1 - الشعر
2 - النقد الأدبي
3 - كل فن لما خلق له
4 - القصة
5 - الرواية المسرحية
1 - الشعر
2 - النقد الأدبي
3 - كل فن لما خلق له
4 - القصة
5 - الرواية المسرحية
فنون الأدب
فنون الأدب
تأليف
ه. ب. تشارلتن
ترجمة
زكي نجيب محمود
مقدمة المعرب
بقلم زكي نجيب محمود
هذا كتاب ألفه ه. ب. تشارلتن
H. B. Charlton
أستاذ الأدب الإنجليزي في جامعة مانشستر بإنجلترا، وسماه «فن الدراسة الأدبية»
The Art of Literary study ، وقصد به إلى أوساط القراء الذين لم يتعمقوا في أصول النقد الأدبي، ولعلهم لا يريدون أن يتعمقوا فيها، فهم يقرءون آثار الأدباء من شعر ونثر ليستمتعوا بما يقرءون؛ فأراد مؤلف الكتاب أن يكون لهؤلاء مرشدا ومعينا، وأن يهديهم إلى بغيتهم سواء السبيل؛ فهو في الفصل الأول يبين لقارئ الشعر كيف ينبغي له أن يقرأ الشعر لكي يسيغه ويتذوقه، وفي الفصل الثاني يحدد لبعض المصطلحات الأدبية معانيها؛ حتى يكون القارئ أتم دراية بما يقرأ، ثم يبين في الفصل الثالث لكل فن ميدانه ونطاقه؛ ليعرف صاحب الفن ما حدوده، فلا يطغى الشاعر على ما يجب أن يترك للمصور، ولا كاتب القصة على ميدان الرواية المسرحية وهكذا، وفي الفصل الرابع يوضح لنا الكاتب أصول القصة وأوضاعها وشروطها توضيحا دقيقا بارعا، كما يوضح في الفصل الخامس أصول الرواية المسرحية وشروطها. ولعلنا في هذا العهد الذي أخذت فيه القصة والمسرحية تلتمسان سبيلهما إلى الظهور في الأدب العربي، أحوج ما نكون إلى هذين الفصلين الأخيرين؛ فليس من يمشي مكبا على وجهه أهدى ممن يمشي على صراط مستقيم.
ولقد أخذت على نفسي أن أنقل آراء الكاتب نقلا أمينا لا زيادة فيه ولا نقصان، دون أن ألتزم الترجمة الحرفية جريا على السنة التي رسمتها لجنة التأليف والترجمة والنشر في إخراج هذه السلسلة؛ فقد أقف هنا سطرا أو سطرين لأوضح فكرة أخشى أن تكون غامضة على القارئ العربي، وقد أقتضب هناك سطرا أو سطرين لأجتنب إطنابا ليس فيه كبير غناء، واستبحت لنفسي أن أبدل عنوان الكتاب، فجعلته: «فنون الأدب».
وبديهي أن كتابا في النقد الأدبي لا بد له أن يسوق الأمثلة والشواهد للبيان والإيضاح، وبديهي كذلك أن من الأمثلة ما يفقد في الترجمة موضع الاستشهاد، بحيث لا تعود له دلالته التي أريد له أن يوضحها، فلم يكن لي بد من التصرف الشديد؛ فأمثلة حذفتها حذفا وحاولت جهد المستطاع أن أستبدل بها أخرى من الأدب العربي، تدل بعض الدلالة على ما أراد الكاتب أن يوضحه، وأمثلة آثرت نقلها إلى العربية؛ لأن الترجمة لا تفقدها الفكرة، وإن أفقدتها شيئا من جمال لفظها، ولم أشأ أن أفصل الأمثلة الدخيلة في هوامش الكتاب، بل أجريتها في سياق الحديث ليخرج القارئ العربي بشيء قريب من الأثر الذي يخرج به قارئ الكتاب في أصله الإنجليزي.
فإن استطاع هذا الكتاب أن يعين قارئ الأدب على أن يزيد من تقديره لما يقرأ واستمتاعه به فقد أدى رسالته.
وإني أشكر الأستاذ الجليل أحمد أمين بك على اختياره لهذا الكتاب، وعهده إلي بترجمته ومراجعته قبل طبعه.
والله أسأل أن يسدد خطانا، وأن يوفقنا إلى ما نريد.
الفصل الأول
الشعر
سل من شئت من أوساط الناس: ما الشعر؟ يجبك: إنه الكلام المنظوم. لكني في هذا الكتاب سأستخدم لفظ الشعر في معنى لم تألفه الآذان. سأستخدمه لأدل به على كلام صدر عن فن، ولم يقصد به كاتبه أو قائله أن يضيف بمعانيه إلى ذخيرة العرفان قطرة أو قطرات. سأستخدمه لأدل به على كلام يراد به قبل كل شيء أن يكون لقارئه لذة ومتاعا، وسواء بعد ذلك أكان هذا الكلام نثرا، كما ترى في القصص والمقالات والروايات المسرحية، أم كان الكلام نظما، كما ترى في القصائد الغنائية وشعر الملاحم. وما دمت قد أطلقت لفظ الشعر ليشمل هذا النطاق الواسع الفسيح، فلا بد لي أن أخرج منه القصائد المنظومة التي قصد بها إلى النفع لا إلى المتعة، كهذه التي تصادفها في كتب النحو تصوغ لك القواعد في منظوم لتحتفظ به الذاكرة في غير عسر ولا عناء. فالذي أردت أن أستهل به الحديث - إذن - هو أن سمة الشعر على اختلاف ضروبه أنه لا يرمي إلى نفع، ولا يبتغي معرفة وعلما؛ إنما هو شيء يذاق فيستساغ، ولكن ماذا أريد؟ إن كان الشعر لا يرمي إلى النفع، أفيكون معنى هذا أنه لا ينفع ولا يفيد؟ أيكون الشعر حقيقا منا بالجهد والعناء؟ أخليقون نحن أن ننفق فيه من دهرنا شطرا يقصر أو يطول؟ أيجوز في هذا العالم الذي يحيط بنا اليوم، والذي ارتج لزعازع السياسة الهوج ارتجاجا عنيفا، أيجوز لنا إذ نعيش في عالم اعوجت فيه قوائم المجتمع وأعوزه الإصلاح، أن نزجي من فراغنا وقتا وأن نبذل من مجهودنا قسطا في دراسة الشعر؛ وإن فراغنا لقليل، وإن جهدنا لضئيل؟ فإن قال قائل: ولم لا؟ إن الشعر بعد العناء متاع بريء لا يضر ولا يؤذي، أستمتع به لاهيا كما يستمتع اللاعبون بالنرد والورق في أوقات الفراغ. فلنا أن نجيبه: أواثق أنت أن الشعر ليس بذي ضر ولا أذى؟ ألا يجوز أن يكون الغاوون وحدهم هم الذين يقرءون الشعر ويلهون به؟ إن الرجل من أوساط الناس إذا ازدرى الشعر فسيجد إلى جانبه إمام الشعراء يؤيده في قضيته ويشد أزره، سيجد «شيكسبير» يجري على لسان «هتسبير» هذه الأبيات:
قد كنت أوثر أن أكون قطيطة تصرخ بالمواء،
ولا أعد في قوم يتاجرون بنظم الغناء.
قد كنت أوثر أن أستمع إلى مقبض نحاسي يصر في وعائه وهو يدور،
أو إلى عجلة جفت تصلصل حول محورها.
فذلك كله لا يصيبني بضراس،
كالذي يصيبني به شعر يحز فيقطع.
ولا تقل إن ذلك «هتسبير» يتحدث في سياق روايته، وليس هو بالرأي يدلي به الشاعر، فما لاح لأحد خطر الشعر كما لاح لشيكسبير؛ انظر إلى «هاملت» كيف تردى - أو قل أرداه الشاعر - في المهالك؛ لأنه يحمل بين جنبيه نفسا شاعرة، وينظر إلى الأمور بعين الشاعر، وفي «حلم ليلة في منتصف الصيف» يسوق الشاعر رأيه في الشعراء على لسان الحاكم في أثينا، فيحشرهم في زمرة أشباههم، المجانين ومخبولي العاشقين، وعجيب أن يتفق شيخ الشعراء في رأيه مع شيخ الفلاسفة، أفلاطون! فهل جاءك أن هذا الفيلسوف في «جمهوريته» التي يصور فيها دولة مثلى، قد انتهى إلى ضرورة إخراج هذه الطائفة الخطيرة من حظيرة المجتمع، طائفة الشعراء؛ فهم عنده خطر على الدولة من أي ناحية أتيتهم، هم خطر على الناشئة إن قصد بشعرهم إلى تربية الناشئة، وهم خطر على الأخلاق إن اتخذت أوضاعهم مثلا أعلى للأخلاق، وهم فوق ذلك خطر على التفكير إن وضعت أقوالهم أمام العقول نماذج تحتذى؛ وإن كان ذلك كذلك فما بقاؤهم في جماعة تنشد لنفسها الكمال؟
فإن كان هذا رأي أئمة الفكر في الشعر، فلا ينبغي أن تنال منا سورة الغضب إذ نصادف بين أوساط الناس من يزدري الشعر، ولا يراه جديرا بما ينفق فيه من وقت ومجهود، وحري بنا ألا نطالبه بما يؤيد زرايته؛ فعلينا نحن - أنصار الشعراء - أن نقيم الدليل على قيمته، فالبينة على من ادعى.
ولما كان الحكم على الشيء فرعا عن تصوره - إذ لا نستطيع أن نجزم بشيء عن الشعر، دون أن نعرف حقيقته وطبيعته - كان لا بد لنا أن نعاود السؤال من جديد: ما الشعر؟ ههنا تجد إجابات عدة، منها ما يقف بك عند السطح، ومنها ما يعمق حتى يضعك في مشكلات ميتافيزيقية قد لا يكون لك بها قبل. فلئن أقنعت هذه الإجابات العميقة الفلاسفة والعلماء، فلسنا نريد اليوم أن نكون من هؤلاء ولا أولئك. ويقنعنا أن نقف مع أوساط الناس حتى نستطيع الفهم والإفهام، فنكتفي من الحلول بأيسرها، ومن الأمور بظواهرها ذات المأخذ القريب؛ فالشعر عندنا هو كلام يصنعه ويؤلف بينه الشعراء. وإن كان صناعة وتأليفا فمم يصنع، ومن أي مادة يتألف؟ ههنا أيضا تصدمك إجابات تضرب من الأمور في أعماقها، فتزعم لك أن الشعر مؤلف من أحلام سرمدية خالدة، أو أنه نفثات تزفر بها القلوب، لكننا سنقف مع أوساط الناس مرة أخرى، فلا نرضى عن مثل هذا القول المبهم؛ وعندنا أن الشعر مؤلف من ألفاظ، ومن ألفاظ فقط، كما تتألف سائر ضروب الكلام، فكل ما للشعر من سحر يفتن القلوب، إنما هو سحر صادر عن الألفاظ، والألفاظ وحدها.
إذن فما هي الألفاظ؟ فما سمعت قبل اليوم أن السحر والفتنة من خصائصها. وأفتح المعجم لأعلم ما «اللفظ» فإذا هو «صوت أو مجموعة أصوات تواضع الناس على أن تكون جزءا من الحديث؛ لتنقل بينهم فكرة من الأفكار.» كلا، لا تحدد نفسك بأوضاع المعاجم، فللألفاظ مهمة أخرى غير هذه التي يعرفها لنا المعجم، بل ليس ما يعرف به المعجم «اللفظ» إلا أقل جوانب اللفظ شأنا؛ فمن ألفاظ اللغة طائفة قليلة جدا مهمتها أن تنقل الأفكار بين الناس، ثم تقف عند هذا الحد لا تعدوه، فالكثرة الغالبة من الألفاظ مثقلة بأشياء غير الفكرة التي تحملها، مثقلة إلى جانب الأفكار بما لا يقع تحت حصر من المشاعر والصور. خذ لذلك مثلا لفظة «أم»، فهي عند المعجم دالة على فكرة مجردة لوالدة مجردة، لا تستطيع أن تصورها لنفسك في «أم» من لحم ودم، فتقف إزاء المعنى المعجمي جامد العاطفة بارد الشعور؛ لأنه لا يعطيك إلا شبحا خافتا لأم تصلح لكل إنسان، وهي لهذا نفسه لا تصلح أما لإنسان، لكنك إذ تستخدم في حياتك الخاصة لفظ «الأم» تجده في ذهنك كائنا حيا، وترى هذا الهيكل الجامد البارد الذي قدمه إليك المعجم منذ حين قد انتفض في قلبك نابضا يتدفق عاطفة ويفيض شعورا، «ففكرة» الأم لم تعد فكرة وكفى، بل نفثت فيها الحياة، فخلقت بذلك خلقا جديدا من العدم أو ما يشبه العدم. ندع المعجم وشأنه في تعريف الأم بالوالدة. أما أنت وأما أنا في حياتنا اليومية فالأم تعني عندنا إنسانة بعينها، تحيط بها هالة وضاءة من ذكريات الطفولة، وترمز إلى ما شهدناه في أيامنا الأولى من أماكن وأحداث، وتفيض على وجودنا وكياننا سيالا دافقا من المشاعر الحية. هذا مثال واحد من ألفاظ اللغة بأسرها، فهي في المعجم جثث هوامد وهياكل جامدة ليس بها حراك؛ لأنها خاوية من اللحم والدم، هي رموز لأفكار. أما إن سلكنا اللفظ في الحديث فقط أضحى جزءا حيا من مجرى الحياة، أو إن شئت فقل إنه بات قطعة من الحياة نفسها، يكسوها اللحم وتجري فيها الدماء، وما لحمها ودماؤها إلا الصور والمشاعر التي تحركها في الأذهان وتثيرها في حبات القلوب، وهذه المشاعر وتلك الصور جزء من معانيها؛ لأن ذلك هو ما تعنيه بالقياس إلينا.
ليست الألفاظ - إذن - أدوات نستعين بها على الحياة، ولكنها في ذاتها جزء من الحياة، بل إن الألفاظ حية أبدا لا تعرف الموت، وما ماتت إلا على صفحات المعجم؛ فجامع المعجم يحدد لك معنى اللفظ تحديدا قاطعا، ويحسب أنه بذلك قد حنطها وخلفها مضمونة من العبث في صندوق من زجاج، فما يروعه - وقد مضى على معجمه عشرون عاما - إلا أن يرى سواه قد اضطلع بجمع معجم آخر؛ لأن الألفاظ التي ماتت و«حنطها» قد دبت فيها الحياة وهو لا يدري، فطرأ عليها ما يطرأ على الكائنات الحية جميعا من تغير وتحول، ومن هنا مست الحاجة إلى معجم جديد. ومن ذا يريد لنفسه أن يقرأ عن فلان أنه ذهب في «سيارة» إلى داره، فيخامره الشك أن تكون السيارة المقصودة قافلة من الإبل لأن ذلك ما يريده لنا المعجم؟ الألفاظ كائنات حية تولد وتنمو وتتغير وتفنى كسائر الكائنات الحية، ومنها ما يبلغ فيه التحول حدا بعيدا بحيث يصبح من المعنى السابق كالنقيض من نقيضه، ونسوق لهذا مثالا كلمة إنجليزية هي «توري»
Tory ، فقد ظلت تعني حتى سنة 1680م مارقا سفاكا، ثم أخذت تتحول رويدا رويدا حتى باتت تطلق اليوم على أكثر الناس احتراما وأشدهم رعاية للقانون والنظام. ألست ترى إلى الفلاسفة يشكون مر الشكوى أن ألفاظ اللغة لا تذعن لهم ولا تستقر في أيديهم، فما تنفك قلبا حولا، وهم يريدونها ثابتة جامدة؛ لتصلح للتعبير عن أفكارهم المجردة التي تتصف بالدوام والثبوت؟ الفيلسوف في حقيقة الأمر لا ينشد ضالته في ألفاظ اللغة؛ لأنها لا تسعفه في مسايرة أفكاره، فهي متغيرة تغير المادة الحية، وأفكاره ثابتة؛ لأنها مجردة عن المادة. إنه يريد رموزا تعبر له عن آرائه العارية الخالصة؛ لأن الرأي الخالص العاري لم يخلق للألفاظ ولم تخلق له الألفاظ، إذ هي تحمل في تضاعيفها إلى جانب الفكرة المجردة الخالصة عددا يقل أو يكثر من الذكريات والعواطف والمشاعر، وكلها شراك وفخاخ يخشاها الفيلسوف؛ لأن فكرته إفراز عقلي خالص، لا تشوبه شائبة من عاطفة أو شعور؛ فإن أراد الرياضي - مثلا - أن يحدد العلاقة المجردة بين ضلعي مثلث تساوت ساقاه، فهو لا يريد لعاطفته أن تتدخل في مجرى تفكيره ليتحزب لضلع دون ضلع، ولا يحب لعينيه أن تفتنا بجانب وتنفرا من جانب؛ ولذلك تراه لا يطلق على أضلاع مثلثه ألفاظا؛ خشية أن تحمل اللفظة أكثر مما يراد لها أن تحمل، وهو يتحوط للأمر ويميز الأضلاع برموز تحددها، ولا تضيف إلى ذلك التحديد شيئا آخر، فيقول عن هذا «أ ب» وعن ذاك «أ ج». وحيثما استطاع الفيلسوف أن يصطنع من الرموز ما اصطنعه إقليدس في الهندسة، سارع إلى ذلك فرحا مغتبطا؛ لأن الرموز مؤتمنة على نقل المعاني المحدودة البينة، فهي ميتة لا حياة فيها. أما ألفاظ اللغة الحية فأداة خطيرة في نقل المعاني، إن أردت لمعانيك تحديدا لا يعرف الغموض وثباتا لا يقبل التغير.
