النقد الأدبي
عالجنا في الفصل الأول كيف نقرأ الشعر لا كيف ننقده، ونعود فنذكرك أننا نقصد بالشعر في هذا الكتاب كل ضروب الأدب؛ قصائد الغناء والملاحم والقصص والمسرحيات، ولعلك تذكر أننا فرقنا بين قراءات ثلاث؛ قراءة الشعر قراءة فيها خلق وإبداع، نعيش فيها بخيالنا مع الشاعر في تجاربه وخوالج نفسه، وقراءة نقدية نتبين فيها مدى نجاح الشاعر وتوفيقه في رسم الصور، لنرى هل ساقها ناصعة حية ترتسم في ذهن القارئ، بمثل ما ارتسمت في ذهنه وهو ينشئ، أو كان دون هذه الغاية مقصرا عاجزا، ثم قراءة ثالثة ليست بذات خطر، نناقش فيها آراء الشاعر من حيث هي خطأ أم صواب. فأنت إذا ما فرغت من قراءة مجموعة من القصائد قراءة فنية أجرتها في دمائك وأشاعتها في نفسك، أحسست رغبة في مقارنة تلك القصائد إحداها بالأخرى لتعلم أيها أقوم، وهذه ما نسميها بالقراءة «النقدية»، وهي ما تزال - كالقراءة الفنية الأولى - تنظر إلى الشعر شعرا خالصا، وليست تعنى في كثير أو قليل بالبحث في قيمة القصيدة الخلقية والفلسفية. فسواء لديها أجاءت القصيدة حافزة على الفضيلة أو داعية إلى الرذيلة، وسواء أكانت مصيبة الرأي أم كانت في رأيها على ضلال؛ فالنقد الأدبي معني بصورة الشعر دون موضوعه. النقد الأدبي كما نفهمه - وكما نريد لقرائنا أن يفهموه - من شأنه أن يحلل وقع القصيدة في نفس قارئها، ثم يتعقب عناصر القصيدة ومقوماتها ليرى بأي هذه المقومات والعناصر أحدثت القصيدة ما أحدثته من أثر. ولهذا النقد الأدبي - أو إن شئت فقل لهذه القراءة النقدية للشعر - قيمة كبرى؛ لأنها - وقد كشفت لنا عن عوامل التأثير في القصيدة - تزيد من تقديرنا للقصيدة بنقل خصائصها من اللاشعور إلى الشعور؛ فقد تأثرنا بها في القراءة الأولى بغير عقولنا، وأعجبنا بها ونحن في ذهول عن وعينا، وها نحن أولاء نسلط عليها العقل والقوة الواعية حين نقرؤها للمرة الثانية قراءة النقد والتحليل، في هذه القراءة النقدية نستكشف عن وعي وشعور قوة هذا اللفظ وأثر تلك الصورة، وسنجد بعد الكشف ظلالا لطيفة دقيقة في الصور والألفاظ كانت قد غابت عنا في القراءة الأولى؛ لأننا كنا بسحر الوقع في شغل عن الأجزاء، ولكن لا يغيبن عن ذهنك أن القراءة «النقدية»، لا بد أن تسبقها قراءة «إبداعية» تتم بقوة الخيال وحده، تتابع فيها الشاعر بخيالك أنى سار؛ فيخفق قلبك إذا خفق، وتحزن إن حزن وتنتشي إذا انتشى، ولا تتلكأ من دونه لحظة لتنظر إلى هذه اللفظة أو هذه الصورة ما أثرها وما خبرها؛ فتلك مهمة القراءة الثانية، قراءة النقد، ثم لا يغيبن عن ذهنك أيضا أن القراءة النقدية قيمتها في نسبتها إلى القراءة «الإبداعية»، فليست بذات شأن في ذاتها، إنما كل القيمة وكل الشأن للقراءة التي نعيش فيها مع الشاعر، فهي المبدأ والمنتهى، وما قراءة النقد إلا وسيلة تزيد من تلك القراءة الإبداعية الأولى قوة وأثرا.
