فضل عليه ورفع فوقه؛ غص بريقه واختار الكفر على الإيمان بعد أن كان بين الملائكة.
وهذا الداء هو الذي منع اليهود من الإيمان بعيسى ابن مريم، وقد علموا علمًا لا شك فيه أنه رسول الله جاء بالبينات والهدى، فحملهم الحسد على أن اختاروا الكفر على الإيمان، وأطبقوا عليه، وهم أمة فيهم الأحبار والعلماء والزهّاد، والقضاة والملوك والأمراء، هذا وقد جاء المسيح بحكم التوراة ولم يأت بشريعة تخالفها ولم يقاتلهم وإنما أتى بتحليل بعض ما حرم عليهم تخفيفًا ورحمة وإحسانًا، وجاء مكمّلًا لشريعة التوراة، ومع هذا فاختاروا كلهم الكفر على الإيمان.
فكيف يكون حالهم مع نبيّ جاء بشريعة مستقلة ناسخة لجميع الشرائع، مبكتًا لهم بقبائحهم، ومناديًا على فضائحهم، ومخرجًا لهم من ديارهم، وقد قاتلوه وحاربوه وهو في ذلك كله ينصر عليهم ويظفر بهم، ويعلو هو وأصحابه، وهم معه دائمًا في سفاك؟ فكيف لا يملك الحسد والبغي قلوبهم؟ وأين تقع حالهم معه من حالهم مع المسيح، وقد أطبقوا على الكفر به من بعد ما تبين لهم الهدى، وهذا السبب وحده كاف في رد الحق، فكيف إذا انضاف إليه زوال الرياسات والمآكل كما تقدم؟! وقد أطنب ابن القيم الكلام، وأتى بما تعشقه الأسماع والأفهام، وله كلام مفصل يتعلق بهذا الباب ذكره في كتاب (مفتاح دار السعادة) ولعلنا نذكر منه شيئًا فيما سيأتي إن شاء الله.
والمقصود؛ أن لعدم قبول الحق والإذعان له أسبابًا كثيرة كلها موجودة في الغلاة، والغالب منها قسوة قلوبهم، كما أخبر الله تعالى عن اليهود بقوله:
﴿ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ ١.
_________
١ سورة البقرة: ٧٤.
1 / 30