتها وتيجان أعمدتها، كما تشهد بذلك مبانيهم الأولى التي تضم عددا غير قليل من الأعمدة الغربية المصدر، ولما استنفد العرب ما وجدوا اضطروا، بحكم الطبيعة، إلى إنشاء ما احتاجوا إليه منها بأنفسهم، وطبعوا عليه طابعهم الخاص الذي كانوا يعرفون كيف يطبعونه على جميع آثارهم كالأعمدة وتيجان الأعمدة التي لم تشتق من أي طراز آخر كما قال مسيو. ج. دوپرانجه، والتي ترى في قاعة الأسود من قصر الحمراء، فيجب عدها خاصة بالعرب من كل وجه.
شكل 8-3: برجا كنيستين في طليطلة أقيما تقليدا لمآذن عربية قديمة.
الأقواس:
إن القوس المصنوعة على رسم البيكارين والقوس المصنوعة على شكل نعل الفرس مما امتاز به فن العمارة العربي، فيشاهد في المباني العربية الأولى. وإن استعمال القوس المصنوعة على رسم البيكارين والقوس المصنوعة على شكل نصف الدائرة معا مما رأيت في أقدم المباني العربية في أوربة وآسية وإفريقية، فأتيح لي درسه.
والقوس المصنوعة على رسم البيكارين مع كسرة خفيفة في أعلاها وخصر خفيف في أسفلها مما تجد في المباني العربية التي شيدت في دور لاحق؛ فيحتاج المرء إلى شيء من الانتباه ليتبينه فيها، وتكفي هذه الأقواس، التي وجدت مع ذلك لمنح المنحني شكلا رائعا.
ثم تطورت القوس المصنوعة على رسم البيكارين في مصر وصرت لا ترى لأسفلها خصرا، وذلك خلافا لما اتفق لها في الأندلس وإفريقية حيث اكتسبت شكل نعل الفرس أو القوس المجاوزة، وأصبحت هذه القوس صفة لفن العمارة العربي فيهما في بعض الأزمنة.
شكل 8-4: برج كنيسة سانتياغو العربي في طليطلة (من صورة فوتوغرافية).
وقد قيل: إن القوس المجاوزة (المصنوعة على شكل نعل الفرس) كانت معروفة عند البزنطيين، ولكن هذا لم يستند إلى دليل ما دامت تلك القوس غير مشهودة في معظم مباني ذلك الزمن، وأرى، مع ذلك، أنها لم تكن مجهولة فيه، وإن كانت قليلة الاستعمال، والحق أنني وجدت في كنيسة كاپنيكاريا، التي أقامتها القيصرة أودوكسي في أثينة 418م، على حسب ما جاء في كتابة تبينتها على عمود، أقواسا مجاوزة قليلا جدا، وظهر ارتداد أسفل القوس منها إلى داخلها من الضعف بحيث يحتاج إدراكه إلى شيء من الدقة.
المآذن:
أوجبت ضرورة دعوة المؤمنين إلى الصلاة، وفقا لأحكام الدين، إقامة المآذن فوق جميع المساجد الإسلامية كما هو معلوم، وتختلف أشكال هذه المآذن باختلاف البلدان اختلافا أساسيا، فهي مخروطة الشكل في بلاد فارس، ومربعة في بلاد الأندلس وإفريقية، وأسطوانية ذات مطفأة في أعلاها في تركية، ومتنوعة الشكل في كل طبقة منها بمصر.
ونرى الكثير من مآذن مصر، ولا سيما مئذنة قايتباي في القاهرة، من العجائب، ولا شيء أدل على دقة العرب وذوقهم الفني من قدرتهم على تحويل البروج البسيطة، ويتجلى الفرق الكبير بين ذوق العرب الفني، وذوق الترك عند مقابلة تلك المآذن العربية بالمآذن التركية على الخصوص.
ومآذن العرب، كأكثر مبانيهم، متوجة - على العموم - بأنواع الشرف ذات الأشكال المختلفة المعروفة بأقسام الحواجز الواقعة بين الكوى،
1
ونعد من هذه الأشكال: الدرق،
2
والنصل، والحربة، والمنشار ... إلخ، والمناور، وإن عرفت في بلاد فارس أيام بني ساسان، كانت أشكالها أقل تنوعا من تلك بدرجات.
القباب:
ليست القباب مما اخترعه المسلمون وإن كان أصل الكلمة عربيا، فقد كانت القباب معروفة عند البزنطيين، وكان للأكاسرة من بني ساسان قباب في قصورهم، وإنما العرب هم الذين ابتكروا القباب الهيف ذات الخصر، ويتألف من مرور مقطع القبة العربية العمودي من مركزها خط منحن يذكرنا بشكل القوس العربية، ثم أفرط الفرس في حنو قبابهم، فانتهوا إلى شكلها البصلي الذي سنتكلم عنه قريبا.
ويختلف شكل القباب العربية باختلاف البلدان؛ فهي منخفضة في إفريقية، ولا سيما القيروان، انخفاض القباب البزنطية، ويرى على كل مسجد فيها عدة قباب من هذا الطراز، والقباب في مصر - على العموم - هي من الطراز التي وصفناه آنفا، ولا ترى على المساجد فيها، بل على المزارات أو على الحجرات المجاورة للمساجد والمشتملة على أضرحة، وكلما شاهدت في مصر قبة على مسجد أمكنك أن تقطع بوجود ضريح فيه.
شكل 8-5: باب بيزاغرة (باب شقرة) في طليطلة.
شكل 8-6: منظر في داخل قصر الحمراء (من صورة قديمة).
وهنالك بعض الشبه بين القباب المصرية والقباب السورية، أو قبة جامع عمر ذات الخصر الضيق قليلا على الأقل، وإن كانت القباب السورية أقل هيفا، وأكثر وزنا، وعاطلة من الزخارف الخارجية.
وترى في مصر، ولا سيما في المقبرة القريبة من أسفل قلعة القاهرة، والتي سميتها سهل القبور، وذلك في الصورة التي نشرتها لها، تمييزا لها من المقبرة الأخرى المعروفة باسم مزارات الخلفاء، جميع أنواع القباب، كالقباب التي هي على شكل نصف الدائرة، والقباب الإهليجية،
3
والقباب الأسطوانية، والقباب المخروطة، والقباب المجاوزة، والقباب المقرنة ... إلخ.
المتدليات «المقرنصات»:
يظهر أن العرب كانوا يكرهون ما كان يحبه الأغارقة من الأوجه الملس الموحدة والزوايا والأشكال القائمة، فكانوا ينشئون الكوات الصغيرة الناتئة المثلثة الكرية المسماة بالمتدليات؛ لتدلي بعضها فوق بعض في الفضاء تدليا هندسيا تدريجيا يذكرنا بخلايا النحل، وذلك لما نرى من رغبتهم في ملء زوايا الجدر القائمة، وفي وصل القباب المستديرة بما تقوم عليه من الرداه المربعة وصلا غير محسوس، وقد استعملت المتدليات في صقلية منذ القرن العاشر والقرن الحادي عشر من الميلاد، وقد حول عرب الأندلس تجوفاتها الكرية إلى مواشير
4
قائمة ذات وجوه مقعرة.
والمتدليات مما انفرد به العرب، ولم توجد عند أية أمة حتى الآن، وما كاد القرن الثاني عشر من الميلاد يحل حتى كان أمرها شاملا لجميع البلدان الإسلامية، وقد استخدمها العرب في ربط أطناف أروقة المآذن بأوجهها القائمة، وفي ملء قباب المساجد، وفي وصلها بالجدر القائمة عليها، وفي وصل القباب الكرية بالأوجه المربعة ... إلخ.
حقا إن المتدليات مما امتاز به الفن العربي، ولا أوافق على رأي مسيو شارل بلان القائل: «إنها نشأت عن ضرورة إحداث الظلال بالوسائل الناتئة»، فالمتدليات كثيرة في داخل المباني، حيث لا فائدة في إحداث الظل، كثرتها في خارجها، ولم تنشأ متدليات المآذن، كذلك عن «ضرورة إحداث أروقة عالية لدعوة المسلمين منها إلى الصلاة»، ما رأينا مآذن الآستانة ومآذن بلاد فارس ذات أروقة عاطلة مما يشاهد في مآذن مصر من المتدليات، وإنما الذي أراه هو أن اختراع العرب للمتدليات نشأ عن كرههم للزوايا والأوجه الموحدة الملس، كما ذكرت آنفا، ويتجلى هذه الكره في جميع آثارهم الفنية، سواء أكانت مآذن أم جلود قرآن أم دويا.
النقوش العربية ودقائق الزخرف:
زخارف المباني العربية ذات طابع خاص ينتبه إليه، في الحال، حتى أجهل الناس بفن العمارة، وهذه الزخارف المؤلفة من رسوم هندسية ممزوجة بالكتابات من الأمور التي نرى رسمها أسهل من وصفها، وهي تابعة لقواعد بسيطة نص عليها مسيو برغوان على الرغم من ظواهرها الخيالية.
وكانت النقوش العربية تنقر في الحجر كما في كثير من مساجد القاهرة، أو تصب في قوالب كما في قصر الحمراء.
وللخط العربي شأن كبير في الزخرفة، ولا غرو فهو ذو انسجام عجيب مع النقوش العربية، ولم يستعمل في الزخرفة، حتى القرن التاسع من الميلاد، غير الخط الكوفي ومشتقاته كالقرمطي والكوفي القائم الزوايا.
وتؤخذ هذه الكتابات من القرآن على العموم، وأكثر هذه الكتابات استعمالا هو السطر الأول من القرآن، وهو: «بسم الله الرحمن الرحيم» أو القول الجامع الذي يلخص به الإسلام وهو: «لا إله إلا الله، محمد رسول الله.»
وقد بلغ الخط العربي من الصلاح للزينة ما كان رجال الفن من النصارى في القرون الوسطى وفي عصر النهضة يكثرون معه من استنساخ ما كان يقع تحت أيديهم اتفاقا من قطع الكتابات العربية على المباني المسيحية تزيينا لها سائرين في ذلك مع الهوى، وقد شاهد مسيو لنغپريه ومسيو لاڨوا وغيرهما الشيء الكثير منها في إيطالية، ومما شاهده مسيو لاڨوا في مكان الأمتعة من كتدرائية ميلانو «باب مبني علي طراز رسم البيكارين يحيط به إفريز حجري مؤلف من كلمة عربية مكررة عدة مرات، وكتابة عربية حول رأس المسيح المصور فوق أبواب القديس بطرس التي أمر بإنشائها البابا أوجين الرابع، وخطوط كوفية طويلة على قميص القديس بطرس والقديس بولس، ومن دواعي أسفي عدم ترجمة هذا الكاتب لهذه الكتابات، فلعل الكتابة التي حول رأس المسيح هي كلمة: «لا إله إلا الله، محمد رسول الله!»
الزخارف الملونة:
اعتقد الناس زمنا طويلا أن الأغارقة لم يلونوا مبانيهم وتماثيلهم، وإذ كان للقواعد التي اصطلح عليها الأغارقة قوة القانون عند الأمم اللاتينية نشأ فينا ذوق مصنوع صرنا نعد به المباني البيض أبنية جميلة جدا، غافلين عن أن أشعة الشمس على المباني البيض تعمي الأبصار وتغرق دقائقها، وعن أننا نعجب بها بقوة التقاليد فقط، ومن الحظ الحسن أن أثبتت المباحث الحديثة أن أذواق الأغارقة كانت تختلف عما عزي إليها، وأن الكثير من مبانيهم كان مستورا بالألوان، وأن اللون الأزرق واللون الأصفر واللون الأحمر أكثر الألوان استعمالا فيها، وأن أعالي العمد في معبد إجين كان مصبوغا باللون الأحمر المتشعبة منه تروس مذهبة، وأن مقدمه كان مصبوغا باللون الأزرق المموه بأطر حمر وخضر.
وفضل العرب، بأذواقهم الفنية الغريزية، ملون المباني على بيضها، وكانت نقوشهم العربية مغطاة، على العموم بألوان يدل تنضيدها على معرفة كبيرة وذوق سليم، وكانت جدر الحمراء ووجوهها والجدر الخارجية للمساجد مستورة بأزهى الألوان.
شكل 8-7: دقائق زخارف عمود وتاجه في قصر الحمراء.
والألوان التي استعملها العرب في مصر هي اللون الأحمر واللون الأزرق واللون الأصفر واللون الأخضر واللون الذهبي، وأثبت أوين جونس، الذي هو أفضل من بحث في دقائق قصر الحمراء، والذي أدار تجديد قاعدة الأسود في قصر البلور بلندن، أن العرب إذ استثني الميناء الذي يغطي أسفل الجدر، لم يستخدموا في قصر الحمراء سوى اللون الأزرق واللون الأحمر واللون الذهبي، أي اللون الأصفر، وأن هذه الألوان رتبت ترتيبا معقولا جدا؛ فأحدث اللون الأحمر في أساس نقوشه، وصبغت حواجزه الجانبية باللون الأزرق على مدى واسع لتعديل التأثير الذي ينجم عن اللون الأحمر واللون الذهبي، وفصل بعض الألوان عن بعض بعصائب بيض أو بظل نتوء الزخرف، ومن المرجح أن كانت العمد مصبوغة باللون الذهبي لما بين العمد البيض وما يقوم عليها من الزخارف ذات الألوان الكثيرة من عدم الانسجام.
وأما ما نرى أثره في قصر الحمراء من اللون الأخضر والأسمر والأرجواني فقد بين ذلك المؤلف أنه من بقايا الترميمات الرديئة التي قام بها الإسپان في مختلف الأزمنة، وقد أضلت بقايا هذا الطلي الرخيص، على الأرجح، مرممي قصر الحمراء في الوقت الحاضر، فالأجزاء التي أصلحوها، ولا سيما الكسرات التي يبيعونها من الجمهور، لا تمت بصلة إلى الطريقة المذكورة التي اتبعتها بقدر ما تسمح به اللتوغرافية في تحديد أحد لواوين الحمراء الذي تجد لوحة له في هذا الكتاب. (3) المقابلة بين مباني العرب الفنية (3-1) مباني بلاد سورية
لم نذكر من مباني سورية، حتى الآن، غير ما أنشئ فيها بعد ظهور محمد، مع أن قبائل عربية توطنت بلاد سورية قبل ظهوره، وأقامت فيها دولا قوية، وتدل البقايا القليلة التي اكتشفت في بصرى، والتي لم تدرس جيدا حتى الآن، على أن فن العمارة فيها كان راقيا في ذلك الزمن، ولذا فإن من المحتمل أن يكون المسلمون الذين استولوا على سورية قد استفادوا من معارف أبناء قومهم أولئك، ولكن فقدان الوثائق حملنا على السكوت عن ذلك الدور المنسي قانعين بذكر ما شاده العرب بعد الإسلام من المباني العريقة في القدم والمختلفة الطرز، والتي ترجع أقسامها المهمة على الأقل إلى القرن الأول من الهجرة كجامع عمر والمسجد الأقصى (في القدس) والجامع الكبير في دمشق.
ويرى في هذه الآثار الثلاثة بعض المؤثرات البزنطية والفارسية التي لم يتحرر فن العمارة العربي في سورية منها تماما، ومما هو جدير بالذكر أنه يشاهد فيها، حتى في أقدم أقسامها، بدء العمل بالأقواس المصنوعة على رسم البيكارين والمصنوعة على شكل نعل الفرس، أي الأقواس ذات الانكسار الضعيف في أعلاها والضيق قليلا في أسفلها، ويبدو لك هذا النوع من الأقواس في الرواق (من الجامع الكبير) بدمشق، وفي جميع أقسام المسجد الأقصى تقريبا، وفي أعلى عمد الصف الأول من داخل جامع عمر.
ومما يرى في جميع تلك الآثار الأولى أن تيجان عمدها متصل بعضها ببعض بجسور وصل كبيرة اتصالا انفرد بعمله مهندسو العرب.
وإذا استعنت بمبدأ القياس، فنظرت إلى أقدم مئذنة في الجامع الكبير بدمشق، علمت أن شكل المآذن العربية الأولى في سورية كان مربعا.
وقد استخدمت القباب المنخفضة المشابهة للقباب البزنطية على العموم، وذلك باستثناء قبة جامع عمر التي أقيمت في تاريخ متأخر عن تاريخ بنائه. (3-2) مباني بلاد مصر
أوضحنا في الفصل الذي خصصناه لتاريخ العرب في مصر سلسلة تحولات فن العمارة العربي العميقة بمصر في ثمانيمائة سنة، أي منذ بني جامع عمرو بن العاص في سنة 642م، حتى تم إنشاء جامع قايتباي في سنة 1468م، ورأينا أن هذا الفن العربي، الذي كان بيزنطي النزعة في البداءة، لم يلبث أن تحرر من كل تأثير أجنبي، وأنه انتهى إلى أشكال مبتكرة تماما.
ويظهر أنه احترم قسم من زينة جامع عمرو بن العاص الأولى مع ترميمه عدة مرات، ويرى في جامع عمرو بن العاص أصل الأقواس المصنوعة على رسم البيكارين والمصنوعة على شكل نعل الفرس، ولا ترى في جامع عمرو بن العاص غير المآذن البسيطة التي ليس لكل منها غير رواق واحد، والتي تنتهي برأس.
ويتجلى في مسجد ابن طولون، الذي أنشئ في سنة 876م، بدء الخلاص من المؤثرات البزنطية، أي أن أقواسه صنعت، بدون التباس، على رسم البيكارين، وأنها قائمة على دعائم مؤلفة من أعمدة مرصعة في الزوايا، وترى في جامع ابن طولون نقوش الأزهار والأغصان الصالحة للزينة والمصنوعة على طراز جديد قريب من طراز النقوش العربية، ولم تبد المتدليات فيه بعد.
وأنشئ جامع ابن طولون من الآجر، وتتألف مئذنته من ثلاث طبقات، وليس فيها شيء من الزينة الخارجية، وإنما ترى لكل طبقة منها شكلا خاصا؛ فالأولى: مربعة، والثانية: أسطوانية، والثالثة: مثمنة.
والزخارف أغزر مادة وأكثر تنوعا في الجامع الأزهر الذي شرع بناؤه في أواخر القرن العاشر من الميلاد وأتم في تواريخ أخرى، وأقواس الجامع الأزهر حادة أكثر مما في المساجد السابقة، وتشاهد المتدليات في كل مكان منه، ولمآذنه عدة أروقة، وزخارفه غنية.
شكل 8-8: دقائق الطبقة العليا من قاعة الأختين في قصر الحمراء (من تصوير أوين جونس).
وعدت أقواس جامع قلاوون (1283م) مثالا بارزا لبلوغ الأقواس العربية المصنوعة على رسم البيكارين ذروة الرقي، ورأينا أنه يوجد شبه كبير بين هذا الجامع والمباني القوطية في القرون الوسطى.
ونرى جامع السلطان حسن (1356م) مثالا لاقتراب الفن العربي من درجة العظمة، ويوجد بين كنائسنا الكبيرة، وهذا الأثر العظيم، الذي يبلغ ثخن جدره ثمانية أمتار، وارتفاع رتاجه عشرين مترا، وارتفاع قبته 56 مترا، وارتفاع مآذنه 86 مترا - شبه أكثر مما بينها وبين المساجد الإسلامية الأولى، ويدل جامع السلطان حسن على أن العرب كانوا يعلمون كيف يقيمون مباني واسعة متينة عند الاقتضاء.
ويثبت جامع برقوق (1384م) وجامع المؤيد (1415م) وجامع قايتباي (1468م) تقدما جديدا تم للعرب، ويعد جامع قايتباي مبتكرا تماما بقبته العجيبة ومئذنته الرائعة ذات المساند والأفاريز والأروقة والنقوش الغنية الزاهية، ولو لم يكن للعرب من المباني غير جامع قايتباي لاعتقد الناس، لا ريب أنه عنوان فن لا صلة قريبة أو بعيدة بينه وبين أي فن آخر.
ويعد جامع قايتباي، والجوامع التي أقيمت في عصره، كجامع قاغباي (1502م)، آخر المباني المهمة التي أنشئت في مصر على الطراز العربي، ولما حل القرن السادس عشر، واستولى السلطان سليم التركي على مصر أصبحت لا ترى فيها فنا عربيا، فقد قضى الترك الفاتحون على الفن العربي بسرعة، وأخذ هذا الفن ينطفئ شيئا فشيئا، والحق أن الفن لا يعيش إلا حيث يقدر ويشجع، والحق أن دماغ التركي لا يستطيع تقدير الفن الرفيع.
وترى المباني التي أقيمت في العهد التركي من ذوات الشكل الثقيل والزخارف المتعبة والألوان الكريهة، وأصاب إيبر حيث قال: «إن من الحظ الحسن أن كانت هذه الآثار غير محتاجة إلى زمن كبير حتى تؤذي عيون رجال الفن، ولم تبن هذه الآثار لتدوم، وإنما لتكون وسيلة لخدمة الساحات التي أقيمت عليها، وما جزاء الذين أقاموها، من غير أن يفكروا في أمر الأجيال الآتية، إلا أن تنتقم منها هذه الأجيال بأن تنساهم.» (3-3) مباني بلاد إفريقية الشمالية
لا ترى غير شبه ضعيف بين المباني العربية في إفريقية الشمالية أو صقلية وبينها في مصر ، وذلك خلافا لمماثلتها لمباني الأندلس الأولى.
ونحن لا نقدر أن نتكلم عن القصور الإفريقية؛ لعدم وجودها في الوقت الحاضر، وإنما نذكر أن مارمول، الذي زار قصور مراكش وفاس بعد سقوط غرناطة بقرن واحد، قال في وصفه لإفريقية: «إن هذه القصور تشابه قصر الحمراء على العموم.»
شكل 8-9: رواق عال في إحدى رداه القصر بأشبيلية (من صورة فوتوغرافية التقطها المؤلف).
والشبه الذي يرجح وجوده بين القصور العربية القديمة في إفريقية وبينها في الأندلس موجود حقا بين مبانيهما الدينية، وما انتهى إلينا منها دليل قاطع على هذا، وأظهر ما يكون هذا الشبه في مآذنهما المربعة العاطلة من الأروقة والأطناف الخارجية، والمؤلف بعضها من طبقتين متقبضتين أو ثلاث طبقات متقبضات.
وتختلف هذه المآذن العربية الإفريقية الأصلية عن مآذن مصر جملة وتفصيلا، ونجد جميع المآذن الإفريقية التي أقيمت بين القيروان وفاس من فصيلة واحدة ، ومنها التي أقيمت بالجزائر وطنجة في تواريخ لاحقة مع شيدها على الطرز القديمة، ونجد من هذه الفصيلة برج لاجيرالدة (برج لعبة الهواء) القائم في أشبيلية، وأبراج كنائس طليطلة الكثيرة البادية العروبة.
وإذا عدوت هذه المآذن المبتكرة وجدت مساجد إفريقية القديمة، كمساجد القيروان مثلا، تختلف اختلافا كبيرا عن مساجد مصر وفارس باتخاذها القباب البزنطية المنخفضة عنصرا خاصا، ويعلو جامع القيروان الكبير، الذي كان هذا السفر أول كتاب اشتمل على صور له، أربع قباب منخفضة.
وإذا أردنا أن نحكم في الأمر مستعينين بالمباني التي لا تزال ماثلة قلنا: إن الفن العربي عانى باستمرار تأثير الفن البزنطي في إفريقية الشمالية، مع استثناء مراكش، وإنه لم يستطع أن يتخلص منه كما تخلص في مصر والأندلس. (3-4) مباني بلاد صقلية
إن قصر العزيزة وقصر القبة القائمين بالقرب من مدينة بلرم هما العمارتان المهمتان العربيتان اللتان أقيمتا في صقلية في أواسط القرن العاشر من الميلاد، ولا يشاهد في مكان قصر عربي له من القدم ما لهما، وهذا يجعل لدرسهما فائدة عظيمة، وإن مما يزيد في أهميتها إنما هو الظن الغالب بأنهما مشابهان لما كان في إفريقية الشمالية من القصور نظرا إلى الصلات القديمة التي كانت بين عرب البلدين في غابر الأزمان، وكوننا نستطيع أن نتمثل بهما قصور إفريقية.
وقد كان قصر العزيزة وقصر القبة حصنين ومسكنين في آن واحد، وقد قاوما تعاقب القرون لبنائهما من الحجارة المنقوشة الملتصق بعضها ببعض التصاقا محكما.
وشكل قصر العزيزة الواقع بالقرب من بلرم مكعب واسع، ويبدو للناظر إلى جدره أنها مؤلفة من أقواس طويلة مصنوعة على رسم البيكارين صنعا خفيفا ومحيطة بنوافذ مزدوجة ذات أعمدة صغيرة، وستر الإفريز، الذي أعد ليكون تاجا وحاجزا، بالخطوط القرمطية التي بقي بعض آثارها، ونشرت في فصل آخر من هذا الكتاب صورة عن التي رسمها جيرول دوپرانجه لإحدى رداهه كما كانت منذ أربعين سنة، فظهر منها أنه ذو زخارف بسيطة أنيقة ومتدليات مشابهة لما في مباني الأندلس.
ومن الصعوبة أن نعرف هل غير عمال العرب طراز قصر العزيزة الأصلي أولا حينما رمموه في عهد ملوك النورمان.
ويرى قصر القبة غير بعيد من قصر العزيزة كثيرا.
ويختلف قصر العزيزة وقصر القبة عن قصور العرب في إسپانية بشكلهما الخارجي وأقواسهما الطويلة المصنوعة على رسم البيكارين وانتظام شكليهما، ولا أرى شبها بينهما وبين المباني المصرية، وذلك خلافا لجيرول دوپرنجه، وذلك مع ما قمت به من البحث والتدقيق، وذلك خلا مماثلتهما البعيدة لبعض أجزاء جامع قلاوون. (3-5) مباني بلاد الأندلس
شكل 8-10: أحد أبواب ردهة الصبايا في القصر بأشبيلية (من صورة فوتوغرافية التقطها المؤلف).
قسم جيرول دوپرانجه فن العمارة العربي في بلاد الأندلس إلى ثلاثة أدوار مختلفة: الدور البزنطي ودور الانتقال والدور المغربي، ولا أرى سببا جديا للتسليم بهذا التقسيم مع رضا الآخرين به على العموم، فلا معنى للتعبير عن فن العمارة العربي بالفن المغربي أي البربري ما دام البربر لم يدخلوا أي عنصر جديد إلى فنون العرب، أجل، حكم ملوك من البربر عرب الأندلس كما حكم ملوك من الشركس عرب مصر، ولكن البربر والشركس لم يبتدعوا شيئا في الفنون، ولذلك لا نجد فن بناء مغربي في الأندلس كما أننا لا نجد فن بناء شركسي في القاهرة.
على أن لدينا من البينات ما يثبت أن البنائين في أيام ملوك البربر كانوا من العرب، فقد روى ابن سعيد «أن أميري الموحدين، يوسف ويعقوب المنصور، أحضرا من الأندلس مهندسين لإنشاء جميع المباني التي أقاموها في مراكش ورباط وفاس والمنصورية ... ومن المعروف اليوم (1237م) أن هذا الازدهار وهذا الرخاء في مراكش انتقل إلى تونس فأقام سلطانها قصورا وغرس حدائق وكروما على الطريقة الأندلسية مستعينا بمهندسي الأندلس وبنائيها ونجاريها ولبانيها ودهانيها وبستانييها، أي تم شيد هذه المباني وفق رسوم وضعها أناس من الأندلس أو صنعت تقليدا لمبان أندلسية.»