ولا تحسبن أننا وحدنا قد احتكرنا لأنفسنا الحق في نفخ الحياة السارية في ألفاظ اللغة بما ندسه فيها من تجارب حياتنا؛ فقد تداول أسلافنا هذه الألفاظ، وكان كل إنسان في كل مرة يستخدم فيها لفظا من الألفاظ، يبث في ثناياها شيئا من المعنى، فكلما أمعنت الكلمة في القدم، أو كلما ازدادت الكلمة تداولا، كانت أثقل شحنة بتجارب الناس في حيواتهم، أو بعبارة أخرى كانت أملا بحياة الذين اتخذوها أداة للتعبير عما في نفوسهم. هكذا تفعم اللفظة بالحياة كما عاشها الناس، تتداولها الأجيال المتعاقبة، فيقطر فيها كل جيل تجاربه الخاصة من حياته الخاصة، وكأنما يتخذ من الفكرة الكامنة في حنايا اللفظة مشجبا يعلق عليه هذه التجارب التي بثها إياها. أتظن -مثلا - أن «الناقة» تعني لساكن البادية ما تعنيه لساكن الحضر؟ أكانت تثير كلمة «الحرية» عند المصريين القدماء ما تثيره فينا اليوم؟ أم ترى أن الألفاظ تختلف خلاء وامتلاء باختلاف الظروف؟ لقد كانت «الجبال» عند أهل القرن الثامن عشر من الإنجليز تعني هضبة ناهضة على صدر الأرض، يضطرب لها خط الأفق، فيضطرب في إثره قلب المسافر المسكين، فلا يظل على بشره ورجائه، إذ ربما اعترضته في طريقه فألزمته أن يجاهد لاهثا في صعودها وهبوطها، لكن «الجبال» تبدلت عند أهل القرن التاسع عشر، فأصبحت محاريب الطبيعة الشامخة بأنفها إلى السماء، وباتت مهبط الوحي وملاذ المكروب بجمالها الفتان، وكان «الدكتور جونسن» هو الذي طبع الكلمة في القرن الثامن عشر بطابعه، ووسمها بميسم تجاربه؛ فجاءت من البشاعة بما رأيت، وكان «وردزورث» هو الذي نفث في الجبال سحرها في القرن التاسع عشر، فأصبحت بفضله مجتلى للفن والجمال.
فليست الفظة إذن رمزا يشير إلى فكرة ومعنى فحسب، بل هي نسيج متشعب من صور ومشاعر أنتجتها التجربة الإنسانية، وبثت في اللفظة فزادت معناها خصبا وحياة؛ فإن رأيت رجلا غنيا بألفاظه فاعلم أنه لذلك أوسع حياة من سواه، وإن رأيت رجلا قديرا على استخراج المعاني من ألفاظها فاعلم أنه أيضا أعمق حياة من سواه. وأول طابع يميز الشاعر من سائر الناس قدرته على أن يستخرج من اللفظة المعينة عددا من المعاني يعجز عن استخراجه سائر الناس. للألفاظ تأثير عجيب في الشاعر؛ فهي تتفجر في نفسه كأنها القنبلة المشحونة، فتخرج كل ما تحتويه في جوفها من صور ومشاعر وتجارب؛ أعني أنها تنحل في نفس الشاعر، فتخرج مكنونها الذي اختزنته على مر الدهور؛ فكل لفظة عند الشاعر مستقلة بوجودها متميزة بشخصيتها، تختلف عن كل لفظة أخرى في خصائصها وسماتها. ولنضرب لذلك مثالا يوضح ما نريد: لقد رووا أن الخنساء سمعت في عكاظ حسان بن ثابت يقول:
لنا الجفنات الغر يلمعن بالضحى
وأسيافنا يقطرن من نجدة دما
ولدنا بني العنقاء وابني محرق
فأكرم بنا خالا وأكرم بنا ابنما
فقالت الخنساء في نقده: ضعفت افتخارك وأنزرته في ثمانية مواضع. قال: وكيف؟
قالت: قلت «لنا الجفنات» والجفنات ما دون العشر فقللت العدد، ولو قلت «الجفان» لكان أكثر. وقلت «الغر» والغرة البياض في الجبهة، ولو قلت «البيض» لكان أكثر اتساعا . وقلت «يلمعن» واللمع شيء يأتي بعد الشيء، ولو قلت «يشرقن» لكان أكثر؛ لأن الإشراق أدوم من اللمعان. وقلت «بالضحى» ولو قلت «بالعشية» لكان أبلغ في المديح؛ لأن الضيف بالليل أكثر طروقا. وقلت «أسيافنا» والأسياف دون العشر، ولو قلت «سيوفنا» كان أكثر. وقلت «يقطرن» فدللت على قلة القتال، ولو قلت «يجرين» لكان أكثر لانصباب الدم. وقلت «دما» و«الدماء» أكثر من الدم. وفخرت بمن ولدت ولم تفتخر بمن ولدك. وهذا يدلك على الفروق الدقيقة بين الألفاظ عند الشعراء.
الشعر مفعم بالمعاني على نحو لا يدنو منه ضرب آخر من ضروب الانشاء؛ لأن الشاعر يريد بالألفاظ حين يستخدمها أكبر قسط من معانيها الدفينة ومشاعرها المخزونة. وإذا وزنت الألفاظ بكل محصولها من معنى وشعور، وجدتها متباينة لا يتشابه بينها اثنان؛ لأن لكل منهما تاريخا مرت به، وظروفا نشأت فيها، وتجارب اندست في حناياها، فاللفظتان المترادفتان تتقاربان كما يتقارب الشقيقان، ولكنهما لا تتماثلان تماثل الأصل وصورته، والشاعر المجيد حين يتناول المترادفات لا يغض عن هذه الفروق مهما دقت؛ ومن ثم استحال عليك أن تستبدل في القصيدة الجيدة لفظة بأخرى، دون أن يتغير معنى القصيدة كلها. والقصيدة العصماء يصيبها الفساد إن تغيرت فيها لفظة واحدة؛ لأنها نتاج شاعر عبقري عظيم، ولا يستحق الشاعر أن يرقى إلى صف العباقرة الأفذاذ إلا إن علم علم الإحاطة واليقين ماذا يريد أن يقول، وكيف يستطيع، وبأي الأدوات يستطيع أن يعبر عن هذا الذي يريد تعبيرا دقيقا لا زيادة فيه ولا نقصان، لكن الشاعر قد يريد أحيانا أن يقول ما يستحيل قوله في ألفاظ، فثم ضروب من الخيال الجامح تحطم حدود الألفاظ ثم تلوذ بالفرار؛ لأن طبيعتها تأبى عليها السكينة والقرار، وهنالك من الشعراء من يشطحون بخيالهم إلى تلك الضروب الشموس الشرود، فلا يرون من الحياة إلا جوانبها الغوامض الدقاق دون ألوانها المحددة الواضحة، وهم من يطلق عليهم في الآداب الأوروبية اسم الشعراء «الابتداعيين» تمييزا لهم من فريق «الاتباعيين» الذين يذعنون بخيالهم وتفكيرهم للقيود والحدود، فهؤلاء الشعراء الابتداعيون يريدون أن يعبروا عن تجارب مرت بهم، وخواطر طافت بأذهانهم، مما يستعصي على التعبير؛ لأنهم إن ساقوها في أدوات التعبير المألوفة باتت كالتجارب والخواطر المألوفة، وهي ليست كذلك، وبديهي أنك لو جسمت الظل لم يعد ظلا؛ لهذا ترى هؤلاء الشعر ينتقون للتعبير عما في نفوسهم ألفاظا توحي بالمعاني ولا تحددها، وذلك باستخدام كلمات لم يكثر دورانها على الألسنة ولم تألفها الأسماع، فتكون غرابتها وندرتها سببا في إبهامها وعدم تحديدها؛ لأنها عندئذ تكون كالوعاء المليء بمادة مجهولة، فلا ندري - على وجه التحديد والدقة - على أي شيء يحتوي. في مثل هذه الحالات يكون للإبهام قوة أكثر مما يكون للوضوح.
وتحضرنا في هذا الصدد أمثلة من القرآن الكريم؛ ففي القرآن لفظة غريبة هي من أغرب ما فيه، وما حسنت في كلام قط إلا في موقعها منه، وهي كلمة «ضيزى» من قوله تعالى:
ألكم الذكر وله الأنثى * تلك إذا قسمة ضيزى
فغرابة اللفظ أشد الأشياء ملاءمة لهذه القسمة التي أنكرها الله تعالى على العرب. وكقوله تعالى:
طلعها كأنه رءوس الشياطين
فههنا ليس حتما عليك أن تعلم المعنى الدقيق للكلمة، حتى يكون لها الوقع المنشود، بل إن قوة وقعها في النفس صادرة عن غرابتها وندرتها في الأسماع. أو انظر إلى هذه الآية الكريمة التي يوصيك الله فيها بوالديك:
واخفض لهما جناح الذل من الرحمة
تلمس قوة عجيبة في التعبير قبل أن تمعن النظر في حقيقة المعنى على نحو دقيق؛ فقد لا تستطيع أن تصور لنفسك جناحا للذل تخفضه لوالديك، ومع ذلك فهذا الإبهام القليل في العبارة هو سر إعجازها.
وهكذا أيضا يلجأ الشعراء أحيانا إلى اللفظ الغريب للزيادة من قوة التأثير، ولا سيما إن كانت الصورة المرسومة مما لا يألفه الناس في الحياة الجارية؛ فإذا رأيتهم يطلقون على الأشياء غير أسمائها فاعلم أنهم لا يصنعون ذلك عبثا، ولو أرادوا الأسماء المعروفة للأشياء لأطلقوها. على أننا يجب أن نكون في هذا على حذر؛ ففي العهود التي يضعف فيها الشعر ويقل النوابغ الفحول ترى الشعراء يقصدون إلى أشياء معروفة مألوفة ، لكنهم يلفونها في لفظ غريب فيبهموا الصورة ويطمسوها، وعندئذ تكون غرابة اللفظ ضعفا لا قوة. يجب أن يكون الشاعر صادقا في التعبير عن شعوره، فإن أراد شيئا مألوفا فليطلق عليه اسمه المألوف. أما إن أراد صورة فيها شيء من الغرابة لأنه أحسها في نفسه غريبة، فيجوز له أن يلجأ إلى اللفظ الغريب المبهم.
وإنما الشعر لب المرء يعرضه
على المجالس إن كيسا وإن حمقا
فإن أشعر بيت أنت قائله
بيت يقال إذا أنشدته: صدقا
انظر مثلا إلى هذا الذي يصف السحاب بقوله:
تسربل وشيا من حرير تطرزت
مطارفها لمعا من البرق كالتبر
فوشي بلا رقم ونقش بلا يد
ودمع بلا عين وضحك بلا ثغر
تدرك من فورك أن هذا الشاعر كاذب في شعوره، يبحث عن اللفظ أولا ثم يترك المعنى تابعا. والأصل أن يضطرب المعنى في ذهنه فيخرجه في ألفاظ، فلم يتسربل السحاب وشيا من حرير مطرز، وليس البرق تطريزا، ولا الرعد ضحكا. وكيف يكون وهو الذي ما سمعته يدوي مرة إلا ورأيت قلوب الناس تنخلع لدويه المخيف؟ لو كان الشاعر يصف أصيلا جميلا هادئا، لجاز له أن يرى السحاب الخفيف المنتثر على صفحة السماء وشيا من الحرير المطرز، ولكنه يصف السماء وقد زعزعتها العاصفة القاصفة برعدها وبرقها؛ فمن كذب الشعور أن توحي إليه تلك الطبيعة الخشنة الغليظة بنعومة الحرير وزركشة التطريز، أو أن يوحي له الرعد بالضحك مع أنه أدنى إلى الزمجرة الغاضبة.
وسنسوق لك من الشعر الإنجليزي أمثلة لثلاثة من الشعراء، وصفوا الكارثة التي تحل بالأسرة حين تعاجل المنية عائلها في شرخ شبابه، لترى كيف يضعف الشعر إن كذب الشعور وكيف يقوى إن صدق. يقول «تومسن» في قصيدته «الشتاء» في وصف راع أتت عليه العاصفة، وهو يرعى ماشيته على سفوح التلال:
عبثا راحت زوجته الكدود له تعد
مصطلى النار ذا وهج والدثار دفيئا.
عبثا صغار بنيه إلى الطريق تطلعوا
ينشدون مولاهم في لجة العاصفة.
فهنا يزل الشاعر حين يقول عن الصغار إنهم «ينشدون مولاهم»، ولو قال «ينادون أباهم » لكان أقرب إلى الأطفال في شعورهم؛ لأن الوالد عند الطفل «أب» وليس بمولى. وإنك لتستدر عطف القارئ على الطفل الذي حرم أباه إذا تكلمت بلغة الطفل وشعرت بشعوره، أكثر مما تستدره إذا فخمت اللفظ وجئت بكلام لا يعرفه الأطفال. وكذلك يخطئ الشاعر مرة ثانية حين يطلق على الثياب التي تعدها الزوجة الوفية لزوجها لفظ «الدثار»؛ لأن الزوج هنا راع، والراعي يلبس الثياب المجردة، ولا تعد له الدثر الدفيئة التي تعد للأغنياء المترفين. وعلى الجملة فإن أبيات «تومسن» لا تشعرك بالجو الصحيح في منزل الراعي؛ ولهذا أعوزتها الجودة حين أعوزها الصدق.
ويقول «جراي» في قصيدته المشهورة «مرثية في فناء كنيسة ريفية» التي نظمها بين عامي 1742-1750م، في معنى كهذا ما يلي، والضمير في الأبيات عائد على الراقدين في أجداثهم في فناء الكنيسة التي وقف فيها الشاعر راثيا:
لن تشتعل لهم بعد مدفأة وهاجة ليصطلوا،
ولن تنكب لهم زوجة في شغل تتم عناء المساء،
ولن يسرع نحوهم صغار بعودة مولاهم يلثغون،
أو يصعدوا ركبتيه ليقتسموا قبلة منه مرجوة.
وفي هذه الأبيات ترى صورة الزوجة منكبة تتم أعمالها قبل عودة زوجها، أصدق وأكثر تحديدا من صورة الزوجة عند «تومسن» تعد «الدثار دفيئا»، وكذلك صورة الأطفال يسرعون نحو أبيهم وهم يلثغون في الترحيب به، أقرب إلى الوضوح من الأطفال عند «تومسن»، ولكن «جراي» يضخم اللفظ في غير موضع للتضخيم حين يسمي الأب مولى، فيخطئ هنا كما أخطأ تومسن.
ويصور «كولنز» صورة شبيهة بهذه أيضا في قصيدة له عنوانها «نشيد في الخرافات الشائعة»، إذ يرسم لنا حالة الأسرة وقد أغرق في اليم عائلها:
عبثا سترقبه في قلق زوجته،
وتجوب الطريق لعلها تلاقيه في عودته.
عبثا إذا ما أطبق المساء على ضوء النهار
يطيل الصغار وقوفهم عند الباب لأب يفتحه.
فهنا تحس كأنما امتزج الشاعر بهذه الأسرة الحزينة وأشرب شعورها؛ فهو لا يصور مأساتها وهو واقف على مبعدة منها يرقب ويصف، بل يحيا في هذه المأساة نفسها مع أفراد الأسرة المنكوبة. انظر كيف أقلقه قلق الزوجة، وراح يصور من المنظر ما يعين على أداء غرضه الذي يهدف إليه، ولا ينحرف إلى سواه، فكل سطر يضيف إلى صورة المأساة خطوة حتى تتكامل، ويضيع الرجاء حين يقبل المساء، ويجتمع الأطفال خلف باب الدار ينتظرون أبا لن يعود؛ فالباب الذي لن ينفتح لأبيهم الغائب أبعث على الحزن من القبلة التي يرجونها من أبيهم في وصف «جراي». كل سطر في هذه القصة دال على خيبة الرجاء، وباعث على مشاركة الزوجة وبنيها وجدانهم وأحزانهم.
أفحش الخطأ أن يظن الشاعر أن هذه لفظة تصلح للنثر ولا تصلح للشعر، لأنها درجت على ألسنة الناس في الحديث؛ إذ العبرة بما تحتويه اللفظة من مكنون شعوري، وبما توحيه في موضعها الذي يختاره لها الشاعر من خواطر ومشاعر. نعم إن لبعض الألفاظ في المسامع نغما أشجى من بعضها الآخر، وبعض الألفاظ أسلس في يد الشاعر من بعضها، وأكثر اتساقا وانسياقا في الكلام الموزون، لكن هذه العوامل كلها متصلة بجمال الألفاظ الظاهري الخارجي، وهو جمال تافه ضئيل إذا قيس بالجمال الباطني الحقيقي، جمال المعنى والشعور الذي توحي به اللفظة عند كاتبها وسامعها. جمال اللفظ أن يؤدي ما أريد له أن يؤديه أداء كاملا مليئا بالقوة والحياة، ولا عبرة
شعرا كان أو نثرا - هو قوة التعبير؛ كلما فاضت العبارة بمعانيها ومشاعرها وعواطفها التي قصد الكاتب أن يسوقها فيها، كانت أدنى إلى الأدب الحي الصحيح، على شريطة ألا يقصد من العبارة أن تؤدي معنى عقليا خالصا يمكن للرموز الجافة أن تؤديه، بل لا بد أن تحمل الألفاظ إلى جانب معانيها العقلية محصولا من العواطف الإنسانية والصور الذهنية والمشاعر الحية، التي تجمعت حول تلك المعاني العقلية على مر الدهور، بفعل ما مرت به الإنسانية من تجارب؛ «فاثنان واثنان تساوي أربعة» عبارة تؤدي معناها على أتم وأوفى ما يراد لها، لكنك لا تسلكها في الأدب الرفيع بسبب أدائها المعنى أداء تاما وافيا؛ لأن معناها عقلي خالص، يخلو من العواطف والمشاعر الإنسانية، ومن الممكن أن نستغني في أداء هذا المعنى عن الألفاظ جملة ونستبدل بها رموزا دون أن ينقص من المعنى شيء، كأن نسوقه في أرقام كهذه 2 + 2 = 4، وهذا ما أردناه منذ قليل حين اشترطنا للعبارة الأدبية الجيدة أن تعبر عن معناها أوفى ما يكون التعبير، على شرط ألا يكون معناها عقليا خالصا، بل يضاف إليه شعور إنساني بثته في الألفاظ تجارب الإنسان على مر العصور. ولست أحب لك أن تتعجل الأحكام، فلا يسبقن إلى وهمك أن «اثنين واثنين أربعة» كتب عليها ألا تجري في سياق الشعر لأنها تخلو من الصور الذهنية والمشاعر الإنسانية، وتقول الحق العقلي مجردا عاريا؛ فقد تجد في الشعر موضعا يكون فيه نقصها الشعوري نفسه سببا في جمال المقطوعة الشعرية في مجموعها، فانظر مثلا إلى الشاعر الإنجليزي «هاوسمان»
Housman
في قصيدته التي يستهلها بقوله:
لما سلكت طريقي إلى السوق أول مرة.