وإذا ما أخذ رجال النقد في مهمتهم، وطفقوا يقرءون الشعر ليحللوه، ويردوا كل أثر له إلى عناصره، تحتم عليهم أن يتواضعوا على أسماء يطلقونها على فنون الشعر وصوره؛ فهذه «ملحمة» وتلك «قصيدة غنائية» وثالثة «نشيد»، وهذه الخاصة في الشعر نسميها «بحرا»، وتلك الطريقة في التعبير نطلق عليها «استعارة» أو «تشبيها»، ولنسم هذا الاتفاق في أواخر الأبيات «قافية»، وهكذا وهكذا حتى بلغت هذه المصطلحات وأشباهها ألوفا. ولما كانت غايتنا في هذا الفصل أن نشير في اختصار إلى أهم المسائل التي اجتمعت عليها آراء الناقدين، كان لزاما علينا أن نتكلم بلغتهم ، وأن نقدم للقارئ أشيع المصطلحات التي يستخدمها رجال النقد في كلامهم.
الأدب كله فن وتعبير، فلكل كاتب طريقته في إخراج معانيه، وتلك الطريقة الخاصة في إخراج المعاني هي ما نسميه «أسلوبا». وقد يبدو للوهلة الأولى أن الأساليب مهما اختلفت وتباينت؛ فمقياس الحكم لها بالجودة أو عليها بالسوء واحد لا يتغير، وهو قدرة الأسلوب على التعبير الكامل ما دامت مهمته الأولى أن يعبر؛ فالأسلوب الجيد هو ما استطاع أن يعبر عما يريد إخراجه من خلجات الشاعر تعبيرا يكون له أعمق الأثر في نفس السامع أو القارئ. «فاثنان واثنان أربعة» مثال للعبارة وقد بلغت بتعبيرها حد الكمال؛ لأنها لم تبق في نفس القائل شيئا، ولم تترك أمام القارئ أو السامع مجالا للبس والغموض، ذلك ما قد يبدو للوهلة الأولى، والواقع أن تقدير الأسلوب الجيد ليس مسألة هينة تعتمد على أساس علمي واضح، كما يدل عليه هذا المثال. نحن نسلم بالمبدأ ونقر ببساطته؛ فأجود الأساليب هو أبلغها إحاطة بما يراد قوله، لكن الصعوبة تبدأ حين نتساءل: ما الذي يراد قوله لكي نرى هل أداه الأسلوب أداء حسنا أو لم يؤده؟ فبديهي أنك لا تستطيع الحكم على وسيلة إلا إذا عرفت الغاية، فلا حكم على الأسلوب إذا لم تعرف «المعنى» الذي خلق ذلك الأسلوب لأدائه. ولقد رأينا في حديثنا عن الألفاظ أن الكلمة فيها - إلى جانب معناها العقلي - حشد عظيم من دقائق الشعور قد يهتز لها كياننا كله، وفي هذه الدقائق يختلف المعنى من شخص إلى شخص؛ إذ قد تثير فيك اللفظة المعينة من الذكريات ما لا تثيره في سواك، لكن في الحياة جوانب أخرى نستجيب لها بعقولنا وحدها، ولا دخل لشعورنا فيها، هي هذه الجوانب التي يبحثها العلماء والرياضيون، كتركيب الهواء وزوايا المثلث وتشريح الزهرة وتحليل الشعاع وما إلى ذلك من حقائق، الناس كلهم إزاءها سواء؛ فإذا ما تحدث في شأنها متحدث تكلم بعقله ليخاطب سائر العقول، وهو إذ يتكلم لا يكون إلا فردا من الجنس البشري يوجه الكلام إلى العنصر المشترك في سائر الأفراد، هو لا يدخل جانبه الشخصي في كلامه، ذلك الجانب الذي يتميز به الأفراد بعضهم من بعض؛ فالعقول في الناس كلهم تنظر إلى الأمور من وجهة واحدة، أما المشاعر فمختلفات، لكل فيها وجهته وشخصيته؛ ومن ثم كان التعبير العلمي يقوله هذا، هو نفس التعبير يقوله ذاك، ويقوله ألوف الناس من أقصى الأرض إلى أقصاها، لا سبيل إلى خلاف بينهم فيه. ولعل ذلك ما حدا بالعلماء أن يؤثروا الرموز على الألفاظ، فرمز كهذا «ا
