قلت لك إن هذه القصيدة عندي أروع ما قال المتنبي لسيف الدولة من الشعر، واقرأ معي بعض أبياتها، فسترى أني لست مسرفا فيما أقول:
ليالي بعد الظاعنين شكول
طوال وليل العاشقين طويل
يبن لي البدر الذي لا أريده
ويخفين بدرا ما إليه سبيل
وما عشت من بعد الأحبة سلوة
ولكنني للنائبات حمول «لماذا بدأ المتنبي قصيدته بهذا الغناء الحزين، وقد عرفناه إذا امتلأت نفسه إعجابا ورضا، يعرض عن النسيب وينصرف عن الغناء ويهجم على موضوعه هجوما لا يبتغي إليه الوسائل، ولا يبسط بين يديه المقدمات؟ ستقول لأنه شاعر يريد أن يتأنق في فنه، وأن يبهر سامعيه، وأن يهيئهم لاستماع ما يقص عليهم من أنباء الحرب، وما سيعرض عليهم من أوصافها، وقد يكون هذا حقا وما أكثر ما يفعل الشعراء هذا! وما أكثر ما يكون أحدهم ممتلئا بموضوعه، شاعرا بأن الناس من حوله ممتلئون بهذا الموضوع، ولكنه مع ذلك لا يسرع إليه ولا يبلغه حتى يدور إليه في أنحاء من الغناء. نعم، ولكني أرى في نفس المتنبي شيئا آخر غير هذا التأنق الفني والترفق الذي يعمد إليه الشعراء، فيها حزن دفين يصدر أحيانا عن نفس الشاعر التي لم تدرك من آمالها شيئا، أو لم تكد تدرك منها شيئا، ويصدر أحيانا أخرى عن حال هذه الأمة الإسلامية التي تبلي فتحسن البلاء، وتجاهد فتحسن الجهاد، ولكنها حيث هي لا تتقدم خطوة، ولعلها تتأخر خطوات. هذه الحرب التي أبلى فيها سيف الدولة كأحسن ما يبلي الأمراء المجاهدون، ماذا أفاد منها المسلمون؟ وماذا أفاد منها سيف الدولة؟ وماذا أفاد منها المتنبي إذا تعمقت الأمر ونفذت إلى حقائق الأشياء؟ المسلمون حيث هم، لم يمدوا حدودهم ولم يؤمنوها من غارة الروم، والمسلمون حيث هم لم تصلح أحوالهم الخاصة، ولم تبرأ سياستهم الداخلية من الإغراق في الفساد، وسيف الدولة حيث هو يظفر اليوم ليستأنف الحرب غدا، وقد ينتصر غدا، وقد تدور عليه الدائرة، لم يأمن بأس الروم ولم يأمن مكر المنافسين، والمتنبي نفسه حيث هو يمدح الأمير اليوم مهنئا كما مدحه أمس معزيا، وقد يهنئه غدا، وقد يعزيه، ولكنه سيظل شاعرا مادحا على كل حال، وهو مع ذلك محسد يكاد له ويؤتمر به، ويدبر له السوء، حياته متشابهة كحياة المسلمين، وكحياة الأمير؛ وإذن فهذه الليالي المتشابهة في الطول، المتشابهة في أنها تبدي له البدر الذي لا يريده، وتخفي عليه البدر الآخر الذي يهواه كل الهوى، ويطمح إليه كل الطموح، ولا يجد إليه مع ذلك سبيلا؛ هذه الليالي المتشابهة التي أمضته، وتثاقلت عليه لتشابهها، لم لا تكون رمزا لهذه الحياة المتشابهة، التي تمض وتثقل بتشابهها؟ لماذا ننظر إلى الشعراء دائما كما ننظر إلى الأطفال وهم يلعبون؟ لماذا نبخل عليهم بأن نظن بهم الرجولة والبطولة أحيانا؟ وأي صفات الناس أدنى إلى الرجولة والبطولة، وأقرب إلى حالة الفن الرفيع من هذا السأم وهذا الضيق بالتشابه حين يتصل ويطول؟ أحق أن هذا البدر الذي تخفيه الليالي على المتنبي هو صاحبته هذه التي يزعم أنها ظعنت عنه، وأن الأسباب قد تقطعت به من دونها؟» «لم لا يكون هذا البدر شيئا آخر غير هذه الفتاة الأعرابية التي تحميها الأسنة والرماح؟ لم لا يكون هذا البدر رمزا لهذه الآمال النائية وهذه الهموم البعيدة التي تاقت إليها نفس الشاعر منذ أحس الحياة، وقدر على النشاط، والتي أنفق من حياته دون أن يبلغها أو يدنو منها؟» «لو أنك سالت المتنبي نفسه عن هذه الليالي المتشابهة في الطول والعقم، وعن هذا البدر الخفي العزيز، لما أجابك بغير ما يقول الناس؛ فهو شاعر يتغنى، وهو إنما يجيد الغناء ويبرع فيه؛ لأنه يتغنى بما لا يحققه، ولا يحيط به علما.» «فجائز بل مرجح أن يكون المتنبي بعيدا كل البعد عن أن يفكر في هذه المعاني التي أشرت إليها وأفضت فيها، ولكنه مع ذلك يتغنى هذه المعاني نفسها؛ لأنه شاعر، وأبرع الشعراء من عرض لما يفوته من مطالب الفن، فتعلق بأذياله وطار في أثره، دون أن يبلغه أو ينتهي إليه.» «كل هذا أفهمه من هذه الأبيات الثلاثة الحزينة التي بدأ المتنبي بها قصيدته، وما يعنيني أن يكون المتنبي قد أراد هذا أو لم يرده؛ فأنا لا أطلب من الشاعر أن يفهمني ما أراد حقا، وإنما أريد من الشاعر البارع - كما أريد من الموسيقي الماهر - أن يفتح لي أبوابا من الحس والشعور، ومن التفكير والخيال، وما أشك في أن المتنبي قد وفق إلى هذا التوفيق كله من هذه الأبيات ...» إلخ.
3
هكذا يجب أن تقرأ الشعر في تدبر وأناة، فتتابع الشاعر في كل ما دار بنفسه أو جال في خاطره بحيث تمارس تجربة نفسية مارسها الشاعر، وتحيا حياة عاشها الشاعر، أيا كانت تلك التجربة وأيا كانت تلك الحياة. فليس شرطا لازما أن يصور لك الشاعر في قصيدته تجربة فيها المشاعر سامية، والخواطر عالية، والحياة فاضلة، والآمال كبار، بل ربما صور لك الشاعر في تجربته خواطر سفاك للدماء، ومشاعر شرير خبيث، يكيد للناس ويتربص بهم الدوائر. فسواء لدينا نحن قراء الشعر أصورت القصيدة ملكا رحيما أو شيطانا رجيما، ما دامت الصورة ناصعة معبرة تتيح للقارئ أن يتقمص مشاعرها كأنه انقلب ساعة القراءة ذلك الملك الرحيم بعينه أو هذا الشيطان الرجيم. نعم يصح لنا أن نؤثر القصيدة التي تعلو بالنفس على زميلتها التي تصور الشر إن تساوت القصيدتان في جودة التصوير، ولكننا لا نبيح هذا التفضيل بحال من الأحوال لو أجادت الثانية أكثر مما أجادت الأولى؛ إذ القصيدة الجيدة من الوجهة الفنية - حتى وإن عالجت موضوعا تأباه الأخلاق - خير ألف مرة من القصيدة الرديئة من الوجهة الفنية وإن عالجت الفضيلة والأخلاق الكريمة. وإنك لتجد من قادة النقد الأوروبي من يزعم - وربما صدقوا فيما يزعمون - أن الجودة