كيف استفاد في أداء معناه من هذه الحقيقة الرياضية التي توفي المعنى كاملا، ولا تعتمد على عواطف الإنسان ومشاعره في قليل ولا كثير؛ إذ يتخيل الشاعر نفسه غلاما صغيرا وقف في السوق يتطلع في شوق شديد إلى أشياء لا يستطيع شراءها، فلما أن شب رجلا وامتلأ كيسه بالنقود والأشياء ما زالت في السوق معروضة كما كانت أيام طفولته، فقد الشهية التي كانت له وهو غلام. ويختم القصيدة بهذه الرباعية التي يقابل فيها نقص الإنسان وانعدام الرضا في نفسه بما يشاهد في الطبيعة الخارجية من ثبات في الحقائق لا يتغير:
رأى الناس اثنتين واثنتين أربعا،
لا هي في عدهم ثلاث ولا خمس.
فآلم هذا الحق القلوب وأوجعا،
وسوف يؤلم حتى يضمهم رمس.
فما رأيك في هذه الحقيقة العارية الباردة وقد وضعت هذا الموضع؟ أليست تحرك فيك الإشفاق على هذا الإنسان الذي يتقلب ويتغير وسط عالم ثابت؟
القصيدة الجيدة من الشعر - إذن - هي ما يستخدم فيها الشاعر الألفاظ بحيث تؤدي معانيها كاملة، والشاعر الحق هو من تميز عن سائر الناس بإدراكه لما للألفاظ من قوة؛ أي بإدراكه لما في ثناياها من معان تجمعت فيها خلال العصور؛ فالكلمة عند الشاعر لا تفسر بالعقل وحده، لكنها تفسر كذلك بالقلب والخيال؛ فإذا ما ترددت لفظة في ذهنه كان لها أصداء مدوية في دخيلة نفسه؛ لأنها تسكب مكنونها كله فيسري في كيانه، ويكشف لخياله في سريانه هذا مناظر الماضي وذكرياته، فيستعيد المشاعر التي كانت هذه الألفاظ قد أثارتها في أنفس الناس في شتى تجارب الحياة؛ فاللفظة الواحدة على هذا النحو قد تسكب في نفس الشاعر من الصور المتلاحقة ما يملأ قصيدة كاملة. خذ هذه القصيدة التي أنشأها أمير الشعراء في إنجلترا اليوم (مستر ميسفيلد) وعنوانها «حمولة السفن»، وما أظن هاتين اللفظتين تثيران في نفسك أو في نفسي إلا أتفه الصور وأبرد المعاني؛ فهما قد تستدعيان إلى ذهنك وذهني صورة السفينة وقد حملت الأثقال فوق ظهرها، وقد نمعن في التقصي فنشم خلال الكلمتين رائحة البحر، ونتعقب البضائع المحملة إلى قواعدها عبر البحار، لكن انظر كم سكبت اللفظة في نفس الشاعر من صور ومعان! لقد أخرج من «الحمولة» قصيدة بأسرها من أجود الشعر، لا يعتمد أن يسوق فيها فكرة أو يضمنها رأيا، بل يكتفي بالنظر إلى السفينة المحملة ثم يترك لشعوره العنان. هو في هذه القصيدة لا يفعل شيئا سوى أن يترك لفظ «الحمولة» يفرغ شحنته في رأسه، وما عليه بعد ذلك إلا أن يخرج الصور التي كانت كامنة في اللفظ وانسكبت في نفسه، وتستطيع وأنت تقرأ القصيدة أن ترى الصور تتداعى واحدة في إثر واحدة، كأن اللفظة شريط ملفوف ينحل وينبسط أمام عينيك شيئا فشيئا؛ حمولة، سفينة، أنواع السفن واحدة بعد أخرى، السفينة الثقيلة القديمة ذات المجاديف الخمسة، السفينة الخفيفة التي استعملت في معارك البحر، السفينة التي تحمل اليوم تجارة العالم وصناعته وهكذا. وفي كل مرحلة من هذه الحلقات المتتابعة تنشأ في ذهن الشاعر صور فيعمل فيها فنه؛ هذه يثبتها وتلك يمحوها. فلما وردت على ذهنه السفينة القديمة ذات المجاديف الخمسة، تلاحقت الصور كما يلي: نينوى، أوفير، ميناء، فلسطين، عاج ... إلخ. حتى إذا ما أتم القصيدة كانت «الحمولة» قد أفرغت ثلاثة عصور متباينة من عصور التاريخ، فأعادت له عصر سليمان بكل مجده وجلاله، وعصر اليصابات بما فيه من مغامرات وحروب في البحر، والعصر الحديث بسفنه التي تجوب البحار بتجارتها وصناعتها، كل هذه الصور وغيرها كانت مندسة في لفائف اللفظة الواحدة «حمولة»، وما إن أدارها الشاعر في ذهنه حتى تفجرت مكنوناتها وازدحمت صورها في نفسه، فأحس ما أحسه العالم في عهوده الماضية. وإذن فهو مؤرخ بمعنى الكلمة الصحيح؛ لأنه يستثير كوامن الماضي في نفسه، أو إن شئت فقل إن الماضي يبعث إلى الحياة من جديد في نفس الشاعر، بعثا على سبيل الحقيقة لا المجاز؛ لأنه سيعود حيا في وعيه وقلبه وشعوره، ولا يظل معروضا - كما يعرض في كتب التاريخ - في جمود القواقع الجافة التي تشير إلى ما كان فيها من حياة، دون أن تكون هي الحياة نفسها. على هذا النحو تفرغ الألفاظ ما أودعه الماضي في جوفها، كأنها تفعل ذلك بفعل السحر. ولعلك قد رأيت في المثال السابق كيف أتم الشاعر قصيدته على غير وعي منه؛ فهو وإن يكن متيقظا يوجه عملية «التفريغ» - تفريغ الصور من اللفظة - إلى حيث يريد، فيقرر أي الأضابير يحل ويفرغ، وأيها ينحى ولا يؤذن له بموضع في السياق، إلا أنه يقف من اللفظة موقفا قابلا لا فاعلا، فيدعها تتمخض عما شاءت من المعاني والذكريات حتى تكمل القصيدة كلها. وهو إذ يستعرض في القصيدة أنواع السفن الثلاثة، ويدع كل نوع منها يستدعي إلى ذهنه سلسلة من الخواطر والذكريات، وينتهي به الأمر إلى تصوير ثلاثة عصور من التاريخ؛ لا يوازن بين الحياة في هذه العصور المختلفة، ولا يزن كلا منها بما يراه له من قيمة وقدر، بل يكتفي بأن يبسط تجربة حية من كل عصر، وللقارئ أن يتخذ من هذه التجربة التي يبسطها له الشاعر تجربة كسائر ما تمده به الحياة من تجارب، ثم له أن يجعلها موضعا لتفكيره وتأمله، فتكون له مادة يكون منها في النهاية فلسفته الخاصة به . أما الشاعر فلا يقدم له رأيا ولا فلسفة، ويكتفي باسترجاع العناصر الحيوية التي طبعت «حمولة السفن» في الأعصر السوالف بطابعها. فأول ما يطلب من الشاعر أن يحيا في تجارب الماضي حياة جديدة، باستخراج ما تكنه الألفاظ من تلك التجارب.
لكن القصيدة ليست كلمة واحدة تفرغ ما فيها وكفى، إنما هي كلمات متجاورة متعاقبة، تقذف كل منها بما هي مفعمة به من تراث الماضي في نفس الشاعر ووعيه، وما تزال به تؤثر فيه حتى تدفعه دفعا أمام تيارها، فيجاوز الحاضر وينحدر إلى المستقبل يتسلفه ويسبق وقوعه. ومن ثم سمي الشعراء بالأنبياء؛ فهم يستجيبون لما ورثه الحاضر من الماضي خلال الألفاظ وما بث فيها، بحيث يتبين لهم أكثر مما يتبين لسواهم مجرى الحوادث في المستقبل كما تدل عليه تجارب الماضي. هم يتنبئون بالمستقبل؛ لأنهم يرون طريق التطور والرقي الذي تسير فيه الحياة، وتعينهم على ذلك قدرتهم العظيمة على استكناه ما تبطنه الألفاظ في جوفها من تراث فكري وشعوري خلفه فيها الأقدمون. خذ مثلا لذلك قصيدة «وردزورث» «الحاصدة المنفردة»،
1
فترى الشاعر فيها يسير على تل في اسكتلندا، وإذا ببصره يقع على فتاة تحصد حقلا عبر الوادي، وينصت فإذا بالحاصدة تغني فيتأثر أبلغ الأثر بمنظرها وغنائها.
انظر إليها في الحقل وحيدة،
تلك الفتاة الريفية في عزلتها
تحصد وتغني بنفسها.
قف ها هنا أو امض هادئا.
يقدم الشاعر بهذه الأبيات الأربعة لما يريد أن يسوقه في قصيدته، وهي غاية في بساطة المعنى، لا تعقيد فيها ولا التواء، ولا يريد بها الشاعر غير أن يثبت حادثة رآها، ولكنك رغم بساطتها تلاحظ أن الشاعر مسحور بشيء رآه، وهو يخشى بهذه الفتنة البادية أن يفسدها عليه سائر ينهب الأرض بسرعته، فيهمس في إشفاق: «قف ها هنا، أو امض هادئا»؛ ليدوم له هذا السحر الذي أخذ يستغرق فيه. فما مبعث الفتنة في نفس الشاعر المأخوذ؟ أهو منظر الفتاة تجمع الحصاد أم صوتها تغني؟ قد تكون الفتنة منهما معا، لكنها فتنة الصوت قبل كل شيء، ذلك ما يبينه البيت التالي ؛ فهي تغني «نغما حزينا»، هي تغني «نغما» لا «أغنية»؛ فألفاظ غنائها قد انبهمت مع البعد فلم يبلغ أذن السامع إلا طلاوة الموسيقى وحلاوة «النغم»، ولكن هذا النغم قد مثل الأعاجيب المعجزة.
صه! أنصت، فالوادي العميق
فياض بصوت النغم.
وفي هذا القول أول إشارة تدل على الفتنة الغامضة الملغزة التي احتوت الشاعر في موقفه، ولم يصف «وردزورث» واديه - الذي يفصل بينه وبين الفتاة في حقلها - بالعمق لهوا وعبثا، لكنه يريدك على أن تتصور هذا العمق وقد امتلأت جنباته بسحر الغناء. إن الوادي وقد ملأه المصوت الشجي، قد تبدى في عين الشاعر واديا جديدا غير الوادي المعهود، فصوت النغم قد سما بطبيعة المنصت حتى أرهف حسه وشعوره، وهو ينظر بهذا الحس الذي أرهفه الصوت وبدل من طبيعته، فإذا هو بالمنظر الطبيعي أمامه قد أصابه التحول، فبات في عينه واديا غير الوادي.
لكن «وردزورث» يشعر أنه لم يوف تأثره تعبيرا وإفصاحا، فلا يزال في نفسه أكثر مما أعرب عنه. إنه لم يعط السامع صورة كاملة للرهبة المفاجئة التي فعلت في نفسه فعلها، فسمت بها عن طبيعتها. إنه لم يفعل بعد سوى أن أشار إلى ما أحسه تلميحا، وهو الآن في سبيله إلى التعبير الوافي عما أحس إذ أنصت إلى صوت هذه الحاصدة، ولكن أثر النغم في نفسه - كما كان في حقيقته - من الإلغاز والغموض بحيث يستحيل عليه أن يصفه وصفا مباشرا، وكل ما يستطيعه إزاءه أن يذكر لك أشباها له قد توحي إليك بطبيعته؛ ولهذا تراه يستحضر في ذهنه أصواتا أخرى في ظروف أخرى يجوز لها أن تحدث في نفس السامع أثرا كالذي أحدثه صوت الحاصدة وهي تغني؛ فيذكر لك صوت البلبل وهو يهدهد آذان المسافرين في القفر الفسيح وقد هدهم النصب، فناموا بفعل النغم، وعمق بهم النعاس، حتى فقدت مسامعهم إحساسها. هذا صوت قد يكون له من الأثر مثل ما أحسه «وردزورث» حين طرقت مسمعيه نغمة الحاصدة، ومع ذلك فالصوتان لا يتشابهان إلا في تسللهما إلى حبات القلوب، ثم يبقى بعد ذلك لنغمة الفتاة هزتها؛ لذلك تراه بعد أن يقول:
إن بلبلا قط لم يغرد
بهذه الطلاوة للحشد النائم
من المسافرين عند بعض الفيء الظليل
في جوف الرمال من بلاد العرب.
يعقب بهذه الأبيات:
إن صوتا كهذا يهز النفس لم تسمعه آذان
من الوقواق المغرد إبان الربيع
يشق سكون البحار
عند جزائر الهبريد النائية.
ففي الصورة الثانية توسعة للصورة الأولى؛ إذ تضيف إليها اهتزاز النفس حين يدوي صوت الوقواق بغتة، فيشق سكونا رهيبا يملأ الفضاء، والصورتان معا تتعاونان على بيان ما أحسه الشاعر من فتنة لصوت الحاصدة المغنية في عزلتها وهي تجمع الحصاد، لكن هاتين الصورتين لم تقفا عند حد التعبير عن إحساس الشاعر، بل أحدثتا أثرا وراء الغاية التي من أجلها سيقتا في القصيدة؛ فالشاعر إذ رأى هذه المناظر أمام عينيه قوية ناصعة ناضبة بالحياة، وترجم إحساسه بها في كلمات؛ دفعته قوة الكلمات دفعا حتى جاوزت به الغاية التي قصد إليها من قصيدته؛ فاقرأ الأبيات السالفة مرة أخرى، والحظ فيها، فضلا عن مواضع التشابه بين هذه المناظر التي ساقها الشاعر وبين ما أحاط بالفتاة الحاصدة من ظروف، مواضع شبه أخرى أدق وألطف، تسللت في سياق القصيدة فأكسبتها جوا جديدا مشبعا بالعزلة وروح الكآبة الحزينة؛ فهو إذ يذكر - عامدا أو غير عامد - صحراء العرب الموحشة وبحار الهبريد القصية المنعزلة، قد أطلقنا معه نسبح في طول البلاد وعرضها، ونجمع في تحوامنا لمحات دقيقة عما تحمله الأرض فوق سطحها من ألوان العناء والهم، وكأن الهم والعناء من لوازم الحياة الدنيا، وبغيرهما لا تكون حياة؛ فها أنت ذا مع الشاعر وسط الفيافي القفر التي تمتد ما امتد البصر، حيث المسافرون قد هدهم الإعياء فرقدوا عند الفيء يهدهدهم تغريد البلبل، حتى أطبق عليهم نعاس عميق لا يزول عنهم إلا مع الصبح، فينهضوا من نومهم وقد ازدادوا إحساسا بعزلتهم في تلك الفلاة، ثم ينتقل بك الشاعر من ذلك اليباب البلقع إلى حيث بطاح البحر قد امتدت آفاقها، وهنالك يغشاك إحساس رهيب بسكون الأغوار العميقة الدكناء، وإن المنظر ليزداد في نفسك رهبة حين يدوي في جنباته بغتة صوت توحي نغمته بالطرب وإشراق الربيع وبهجة الحياة، لكن أصداء الصوت تمحي فوق سطح الماء، ويظل كل شيء كما كان، بل إن صرخة الوقواق نفسها تصبح في الأذن صوتا يؤذن بعبث الحياة، ونبرة حزينة تنم عما تنطوي عليه الدنيا من هموم مضنية، ويثقل في عينك منظر الطبيعة بما تستشفه في صميم الكون من بؤس وشقاء، ثم يعود العقل بعد سبحاته الطويلة مع الشاعر في أنحاء الأرض، يعود إلى صوت الحاصدة وهي تغني في عزلتها، فيستمع إليها وقد تملكه هذا الإحساس الحزين الكئيب من رحلته فوق الصحراء وأمواه المحيط، هو يستمع الآن إلى نغمتها الحزينة وكأنها احتوت في نبراتها كل ما في الكون من وحشة وانفراد، وتجيء المقطوعة التالية في القصيدة، فتتمم المعنى الذي أحسه الشاعر:
هلا وجدت من يحدثني بماذا تغني؟
فربما فاضت هذه النغمات الحزينة
من أجل ماض سحيق شقي قديم
ومعارك انقضى عهدها منذ زمن بعيد.
ها هنا يعود الشاعر فيثير فيك الرهبة برحلة طويلة أخرى، لكنه هذه المرة لا يرتحل معك في أنحاء المكان، بل يذهب بك قافلا على مدى الزمان؛ فالماضي السحيق الشقي القديم قد ترك نغمته المرة الحزينة، وإذا ما عدت تنصت إلى نغمة الحاصدة وهي تغني، فلا يسعك إلا أن تثقلها بهذا الحزن الجديد الذي اجتلبته معك بعد رحلتك مع الشاعر في الزمان. إن أغنية الحاصدة المنعزلة في حقلها لم تعد أغنية فتاة ريفية تجمع حصادها، بل باتت لحنا يعبر عما في الكون من هم وأسى. إنه يعبر عما تنطوي عليه الحياة البشرية من آلام وأحزان؛ وبهذا كله لم يصنع «وردزورث» أكثر مما يصنعه كل شاعر عظيم، لكنه يعود بهذه المقطوعة الآتية، فيتفرد دون سائر الشعراء:
أم تراني أسمع نغما متواضعا،
نغما لا ينبو بمعناه عن شئون العصر،
فيه ما في الحياة الجارية من ألم وفقد وأسى
مما شهدته الحياة، وما قد تعود فتشهده.