2 » معناه واحد، لا يختلف قيد شعرة عند أهل الأرض جميعا، في هذا الزمان وفي سائر الأزمان، لكننا لا نستجيب بعقولنا المشتركة وحدها إلا لرموز علمية كهذه، أما ما خلا ذلك من صنوف الكائنات التي تعد بالألوف وألوف الألوف، فإنما نستجيب لها بكل كياننا؛ ومن هنا كانت استجابتي للشيء هي استجابتي وحدي دون سواي، أختلف فيها عما يستجيب به كل إنسان خلاي، بمقدار ما تختلف طبائعنا ومشاعرنا بعضها عن بعض؛ فقد تجد الرجلين يتحدثان فيما يبدو لك أنه شيء واحد، وإذا الحديثان يختلفان، وإذا وجهتا النظر لا تلتقيان، وإذن فهما يتحدثان في حقيقة الأمر عن شيئين، ما داما ينظران إلى الشيء من وجهين، أو ما دام للشيء الواحد في نفسيهما أثران مختلفان؛ فإذا أراد كاتب من هذين أن يعبر عما في نفسه فماذا هو صانع؟ لا بد له أن يعبر بشيء نفهمه جميعا، ثم يضيف إليه أو يلونه ويصبغه بلون نفسه وصبغة شخصه. وعلى كل حال لا بد لأسلوبه - إذا ما أراد التعبير عما في نفسه إزاء الشيء المعين - أن يخرج مكنون نفسه، ويفصح عن حقيقة حسه، مهما يكن في ذلك من ضروب الخلاف بينه وبين سائر الناس. ولعل هذا ما نريده حين نقول «الأسلوب هو الإنسان»، وفي هذه العبارة وحدها ما يدل على استحالة أن نقيم ميزانا دقيقا نفرق به بين الأساليب، فنقول هذا أسلوب من الطراز الأول، وذاك أسلوب من الطراز الثاني وهكذا؛ إذ يستحيل علينا أن نتبين ما يريد الكاتب أن يفصح عنه إلا خلال لمحات شخصية دقيقة ينثرها في أسلوبه هنا وهناك، والتفرقة بين العناصر الشخصية عسيرة صعبة، أو هي ضرب من المحال. ولكن ما لنا ولهذه المشكلة التي ربما انحدرت بنا إلى مسألة عويصة معقدة، وقد أخذنا أنفسنا منذ البداية أن نقف في أمورنا مع أوساط الناس، وسنجد في ذلك ما ينفع ويفيد؛ فلئن كانت أساليب الناس تختلف باختلاف طبائعهم وأشخاصهم، فلا شك أننا نستطيع رغم ذلك أن نلتمس مميزات عامة وخصائص مشتركة تقسم لنا أنواع الأساليب أنماطا وطبقات، ثم نستطيع أن نتبين عناصر تلك الخصائص والمميزات لكي نرى على أي نحو تعمل على جودة الأسلوب؛ أي أنه في مقدورنا - رغم الصعاب كلها - أن نحدد الصفات التي تجعل الأسلوب أداة جيدة للتعبير عما يريد كاتبه أن يعبر عنه.
لو كان غايتك أن توضح فكرة توضيحا محدودا جليا، لكان الأسلوب المثالي في التعبير هو صيغ الجبر وما إليها من رموز الرياضيين والعلماء، وإن أردت بالقول أن تقيم برهانا وتقرع حجة ثم لا شيء بعد ذاك، كانت طريقة إقليدس في التدليل على مسائل الهندسة خير نموذج يحتذى، تريد بكل لفظة غرضا معلوما ومعنى محدودا، ولا تجيز لنفسك أن تضع كلمة تزيد عن حاجتك، وتأخذ نفسك أخذا لا هوادة فيه في بناء الجمل والفقرات بناء منطقيا، تتابع فيه المقدمات والنتائج، لكن ذلك الأسلوب أدخل في باب العلم منه في باب الأدب؛ فلئن طالبنا الأديب - كائنا ما كان فنه الذي يكتب فيه - أن يعنى في تعبيره بمثل هذا الوضوح النافع، فلا بد أن نجيز له إلى جانب ذلك أن يخاطب بأسلوبه شيئا غير العقل، وأن يصطنع في سبيل ذلك شيئا غير الترتيب المنطقي الصارم للجمل والفقرات.