شكل 8-11: مسجد همذان القديم بفارس (من تصوير كوست).
وجامع قرطبة هو أقدم مباني العرب في بلاد الأندلس، وأقيم جامع قرطبة في دور فن العمارة الذي أسميه دور فن العمارة البزنطي العربي، لا البزنطي وحده، وذلك لما لم نجد من بناء بيزنطي يشابهه، وهو، وإن كان يشتمل بوضوح على بعض عناصر الفن البزنطي «كتيجان عمده التي هي على شكل أوراق الشجر ونقوشه التي هي على شكل الأغصان وزينته المتشابكة وفسيفسائه وزخارفه التي هي على أساس من ذهب ... إلخ»، يختلف عن المباني البزنطية بما فيه من الزينة بالخط الكوفي، وبأقواسه المصنوعة على شكل نعل الفرس بفلق كثيرة والقائم بعضها فوق بعض، وبجزئيات زخارفه، ويكتسب جامع قرطبة بهذا طابعا بادي الإبداع يتميز به من أي بناء بيزنطي، وما قضت به الحال عند صنعه، أي ضرورة تنضيد ما كان عند القوم آنئذ من العمد لينال به علوا مناسبا لعرضه، أكسب صحونه منظرا لا تجده في أي بناء سابق، ومن تجلي ذوق العرب الفني في شيده طريقتهم في تركيب أقواسه لستر ذلك التنضيد، فعلى من يعزو مثل هذا الذوق الفني البديع الرفيع إلى البزنطيين أن يدلنا على مبان أخرى استعملوا فيها هذه الطريقة.
وتخلص عرب الأندلس من المؤثرات الفنية البزنطية بسرعة كالتي تخلص بها عرب مصر، ولم تلبث النقوش العربية والمتدليات أن قامت مقام الزخارف البزنطية على أساس ذهبي، ولم تلبث الحنايا أن تحولت إلى أقواس مصنوعة على رسم البيكارين ومنقوشة نقشا لطيفا.
ومباني العرب في طليطلة أقدم آثارهم في الأندلس خلا ما في قرطبة، وفي طليطلة آثار عربية مهمة كباب بيزغرة (باب شقرة) الذي بدئ بإنشائه في القرن التاسع من الميلاد وباب الشمس الذي أنشئ في القرن الحادي عشر من الميلاد ... إلخ، ويمكن الباحث في طليطلة أن يتبين بعض مراحل تطور الفن العربي.
وهدمت مآذن المساجد القويمة في الأندلس، ولم يبق منها سوى برج لاجيرالدة (لعبة الهواء) الذي أقيم في أشبيلية في القرن الثاني عشر من الميلاد، ويمكننا أن نذهب إلى أنها كانت مربعة الشكل كالمآذن التي أنشئت في إفريقية، وإنني أستند في رأيي هذا إلى ما في بروج كنائس طليطلة التي لا تزال قائمة من التقليد لمآذن العرب في الشكل والفروع الجوهرية، ويمكننا أن نذهب إلى ما هو أبعد من هذا فنقول : إن الأندلس لم تعرف مآذن مشابهة لمآذن القاهرة، ولو عرفوها لكان النصارى قد قلدوها أيضا.
شكل 8-12: مسجد شاه خدا وضريحه في سلطانية (القرن السادس عشر، من تصوير تكسيه).
وكلما كانت إقامة العرب بإسپانية تطول زاد فن بنائهم غنى وزخرفا، ولسرعان ما تحرر هذا الفن من كل مؤثر أجنبي، ولسرعان ما غابت الزخارف البزنطية، ولا سيما الفسيفساء على أساس ذهبي، تاركة المجال لطراز جديد في الزينة، فكان القصر في أشبيلية والحمراء في غرناطة بناءين وصل فن العمارة بهما إلى أسطع أدواره.
وبدئ ببناء القصر في أشبيلية في القرن الحادي عشر من الميلاد، ثم صلح في القرن الثاني عشر والقرن الثالث عشر من الميلاد، وذلك عدا ترميمه في زمن شارلكن وزمن فليب الثاني والزمن الحاضر، وأنشئت وجهته في القرن الثالث عشر من الميلاد، ويعد بهو الدمى وبهو السفراء وغيرهما من أقسامه آثارا قديمة جدا.
ولا يلاحظ في أقسام القصر الأشبيلي الأولى مثل ما في قصر الحمراء من فيض الزخارف ومن القباب ذات النقوش المتدلية، ومع ذلك فكلا القصرين متقارب، ولا يختلفان في غير الدقائق، ويكثر في القصر الأشبيلي ما ندر وجوده في قصر الحمراء من الأقواس المجاورة (المصنوعة على شكل نعل الفرس) والأقواس المصنوعة على رسم البيكارين، وتجد في القصر الأشبيلي من السقوف ذات التقاطيع الملونة المذهبة المحفورة ما يشابه سقوف قصور القاهرة ودمشق القديمة.
وبلغ خصب الفن العربي الأندلسي غايته في قصر الحمراء الذي أنشئ في القرن الثالث عشر من الميلاد، وعلى ما فيه من غلو في الزخرف نرى هذا الغلو وليد ذوق رفيع لا يتجلى في آثار دور منحط.
ومع أن جدر قصر الحمراء مصنوعة من مزيج من الكلس والرمل والصلصال والحصباء، لا من الحجارة المنحوتة، ومع أن زخارفه من الجص المضروب في القوالب، تجده متينا إلى الغاية، فقد قاوم تقلبات الجو مدة خمسة قرون من غير أن يحتاج إلى ترميم ذي بال.
وأهم ما يختص به قصر الحمراء ويتميز به من القصر الأشبيلي على ما أرى، هو ما يأتي : جدره المغطاة بقطع ملونة مصنوعة في القوالب، وعمده الخفيفة الأفقية الخطوط الحاملة تيجانا منقوشة على شكل الأغصان المتشابكة، ونوافذه المؤلفة من الأقواس ذات الحنائر
5
والمنقوشات على شكل الأزهار والمحاطة بأطر قائمة الزوايا، وسقوفه المغطاة بالمتدليات.
ولا يجد الإنسان في مصر قصورا عربية معاصرة لقصر الحمراء، ولكننا إذا حكمنا بأن زخارف قصور مصر كانت مشابهة لزخارف مساجدها رجح عندنا وجود فروق مهمة بين قصور ذينك القطرين، أجل، إن هنالك تقاربا بين الفن العربي في مصر وبينه في الأندلس، ولكنهما لم يبديا سوى تشابه بعيد في جميع وجوههما.
وكان تأثير فن عمارة العرب في فن عمارة النصارى الذين حلوا محلهم في إسپانية عظيما إلى الغاية، وكان النصارى يستخدمون العرب - قبل إجلائهم - في إقامة مبانيهم أو إصلاحها، فنشأ عن تمازج الفنين ظهور الفن المدجن الجديد كما ذكرنا ذلك في فصل آخر، وسنأتي بأمثلة كثيرة على ذلك في الفصل الذي خصصناه لدرس تأثير العرب في أوربة.
شكل 8-13: ضريح تيمورلنك في سمرقند (من صورة فوتوغرافية، من مجموعة الجنرال كوفمان).
ويرى طراز خاص قريب من الطراز العربي يمكن تسميته بالطراز العربي الإسرائيلي، وذلك خلا الطراز الذي ذكرته، وذلك في معابد اليهود القديمة التي أقيمت في إسپانية، ولا يختلف هذا الطراز عن الطراز العربي إلا باستخدام الحروف العبرية في زينته وبالأغصان والأوراق العريضة في زخارفه، ونعد كنيس الترانسيتو وكنيس سنتا مارية لابلانكا في طليطلة أمثلة بارزة على هذا الطراز الذي لا يخلو من مؤثرات الدور البزنطي. (3-6) مباني بلاد الهند
مباني المسلمين في الهند دليل واضح على التطورات التي يمكن أن تتفق لفن عمارة أمة بتأثير العروق التي تتصل بها.
وقد رأينا أن العرب حينما وصلوا إلى الهند وجدوا أنفسهم أمام حضارة قويمة قديمة، وأنهم أثروا فيها بديانتهم ولغتهم وفنونهم تأثيرا لا يزال باقيا حتى الآن، وذلك مع ضعف تأثيرهم السياسي فيها دائما.
وظهر من وصفنا للمباني الإسلامية في الهند درجة ما كتب عليها بوضوح من تاريخ تأثير إحدى الأمم، فقد كانت المؤثرات العربية والهندسية مجتمعة اجتماعا وثيقا في المباني الأولى كباب علاء الدين مع ضعف أثر الفن الفارسي فيها، ثم اجتمع الفن الفارسي والفن الهندوسي بنسب متقلبة فيها، وصار الفن العربي لا يبدو إلا في الأقسام الثانوية كاتخاذ الكتابات والمتدليات وسائل للزينة، وكاتخاذ أشكال بعض الأقواس.
ويعد مزار أكبر وتاج محل وقصر المغول ... إلخ، من الأمثلة لاجتماع هذه المؤثرات التي نشأ عن تنضدها بالحقيقة، طراز خاص يمكن تسميته بالطراز المغولي في الهند، أو الطراز الهندوسي الفارسي العربي.
ويتجلى هذا الطراز - على الخصوص - في مآذن الهند المخروطة الشكل كمآذن بلاد الفرس.
وتختلف مآذن الهند عن مآذن بلاد الفرس بتخاريمها وبطبقاتها غير المطلية بالميناء، وتختلف عن مآذن الأندلس وإفريقية والقاهرة بالزخارف الخارجية والأشكال العامة، فيبدو ذلك أول وهلة. (3-7) مباني بلاد فارس
يصل إلينا من المباني الفارسية التي أقيمت أيام الدولة الساسانية المعاصرة للفتح العربي، ولأكثر المباني التي شيدت في الصدر الأول من الخلافة، سوى بقايا ناقصة، فكان هذا سببا في صعوبة تمثلنا تاريخ فن العمارة الفارسي ومدى تأثيره في فن العمارة العربي على الخصوص، ثم مدى تأثير فن العمارة العربي في فن العمارة الفارسي فيما بعد.
وأقيم أكثر مباني الفرس المهمة في القرن السادس عشر من الميلاد، أي في عهد الشاه عباس، فإذا قوبلت هذه المباني ببقايا العمارات السابقة ظهر أنها مقتبسة منها، وهي قائمة على طراز يختلف عن طراز العرب الفني، ولا تشارك طراز العرب في غير الزخارف.
قال باتيسيه في كتاب «تاريخ فن العمارة» وذلك في معرض الكلام عن مساجد فارس: «يظهر أن مساجد بلاد الفرس لا تختلف عن مساجد بلاد سورية» وتراني أجهل الأسس التي بنى عليها زعمه هذا ما فقد الشبه بين هذه المباني، والواقع أن المقابلة بين مساجد سورية القديمة (أي بين مساجد دمشق والقدس وحبرون) ومساجد أصبهان أمر متعذر، ولا نجادل في وجود طابع خاص للفن الفارسي مع ما بين الفن الفارسي والفن العربي من صلة القرابة الواضحة التي مصدرها ما في الفن الفارسي من تأثر بالفن العربي بعد أن كان مؤثرا فيه .
شكل 8-14: رسم مجدد لمسجد السنية في تبريز (فارس، من تصوير تكسيه).
ولمساجد الفرس صفات خاصة كثيرة يتجلى أهمها في شكل مآذنها وأقواسها وقبابها وزينتها الخارجية.
ويذكرنا شكل مآذن الفرس، حتى القديم منها، بمداخن مصانعنا، وهي مخروطة الشكل قليلة الارتفاع مكسوة بالميناء ذات رواق واحد في أعلاها، وهي تختلف اختلافا جوهريا عن مآذن سورية وإفريقية والأندلس المربعة، وهي تختلف أكثر من ذلك عن مآذن مصر ذات الأروقة الكثيرة التي يتغير مقطعها على حسب الطبقات، والمزينة بأنواع النقوش البارزة.
وللمساجد الفارسية طابع خاص أيضا؛ فيرى لكل مسجد من المساجد القديمة الفارسية المتداعية، كمسجد همذان مثلا، باب عظيم يبلغ ارتفاعه علو المقدم، وينتهي بقوس طريفة مفرطحة مصنوعة على رسم البيكارين من طراز خاص مما لا ترى مثله في أي مسجد عربي كان.
ونرى لزخارف المساجد الفارسية من الخارج شكلا خاصا أيضا، أي أنها مكسوة بالميناء ذي الرسوم المنوعة، ولا سيما رسم الأزهار، مما امتاز به فن الزخرفة الفارسي، وإذا حدث أن رئي مثلها في بعض المباني العربية، كجامع عمر، أمكن القطع بأنها من صنع عمال من الفرس.
وبنيت قباب المساجد الفارسية الحاضرة بصلية الشكل، وهذه القباب، وإن بدت مبتكرة، لم تنشأ عن غير فرطحة القبة التي يشبه مقطعها نعل الفرس أو عن تضييق قاعدة القبة المشابهة لقباب المساجد العربية في القاهرة، وبالغ الفرس في فرطحة القبة ذات المقطع الذي هو على رسم البيكارين فانتهوا إلى القباب التي تشاهد أيضا في مساجد بغداد الحديثة، والتي رأيت مثلها في الكنائس الروسية، ولا سيما كنائس موسكو، حقا عدت القباب الروسية قائمة على الطراز البزنطي، ولكن الإنصاف يقضي بعدها مبنية على الطراز الفارسي البزنطي وحقا عجز الروس، كما عجز الترك، عن إبداع طراز خاص، ولكنهم علموا جيدا كيف يوفقون بين احتياجاتهم وبين عناصر فنون البناء التي اقتبسوها من الأمم التي اتصلوا بها، وذلك بخلطهم هذه العناصر.
شكل 8-15: مسجد في أصبهان (من تصوير كوست).
ولم يكن في بقايا أقدم المساجد الفارسية قباب بصلية الشكل، وأكثر قباب سمرقند ومشهد وسلطانية وورامين وأريفان ... إلخ. التي أنشئت على طراز آثار أقدم منها لا ريب، بيزنطي الطراز أو من القباب التي ضيقت قواعدها قليلا.
وأكثر الفرس من استعمال المتدليات والخطوط العربية في مساجدهم، وهذه هي أهم العناصر أخذوها عن العرب.
والقارئ الذي يدرس الصور التي نشرناها في هذا الكتاب، إتماما لما علمه مما تقدم، يشاطرنا رأينا في اختلاف فن العمارة العربي باختلاف البلدان، وفي أن من المتعذر جمع متباين المباني تحت وصف واحد، كما أنه يتعذر جمع المباني الرومانية والقوطية ومباني عصر النهضة التي أقيمت في فرنسة تحت اسم الطراز الفرنسي.
ولا تجد غير شبه بعيد بين الطراز البزنطي العربي الذي تجلى في الأندلس في جامع قرطبة، والطراز العربي البزنطي الذي تجلى في مصر في جامع عمرو بن العاص وجامع ابن طولون، كما أنك لا تجد غير شبه بعيد بين الطراز العربي الذي تجلى في قصر الحمراء والطراز العربي الذي تجلى في جامع قايتباي، ولذا يجب أن نقسم الطراز العربي تقسيما أساسيا، وأن نستند في هذا التقسيم إلى اختلافه باختلاف البلدان على حسب الطريقة التي سرنا عليها في مباحثنا في العروق، ولذا يمكننا أن نأتي بالتقسيم الآتي الذي يلائم معارفنا الحاضرة: (أ) الطراز العربي قبل ظهور محمد
لا يزال هذا الطراز مجهولا، خلا ما يستشف من بقايا مباني اليمن القديمة، ومن بقايا المباني التي أقيمت في المملكة العربية السورية القديمة كمملكة الغساسنة مثلا. (ب) الطراز البزنطي العربي
الطراز البزنطي العربي في سورية:
أقيمت بنايات هذا الطراز، أو جدد بناؤها، فيما بين القرن السابع والقرن الحادي عشر من الميلاد، ومنها: جامع عمر والمسجد الأقصى في القدس، والجامع الكبير في دمشق.
الطراز البزنطي العربي في مصر:
أقيمت بنايات هذا الطراز فيما بين القرن السابع والقرن العاشر من الميلاد، ومنها: جامع عمرو بن العاص، وجامع ابن طولون.
الطراز البزنطي العربي في إفريقية:
بني جامع القيروان الكبير ومساجد الجزائر على حسب النماذج القديمة، وبقي تأثير الفن البزنطي ثابتا في إفريقية، وظلت قباب إفريقية بيزنطية، على العموم ، حتى الزمن الحاضر.
شكل 8-16: قصر راجا غوڨر دهام (الهند، من صورة فوتوغرافية).
الطراز البزنطي العربي في صقلية:
كانت البنايات، التي أقامها العرب في صقلية قبل الفتح النورماني، على هذا الطراز، كقصر العزيزة وقصر القبة.
الطراز البزنطي العربي في الأندلس:
بني على هذا الطراز جامع قرطبة والمباني العربية في طليطلة، وذلك قبل انقضاء القرن العاشر من الميلاد. (ج) الطراز العربي الخالص
الطراز العربي في مصر:
تكامل هذا الطراز فيما بين القرن العاشر والقرن الخامس عشر من الميلاد، وبلغ ذروة كماله في جامع قايتباي، ويمكن القارئ أن يتبين تطوراته من النظر إلى سلسلة صور المساجد التي أحصيناها ونشرناها في هذا الكتاب.
الطراز العربي في الأندلس:
تحول فن العمارة العربي في الأندلس بين قرن وقرن أيضا، ولكن الوثائق الضرورية لوصل أدواره المتوسطة فقدت أيضا، ولم يبق من البنايات التي أقيمت على هذا الطراز غير ما هو قائم في أشبيلية وغرناطة، ومع ذلك فإن هذا يعد نموذجيا. (د) الطراز العربي المختلط
الطراز الإسپاني العربي:
يشاهد اختلاط عناصر فن العمارة النصراني بعناصر فن العمارة العربي في المباني التي أقيمت بعد فتح النصارى لبلاد الأندلس على الخصوص، وواظب سكان القسم الجنوبي من إسپانية على إقامة بعض بناياتهم على هذا الطراز المختلط حتى الوقت الحاضر، ويعد كثير من آثار طليطلة أمثلة على هذا الطراز المختلط الذي نشرنا كثيرا من صوره في هذا الكتاب.
الطراز الإسرائيلي العربي:
نذكر من هذا الطراز ما أقيم من المباني التي كانت معابد لليهود في طليطلة كسنتا مارية لابلانكا والترنسيتو ... إلخ.
الطراز الفارسي العربي:
إن المباني التي أقيمت في بلاد فارس بعد أن اعتنقت الإسلام، ولا سيما مساجد أصبهان، هي من هذا الطراز، ولهذه المباني طابع فارسي واضح وإن كانت ذات أثر عربي.
الطراز الهندوسي العربي:
مباني هذا الطراز خليط من عناصر الفن العربي وعناصر الفن الهندوسي، ومن هذه المباني منارة قطب ومعبد بندرابن، ولا سيما باب علاء الدين الرائع.
الطراز الهندوسي الفارسي العربي، أو الطراز المغولي في الهند:
شيدت المباني التي أقيمت أيام سلطان المغول في الهند على هذا الطراز، ومنها تاج محل وقصر ملوك المغول وكثير من مساجد الهند، وحلت المؤثرات الفارسية في مباني هذا الطراز محل المؤثرات العربية التي كانت سائدة إلى حد كبير، ونرى مباني هذا الطراز خالية من الإبداع الحقيقي وإن دلت على فن خاص تنضدت فيه عناصر الفنون الأجنبية التي تتألف منها أكثر من أن تتمازج.
شكل 8-17: سوار من ذهب يرجع إلى القرن الرابع عشر الميلادي، وهو على الطراز الإسپاني العربي (من صورة فوتوغرافية، متحف العاديات بمدريد).
هوامش
الفصل التاسع
تجارة العرب: صلاتهم بمختلف الأمم
(1) صلات العرب بالهند
لم يكن نشاط العرب التجاري أقل من نشاطهم في العلوم والفنون والصناعة، فقد كان للعرب، في الوقت الذي كانت أوربة فيه تشك في وجود بلاد الشرق الأقصى ولا تعرف من إفريقية سوى بعض شواطئها، علائق تجارية بالهند والصين وإفريقية الداخلية وبأقسام أوربة النائية كروسية وإسوج ودانيمركة.
ولم يكن نبأ ريادهم الذي وصل إلينا حتى الآن غير ناقص، حتى إن العلامة سيديو الذي يعد حجة فيما يتعلق بالعرب لم يذكر حتى علاقاتهم بشمال أوربة، فأرجو أن يكون فيما أقول في هذا الفصل، مع إيجازه، كافيا لإثباتنا أن العرب لم يساوهم في النشاط التجاري غير أمم الزمن الحاضر.
وترجع صلات العرب الأولى ببلاد الهند إلى أقدم عصور التاريخ، ولكن الذي يظهر أن الهنود، لا العرب، هم الذين كانوا يأتون بمحاصيلهم إلى سواحل البلاد العربية قبل محمد، وأن السفن العربية لم تذهب من مرافئ اليمن إلى بلاد الهند إلا قبيل ظهور النبي.
ولسرعان ما اتسع أفق صلات العرب التجارية بعد أن أصبح سلطانهم ثابت الأساس، فلم يلبث العرب أن وصلوا إلى شواطئ كورميندل وملبار وسومطرة وجزائر الأرخبيل الكبرى، وقطعوا خليج سيام، وبلغوا جنوب بلاد الصين.
وكان العرب يتصلون ببلاد الهند بثلاث طرق أساسية، إحداها برية واثنتان منها بحريتان، وكانت الطريق البرية تصل أهم مراكز الشرق، كسمرقند ودمشق وبغداد ... إلخ، بالهند بواسطة القوافل مارة ببلاد فارس وكشمير، وكان التجار الذين يفضلون الطريق البحرية يأتون من بلاد الهند إلى موانئ الخليج الفارسي كميناء سيراف، أو كانوا يدورون حول بلاد العرب ويبلغون موانئ البحر الأحمر، ولا سيما عدن، وكانت السلع التي تصل إلى الخليج الفارسي ترسل إلى بغداد، وترسل من بغداد إلى جميع المدن المجاورة بواسطة القوافل، وكانت السلع التي تنزل في عدن ترسل منها إلى السويس فإلى الإسكندرية وإلى جميع مدن سورية الساحلية، وكان تجار جنوة وفلورنسة وپيزة وكتلونة ... إلخ. يجيئون ليبحثوا عن هذه السلع ويرسلوها إلى أوربة، وكانت مصر خط وصل بين الشرق والغرب، وكانت هذه التجارة العظيمة من موارد غنى الخلفاء المهمة كما بينا ذلك.
وكانت السلع التي تنقل على تلك الطرق المختلفة كثيرة، وكانت تبادل، في عدن مثلا، منتجات الصين والهند بمنتجات بلاد الحبشة ومصر، وإن شئت فقل كان يبادل فيها أرقاء بلاد النوبة والعاج والتبر بمنسوجات الصين الحريرية وخزفها المطلي وبمنسوجات كشمير، ولا سيما بالأبايرز والعطور والخشب الثمين. (2) صلات العرب بالصين
ترجع صلات العرب غير المباشرة بالصين، بواسطة الهنود، إلى ما هو أقدم من ظهور محمد بزمن طويل، ولكن صلاتهم المباشرة بها لم تحدث إلا بعد أن أقاموا دولتهم.
وكان العرب يتصلون بالصين بطرق برية وطرق بحرية كاتصالهم ببلاد الهند، وكانوا يذهبون إلى الصين بحرا من شواطئ بلاد العرب أو من موانئ الخليج الفارسي، فيصلون على جنوبها توا.
وكان العرب يقومون برحلات متواصلة إلى بلاد الصين، ومن أقدمها الرحلة التي تكلمنا عنها في فصل آخر حيث ذكرنا أن التاجر سليمان هو الذي قام بها في سنة 850م، ومما يثبت كثرة صلات العرب بأهل الصين: ما كان من تبادل الوفود بين الخلفاء السابقين وملوك الصين، فضلا عما هو مسطور في سجلات بيت مال الخلفاء من بيان للسلع الصينية.
ومع ذلك يبدو أن طريق البحر لبلاد الصين كانت غير مسلوكة كما يجب، وكان سلوك طريق البر بواسطة القوافل أعظم يسرا أو أكثر استعمالا، وكانت السلع التي يؤتى بها من الصين إلى مدينة سمرقند التركية ترسل رأسا إلى مدينة حلب في آسية الصغرى؛ فتوزع منها على أهم مدن الشرق.
وفي كتاب الرحلة، الذي وضع باللغة الفارسية في أواخر القرن الخامس عشر من الميلاد فنشر مسيو شيفر بعض فصوله، أن تاجرا مسلما أطلع على الطرق البرية التي كانت تسلك إلى الصين، وكانت هذه الطرق ثلاثا: «طريق كشمير، وطريق خوتن، وطريق مغولية.»
ويشتمل كتاب الرحلة هذا على طرائف عن نوع السلع التي كانت تبادل بسلع الصين، ومن هذه السلع الأسود التي كان الواحد منها يبادل بثلاثين ألف قطعة من النسائج.
وكان التجار يرسلون إلى بلاد الصين ثمين الحجارة والمرجان والخيل والمنسوجات الصوفية وأجواخ البندقية القرمزية ... إلخ، ويأخذون النسائج الحريرية والديباج والقاشاني والشاي ومختلف المستحضرات الصيدلية في مقابلها.
شكل 9-1: صندوق صغير مصنوع من العاج المحفور في القرن العاشر من الميلاد على الطراز الهندوسي العربي (متحف كنسنغتن، من صورة فوتوغرافية).
ويمكننا، عند فقدان الأنباء عن صلات المسلمين بالصين وجهل علاقات الخلفاء بملوكها، أن نستدل على سعة صلات المسلمين التجارية بأهل الصين من وجود عشرين مليون مسلم منتشرين في أجزاء مملكة ابن السماء، ومن وجود مائة ألف مسلم وأحد عشر مسجدا في مدينة پكين وحدها. (3) صلات العرب بإفريقية
كانت صلات العرب بإفريقية على جانب عظيم من الأهمية أيضا، وكان العرب يعرفون جيدا أصقاع إفريقية الوسطى التي يصل إليها روادنا في الوقت الحاضر بشق الأنفس، فيعد كل ارتياد لما حادثا مهما في أوربة.
ويدل إسلام أمم تلك الأصقاع التي يزورها تجار العرب على مقدرة العرب في حمل الأمم على الترحيب بهم، ويجد السياح أثرا لتأثير العرب في أكثر البقاع التي يدخلونها في الوقت الحاضر، وعندي أنه يجدر بالسياح المعاصرين الذين يرغبون في درس شؤون إفريقية درسا مفصلا من غير أن يرهقوا ميزانية دولتهم، وفي الاغتناء عند الاقتضاء، أن يحذوا حذو العرب في ارتيادهم، أي في تنظيمهم للقوافل التجارية؛ فالنجاح أضمن - على العموم - في حمل أية أمة على قبول فريق من الناس قبولا حسنا عن طريق المقايضة التجارية من اجتياز هذا الفريق لأرضيها بغير هدف ظاهر، ومبادرتها العدوان برصاص البنادق عند سوء الظن.