فبعد أن صنع «وردزورث» ما يصنعه كبار الشعراء، بأن سما بأغنية الفتاة حتى جعله لحنا كونيا يعبر عن صوت العالم بأسره، ويجري بأعمق ما هد قلوب البشر من أحزان، يعود بطريقة نعهدها فيه وحده دون سائر الشعراء، فيرد الأغنية من جديد إلى قلب الفتاة النكرة التي لا نعرف منها حتى اسمها، والتي لم تكن منذ عهد قريب سوى حاصدة منفردة في حقلها، منهمكة في عملها اليومي المألوف، لكن الفتاة يستحيل أن تعود إلى ما كانت عليه بساطة وقلة شأن، فقد تجسدت فيها أخطر جوانب الحياة؛ وإذن فهذه القصيدة في صميمها تقويم جديد لقيم الإنسان، وأسلوب جديد في النظر إلى الإنسان والطبيعة، وإحساس جديد بقيمة الحياة البشرية. إنها كشف لعالم جديد تسوده القيم الروحية، فيصبح فيه الحقير التافه وقد اكتسب قيمة عالمية كبرى. إنها نبوءة بروح الديمقراطية، وسبق للحوادث التي ستتمخض عنها الأيام. فوردزورث في قصيدته هذه يكشف عن تجربة جديدة؛ فلم ير أحد قبله ما رآه، ولم يسمع أحد قبله ما سمعه، ولم يحس أحد قبله ما أحسه، حين طرقت مسمعيه أغنية «الحاصدة المنفردة».
كل قصيدة كبرى هي كشف جديد وتنبؤ وتسلف لحوادث المستقبل وروحه. القصيدة الجيدة تكشف عن آفاق من التجربة الروحية لم يسبق إليها الشاعر، فالشاعر كشاف رائد في دولة الروح. وإذا ما قرأت القصيدة العصماء كنت بمثابة من يمارس تجارب جديدة في عالم الروح، تهتز لها نفسك اهتزازا لا يقل في قوته عن اهتزازها إذا ما أقبل رحالة على إقليم جديد، ووقع بصره فيه على عالم لا عهد له به. تقرأ للشاعر العظيم فكأنك تتابعه في ذلك العالم الروحي الذي كشف عنه الغطاء، وتحيا في التجارب التي أحسها في رحلته التي كشف فيها عن ذلك العالم. والعجيب أن الشاعر لا يكشف لنا الغطاء عن عوالم الروح وكفى، بل يزيد على ذلك أنه يجهزنا بملكات نستطيع بها أن نفهم ونتشرب تلك العوالم، بحيث يصبح جزءا منا يجري في دمائنا. فما جهل الإنسان قط وجود زهرة الأقحوان، يراها في الحقول في غدوه ورواحه، ولكن عينه لم تر فيها قط ما أصبحت تراه فيها بعد أن هداها وردزورث بشعره في الأقحوان. فلئن عجز الإنسان أن يضيف إلى عالم المادة ذرة واحدة، فقد عوضه الله عن هذا العجز خير العوض، إذ أتاح له أن يوسع لنفسه من عالم الروح كيف شاء.
وتلك هي المهمة الكبرى التي على الشعر أن يؤديها؛ فكل واجبه أن يوسع من قدرة الإنسان على أن يمارس في عالم الروح ما لم يمارسه في عالم المادة، فكل قصيدة تجسد تجربة معينة صادفت شاعرا معينا، فلما تبلورت التجربة في وعي الشاعر واستقرت في ألفاظ، كان في مقدور القارئ أن يعيد في نفسه تلك التجربة بذاتها التي صادفت الشاعر في حياته، ومعنى ذلك أن القارئ يستطيع أن يمر خلال الحالة النفسية والشعورية التي مر بها الشاعر، فيحياها من جديد بفضل ما تمتاز به الألفاظ من خصائص، وما الألفاظ هنا إلا بلورات صغيرة تجسدت فيها تلك الحالة النفسية الشعورية، وخصائصها العجيبة التي امتازت بها قدرتها على أن تتحلل من تلقاء نفسها في عقل القارئ، فتخرج ما دس فيها من عناصر الفكر والشعور. وفن قراءة الشعر هو الفن الذي يعين الألفاظ على أداء هذه العملية في ذهن قارئها، عملية التحلل إلى عناصرها المكونة لها. فن قراءة الشعر هو فن تنفذ به إلى معاني الألفاظ كاملة، فلا تكتفي بمعانيها السطحية العامة، بل تستخرج من أجوافها كل الصور والمشاعر التي ترتبط بمعانيها. لو أخرجت من ألفاظ القصيدة محصولها المكنون، ونقشتها في ذهنك نقشا يفرز عناصرها ومقوماتها، ويحلل كيانها؛ فقد قرأت القصيدة قراءة صحيحة. وطبيعي أن يختلف الناس اختلافا بينا في القدرة على استخراج مكنون الألفاظ من معان ومشاعر وصور؛ فكلما ازددت معرفة بالحياة والعالم ازددت قدرة على تعمق الألفاظ واستخراج ما في أحشائها من معنى مدخر. تقرأ - مثلا - هذه الأبيات لأبي نواس يصف الخمر وهي تدار في كئوس من الذهب عليها تصاوير:
تدار علينا الراح في عسجدية
حبتها بأنواع التصاوير فارس
قرارتها كسرى، وفي جنباتها
مها تدريها بالقسي الفوارس
فللراح ما زرت عليه جيوبها
وللماء ما دارت عليه القلانس
فلا تفهم كل ما في الأبيات من معنى إذا لم تكن قد علمت من تجارب حياتك ومن دراساتك ما الراح، وكيف تكون في كأس عسجدية، وما التصاوير الفارسية، ومن كسرى الذي رسمت صورته في قرارة الكأس، وكيف يدرئ الفوارس المها بأقواسهم لتتخيل الصورة التي رسمت في جنبات الكأس، ثم لا بد لك أن تعلم من صور فارسية رأيتها أو وصفت لك في شكل الثياب الفارسية والقلانس؛ لتتكون في ذهنك صورة حية عن مزيج الخمر بالماء في الكأس، إذ يقول الشاعر إن الخمر في الكأس بلغت جيوب الثياب التي في التصاوير، وكمية الماء تبدأ من الجيوب وتنتهي عند القلانس؛ فكلما ازددت بهذه الأشياء علما ازددت قدرة على استكناه الألفاظ واستخراج الصور المرادة حية ناصعة. وكذلك وردت في الشعر ألفاظ ترددت على ألسنة الشعراء، فاكتسبت طعما خاصا لا يتذوقه إلا من أدمن قراءة الشعر، كلفظة «المها» التي وردت في الأبيات السالفة - مثلا - فليس يكفيك لفهمها أن تفتح المعجم لتعلم أنها الظباء، بل لا بد أن تحاط في ذهنك بكل ما أحاطها به الشعراء من هالة تفيض غزلا واستحسانا، لكن هذه وأمثالها صعاب قليلة لا تحول دون قراءتك للشعر واستمتاعك به؛ فمعظم الفحول من شعراء العالم أجمع يبثون في ألفاظهم وقصائدهم من المعاني ما يكفي رجلا مارس الحياة وحدها وعرف حلوها ومرها، ولو لم يكن له من الثقافة المستمدة من الدراسة وقراءة الكتب إلا قليل؛ فقصيدة «الحاصدة المنفردة» التي أسلفنا لك تحليلها لا تحتاج في فهمها وتذوقها إلى علم وقراءة واسعة، فحسب قارئها إلمام ضئيل بحقائق الجغرافيا، فيعرف صحراء العرب وجزائر الهبريد ومحيطها، ليتابع الشاعر في قصيدته، وكل ما تحتاج من عدة لتستمرئ شعرا كهذا هو القدرة على الشعور؛ لأن القوة الشعرية في ألفاظ هذه القصيدة مستمدة في الأعم الأغلب من عناصرها الشعورية والعاطفية، لا من معانيها المكسوبة بالتعلم وقراءة الكتب، والكلمات الشائعة البسيطة أملأ - في كثير من الأحيان - بهذه العناصر الشعورية والعاطفية، من الكلمات الغريبة التي تحتاج في تحصيلها إلى دراسة ومطالعة. وقد رأيت فيما أسلفناه من مقطوعات شعرية تناولناها بالتحليل والمقارنة أن كلمة «أب» فيها من الشعور والعاطفة أضعاف ما في كلمة «مولى» على ألسنة الصغار.
ونحب للقارئ الذي يريد أن يستسيغ الشعر ألا يمر على الكلمات السهلة مر الكرام، ظنا منه أنها مألوفة لا تستحق الوقوف الطويل؛ فالألفاظ السهلة المألوفة في الشعر أشد خطرا من الصعبة الغريبة؛ لأن هذه ستضمن لنفسها بصعوبتها وغرابتها وقفة طويلة متروية متمعنة تفيد القارئ في استخراج مضمونها، أما الكلمات السهلة فالأرجح أن يستصغر القارئ شأنها ولا يختصها إلا بأقل عنايته. ونعيد القول بأننا نحب للقارئ الذي يريد أن يستسيغ الشعر ألا يمر على الكلمات السهلة مرا سريعا، فلا بد له أن يطيل الوقوف عند أسهل الألفاظ كما يطيله عند أصعبها وأغربها؛ لأن زلة صغيرة في فهم لفظة واحدة قد تفسد القصيدة كلها. إن ألفاظ القصيدة الجيدة لها حصانة عجيبة تقيها شر القلق الثائر المتعجل، ولها قداسة عجيبة تحتم أن يدنو منها الداني برفق وعلى مهل. وهاك مثالا أبياتا من الشعر في قصيدة للشاعر الإنجليزي «براوننج» عنوانها «ببا ماضية»،
2 «ببا» هذه فتاة إيطالية صغيرة تشتغل عاملة في مصانع الحرير، ولا تستريح من العام إلا يوما واحدا، وجاء يوم عطلتها، فخرجت إلى مجالي الطبيعة تنتقم لنفسها من حبسة الجدران التي تحرج صدرها، وتطبق على أنفاسها طيلة العام، فتجد كل شيء كما تمنته ازدهارا وإشراقا:
العام من الربيع في ريعانه،
واليوم من الإشراق في إصباحه،
والصبح في ساعته السابعة،
وسفح التل مرصع بلآلئ الندى،
والقبرة في طيرانها سابحة،
والدودة البزاقة على الأرض زاحفة.
الله في سمائه،
وكل ما في الدنيا بخير.
اقرأ هذه المقطوعة مسرعا، يتبادر إلى ذهنك أن بيتيها الأخيرين ضرب من القياس المنطقي، وكأن الشاعر يريد بهما أن يقول إنه ما دام الله في سمائه فالنتيجة أن كل ما في الدنيا بخير، والدليل هو هذه الأمثلة المطروحة: ريعان الربيع وإشراق الصبح ولآلئ الندى ... إلخ، ولو كان الأمر كذلك لكان الشاعر فيلسوفا يدبر عقله في الأمور، ويضع المقدمات وينتزع النتائج، وهنا يتعرض الشاعر لنقدك إن كنت من أصحاب الجدل المنطقي، فستقول إن في هذا القياس مغالطة لأن النتيجة لا تلزم عن مقدماتها؛ فقد يكون الله في سمائه ولا يكون كل ما في الدنيا بخير. لكن «براوننج» في قوله هذا شاعر وليس بالفيلسوف الذي يقرع بالحجة والدليل، ولو أجرى فلسفة على لسان هذه الفتاة الصغيرة العاملة المنهوكة المتعبة لما استحق أن يكون شاعرا؛ فهي في يوم عطلتها أسرعت إلى التل عند شروق الشمس، وراحت في مرحها وجذلها تنقل عينها هنا وهناك؛ لتنهب بهما مجالي الجمال نهبا، فما وسعها إلا أن تغني من فرط السرور: «العام من الربيع في ريعانه، واليوم من الإشراق في إصباحه، والصبح في ساعته السابعة، وسفح التلال مرصع بلآلئ الندى، والقبرة في طيرانها سابحة، والدودة البزاقة على الأرض زاحفة. الله في سمائه، وكل ما في الدنيا بخير.» وكل هذه أشياء أدركتها بعينيها إدراكا مباشرا، ولم تستدل على وجودها بقياس العقل والمنطق. هي لا تقول: «إنه الربيع»، لكنها تقول: «العام من الربيع في ريعانه»، كأنما هي في اللحظة الواحدة التي يتم فيها ازدهار الربيع ويكمل، وكل ما في الأرض والسماء والماء والهواء ناطق بأن الربيع في ريعانه. وما البيتان الأخيران «الله في سمائه، وكل ما في الدنيا بخير» إلا من قبيل هذه المشاهدات المباشرة التي تراها بعينيها فيما حولها. إنها ترى الله في سمائه كما ترى لآلئ الندى على سفح التل، والقبرة في طيرانها سابحة؛ فإن أردت أن تقرأ أغنية هذه الفتاة، كان لزاما عليك أن تشعر بشعورها، وتنظر إلى الأشياء بعينيها لا بعينيك، فتتأثر بكل القوة التي تأثرت بها حين استجابت لازدهار الربيع وطيران القبرة. وإن لم تحس ما أحسته «ببا» في نشوتها وهي تجيل بصرها في جوانب الطبيعة حولها، فليس لقراءة الشعر عندك من غناء، وليس من الخطر في شيء أن تعود - وقد فرغت من قراءة القصيدة - إلى أفكارك العالية التي لا تدركها فتاة ريفية مثل «ببا»، فلك أن تستعيد كل آرائك ونظراتك السابقة بعد فراغك من القصيدة، فلتلك الآراء والنظرات كل الحق في أن تقف في ذهنك إلى جانب هذه النظرة الجديدة الساذجة التي أحسستها حين شاركت «ببا» وجدانها، لك أن تستعرض تلك النظرات السابقة وهذه النظرة الجديدة قبل أن تكون عن الحياة فلسفتك الخاصة بك، وقد تصل في تلك الفلسفة إلى نتيجة تختلف عما شعرت به ببا، ورغم ذلك كله فأغنية الفتاة لا تقل في صدقها قيد أنملة. هي صادقة بالنسبة إلى الفتاة وبالنسبة إلى اللحظة الزمنية التي قيلت فيها. هي تعبير صادق أمين عما دار في نفسها، ويستحيل على قارئ الأغنية أن يوقن بصدقها إلا إذا قرأها باذلا كل ما يستطيع من جهد وعناية في الوقوف عند ألفاظها لفظة لفظة، يستخرج كل ما فيها من مخزون الشعور، ولا تغرينه سهولتها، وإلا أفلت منه لبها وجوهرها.
