خضعت مصر لخلفاء المشرق (639م-870م)، ثم استقل ولاتها فأسسوا الدولة الطولونية (870م-905م)، ثم استرد خلفاء بني العباس سلطانهم عليها لمدة قصيرة (905م-934م)، ثم قامت فيها الدولة الأخشيدية القليلة الأهمية (934م-972م)، ثم استولى عليها الفاطميون (972م-1171م) الذين اشتملت دولتهم على شمال إفريقية وجزيرة سردينية وجزيرة صقلية وجزر البحر المتوسط وسورية فبلغت مصر في عهدهم ذروة الرقي والرخاء.
ثم أصاب خلفاء مصر مثل ما أصاب خلفاء بغداد، فقد استحوذ عليهم صنف من المرتزقة الذين عرفوا في التاريخ باسم المماليك، والذين تألف منهم حرسهم، والذين كانوا ينتسبون إلى الشعب الذي ينتسب إليه مرتزقة بغداد، ولم يتركوا لهم شيئا من السلطة الحقيقية، فلما جاءت سنة 1250م استبد المماليك بالحكم نهائيا، وقد دام سلطانهم 267 سنة.
وأقام المماليك في مصر دولتين من أصلين مختلفين، فأما الدولة الأولى: فهي دولة التركمان المماليك (1250م-1381م) التي كان قوامها أناس من الترك، كما في بغداد، أسروا في القفقاس، وفيما جاور بحر قزوين؛ فبيعوا كالأرقاء، فهؤلاء الناس هم من الملاح الأقوياء الذين لاح أنه سيتألف منهم حرس مختار للخلفاء، والذين كانوا ذوي منظر رائع بملابسهم الزاهية، وأسلحتهم الجميلة المرصعة بالأشعرة التي قلدهم بها الفرسان الصليبيون فاخترعوا علائم الشرف، والذين تقلد رؤساؤهم أعلى المناصب بالتدريج؛ لما نالوا من الحظوة فانفردوا بالملك فأقاموا دولتهم.
وأما دولة المماليك الثانية فهي الدولة المعروفة في التاريخ بدولة الشراكسة المماليك الذين لم يكونوا من ترك آسية العليا؛ بل من بلاد الشركس (1382م-1516م)، والذين طمع سلاطين دولة التركمان المماليك في قوتهم؛ ليدرأوا بهم كيد التركمان الأشرار الذين خان أسلافهم العرب فيما مضى، وقد خيب هؤلاء الشراكسة ظنهم، فاستبدوا بالحكم، وأقاموا دولتهم التي دامت إلى سنة 1516م حين قضى عليها السلطان سليم الأول، وحول مصر إلى ولاية تركية.
هنالك حانت ساعة انحطاط مصر، ثم شملها سلطان الأوربيين الحديث الخفي فلم يزدها إلا انحطاطا.
وصارت مصر ولاية تركية، ولم يلبث المماليك الذين قهروا في بدء الأمر أن عاد إليهم نفوذهم الحقيقي، وكان المماليك من أشد من حاربهم ناپليون، ولم تنج مصر منهم إلا بفضل الجبار الذكي محمد علي الذي قتلهم على بكرة أبيهم.
وكان المماليك يجمعون بانضمام أناس إليهم من الخارج، أي كان شراكسة مصر يشترون الموالي من بلاد الشركس؛ لإتمام عددهم ما دام جو مصر القتال لا يلائم تناسل الأجانب، وكان شراكسة مصر ينقادون لفريق من بكواتهم الذين ظلوا يختارون أجمل غلمان الشركس لكتائبهم. (3) حضارة العرب في مصر
استقت حضارة العرب في مصر من الينبوع الذي استقت منه حضارتهم في سورية وبغداد، وقامت حضارتهم في مصر بعناصر اقتبسوها من البزنطيين على الخصوص، ودلت مباني العرب الأولى في مصر على ذلك المصدر، ولم يلبث العرب أن تحرروا من المؤثرات الأجنبية كما تدل عليه مبانيهم التي أقيمت بعد مباني الزمن الأول.
ويتصف عصر الفاطميين، الذي بلغت حضارة العرب فيه بمصر ذروة الرقي، بنضج الفنون، وما تؤدي إليه الفنون من الصناعات، وبارت القاهرة بغداد في الفنون لا العلوم، فمدارس القاهرة لم تبلغ من الشهرة ما بلغته جامعات بغداد، وسنعود إلى هذا حينما نبحث في النواحي الثقافية من حضارة العرب التي لا نبحث في غير قسمها المادي الآن.
وزاد دخل خلفاء مصر على دخل خلفاء بغداد في نهاية الأمر، وذلك بفضل خصب أرضي مصر وصلاتها التجارية التي سنتكلم عنها في فصل آخر، وكان خلفاء مصر يقفون معظم ذلك الدخل على أمور الترف وبناء القصور، ولم تكن نفقات الإنشاء في ذلك العهد باهظة في وادي النيل ما دامت أجرة البناء اليومية في أوائل القرن الحاضر ثمانين سنتيما، وأجرة الحفار خمسة عشر سنتيما، وثمن متر حجر البناء المكعب، ومنه أجرة قلعه ونقله، فرنكا واحدا وعشرين سنتيما.
صفحة غير معروفة