وكان لعرب المغرب صلات تجارية بأقسام إفريقية الغربية على الخصوص، وكان لعرب مصر صلات بأصقاع إفريقية الشرقية والوسطى، وكان عرب مصر يذهبون إلى بلاد السودان بعد أن يقطعوا الصحراء طلبا للذهب والعاج والأرقاء، وبلغ العرب - في ارتيادهم إفريقية - بقاعا مهمة، ومنها مدن لم يوفق الأوربيون المعاصرون لزيارتها، كمدينة تنبكتو، وكان العرب يصلون إلى السواحل وإلى المناطق الوسطى أيضا.
قال مسيو سيديو: «يصل العرب من شواطئ إفريقية إلى مضيق باب المندب ثم إلى الزنجبار فإلى بلاد الكاب، ويؤسسون براڨا ومنباسة وكيلوة حيث يعتزل أخ لأمير شيراز، وموازنبيق وصوفالا وميلندة ومغادوكسو، ويستولون على الجزر القريبة من الشواطئ، وعلى مراكز كثيرة في مدغشقر ... ولم يكن أقل من هذا تأثير القرآن في إفريقية الوسطى التي لا تزال غير معلومة لدينا، وكان ما أقامه العرب من الممتلكات في الساحل الشرقي يسهل عليهم ولوج داخل إفريقية من هذه الناحية، وكان المسلمون يزورون بلاد الصومال الوديعة المقراة،
1
فتؤلف، مع سوقطرة، مستودعا تجاريا مهما جدا، وكانوا يزورون بلاد الحبشة وسنار وكردفان التي لها علاقات دائمة بمصر فتعد المفتاح الحقيقي لدارفور والوادي، وكانوا يذهبون من طرابلس الغرب إلى فزان، وكانت قوافلهم تذهب من بلاد المغرب موغلة في الصحراء الكبرى غير خائفة من المغامرة في رمالها التي تمتد من ضفاف النيل إلى المحيط الأطلنطي، والتي تبلغ مساحتها نحو مائتي ألف فرسخ مربع، وغير خائفة من الانتشار في بلاد السودان، والحق أن العرق العربي خط طريقه بين سكان إفريقية بحروف لا تمحى، والحق أن جميع السياح المعاصرين أجمعوا على الإشادة بما نجم عن هذا من الإصلاح في تكوين هؤلاء السكان بدنا وخلقا وعقلا.»
شكل 9-2: صندوق صغير من العاج المحفور، وهو مصنوع في مراكش في القرن الحادي عشر من الميلاد (من صورة قديمة).
شكل 9-3: إناء من البرونز مصنوع على الطراز الصيني العربي (من مجموعة شيفر، من صورة فوتوغرافية التقطها المؤلف). (4) صلات العرب بأوربة
كانت لأوربة علائق بالعرب مدة طويلة، وكانت هذه العلائق تتم بالطرق الآتية: (1)
طريق جبال البرنات. (2)
طريق البحر المتوسط. (3)
طريق الڨلغا المؤدية إلى شمال أوربة باجتياز بلاد روسية؛ فأما الطريقان الأوليان: فكان يسلكهما عرب الأندلس، وأما الطريق الثالثة: فكان يسلكها عرب المشرق.
شكل 9-4: إناء من البرونز مصنوع على الطراز الصيني العربي (من مجموعة شيفر، من صورة فوتوغرافية التقطها المؤلف).
وأقام العرب بجنوب فرنسة عدة قرون، وكان لا بد لهم من إيجاد صلات فيما وراء جبال البرنات، غير أنهم كانوا يفضلون أن تقصد بعثاتهم التجارية سواحل البحر المتوسط على الخصوص، وأن يتصلوا فيها بأمم تجارية مهذبة أكثر من التي كانت تقطن بفرنسة أيام سلطانهم في إسپانية.
وكان العرب سادة البحر المتوسط، وكانوا يرسلون إلى جميع المواني الأوربية والإفريقية المحيطة بهم منتجاتهم الصناعية والزراعية كالقطن والزعفران والورق والحرير الغرناطي والجلد القرطبي والنصال الطليطلية ... إلخ، وكانت المرافئ الإسپانية، قادس ومالقة وقرطاجنة ... إلخ، مراكز لنشاط يناقضه ما هي عليه الآن مناقضة محزنة.
ولا نرى أي أثر لصلات العرب التجارية بشمال أوربة في كتب التاريخ القديمة التي انتهت إلينا، ولكن الوثائق التي هي أدق من كتب التاريخ تثبت وجود تلك الصلات، وتدل على تاريخ بداءتها ونهايتها فضلا عن الطرق التي كانوا يسلكونها ، وتتألف هذه الوثائق من نقود تركها العرب في الطرق التي كانوا يمرون منها؛ فتكشف أعمال الحفر الحديثة عنها في كل يوم.
شكل 9-5: آنية من البرونز مصنوعة على الطراز الصيني العربي (من مجموعة شيفر، من صورة فوتوغرافية التقطها المؤلف).
ومن هذه النقود نعلم أن نقطة البداءة لتلك التجارة هي سواحل بحر قزوين، حيث كان يجتمع تجار المراكز التجارية الكبرى، كدمشق وبغداد وسمرقند وطهران وتفليس، ويسيرون من أستراخان مع نهر الڨلغا إلى مدينة بلغار (مدينة سنبرسك الحاضرة) الواقعة لدى قدماء البلغار في روسية، والتي كانت تعد مستودعا تجاريا بين آسية وشمال أوربة.
شكل 9-6: مصابيح عربية قديمة في بعض المساجد وهي مصنوعة من زجاج مطلي بالميناء (من تصوير المؤلف الفوتوغرافي).
ويظهر أن العرب لم يجاوزوا مدينة بلغار، وكان تجار أمم أخرى يأخذون السلع صاعدين مع نهر الڨلغا غير تاركين له إلا لينزلوا إلى البحر البلطي ويصلوا إلى خليج فنلندة ، وكانت نوڨغورود وشلزويغ، ولا سيما جزر البحر البلطي وغوتلند وأولند وبور نهولم، أهم مستودعات شمال أوربة، وقد عدت النقود العربية التي وجدت في هذه المستودعات بالمئات.
وكان التجار يتوجهون من خليج فنلندة إلى أهم نقاط شواطئ البحر البلطي، أي إلى شواطئ إسوج وفنلندة ودانيماركة وپروسية، وكانوا يصعدون مع ما يجدون على الشواطئ من مجاري المياه، وذلك كما تدل عليه النقود العربية التي وجدت في سيليزية وپولونية، ولا سيما في جوار وارسو.
شكل 9-7: إناء من النحاس المكفت بالفضة مصنوع في دمشق على الطراز الحديث (من صورة فوتوغرافية التقطها المؤلف).
ويدل وجود كثير من النقود العربية في أماكن معينة على صلات أصحاب هذه النقود التجارية بالدولة العربية فيما مضى، وإن لم يكن عندنا سوى فرضيات حول حقيقة الشعوب التي كانوا ينتسبون إليها، وترانا نعرف، مع ذلك أنهم كانوا مسلمين، لما لا نزال نجد من روس مسلمين. وتثبت الكتابات الكوفية التي وجدت في روسية أنه كان للعرب مستعمرات عند الخزر والبلغار هنالك، ولكنه ليس لدينا ما يدل على أن تجار العرب كانوا يذهبون إلى ما هو أبعد من مدينة بلغار، وبلغار روسية هم الذين كانوا ينقلون السلع إلى أهل دانيماركة لا ريب، وأهل دانيماركة، الذين لم تصفهم التواريخ الأوربية لنا بغير القراصنة، كانوا يتعاطون التجارة أكثر من تعاطيهم القرصنة إذن.
وكان العنبر، الذي هو من السلع المرغوب فيها كثيرا في الشرق والفراء والقصدير، والإماء على حسب ما ورد في بعض النصوص العربية، أهم مواد تجارة العرب في شمال أوربة، وكان أهل دانيماركة يأخذون نسائج الشرق وبسطه وآنيته المنقوشة وحليه في مقابل هذه السلع، وأرجح أن يكون كثير من منتجات الشرق، كالحلي المحززة مثلا، قد دخل في عدة أقسام من أوربة الغربية، وتراني أميل إلى الاعتقاد بأن بعض الحلي الموجودة في متحف ستوكلهم، على أنها من مصنوعات إسكنديناڨية في الدور الحديدي، والتي نشرت صور عدة نماذج لها في كتابي الأخير، قد جلب من الشرق بتلك الطريق التي تكلمت عنها، فالحق أن كثيرا من هذه الحلي ذو منظر شرقي.
وتدل تواريخ النقود التي وجدت في روسية، من مصب نهر الڨلغا إلى شواطئ البحر البلطي، على أن بدء تلك التجارة العربية كان في عهد الخلفاء الأولين، وأن ختامها لم يجاوز أواخر القرن الحادي عشر من الميلاد، ولذا تكون قد دامت نحو أربعة قرون.
وآخر تاريخ لتلك النقود التي وجدت هو سنة 1040م، وبنو العباس هم أكثر من ذكر فيها من أولياء الأمور بآسية.
ووجد بين تلك النقود نقود عربية ضربت في الأندلس، ولكنها من الندرة ما يحتمل أن يكون قد وصلت معه إلى شمال أوربة بعد أن تداولها تجار دمشق وسمرقند.
والأسباب التي انقطعت بها صلات العرب التجارية بشمال أوربة بسيطة جدا، أي أن ما اشتعل من الفتن الداخلية في آسية وما تم من هجرة البلغار وما حدث من الاضطرابات السياسية في روسية وقفها في القرن الحادي عشر، وأنها إذا كانت لم تستأنف فيما بعد فلما نشأ عن الحروب الصليبية من تحويل تجارة أوربة مع الشرق إلى طريق البحر، وأن أهل البندقية ابتلعوا تجارة الشرق مع الغرب منذ القرن الثاني عشر من الميلاد، فصارت جميع المنتجات التي يبادل بها في مختلف أجزاء العالم تمر من أيديهم.
هوامش
الفصل العاشر
تمدين العرب لأوربة: تأثيرهم في الشرق والغرب
(1) تأثير العرب في الشرق
خضع الشرق لكثير من الشعوب، كالفرس والأغارقة والرومان ... إلخ، ولكن تأثير هذه الشعوب السياسي إذا كان عظيما دائما فإن تأثيرها المدني كان ضعيفا عموما، وإذا عدوت المدن التي كانت تملكها هذه الشعوب رأسا رأيتها لم توفق لفرض دينها ولغتها وفنونها، ومن ذلك أن ظلت مصر الثابتة في زمن البطالمة وفي زمن الرومان وفية لماضيها، وكان ما تعلم من اعتناق الغالبين لديانة المغلوبين ولغتهم وطراز بنائهم فيها، وكان ما تعرف من إقامة البطالمة لمبانيهم التي رممها القياصرة، على الطراز الفرعوني.
وما عجز الأغارقة والفرس والرومان عنه في الشرق قدر عليه العرب بسرعة ومن غير إكراه، ومن ذلك أن مصر، التي كان يلوح أنها أصعب أقطار العالم إذعانا للمؤثرات الأجنبية، نسيت، في أقل من قرن واحد مر على افتتاح عمرو بن العاص لها، ماضي حضارتها الذي دام نحو سبعة آلاف سنة معتنقة دينا جديدا ولغة جديدة وفنا جديدا اعتناقا متينا دام بعد تواري الأمة التي حملتها عليه.
ولم يغير المصريون دينهم سوى مرة واحدة قبل العرب، وذلك حين خرب قياصرة القسطنطينية بلاد مصر بتحطيمهم جميع آثارها أو تشويهها وجعلهم القتل عقوبة من يخالف حظر عبادة آلهتها الأقدمين، وهكذا عانى المصريون دينا جديدا فرض عليهم بالقوة أكثر من اعتناقهم له، وما كان من تهافت المصريين على نبذ النصرانية ودخولهم في الإسلام يثبت درجة ضعف تأثير النصرانية فيهم.
وما وفق العرب له في مصر من التأثير البالغ اتفق لهم مثله في كل بلد خفقت فوقه رايتهم كإفريقية وسورية وفارس ... إلخ، وبلغ نفوذهم بلاد الهند التي لم يدخلوها إلا عابري سبيل، وبلغ بلاد الصين التي لم يزوروها إلا تجارا.
شكل 10-1: مقدم قصر شقوبية في الوقت الحاضر (من صورة فوتوغرافية).
ولا نرى في التاريخ أمة ذات تأثير بارز كالعرب، وذلك أن جميع الأمم التي اتصل العرب بها اعتنقت حضارتهم، ولو حينا من الزمن، وأن العرب لما غابوا عن مسرح التاريخ انتحل قاهروهم كالترك والمغول ... إلخ، تقاليدهم، وبدوا للعالم ناشرين لنفوذهم، أجل، ماتت حضارة العرب منذ قرون، ولكن العالم لا يعرف اليوم غير دين أتباع النبي ولغتهم في البلاد الممتدة من المحيط الأطلنطي إلى السند، ومن البحر المتوسط إلى الصحراء.
ولم يتجل تأثير العرب في الشرق في الديانة واللغة والفنون وحدها، بل تجلى في ثقافته العلمية أيضا، ومن ذلك أن المسلمين كانوا ذوي صلات مستمرة بالهند والصين، وأنهم نقلوا إليهما قسما كبيرا من المعارف العلمية التي عدها الأوربيون من أصل هندوسي أو صيني فيما بعد، وقد أصاب سيديو في توكيد هذا الأمر فذكر - على سبيل المثال - أن العربي البيروني المتوفى سنة 1031م أتحف الهندوس، في أثناء سياحته في بلادهم، بمختارات مهمة من كتب العلم فنقلوها بعدئذ نظما إلى السنسكريتية على حسن عادتهم.
شكل 10-2: قصر شقوبية، وقد أقيم على الطراز الإسپاني العربي (من رسم قديم لوايزنر).
ويجب ألا تستنبط من هذا القول نتائج واسعة، فإذا كان العرب أفضل من الهندوس علما، كما هو واضح، فإنهم دونهم فلسفة وديانة، فليس في عامية القرآن ولاهوتيته الصبيانية، التي هي من صفات الأديان السامية أيضا، ما يقاس بنظريات الهندوس التي أتيح لي أن أبين عمقها العجيب في كتاب آخر.
ويظهر أن ما اقتبسه الصينيون من العرب أهم مما أخذه الهندوس عنهم، وقد بينا في فصل سابق أن علوم العرب دخلت الصين على أثر الغارة المغولية، وأن الفلكي الصيني الشهير كوشو كنع تناول رسالة ابن يونس في الفلك في سنة 1280م وأذاعها في بلاد الصين، وأن الطب العربي أدخل إلى الصين وقتما غزاها كوبلاي، أي في سنة 1215م.
ولا يزال تأثير العرب العلمي في أهل المشرق جاريا، ولا يزال الفرس يدرسون العلوم في كتب العرب، وقد ذكرنا أن للغة العرب في بلاد الفرس شأنا كالذي كان للغة اللاتينية في العرب في القرون الوسطى. (2) تأثير العرب في الغرب (2-1) تأثير العرب العلمي والأدبي
نثبت الآن أن تأثير العرب في الغرب عظيم أيضا، وأن أوربة مدينة للعرب بحضارتها، والحق أن تأثير العرب في الغرب ليس أقل منه في الشرق، ولكن بمعنى آخر، فأما تأثيرهم في الشرق فتراه باديا في أمر الدين واللغة والفنون على الخصوص، وأما تأثيرهم الديني في الغرب فتراه صفرا، وترى تأثيرهم الفني واللغوي فيه ضعيفا، وترى تأثيرهم العلمي والأدبي والخلقي فيه عظيما.
ولا يمكن إدراك أهمية شأن العرب في الغرب إلا بتصور حال أوربة حينما أدخلوا الحضارة إليها.
إذا رجعنا إلى القرن التاسع والقرن العاشر من الميلاد، حين كانت الحضارة الإسلامية في إسپانية ساطعة جدا، رأينا أن مراكز الثقافة في الغرب كانت أبراجا يسكنها سنيورات متوحشون يفخرون بأنهم لا يقرأون، وأن أكثر رجال النصرانية معرفة كانوا من الرهبان المساكين الجاهلين الذين يقضون أوقاتهم في أديارهم ليكشطوا كتب الأقدمين النفيسة بخشوع، وذلك كيما يكون عندهم من الرقوق ما هو ضروري لنسخ كتب العبادة.
ودامت همجية أوربة البالغة زمنا طويلا من غير أن تشعر بها، ولم يبد في أوربة بعض الميل إلى العلم إلا في القرن الحادي عشر وفي القرن الثاني عشر من الميلاد، وذلك حين ظهر فيها أناس رأوا أن يرفعوا أكفان الجهل الثقيل عنهم فولوا وجوههم شطر العرب الذين كانوا أئمة وحدهم.
شكل 10-3: برج بليم، وهو قائم على الطراز الإسپاني العربي (من صورة فوتوغرافية).
ولم تكن الحروب الصليبية سببا في إدخال العلوم إلى أوربة كما يردد على العموم، وإنما دخلت العلوم أوربة من إسپانية وصقلية وإيطالية، وذلك أن مكتبا للمترجمين في طليطلة بدأ منذ سنة 1130م ينقل أهم كتب العرب إلى اللغة اللاتينية تحت رعاية رئيس الأساقفة ريمون، وأن أعماله في الترجمة كللت بالنجاح ما بدا للعرب بها عالم جديد، ولم يتوان الغرب في أمر هذه الترجمة في القرن الثاني عشر والقرن الثالث عشر والقرن الرابع عشر من الميلاد، ولم يقتصر الغرب على ترجمة مؤلفات علماء العرب، كالرازي وأبي القاسم وابن سينا وابن رشد ... إلخ، إلى اللغة اللاتينية، بل نقلت إليها، أيضا، كتب علماء اليونان التي كان المسلمون قد ترجموها إلى لغتهم الخاصة ككتب جالينوس وبقراط وأفلاطون وأرسطو وأقليدس وأرشميدس وبطليموس؛ فزاد عدد ما ترجم من كتب العرب إلى اللغة اللاتينية على ثلاثمائة كتاب كما روى الدكتور لوكلير في كتابه «تاريخ الطب العربي.»
والحق أن القرون الوسطى لم تعرف كتب العالم اليوناني القديم إلا من ترجمتها إلى لغة أتباع محمد، وبفضل هذه الترجمة اطلعنا على محتويات كتب اليونان التي ضاع أصلها ككتاب أپلونيوس في المخروطات، وشروح جالينوس في الأمراض السارية، ورسالة أرسطو في الحجارة ... إلخ، وأنه إذا كانت هناك أمة نقر بأننا مدينون لها بمعرفتنا لعالم الزمان القديم فالعرب هم تلك الأمة، لا رهبان القرون الوسطى الذين كانوا يجهلون حتى اسم اليونان. فعلى العالم أن يعترف للعرب بجميل صنعهم في إنقاذ تلك الكنوز الثمينة اعترافا أبديا، قال مسيو ليبرى: «لو لم يظهر العرب على مسرح التاريخ؛ لتأخرت نهضة أوربة في الآداب عدة قرون.»
شكل 10-4: كنيسة القديس بطرس في قلعة أيوب، وهي قائمة على الطراز الإسپاني العربي (من صورة قديمة).
وعرب الأندلس وحدهم، هم الذين صانوا في القرن العاشر من الميلاد، وذلك في تلك الزاوية الصغيرة من الغرب، العلوم والآداب التي أهملت في كل مكان، حتى في القسطنطينية، ولم يكن في العالم في ذلك الزمن بلاد يمكن الدرس فيها غير الأندلس العربية، وذلك خلا الشرق الإسلامي طبعا، وإلى بلاد الأندلس كان يذهب أولئك النصارى القليلون لطلب العلوم في الحقيقة، ونذكر منهم، على حسب بعض الروايات التي هي موضوع جدال من غير أن يثبت عدم صحتها، جربرت الذي صار بابا في سنة 999م باسم سلڨستر الثاني، والذي أراد أن ينشر في أوربة ما تعلمه؛ فعد الناس عمله من الخوارق، واتهموه بأنه باع روحه من الشيطان.
ولم يظهر في أوربة، قبل القرن الخامس عشر من الميلاد، عالم لم يقتصر على استنساخ كتب العرب، وعلى كتب العرب وحدها عول روجر بيكن وليونارد الپيزي وأرنود الڨيلنوڨي وريمون لول وسان توما وألبرت الكبير والأذفونش العاشر القشتالي ... إلخ، قال مسيو رينان: «إن ألبرت الكبير مدين لابن سينا في كل شيء، وإن سان توما مدين في جميع فلسفته لابن رشد.»
وظلت ترجمات كتب العرب، ولا سيما الكتب العلمية، مصدرا وحيدا، تقريبا للتدريس في جامعات أوربة خمسة قرون أو ستة قرون، ويمكننا أن نقول: إن تأثير العرب في بعض العلوم، كعلم الطب مثلا، دام إلى أيامنا، فقد شرحت كتب ابن سينا في مونپلية في أواخر القرن الماضي.
وبلغ تأثير العرب في جامعات أوربة من الاتساع ما شمل معه بعض المعارف التي لم يحققوا فيها تقدما مهما كالفلسفة مثلا، فكان ابن رشد الحجة البالغة للفلسفة في جامعاتنا منذ أوائل القرن الثالث عشر من الميلاد، ولما حاول لويس الحادي عشر تنظيم أمور التعليم في سنة 1473م أمر بتدريس مذهب هذا الفيلسوف العربي ومذهب أرسطو.
شكل 10-5: تيجان أعمدة عربية وتيجان أعمدة على الطراز الإسپاني العربي (مسجد قرطبة - مسجد طركونة القديم - شقوبية - سرقسطة - القصر بأشبيلية - طليطلة - دير غرافد - الترانسيتو بطليطلة، متحف العاديات الإسپاني).
ولم يكن نفوذ العرب في جامعات إيطالية، ولا سيما جامعة پادو، أقل منه في فرنسة، فقد كان للعرب فيها شأن كالذي بدا للأغارقة واللاتين بعد عصر النهضة، ويمكن القارئ أن يتمثل سعة نفوذ العرب من الاحتجاج الصاخب الآتي الذي قاله الشاعر الكبير پترارك: «يا عجبا، استطاع شيشرون أن يكون خطيبا بعد ديموستين، واستطاع ڨيرجل أن يكون شاعرا بعد أوميرس، فهل قدر علينا ألا نؤلف بعد العرب؟ لقد تساوينا نحن والأغارقة وجميع الشعوب غالبا وسبقناها أحيانا، خلا العرب، فيا للحماقة! ويا للضلال! ويا لعبقرية إيطالية الناعسة أو الخامدة!»
ولم يكن للقرآن تأثير في جميع مذاهب العرب العلمية والفلسفية التي نشروها في العالم في خمسة قرون، كما أنه لم يكن للتوراة أثر في كتب العلم الحديثة، ولا عجب، فالقرآن مجموعة أحكام كان يحترمها العلماء تقريبا؛ لأنها مصدر سلطان العرب، ولملاءمتها احتياجات الجماهير التي ليس من طبيعتها أن تكترث للعلوم والفلسفة في كل زمن إلا قليلا، غير أن العلماء كانوا لا يبالون بما بين نتائج اكتشافاتهم ونظريات الكتاب المقدس «القرآن» من الاختلاف، فإذا ما بلغت أفكارهم الحرة عامة الناس اضطر حماتهم من الخلفاء، عادة، إلى نفيهم لأجل محدود احتراما للشعور العام، وإذا ما هدأت الزوبعة بسرعة استدعاهم الخلفاء، ولم يبد عدم التسامح بين المسلمين إلا بعد أن اضمحل سلطان العرب في القرن الثالث عشر من الميلاد، وصارت سلطتهم قبضة «شعوب ثقيلة شرسة غير مهذبة» من ترك وبربر وغيرهم كما أشار إلى ذلك، بحق، مسيو رينان، وليست المذاهب مصدر عدم التسامح في الغالب، بل الأشخاص، وكان العرق العربي من التهذيب والسماحة ما لا يحيد معه عن هذا التسامح الذي أقام الدليل عليه في كل مكان منذ بدء فتوحه.
شكل 10-6: قوس الجعفرية في سرقسطة.
شكل 10-7: قوس على الطراز الإسباني العربي في طليطلة (متحف العاديات الإسپاني).
ويمكن القول بأن التسامح الديني كان مطلقا في دور ازدهار حضارة العرب، وقد أوردنا على هذا غير دليل، ولا نسهب فيه، وإنما نشير إلى ما ترجمه مسيو دوزي من قصة أحد علماء الكلام العرب الذي كان يحضر ببغداد دروسا كثيرة في الفلسفة يشترك فيها أناس من اليهود والزنادقة والمجوس والمسلمين والنصارى ... إلخ، فيستمع إلى كل واحد منهم باحترام عظيم، ولا يطلب منه إلا أن يستند إلى الأدلة الصادرة عن العقل، لا إلى الأدلة المأخوذة من أي كتاب ديني كان، فتسامح مثل هذا هو مما لم تصل إليه أوربة بعد ما قامت به في أكثر من ألف سنة من الحروب الطاحنة، وما عانته من الأحقاد المتأصلة، وما منيت به من المذابح الدامية.
شكل 10-8: دقائق زخارف في كنيسة الترانسيتو (كنيس بطليطلة) وهي على الطراز الإسرائيلي العربي.
وإذا كان تأثير العرب عظيما في نواحي أوربة التي لم يسيطروا عليها إلا بمؤلفاتهم، أبصرنا أنه كان أعظم من هذا في البلاد التي خضعت لسلطانهم كبلاد إسپانية التي نرى أن أفضل وسيلة لتقدير تأثير العرب فيها تقديرا قاطعا، هو أن ننظر إلى حالتها التي كانت عليها قبل فتحهم إياها، وفي أثناء سيادتهم لها، وبعد إجلائهم عنها؛ فأما حالها قبل الفتح العربي وفي أيام سلطتهم: فقد بحثنا فيها، وذكرنا درجة السعادة التي تمت لها في زمن دولتهم. وأما حالها بعد العرب: فقد تكلمنا عنها أيضا، وستتاح لنا العودة إليها حينما نبحث في ورثة العرب عما قليل، فهنالك نرى أنها هبطت بعد إجلائهم إلى دركة من الانحطاط لم تنهض منها حتى الآن، ولن يجد الباحث مثالا أوضح من هذا لتأثير أمة في أمة أخرى، والتاريخ لم يشتمل على ما هو أبرز من هذا المثال.