سر الفن في قراءة الأدب واستساغته متوقف على شيء واحد، هو فن استخراج المعاني من ألفاظها، بحيث تخرج منها كل مخزونها. وقراءة القصيدة من الشعر ليست عملية نقدية عقلية، فلك أن تعمل فيها عقلك ونقدك على أن يكون لذلك المحل الثاني. ولئن جاز لك أن تقرأ القصيدة لتنقدها بعقلك بعد أن تقرأها لتحس ما فيها من مشاعر، فلا يجوز لك قطعا أن تقرأ قصيدة لتحكم على آراء الشاعر بالصواب أو بالخطأ. إن أردت القصيدة لفنها فليس الشاعر فيلسوفا يبسط رأيا يحتمل الصدق والكذب، لكنه شاعر يحس، وله كل الحق في أن يحس كما يشاء. قراءة الشعر عمل فيه شيء من الخلق والإبداع، فيه هضم لما تقرأ، فلم تقرأ شعرا إذا لم تتثمل ما فيه من مشاعر وتجارب؛ إذ القصيدة من الشعر تعبير عن تجربة مارسها الشاعر، هي سلسلة من المشاعر والمناظر والأفكار، تتولد في ذهن الشاعر عن موقف بعينه، ثم تودع في قوارير الألفاظ لتبقى أبد الدهر متعة لمن شاء أن يفتح هذه القوارير، ويستخرج منها ما استودعته؛ فلكي تقرأ القصيدة من الشعر لا بد لك أن تتناول هذه القوارير اللفظية واحدة بعد واحدة ، فتفرغها في شعورك وتتثمل ما أفرغته في دمائك، وليس من اليسير أن تبعث إلى الحياة تجربة الشاعر التي مارسها ومر خلالها وعاشها وهو ينشئ قصيدته، بأن تعيد في نفسك كل ما تولاه من حالات نفسية ومشاعر، وكل ما طاف بذهنه من مناظر وخواطر، هو لا شك مجهود عظيم أن تفعل ذلك، لكنه مجهود لا يقوم به العقل، وإنما يؤديه الخيال. قراءة القصيدة صورة من صور العيش، ولون من ألوان الحياة. أليست حياتنا الحقيقية سلسلة من ردود الأفعال نستجيب بها لطائفة من مؤثرات نصادفها في ظروفنا المحيطة وبيئتنا التي نعيش فيها؟ ثم أليست هذه البيئة مقيدة بما يضبط الكون من قوانين المادة؟ فإذا جاء الشاعر وخلق لنا بخياله بيئة تحللت من قيود المادة وقوانينها، أفلا يوسع من نطاق بيئتنا التي نعيش فيها، ويهيئ لنا بذلك الفرصة أن نستجيب لمؤثرات جديدة؟ إنه يمدنا في شعره بتجربة لا تقف عند حد، أو بعبارة أخرى يمد لنا من مجال الحياة ونطاق العيش أضعافا مضاعفة، لكنك لن تظفر منه بذلك إلا إذا تناولت القصيدة على أنها حياة ستحياها حينا من زمانك، لا فكرة ستناقشها بعقلك لتميز فيها بين الخطأ والصواب، والجيد والرديء. اقرأها بخيالك لتتمرس بتجربتها أولا، ثم اقرأها بعد ذلك - إن شئت - قراءة النقد والتمحيص. وقراءة النقد نوعان؛ نقد أدبي يسأل: إلى أي حد أجاد الشاعر في قصيدته؟ ومعنى السؤال: هل عبرت ألفاظ القصيدة عن تجربة الشاعر تعبيرا حيا ناصعا مكننا أن نعيد الصور إلى أذهاننا حية ناصعة كما مرت به؟ وفي هذا النقد الأدبي لا يجوز أن تبحث أصدق الشاعر في حكم العقل أم كذب، ولا يجوز كذلك أن تسأل أحافظ الشاعر على قوانين الأخلاق وأوضاع العرف أم خرج عليها؛ فالبحث في صدق التجربة أو كذبها، وفي المحافظة على قواعد الأخلاق أو الخروج عليها، ليس من النقد الأدبي في شيء. وإن شئت بحثا كهذا فذلك هو الضرب الثاني من ضروب النقد؛ فليس ما يمنع أن تعود فتقرأ القصيدة للمرة الثالثة لتحكم على ما ورد فيها - كما تحكم على ما يصادفنا من تجارب الحياة - بالخطأ أو بالصواب، بالفضيلة أو بالرذيلة، بل لك أن تحكم عليها من أية ناحية شئت؛ اجتماعية أو سياسية أو خلقية أو دينية، غير أن ذلك شيء والنقد الأدبي شيء آخر، ولا ينبغي أن تخلط بينهما كما يخلط لسوء الحظ معظم النقاد. فللقصيدة إذن ثلاث قراءات؛ قراءة أولى تعمل فيها الخيال لتحيا في التجربة التي مرت بالشاعر، وقراءة ثانية لتنقدها نقدا أدبيا، والنقد الأدبي مقصور على قدرة الألفاظ التي استخدمها الشاعر على التعبير عما أراد، وقراءة ثالثة لتنقدها في معانيها وآرائها ومذاهبها إن خطأ أو صوابا. على أننا نشترط لهذا النوع الثاني من النقد ألا يكون إلا بعد قراءة القصيدة قراءة من النوع الأول، ليس لك أن تحكم على تجربة الشاعر بالصواب أو بالخطأ إلا إذا عشتها كما عاشها، وتمرست أحاسيسها كما تمرسها؛ ففي قصيدة «ببا ماضية» التي أسلفناها وحللناها لا تستطيع أن تقدر القيمة العقلية لقولها: «الله في سمائه، وكل ما في الدنيا بخير» إلا إن تقمصت شعورها بخيالك أولا؛ لترى بعينيها في موقفها هل ثمة ما يبرر لها أن تحكم بذلك أو ليس هناك ما يبرره. ونحب أن نلاحظ لك في هذا الموضع أن القصائد التي أضافت إلى الفكر الإنساني قسطا أوفر إنما أضافت قسطها ذاك لا بما فيها من فكر خالص، بل بما لها من قوة الشعر. قد يقول الشاعر قصيدة دينية، فيزيد بها من ذخيرة العقيدة الدينية، مع أنها لا تسوق في تأييد تلك العقيدة حجة عقلية واحدة، وكل ما يصنعه هو أن يصور شعوره الديني - كما يحسه - تصويرا يتيح للقارئ أن يستعيد في نفسه ذلك الشعور بعينه إذا ما قرأ القصيدة؛ وإذن فالحكم على القصيدة من الناحية العقلية متوقف على قيمتها الشعرية الخالصة. وهكذا ترى أن ألزم ما يلزمك في الشعر هو فن قراءته باعتباره شعرا لا كلاما يساق لبسط رأي أو عقيدة. ونعود فنكرر أن ذلك الفن مرهون بقدرتك على فهم الألفاظ فهما يستخلص لك كل ما تحتويه في جوفها من تجارب ومشاعر وخواطر ومعان، كأنما هي - كما ذكرنا - قوارير مفعمة مترعة، عليك أن تفرغها وتتمثل ما بها. تلك هي السبيل الوحيدة إن أردت أن تتذوق الشعر بكل ضروبه؛ قصيدة كان أو قصة أو مسرحية. ولنتناول الآن بعض الشعر بالتحليل؛ لنرى كيف يفهم إن فتحت مغاليق ألفاظه وانسكب ما فيها.
قال شاعر عربي في هجاء قوم هذا البيت، الذي قيل عنه إنه أهجى بيت قالته العرب:
قوم إذا استنبح الأضياف كلبهم
قالوا لأمهم بولي على النار
فتكاد كل لفظة في هذا البيت تدل على الذم والهجاء؛ فكلمة «إذا» تفيد الشرط المؤقت المعين، وتدل على أن الأضياف لا يعتادونهم إلا في الأوقات القليلة. وسين الاستفعال في «استنبح» تؤذن أن كلبهم ليس من عادته النباح، وإنما يقع منه ذلك نادرا لقلة الضيف. و«الأضياف» جمع قلة يفيد عددا أقل من العشرة؛ إذ لا يقصد هؤلاء القوم إلا نفر قليل. وتعريف الشاعر «للأضياف» بأداة التعريف إشارة إلى أنهم أضياف معهودون؛ إذ لا يقصد أولئك القوم كل ضيف لبخلهم. واستنباح الأضياف للكلب فيه دلالة على أن الكلب لا ينبح إلا بالاستنباح؛ لهزاله وقلة قوته من الجوع والضعف. وقد أفرد الشاعر الكلب ولم يجعل لهم كلابا كثيرة؛ احتقارا لهم وتقليلا من شأنهم. وإضافة الكلب إليهم يزيدهم احتقارا وزراية. وفي كلمة «قالوا» دليل على أنهم قوم بغير خادم يقوم على شئونهم، وأنهم يباشرون حوائجهم بأنفسهم. وجعل الشاعر القول يتجه منهم مباشرة لأمهم؛ ليدل على أنه لم يكن هناك من يخلفها من خادمة في إطفاء النار، فأقام الأم مقام الأمة والخادمة في قضاء الحوائج لهم، وهم من الذلة والضعة بحيث رضوا لأمهم هذا المقام. وأنطقهم الشاعر بلفظ البول وهو ممجوج يدل على أنهم جفاة لا يألفون شيئا من مكارم الأخلاق، خصوصا وأن ذلك اللفظ موجه إلى أمهم. وقوله «على النار» دليل على ضعف نارهم لقلة زادهم، فحسبك أن بولة واحدة من امرأة عجوز تطفئها. واستخدم الشاعر حرف الجر «على» النار ، وفي ذلك إشارة إلى أن حرف الاستعلاء مقصود؛ ليتخيل القارئ صورة بشعة منفرة، صورة الأم وقد استعلت النار، تصب عليها بولها لا تبالي تسترا. وقد لخص الأصمعي مواضع الذم في هذا البيت بعبارة أوجز، فقال: هذا البيت أهجى بيت قالته العرب؛ لأنه جمع ضروبا من الهجاء؛ نسبهم إلى البخل لكونهم يطفئون نارهم مخافة الضيفان، وكونهم يبخلون بالماء فيعوضون عنه البول، وكونهم يبخلون بالحطب فنارهم ضعيفة تطفئها بولة، وكون البولة بولة عجوز وهي أقل من بولة الشابة، ووصفهم بامتهان أمهم وذلك للؤمهم.
هذا بيت واحد يريك في جلاء كم تفيد إذا أطلت الوقوف عند الألفاظ تحللها وتستخرج مضمونها ومكنونها، وبغير ذلك لا تظفر من الشعر بغير الوزن الأجوف والنغمة الخاوية. ولننتقل إلى مثال آخر، فنسير مع الدكتور طه حسين بك في سيره «مع المتنبي» وهو يقرأ له لاميته:
ليالي بعد الظاعنين شكول
طوال وليل العاشقين طويل
فعنده أن الشاعر قد أجرى في القصيدة روحا عذبا غريبا ليس من اليسير وصفه ولا تصويره، ولكنك تحسه إحساسا قويا، بل أنت تقرأ القصيدة فإذا هذا الروح يسبق ألفاظها ومعانيها إلى قلبك، ويشيع في نفسك خفة وطربا، لا تجدهما حين تقرأ أي قصيدة أخرى من قصائد المتنبي. «والغريب أن هذا الروح العذب الخفيف يحتفظ بعذوبته وخفته في القصيدة كلها، ولكنه مع ذلك يتخذ أشكالا، وإن شئت فقل يتخذ ألوانا، وإن شئت فقل يتخذ ألوانا مختلفة، تتباين بتباين المعاني والموضوعات التي يطرقها الشاعر في هذه القصيدة، فهو على عذوبته وخفته حزين شاحب كئيب، يثير في نفسك الحنان والرحمة والألم الهادئ، حين يتغنى الشاعر في هذا الغزل الذي بدأ به القصيدة، فإذا انتهى الشاعر إلى المدح ووصف الموقعة خلع عن هذا الروح العذب الخفيف دائما حزنه وشحوبه وكآبته، واتخذ ثوبا زاهي الألوان إلى أبعد حد، يمسه ضوء الشمس فتضطرب ألوانه، وتتموج تموجا ساحرا، وإذا هو يغلبك على نفسك، وإذا نفسك تتموج معه كما يتموج. والشاعر يصف الحرب وصفا دقيقا، وكانت الحركة النشيطة السريعة أخص ما تمتاز به هذه الحرب ، وهي الجرأة التي لا تسمح بمهل ولا أناة ولا تبيح روية ولا تفكيرا، وإنما هي اندفاع متصل إلى أمام، يزداد عنفه من وقت إلى وقت، ولا يحفل بالمصاعب ولا يقف عند العقاب، وإنما يقتحم كل ما يعترضه ويكتسح كل ما يلقاه، يصعد حين تعترضه الجبال، وينحدر حين ينتهي من القمة إلى السفح، ويعدو حين ينتهي إلى السهل، حركة وجرأة هما أشبه شيء بنشوة النشوان الذي يأتي ما يأتيه عن فرح ونشاط، لا سعة فيهما لتعقل أو تدبر.» «وكذلك فعل سيف الدولة في هذه الحرب، وقد خطرت له فجأة فاندفع إليها من «حران»، لا يلوي على شيء حتى أمعن في بلاد الروم واقتحم ملطية، فلما أراد العودة من درب أرمينية وجد الدرب قد أخذ عليه، وكان خليقا أن يتدبر وأن يقدر أنه قد أخذ من ورائه أيضا، وأن يحتال في اقتحام الدرب، ولكنه أبى أن يضيع الوقت، فكر راجعا في سرعة الطير، واقتحم ملطية مرة أخرى، غير مبال بما كان العدو قد أعد له من أمامه، وبما كان خليقا أن يلحقه من ورائه، ثم انتهى بهذه السرعة الجريئة الغريبة إلى مخرج من بلاد الروم فسلكه، وظن الروم أنه قد انصرف عنهم، ولكنه لم يلبث أن عاد إليهم مرة أخرى، فدمر وخرب وسلب الغنائم والنفوس، ومضى حتى أدرك الفرات واقتحمه اقتحاما على ظهور الخيل، ولم يكد ينتهي إلى آمد ويعلم بعبث الروم حول أنطاكية، حتى خف وأغذ وأخذ الروم عند مرعش وهم قافلون فمزقهم تمزيقا، وأضاف إلى ما كان عنده من الغنائم والأسرى، وأخذ ابن القائد نفسه وعاد مظفرا.» «كان سيف الدولة نشوان قد أسكرته الحرب، فمضى فيها لا يقف ولا يتدبر، وأتيح له النصر، فإذا هذا النصر نفسه يسكر شاعره المتنبي، وإذا هو ينشئ هذه القصيدة صورة دقيقة مطابقة كل المطابقة للأصل الذي أراد وصفه وتصويره؛ فأنت ستحس حين تقرأ هذا الوصف نفس الحركة والنشاط اللذين أحسهما المتنبي حين تبع سيف الدولة في غارته الجريئة السريعة تلك، لا يكاد يطمئن ولا يستقر ولا يستريح.» «وستمضي أنت في قراءة القصيدة كما مضى المتنبي في اتباع سيف الدولة مندفعا من بيت إلى بيت، متنقلا من مقام إلى مقام، صاعدا مع الجيش حين يصعد، ومنحدرا مع الجيش حين ينحدر، ودائرا مع الجيش حين يدور حول العدو، ثم هاجما على الجيش حين يهجم على العدو. ثم إن هذا الروح العذب الخفيف - على احتفاظه بعذوبته وخفته - يخلع هذا الثوب ذا الألوان المشرقة المتألقة إذا فرغ من هذا الوصف، ليتخذ ثوبا آخر ليس شديد التأنق والإشراق، ولكنه حالك بعض الشيء، أو قل قاتم يكاد يمعن في القتوم، لولا أن شيئا من البهجة يترقرق فيه بين حين وحين، وذلك حين يلتفت الشاعر إلى ما وراء سيف الدولة من بلاد المسلمين، وإلى ما حول سيف الدولة من ملوك المسلمين، فلا يرى إلا ذلا وضعة، وإلا خمولا وخمودا، وإلا إقبالا على اللهو وعكوفا على اللذات، وضجيجا وعجيجا لا غناء فيهما ولا طائل منهما في هذا الوقت الذي يجد فيه الجد بين سيف الدولة وعدوه من الروم، فإذا الظفر الذي ينتهي إلى البطولة حينا، وإذا الهزيمة التي تنتهي إلى البطولة حينا آخر، وإذا الثقة بالنفس، والنهوض بالواجب، والاطمئنان إلى الله على كل حال. وإذا فرغ الشاعر من هذا التعريض الحزين الفرح، خلع عن روحه العذب الخفيف ثوبه هذا، فأفاض عليه ثوبا آخر، هو ثوب الفخر بالنفس والاعتزاز بالكفاية الشخصية والبراعة الفنية، وكأنه رضي عن قصيدته وعن فنه بعد أن سمع قصائد الشعراء الآخرين، ورأى فنونهم، وهو ساخط على هؤلاء الشعراء الذين يعجزون عن مجاراته، ويقصرون عن بلوغ غايته، فلا يسعهم إلا أن يسعوا به، ويكيدوا له، ويتألبوا عليه، وهو قد أشرف عليهم وأخذ يرمقهم مزدريا لهم محتقرا لما يقولون ويفعلون. فالمتنبي يبدأ القصيدة بنفسه حزينا مفتخرا، ويختم القصيدة بنفسه مبتهجا منتصرا، ويمنح أكثر القصيدة وخير ما فيها لا لسيف الدولة وحده، بل له ولجماعة المجاهدين معه في سبيل الله، الذائدين عن حوزة الإسلام، وحسب العرب، ولجماعات أخرى من المسلمين ، لاهية عن الجد، ساهية عن المجد، منصرفة إلى المخازي والآثام؛ فالشاعر مغن، والشاعر مادح، والشاعر قاص، والشاعر هاج، والشاعر مفاخر متحمس، والشاعر يجمع أكثر فنون الشعر في هذه القصيدة التي لم تسرف في الطول.»