نعم قد تجد من أمراء البيان من يستخدم الأسلوب المحدد الواضح الذي يخاطب العقل قبل أن يخاطب ناحية أخرى من قارئه؛ فهذا هو «سوفت» صاحب «رحلات جلفر»، يصطنع هذا الأسلوب الذي قوامه مادة وعظام، تلتمس فيه شيئا من طراوة اللحم أو نبضات الدم فلا تجد، وإنما اختار لنفسه هذا الأسلوب ؛ لأنه خير وسيلة تعينه على أداء غرضه المقصود، لكن ما كل كاتب هو هذا، وليست أغراض الإنشاء كلها شبيهة بما كان يرمي إليه هذا الكاتب، فالكثرة العظمى من أرباب الأقلام تنشد التأثير في قرائها عن غير طريق المنطق، أو قل إنها تستخدم المنطق في نطاق ضيق محدود. وهذا هو «أدسن» الذي عاصر «سوفت» في أوائل القرن الثامن عشر، والذي برع في المقالة الأدبية براعة طارت بذكره في الخافقين، تراه يكتب في سبيل غاية نفعية، يكتب ليصلح، فيناشد في قرائه عقولهم ليسوق إليها الحجة المقنعة والدليل الناهض، وذلك بأسلوب تستطيع أن تسلكه في عداد الأساليب المستقيمة البسيطة العلمية، لكنه إلى جانب ذلك يريد أيضا أن يأخذ على قرائه مشاعرهم، وأن يثير فيهم العواطف الإنسانية التي يعهدها كل إنسان في نفسه. فهذا - إذن - ضرب آخر من الأسلوب يخاطب العقل والشعور جميعا؛ من أجل هذا تراه يتأنق في أسلوبه ليخرجه خفيفا رشيقا سلسا مستساغا، فاستطاع بذلك كله أن ينفخ الحياة في نثر يستخدم في التعبير عن ضرورات الحياة على نحو ما تلاقينا يوما بعد يوم وساعة في إثر ساعة. ودع هذين الكاتبين بأسلوبيهما المختلفين، وانظر إلى خطيب يبث الحماسة في الجماهير، أو واعظ اعتلى منبره ليهدي من في قلوبهم زيغ أو ضلال، أو محام وقف أمام القضاة يدفع تهمة ويستدر عطف القضاة على صاحبه المتهم. انظر إلى هؤلاء جميعا تجدهم - في الأعم الأغلب - لا يقصدون إلى إقناع بالحجة والبرهان، بل يريدون التأثير بالاستمالة، والاستهواء واللعب على أوتار العواطف، هم يخاطبون الشعور ولا يخاطبون العقل، يتجهون إلى القلب ولا يتجهون إلى الرأس؛ ولذلك كان من خصائص الأسلوب الخطابي الجيد أن يستخدم الصور ليفتن بها نواظرنا، والألفاظ الفخمة الرنانة التي تزلزل الأرض تحت أقدامنا. ومن خصائص الأسلوب الخطابي الجيد أن يكثر من المحسنات لعله يتحكم في الأفئدة، ولو جاء ذلك على حساب العقول. انظر إلى «ملتن» في خطابه المشهور الذي وجهه إلى نواب الأمة دفاعا عن حرية الكتابة وقد خنقوها حين كموا أفواه الكاتبين بقوة القانون، تر الخطاب قد كسب المعركة واستولى القلوب، مع أنه واهي الحجة ضعيف البرهان، وإنما نجح الحطاب بالعاطفة الملتهبة التي سرت في ألفاظه فأشعلت شعور السامعين أو القارئين، لا بما فيه من قوة الإقناع، أو بما أعوزه من قوة الإقناع بتعبير أصح. إنه خطاب تتمثل فيه فصاحة القول بأجلى معانيها، و«الفصاحة»
1
في عرف النقاد هي أن تدور بالحديث حول الموضوع ولا تمس قلبه وصميمه.
وهكذا تستطيع أن تمضي في التفرقة بين الأساليب، وبيان ما يجود كلا منهما؛ فللصحافة أسلوب، وللتاريخ أسلوب، وللرسائل أسلوب وهكذا، وفي كل نوع من هذه الأساليب فروع وضروب تميز بينها فواصل وفروق. خذ أعلام القصة تجد لكل أسلوبه الذي يلائم غايته. وهل يسع قصصيا مثل «مردث» يصور طائفة من الرجال والنساء امتازوا بالثقافة العالية والحياة المتحضرة، إلا أن يستخدم الصنعة في أسلوبه، فيكون تناسب بين صنعة الأسلوب وتلك الحياة التي أخرجتها الحضارة والثقافة عن طبيعتها؟ أم يسع قصصيا مثل «هاردي» اختار من الحياة لونا جادا مستقرا ثابتا، إلا أن يقيم أسلوبه من لبنات راسخة راكزة، كأنما هي عمد يبني بها بناء أشم يطاول في ثبوته رواسخ الجبال؟ فجاءت عباراته رصينة دسمة واضحة محددة، تقع من موضعها في أنسب مكان يلائم البناء. وكما يختلف القصصيون يختلف كتاب المقالة وسائر فنون الأدب.
صفحة غير معروفة