ومما تقدم ننتهي إلى نتيجتين مهمتين: الأولى: هي أنه لم يكن للإسلام، ديانة، تأثير في آثار العرب العلمية والفلسفية، والثانية: هي أن فضل الشرق في تأثيره في الغرب يعود إلى العرب وحدهم، وأما الشعوب التي حلت محل العرب، وإن اتفق لها شيء من التأثير السياسي أو الديني لم يكن تأثيرها العلمي والأدبي والفلسفي في غير درجة الصفر. (2-2) تأثير العربي في فن العمارة
للعرب، لا ريب، تأثير في فنون أوربة، ولا سيما في فن عمارتها، ولكنه يبدو لي أضعف مما يعتقد على العموم، ولا أرى أن يبحث عنه حيث أريد وجوده، ومن ثم أن يقال: إن الطراز القوطي أخذ عن العرب في القرون الوسطى مثلا، ومع أنني أوافق، مع كثير من المؤلفين، على أن أوربة اقتبست الأقواس القوطية (أي الأقواس المصنوعة على رسم البيكارين) من العرب، والعرب قد استعملوها في مصر وصقلية وإيطالية منذ القرن العاشر من الميلاد، تراني لا أقول: إننا مدينون للعرب بطرازنا القوطي؛ لما أرى من الفرق العظيم بين كنائسنا التي أقيمت عليه في القرن الثالث عشر أو القرن الرابع عشر من الميلاد وما بني في أي من هذين القرنين من المساجد، ولأن أقواس الأبواب والنوافذ المصنوعة على رسم البيكارين ليست كل ما في العمارة القوطية التي تتألف من عناصر مختلفة لا تقدر قيمتها إلا بعد البحث في مجموع البناء.
شكل 10-9: دقائق زخارف في كنيسة الترانسيتو بطليطلة (طراز إسرائيلي عربي).
والحق أن الطراز القوطي لم يستند إلى عنصر واحد، فهو مشتق من الطراز الرومني الذي هو وليد الطراز اللاتيني والطراز البزنطي، وذلك بعد سلسلة من التطورات، والحق أن الطراز القوطي ظهر، بعد أن تم تكوينه، فنا مبتكرا مختلفا عن فنون العمارة السابقة، فتعد كل كنيسة قوطية أتقن بناؤها من أجمل ما شاد الإنسان من المباني التي لا أستثني منها أكمل الآثار الإغريقية اللاتينية القديمة.
وهنا أقرر أن الغرب اقتبس أصول فن عمارته من العرب، وأن لعروق الغرب احتياجات وأذواقا تختلف عن احتياجات الشرق وأذواقه، وأن بيئات الغرب مباينة لبيئات الشرق، وأن الفنون وليدة احتياجات أحد الأدوار ومشاعره؛ فكان ما نراه من اختلاف فنون الغرب عن فنون الشرق بحكم الضرورة.
وإنني، على ما قررت من عدم المشابهة بين الطراز العربي والطراز القوطي بعد أن تكون، لا أنكر أهمية الفروع التي اقتبسها الغربيون من الشرقيين، ولم أنفرد بهذا الاعتراف، بل اعترف بذلك أكثر المؤلفين حجة، واسمع ما قاله باتيسيه:
لا يجوز الشك في أن البنائين الفرنسيين اقتبسوا من الفن الشرقي كثيرا من العناصر المعمارية المهمة والزخارف في القرن الحادي عشر والقرن الثاني عشر من الميلاد ... ألم نجد في كتدرائية پوي، التي هي من أقدس البنايات النصرانية، بابا مستورا بالكتابات العربية؟ أولم تقم في أربونة وغيرها حصون متوجة وفق الذوق العربي؟
شكل 10-10: بعض أقواس في دير الراهبات بشقوبية (طراز إسپاني عربي).
وذكر مسيو لونورمان، الذي هو حجة في هذه الموضوعات مثل باتيسيه، أن تأثير العرب واضح في كثير من الكنائس الفرنسية، ككنيسة مدينة ماغلون «1178م» التي كانت ذات صلات بالشرق، وكنيسة «كانده مين ولوار» وكنيسة «غاماش» «سوم» ... إلخ.
وألمع مسيو شارل بلان إلى ما اقتبسه الأوربيون من العرب في فن العمارة، وقال: «أرى من غير مبالغة فيما لأمة من التأثير في أمة، وذلك خلافا لما يسار عليه اليوم أن الصليبيين الذين شاهدوا ما اشتمل عليه الفن العربي من المشربيات وشرف المآذن والأفاريز أدخلوا إلى فرنسة المراقب والجواسق والأبراج والأطناف والسياجات التي استخدمت كثيرا في العمارات المدنية والحربية في القرون الوسطى.»
ولم يكن مسيو پريس الأفيني المتخصص في فن العمارة العربي على غير هذا الرأي، فقد قال: «إن النصارى أخذوا عن العرب الأبراج الرائعة التي استخدمها الغرب بكثرة حتى أواخر القرن السادس عشر من الميلاد.»
ولا يغرب عن بالك أن الأوربيين كانوا يستخدمون في القرون الوسطى كثيرا من بنائي الأجانب في إقامة مبانيهم، وأنهم كانوا يوحون إليهم مثلما كان يوحي به العرب إلى بنائي البزنطيين، وأن هؤلاء المعماريين كانوا يجيئون من كل مكان، وأن شارلمان كان يأتي بالكثير منهم من الشرق. وقد نقل مسيو ڨياردو عبارة من كتاب «تاريخ باريس» لدولور جاء فيها أن مهندسين معماريين من العرب استخدموا في إنشاء كنيسة نوتردام الباريسية: ويتجلى في إسپانية - على الخصوص - تأثير العرب المعماري العظيم الذي غفل عن ذكره العلماء المشار إليهم، وقد ذكرنا في فصل سابق أنه نشأ عن تمازج فنون العرب والنصارى طراز خاص يعرف بالطراز المدجن الذي ازدهر في القرن الرابع عشر والقرن الخامس عشر من الميلاد على الخصوص، وترى في الصور التي نشرناها في هذا الفصل أمثلة مهمة لذلك، وما أبراج كثير من كنائس طليطلة إلا مقتبسة من المآذن، وليست المباني التي شادها النصارى في الولايات المستقلة في العهد الإسلامي إلا عربية أكثر منها نصرانية، وذلك كقصر شقوبية الشهير الذي نشرت له عدة صور، فتدل إحدى هذه الصور التي التقطناها من رسم قديم على حاله قبل حريق سنة 1862، وتدل الصور الأخرى الفوتوغرافية الأصل على حاله في الوقت الحاضر، ولا نجهل أن قصر شقوبية هذا أقيم في القرن الحادي عشر من الميلاد، أي أقيم في أيام السيد بأمر الأذفونش السادس الذي طرده أخوه من ممالكه، والتجأ إلى عرب طليطلة، ودرس قصرهم فيها وعاد إلى ممالكه، وأنشأ قصرا شبيها به، ومما يزيد قصر شقوبية قيمة إمكان عده مثالا للقصور العربية المحصنة التي أقيمت في بلاد إسپانية ثم عفا رسمها تقريبا في الوقت الحاضر.
شكل 10-11: باب الغفران في قرطبة (طراز إسپاني عربي، من صورة فوتوغرافية).
ويلوح لي أن آثارا كثيرة عدها بعض المؤلفين من المباني القائمة على الطراز القوطي الخالص ، كبرج بليم الذي أنشئ بالقرب من أشبونة، ذات مسحة عربية بشكلها العام وأبراجها المطنفة وشرفها وبجزئيات أخرى فيها.
أجل، قد يرى أن تأثير العرب في إسپانية زال تماما، ولكن بعض المدن الإسپانية، ولا سيما أشبيلية، حافلة بذكريات العرب، ولا تزال بيوتها تبنى على الطراز الإسلامي، وهي لا تختلف عن نماذجها إلا بفقر زخارفها، ولا يزال الرقص والموسيقا فيها على الطريقة العربية، ويشاهد الدم الشرقي فيها بسهولة كما ذكرت ذلك سابقا.
شكل 10-12: مدقة باب الغفران في قرطبة.
أجل، يمكن أن تباد أمة، وأن تحرق كتبها، وأن تهدم آثارها، ولكن تأثيرها يكون أقوى من القلز
1
غالبا، ولا يستطيع الإنسان محوه، ولا تكاد العصور تقدر عليه. (2-3) تأثير العرب في الطبائع
لا نعود إلى ما فصلناه في فصل سابق عن تأثير العرب الخلقي في أوربة، وإنما نذكر أننا أثبتنا فيه الفرق العظيم بين سنيورات النصارى وأشياع النبي في ذلك الزمن، وأن النصارى تخلصوا من همجيتهم بفضل اتصالهم بالعرب، واقتباسهم منهم مبادئ فروسيتهم، وما تؤدي إليه هذه المبادئ من الالتزامات، كمراعاة النساء والشيوخ والأولاد واحترام العهود ... إلخ، ونذكر أننا بينا في فصلنا عن الحروب الصليبية أن أوربة النصرانية كانت دون الشرق الإسلامي أخلاقا بمراحل، فإذا كان للديانات ما يسند إليها، وما نجادل فيه، من التأثير في الطبائع على العموم أمكنت المقابلة بين الإسلام والأديان الأخرى التي تزعم أنها أفضل منه على الخصوص.
شكل 10-13: باب مخزن الأمتعة المقدسة في كتدرائية أشبيلية (طراز إسپاني عربي).
وقد تكلمنا في ذلك الفصل، بما فيه الكفاية، عن تأثير العرب الخلقي في أوربة، فنحيل القارئ عليه، وإنما نذكر القارئ بالنتيجة التي توصل إليها، أيضا، العلامة المتدين مسيو بارتلمي سنت هيلر في كتابه عن القرآن حيث قال:
أسفرت تجارة العرب وتقليدهم عن تهذيب طبائع سنيوراتنا الغليظة في القرون الوسطى، وتعلم فرساننا أرق العواطف وأنبلها وأرحمها من غير أن يفقدوا شيئا من شجاعتهم، وأشك في أن تكون النصرانية وحدها قد أوحت إليهم بهذا مهما بولغ في كرمها.
وقد يسأل القارئ بعد ما تقدم : لم ينكر تأثير العرب علماء الوقت الحاضر الذين يضعون مبدأ حرية الفكر فوق كل اعتبار ديني كما يلوح؟ لا أرى غير جواب واحد عن هذا السؤال الذي أسأل نفسي به أيضا وهو أن استقلالنا الفكري لم يكن في غير الظواهر بالحقيقة، وأننا لسنا من أحرار الفكر في بعض الموضوعات كما نريد.
شكل 10-14: قلادة من ذهب مصنوعة في غرناطة في القرن الرابع عشر على الطراز العربي الإسپاني (متحف الآثار في مدريد، من صورة فوتوغرافية).
فالمرء عندنا ذو شخصيتين: الشخصية العصرية التي كونتها الدراسات الخاصة والبيئة الخلقية والثقافية، والشخصية القديمة غير الشاعرة التي جمدت وتحجرت بفعل الأجداد وكانت خلاصة لماض طويل، والشخصية غير الشاعرة وحدها، ووحدها فقط، هي التي تتكلم عند أكثر الناس وتمسك فيهم المعتقدات نفسها مسماة بأسماء مختلفة، وتملي عليهم آراءهم، فيلوح ما تمليه عليهم من الآراء حرا في الظاهر فيحترم.
والحق أن أتباع محمد ظلوا أشد من عرفته أوربة من الأعداء إرهابا عدة قرون، وأنهم، عندما كانوا لا يرعدوننا بأسلحتهم ، كما في زمن شارل مارتل والحروب الصليبية، أو يهددون أوربة بعد فتح القسطنطينية، كانوا يذلوننا بأفضلية حضارتهم الساحقة، وأننا لم نتحرر من نفوذهم إلا بالأمس.
وتراكمت مبتسراتنا الموروثة ضد الإسلام والمسلمين في قرون كثيرة، وصارت جزءا من مزاجنا، وأضحت طبيعة متأصلة فينا تأصل حقد اليهود على النصارى الخفي أحيانا والعميق دائما.
شكل 10-15: مصباح من زجاج مطلي بالميناء (من تصوير پريس الأڨيني).
وإذا أضفنا إلى مبتسراتنا الموروثة ضد المسلمين مبتسرنا الموروث الذي زاد مع القرون بفعل ثقافتنا المدرسية البغيضة القائلة: إن اليونان واللاتين وحدهم منبع العلوم والآداب في الزمن الماضي أدركنا، بسهولة سر جحودنا العام لتأثير العرب العظيم في تاريخ حضارة أوربة.
ويتراءى لبعض الفضلاء أن من العار أن يرى أن أوربة النصرانية مدينة لأولئك الكافرين في خروجها من دور التوحش، فعار ظاهر كهذا لا يقبل إلا بصعوبة.
2
نختم هذا الفصل بقولنا: إنه كان للحضارة الإسلامية تأثير عظيم في العالم، وإن هذا التأثير خاص بالعرب وحدهم فلا تشاركهم فيه الشعوب الكثيرة التي اعتنقت دينهم، وإن العرب هذبوا البرابرة الذين قضوا على دولة الرومان بتأثيرهم الخلقي، وإن العرب هم الذين فتحوا لأوربة ما كانت تجهله من عالم المعارف العلمية والأدبية والفلسفية بتأثيرهم الثقافي، فكانوا ممدنين لنا وأئمة لنا ستة قرون.
هوامش
الباب السادس
انحطاط حضارة العرب
الفصل الأول
ورثة العرب
تأثير الأوربيين في الشرق (1) ورثة العرب في الأندلس
إن من أحسن الوسائل لتقدير ما لأمة من التأثير النافع أو الضار في أمة أخرى هو أن يبحث في أحوال هذه الأمة قبل أن تخضع للنفوذ الأجنبي وفي أثناء خضوعها له وبعد خلاصها منه؛ فأما أحوال الأمم التي دانت للعرب قبل خضوعها لهم وفي أثناء حكمهم لها فقد بحثنا فيها بما فيه الكفاية، وأما أحوالها، بعد أن غاب العرب عن مسرح العالم، فنبحث فيها الآن بادئين بإسپانية.
لم يفكر النصارى، بعد أن استردوا غرناطة التي كانت معقل الإسلام الأخير في أوربة، في السير على سنة العرب في التسامح الذي رأوه منهم عدة قرون؛ بل أخذوا يضطهدون العرب بقسوة عظيمة على الرغم من العهود، ولكنهم لم يعزموا على طردهم جميعهم إلا بعد مرور قرن، ومع ما كان يصيب العرب من الاضطهاد كان تفوقهم الثقافي على الإسپان عاملا في بقائهم على رأس جميع الصناعات، وكان من الصواب اتهام الإسپان إياهم بالاستيلاء على جميع المهن.
وطالب الشعب بطردهم فقط، وبدا الإكليروس متطرفا فأشار بقتلهم جميعا رجالا ونساء وشيوخا وأطفالا، وسلك فليب الثاني طريقا وسطا فاكتفى بإعلان طردهم في سنة 1610م، ولكنه أمر بأن يقتل أكثرهم قبل أن يوفقوا لترك إسپانية، فقتل ثلاثة أرباعهم تقريبا.
وتم الجلاء والذبح، وعم الفرح إسپانية؛ لما ظن من دخولها عهدا جديدا.
شكل 1-1: قصر حديث في بهنا (البرتغال، طراز إسپاني عربي، من صورة فوتوغرافية).
حقا لقد ظهر عهد جديد ما وجدت نتائج عظيمة لهذا الاستئصال الجامع الذي لا نظير له في التاريخ، ويكون تقديرنا لأهمية هذه النتائج أتم إذا ما رجعنا بعض السنين إلى الخلف، وبحثنا في أمر إسپانية بعد اختفاء سلطان العرب السياسي عنها.
رأى النصارى، الذين هاجروا إلى المناطق الجبلية فرارا من سلطان العرب، إمكان إعادة دولتهم القديمة بعد ما شاهدوا بدء تضعضع سلطان المسلمين في الأندلس بفعل تنافسهم وحروبهم الداخلية.
ولم تكلل أعمال هؤلاء النصارى بالنجاح في البداءة، ولكنهم لم يهنوا؛ لما كان يغلي في عروقهم من الحمية الدينية، وقد صار لهم ما للعرب من الخبرة الحربية بفضل الوقائع التي اشتركوا فيها عدة قرون ما دام القتال مهنتهم الوحيدة، وقد ساعدهم انقسام العرب على النجاح فاستطاعوا، بعد حروب طويلة، أن يقيموا دويلات لم تفتأ تعظم وتتحد حتى استولت بعد ثمانية قرون على غرناطة التي كانت عاصمة آخر دولة عربية في الأندلس، وبهذا أضحت جميع إسپانية قبضتها، وبدت إسپانية أول دولة حربية في أوربة.
ولم يكن الملك شارلكن وفليب الثاني أقل براعة من سلفهما فرديناند، وكان القرن الذي مر بين سقوط غرناطة ووفاة فليب الثاني دور عظمة لإسپانية لن ترى مثله.
شكل 1-2: ترس فليب الثاني في إسپانية (من صورة فوتوغرافية التقطها لوران).
أجل ، كان العرب يضطهدون في جميع ذلك العهد، ولكن مع بقائهم، وكان العرب ذوي شأن فيه بما لهم من التفوق الثقافي، وكان العلماء وأرباب الصناعات والتجار من العرب وحدهم، لا من الإسپان الذين كانوا ينظرون إلى كل مهنة شزرا، خلا مهنة الإكليروس ومهنة الجندية.
وكانت إسپانية تشتمل، إذن، على جيلين مختلفين من الآدميين عاملين بمختلف الطرق على عظمتها، أحدهما من النصارى القابضين على زمام السلطة العسكرية، والآخر من العرب القابضين على ناحية الحضارة المادية.
وكان وجود هذين الجيلين أمرا ضروريا، وذلك أن السلطة العسكرية إذا كانت كافية لإقامة دولة فإنها تعجز وحدها عن إدامتها، وأن ازدهار هذه الدولة لا يكون إلا بتوافر بعض عناصر الحضارة، وأن تماسك هذه الدولة لا يدوم طويلا إلا ببقاء هذه العناصر.
وهذا هو عين ما أصاب إسپانية بعد طرد العرب، فقد حل الانحطاط فيها محل العظمة، وقد زاد انحطاطها سرعة ما عطلت من قادة عظام حربيين كالذين ظهروا في قرن واحد، وقد أضاعت كل شيء حين خسرت سلطانها الحربي وحرمت الحضارة معا.
وكان من سرعة الانحطاط الذي عقب إجلاء العرب وقتلهم ما يمكننا أن نقول معه: إن التاريخ لم يرو خبر أمة كالإسپان هبطت إلى دركة عميقة في وقت قصير جدا، فقد توارت العلوم والفنون والزراعة، والصناعة، وكل ما هو ضروري لعظمة الأمم، عن بلاد إسپانية على عجل، وقد أغلقت أبواب مصانعها الكبرى، وأهملت زراعة أراضيها، وصارت أريافها بلاقع، وبما أن المدن لا تزدهر بغير صناعة ولا زراعة فقد خلت المدن الإسپانية من السكان على شكل سريع مخيف، وأصبح عدد سكان مدريد مئتي ألف بعد أن كان أربعمائة ألف، وصارت أشبيلية، التي كانت تحتوي 1600 حرفة كافية لإعاشة 130000 شخص، لا تشتمل على غير 300 حرفة، وهذا فضلا عن خلوها من ثلاثة أرباع سكانها كما جاء في رسالة مجلس الكورتس إلى الملك فليب الرابع، ولم يبق في طليطلة سوى ثلاثة عشر مصنعا للصوف بعد أن كان فيها خمسون، وخسرت طليطلة جميع مصانعها الحريرية التي كان يعيش منها أربعون ألف شخص، ووقع مثل هذا في كل مكان، ولم تعتم المدن الكبيرة، كقرطبة وشقوبية وبرغش، أن أصبحت كالصحارى تقريبا، وزال ما ظل قائما فيها من المصانع القليلة بعد تواري العرب، وكان من غياب جميع الصناعات في إسپانية أن اضطر القوم إلى جلب عمال من هولندة عندما أريد إنشاء مصنع للصوف في شقوبية في أوائل القرن الثامن عشر.
ونجم عن أفول الصناعة والزراعة في بلاد إسپانية على هذا الوجه السريع ما يشاهد فيها من البؤس العميق، ومن وقوعها في الانحطاط التام في قليل من السنين.
ومصائب كتلك مما يقتل كل نشاط وحيوية بسرعة، وإمبراطورية واسعة لا تغرب الشمس عن أملاكها كتلك، كما قيل، لا بد من أن تقع في دور الهمجية المظلم على عجل ما لم تنقذ بسلطان الأجنبي، ولذا اضطرت إسپانية، لتعيش بعد وهن، إلى تسليم زمام سلطتها العليا وشؤونها الإدارية وصناعتها وتجارتها إلى رؤساء من الأجانب كالفرنسيين والطلاينة والألمان ... إلخ.
غير أنه لم ينشأ عن سلطة فليب الخامس، الذي هو حفيد لويس الرابع عشر، والإدارة الأجنبية التي أكره هو وخلفاؤه على إدخالها إلى إسپانية سوى حيوية ظاهرة غير حقيقية، وذلك لتعذر انتشال أمة بعد هبوطها.
حقا، ظهر في إسپانية ملوك نوابغ كشارل الثالث، وتمتعت إسپانية برخاء مصنوع ذات زمن، وذلك عندما استحضرت من الخارج فريقا من العلماء وأرباب الصناعات، ولكن هذا كان على غير جدوى، فلن يستطيع أحد إحياء الموتى، وحقا إن العرب زالوا، وقضت محاكم التفتيش على كل من يزيد ذكاؤه قليلا على المستوى المتوسط، فصرت ترى فيها سكانا، وعادت لا تحتوي رجالا.
وأجمع كتاب العصر الذين زاروا إسپانية على الاعتراف بضعف مستوى الإسپان الثقافي، وكان هذا الضعف عميقا عاما في أواخر القرن السابع عشر من الميلاد، وبدت تلك البلاد التي أضاءت العالم أيام سلطان العرب خالية من أية مدرسة لتعليم الفيزياء والرياضيات والطبيعيات، وصرت لا ترى فيها كلها، حتى سنة 1776م كيماويا قادرا على صنع أبسط التراكيب الكيماوية، ولا شخصا قادرا على إنشاء مركب أو سفينة شراعية، وذلك كما قال الكاتب الإسپاني كنپومانس مؤكدا.
ولا مراء في نجاح محاكم التفتيش المرهوبة في أعمالها، فقد أضحت جميع بلاد إسپانية لا تعرف غير كتب العبادة، ولا تعرف عملا غير الأمور الدينية، جاهلة ما أتاه نيوتن وهارڨي وغيرهما من الاكتشافات العظيمة جهلا تاما.
ولم يسمع أطباء الإسپان شيئا عن الدورة الدموية إلى ما بعد اكتشافها بقرن ونصف قرن، ويمكن استجلاء مستوى معارفهم بالأمر الغريب القائل: إن بعض الناس، في سنة 1760م، اقترحوا، مع التواضع، إزالة الأقذار التي كانت تملأ شوارع مدريد وتفسد هواءها، وإن رجال الصحة احتجوا على ذلك بشدة ذاكرين أن آباءهم العقلاء كانوا يعرفون ما يصنعون، وأنه يمكن السكان أن يعيشوا مثلهم بين الأقذار، وأن رفعها ينطوي على تجربة لا يقدر أحد على كشف عواقبها.
ولم تستطع أطيب الجهود أن تنهض ببلاد إسپانية التعسة، فاليوم لا تجد فيها زراعة ولا صناعة
1
واليوم تستعين بالأجانب في كل ما يحتاج إلى استعداد يزيد على أدنى مستوى، واليوم يدير الأجانب مصانعها، ويمدون خطوطها الحديدية، ويمدونها بمن يسوق قاطراتها، وبكل ما له علاقة بالعلوم والصناعات.
وبلاد هذه حالها تعد من البلاد التي تقدر على معالجة أمورها أية حكومة قديرة حرة أو غير حرة، وذلك أن الحكم لا يمكن بغير موافقة الجمهور، وأن الجمهور الإسپاني دون حكومته دائما مهما كانت هذه الحكومة قليلة الرقي، أجل، تتمتع إسپانية بمظاهر الحضارة، ولكن هذا لا يعدو حد المظاهر، فالجهل عام فيها كما كان في القرون الوسطى،
2
ولو قيض لمحاكم التفتيش أن تعود اليوم إلى إسپانية لرأت جميع طبقات الشعب الإسپاني ظهيرا لها، والحكم العادل الشديد الذي أصدره المؤرخ الإنكليزي الكبير بكل منذ بضع سنين على إسپانية يسري على حاضرها، وعلى زمن طويل من مستقبلها لا ريب، قال بكل:
لا تزال إسپانية نائمة هادئة هادئة فاقدة للحس غير شاعرة بكل ما يجري في بقية العالم، أي معدودة غير موجودة، وإسپانية هنالك، حيث أقصى نقطة في القارة لم تكن، وهي جامدة ضخمة الجرم، ممثلة لغير مشاعر القرون الوسطى وأفكارها، ومما يحزن فيها كثيرا اقتناعها بحالها، واعتقادها أنها أرقى أمم أوربة، مع أنها أكثرها تأخرا، هي فخور بكل ما يجب أن يحمر وجهها منه خجلا، فخور بقدم آرائها، فخور بتدينها، فخور بقوة إيمانها، فخور بسرعة تصديقها الطائش الذي لا حد له، فخور برفضها لإصلاح معتقداتها وعاداتها، فخور بحقدها على الملحدين، فخور بيقظتها الدائمة في إبطال كل ما يعملونه؛ ليستقروا بأرضها استقرارا شرعيا، ومن مجموع هذه الأمور تتألف تلك الخلاصة الكئيبة التي تسمى إسپانية. (2) ورثة العرب في مصر والشرق
الترك هم ورثة العرب في مصر وقسم كبير من الشرق كما هو معلوم.
وإذا ما نظر المرء إلى الترك من الناحية السياسية، أدرك أنه كان لهم دور كبير من العظمة، فقد ارتعدت فرائص أقوى ملوك أوربة، زمنا طويلا، فرقا من سلاطينهم الذين قاموا مقام القياصرة، وأحلوا الهلال محل الصليب الإغريقي فوق أياصوفية، وبسطوا نفوذ الإسلام في الآفاق.
بيد أن عظمة الترك لم تكن في غير الحرب، فالترك، وإن استطاعوا أن يؤسسوا دولة كبيرة، أثبتوا عجزهم عن إبداع حضارة في كل زمن، وكان أقصى جهودهم أن يستفيدوا مما أصبح تحت أيديهم من علوم العرب وفنونهم وصناعاتهم وتجارتهم، ولم يقدر الترك أن يتقدموا خطوة واحدة في هذه المعارف التي ازدهرت أيام سلطان العرب، والأمم، إذ كانت ترجع إلى الوراء، حتما، إذا لم تتقدم، لم تلبث ساعة انحطاط الترك أن دقت.
وترجع نهاية تاريخ حضارة العرب في الشرق إلى اليوم الذي صارت مقادير دولتهم قبضة الترك بالقوة، أجل، ما فتئ العرب يحيون في التاريخ بنفوذهم الديني، ولكن الشعوب التي خلفتهم لم تستطع أن تمسك مستوى الحضارة الذي بلغوه.
وكان الانحطاط عميقا في مصر على الخصوص، وبدأ هذا الانحطاط عندما جعلت انتصارات السلطان سليم منها ولاية من الدولة العثمانية، فقد أخذت الفنون والعلوم والصناعات تنطفئ فيها شيئا فشيئا.