قلت لك إن هذه القصيدة عندي أروع ما قال المتنبي لسيف الدولة من الشعر، واقرأ معي بعض أبياتها، فسترى أني لست مسرفا فيما أقول:
ليالي بعد الظاعنين شكول
طوال وليل العاشقين طويل
يبن لي البدر الذي لا أريده
ويخفين بدرا ما إليه سبيل
وما عشت من بعد الأحبة سلوة
ولكنني للنائبات حمول «لماذا بدأ المتنبي قصيدته بهذا الغناء الحزين، وقد عرفناه إذا امتلأت نفسه إعجابا ورضا، يعرض عن النسيب وينصرف عن الغناء ويهجم على موضوعه هجوما لا يبتغي إليه الوسائل، ولا يبسط بين يديه المقدمات؟ ستقول لأنه شاعر يريد أن يتأنق في فنه، وأن يبهر سامعيه، وأن يهيئهم لاستماع ما يقص عليهم من أنباء الحرب، وما سيعرض عليهم من أوصافها، وقد يكون هذا حقا وما أكثر ما يفعل الشعراء هذا! وما أكثر ما يكون أحدهم ممتلئا بموضوعه، شاعرا بأن الناس من حوله ممتلئون بهذا الموضوع، ولكنه مع ذلك لا يسرع إليه ولا يبلغه حتى يدور إليه في أنحاء من الغناء. نعم، ولكني أرى في نفس المتنبي شيئا آخر غير هذا التأنق الفني والترفق الذي يعمد إليه الشعراء، فيها حزن دفين يصدر أحيانا عن نفس الشاعر التي لم تدرك من آمالها شيئا، أو لم تكد تدرك منها شيئا، ويصدر أحيانا أخرى عن حال هذه الأمة الإسلامية التي تبلي فتحسن البلاء، وتجاهد فتحسن الجهاد، ولكنها حيث هي لا تتقدم خطوة، ولعلها تتأخر خطوات. هذه الحرب التي أبلى فيها سيف الدولة كأحسن ما يبلي الأمراء المجاهدون، ماذا أفاد منها المسلمون؟ وماذا أفاد منها سيف الدولة؟ وماذا أفاد منها المتنبي إذا تعمقت الأمر ونفذت إلى حقائق الأشياء؟ المسلمون حيث هم، لم يمدوا حدودهم ولم يؤمنوها من غارة الروم، والمسلمون حيث هم لم تصلح أحوالهم الخاصة، ولم تبرأ سياستهم الداخلية من الإغراق في الفساد، وسيف الدولة حيث هو يظفر اليوم ليستأنف الحرب غدا، وقد ينتصر غدا، وقد تدور عليه الدائرة، لم يأمن بأس الروم ولم يأمن مكر المنافسين، والمتنبي نفسه حيث هو يمدح الأمير اليوم مهنئا كما مدحه أمس معزيا، وقد يهنئه غدا، وقد يعزيه، ولكنه سيظل شاعرا مادحا على كل حال، وهو مع ذلك محسد يكاد له ويؤتمر به، ويدبر له السوء، حياته متشابهة كحياة المسلمين، وكحياة الأمير؛ وإذن فهذه الليالي المتشابهة في الطول، المتشابهة في أنها تبدي له البدر الذي لا يريده، وتخفي عليه البدر الآخر الذي يهواه كل الهوى، ويطمح إليه كل الطموح، ولا يجد إليه مع ذلك سبيلا؛ هذه الليالي المتشابهة التي أمضته، وتثاقلت عليه لتشابهها، لم لا تكون رمزا لهذه الحياة المتشابهة، التي تمض وتثقل بتشابهها؟ لماذا ننظر إلى الشعراء دائما كما ننظر إلى الأطفال وهم يلعبون؟ لماذا نبخل عليهم بأن نظن بهم الرجولة والبطولة أحيانا؟ وأي صفات الناس أدنى إلى الرجولة والبطولة، وأقرب إلى حالة الفن الرفيع من هذا السأم وهذا الضيق بالتشابه حين يتصل ويطول؟ أحق أن هذا البدر الذي تخفيه الليالي على المتنبي هو صاحبته هذه التي يزعم أنها ظعنت عنه، وأن الأسباب قد تقطعت به من دونها؟» «لم لا يكون هذا البدر شيئا آخر غير هذه الفتاة الأعرابية التي تحميها الأسنة والرماح؟ لم لا يكون هذا البدر رمزا لهذه الآمال النائية وهذه الهموم البعيدة التي تاقت إليها نفس الشاعر منذ أحس الحياة، وقدر على النشاط، والتي أنفق من حياته دون أن يبلغها أو يدنو منها؟» «لو أنك سالت المتنبي نفسه عن هذه الليالي المتشابهة في الطول والعقم، وعن هذا البدر الخفي العزيز، لما أجابك بغير ما يقول الناس؛ فهو شاعر يتغنى، وهو إنما يجيد الغناء ويبرع فيه؛ لأنه يتغنى بما لا يحققه، ولا يحيط به علما.» «فجائز بل مرجح أن يكون المتنبي بعيدا كل البعد عن أن يفكر في هذه المعاني التي أشرت إليها وأفضت فيها، ولكنه مع ذلك يتغنى هذه المعاني نفسها؛ لأنه شاعر، وأبرع الشعراء من عرض لما يفوته من مطالب الفن، فتعلق بأذياله وطار في أثره، دون أن يبلغه أو ينتهي إليه.» «كل هذا أفهمه من هذه الأبيات الثلاثة الحزينة التي بدأ المتنبي بها قصيدته، وما يعنيني أن يكون المتنبي قد أراد هذا أو لم يرده؛ فأنا لا أطلب من الشاعر أن يفهمني ما أراد حقا، وإنما أريد من الشاعر البارع - كما أريد من الموسيقي الماهر - أن يفتح لي أبوابا من الحس والشعور، ومن التفكير والخيال، وما أشك في أن المتنبي قد وفق إلى هذا التوفيق كله من هذه الأبيات ...» إلخ.
3
هكذا يجب أن تقرأ الشعر في تدبر وأناة، فتتابع الشاعر في كل ما دار بنفسه أو جال في خاطره بحيث تمارس تجربة نفسية مارسها الشاعر، وتحيا حياة عاشها الشاعر، أيا كانت تلك التجربة وأيا كانت تلك الحياة. فليس شرطا لازما أن يصور لك الشاعر في قصيدته تجربة فيها المشاعر سامية، والخواطر عالية، والحياة فاضلة، والآمال كبار، بل ربما صور لك الشاعر في تجربته خواطر سفاك للدماء، ومشاعر شرير خبيث، يكيد للناس ويتربص بهم الدوائر. فسواء لدينا نحن قراء الشعر أصورت القصيدة ملكا رحيما أو شيطانا رجيما، ما دامت الصورة ناصعة معبرة تتيح للقارئ أن يتقمص مشاعرها كأنه انقلب ساعة القراءة ذلك الملك الرحيم بعينه أو هذا الشيطان الرجيم. نعم يصح لنا أن نؤثر القصيدة التي تعلو بالنفس على زميلتها التي تصور الشر إن تساوت القصيدتان في جودة التصوير، ولكننا لا نبيح هذا التفضيل بحال من الأحوال لو أجادت الثانية أكثر مما أجادت الأولى؛ إذ القصيدة الجيدة من الوجهة الفنية - حتى وإن عالجت موضوعا تأباه الأخلاق - خير ألف مرة من القصيدة الرديئة من الوجهة الفنية وإن عالجت الفضيلة والأخلاق الكريمة. وإنك لتجد من قادة النقد الأوروبي من يزعم - وربما صدقوا فيما يزعمون - أن الجودة الفنية في القصيدة أعظم شأنا وأكثر خطرا - حتى من الناحية الخلقية نفسها - من موضوع القصيدة أفضيلة هو أم رذيلة. فهذا رأي أخذ به «شلي» الشاعر الناقد الإنجليزي الذي توشك ألا تجد في تاريخ العظماء أصفى منه عقلا، أخذ به في مقالة طويلة كتبها دفاعا عن الشعر، هي من أعظم ما جادت به قريحة، وجرت به يراعة، في الدفاع عن الشعر. وهو في هذه المقالة الرائعة يحتج بأن كافة الشرور، وما يصيب المجتمع منها بوجه أخص، إنما نشأت عن سبب رئيسي واحد، وليس ذلك السبب في أخلاقنا، ولا هو في عقولنا، ولا في نظامنا الاقتصادي. إن منازل الفقراء الوبيئة قائمة بيننا، لا لأن الكثرة الغالبة من الناس يجهلون قيامها، ولا لأن تلك الكثرة تود أن تبقي المنازل الوبيئة ساعة واحدة، إنما قامت تلك المنازل بيننا وستظل قائمة؛ لأن من لا يسكنها لا يشارك ساكنيها الشعور مشاركة وجدانية كاملة. من هم خارج بيوت الفقراء القذرة الوبيئة لا «يشعرون» بما يشعر به من هم داخل تلك البيوت من فقراء؛ ولذلك استحال عليهم أن يحسوا مثل آلامهم إحساسا حقيقيا. فلأن تشارك غيرك وجدانه مشاركة كاملة، وتشعر بشعوره شعورا حيا قويا، يقتضيك لا أن تقف مثل موقفه فحسب، بل أن تصب نفسك صبا في إهابه لتجري فيك دماؤه، وتسري فيك مشاعره وآلامه. ولئن استحال ذلك بالصورة المادية، فهو ممكن بقوة الخيال؛ فكلما ازداد الإنسان قدرة على أن يضع نفسه بخياله في جلد غيره ليشعر مثل شعوره، كان أقرب إلى المشاركة الوجدانية الكاملة. وإذن فالمشاركة الوجدانية - التي هي ملاط المجتمع وبغيرها لا يكون إصلاح - تعتمد قبل كل شيء على قوة الخيال، ومهمة الشعر الأولى - بل الوحيدة - هي أن يخاطب في الإنسان خياله. الشعر لا يخاطب القوة العاقلة، بل يتجه فينا إلى الملكة التي تتقبل الفكر والشعور في آن معا، ملكة الخيال. الشعر يقوي فينا تلك الملكة التي تمكننا أن نصير - ولو مدى لحظة قصيرة - أشخاصا غير أنفسنا. وسواء أصرنا بفعل الشعر وقوة الخيال ملائكة أو شياطين، فحسبنا أن تكون لنا بفضل الشعر هذه القدرة التي ننقلب بها هذا الشخص أو ذاك، ساعة من زمان لنشعر بشعوره، فنألم لألمه أو نسر لسروره . لو أكسبك الشعر هذه القدرة العجيبة فقد أدى مهمته الكبرى، ولا عبرة بعد ذلك أكانت وسيلته إلى هذه الغاية أن يلبسك ثوب «إياجو» القاتل أو «دزدمونا» الملائكية الرقيقة. فليضعك الشعر في إهاب من شاء من صنوف البشر، إن كانت النهاية أن تظفر بالقدرة على مشاركة غيرك في وجدانه. إن ما يهمنا من الشعر أن يكون شعرا، ولا نزن بجناح بعوضة موضوع الشعر الذي يعالجه، وإنما يهمنا الشعر لذاته؛ لأننا لا نرى وسيلة للإصلاح الخلقي والاجتماعي سوى أن يشعر الفرد بشعور غيره، ولا تتحقق تلك الوسيلة إلا بقراءة الشعر قراءة صحيحة.
الفصل الثاني
النقد الأدبي
عالجنا في الفصل الأول كيف نقرأ الشعر لا كيف ننقده، ونعود فنذكرك أننا نقصد بالشعر في هذا الكتاب كل ضروب الأدب؛ قصائد الغناء والملاحم والقصص والمسرحيات، ولعلك تذكر أننا فرقنا بين قراءات ثلاث؛ قراءة الشعر قراءة فيها خلق وإبداع، نعيش فيها بخيالنا مع الشاعر في تجاربه وخوالج نفسه، وقراءة نقدية نتبين فيها مدى نجاح الشاعر وتوفيقه في رسم الصور، لنرى هل ساقها ناصعة حية ترتسم في ذهن القارئ، بمثل ما ارتسمت في ذهنه وهو ينشئ، أو كان دون هذه الغاية مقصرا عاجزا، ثم قراءة ثالثة ليست بذات خطر، نناقش فيها آراء الشاعر من حيث هي خطأ أم صواب. فأنت إذا ما فرغت من قراءة مجموعة من القصائد قراءة فنية أجرتها في دمائك وأشاعتها في نفسك، أحسست رغبة في مقارنة تلك القصائد إحداها بالأخرى لتعلم أيها أقوم، وهذه ما نسميها بالقراءة «النقدية»، وهي ما تزال - كالقراءة الفنية الأولى - تنظر إلى الشعر شعرا خالصا، وليست تعنى في كثير أو قليل بالبحث في قيمة القصيدة الخلقية والفلسفية. فسواء لديها أجاءت القصيدة حافزة على الفضيلة أو داعية إلى الرذيلة، وسواء أكانت مصيبة الرأي أم كانت في رأيها على ضلال؛ فالنقد الأدبي معني بصورة الشعر دون موضوعه. النقد الأدبي كما نفهمه - وكما نريد لقرائنا أن يفهموه - من شأنه أن يحلل وقع القصيدة في نفس قارئها، ثم يتعقب عناصر القصيدة ومقوماتها ليرى بأي هذه المقومات والعناصر أحدثت القصيدة ما أحدثته من أثر. ولهذا النقد الأدبي - أو إن شئت فقل لهذه القراءة النقدية للشعر - قيمة كبرى؛ لأنها - وقد كشفت لنا عن عوامل التأثير في القصيدة - تزيد من تقديرنا للقصيدة بنقل خصائصها من اللاشعور إلى الشعور؛ فقد تأثرنا بها في القراءة الأولى بغير عقولنا، وأعجبنا بها ونحن في ذهول عن وعينا، وها نحن أولاء نسلط عليها العقل والقوة الواعية حين نقرؤها للمرة الثانية قراءة النقد والتحليل، في هذه القراءة النقدية نستكشف عن وعي وشعور قوة هذا اللفظ وأثر تلك الصورة، وسنجد بعد الكشف ظلالا لطيفة دقيقة في الصور والألفاظ كانت قد غابت عنا في القراءة الأولى؛ لأننا كنا بسحر الوقع في شغل عن الأجزاء، ولكن لا يغيبن عن ذهنك أن القراءة «النقدية»، لا بد أن تسبقها قراءة «إبداعية» تتم بقوة الخيال وحده، تتابع فيها الشاعر بخيالك أنى سار؛ فيخفق قلبك إذا خفق، وتحزن إن حزن وتنتشي إذا انتشى، ولا تتلكأ من دونه لحظة لتنظر إلى هذه اللفظة أو هذه الصورة ما أثرها وما خبرها؛ فتلك مهمة القراءة الثانية، قراءة النقد، ثم لا يغيبن عن ذهنك أيضا أن القراءة النقدية قيمتها في نسبتها إلى القراءة «الإبداعية»، فليست بذات شأن في ذاتها، إنما كل القيمة وكل الشأن للقراءة التي نعيش فيها مع الشاعر، فهي المبدأ والمنتهى، وما قراءة النقد إلا وسيلة تزيد من تلك القراءة الإبداعية الأولى قوة وأثرا.
وإذا ما أخذ رجال النقد في مهمتهم، وطفقوا يقرءون الشعر ليحللوه، ويردوا كل أثر له إلى عناصره، تحتم عليهم أن يتواضعوا على أسماء يطلقونها على فنون الشعر وصوره؛ فهذه «ملحمة» وتلك «قصيدة غنائية» وثالثة «نشيد»، وهذه الخاصة في الشعر نسميها «بحرا»، وتلك الطريقة في التعبير نطلق عليها «استعارة» أو «تشبيها»، ولنسم هذا الاتفاق في أواخر الأبيات «قافية»، وهكذا وهكذا حتى بلغت هذه المصطلحات وأشباهها ألوفا. ولما كانت غايتنا في هذا الفصل أن نشير في اختصار إلى أهم المسائل التي اجتمعت عليها آراء الناقدين، كان لزاما علينا أن نتكلم بلغتهم ، وأن نقدم للقارئ أشيع المصطلحات التي يستخدمها رجال النقد في كلامهم.
الأدب كله فن وتعبير، فلكل كاتب طريقته في إخراج معانيه، وتلك الطريقة الخاصة في إخراج المعاني هي ما نسميه «أسلوبا». وقد يبدو للوهلة الأولى أن الأساليب مهما اختلفت وتباينت؛ فمقياس الحكم لها بالجودة أو عليها بالسوء واحد لا يتغير، وهو قدرة الأسلوب على التعبير الكامل ما دامت مهمته الأولى أن يعبر؛ فالأسلوب الجيد هو ما استطاع أن يعبر عما يريد إخراجه من خلجات الشاعر تعبيرا يكون له أعمق الأثر في نفس السامع أو القارئ. «فاثنان واثنان أربعة» مثال للعبارة وقد بلغت بتعبيرها حد الكمال؛ لأنها لم تبق في نفس القائل شيئا، ولم تترك أمام القارئ أو السامع مجالا للبس والغموض، ذلك ما قد يبدو للوهلة الأولى، والواقع أن تقدير الأسلوب الجيد ليس مسألة هينة تعتمد على أساس علمي واضح، كما يدل عليه هذا المثال. نحن نسلم بالمبدأ ونقر ببساطته؛ فأجود الأساليب هو أبلغها إحاطة بما يراد قوله، لكن الصعوبة تبدأ حين نتساءل: ما الذي يراد قوله لكي نرى هل أداه الأسلوب أداء حسنا أو لم يؤده؟ فبديهي أنك لا تستطيع الحكم على وسيلة إلا إذا عرفت الغاية، فلا حكم على الأسلوب إذا لم تعرف «المعنى» الذي خلق ذلك الأسلوب لأدائه. ولقد رأينا في حديثنا عن الألفاظ أن الكلمة فيها - إلى جانب معناها العقلي - حشد عظيم من دقائق الشعور قد يهتز لها كياننا كله، وفي هذه الدقائق يختلف المعنى من شخص إلى شخص؛ إذ قد تثير فيك اللفظة المعينة من الذكريات ما لا تثيره في سواك، لكن في الحياة جوانب أخرى نستجيب لها بعقولنا وحدها، ولا دخل لشعورنا فيها، هي هذه الجوانب التي يبحثها العلماء والرياضيون، كتركيب الهواء وزوايا المثلث وتشريح الزهرة وتحليل الشعاع وما إلى ذلك من حقائق، الناس كلهم إزاءها سواء؛ فإذا ما تحدث في شأنها متحدث تكلم بعقله ليخاطب سائر العقول، وهو إذ يتكلم لا يكون إلا فردا من الجنس البشري يوجه الكلام إلى العنصر المشترك في سائر الأفراد، هو لا يدخل جانبه الشخصي في كلامه، ذلك الجانب الذي يتميز به الأفراد بعضهم من بعض؛ فالعقول في الناس كلهم تنظر إلى الأمور من وجهة واحدة، أما المشاعر فمختلفات، لكل فيها وجهته وشخصيته؛ ومن ثم كان التعبير العلمي يقوله هذا، هو نفس التعبير يقوله ذاك، ويقوله ألوف الناس من أقصى الأرض إلى أقصاها، لا سبيل إلى خلاف بينهم فيه. ولعل ذلك ما حدا بالعلماء أن يؤثروا الرموز على الألفاظ، فرمز كهذا «ا
2 » معناه واحد، لا يختلف قيد شعرة عند أهل الأرض جميعا، في هذا الزمان وفي سائر الأزمان، لكننا لا نستجيب بعقولنا المشتركة وحدها إلا لرموز علمية كهذه، أما ما خلا ذلك من صنوف الكائنات التي تعد بالألوف وألوف الألوف، فإنما نستجيب لها بكل كياننا؛ ومن هنا كانت استجابتي للشيء هي استجابتي وحدي دون سواي، أختلف فيها عما يستجيب به كل إنسان خلاي، بمقدار ما تختلف طبائعنا ومشاعرنا بعضها عن بعض؛ فقد تجد الرجلين يتحدثان فيما يبدو لك أنه شيء واحد، وإذا الحديثان يختلفان، وإذا وجهتا النظر لا تلتقيان، وإذن فهما يتحدثان في حقيقة الأمر عن شيئين، ما داما ينظران إلى الشيء من وجهين، أو ما دام للشيء الواحد في نفسيهما أثران مختلفان؛ فإذا أراد كاتب من هذين أن يعبر عما في نفسه فماذا هو صانع؟ لا بد له أن يعبر بشيء نفهمه جميعا، ثم يضيف إليه أو يلونه ويصبغه بلون نفسه وصبغة شخصه. وعلى كل حال لا بد لأسلوبه - إذا ما أراد التعبير عما في نفسه إزاء الشيء المعين - أن يخرج مكنون نفسه، ويفصح عن حقيقة حسه، مهما يكن في ذلك من ضروب الخلاف بينه وبين سائر الناس. ولعل هذا ما نريده حين نقول «الأسلوب هو الإنسان»، وفي هذه العبارة وحدها ما يدل على استحالة أن نقيم ميزانا دقيقا نفرق به بين الأساليب، فنقول هذا أسلوب من الطراز الأول، وذاك أسلوب من الطراز الثاني وهكذا؛ إذ يستحيل علينا أن نتبين ما يريد الكاتب أن يفصح عنه إلا خلال لمحات شخصية دقيقة ينثرها في أسلوبه هنا وهناك، والتفرقة بين العناصر الشخصية عسيرة صعبة، أو هي ضرب من المحال. ولكن ما لنا ولهذه المشكلة التي ربما انحدرت بنا إلى مسألة عويصة معقدة، وقد أخذنا أنفسنا منذ البداية أن نقف في أمورنا مع أوساط الناس، وسنجد في ذلك ما ينفع ويفيد؛ فلئن كانت أساليب الناس تختلف باختلاف طبائعهم وأشخاصهم، فلا شك أننا نستطيع رغم ذلك أن نلتمس مميزات عامة وخصائص مشتركة تقسم لنا أنواع الأساليب أنماطا وطبقات، ثم نستطيع أن نتبين عناصر تلك الخصائص والمميزات لكي نرى على أي نحو تعمل على جودة الأسلوب؛ أي أنه في مقدورنا - رغم الصعاب كلها - أن نحدد الصفات التي تجعل الأسلوب أداة جيدة للتعبير عما يريد كاتبه أن يعبر عنه.