الفنية في القصيدة أعظم شأنا وأكثر خطرا - حتى من الناحية الخلقية نفسها - من موضوع القصيدة أفضيلة هو أم رذيلة. فهذا رأي أخذ به «شلي» الشاعر الناقد الإنجليزي الذي توشك ألا تجد في تاريخ العظماء أصفى منه عقلا، أخذ به في مقالة طويلة كتبها دفاعا عن الشعر، هي من أعظم ما جادت به قريحة، وجرت به يراعة، في الدفاع عن الشعر. وهو في هذه المقالة الرائعة يحتج بأن كافة الشرور، وما يصيب المجتمع منها بوجه أخص، إنما نشأت عن سبب رئيسي واحد، وليس ذلك السبب في أخلاقنا، ولا هو في عقولنا، ولا في نظامنا الاقتصادي. إن منازل الفقراء الوبيئة قائمة بيننا، لا لأن الكثرة الغالبة من الناس يجهلون قيامها، ولا لأن تلك الكثرة تود أن تبقي المنازل الوبيئة ساعة واحدة، إنما قامت تلك المنازل بيننا وستظل قائمة؛ لأن من لا يسكنها لا يشارك ساكنيها الشعور مشاركة وجدانية كاملة. من هم خارج بيوت الفقراء القذرة الوبيئة لا «يشعرون» بما يشعر به من هم داخل تلك البيوت من فقراء؛ ولذلك استحال عليهم أن يحسوا مثل آلامهم إحساسا حقيقيا. فلأن تشارك غيرك وجدانه مشاركة كاملة، وتشعر بشعوره شعورا حيا قويا، يقتضيك لا أن تقف مثل موقفه فحسب، بل أن تصب نفسك صبا في إهابه لتجري فيك دماؤه، وتسري فيك مشاعره وآلامه. ولئن استحال ذلك بالصورة المادية، فهو ممكن بقوة الخيال؛ فكلما ازداد الإنسان قدرة على أن يضع نفسه بخياله في جلد غيره ليشعر مثل شعوره، كان أقرب إلى المشاركة الوجدانية الكاملة. وإذن فالمشاركة الوجدانية - التي هي ملاط المجتمع وبغيرها لا يكون إصلاح - تعتمد قبل كل شيء على قوة الخيال، ومهمة الشعر الأولى - بل الوحيدة - هي أن يخاطب في الإنسان خياله. الشعر لا يخاطب القوة العاقلة، بل يتجه فينا إلى الملكة التي تتقبل الفكر والشعور في آن معا، ملكة الخيال. الشعر يقوي فينا تلك الملكة التي تمكننا أن نصير - ولو مدى لحظة قصيرة - أشخاصا غير أنفسنا. وسواء أصرنا بفعل الشعر وقوة الخيال ملائكة أو شياطين، فحسبنا أن تكون لنا بفضل الشعر هذه القدرة التي ننقلب بها هذا الشخص أو ذاك، ساعة من زمان لنشعر بشعوره، فنألم لألمه أو نسر لسروره . لو أكسبك الشعر هذه القدرة العجيبة فقد أدى مهمته الكبرى، ولا عبرة بعد ذلك أكانت وسيلته إلى هذه الغاية أن يلبسك ثوب «إياجو» القاتل أو «دزدمونا» الملائكية الرقيقة. فليضعك الشعر في إهاب من شاء من صنوف البشر، إن كانت النهاية أن تظفر بالقدرة على مشاركة غيرك في وجدانه. إن ما يهمنا من الشعر أن يكون شعرا، ولا نزن بجناح بعوضة موضوع الشعر الذي يعالجه، وإنما يهمنا الشعر لذاته؛ لأننا لا نرى وسيلة للإصلاح الخلقي والاجتماعي سوى أن يشعر الفرد بشعور غيره، ولا تتحقق تلك الوسيلة إلا بقراءة الشعر قراءة صحيحة.
الفصل الثاني
صفحة غير معروفة