وكان يدير مصر في العهد العثماني ولاة متقلبون غير مفكرين في غير الاغتناء بسرعة، ولم تلبث مصر أن وقعت في ضنك العيش كبقية الولايات العثمانية التابعة للآستانة، وزال رونقها القديم عنها ، وصارت لا تقام فيها عمارة جديدة، وأضحت مبانيها القديمة مهملة، ولم يبق منها غير ما سمح به الدهر.
شكل 1-3: درقة قديمة لأحد ملوك غرناطة (من صورة فوتوغرافية).
ولا أحد يجهل ما آلت إليه الولايات العثمانية في الوقت الحاضر، ومن العبث أن نفيض في بيان أمرها، وإنما نقول، ملخصين لما قدرت به بإنصاف: إنها ليست خيرا من أية بلاد عاطلة من الإدارة، فطرقها مهملة، ومناجمها وغاباتها وثروتها الزراعية معطلة، وقطع السبل فيها من الأمور الشاملة لأبواب مدنها الكبيرة كإزمير مثلا، ولا تخلو بحارها، ومنها بحر مرمرة والبسفور، من القراصنة.
ولا يستنتج القارئ مما تقدم أن أهل تركية أحط من سكان أوربة، فتركية تشتمل، بالحقيقة، على ذلك التضاد الغريب الذي أعجب من أنني لم أره في مكان آخر، أي أنها ذات سكان لهم صفات من الطراز الأول مع أن طبقاتها القائدة أدنى من هؤلاء السكان بمراحل خلافا لما في الغرب، وأن فلاحي الترك وعمالهم زهاد صابرون على الأعمال أوفياء لأسرهم، ذوو نشاط محتملون لجور حكومة فاسدة احتمالا فلسفيا، ويرجح الجندي التركي الموت في مكانه على الهزيمة، وهو لا يقبض راتبا، وهو لا يلبس سوى الثياب الرثة، ويتألف طعامه من الخبز والماء، وقد قال لي أحد القادة الحربيين، الذين رأوا جنود الترك عن كثب: إنك لا تجد في أوربة جيشا يستطيع العيش يوما واحدا في مثل تلك الأحوال، وقد يكون الترك خير جنود أوربة مع أنهم أسوأ الجنود قيادة.
وينطبق هذا القول على الترك حصرا، لا على جميع سكان الولايات الآسيوية التي يحكم فيها الترك، وذلك أنه يرى، في الغالب، في مدن تلك الولايات، على الخصوص، مزيج فاسد من مختلف العروق يعد حثالة من جميع الفاتحين الذين جاسوا خلالها منذ قرون كثيرة فزاده النظام العثماني فسادا، ولا ننكر وجود بعض المزايا في هذا المزيج الفاسد، ولكن مع القول بانحطاط مستواه الخلقي وشجاعته.
واليوم، لا ترى في هذا الشرق الفاسد سوى سلطان أجمع الناس على احترامه، وقد سمعت اسمه يرن في كل مكان يقع بين سواحل مراكش وصحراء جزيرة العرب، وبين شواطئ البسفور ورمال أثيوبية، في الآستانة تحت قبة أياصوفية، وفي القدس على ذروة التل التي كان قائما عليها هيكل سليمان، وتحت قباب كنيسة القبر المقدس (القيامة) الدكن، وفي مصر من الأهرام إلى خرائب طيبة ذات مائة الباب، وفي كل زاوية يأوى إليها السائح، ذلك الاسم الذي يرن راجيا متوسلا هالكا مبعوثا بلا انقطاع إلى أن يغشى عليه بين جلبة سخرية أو عويل، ذلك الاسم الذي ينطق به بلهجة الوعد أو الوعيد مع إمكان رنينه كالأمل، ذلك الاسم الذي يبدو تميمة قادرة تغني عن الخطب الطويلة، ويصبح الإنسان بها سيدا في الشرق، ذلك الاسم الذي يكفي ترديده على وجه ما لتنفرج أسرة الوجوه ويسجد الندماء ولتفتر ثغور النساء عن ابتسامات تأخذ بمجامع القلوب، ذلك الاسم الساحر الذي يسهل أن ينال به ما لا يقدر أمير المؤمنين على منحه، والذي استطاع قائد أوربي أن ينتصر به في إحدى المعارك عند النطق به منذ وقت قريب، وأن يصبح سيد دولة الفراعنة التي تطلب فتحها قبل مدة عبقرية ناپليون الحربية، ذلك الاسم اللاهوتي المسيطر الذي له من القدرة ما ليس لله ولرسوله محمد، والذي يحترم ويبجل في كل ناحية من تركية، ذلك هو البخشيش.
ورثة العرب الأخيرون في مصر: ليست مصر تابعة لسلطان الترك في الوقت الحاضر، وقد وقعت بين يدي إنكلترة القوية التجارية، ويمكن من اطلعوا على البؤس الشديد الذي شمل بلاد الهند منذ سيطرة الإنكليز عليها أن يبصروا المصير الذي ينتظر مصر السيئة الحظ، ومما ذكرته في فصل سابق مقدار الضنك الذي أصاب فلاحي مصر منذ سنين بفعل مضاربين من الأوربيين،
3
ولكن هذا الضنك يعد أمرا ذهبيا عند مقايسته بما ينتظرهم، فسيرون أنفسهم محاطين، كالهنود، بطرق منظمة مخيفة هادئة ساحقة عاصرة ممتصة لا تبقي ولا تذر.
ويظهر أن مصير المباني العربية القديمة التي لا تزال قائمة في القاهرة، سيكون كمصير أمثالها في بلاد الهند، أي أن تزول بسرعة، وأن تحل محلها ثكن للجيش أو ما يماثلها، وها هي ذي الأعمال التي هي من هذا القبيل تسير سيرا يدل على أنها لا تطول في عهد السادة الجدد، وعلى القارئ أن يطالع مقالات مسيو دو رونه (المرافق لبعثة الآثار في القاهرة) الممتعة ليطلع على أعمال التخريب التي تقترف في الوقت الحاضر اقترافا لا يصدقه العقل، وليعلم أن أنفس الآثار التي لا تقلد تهدم بحجة فتح الشوارع وبناء الثكن.
4 (3) ورثة العرب في الهند
المغول هم ورثة العرب الأول في الهند، والمغول قد ورثوا من حضارة العرب، وهم، وإن لم يقدروا على إنماء هذه الحضارة، استطاعوا أن ينتفعوا بها على الأقل، فتمتعت بلاد الهند الواسعة في أيامهم بالرخاء والغنى.
شكل 1-4: مدق باب كتدرائية طركونة (طراز إسپاني عربي).
والإنكليز هم ورثة المغول في الهند، والإنكليز قد مدنوها، أي أنشأوا فيها الطرق والخطوط الحديدية التي يسهل عليهم أن يستغلوها بها، ولكنه نجم عن هذه الحضارة الجديدة أن غرقت بلاد الهند في بحر من البؤس لم تر بقعة من بقاع الدنيا مثله.
والإنكليز عمليون على خلاف الإسپان الذين طردوا العرب، فهم بدلا من أن يفكروا في إجلاء الهنود رأوا من الحكمة أن يستغلوهم بانتظام، ونحن، إذا ما نظرنا إلى الأمر من الناحية التجارية فرأينا بضعة آلاف من التجار يسوقون مئات الملايين من البشر إلى العمل في سبيلهم بأساليب أشد من الاسترقاق ألف مرة، لم يسعنا إلا الإعجاب بهم، ويكون حكمنا غير ذلك إذا ما بحثنا في الأمر من الناحية الإنسانية.
شكل 1-5: الميدان الملكي في أصبهان (من تصوير كوست).
نشأ عن طريقة الإنكليز الاستعمارية الدقيقة اغتناء الجزر البريطانية اغتناء لا حد له، وفقر أولئك الهنود المسخرين المساكين فقرا مطلقا تقريبا، فقال مسيو غرانديديه، مبينا نظام نزع الملكية لعدم دفع الضرائب النافع، وذلك بعد أن ذكر أن طبقة الفلاحين التي كانت في عهد الملوك المحليين تؤدي سدس المحاصيل الزراعية ضرائب صارت تؤدي نصفها في عهد الإنكليز: «إن هذا النظام أنزل طبقة الزراع إلى الدرك الأسفل من الانحطاط.»
وحديثا درس أحد كتاب الإنكليز، مستر هندمان ، حالة الهند في العهد الإنكليزي؛ فأثبت أن إنكلترة تغرق الهنود بالضرائب فلا يبقى لهم غير الموت جوعا، وأنها تخرب جميع مصانعهم؛ لكي تتمكن السلع الإنكليزية من إيجاد أسواق لها عندهم، ثم قال: «إننا نسير إلى مصيبة لا مثيل لها في تاريخ العالم.»
وقد يكون التشاؤم لحمة هذه النبوءة، ولكن صدقها يظهر عندما نعلم أن في ولاية مدراس وحدها ستة عشر مليون فقير كما جاء في الإحصاءات الرسمية، وأن السكان البائسين مكلفون في كل سنة بإنفاق أربعمائة مليون على الجيش وخمسين مليونا على الإدارة، فضلا عن إرسال ما تعدل قيمته خمسمائة مليون إلى إنكلترة.
5 (4) شأن الأوربيين في الشرق: سبب إخفاقهم
درسنا ما كان للشرق من التأثير في الغرب بواسطة العرب، ولا يخلو من فائدة أن ندرس الآن تأثير الأوربيين الحاضر في الشرقيين: دلت المشاهدة على أن هذا التأثير صفر في كل وقت، وكنا نرغب عن هذا الموضوع لو لم نر من المفيد أن نبحث في أسباب رفض الشرقيين لحضارة الغرب ومعتقداته رفضا مستمرا مع اعتناقهم ما أتاهم به العرب بسهولة.
ومن الأسباب العامة في عجز الأوربيين عن حمل الأمم الأجنبية على انتحال حضارتهم هو أن الحضارة الأوربية وليدة تطور دام زمنا طويلا، وأننا لم نصل إلى درجتها الحاضرة إلا بعد أن قطعنا كثيرا من المراحل الضرورية بالتدريج، فالرغبة في إكراه أمة على قطع هذه المراحل فجأة هي من الأوهام كالرغبة في جعل الطفل كهلا قبل أن يصبح فتى.
وهذا السبب وحده لا يفسر لنا، مع ذلك، قلة تأثير حضارتنا في الشرقيين، ما وجد بين عناصر حضارتنا ما هو بسيط سهل الملاءمة لاحتياجاتهم وما رفضوه أيضا، ولذا فإن لعدم نجاحنا أسبابا أخرى.
ومن هذه الأسباب نذكر أن زيادة التعقيد في عناصر حضارتنا أسفرت عن كثرة احتياجاتنا المصنوعة، وأن هذه الاحتياجات المصنوعة المهيمنة أوجبت اضطرابا شديدا في حياة الأوربي الحديث فحملته على العمل المضني في سبيل قضائها، فكان ما نرى من كره الشرقيين لهذا الاضطراب والعمل المضني، وقد عطلوا من احتياجاتنا.
شكل 1-6: الوجهة الرئيسية لجامع السلطان أحمد بالآستانة (من صورة فوتوغرافية).
حقا إن احتياجات الشرقيين من عرب وصينيين وهندوس وغيرهم ضعيفة إلى الغاية؛ فالعربي يكتفي في لباسه بقطعة من المنسوجات، وفي طعامه بالماء وقليل من التمر، والهندوسي أو الصيني يكتفي في طعامه بحفنة من الأرز وقليل من الشاي، ولا تجد فيه كبير احتياج في أمر المأوى، وقد نشأ عن زهد الصيني وفقدان احتياجاته ونشاطه أن تقهقر أمامه العامل الذي يزعم أنه من شعب أرقى من شعبه؛ فاضطرت أمريكة وأسترالية إلى منعه من دخول بلادهما في الوقت الحاضر.
وإذا أضيف إلى ما بين الشرقيين والأوربيين من ذلك الاختلاف اختلافهما في الشعور والتفكير بدت الهوة العميقة بينهما، ولا يحسدنا الشرقيون على حضارتنا، وأقلهم حسدا لنا من يزور منهم بلادنا، ويحمل هؤلاء عند رجوعهم إلى بلادهم أسوأ الآراء فينا، معتقدين أن دخول حضارتنا بلادهم ينطوي على أعظم البلايا والفجائع، ويستدل المثقفون منهم على هذا بما صارت إليه بلاد الهند، وذلك مع الإجماع على أن الشرقيين أسعد حالا من الأوربيين، وأعظم شرفا، وأمتن أخلاقا ما ظلوا غير متصلين بهم.
ولكن إذا كان التباين الواضح بين حياة الشرقيين والأوربيين وأفكارهم ومشاعرهم كافيا لإيضاح عدم اكتراث أمم الشرق لنعم حضارتنا، فإنه لا يكفي لإيضاح رفضهم لنا وازدرائهم البين لنظمنا ومعتقداتنا وأخلاقنا.
ومن العبث أن نكتم سبب تلك المشاعر، فهي ناشئة عن مكر الأمم المتمدنة وظلمها الأمم الأخرى التي هي غير متمدنة أو التي نعدها ضعيفة الحضارة.
وسياسة الأوربيين القائلة: «إنه لا يجوز أن يمشي على الأرض فريق من الهمج» تؤدي إلى إبادة الأمم غير المتمدنة أي المتوحشة بسرعة؛ فيطارد الأوربيون سكان أمريكة الأصليين كما يطارد الصيادون الأرانب، ويزول أصحاب الجلود الحمر من أمريكة لسلب أرضي الصيد منهم وحصرهم في مناطق جديبة لا يخرجون منها بفعل الجوع إلا ليجدلوا كما يجدل البط، ويباد همج أقيانوسية، ولم يبق من أهل تسمانية الأصليين أحد.
6
شكل 1-7: جامع السلطان أحمد بالآستانة من ناحية البسفور (من صورة فوتوغرافية).
ولم تكن سياسة الأوربيين نحو الأمم الشرقية المتمدنة، كالصينيين والهنود مثلا، أحسن كثيرا من سياستهم نحو أولئك الهمج، وإذا أغضينا عن محاربتنا لهم بما ليس فيه ذرة، من الإنصاف نرى أن سلوكنا اليومي تجاههم يكفي لجعلهم شديدي العداوة لنا، وكل من يوغل في الشرق يعلم أن أحقر الأوربيين يعتقد أن كل شيء مباح له في الشرق،
7
وإذا لم يستغل الشرقي رأسا، كما يستغل في الهند بما يثقل به كاهله من الضرائب التي تنزع آخر كسرة خبز منه، فإنه يستغل بالحيل التجارية التي تتم بوقاحة دالة على ضعف الطلاء لدى رجالنا المتمدنين، ويفقد الأوربي في الشرق كل صفاته ويهبط أخلاقا إلى ما هو أدنى من مستوى الشعوب التي يستغلها، ولو حوكم التجار الأوربيون من أجل صلاتهم التجارية بالشرق على حسب قوانين بلادهم ما تفلت إلا أقلهم من أكثر العقوبات شينا.
إذن، لا يخلو من سبب ما يحمله الشرقيون من الرأي السيئ في شرفنا وأخلاقنا، وستكون قصة علاقات أوربة المتمدنة بالصين في القرن التاسع عشر من الميلاد من أسوأ صفحات تاريخ حضارتنا، وقد يدعى حفدتنا، ذات يوم، إلى التكفير عنها بثمن غال، وكيف يفكر في المستقبل في أمر حرب الأفيون الدامية التي أكره الإنكليز فيها بلاد الصين، وذلك بقوة المدافع، على إدخال هذا السم القاتل الذي أرادت حكومتها تحريمه؛ لما راعها من أخطاره، حقا إن فائدة إنكلترة من تجارة الأفيون مائة وخمسون مليونا في كل سنة، ولكن عدد الوفيات السنوية في بلاد الصين بفعل استعمال الأفيون ستمائة ألف نفس كما جاء في إحصاءات الدكتور كريستليب المعتدلة على الخصوص. وهنا نسأل: أليس من الحق أن يعلم الصينيون أبناءهم وصف الغربيين بالبرابرة بعد الذي رأوا من حرب الأفيون الطاحنة وما أسفرت عنه هذه الحرب من إباحة تجارته كرها؟ لا يكون جواب الصينيين، كما روى ذلك الدكتور، وذلك عندما يحاول مبشرو الإنكليز تنصيرهم، إلا قولهم: «ماذا؟ تسموننا للقضاء علينا ثم تأتون لتعليمنا الفضيلة!»، وليس الصيني على حق في تفكيره ذلك لا ريب، فهو لا يدرك أن الإنكليزي يحوز، بالوراثة، حكما أخلاقية شديدة خاصة لا بد له من اتباعها، وذلك بأن ينفق على المبشرين ليعدوا الآسيوي للحياة الأبدية التي يسوقه إليها بسرعة ذلك الأفيون الذي يبيعونه منه!
واستوقفت بغضاء الشرقيين للأوربيين نظر جميع السياح المتصفين بشيء من الملاحظة، وأذكر منهم السياسي الممتاز والوزير المفوض السابق، مسيو دوروشيشوار، الذي قال في كتاب نشره حديثا: «إن أول ما يراه الغريب حينما تطأ قدماه بلاد الهند هو كره الهندي لسادته»، إلى أن قال في معرض كلامه عن الصين: «إن أجراء البيض شديدو الحياء من أبناء وطنهم؛ لاضطرارهم إلى الاتصال بالبيض.»
وإن للشرقيين في سلوكنا ما يسوغ مقتهم لنا أشد المقت بما فيه الكفاية، وإنني أضع نفسي في مكانهم وأنظر إلى الأمور من وجهة نظرهم، وأضيف إلى ذلك، غير متردد، قولي: إننا لو بدونا عنوان الفضائل لهم؛ لكان من مصالحهم أن يرفضونا، وأن يحيطوا بلادهم بأسوار كالتي أحيطت بها مملكة ابن السماء، فما يصنعون بحضارة غير ملائمة لأفكارهم ومشاعرهم واحتياجاتهم جديرة ، لذلك، بأن يرفضوها؟ وما فائدتهم من ترك نظمهم الموروثة وحياتهم السعيدة القليلة الاحتياجات وانتحالهم لحياتنا المحمة ولمنازعاتنا التي لا يشفى لها غليل، ولنظام طبقاتنا الاجتماعية المتفاوتة، ولعيشنا الكريه في المصانع، ولكل ما تطلبه الحضارات الزاهية من مختلف الاحتياجات؟
وعن لليابان، أي لهذه الدولة الشرقية، أن تعتنق حضارتنا كما قيل، وأتيح لي أن أذكر ما أسفرت عند هذه التجربة من الارتباك في بلاد اليابان التي كانت سعيدة، والتي كانت «حال الواحد من سكانها تعد أفضل مائة مرة من حال العامل المعوز اللاهث التعب الذي يكسب عيشه بعناء في المصانع»، كما قال أحد الأوربيين الذين عهد إليهم في إدخال الحضارة المصنوعة إليها.
ولم ينشأ عن افتتاح العرب للشرق مثل هذه الشرور، فقد كانت الأمم التي قهروها شرقية مثلهم، وكانت مشاعرها واحتياجاتها وطرق معايشها مماثلة لما كان عندهم، ولم ينشأ عن استيلاء العرب أو المغول أو الترك على الهند وفارس ومصر العليا من التغييرات الأساسية كما ينشأ عن انتحال أهل هذه البلدان للحضارة الحديثة، ولا بد من أن تنال يد التبديل التام حياة هذه الأمم الشرقية عند اتصالها بالأوربيين، ولكن عجز الأمم الشرقية عن منافسة الأوربيين يؤدي حتما إلى مثل ما صار إليه الهندوس من البؤس الأسود والثورات الشديدة التي يولدها اليأس.
تبين مما تقدم، وذلك بدرجة الكفاية، تأثير الغرب المخرب في الشرق في الوقت الحاضر، ولا يوجد ما يسوغ به الأوربيون شرههم وطمعهم سوى المبدأ الذي لم يعرف التاريخ غيره، وهو حق الأقوى، والإيمان بهذا الحق المهيمن وحده هو الذي لا يزال قائما من بين عقائد الأجيال المسنة، ولدى الشعوب الحديثة ما يشغلها من الهموم الخطرة عن التفكير في تمدين الأمم الأخرى ما اضطرت إلى النظر في أمور عيشها قبل كل شيء، ولن يكون للأمم من الحقوق في التنازع الحاضر الذي يزيد كل يوم إلا بنسبة ما عندها من المقاتلين والمدافع، واليوم لا أمل لأحد في المحافظة على غير ما يقدر على الدفاع عنه، فإما غالب، وإما مغلوب، وإما صياد، وإما قنيصة ، وهذه هي سنة الأزمنة الحديثة، ولا قيمة لكلمة العدل والإنصاف في علاقات الأمم بعضها ببعض، ولا مؤيد لها، وهي من الألفاظ المبهمة المشابهة لاحتجاتنا المبتذلة التي يستعملها العالم بأسره فتنتهي بها رسائلنا من غير أن تخدع إنسانا.
واليوم يحدثنا الشعراء عن العصر الذهبي الذي يسود الناس فيه إخاء عام، وإنني أشك في وجود مثل هذا العصر في أي زمن كان، وهو إن وجد تلاشى إلى الأبد، ولم يرن قول برينوس «ويل للمغلوب!»، حينما هدد رومة بخرابها، أكثر مما في الساعة الحاضرة، فالإنسان قد دخل دورا من الحديد والنار لا بد من هلاك كل ضعيف فيه.
هوامش
الفصل الثاني
أسباب عظمة العرب وانحطاطهم
حال الإسلام الحاضرة (1) أسباب عظمة العرب
نختم تاريخ حضارة العرب بتلخيصنا أسباب عظمتهم وانحطاطهم في نظرة شاملة، فنقول: إن الزمن الذي ظهر فيه العرب من العوامل التمهيدية في قوتهم، وإن لعامل الزمن التمهيدي أهمية كبيرة في حياة الأفراد والأمم، وإن هناك صفات لا تبرز إلا في وقت معين، فلو ظهر نابليون في زمن لويس الرابع عشر ما استطاع أن يصير سيد أوربة، ولو ظهر محمد أيام سلطان الرومان ما قدر العرب على الخروج من جزيرتهم لا ريب، ولظل التاريخ جاهلا لهم.
ولد محمد في أحسن الأوقات، وقد رأينا أن العالم المسن كان متصدعا فيه من كل جانب، ولم يتوجب على أتباع محمد إلا أن يهزوه ليتساقط.
بيد أن القضاء على دولة لا يكفي لإقامة حضارة، ويدل عجز البرابرة الذين ورثوا حضارة الرومان في الغرب، كما ورثها العرب في الشرق، على ما في إقامة الحضارات من المصاعب، وإذا كان ذلك العامل التمهيدي مساعدا على إنشاء دولة جديدة وحضارة جديدة فلا بد من عوامل أساسية أخرى لإقامتهما مما نعينه الآن.
وتأثير العرق من أهم تلك العوامل التي نذكرها:
رأينا أن من أهم خصائص العرق أن يتصف أفراده - على الخصوص - بمشاعر وقابليات متماثلة، وأن يوجهوا جهودهم نحو غرض واحد، وهذه المشاعر المتماثلة التي تكونت بتعاقب الوراثة، أي التي تتألف الأخلاق القومية من مجموعها، هي تراث ماض ساعد أجدادنا على تكوينه، فنساعد على تكوينه أيضا من أجل ذرياتنا، وهذه المشاعر، وإن كانت تختلف بين شعب وشعب لا تختلف إلا قليلا في الشعب الواحد.
ولا ريب في وجود أثر لكل جيل فيما هو أساسي من الأخلاق القومية، ولكن هذا الأثر ضعيف، ولا بد من مرور عدة قرون حتى يبدو الطور الناشئ عن الآثار الموروثة المتراكمة بالتدريج واضحا، وعلى ما تؤدي إليه التربية والبيئة والأحوال من التطور السريع لا يكون هذا التطور إلا مؤقتا.
والواقع أن صفات العرق الخلقية والعقلية ثابتة ثبات صفات الأنواع الجثمانية، واليوم نعلم أن هذه الصفات تتحول مع الزمن أيضا، وإن عدها علماء التاريخ الطبيعي سابقا لا تتبدل مطلقا.
شكل 2-1: بائع خبز جائل في القدس (من صورة فوتوغرافية).
وقد حاولت أن أثبت في كتاب آخر أن الأخلاق التي تتألف من تجمع المشاعر اللاشعوري، لا الذكاء، هي التي تسيرنا، ولذا يجب على من يرغب في الوقوف على شأن الأفراد والأقوام في التاريخ أن يبدأ بالبحث في أخلاقهم ، وقول يوليوس قيصر في أجدادنا: «إنهم محبون للثورات، موقدون للحروب بلا سبب، غير صبر على نوائب الدهر» مما يساعد على تفسير حوادث ماضينا.
ومن السهل أن نستعين بحوادث التاريخ فنثبت أن نتائج الأخلاق تختلف باختلاف الأحوال، وأن المزايا والنقائص التي كانت سببا في عظمة أمة في زمن معين قد تكون سبب انحطاطها في زمن آخر، كما هو أمر العرب، ويدل إنعام النظر على صدور مختلف النتائج عن علل واحدة، ومن ذلك أنه يظهر، أول وهلة، وجود هوة اجتماعية بين الإغريقي في عصر پركليس وبينه في العصر البزنطي مع أن الأحوال، لا الجوهر الخلقي، هي التي تغيرت في هذين العصرين، أي أن رقة الإغريقي ودقته الفلسفية وجمال لغته انقلبت إلى خداع وبحث كلامي وثرثرة بزنطية بفعل البيئة وبتبدل الزمن، وقد يخيل إلى الناظر أن رجال محاكم التفتيش في القرون الوسطى يختلفون بإيمانهم المتقد ومحافظتهم الغريزية الشديدة عن اليعاقبة المعاصرين المتصفين بالزندقة المتطرفة والغرائز الثورية، مع أن قليل تأمل يدل على أن هذين الفريقين متشابهان، وأن أسماء المعتقدات وحدها هي التي تغيرت.
وينضم إلى عناصر الخلق القومي الأساسية الثابتة ثبات الفقر في ذوات الفقرات عناصر ثانوية تختلف كاختلاف الطول وشكل الجسم واللون في ذوات الفقرات أيضا، وهذه العناصر الثانوية هي ما يصح أن يقال معها: إن الأذواق والأفكار تتغير بتغير الأزمان، ولكن تغيرات كهذه لا تؤثر في عناصر الخلق الجوهرية، ويمكن تشبيه هذه العناصر الجوهرية بالصخرة التي تلتطم عليها الأمواج من غير أن تزحزحها، ويمكن تشبيه تلك التغيرات بما تضعه الأمواج من الرمل والصدف والنبات على هذه الصخرة؛ لتعود فتأخذه منها بسرعة.
شكل 2-2: عرب من جوار أسوان (مصر العليا، من صورة فوتوغرافية التقطها المؤلف).