لو كان غايتك أن توضح فكرة توضيحا محدودا جليا، لكان الأسلوب المثالي في التعبير هو صيغ الجبر وما إليها من رموز الرياضيين والعلماء، وإن أردت بالقول أن تقيم برهانا وتقرع حجة ثم لا شيء بعد ذاك، كانت طريقة إقليدس في التدليل على مسائل الهندسة خير نموذج يحتذى، تريد بكل لفظة غرضا معلوما ومعنى محدودا، ولا تجيز لنفسك أن تضع كلمة تزيد عن حاجتك، وتأخذ نفسك أخذا لا هوادة فيه في بناء الجمل والفقرات بناء منطقيا، تتابع فيه المقدمات والنتائج، لكن ذلك الأسلوب أدخل في باب العلم منه في باب الأدب؛ فلئن طالبنا الأديب - كائنا ما كان فنه الذي يكتب فيه - أن يعنى في تعبيره بمثل هذا الوضوح النافع، فلا بد أن نجيز له إلى جانب ذلك أن يخاطب بأسلوبه شيئا غير العقل، وأن يصطنع في سبيل ذلك شيئا غير الترتيب المنطقي الصارم للجمل والفقرات.
نعم قد تجد من أمراء البيان من يستخدم الأسلوب المحدد الواضح الذي يخاطب العقل قبل أن يخاطب ناحية أخرى من قارئه؛ فهذا هو «سوفت» صاحب «رحلات جلفر»، يصطنع هذا الأسلوب الذي قوامه مادة وعظام، تلتمس فيه شيئا من طراوة اللحم أو نبضات الدم فلا تجد، وإنما اختار لنفسه هذا الأسلوب ؛ لأنه خير وسيلة تعينه على أداء غرضه المقصود، لكن ما كل كاتب هو هذا، وليست أغراض الإنشاء كلها شبيهة بما كان يرمي إليه هذا الكاتب، فالكثرة العظمى من أرباب الأقلام تنشد التأثير في قرائها عن غير طريق المنطق، أو قل إنها تستخدم المنطق في نطاق ضيق محدود. وهذا هو «أدسن» الذي عاصر «سوفت» في أوائل القرن الثامن عشر، والذي برع في المقالة الأدبية براعة طارت بذكره في الخافقين، تراه يكتب في سبيل غاية نفعية، يكتب ليصلح، فيناشد في قرائه عقولهم ليسوق إليها الحجة المقنعة والدليل الناهض، وذلك بأسلوب تستطيع أن تسلكه في عداد الأساليب المستقيمة البسيطة العلمية، لكنه إلى جانب ذلك يريد أيضا أن يأخذ على قرائه مشاعرهم، وأن يثير فيهم العواطف الإنسانية التي يعهدها كل إنسان في نفسه. فهذا - إذن - ضرب آخر من الأسلوب يخاطب العقل والشعور جميعا؛ من أجل هذا تراه يتأنق في أسلوبه ليخرجه خفيفا رشيقا سلسا مستساغا، فاستطاع بذلك كله أن ينفخ الحياة في نثر يستخدم في التعبير عن ضرورات الحياة على نحو ما تلاقينا يوما بعد يوم وساعة في إثر ساعة. ودع هذين الكاتبين بأسلوبيهما المختلفين، وانظر إلى خطيب يبث الحماسة في الجماهير، أو واعظ اعتلى منبره ليهدي من في قلوبهم زيغ أو ضلال، أو محام وقف أمام القضاة يدفع تهمة ويستدر عطف القضاة على صاحبه المتهم. انظر إلى هؤلاء جميعا تجدهم - في الأعم الأغلب - لا يقصدون إلى إقناع بالحجة والبرهان، بل يريدون التأثير بالاستمالة، والاستهواء واللعب على أوتار العواطف، هم يخاطبون الشعور ولا يخاطبون العقل، يتجهون إلى القلب ولا يتجهون إلى الرأس؛ ولذلك كان من خصائص الأسلوب الخطابي الجيد أن يستخدم الصور ليفتن بها نواظرنا، والألفاظ الفخمة الرنانة التي تزلزل الأرض تحت أقدامنا. ومن خصائص الأسلوب الخطابي الجيد أن يكثر من المحسنات لعله يتحكم في الأفئدة، ولو جاء ذلك على حساب العقول. انظر إلى «ملتن» في خطابه المشهور الذي وجهه إلى نواب الأمة دفاعا عن حرية الكتابة وقد خنقوها حين كموا أفواه الكاتبين بقوة القانون، تر الخطاب قد كسب المعركة واستولى القلوب، مع أنه واهي الحجة ضعيف البرهان، وإنما نجح الحطاب بالعاطفة الملتهبة التي سرت في ألفاظه فأشعلت شعور السامعين أو القارئين، لا بما فيه من قوة الإقناع، أو بما أعوزه من قوة الإقناع بتعبير أصح. إنه خطاب تتمثل فيه فصاحة القول بأجلى معانيها، و«الفصاحة»
1
في عرف النقاد هي أن تدور بالحديث حول الموضوع ولا تمس قلبه وصميمه.
وهكذا تستطيع أن تمضي في التفرقة بين الأساليب، وبيان ما يجود كلا منهما؛ فللصحافة أسلوب، وللتاريخ أسلوب، وللرسائل أسلوب وهكذا، وفي كل نوع من هذه الأساليب فروع وضروب تميز بينها فواصل وفروق. خذ أعلام القصة تجد لكل أسلوبه الذي يلائم غايته. وهل يسع قصصيا مثل «مردث» يصور طائفة من الرجال والنساء امتازوا بالثقافة العالية والحياة المتحضرة، إلا أن يستخدم الصنعة في أسلوبه، فيكون تناسب بين صنعة الأسلوب وتلك الحياة التي أخرجتها الحضارة والثقافة عن طبيعتها؟ أم يسع قصصيا مثل «هاردي» اختار من الحياة لونا جادا مستقرا ثابتا، إلا أن يقيم أسلوبه من لبنات راسخة راكزة، كأنما هي عمد يبني بها بناء أشم يطاول في ثبوته رواسخ الجبال؟ فجاءت عباراته رصينة دسمة واضحة محددة، تقع من موضعها في أنسب مكان يلائم البناء. وكما يختلف القصصيون يختلف كتاب المقالة وسائر فنون الأدب.
فبين كتاب المقالة فروق شاسعة، حتى ليعجب الإنسان كيف تجتمع كلها تحت صورة واحدة من صور الأدب. فهل تجمع هذه الصنوف المتفاوتة من المقالة الأدبية صفات مشتركة إلى جانب اشتراكها في القصر؟ هذا سؤال تقتضي الإجابة عنه عودة إلى الأساليب الأدبية وخصائصها، فيجمل بنا أن نعرج حديثنا على أدب المقالة؛ ليكون حديثنا عن الأسلوب متصلا، ولو أن ذلك سبق لترتيب الكتاب؛ إذ الكلام في الصورة الأدبية له في الكتاب موضع آخر.
لقد تواضع رجال النقد على أن يطلقوا كلمة «مقالة» على كل ضروب الكتابة النثرية، إن قصر طولها وعالجت موضوعا واحدا (وقد تكون المقالة نظما، ولذلك أمثلة قليلة)؛ ولهذا كان مدى التفاوت بعيدا جدا بين مختلف صنوف الإنشاء التي تقع تحت هذا الاسم؛ فالبحث العلمي القصير مقالة، كالرسالة العلمية التي كتبها «لوك» عن طريقة اكتساب الإنسان للمعرفة، وأطلق عليها «مقالة في العقل البشري». والقطعة الأدبية الفنية مقالة، ومثال ذلك مقالات «لام»، وهذا النوع من المقالة لا يضيف إلى العلم الإنساني علما جديدا، ولا يقدم للقارئ معرفة، إنما يقصد إلى إمتاعه ولذته بما فيه من فن جميل. وبين هذين الطرفين - المقالة العلمية من ناحية، والمقالة الأدبية من ناحية أخرى - تتفاوت المقالات درجات في دنوها من هذا الطرف أو ذاك؛ فمنها ما هو إلى العلم الخالص أقرب، ومنها ما هو إلى الفن الخالص أدنى، ومنها ما يجمع الغايتين في آن معا. فإن كان «لوك» مثالا للفريق الأول، و«لام» مثالا للفريق الثاني، فخير مثال نسوقه للفريق الثالث «ماكولي» الذي يحاول في مقالاته أن يكون مؤرخا علميا يتوخى الحق وصدق الرواية، وأن يكون فنانا في ألفاظه وعباراته في وقت واحد، يحاول ماكولي بأسلوبه ما يحاوله الخطيب، يظهر للناس كأنما هو يدير القول في موضوع عقلي منطقي، لكنه رغم ذلك لا يرجو أن يؤثر عليهم بحجته ودليله بقدر ما ينفذ إلى قلوبهم بقوة العبارة وحسن البيان؛ وبهذا المقياس نفسه نستطيع أن نقدر الكثرة الغالبة من المقالات الأدبية، لولا أننا نجد المقالة عند «لام» لا تخضع لهذا المقياس؛ فبأي معيار نقيس أسلوبا كالذي نراه في مقالات «لام»؟ لن نجد معيارنا إلا إذا استعرضنا تاريخ المقالة الأدبية؛ فقد يعيننا هذا العرض التاريخي على فهم طبيعة هذا الفن الأدبي، فكثيرا ما يكون الكشف عن مراحل التطور وسيلة تلقي ضوءا على طبيعة المتطور وقوامه. فما «المقالة» التي نسلكها في عداد الفنون الجميلة، والتي ليست من قبيل البحوث العلمية؟ «المقالة» التي تكتب لذاتها ولا يقصد بها أداء معنى وراءها؟
يقول مؤرخو الآداب إن الكاتب الفرنسي «مونتيني» هو رب المقالة ومنشئها في القرن السادس عشر، بعد أن لم تكن، وقد كان «مونتيني» وهو يكتب مقالاته عالما بأنه ينشئ شيئا جديدا لم يسبقه إليه أديب آخر ، فقد أحس في نفسه الرغبة أن يكتب شيئا يختلف في جوهره عما ألف السابقون أن يكتبوه، أراد صورة أدبية، أو قل أراد قالبا أدبيا يصب فيه خليطا من الصفات التي وإن تكن سطحية متناقضة في ذاتها إلا أنها مع ذلك تصوره لأنها قوامه وجوهر كيانه، فليس من شك في أن هذا الفرد «ميشيل مونتيني» يختلف في خليط صفاته، من ذوق وشهوة وعادة وأسلوب في التفكير، عن سائر الناس، وأراد أن يخرج من نفسه عناصره التي تكون فرديته هذه التي لا يشاركه فيها إنسان آخر، لكن عناصر الشخصية الفردية متباينة لا حد لتباينها، فلا بد له - إذن - من قالب أدبي مرن شديد المرونة، بحيث يسع ما ينطبع على النفس من آثار عارضة، لا بد له من قالب تحتمل حدوده أن يطلق فيها مكنون نفسه الجياشة إطلاقا لا ينقطع ولا تضبطه الضوابط، في ظاهره على الأقل. ستقول: ولماذا لم يعبر عن مشاعره وخواطره في قصيدة غنائية أو قصائد؟ أليست القصيدة الغنائية عند الأدباء وسيلة التعبير عن الذات وما يضطرم فيها من عواطف تميزها وتطبعها بطابع خاص؟ وفاتك أمر خطير، هو أن القصيدة الغنائية تعبر عن الذات تعبيرا يعلو بالذات ويسمو بها، القصيدة الغنائية لا تصور الذات بكل ما فيها من أوجه النقص وأوجه الكمال؛ لأن طبيعة الشعر المنظوم تدعو إلى التسامي، لكن «مونتيني» أراد أن يسكب نفسه بكل ما فيها على القرطاس. إذن فقد أراد للقصيدة الغنائية أن تنثر، أراد قصيدة غنائية تتراخى أوتارها، فكانت له بهذا التحوير «المقالة» الأدبية، المقالة الأدبية في صميمها قصيدة غنائية وجدانية سيقت نثرا لتتسع لما لا يتسع له الشعر المنظوم من بعض عناصر الذات. فإن شئت قانونا يضبط لك «المقالة» من حيث الصورة، فاعلم أنه قدرتها على التعبير عن خوالج النفس في سيرها الذي لا يجري على نظام واطراد. قد تكتنف الأديب حالة نفسية خاصة، فتجري في ذهنه سلسلة من الخواطر المتناثرة التي تتصل بتلك الحالة النفسية السائدة، فتؤثر فيها وتتأثر بها، فإن استطاع أن يصب هذا السيل من الخواطر كما يجري في ذهنه، فقد أنشأ «مقالة أدبية». الخواطر في المقالة الأدبية تتصل بصلات من العاطفة أو الخيال؛ أعني أن خاطرا يلحق خاطرا ويتبعه، لا لأن بينهما علاقة منطقية كالتي تأتي بالنتيجة وراء سببها، بل لأن هذين الخاطرين مرتبطان في خيال الأديب أو متصلان بعاطفته. كاتب المقالة الأدبية يكتب وكأنه يتحدث في سمر حديثا مطلقا من كل قيد، فيدع الخواطر يسوق بعضها بعضا بما بينها من روابط تستدعي تتابعها وتداعيها دون أن يعمل في ذلك عقله ومنطقه لينظم الترتيب والسياق. هكذا بدأ مونتيني أدب المقالة على وجه الصحيح، فجاء من بعده وأخطئوا خصائصها على قرب الزمن بينهم وبينه؛ فها هو ذا «بيكن» - وتكاد شهرته في عالم الأدب ترتكز على مقالاته - يتناول الفن الأدبي الوليد، فيحطم أركانه تحطيما، ويكتب لنفسه مقالة من نوع آخر، فمقالته بحث بغير نظام في موضوع منظم، يسوق الآراء في موضوع مقالته متلاحقة، كأنه يرص خرزات لينشئ منها عقدا، فالخرزات منفصلة ولكنها متعاونة على إنشاء العقد في نهاية الأمر. فليس التعبير عن خصائص الذات وعناصرها ومشاعرها هو كل شيء في مقالة «بيكن» كما كان كل شيء في مقالة «مونتيني»، لكن أعلام «المقالة» في الأدب الإنجليزي «كاولي» و«أدسن» و«جولد سمث» أخذوا بعدئذ يتعهدون هذه الصورة الأدبية الناشئة، ويبرزون خصائصها وصفاتها، حتى جاء «لام» فبلغت به المقالة ذروة الكمال، وعندئذ عادت المقالة الأدبية كما بدأت عند منشئها وخالقها، تعالج الجوانب التي تجعل من الفرد فردا متميزا، وتخرج من نفس الأديب ما يجعلها ذاتا قائمة بنفسها، مختلفة عن سواها. ولم تكن مصادفة أن تنشأ المقالة الأدبية على يدي مونتيني في القرن السادس عشر، حين تحكمت النزعة الفردية في عقول الناس وسادت تفكيرهم، فطبيعي لهذه الفردية الطاغية أن تبحث لها في الأدب عن مخرج تتنفس منه، والمقالة الأدبية خير مخرج لها. ولم تكن كذلك مصادفة أن ينشأ إذ ذاك أيضا أدب التراجم في صورة جديدة، فلأول مرة في تاريخ الأدب كتبت سير الرجال بدقائقها الشخصية وتفصيلاتها الذاتية. فإن كانت الغاية من المقالة الأدبية أن تعبر عن خليط يكون في مجموعه ذاتية الفرد تعبيرا يبعد عن جفاف الحقائق الموضوعية العلمية، ولا يسير وفق تسلسل المنطق، فالأسلوب الجيد في المقالة يجب أن يكون ذاتيا لا ينبني على أساس عقلي، ولا يبسط حقائق موضوعية. فعد إلى قراءة طائفة من المقالات الأدبية، وكلما وجدت الكاتب أدنى إلى من يحدثك عن تاريخ نفسه فيما يكتب، إن رأيته يرسل الخوطر إرسالا هينا، فتستشف منها ما وراءها من حالته النفسية، فاعلم أنه قد أجاد. أما إن وجدته يعالج موضوعا لا يتصل بمكنون نفسه، ويعنى بتنظيمه وتبويبه كما ينظم البحث العلمي، فاعلم أنه عن الجودة بعيد.
