وفي (باب فضل من علم وعلم) من كتاب (صحيح الإمام البخاري) حدثنا محمد بن العلاء، قال: حدثنا حماد بن أسامة، عن بريد بن عبد الله، عن أبي بردة، عن أبي موسى، عن النبي ﷺ قال: "مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير، أصاب أرضًا فكان منها نقية قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكانت منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا، وأصاب منها طائفة أخرى، إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ، فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسًا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به"١.
قال شارحه الإمام الحافظ ابن حجر العسقلاني -بعد كلام له ناقلًا عن الإمام القرطبي وغيره-: "ضرب النبي ﷺ ما جاء به من الدين مثلًا بالغيث العام الذي يأتي الناس في حال حاجتهم إليه، وكذا كان حال الناس قبل مبعثه، فكما أن الغيث يحي البلد الميت فكذا علوم الدين تحيي القلب الميت، ثم شبه السامعين له بالأرض المختلفة التي ينزل بها الغيث، فمنهم: العالم العامل المعلم؛ فهو بمنزلة الأرض الطيبة شربت فانتفعت في نفسها وأنبتت فنفعت غيرها. ومنهم: الجامع للعلم المستغرق لزمانه فيه، غير أنه لم يعمل بنوافله ولم يتفقه فيما جمع، لكنه أداه لغيره، فهو بمنزلة الأرض التي يستقر فيها الماء فينتفع الناس به، وهو المشار إليه بقوله: "نضّر الله امرأً سمع مقالتي فأداها كما سمعها" ٢. ومنهم من يسمع العلم فلا يحفظه ولا يعمل به ولا ينقله لغيره؛ فهو بمنزلة الأرض السبخة أو الملساء التي لا تقبل الماء أو تفسده على غيرها. وإنما جمع في المثل بين الطائفتين الأوليين المحمودتين لاشتراكهما في الانتفاع بهما، وأفرد الطائفة الثالثة المذمومة لعدم النفع بها والله أعلم.
قال: ثم ظهر لي أن في كل مثل طائفتين، فالأول قد أوضحناه، والثاني:
_________
١ أخرجه البخاري (٧٩) ومسلم (٤٥) .
٢ حديث صحيح، مروي عن جمع من الصحابة، وقد توسّعتُ في تخرجيه في تحقيقي لـ "شرف أصحاب الحديث" للخطيب البغدادي؛ فأنظره هناك.
1 / 31