ومما تقدم يعلم القارئ أن البحث التاريخي يجب أن يستند على دراسة عناصر الخلق القومي الأساسية ليفرق بين الأمم، وقد وصفنا - بما فيه الكفاية - عناصر الخلق العربي، ولا فائدة من الرجوع إليها مرة أخرى، ونحن إذا تركنا جانبا ما قلناه عن ذكاء العرب وحماستهم واستعدادهم الفني والأدبي ... وما إلى ذلك من الصفات التي لولا وجودها فيهم ما استطاعوا أن يصلوا إلى درجة الحضارة، فإننا نذكر صفاتهم الحربية المتأصلة التي يمكن اتخاذها مثالا بارزا على قولنا: إنه ينشأ عن القابليات الواحدة نتائج تختلف باختلاف الأحوال.
ولم تكن جزيرة العرب، قبل ظهور محمد، سوى ميدان حرب دائم واسع؛ لما تأصل في العرب من الطبائع الحربية، ولما جاء الإسلام وألف بين قلوب العرب وجهوا جميع قواتهم إلى البلاد الأجنبية، وكانت طبائعهم الحربية من أسباب انتصاراتهم، ولما خلا الميدان من أعداء يحاربونهم صوبوا أسلحتهم نحو أنفسهم بفعل صفاتهم الحربية المتأصلة، وبدت هذه الصفات، التي كانت سر عظمتهم، سبب انحطاطهم.
ولكن قولنا: إنه ينشأ عن العنصر الخلقي الواحد نتائج مختلفة باختلاف الأحوال لا يكفي وحده لإيضاح تطور أمة؛ فهنالك أحوال وعوامل أخرى كثيرة لها تأثير عظيم أيضا.
ونذكر على رأس هذه العوامل التي ندرسها ذلك العامل الذي توحدت بفضله جميع القبائل العربية المنقسمة، وهو الدين الذي أنشأه محمد، فقد منح هذا الدين ما كانت تحتاج إليه أمم من المثل الأعلى المشترك الذي اكتسبوا به من الحمية ما استعدوا به للتضحية بأنفسهم في سبيله.
وقد أتيح لي أن أذكر غير مرة أن عبادة أي مثل عال من أقوى العوامل في تطور المجتمعات البشرية، ويكفي أن يكون المثل الأعلى قويا؛ ليمنح الأمة مشاعر مشتركة وآمالا مشتركة وإيمانا متينا يندفع به كل واحد من أبنائها في التضحية بنفسه في سبيل نصره، وكانت عظمة رومة مثل الرومان الأعلى، وكان نيل حياة أخرى يجتنى منها أطايب النعم مثل النصارى الأعلى، وتخيل الرجل العصري آلهة جددا يقيم لهم تماثيل مع أنهم وهميون كقدماء الآلهة لا ريب، وذلك مع كفاية تأثيرهم الطيب لوقاية مجتمعاتنا القديمة من الزوال حينا من الزمن، وليس التاريخ سوى رواية للحوادث التي قام بها الناس انتصارا لمثل عال، ولولا تأثير المثل العليا ما تمدن الإنسان، ولظل في دور الهمجية، ويبدأ دور انحطاط الأمة حينما تعود عاطلة من مثل عال محترم يستعد كل واحد من أبنائها لوقف نفسه عليه.
شكل 2-3: فتى عربي من مصر العليا (من صورة فوتوغرافية التقطها المؤلف).
والمثل الأعلى الذي أبدعه محمد ديني محض، والدولة التي أسسها العرب هي الدولة العظمى الوحيدة التي قامت باسم دين اشتقت منه جميع نظمها السياسية والاجتماعية.
وهل يكفي هذا المثل الأعلى القوي والعوامل الأخرى التي ذكرناها لإيضاح عظمة العرب؟ كلا.
تقدمنا في الإيضاح وقلنا: إن العالم القديم كان متصدعا، وإن أمة ذات صفات حربية اتحدت بفضل معتقداتها المشتركة وصارت مستعدة لفتحه، وإنه بقي لهذه الأمة أن تستولي عليه فعلا وتحفظه.
ورأينا كيف تمت فتوح العرب، وكيف أنهم لم تفل عزائمهم ثانية، وأنهم تعلموا من غالبيهم ما كانوا يجهلون من فنون الحرب بعد أن خرجوا من جزيرتهم وغلبهم الوارثون الأخيرون للسلطان الإغريقي الروماني، فلما تساووا هم والروم في الأساليب الحربية لم يبق شك في تمام النصر لهم؛ لاستعداد كل جندي عربي لبذل نفسه في سبيل دينه، ولتواري كل إخلاص وحماسة وإيمان في جيش الروم منذ زمن طويل.
وكان يمكن أن تعمي فتوح العرب الأولى أبصارهم، وأن يقترفوا من المظالم ما يقترفه الفاتحون عادة، ويسيئوا معاملة المغلوبين، ويكرهوهم على اعتناق دينهم الذي كانوا يرغبون في نشره في العالم، ولو فعلوا هذا لتألبت عليهم جميع الأمم التي كانت غير خاضعة لهم بعد، ولأصابهم مثل ما أصاب الصليبيين عندما دخلوا بلاد سورية مؤخرا، ولكن العرب اجتنبوا ذلك، فقد أدرك الخلفاء السابقون الذين كان عندهم من العبقرية السياسية ما ندر وجوده في دعاة الديانات الجديدة، أن النظم والأديان ليست مما يفرض قسرا، فعاملوا، كما رأينا، أهل سورية ومصر وإسپانية وكل قطر استولوا عليه بلطف عظيم تاركين لهم قوانينهم ومعتقداتهم غير فارضين عليهم سوى جزية زهيدة، في الغالب، إذا ما قيست بما كانوا يدفعونه سابقا، في مقابل حفظ الأمن بينهم، فالحق أن الأمم لم تعرف فاتحين متسامحين مثل العرب ولا دينا مثل دينهم.
وما جهله المؤرخون من حلم العرب الفاتحين وتسامحهم كان من الأسباب السريعة في اتساع فتوحهم، وفي سهولة اعتناق كثير من الأمم لدينهم ونظمهم، ولغتهم التي رسخت، وقاومت جميع الغارات، وبقيت قائمة حتى بعد تواري سلطان العرب عن مسرح العالم، ونعد من الواضح خاصة أمر مصر التي لم يوفق فاتحوها من الفرس والأغارقة والرومان أن يقلبوا الحضارة الفرعونية القديمة فيها وأن يقيموا حضارتهم مقامها.
وهنالك أسباب أخر غير تسامح العرب وحلمهم ساعدت على انتشار دينهم ونظمهم المشتقة منه، وذلك أن هذه النظم كانت من البساطة، في الحقيقة، ما لاءمت معه احتياجات طبقات الأهلين الوسطى البسيطة أيضا، وإذا حدث اتفاقا، أن كانت هذه النظم غير ملائمة لهذه الاحتياجات عدلها العرب كما تقضي به الضرورة، وبهذا نفسر السر في اختلاف نظم المسلمين في بلاد الهند وفارس وجزيرة العرب وإفريقية ومصر اختلافا كبيرا في بعض الأحيان مع أن القرآن واحد.
والآن انتهينا إلى الزمن الذي أتم العرب فيه فتحهم للعالم، ولكن بحثنا لما يتم، وذلك أن دور الفتح لم يكن سوى وجه واحد من وجوه تاريخ أشياع النبي، وأن العرب أبدعوا حضارة جديدة بعد أن فتحوا العالم، وأن الأسباب التي ذكرناها لا تكفي لإيضاح هذا الإبداع، فلا بد، إذن، من وجود عوامل أخرى.
وجد عاملان قاطعان في إبداع حضارة العرب، وهما بيئة العرب الجديدة وقابليات ذكائهم.
والبيئة مما وصفنا آنفا، ولم يلبث العرب بعد خروجهم من صحارى جزيرتهم أن وجدوا أنفسهم أمام ما بهرهم من آثار الحضارة الإغريقية اللاتينية، وأن أدركوا تفوقها الثقافي كما كانوا قد أدركوا تفوقها الحربي، فجدوا ليكونوا على مستواها من فورهم.
ويتطلب استمراء حضارة راقية ذكاء مثقفا، وأثبتت الجهود الخائبة التي حاول البرابرة قرونا كثيرة أن يدركوا بها معنى ما بقي من الحضارة اللاتينية صعوبة ذلك، ولم يكن العرب من البرابرة لحسن الحظ، ونحن، وإن كنا نجهل حضارتهم قبل ظهور محمد بزمن طويل، أي حين كانوا ذوي صلات تجارية ببقية العالم، أثبتنا أنهم كانوا ذوي ثقافة أدبية رفيعة أيام هذا النبي.
والحق أن الرجل الأديب المثقف يجهل أمورا كثيرة، وإنما يتعلمها بسهولة لما فيه من الاستعداد الذهني، وقد أظهر العرب في دراسة العالم الجديد في أعينهم، من الحماسة كالاستعداد الذي أبدوا لفتحه.
ولم يتقيد العرب في دراسة الحضارة التي واجهتهم فجأة بمثل التقاليد التي أثقلت كاهل البزنطيين منذ زمن طويل، فكانت هذه الحرية من أسباب تقدمهم السريع، فالذي يحدث في حياة الأمم، في الغالب، هو أن تأثير الماضي يعبد الناس لنير التقاليد المسنة بعد نفعه لهم، ويمنعهم من كل تقدم.
ولم يلبث أن تجلى استقلال العرب الروحي الطبيعي وخيالهم وقوة إبداعهم في مبتكراتهم الحديثة، وقد رأينا أنه لم يمض غير وقت قصير حتى طبعوا على فن العمارة وسائر الفنون، ثم على مباحثهم العلمية، طابعهم الخاص الذي يبدو في آثارهم أول وهلة، وأنهم لم يبالوا بفلسفة اليونان النظرية لملاءمتها القليلة لمزاجهم النفسي، وأن همهم كان مصروفا إلى الفنون والعلوم والآداب على الخصوص، فوصفنا بدرجة الكفاية ما ابتكروه في هذه الفروع الكثيرة.
تلك هي أسباب عظمة العرب السياسية، ولنبحث الآن في أسباب انحطاطهم. (2) أسباب انحطاط العرب
يمكن الاستناد إلى كثير من العوامل التي ذكرنا أنها من أسباب عظمة العرب في بيان انحطاطهم، ويكفي أن ننظر إلى عامل الزمن المهم؛ لنعلم أنه ينشأ عن أنفع صفات الأفراد والأمم في أحد الأزمنة أسوأ النتائج في زمن آخر، وأن الاستعداد الخلقي أو الذهني الذي يكون عامل نجاح في أحد الأوقات حتما يكون عامل حبوط وإخفاق في وقت ثان.
شكل 2-4: تاجر تونسي (من صورة فوتوغرافية).
ولقد بينت سابقا كيف أن غرائز العرب في الحرب والخصام، التي كانت نافعة في دور فتوحهم، لم تلبث أن أصبحت ضارة بعد انقضائه وخلو الميدان من أعداء يحاربونهم، وذلك أن العرب، بعد أن تمت فتوحهم، أخذ ميلهم المتأصل إلى الانقسام يبدو، وصارت دولتهم تتجزأ حتى سقطت، وذلك كما حدث لهم في إسپانية وصقلية اللتين أضاعوهما بفعل انقساماتهم الداخلية على الخصوص، واللتين أجلاهم النصارى عنهما بسبب تنافسهم الدائم فيهما.
ويمكن عد نظم العرب السياسية والاجتماعية، التي ذكرنا أنها من أسباب تقدمهم السريع، من عوامل انحطاطهم أيضا، وبيان ذلك: أن العرب لم يقدروا على فتح العالم إلا حينما خضعوا للشريعة الجديدة التي جاء بها محمد، وجمعوا كلمتهم المتفرقة تحت لوائها، وهي التي كان يمكنها وحدها أن تجمع القوى المبعثرة في جزيرة العرب، وقد بقي نير هذه الشريعة الحازم طيبا ما بقيت نظم النبي ملائمة لاحتياجات أمته، فلما أصبح تعديل هذه النظم ضربة لازب، بسبب مبتكرات حضارة العرب، كان نير التقاليد من الثقل بحيث لا يمكن زحزحته.
وعادت نظم القرآن، التي كانت عنوان احتياجات العرب في زمن محمد، لا تكون هكذا بعد بضعة قرون، والقرآن، إذ كان دستورا دينيا ومدنيا وسياسيا في آن واحد، وكان لا يتبدل بسبب مصدره الإلهي، تعذر تعديل أحكامه الأساسية.
وتجلت نتائج الاختلاف - على الخصوص - بعد أن أخذ نجم سلطان العرب يأفل، وصار يتكرر رد الفعل الديني الذي أصبح يهدف باسم تجديد الإسلام، إلى وقوف الإسلام عند ظاهر آي القرآن، مع أن المسلمين في عصور خلفاء بغداد وقرطبة الزاهرة كانوا يعرفون جيدا أن يعدلوا تعاليمهم وفق ما تقتضيه احتياجات الأمم التي رضيت بها.
وتجلى محذور عدم القدرة على التعديل الكبير - على الخصوص - في نظم العرب السياسية التي تقضي بأن يقبض على زمام الدولة ولي أمر واحد يجمع في يده جميع السلطات العسكرية والدينية والمدنية، فهذه النظم، وإن كانت وحدها تساعد على تأسيس دولة عظيمة بسهولة، تعد أقل النظم صلاحا لبقائها، والدول الكبرى المطلقة التي تكون جميع السلطات فيها قبضة رجل واحد، وإن كانت ذات قدرة عظيمة على الفتح، لا ترتقي إلا إذا كان على رأسها رجال عظماء، فإذا افتقدتهم تداعى كل شيء دفعة واحدة.
ومن نتائج سوء نظام العرب السياسي: ما أصيبت به دولتهم من الانقسام، أي لم يعتم ولاة الأقطار، الذين كان ينصبهم الخلفاء ليديروا شؤونها، والذين كانوا يتمتعون فيها بمثل ما يتمتع به الخلفاء من السلطات العسكرية والدينية والمدنية، أن أرادوا الاستقلال بها، وقد سهل عليهم هذا الاستقلال؛ لما لم يروا من سلطان يساوي سلطانهم، وقد نشأ عن نجاح بعضهم إغراء الآخرين، فلم تلبث أهم ولايات الدولة أن تحولت بهذا إلى دويلات مستقلة.
وكان لهذا الانقسام نتائج ضارة ونتائج نافعة، فأما نتائجه الضارة: فهي أنه أضعف سلطان العرب الحربي، وأما نتائجه النافعة فهي: أنه مهد السبيل لتقدم الحضارة، والحق أن مصر والأندلس ما كانتا لتبلغا ما وصلتا إليه من الرقي والرخاء لو لم تنفصلا عن الدولة الكبرى، وأنه ما كان ليتفق لهما، في حالة بقائهما من أجزاء تلك الدولة، غير مصير الولايات العثمانية التي يعزل ولاتها عزلا مستمرا فلا يصرفون همهم إلا إلى الاغتناء منها بسرعة؛ لما لا يرون لأنفسهم فوائد في تقدمها.
أجل، إن تقدم بعض تلك الدويلات المستقلة كان عظيما، ولكن عاقبتها كانت كعاقبة الدول القديمة التي استندت إلى عدد الجنود وقيمتهم في سلطانها العسكري بدلا من أن تستند بعض الاستناد إلى أداة حربية مهمة كما هو واقع الآن، والتي كانت تنهار أمام أول غارة أجنبية.
ثم إن الحضارة التي تهذب الطبائع وتثقف الذهن لا تنمي الصفات الحربية، وهي تهيئ سقوط الدول الكبرى بذلك، وذلك لأن الأمم التي يكون أبناؤها من المعوزين ترغب في تغيير حالها، وتهدد الأمم المتمدنة المتقاعسة التي تكون على شيء من الرخاء، وبهذا سقطت أكثر الحضارات القديمة، وهذا ما أصاب الرومان، وهذا ما أصاب العرب أيضا، ولو كان الترك والمغول وغيرهم من الأمم التي صرعت العرب في إبان تمدنهم قد هاجموا أتباع النبي أيام تأسيس هؤلاء لدولتهم، وتأليفهم أمة صابرة على المكاره متعودة شظف العيش غير مترفة لباءوا بالخسران.
ونذكر من أسباب انحطاط العرب أيضا: اختلاف العروق التي خضعت لسلطانهم، ويتجلى تأثير هذا السبب على وجهين مختلفين مشؤومين: الأول؛ ما أسفر عن تقابل مختلف العروق من التحاك، وما يجر إليه هذا التحاك من تنافسها. والثاني؛ ما أسفر عن التوالد الكثير من فساد دم الغالبين بسرعة.
وكان اختلاط مختلف الأمم في دولة واحدة عامل انحلال قوي دائما، وقد أثبت التاريخ أنه لا يمكن بقاء مختلف العروق تحت سلطان واحد إلا بمراعاة الشرطين الآتيين، وهما: أن يكون الفاتح من القوة ما يعلم كل واحد معه أن كل مقاومة له لا تجدي نفعا، وألا يتوالد الغالب والمغلوب، ومن ثم ألا يفنى الغالب فيه.
ولم يراع العرب الشرط الثاني قط، ولم يراعه الرومان في كل زمن، وقد انحط الرومان حالا حينما عدلوا عنه.
ومن أهم العوامل الكثيرة في انحلال العالم الروماني القديم؛ سهولة منح السادة القدماء جميع حقوق المواطن للبرابرة، فقد نجم عن هذا أن غصت رومة بمختلف العروق، وعطلت من سيادة الرومان، وانطفأت المشاعر التي كانت سر عظمتها سابقا، وقد كان المواطن من أهل رومة لا يتردد ثانية في التضحية بحياته في سبيلها؛ لما في عظمتها من مثل عال قادر، فما تكون قيمة مثل هذا المثل الأعلى في نفوس البرابرة؟
ومن الصعب جدا أن تنضوي إلى نظام واحد أمم مختلفة العروق وذات مصالح ومشاعر متباينة في الغالب، وهذا لا يكون إلا بالضغط الشديد على الأكثر، ومن الأدلة عليه النظام المفروض على الإيرلنديين والهندوس في الوقت الحاضر.
وما كان العرب ليلجأوا إلى مثل هذا الضغط حيال مختلف العروق التي خضعت لهم ما انتحلت ديانتهم ونظمهم بسهولة، وما ساوى الإسلام مساواة تامة بين جميع الذين اعتنقوه على اختلاف شعوبهم.
هذه هي شريعة القرآن، ولم يرغب الغالبون عنها، ولم يؤلف الغالبون والمغلوبون في بدء الأمر سوى أمة واحدة ذات معتقدات واحدة ومشاعر واحدة ومصالح واحدة، وقد ساد الوفاق جميع نواحي الدولة العربية ما ظل العرب أقوياء محترمين في كل مكان.
بيد أن منافسات هذه الشعوب كانت خامدة غير هامدة، وقد بدت حينما عاد العرب إلى ما تعودوه من الشقاق والانقسام، وصارت بلاد الإسلام ميدان خصام دائم بين أحزاب لم تترك تنازعها حتى حين كان النصارى يحاصرون آخر معقل إسلامي في الأندلس.
ونشأ عن وجود عروق كثيرة في البلاد التي دانت للإسلام نتيجة أخرى أشرنا إلى خطرها آنفا، وهي اضطرار العرب إلى الامتزاج بجميع الأمم التي كانوا يعيشون بينها، وكان يمكن العرب أن يكتسبوا بعض الأهليات من اختلاطهم بالأمم التي لم تكن دونهم كثيرا، كنصارى إسپانية مثلا، وهم إذا ما اختلطوا بعروق متأخرة كبعض الشعوب الآسيوية والبربر لم يصبهم غير الخسران، وكان التوالد في كلتا الحالين يؤدي حتما إلى تقويض الأخلاق التي يتألف من اجتماعها عرقهم، ولذا أصبحت البلاد التي كانت خاضعة لسلطانهم كإسپانية ومصر، لا تشتمل إلا على قليل من العرب بعد زوال سلطانهم السياسي عنها.
وكان عامل توالد العروق الذي أشرنا إليه يكفي وحده لتقرير انحطاط العرب، ولو لم يكونوا عرضة للمغازي ومختلف العوامل الأخرى، وذلك كما هو ثابت من أمرهم في مراكش التي نراها اليوم شبه همجية مع عدم غزو الأجنبي لها ومع مزاحمتها برخائها لبلاد الأندلس فيما مضى، والتي نجد أن تفوق البربر فيها وتوالد سكانها والزنوج أديا إلى خفض مستوى حضارتها خفضا عظيما.
وقد زعم أن المستقبل للمولدين، وقد يكون الأمر هكذا، ولكنني لا أتمناه للأمم التي ترغب في المحافظة على مستواها في العالم. (3) مقام العرب في التاريخ
ظهر مما قلناه عن حضارة العرب وأسباب عظمتهم وانحطاطهم أنه كان للعرب خصال عظيمة ومساوئ كبيرة وقابليات ذهنية عالية، وإذا كان العرب دون الرومان مرتبة في النظم السياسية والاجتماعية فهم أعلى منهم بسعة معارفهم العلمية والفنية، ويمكن القول، على العموم: إن للعرب مقاما رفيعا في التاريخ، ولنعين هذا المقام بالضبط: يتطلب تعيين قيمة الفرد أو الأمة بالضبط حيازة مقياس مدرج، ولكن مثل هذا المقياس مفقود تماما، وإن عدم وجوده يجعل أحكامنا مبنية على مشاعرنا الشخصية أكثر مما تبنى على عقلنا، وهذا يكفي لعدها موضع شك.
ولو ظفرنا بهذا المقياس النفسي، غير الموجود، لتقدير قيمة الرجال لوجب تجديده دائما، فهو إن صلح لتقدير الأفضلية في زمن لا يصلح لتقديرها في زمن آخر.
وكانت أعلى درجة في الأفضلية التي يتخيلها اليوناني هو أن يكون الأول في الألعاب الألنپية، أي المصارعة أو العدو أو الملاكمة أو ما إليها من التمارين، فإذا ما فاز فيها كان مظهرا لأعظم تكريم، أي كان اسمه ينقش على الرخام، وكان من حقوقه أن يدخل مسقط رأسه من ثغرة تفتح له في الجدار، وكان هذا التكريم سائغا، لا ريب، في زمن كان للقوة واللياقة الجثمانية شأن كبير فيه، ولكن مثل هذه الأفضلية لا يقدر اليوم في غير أسواق القرى، ولا يكاد يمنح صاحبه خبزه اليومي.
ونحن، عند مرورنا من مجرى القرون، نرى تحول مقياس الأفضلية باستمرار، أي كانت الأفضلية قائمة على القوة الجثمانية والشجاعة في القرون الوسطى أيضا، وكانت تقاس بالمعارف العلمية والفنية والأدبية في أدوار أخر، وبقوة الجدل بفصاحة حول بعض الموضوعات في أدوار غيرها، واليوم يميل الناس إلى قياس الأفضلية بما يملك من النقود، وسيكون ملوك العصر الذي سندخله عما قليل أقدر الناس على حيازة الثروات، ونرى اتصاف بني إسرائيل بدرجة من هذه القابلية لم يساوهم فيها أحد، ونبصر من خلال الكره العام الذي يحاك حولهم في كل مكان ما يدل على اضطرار الناس إلى مقاتلتهم بعنف للتخلص من سلطانهم الخطر.
شكل 2-5: مقعد مصنوع في دمشق من الخشب المرصع بالصدف (من صورة فوتوغرافية التقطها المؤلف).
ومما يستوقف نظر الباحث ما يراه، عند درس الأحوال التي تعين نجاح الأفراد أو الأمم في العالم، من ضعف شأن الذكاء وقوة أثر الإرادة والعناد وغيره من الصفات الخلقية، ولا شك في المخرج عند افتراض رجلين أو شعبين: أحدهما؛ محدود الذكاء عظيم الشجاعة ماضي العزيمة كبير الصبر مستعد للتضحية بنفسه في سبيل مثل عال، وثانيهما؛ رفيع الذكاء عاطل من القابليات التي ذكرتها؛ فالفوز يكون حليف الأقل ذكاء منهما لا ريب، وإذا ما عد الذكاء عامل نجاح فقط أمكننا أن نقول: إن ضره أكثر من نفعه عندما يكون فوق المستوى المتوسط، ويظهر مصداق هذا القول، الذي يلوح أنه غريب، عندما يتمثل المرء مصير معركة يكون أحد الشعبين فيها مؤلفا من أناس حائزين لجميع الأخلاق التي تكلمت عنها آنفا ويكون الآخر مؤلفا من الفلاسفة والمفكرين الذين لا يطمعون في عالم أفضل من العالم الحاضر، والذين يقولون ببطلان كل مثل عال، ولا يضحون بأنفسهم في سبيل أي خيال كان، والذين يبتسمون من ضعف مبادئ محمد اللاهوتية، ومع ذلك فإن العالم لم يعرف فلاسفة تشتمل مذاهبهم على جزء من السلطان المخيف للأوهام التي استطاع مؤسسو الديانات أن يبتدعوها، والمؤمن، عربيا كان أو رمانيا والله عبد أو عظمة رومة، يتم له النصر بفضل معتقداته بسهولة إذا ما ضحى بنفسه في سبيلها.
ذلك ما حدث دائما، ولا شيء يحمل على افتراض غيره، ومع أن الرومان كانوا سادة العالم لم يبدوا تفوقا ذهنيا ظاهرا في الفنون والعلوم، وكان الأغارقة أساتذة لهم في كل ما يمت إلى الفكر بصلة، ولم يحل هذا دون استعبادهم لهؤلاء الأغارقة.
ونحن، إذا لم نبال بغير الفوز، أمكننا أن نبحث عن مقياس التفوق والأفضلية في الصفات الخلقية المذكورة آنفا، ولكن مقياسا كهذا خادع أيضا؛ لعدم قيمته فيما عدا ذلك الهدف الخاص، أي فيما عدا الفوز العتيد.
والحق يقضي بألا ننظر إلى المسألة إلا من جهة الحضارة العامة، أي من الناحية الإنسانية؛ لنرى أنه يجب أن يبحث عن الأفضلية في المستوى الذهني، لا في تلك الصفات الخلقية ، أجل، ما كان نيوتن، أو ليبنتز، ليفوز في الألعاب الألنپية أو ليقاوم جنديا رومانيا ثانية واحدة، ولكن أمثاله من شباه آلهة الفكر أوجبوا في العالم تحولات كثيرة بما لاكتشافاتهم من النتائج القريبة والبعيدة أكثر مما أوجبته جميع القبائل الآسيوية التي أقامت دولا كبيرة، والمستقبل حينما يحكم في أمر الماضي بمثل هذه الحرية الفكرية التي لا عهد لنا بها اليوم سيقول، لا ريب، أن اختراع الطباعة والآلة البخارية والخطوط الحديدية والتلغراف الكهربي ... وما إليه من الاختراعات الكثيرة أحدث في طرق معايش الناس من التطورات ما لا قيمة بجانبه لما أحدثته أشهر الثورات.
ولنهمل، إذن، ضروب الفوز المادي التي تعدها الجماهير (والتاريخ في الغالب) مقاييس حقيقية لتقدير قيمة الأفراد والأمم، ولنعلن أن قيمة الأمة العقلية، ومن ثم درجتها في سلم الحضارة، تقاس بعدد من يظهر بينها من ذوي المدارك السامية، وإنما يضاف الفوز إلى التفوق العقلي عندما يوجد بجانب أعاظم رجالها القليلين جمع كاف من ذوي الذكاء العادي والثقافة المتوسطة والصفات الخلقية العالية التي ذكرناها.
ونستطيع، بعد هذا الإيضاح التمهيدي، أن نعين، بما فيه الكفاية، مكان العرب في التاريخ، فنقول: إنه ظهر من العرب رجال من الطراز العالي كما تشهد بذلك اكتشافاتهم، ولكنني لا أظن أنهم أخرجوا رجالا عظماء كأولئك العباقرة الذين ذكرتهم، والعرب كانوا دون الأغارقة في كثير من المسائل، مساوين للرومان في الذكاء لا ريب، غير حائزين، إلا لوقت قصير، ما كان سببا في دوام فوز رومة زمنا طويلا من الصفات الخلقية.
وإذا قابلنا بين العرب والأمم الأوربية، بدلا من مقارنتهم بالأمم التي غابت عن مسرح العالم، أمكننا أن نقول: إنهم أرقى من جميع أمم الغرب التي عاشت قبل عصر النهضة أخلاقا وثقافة، فلم تعرف جامعات القرون الوسطى، في قرون كثيرة، مصدرا غير مؤلفاتهم ومناهجهم، وكانت أخلاقهم أفضل من أخلاق أجدادنا بمراحل.
وكان العرب قد تواروا عن التاريخ حوالي عصر النهضة، ولا نقدر أن نقول شيئا عما يمكن أن يصلوا إليه لو لم يتواروا، ولكننا لا نعتقد، مع ذلك، أنهم كانوا يبلغون مستوى أفضل مما بلغوا؛ لما كان يسفر نقص نظمهم عنه من الموانع.
ولا تمكن المقابلة بين مختلف الأدوار، كالدور الذي غاب فيه العرب والدور الحاضر كما هو واضح، ولكننا إذا حملنا على المقابلة بين هذين الدورين قلنا: إن أكابر العرب السابقين دون أكابر الزمن الحاضر، وإن عرب الطبقات الوسطى السابقة مساوون لأبناء طبقاتنا الوسطى المتمدنة الحاضرة على الأقل، وأرقى منها في الغالب.
وما قلناه عن طبقات العرب الوسطى السابقة نقول مثله عن أكثر الشرقيين في الوقت الحاضر، أي إن طبقات العرب والصينيين والهندوس الوسطى الحاضرة ليست دون أخواتها في أوربة، وإننا نرى بين هؤلاء زراعا وعمالا ماهرين مهارة زراعنا وعمالنا على الأقل، وإن في مزاحمة الصينيين الساحقة للعمال الأنغلوسكسون في أمريكة وأوسترالية، وما نجم عنها من اتباع سياسة طردهم منهما تقريبا، دليلا قاطعا على ذلك.
والشرقيون المساوون لنا مهارة، وهم الذين لم يحط الاختصاص ذكاءهم يفوقوننا بقناعتهم وقلة احتياجاتهم وطبائعهم الموروثة، وهم لا يفتقرون إلا إلى أمر أساسي، أي إلى طبقة عالية كافية وبعض العظماء؛ ليكونوا هم والأمم الأوربية المتمدنة على قدم المساواة، ومن حظنا الحسن أن كانوا عاطلين من مثل هؤلاء، وإلا لاستطاعوا بالإضافة إلى طبقاتهم الوسطى، أن يقوموا مقامنا، وأن يقبضوا على زمام الحضارة، ولذا فإنه إذا قيض للاشتراكيين في الوقت الحاضر أن يحققوا أحلامهم في إقامة مجتمع من ذوي الذكاء المتوسط، وفي القضاء التدريجي على الأفضليات؛ فإن سيادة العالم تنتقل من فورها إلى أبناء الشرق الأقصى. (4) حال الإسلام الحاضرة
ثقلت قرون على أعفار العرب، ودخلت حضارتهم في ذمة التاريخ منذ زمن طويل، ولا نقول، مع ذلك، إنهم ماتوا تماما، فنرى الآن ديانتهم ولغتهم اللتين أدخلوهما إلى العالم أكثر انتشارا مما كانتا عليه في أنضر أدوارهم، والعربية هي اللغة العامة
1
من مراكش إلى الهند، ولا يزال الإسلام جادا في تقدمه.
ويقدر علماء الجغرافية عدد المسلمين في العالم ب 110 ملايين، ولكن هذا الرقم، الذي وضع حين كنا نجهل انتشار الإسلام في الصين وإفريقية الوسطى، أقل من الحقيقة ، واليوم يدرس القرآن، فيما عدا جزيرة العرب، في مصر وسورية وتركية وآسية الصغرى وفارس وقسم مهم من روسية وإفريقية والصين والهند، وتناول القرآن مدغشقر وإفريقية الجنوبية، وعرف في جزر الملايو، وعلمه أهل جاوة وسومطرة، وتقدم إلى غينية الجديدة، ودخل أمريكة مع زنوج إفريقية.
والسهولة العجيبة التي ينتشر بها القرآن في العالم شاملة للنظر تماما، فالمسلم أينما مر ترك خلفه دينه، وبلغ عدد أشياع النبي ملايين كثيرة في البلاد التي دخلها العرب بقصد التجارة، لا فاتحين، كبعض أجزاء الصين وإفريقية الوسطى وروسية، وتم اعتناق هذه الملايين للإسلام طوعا، لا كرها، ولم يسمع أن الضرورة قضت بإرسال جيوش مع هؤلاء التجار المبشرين العرب لمساعدتهم، ويتسع نطاق الإسلام بعد أن يقيمه هؤلاء في أي مكان كان، ولم تستأصل شأفة الإسلام بعد أن رسخ في روسية منذ عدة قرون، واليوم يقطن خمسون مليون مسلم ببلاد الهند، ولم يوفق مبشرو الپروتستان لأي تنصير في الهند مع مظاهرة حكومتها لهم، ولا نعلم بالضبط عدد المسلمين في إفريقية، ولكن الرواد المعاصرين كلما أوغلوا فيها وجدوا قبائل تبشر بالإسلام، والآن يمدن الإسلام أقوام إفريقية، حيث يكونون، مظهرا عمله الطيب في كل مكان.
ولقد أصاب مسيو ج. دوڨال حيث قال: «من فضل الإسلام زوال الأصنام والأنصاب من الدنيا، وتحريم القرابين البشرية، وأكل لحوم الإنسان، وحفظ حقوق المرأة، وتقييد مبدأ تعدد الزوجات وتنظيمه مع عدم الوصول إلى الحق المطلق، وتوطيد أواصر الأسرة وجعل الرقيق عضوا فيها، وفتح أبواب كثيرة سهلة لتحريره، وتهذيب الطبائع العامة ورفع مستواها بالصلاة والزكاة، وإيواء الغرباء، وتثقيف المشاعر بالعدل والإحسان، وتعليم أولياء الأمور أن عليهم من الواجبات ما على الرعية، وإقامة المجتمع على أسس منظمة، وإذا حدث أن وجد جور في الغالب، كما في أي مكان آخر، وجد في العدل الإلهي ما يخفف وطأته، وذلك أن في رجاء الحياة الآخرة، حيث السعادة وحسن الثواب، سندا لضحايا الدهر أو الظلم، وتلك هي بعض المحاسن التي تدل في كل مكان على انتشار الإسلام بين المجتمعات غير المتمدنة.»
ويتقدم الإسلام في الصين تقدما يقضي بالعجب، ويكتب للإسلام أسطع فوز في الصين حيث اضطر المبشرون الأوربيون إلى الاعتراف بالحبوط، وقد رأينا أن عدد أتباع محمد في الصين عشرون مليونا، وأن في مدينة پكين وحدها مائة ألف مسلم.
قال الأستاذ وازيلياف: «دخل الإسلام مملكة ابن السماء كما دخلتها البدهية (البوذية)، وسيقوم الإسلام، ومسلمو الصين لا يشكون في ذلك، مقام ديانة شاكيه مونى، وهذه المسألة على جانب عظيم من الأهمية، فإذا وقع مثل هذا الحادث واعتنقت الصين، التي تضم ثلث البشر على الأقل، دين الإسلام تغيرت علاقات العالم القديم السياسية تغيرا عظيما، وأمكن دين محمد، الذي يمتد، إذ ذاك، من جبل طارق إلى المحيط الهادي، أن يهدد النصرانية من جديد.»
لقد تم الكتاب، ولنلخصه في بضع كلمات فنقول: إن الأمم التي فاقت العرب تمدنا قليلة إلى الغاية، وإننا لا نذكر أمة، كالعرب، حققت من المبتكرات العظيمة في وقت قصير مثل ما حققوا، وإن العرب أقاموا دينا من أقوى الأديان التي سادت العالم، أقاموا دينا لا يزال تأثيره أشد حيوية مما لأي دين آخر، وإنهم أنشأوا، من الناحية السياسية، دولة من أعظم الدول التي عرفها التاريخ، وإنهم مدنوا أوربة ثقافة وأخلاقا، فالعروق التي سمت سمو العرب وهبطت هبوطهم نادرة، ولم يظهر، كالعرب، عرق يصلح أن يكون مثالا بارزا لتأثير العوامل التي تهيمن على قيام الدول وعظمتها وانحطاطها.
هوامش
المصادر
غايتنا من نشر هذا الفهرس هي أن يكون لدى القارئ جدول جميع الكتب العربية المهمة التي ترجمت إلى اللغات الأوربية، ولم نضف إليه سوى الكتب المؤلفة وفق الوثائق الأصلية كالمخطوطات والآثار ... إلخ، ولم نذكر من الكتب العربية غير المترجمة إلا التي لها أهمية خاصة كمقامات الحريري مثلا.
ويجد القارئ في هذا الفهرس إشارة إلى مؤلفين من الفرس والمغول لم يذكروا على العموم، ولكن كتبهم تفيد كثيرا في الاطلاع على تاريخ العرب في بلاد الشرق. (1) الفهارس والنشرات الدورية ... إلخ
حاجي خليفة: كشف الظنون في أسامي الكتب والفنون، نشره المستشرق فلوغل في ليبسك بين سنة 1835 وسنة 1858م مع ترجمة لاتينية له في سبعة مجلدات.
السمعاني اللبناني - المكتبة الشرقية، كتبها باللاتينية في اثني عشر مجلدا، ولم يطبع منها إلا أربعة في رومة بين سنة 1719 وسنة 1730م.
AMARI,
Biblioteca Arabo-sicula , Roma, 1880, in-8°.
CASIRI,
Bibliotheca Arabico-hispana Escurialensis , Matriti, 1760-1770, 2 Vol., In-f 8°.
DEREMBOURG,
Les manuscrits Arabes de L’Escurial, Paris , 1883, 2 Vol., in-8°.
Dozy, etc.
Catalogus codicum orientalium bibl. Ac. Lugd. Batav ., Lugd. Batavorum, 1851-1873, 5 Vol., in-8°.
DUGAT,
Histoire des Orientalistes de L’Europe , Paris, 1868-1870, 2 Vol., in-12°.
FRCEHN,
Indications bibliographiques relatives à la littérature historico-géographique des Arabes, des Persans et des Turcs, Saint-Pétersbourg , 1845, in-8°.
FLUEGEL,
Die Arabischen,
Vienne , 1865-1867, 3 Vol, in-4°.
GONZALÉS,
de autores arabes esÞanoles, Madrid , 1861, in-4°.
HERBELOT,
Bibliothèque orientale,
تجد عدة طبعات لهذا الكتاب المهم، وأحسنها ما طبع في لاهاي بين سنة 1777 وسنة 1779م في أربعة مجلدات.
HOMMELIUS,
Bibliotheca Juris rabbinica et saracenorum arabica, instructa, , Byruthi, 1762, in-8°.
HOTTINGER,
Bibliotheca orientalis, Heidelbergoe , 1658, in-4°.
ROSSI,
Dizionario storico degli autori arabi piú celebri e delle Principali loro opere , Parma, 1807, in-8°.
SCHNURRER,
Bibliotheca arabica , Halœ, 1811, in-8°.
WÜSTENFELD,
Die Geschichtschreiber der Araben und ihre Werke (XVIII XVIII vol. der Ab. der kon. ges. der Wiss. Zu GÖttingen), GÖttingen, 1882, in-4°.
ZENKER,
Bibliotheca orientalis , Leipzig, 1848-1866, 2 vol., in-8°.
وتجد أيضا إشارات إلى الكتب العربية، وترجمات للمخطوطات العربية، وللرحلات في بلاد العرب في النشرات الدورية الآتية:
Journal Asiatique , Paris, 1822-1883.
ترجمت كتب المسعودي وابن بطوطة، إلخ، في هذه المجموعة المهمة.
Journal of the Asiatic Society , Calcutta, 1837-1883.
Zeitschrift der Deutsch. Morgenländ, gesellschaft .
في هذه المجموعة كتب مهمة عن العرب.
Bulletin et Mémoires de la Société de Géographie de Paris .
يشتمل الجزء الخامس والجزء السادس من المذكرات على ترجمة لجغرافية الإدريسي.
Journal of the Royal Geographic Society , London.
تشتمل هذه المجموعة على رحلات برتن وپاللي وغيرهما في جزيرة العرب.
وتجد أيضا بيانا عن كتب العرب العلمية في آخر المطلب الذي خصصناه لها في هذا الفهرس. (2) تاريخ العرب في الأقطار المختلفة التى خضعت للإسلام
ابن عبد الحكم:
فتح الأندلس، ترجمه هاري جونس إلى الإنكليزية، وطبع بلندن سنة 1858م.
ابن الأثير:
الكامل في التاريخ، طبع بين سنة 1850 وسنة 1874م بليدن وأوبسالا في اثني عشر مجلدا بعناية المستشرق تورنبرغ.
ابن جبير :
رحلة ابن جبير، ترجم أماري القسم المختص منها بصقلية إلى الفرنسية، وطبع بباريس سنة 1846م.
ابن خلكان:
وفيات الأعيان، ترجمه إلى الإنكليزية دو سلان، ونشر في لندن بين سنة 1842 وسنة 1871م في أربعة مجلدات ضخمة، ويشتمل على تراجم مشاهير الإسلام منذ محمد إلى أواسط القرن الثالث عشر من الميلاد.
ابن خلدون:
تاريخ ابن خلدون، اشتغل دو سلان بنشر القسم المختص ببلاد المغرب والبربر منه، فنشره في الجزائر سنة 1847م في مجلدين كبيرين، وسماه كتاب الدول الإسلامية في المغرب، ثم نقل هذا القسم إلى الفرنسية، ونشره في الجزائر بين سنة 1852 وسنة 1856م في أربعة مجلدات.
ابن خلدون:
تاريخ ابن خلدون، ترجم ديفرجيه إلى الفرنسية القسم المختص منه بأخبار بني الأغلب في إفريقية وصقلية إلى حين استيلاء الفرنج عليها، وطبع بباريس سنة 1841م.
ابن القوطية:
تاريخ الأندلس، ترجمه شاربونو إلى الفرنسية، وطبع بباريس سنة 1856م.
ابن مجير الدين العليمي:
الأنس الجليل في تاريخ القدس والخليل، ترجمه سوفير إلى الفرنسية، وطبع بباريس سنة 1872م.
أبو عبيد البكري:
المسالك والممالك، ترجمه دو سلان إلى الفرنسية، وطبع بباريس سنة 1859م.
أبو الفرج الملطي:
تاريخ مختصر الدول، وهو تاريخ عام منذ بدء العالم إلى زمن المؤلف، ترجمه پوكوك إلى اللاتينية، وطبع بأوكسونية سنة 1663م، وترجمه بور إلى الألمانية، وطبع بليبسك سنة 1785م.
أبو الفداء:
المختصر في أخبار البشر، ترجمه أدلر إلى اللاتينية، وطبع بليبسك بين سنة 1789 وسنة 1794م في خمسة مجلدات.
أبو الحسن الفاسي:
الأنيس المطرب، وروض القرطاس في أخبار ملوك المغرب وتاريخ مدينة فاس، ترجمه بوميه إلى الفرنسية، وطبع بباريس سنة 1760م.
أبو الغازي بهادور:
تاريخ المغول، ترجمه دي ميزون إلى الفرنسية، وطبع ببطرسبرغ سنة 1871م في مجلدين.
أكبر:
آثار الشاه أكبر، ترجمه غلادوين من الفارسية إلى الإنكليزية، وطبع بكلكتة بين سنة 1783 وسنة 1786م في ثلاثة مجلدات، (ألف هذا الكتاب بأمر أكبر، ويشتمل على وصف حسن للهندوستان في عهد المغول)، وتجد طبعة ثانية لهذا الكتاب في مجلدين نشرت بلندن سنة 1800م.
البيروني:
الآثار الباقية عن القرون الخالية، عنى سخاو الألماني بترجمته إلى الإنكليزية، وطبع الأصل بليبسك سنة 1878م، وطبعت الترجمة بلندن سنة 1879م.
تيمور:
أنظمة تيمورلنك السياسية والحربية، وضعها بالمغولية، وترجمها لانغليس من الفارسية إلى الفرنسية، وطبعت بباريس سنة 1787م.
رشيد الدين:
تاريخ المغول، ترجمه كاترمير إلى الفرنسية.
روض القرطاس (؟):
وهو كتاب يبحث في ملوك المغرب والأندلس وأخبار مدينة فاس، نقله بوميه إلى الفرنسية، وطبعت ترجمته هذه بباريس سنة 1860م.
1
زين الدين المعبري:
تحفة المجاهدين، ترجمه رولندسن إلى الإنكليزية، وطبع بلندن سنة 1833م (وهو يشتمل على تاريخ المسلمين بالهند).
الطبري:
كتاب أخبار الرسل والملوك، ترجم البلعمي هذا الكتاب إلى الفارسية، وترجمه من ترجمة البلعمي زوتنبرغ إلى الفرنسية، وطبعت الترجمة بباريس سنة 1874م في أربعة مجلدات، وقد ترجم هذا الكتاب المشهور إلى اللاتينية وإلى التركية أيضا، وهو يشتمل على تاريخ العالم إلى سنة 302ه.
العتبي:
كتاب اليمني، ترجمه إلى الفارسية الجربادكاني، وترجمه من النسخة الفارسية إلى الإنكليزية رينولد، وطبع بلندن سنة 1858م.
عبد اللطيف البغدادي:
الإفادة والاعتبار بما في مصر من الآثار، وتجد في آخر هذا الكتاب مختارات كثيرة للمستشرقين، ترجمه دوساسي إلى الفرنسية، وطبع بباريس سنة 1810م.
غلام حسين خان:
تاريخ الإسلام في الهند في القرن الأخير، ترجمه إلى الإنكليزية بريغس، وطبع بلندن سنة 1832م في مجلد واحد.
فرشته:
تاريخ الإسلام في الهند إلى سنة 1612م، ترجمه بريغس من الفارسية إلى الإنكليزية، وطبع بلندن سنة 1829م في أربعة مجلدات.
محمد القيرواني:
تاريخ إفريقية، ترجمه ريموزه إلى الفرنسية، وطبع بباريس سنة 1845م.
المسعودي:
مروج الذهب، ترجمه باربيه دو مينار إلى اللغة الفرنسية، وطبع بباريس بين سنة 1861 وسنة 1878م في تسعة مجلدات، وهو تاريخ عام تمتد أخباره إلى القرن العاشر من الميلاد، وتجد له ترجمة إلى الإنكليزية قام بها سپرنغر، وطبعت بلندن سنة 1841م.
المقري:
نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب، نقله باسكوال دوكانيكوس إلى الإنكليزية ملخصا، وطبع بلندن بين سنة 1840 وسنة 1843م في مجلدين كبيرين.
المقريزي:
كتاب السلوك لمعرفة دول الملوك، ترجمه إلى الفرنسية كاترمير، وطبع بباريس بين سنة 1837 وسنة 1845م في مجلدين باسم «تاريخ السلاطين المماليك.»
المكين بن العميد:
المجموع المبارك (750-1150) ترجمه فاتيه إلى الفرنسية، وطبع بباريس سنة 1657م.
الواقدي:
كتاب فتوح الشام، علق عليه ليس وطبعه بكلكتة بين سنة 1855 وسنة 1862م في تسعة أجزاء.
AMARI,
Frammenti di testi arabi per servire alla storia della Sicilia musulmana , Firenze, 1855, in-8°.
Storia dei musulmani di sicilia , Firenze, 1854-1869, 4 vol., in-8°.
Biblioteca Arabo-sicula , Lipsia, 1856, 2 Vol., in-8°.
CARDONNE,
Histoire de L’Afrique et de L’Esþagne sous La domination des Mores d’après des manuscrits arabes , paris, 1765, 3 vol., in-12°.
Caussin de PERCEVAL, Essai sur l’histoire des Arabes avant l’islamisme , paris, 1845, 3 vol., in-8°.
CONDE, Historia de La dominacion de los Arabes in Esþana , Barcelone, 1844, 3 vol., in-16°.
ألف هذا الكتاب على حسب المخطوطات العربية، وترجمه مارل إلى الفرنسية في ثلاثة مجلدات، وطبعه بباريس سنة 1825م.
CHRICHTON, History of Arabia , Edimbourg, 1833, 2 vol. in-8°.
DEFERMERY,
Histoire des sultans Ghourides . Trad. française, paris, 1844, in-8°.
Histoire des khans mongols du Turkistan et de la Transoxiane , traduitc du persan, paris, 1853, in-8°.
DESVERGERS,
Arabie , paris, 1847, in-8°.
DORN,
Muhammedanische Quellen zur Geschichte der südlichen Küsftenlander des Kasþischen (Textes arabes, persans et turcs) publiés et commentés par B. Dorn, 4 vol., in-8°. Saint-pétersbourg, 1850-1858.
Dozy,
Histoire des musulmans d’Esþagne
de 711 à 1110, Leyde, 1861, 4 vol., in-8°.
ELLIOTT,
The History of India as told by its own historians . The Muhammedan period. London, 1877, 8 vol., in-8°.
FRESNEL,
Letter sur L’histoire des Arabes avant L’islamisme , paris, 1836, in-8°.
GŒJE,
Fragmenta historicum arabicorum , Lugd. Batavorum, 1869, 2 vol., in-4°.
Grangeret De LAGRANGE,
Les Arabes en Esþagne , paris, 1824, in-8°.
GREGORIO,
Rerum arab quœ ad hist siculam sþectant ampla collectio, arab. et Lat .,
HALÉVY,
Etudes sabéennes , Paris, 1875, in-8°.
HOWORTH,
History of the Mongols , London, 1880, 2 vol., in-8°.
KREMER
Culturgeschichte des Orients , Wien, 1875-1877, 2 vol., in-8°.
LEES,
History of the Caliphs ... to the year 900 of the Hijrah , Calcutta, 1857, in-8°.
MARCEL,
Histoira de L’Egypte depuis La conquête des Arabes , Paris, 1848, in-8°.
MIRCHOND,
Historia Ghaznevidarum , Berlin, 1832, in-4°.
Historia Samanidarum , Gött., 1808.
MURPHY,
The history of the Mohametan empire in Spain , London, 1816, in-4°.
OSBORN,
Islam under the Khalifs of Bagdad , London, 1878, in-8°.
Specimen historiœ arabum , Oxoniœ, 1649, in-4°.
وهو مقتطف من تاريخ أبي الفرج في منشأ العرب وطبائعهم، وطبع هذا الكتاب مجددا سنة 1806م، مضافة إليه ترجمة دو ساسي لكتاب أبي الفداء عن قدماء العرب.
LA PRIMAUDAIE,
Les Arabes en Sicile et en Italie , Paris, 1867, in-8°.
RASMUSSEN,
Historia prœcipuorum arabum regnorum ... ante islamismum , Hauniœ 1817, in-4°.
وفق ما جاء في المخطوطات العربية في كوبنهاغ.
Recueil des historiens orientaux des Croisades , publié par de Slanc et Defremery,
REINAUD,
Chroniques arabes, extraites des historiens Arabes et relatives aux guerres des Croisades , Paris, 1829, in-8°.
Invasion des Sarrasins en France, Savoie , etc., Paris, 1836, in-8° (d’après les auteurs chrétiens et musulmans).
S. DE SACY,
Mémoires sur les antiquités de La perse et sur L’histoire des Arabes avant Mahomet , Paris, in-4°.
SAUVAIRE,
Histoire de Jérusalem et d’Hebron depuis Abraham jusqu, à la fin du xve Siècle de J.-C. (traduite sur le texte arabe de Moudjir-ed-dyn)
SEDILLOT,
Histoire générale des arabes , 2e éd., Paris, 1877, 2 vol,. in-8°.
SPRUNER,
Historischen Hand atlas , Gotha, 1853, in-f°.
WAKEDI,
Geschichte der Eroberung von Mesopotamien und Armenien, Herausgegeben von Mordtmann , Hambourg, 1847, in-4°.
G. WELL,
Gesch. der Khalifen Manhein , 1846-1862, 5 vol. -
Geschichte der islam Vœlker , stuttgard, 1866, in-8°.
WHEELER,
The History of India from the earliest ages , London, 1881, 4 vol.
WUSTENFELD,
Die Chroniken der stadt Mekka , Leipzig, 1858-1859, 3 vol., in-8°. (3) ديانة العرب
أبو الفداء:
المختصر في تاريخ البشر، ترجمه أدلر إلى اللاتينية، وطبع بليبسك بين سنة 1789 وسنة 1794م في خمسة مجلدات، وترجم ديفرجه سيرة النبي من هذا التاريخ إلى الفرنسية، وطبعها بباريس سنة 1837م.
بشير الدين:
تفسير القرآن، طبع بكلكتة بين سنة 1852 وسنة 1857م في عشرة مجلدات.
التبريزي:
مشكاة المصابيح «في الحديث»، ترجمه ماتيو إلى الإنكليزية، وطبع بكلكتة سنة 1810م في مجلدين.
شريف:
قانون الإسلام (أو عادات المسلمين في الهند)، طبع بلندن سنة 1832م.
القرآن:
نقله كازيمرسكي إلى الفرنسية، وطبعت ترجمته بباريس سنة 1840م، وكانت الطبعة الأولى للقرآن بالعربية في سنة 1691م، وللقرآن ترجمات في كثير من اللغات، وأقدم هذه الترجمات هي التي قام بها بيبلياندر سنة 1543م، وأما تفاسير القرآن وتقاويمه فلا يحصيها عد.
محمد الشهرستاني:
كتاب الملل والنحل، طبعه كورتن بلندن سنة 1842م في مجلدين.
Barthélémy SAINT-HILAIRE,
Mahomet et le Coran , Paris, 1865, in-8°.
Dabry DE THIERSANT,
Le Mahométisme en Chine , paris, 1878, 2 vol., in-8°.
DOZY,
Essai sur L’Histoire de l’islamisme , trad. Chauvin, paris 1879, in-8°.
DUGAT,
Histoire des philosophes et des théologiens musulmans de 632 à 1158 de j.-c ., paris, 1878.
FLUEGEL,
Concordantiœ Corani arabicœ , Leipzig, 1842, in-4°.
GALLAND,
Recueil des rites et cérémonies du pèlerinage de La Mecque , Amsterdam, 1754, in-8°.
KREHL,
Uber die Religion der vorislamischen Araber , Leipzig, 1863. in-4°.
MAHOMET,
The original sources for the biography of Mahomet , Calcutta, 1853, in-8°.
NŒLDEKE,
Geschichte des Qorâns, Göttingen , 1860, in-8°.
SPRENGER,
Das Leben und die Lehre des Mohamed nach bisher grösstentheils unbenutzten Quellen , Berlin, 1868, in-8°.
G. DE TASSY,
Mémoire sur des particularités de la religion musulmane dans L’Inde ,
(4) الإثنوغرافية والنظم الاجتماعية والطبائع والعادات
خليل بن إسحق:
كتاب المختصر في الفقه المالكي، ترجمه سيغنت إلى الفرنسية، وطبع بقسنطينة سنة 1878م.
AVRIL,
L’Arabie contemporaine , Paris, 1868, in-8°.
BLUNT,
Bedouin tribes of the Euphrates , London, 1879, 2 vol. in-8°.
BLAU,
Arabien in Vl Jahrhundert. Eine ethnographische skizze (zeitschrift der dents . Morgenland Ges. 23° volume)
BURCKHARDT,
Travels in Arabia , London, 1829, 3 vol., in-4°.
BURTON,
pilgrimage to el Medinah and Meccah , London, 1855, 3 vol., in-12.
Du CAUROY,
Législation musulmane sunnite, rite hanefi , Paris, 1848, in-8°.
DAUMAS,
La vie arabe et la société musulmane , paris, in-8°.
DIETRICI,
Die Anthropologie der Araber in X Jahrhundert , Berlin, 1865, in-8°.
QUERRY,
Droit musulman (Législation schyite) , paris, 1871, 2,vol., in-8°.
ISAMBERT,
Itinéraire de L’Orient , 2e éd., paris, 1882, 3 vol., in-8°.
معلومات كثيرة غير صحيحة في الغالب.
KHANIKOFF,
Mémoire sur l’ethnographie de La Perse , Paris, 1866, in-4°.
NIZAM,
collection of opinions and precepts of Mahomeddan law , calcutta, 1828-1835, 6 vol., in-4°.
NIEBUHR,
Voyage en Arabie . Trad. Française, Amsterdam, 1776, 2 vol., in-4°.
Voyage dans l’Arabie Centrale , Trad. Française, paris, 1866, 2 vol., in-8°.
LE PLAY,
Les Ouvriers de l’Orient , Tours, 1867, in-8°.
Visit to the Wahabee capital of central arabia . (proc. Of the Royal Geog. Society, 1865).
Histoire de l’Arabie beureuse , paris, 1859, in-8°.
SANTAGRA et CHARBNNEAU,
Droit musulman, statut personnel et successions , paris, 1873-1874, 2 vol., in-8°.
H. SPENCER,
Descriptive Sociology , London, 8 vol., in-8°.
تحت الطبع، ويبحث مجلد من هذا الكتاب المهم في العرب.
VAMBÉRY,
sittenbilder aus dem Morgenlande , Berlin, 1876.
Vivien DE SAINT-MARTIN,
Dictionnaire de géographie , paris, in-4°.
ظهر منه مجلدان.
WALLIN,
Journey from Cairo to Mêdina (J. of Roy. Geog. Soc.) 1454.
WELLSTED,
Travels in Arabia , London, 1838, 2 vol., in-8°.
WETZTIEN,
Nord-arabien ... (Zeitschrift für allgemeine Erdkunde) , 1865.
WUESTENFELD,
Genealogische Tabellen der arabischen stamme und Familien , Göttingen, 1852, 1 vol., in-4°. (5) الآداب والفلسفة
ابن رشد:
طبعت شروحه لفلسفة أرسطو مرارا باللغة اللاتينية في البندقية على الخصوص سنة 1595م، ولخص مسيو زينان فلسفة ابن رشد في كتابه الذي سماه «ابن رشد وفلسفة ابن رشد»، وطبعه بباريس سنة 1852م.
أبو طالب:
عاصر محمدا، وترجمت آثاره غير مرة، وهي في الحكم والشعر، ونشرت ترجمة لاتينية لها مع النص العربي بأوكسوني سنة 1806م.
ألف ليلة وليلة:
طبعت رواية ألف ليلة وليلة في أكثر اللغات، ولم تكن جميع الطبعات الفرنسية غير تكرار لطبع ترجمة غالاند الناقصة، ويعد من أحسن الطبعات المعروفة ما نشره على حسب النص العربي أستاذ اللغات الشرقية في هيدلبرغ: مسيو ڨيل.
Tausend und eine nacht , stuttgart, 1872, 4 vol., in-8°.
امرؤ القيس:
نشر دوسلان ديوانه مع ترجمته بباريس سنة 1837م.
الأمثال العربية:
تجد عدة مجموعات للأمثال العربية، وإليك أهمها:
interpretatione latina et scholüs . J. Scaligeri, leidœ, 1614, in-4°:
MEIDANI, proverbium arabicorum , ed. Schrœder, Lugd. Batav., 1795, in-4°.
وقد نقل كاترمير قسما من أمثال الميداني هذه إلى الفرنسية، وطبع ما ترجمه بباريس سنة 1837م، ونقل بركهارد أمثال عوام مصر إلى الإنكليزية، وطبع ما ترجمه بلندن سنة 1830م.
LANDBERG,
dictons du peuple arabe , Leyde et Paris, 1883, in-8°, tome I
er .
جامي:
أخلاق جلالي، ترجمه ثومسن من الفارسية إلى الإنكليزية، وطبع بلندن سنة 1839م.
الحريري:
مقامات الحريري، نشرها دو ساسي بباريس سنة 1822م (ولا تجد ترجمة كاملة لهذا الأثر المهم).
الزمخشري:
نوابغ الكلم ، ترجمه مينار إلى الفرنسية، وطبعت الترجمة مع الأصل العربي بباريس سنة 1876م.
الزمخشري:
أطواق الذهب، ترجمه مينار إلى الفرنسية، وطبع بباريس سنة 1876م.
عنترة:
نقل هاملتن أشعاره إلى الإنكليزية، وطبعها بلندن في مجلدين سنة 1820م، ونقل ديفيك حماسياته إلى الفرنسية وطبعها بباريس، وتجد لقصائد عنترة ترجمة بالألمانية طبعها منيل ببتافورم سنة 1816م، وتجد أشعاره مطبوعة في ترجمات المعلقات الكثيرة إلى اللاتينية والإنكليزية والألمانية.
القزويني:
كتاب في المنطق العربي، نشره سپرنغر مع ترجمة إنكليزية بكلكتة سنة 1854م.
لقمان:
أمثال لقمان، نقلها مارسيل إلى الفرنسية، وطبعت بباريس سنة 1803م، (يوجد ترجمات كثيرة لهذا الكتاب).
المعلقات السبع:
نشر كوسان دوپرسڨال أصلها العربي، وترجمت هذه القصائد المشهورة إلى اللاتينية والإنكليزية والألمانية.
المقدسي:
الطيور والأزهار، ترجمه دوتاسي، وطبع بباريس سنة 1821م.
CARLYLE,
Specimens of arabica poetry from the earliest times , Cambridge, 1796, in-4°.
DOZY
Recherches sur l’histoire et la littérature de l’Esþagne pendant le moyen-âge , Leyde, 1860, 2 vol., in-8° (3e éd. 1881).
G. W. FREITAG,
Darstellung der arabischen Verkunst , Bône, 1831, in-8°.
Grangeret De LAGRANGE,
Anthologie arabe , Paris, 1828, in-8°.
Hammer PURGSTALL,
Literatur geschichte der araber , Vienne, 1850-1856, 7 vol., in-8°.
HUMBERT,
Anthologie arabe , Paris, 1819, in-8°.
J. JAHN,
Arabische Chrestomathie , vienne, 1802, in-8°.
MEHREN,
Die Rhetoric der Araben , Kopenhagen, 1853, in-8°.
NŒLDOKE,
Beiträge zur Kenntnis der pœsie der alten Araber , Hannover, 1864, in-8°.
SCHMOLDERS,
Essai sur les écoles philosophiques chez les arabes , Paris, 1842, in-8°.
S. DE SACY,
Chrestomathie arabe , Paris, 1826, 3 vol., in-8°.
G. WAHL,
Neue arabische anthologie , Leipzig, 1791, in-8°. (6) مؤلفات العرب العلمية
اعتمدت جامعات أوربة على ما ترجم إلى اللاتينية من مؤلفات العرب وحدهم عدة قرون، وأعيد طبع ترجمة هذه المؤلفات مرارا، ونقتصر على ذكر أهم علماء العرب وكتبهم الأساسية مع الإشارة إلى القرون التي عاشوا فيها؛ لعدم فائدة إحصائهم كلهم.
ابن رشد:
ظهر هذا الفيلسوف الشهير في القرن الثاني عشر من الميلاد، وله كتب في علم الفلك والطب، ومن كتبه في الطب كتاب الترياق الذي ترجم إلى اللاتينية، وطبع في البندقية سنة 1552م، وكتاب السموم الذي ترجم إلى اللاتينية وطبع في لوغدوني سنة 1517م، وكتاب الكليات في الطب الذي ترجم إلى اللاتينية، وطبع في البندقية سنة 1552م.
ابن زهر:
ظهر في القرن الثاني عشر من الميلاد، واشتهر بكتابه «التيسير في المداواة والتدبير» الذي ترجم إلى اللاتينية، وطبع في البندقية سنة 1490م.
ابن سينا:
ظهر في القرن العاشر من الميلاد، وهو أشهر أطباء العرب، وطبع كتابه المهم «القانون في الطب» عدة مرات، وظهرت الطبعة الأولى لكتبه في البندقية سنة 1484م، ولم ينقطع العلماء عن شرح مؤلفاته حتى القرن الأخير.
ابن البيطار:
ظهر في القرن الثاني عشر من الميلاد، وهو من أشهر علماء النبات من العرب، وترجم لوكلير كتابه «جامع مفردات الأدوية والأغذية» إلى الفرنسية، وطبع بباريس في 1877-1881م في مجلدين.
ابن العوام:
ظهر في القرن السادس من الهجرة، وهو من علماء الأندلس المشهورين في علم النبات، وترجم كليمان مولر كتابه في الفلاحة حديثا، وطبع بباريس سنة 1866م.
ابن يونس:
ظهر في القرن العاشر من الميلاد، وهو من واضعي «الزيج الحاكمي» الذي هو أهم كتاب عربي في الفلك، وترجم كوسان دوپرسڨال بعضه إلى الفرنسية، وطبع بباريس سنة 1804م.
أبو الحسن المراكشي المراكشي:
ظهر في القرن الثالث عشر من الميلاد، وله تصانيف كثيرة منها: كتاب «جامع المبادئ والغايات في علم الميقات» الذي ترجم سيديو بعضه، وطبعه سنة 1843م.
أبو الوفاء البوزجاني:
ظهر في القرن العاشر من الميلاد، وهو من أشهر علماء الفلك عند العرب، وترجم سيديو بعض الفصول من كتبه إلى الفرنسية، وطبعها بباريس سنة 1845م.
أبو القاسم:
ظهر في القرن الثاني عشر من الميلاد، وهو أشهر جراحي العرب، وترجم كتابه في الجراحة مرارا، وطبعت أحسن ترجمة لاتينية له ببال سنة 1541م.
أبو معشر البلخي:
ظهر في القرن الثامن من الميلاد، وترجم كتابه «المدخل الصغير» إلى اللاتينية، وطبع في أوغسبرغ سنة 1489م، وترجم كتابه في الأبعاد الفلكية إلى اللاتينية أيضا، وطبع في سنة 1489 وسنة 1515م.
أرطفيوس
Artephius (؟):
ظهر في القرن الحادي عشر، وكتب رسالة في السيمياء، وترجمها أرنود إلى الفرنسية سنة 1612م.
أماجور:
ظهر في القرن التاسع من الميلاد، وهو مؤلف كتاب «الزيج البديع» ومن أماجور اقتبس ابن يونس أرصاده.
أولوغ بك:
ظهر في القرن الرابع عشر من الميلاد، وهو حفيد تيمورلنك، ويعد من أشهر ممثلي مدرسة بغداد الفلكية، وترجمت أزياجه إلى اللاتينية، وطبعت في أكسفورد سنة 1665م، وترجم سيديو مقدمات هذه الأزياج إلى الفرنسية، وطبعها في باريس سنة 1847م.
البتاني:
ظهر في القرن التاسع من الميلاد، وأهم مؤلفاته كتاب «زيج الصابي» الذي ترجم عدة مرات، وطبع بنورنبرغ سنة 1537م.
ثابت بن قرة:
ظهر في القرن التاسع من الميلاد، وهو أول من طبق الجبر على الهندسة، ونشر سيديو فصولا من مؤلفاته التي تشتمل على حل هندسي للمعادلات المكعبة.
جابر بن حيان الكوفي:
ظهر في القرن الثامن من الميلاد، وهو أشهر كيماويي العرب، وتحتوى المكتبة الوطنية بباريس على ستة مخطوطات لاتينية من كتبه طبعت جميعها خلا جزء منها خاص بالمثلثات الكرية، وأشهر مؤلفاته كتاب «الاستتمام» الذي طبع سنة 1409م، وترجم إلى الفرنسية سنة 1672م، وتجد ترجمة إنكليزية لكتبه مؤرخة في سنة 1668م.
جابر الأشبيلي:
ظهر في القرن الحادى عشر من الميلاد، وترجم كتابه في الفلك إلى اللاتينية، وطبع في نورنبرغ سنة 1533م، ولا يفرقون في الغالب بين جابر هذا وجابر الكيماوي.
الحسن بن الهيثم:
ظهر في القرن الحادي عشر من الميلاد، وهو من علماء الفلك والرياضيات، وترجم فيتليو كتابه في المناظر إلى اللاتينية سنة 1270م، وترجم سيديو بعض فصول من كتابه في الأصول الهندسية.
الخوارزمي:
ظهر في القرن التاسع من الميلاد، ومن مؤلفاته كتاب الجبر والمقابلة الذي ترجمه رودلف دوبروغ إلى اللاتينية في أوائل القرن الثاني عشر من الميلاد، ثم نقله روزن إلى الإنكليزية وطبعه سنة 1831م.
الرازي:
ظهر في القرن التاسع من الميلاد، واشتهر بالطب والكيمياء، وبلغ عدد مؤلفاته 226، وأهمها كتاب «الحاوي» الذي طبع غير مرة منذ سنة 1486م، ونشر كتابه «الجدري والحصبة» سنة 1766م، وللرازي ثلاثة مخطوطات في الكيمياء.
زاديت
Zadith (؟):
ظهر في القرن الثاني عشر من الميلاد، وله كتاب في الكيمياء اسمه
Tabula Chimiœ
طبع في المسرح الكيماوي.
علي بن العباس:
ظهر في القرن العاشر من الميلاد، وترجم كتابه «الملكي» في الطب المؤلف من خمسين جزءا إلى اللاتينية، وطبع في البندقية سنة 1492م.
الفاربى
Alpharebi (؟):
ظهر في القرن الحادي عشر من الميلاد، واشتهر بأنه من علماء الكيمياء، وألفت كتبه التي أحصاها الغزيري بالعبرية، ولم تطبع حتى الآن.
الفرغاني:
ظهر في القرن التاسع من الميلاد، وهو صاحب كتاب «المدخل إلى علم هيئة الأفلاك وحركات النجوم» الذي ترجم إلى اللاتينية ثلاث مرات، والمترجم الأول له هو يوحنا الأشبيلي الذي نقله إلى اللاتينية في القرن الثاني عشر من الميلاد، وقد طبعت ترجمته الأولى بفيرار سنة 1492م، وطبعت ترجمته الأخيرة سنة 1669م .
القزويني:
ظهر في القرن الثالث عشر من الميلاد، وألف في جميع الموضوعات مع اشتهاره في الفلك والجغرافية والطبيعيات، وترجم شيري فصولا من كتابه «عجائب المخلوقات» في الفلك والجغرافية الطبيعية إلى الفرنسية، وطبعت في باريس سنة 1805م، وترجم كتابه في الفلك إلى الألمانية حديثا.
قسطنطين الإفريقي:
ظهر في القرن الحادي عشر من الميلاد، وأدخل طب العرب إلى إيطالية، وإليه يعود الفضل في شهرة مدرسة ساليرم، وألف عدة كتب نذكر منها
De morborum cognitione
ونذكر منها
De remediorum
الذي طبع غير مرة، وكانت طبعته الأولى ببال سنة 1536م.
الكرخي:
ظهر في القرن الخامس من الهجرة، وترجم واپكه كتاب «الفخري» في الجبر لهذا المؤلف، وطبعه في سنة 1853م.
الكندي:
ظهر في القرن التاسع من الميلاد، وزادت مؤلفاته على مئتين ذكرها صاحب الفهرس، ومنها رسالة في معرفة قوى الأدوية المركبة، ترجمت إلى اللاتينية وطبعت مرارا بين سنة 1531 وسنة 1603م.
محمود أفندي (باشا) الفلكي:
هو مؤلف كتاب «التقاويم العربية قبل الإسلام» الذي طبع بباريس سنة 1858م.
محمد بن موسى:
ظهر هذا الرياضي الشهير في القرن التاسع من الميلاد، وترجم كتابه في الجبر عدة مرات، ومار هو الذي قام بترجمته الأخيرة، فطبعت في روما سنة 1866م.
نصير الدين الطوسي:
ظهر في القرن الثالث عشر من الميلاد، وله تقاويم ترجم بعضها إلى اللاتينية باسم التقويم الجغرافي، وطبع في ليدن سنة 1648م، وفي لندن سنة 1652م.
ولد الزرقيال:
ظهر في القرن الحادي عشر من الميلاد، وكانت أزياجه الفلكية مع أزياج البتاني أساسا للأزياج الأذفونشية.
يوحنا بن ماسويه:
ظهر في القرن التاسع من الميلاد، وله عدة كتب في الأدوية طبعت مرارا، ونشرت كتبه المهمة باسم
Canones universales
في البندقية سنة 1471م.
وتعد تلك الكتب أهم ما ترجم إلى بعض اللغات الأوربية من مؤلفات العرب، وتفيد المؤلفات الآتية في معرفة آثارهم العلمية.
DELAMBRE,
Histoire de L’astronomie au Moyen-âge , paris, 1819, in-4°.
DORN,
Description of an arabic celestial globe , London, 1829, in-4°.
JOURDAIN,
Mémoire sur l’observatoire de Méragah (mag. encyclopédique de 1810).
LECLERC,
Histoire de la médecine arabe , Paris, 1876, 2 vol., in-8°.
FURNARI,
La Médecine arabe au IX
e
siécle , Paris, 1846, 2 vol., in-8°.
REINAUD,
L’art militaire chez les arabes du Moyen-âge , Paris, 1848, in-8°.
SÉDILLOT,
Recherches pour servir à l’histoire des sciences mathématiques chez les orientaux , Paris, 1837, in-4°.
SINOBAS,
Libros del saber de astronomia del rey Alfonso X de Castilla , Madrid, 1863.
SPRENGEL,
Histoire de la Médecine . (Hall, 1792-1803)
traduit en français par Jourdan .
WŒOPKE,
Essai d’une restitution des travaux perdus d’Apollonius sur les quantités irrationnelles, d’après un manuscrit arabe , paris, 1856, in-4°.
Recherches sur L’histoire des sciences mathématiques chez les Orientaux , Paris, 1860, in-8°.
WUESTENFELD,
Geschichte der arabischen Aerzte und Naturfórscher , Göttingen, 1840, in-8°. (7) الجغرافية والرحلات
ابن بطوطة:
تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار، وتعرف برحلة ابن بطوطة، ترجمها ديفريميري وسنكونيتي إلى الفرنسية، وطبعت بباريس بين سنة 1873 وسنة 1879م في أربعة مجلدات.
ابن الوردي:
خريدة العجائب وفريدة الغرائب في الجغرافية، ترجمها هيلنده، وطبعت بلنده سنة 1823م.
ابن خرداذبه:
كتاب المسالك والممالك، ترجمه مينار إلى الفرنسية، وطبع بباريس سنة 1865م.
ابن حوقل:
أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم، طبع بعناية دوغويه في ليدن سنة 1871م، وترجم أوزيلي ما هو خاص منه بجغرافية المشرق إلى الإنكليزية وطبع في لندن سنة 1800م، وترجم دو سلان ما هو خاص منه بإفريقية إلى الفرنسية، وطبع في باريس سنة 1842م، وترجم أماري ما هو خاص منه بوصف بلرم في القرن العاشر من الميلاد، وطبع في باريس سنة 1845م.
أبو الفداء:
تقويم البلدان، ترجمه رينو وجويار إلى الفرنسية، وطبع بباريس بين سنة 1848 وسنة 1883م في ثلاثة مجلدات، وترجم غانيه القسم الخاص منه بجزيرة العرب، وطبع بأكسفورد سنة 1740م، وترجم سولفا القسم الخاص منه بالمغرب، وطبع بالجزائر سنة 1839م.
الإدريسي:
كتاب نزهة المشتاق في اختراق الآفاق، ترجمه جوبر إلى الفرنسية، وطبع بباريس سنة 1840م في مجلدين.
الإصطخري:
كتاب مسالك الممالك، طبع بعناية دوغويه في ليدن سنة 1870م.
الإصطخري:
كتاب الأقاليم، طبع بعناية الدكتور مولر الألماني.
البكري:
كتاب المسالك والممالك، ترجم دو سلان ما هو خاص منه بإفريقية الشمالية، وطبع بباريس سنة 1859م.
القزويني:
عجائب المخلوقات، في الفلك والجغرافية الطبيعية عند العرب، ترجم إلى الألمانية، وطبع في ليبسك سنة 1868م.
المسعودي:
كتاب مروج الذهب، ترجمه باربيه دو مينار، وطبع في باريس بين سنة 1861 وسنة 1878م في تسعة مجلدات (وهذا الكتاب تاريخي جغرافي معا).
ياقوت:
معجم البلدان، طبعه فون وستنفلد في ليبسك بين سنة 1866 وسنة 1870م في أربعة مجلدات ومجلدين للفهارس والحواشي، وترجم مسيو باربيه دومينار ما هو خاص منه ببلاد فارس إلى اللغة الفرنسية، وطبعه في باريس سنة 1861م.
BABELON,
Commerce des Arabes dans le nord de L’Europe , Paris, 1882, in-8°.
FRŒHN, Ibn Fozlan,s und anderer Araber Berichte über die Russen älterer zeit, saint-pétersbourg, 1823, in-4°.
GŒJE,
Bibliotheca geographorum arabicorum . Lugd. Batavorum, 1870-1879, 4 vol.
ويشتمل المجلد الأول على كتاب الإصطخري، والمجلد الثاني على كتاب ابن حوقل، والمجلد الثالث على كتاب الإدريسي.
REINAUD,
Relations des voyages faits par les Arabes et les persans dans L’Inde et la Chine dans le IX
e
siècle de l’ère chretienne
Texte arabe et traduction, Paris, 1845, 2 vol., in-8°.
SPRENGER,
Die post und Reiserouten des Orients , Leipzig, 1864, in-8°.
STUVE,
Die Handelszüge der Araber , Berlin, 1836, in-8°.
B. DE TUDÈL.
ترجمت رحلات هذا الرحالة الشهير في أوربة وآسية وإفريقية في القرن الثاني عشر، عدة مرات؛ إلى اللغة الفرنسية على الخصوص (Amsterdam, 1743, in-8°) . (8) الآثار والنقود والفنون الجميلة
ابن خلدون:
المقدمة، وترجم كوكبر دومونبره ما هو خاص منها بفن البناء، وطبع في باريس سنة 1827م.
المقريزي:
نبذة العقود في أمور النقود، ترجمها دوساسي إلى الفرنسية، وطبعت بباريس سنة 1797م.
كتاب مباني إسپانية الأثرية
Monumentos Arquitectonicos de Esþana .
تنشر الحكومة الإسپانية هذا الكتاب المصور نشرا متتابعا، وطبعت منه سبعة أجزاء حتى الآن.
Barbier De MEYNARD,
Ibrahim ... Scènes de la vie d’artiste au III
e
siècle de l’hégire , Paris, 1869, in-8°.
BATISSIER,
Histoire de l’art monumental , Paris, 1880, 2e éd., in-8°.
BOURGOIN,
Les Arts arabes , Paris, in-4°.
Caussin DE PERCEVAL,
Notices sur Les principaux musiciens arabes des trois premiers siècles de l’hegire , Paris, in-8°.
CHRISTIANOWITSCH,
La Musique arabe aux temps anciens , Paris, 1863, in-4°.
COSTE,
L’Architecture arabe d’après Les monuments du Caire dessinés de
1818 à 1825, Paris, 1838, in-f°.
Monuments modernes de La
, Paris, 1870, in-f°.
DAVILLIERS,
Histoire de faïences hisþano-moresques , Paris, 1861, in-8°.
J. DE LA RADA Y. DELGADO,
Museo esþanol de antigüedades, Madrid , in-f°.
تحت الطبع، وقد ظهر من هذا الأثر النفيس تسعة مجلدات.
FLANDIN,
L’Orient , 3 vol., Paris, 1840, in-f°.
Girault DE PRANGEY,
Essai sur l’architecture des Arabes et des maures en Lïsþagne et en Sicile , Paris, 1842, in-4°.
GUÉRIN,
Voyage archéologique dans la province de Tunis , Paris. 1862, 2 vol., in-8°.
O. JONES,
L’Alhambra , London, 1830, 2 vol., in-f°.
The Alhambra Court in the Crystal palace erected and de scribed by O. Jones, London, 1854, in-8°.
KIESEWETTER,
Die Musik der Araber , Leipzig, 1842, in-4°.
LABORDE et LINANT,
Voyage dans L’Arabie Petrée , Paris, 1830, in-f°.
LANGLOIS,
Numismatique des Arabes avant L’islamisme , 1859, in-4°.
LONGPÉRIER,
Archéologie orientale, monuments arabes, t. 1
er , Paris, 1883, in-8° .
Marmol DE CARJAVAL,
Description générale de l’Afrique, Trad. de P. d’Alancourt ,
MURPHY,
The arabian antiquities of spain , London, 1815, in-f°.
L’Art arabe d’aprés Les monuments du caire , Paris, 1878. 3 vol., in-f°.
RAVOISIER,
Architecture, sculpture, inscription et vues de L’Algérie , in-f°.
جزء من رياد الجزائر بين سنة 1840 وسنة 1842م، وقد نشر بأمر الحكومة.
REINAUD,
Monuments du Cabinet du duc de Blacas , Paris, 1828, 2 vol., in-8°.
ROBLES,
Malaga muslumana. Illustré , Paris, 1880, in-8°.
Salvator DANIEL,
La Musique Arabe , Paris, 1863, in-8°.
SAULCY,
Numismatique des rois nobathéens de Pétra , 1874, in-8°.
SCHLUMBERGER,
Le Trésor de Sana, Etude sur les monnaies hymyaritiques , Paris, 1880, in-4°.
TEXIER,
L’Arménie, la Perse et la Mésopotamic , Paris, 1842-1852, 3 vol., in-f°.
UYFALVY,
L’Art des cuivres anciens an Cachemire. Illustrć , Paris, 1883, in-8°.
VOGUÉ,
Le Temple de Jérusalem , Paris, 1864, in-4°.
هوامش
صفحة غير معروفة