إن ما ذكرناه عن الأسلوب يصدق على النثر والنظم؛ فالذي يحدد أسلوب الكاتب أو الناظم عناصر ثلاثة؛ استخدامه لألفاظ معينة تميزه عن سواه، ثم اتباعه لطريقة معينة خاصة به في ترتيب هذه الألفاظ، ثم معالجة موضوعاته على نحو يتفرد به. وهذا العنصر الثالث من العناصر المكونة للأسلوب هو في الحقيقة نتيجة تتفرع عن العنصرين الأولين؛ فيستطيع الكاتب - مثلا - أن يعالج موضوعه بطريقة تقنع العقل بمنطقها إذا هو استخدم ألفاظه ورتبها في الجمل على النحو الذي يحدث صداه في العقل لا في القلب، كما يستطيع الكاتب أن يزيد في إنشائه من الألفاظ المشحونة بالعاطفة، ويرتبها ترتيبا من شأنه أن يحرك الشعور، فيتغير أسلوبه جملة واحدة ويصبح أسلوبا عاطفيا. فكل الفرق بين أسلوب وأسلوب هو في الألفاظ المختارة، وفي الطريقة التي تساق بها هذه الألفاظ، وهذا صحيح في النثر والنظم على السواء. والفرق بين الناظم والناثر هو أن الأول يستخدم الصوت وسيلة للتعبير؛ أي أنه يرتب الألفاظ ترتيبا يحدث رنينا خاصا يكون جزءا من أداة التعبير.
ولا شك أن صوت اللفظ جزء من معناه لو أردت المعنى كاملا؛ فلفظة جميلة الوقع في المسامع تخلع على مسماها لونا من الجمال لمجرد حسن وقعها وجمال رنينها. فلو أسمعت رجلا هذه الألفاظ: ورد وسوسن، وقلقاس وبطيخ، لأدرك من فوره أن اللفظتين الأوليين تدلان على شيئين أجمل مما تدل عليهما اللفظتان الأخريان، وهو لا يحتاج في هذا الحكم إلى رؤية هذه الأشياء؛ لأن في رنين الألفاظ ما يهديه. وما نظن أحدا يقرأ هذين البيتين دون أن يلمس أثر رنين الألفاظ في تكوين المعنى:
إذا ما غضبنا غضبة مضرية
هتكنا حجاب الشمس أو قطرت دما
فأمطرت لؤلؤا من نرجس وسقت
وردا وعضت على العناب بالبرد
إذن فمن أدوات الشاعر في التعبير أن يستخدم جرس اللفظ، فيحاول أن يحاكي صوت الفعل الذي يصوره في صوت الألفاظ التي ينظمها؛ فقد يكثر مثلا من حروف «الضاد» و«الطاء»، كما في البيت الأول؛ ليدل على الضرب والطعن، وقد يكثر من حروف «السين» و«الصاد»؛ ليدل على الحرير وهكذا، ثم هو يحاول أن يحاكي صوت الفعل الذي يصوره أيضا بنوع البحر الذي يختاره؛ فبحر يصلح للحركة السريعة لسرعة تفعيلاته، وآخر يصلح للحركة البطيئة لكثرة حروف المد في تفعيلاته وهكذا. غير أننا يجب أن نشير إلى ما في هذه المحاولة من خطر؛ لأنها كثيرا ما تعرض الشاعر إلى صناعة تخرج به عن جمال الطبع وحسن السليقة، نقول ذلك دون أن نغض من شأن الجرس في قوة التعبير، ولا ينشأ هذا الأثر من كل لفظة على حدة بوجود تناسب بين صوتها ومعناها، بل من تتابع الأصوات في سلسلة من الألفاظ، وذلك ما نسميه بالوزن، والوزن هو أعظم ما يميز النظم من النثر.
وللنثر وزن كما للنظم، والفرق في درجته واطراده؛ فقد تجيء في النثر عبارة موزونة على بحر معين تليها عبارة من بحر آخر، تليها ثالثة لا وزن لها. أما في القصيدة فالوزن مطرد منتظم في الأبيات كلها، وليس من شك في أن لهذا الوزن أثره في قوة التعبير، وسنتناول ذلك بشيء من التفصيل فيما بعد. وحسبنا الآن أن نشير إلى حسن وقعه في الأذن، مما يحدث في السامع لذة كالتي تحدثها الأنغام المتسقة أيا كان نوعها ومصدرها؛ فالإنسان مفطور بطبعه على إيثار الصوت الموسيقي المنغوم. والوزن في النظم أنواع تسمى «بحورا»، والعلم الذي يضبط قواعدها يسمى «عروضا». وتجيز قواعد العروض في الشعر الإنجليزي أن يختلف الوزن في أبيات القصيدة الواحدة؛ فقد وجد الناظمون بفطرتهم الموسيقية الموهوبة أنه لو تتابعت مجموعة من الأبيات على أوزان معينة، كونت مجموعة موسيقية جميلة النغم جميلة التوقيع؛ ومن ثم تواضع الشعراء على نظام معين في بناء المقطوعات الشعرية، فهنالك المقطوعة الرباعية التي يتألف بيتاها الأول والثالث من أربع تفعيلات، والثاني والرابع من ثلاث، ويجدون أن هذه المقطوعة تلائم الترانيم، وهنالك المقطوعات السباعية التي أغرم بها «تشوسر»، والتساعية التي آثرها «سبنسر» ونسبت إليه، وهكذا.
وأبيات المقطوعة الواحدة لا تختلف في أوزانها فحسب، بل كذلك في قوافيها؛ ففي الرباعية مثلا تتحد القافية في البيتين الأول والثالث، وفي الثاني والرابع، وفي سباعية «تشوسر» تسير القوافي هكذا (ا - ب - ا - ب - ب - ج - ج) أي أن الأول والثالث قافية واحدة، والثاني والرابع والخامس قافية واحدة، والسادس والسابع قافية ثالثة. وفي تساعية «سبنسر» تسير هكذا (ا - ب - ا - ب - ب - ج - ب - ج وكلها وزن واحد، ثم يجيء البيت التاسع بقافية «ج» ومن وزن آخر) لكن القافية ليست شرطا لازما في هذه المقطوعات؛ فالشعر القديم كله خال من القافية خلوا تاما، وكذلك تخلص من قيد القافية كثير من الشعراء المحدثين. ومن أشهر المقطوعات الشعرية التي تعرف وتتميز بنظام القوافي في أبياتها، المقطوعة الأربع عشرية، وهي تقوم بذاتها وحدة مستقلة - وليست كسائر المقطوعات السالفة تكون أجزاء من قصيدة كبرى - والمقطوعة الأربع عشرية أنواع تختلف باختلاف قوافيها. ولكل من الشعراء الفحول في الأدب الإنجليزي طريقة في تقفية مقطوعة، نخص منهم بالذكر «سبنسر» و«شيكسبير» و«ملتن».
فالشعر في الأدب الإنجليزي يقع من حيث الوزن والقافية في ثلاثة أنواع: (1) الشعر المرسل الذي يجري بغير قافية. (2) وشعر تزدوج فيه القافية، فيكون لكل بيتين متعاقبين قافية واحدة، وتسمى الوحدة فيه بالدوبيت. (3) وشعر تتألف القصيدة فيه من مقطوعات تسير فيها القافية على وجه من الوحدة التي ذكرناها لك منذ قليل.
ولقد آن أن نحدثك عن مهمة النظم بصفة عامة، موضحين القول بالإشارة إلى أنواعه الشائعة، ونحب أن نذكرك بما أسلفناه وهو أن اطراد الأنغام والأوزان في النظم جزء من وسيلة التعبير كالألفاظ نفسها سواء بسواء؛ وما دامت أبحر الشعر وأوزانه أداة يستخدمها الشاعر في التعبير، فلا بد أن نبحثها من حيث علاقتها بالمعنى الذي يراد التعبير عنه.
نستطيع القول بصفة عامة إن الشعر ضربان؛ فالقصيدة إما أن تحكي عن حوادث وأشخاص وأقطار وبلاد، وإما أن تعرب عن الحالة النفسية الداخلية التي تسود الشاعر وهو ينشئها. أو بعبارة أخرى، إما أن تحكي القصيدة عن العالم الخارجي، وإما أن تعبر عن العالم الداخلي عند الشاعر نفسه؛ فأما النوع الأول فنسميه شعرا قصصيا، أما الآخر فهو الشعر الغنائي أو الوجداني. وطبيعي أن يتداخل النوعان؛ فالقصيدة القصصية التي تأخذ نفسها قبل كل شيء بالرواية عما وقع من أفعال وحوادث، قد تفسح المجال آنا بعد آن لهذا الشخص أو ذاك من أشخاصها أن يفصح عن مشاعره على نحو ما تفعل القصيدة الغنائية. وقد تجد قصيدة قصصية مثقلة بعاطفة راويها وعواطف سامعيها والأشخاص والواردة فيها، حتى لتكاد تخرجها العاطفة السارية فيها من نوع الشعر القصصي إلى النوع الغنائي الوجداني، والأغاني الشعبية التي شاعت في العصور الوسطى معظمها من هذا القبيل؛ فالأغنية الشعبية حكاية منظومة مثقلة بالعاطفة. وهنالك نوع ثالث من الشعر لا هو قصصي بالمعنى الدقيق ولا هو غنائي بالمعنى الدقيق، ولكنه يجمع طرفا من هنا وطرفا من هناك، وأعني به المسرحية الشعرية؛ فالمسرحية تقص قصة على غير ما تقصها القصيدة القصصية، فهي ليست قصة في ذاتها تروى لذاتها، إنما هي قصة ينظر إلى حوادثها من حيث هي مؤثرات تفعل فعلها في عواطف أشخاصها ومشاعرهم وحالاتهم النفسية بصفة عامة.
ولكننا نستطيع لسهولة التقسيم أن نقسم الشعر كله إلى النوعين الأساسيين؛ القصصي والغنائي، وإنما يعرف الشعر القصصي عادة باسم فرع واحد من فروعه وهو «الملحمة»؛ لأن الملاحم أقدم ضروب الشعر القصصي ظهورا، وكان الشعر الغنائي أول أمره ينشد ليغنى على قيثارة ، من اسمها اشتق اسم هذا الشعر في اللغات الأوروبية.
2
ولما كانت قصائد الغناء تفيض عادة عن وجدان الشاعر من سرور وحزن وحب وما إلى ذلك، تطور هذا الشعر بحيث اشتمل على كل قصيدة تعبر عن الوجدان ولو لم يقصد بها إلى الغناء.
وهنا نسأل: أي لون من النظم يلائم هذا وأي لون يلائم ذاك، بحيث يجيء التعبير أتم ما يكون كمالا وقوة؟ إن كانت القصة في الشعر القصصي تروي أعمال البطولة السامقة لجبابرة الرجال، أعمالا كان لها شأنها في تاريخ الأمة أو في تاريخ العالم بأسره، فبديهي أن أنسب الشعر لوصفها ما جرى في بحر فخم رصين؛ ليناسب جلاله جلالها، وقد كانت أمثال هذه الأفعال المجيدة أول ما وقعت عليه أعين الشعراء في أقدم العصور، فاختاروها وأجروها فيما نسميه بالملاحم، بأوزان وبحور فيها هذه الرصانة وهذا الجلال؛ فالإلياذة تنبئ عن بطولة «أخيل» و«هكطور» في الحرب الطروادية التي دامت عشر سنوات، وتحكي عن تلك البطولة في شعر يسوده الوقار والجلال ورصانة النغم، وهو مرسل لا قافية فيه، شأنه في ذلك شأن الشعر اليوناني والروماني كله. ولقد حاول شعراء العصور الحديثة أن يجدوا لهذا الشعر القصصي القديم الذي خلفته لنا آداب اليونان والرومان بديلا في لغاتهم الحديثة، فأوشكوا جميعا أن يبوءوا بالفشل فيما حاولوا؛ إذ لم يجدوا قصة فيها كل هذا الجلال الذي رأوه في ملاحم هومر؛ فهذا هو «سبنسر» أراد أن يتخذ الملكة اليصابات، ملكة إنجلترا في عهده، موضوعا لملحمة، لكنه أخرج الموضوع في قصيدته الكبرى «ملكة الجن» فجاءت خلوا من خصائص الملحمة؛ إذ قطع الحكاية أجزاء منفصلا بعضها عن بعض، في كل جزء يعرض بطولة فارس من فرسانه، وحصر اهتمامه وهو يعرض بطولة الفارس في الحوادث الجزئية الباهرة اللامعة التي صادفها الفارس في سيرته، وهو في نظمه لا يتدفق بحيث يخرج القصة كتلة واحدة منظومة، بل قسم قصيدته مقطوعات تجري القوافي على نظام معين عرف باسمه، وأصبحت المقطوعة الاسبنسرية لونا من ألوان النظم في الأدب الإنجليزي؛ في كل مقطوعة ثمانية أبيات مطردة الوزن تنتهي بتاسع طويل يجيء لها كالخاتمة في القطعة الموسيقية، فلا يسع القارئ إلا أن يقف، وهكذا تفككت أجزاء القصة وانتثرت خرزاتها، ولو أن ذلك لم يقلل من جمال الأجزاء. ولقد شبهت قصيدة «ملكة الجن» بقطعة من الحرير الجميل المطرز؛ فهي رقيقة رائعة ناعمة الملمس، لكنها لا تصلح لتخليد العظماء. وهل نخلد أبطالنا الأمجاد وبطولتهم العالية على لوحة من الحرير الموشى؟ إن هذه القطعة إنما تلائمها التماثيل المرمرية الرزينة الرصينة الجليلة الثابتة. وانقضى قرن بعد سبنسر، فجاء «ملتن» وطاف بخياله موضوع عظيم لملحمة عظيمة، قد يكون للناس عامة أجل شأنا من موضوع الملحمة الهومرية نفسها، وهو عصيان الإنسان الأول وطرده من الجنة، واختار له الشعر المرسل أداة فأحسن الاختيار، إذ لا يصلح للملحمة من أوزان الشعر الإنجليزي إلا هذا؛ لأنه يسكب على الموضوع وقارا وجلالا، ويكسبه عظمة ورهبة. أما الشعر المقفى فيكسو الموضوع نوعا من السحر والفتنة دون العظمة والجلال. الشعر المرسل جليل والشعر المقفى جميل، ذلك رزين وقور وهذا فاتن جذاب. إذن قد وفق «ملتن» في اختيار الموضوع والأسلوب معا، ثم زاد على ذلك أنه أجاد في شعره المرسل إجادة لا زيادة بعدها لمستزيد؛ فهو في يده مطرد البناء ثابته، ولا يجعل الكلمة الأخيرة في البيت توحي للقارئ بالوقوف، فيمضي القارئ من سطر إلى سطر كما يمضي في حديثه الموصول، ولكنه استطاع في الوقت نفسه أن يجعل توقيع الكلام على نحو يباين نغمة الحديث المعتاد، بحيث يشعر القارئ بأنه يستمع إلى نغمات موسيقية فخمة تنبعث عن «أرغن» يملأ الجو بألحانه العريضة، وذلك ليوائم بين جلال النغم وجلال الموضوع؛ فوفق «ملتن» توفيقا عظيما، لكنه جوزي بما وفق ثمنا باهظا. فلئن جاء شعره هذا الفخم الجليل الرصين منقطع النظير في التعبير عن مواقف الفخامة والعظمة والجلال، فقد كان ثقيلا وهو يروي أجزاء القصة التي لا تتطلب كل هذه الرزانة والرصانة؛ فمن أجزاء القصة ما يروى عن أفعال دنيوية لا يلزمها جو التفخيم والتعظيم الذي يكون حول حوادث السماء الجسام، فهو مثلا حين يتحدث عن آدم وحواء وهما ينظمان شئونهما العائلية الخاصة، يستخدم أسلوبه العالي نفسه، فيكون أقرب إلى ممثل المهزلة الذي يقطب الجبين ويفخم العبارة في غير موضع للتقطيب والتفخيم. وليس الذنب في هذه السقطات ذنب الشعر المرسل في ذاته، لكنه ذنب «ملتن» الذي لم يغير في أوتاره شدة وارتخاء بحيث يساير موضوعه ويطابق معانيه. ومهما يكن من أمر فما يزال الشعر المرسل أنسب أداة للشعر القصصي لقابليته العجيبة لمسايرة جوانب الموضوع توترا وارتخاء؛ ذلك أن خلوه من القافية يقرب مسافة الخلف بينه وبين النثر، فيستطيع أن يهبط من سماء الشعر إلى شئون العيش الجارية، ثم يستطيع أن يعود فيعلو إلى ذروة الشعور العالي والتأمل الرفيع؛ ففيه وحده هذه القدرة على الصعود والهبوط وفق ما تقتضيه مراحل الموضوع ومواقفه. وهذه الصفة الرئيسية في الشعر المرسل هي التي جعلته الأداة التي لا أداة سواها بين ألوان الشعر في كتابة المسرحيات؛ فالممثلون في المسرحية لا ينبغي لهم أن يتحدثوا على نحو يختلف عن طريقة الحديث في الحياة اليومية اختلافا بينا، على أن تظل لهم القدرة - في الوقت نفسه - على أن يعبروا عن العواطف السامية والأفكار العالية إذا ما اقتضى الأمر، فها هو ذا «هاملت» في مسرحية شيكسبير، يتحدث آونة عن توافه شئونه، ويتأمل آونة أخرى في الحياة، أفيجوز له أن يتكلم بنفس الأسلوب في الموقفين؟ يجب أن يهبط حين يتحدث عن شئون حياته اليومية، ثم يعلو حين يغرق في تأملاته العميقة. والشعر المرسل وحده هو الذي يستطيع أن يحتمل هذا الصعود والهبوط؛ ومن ثم كان السر في عظمته وملاءمته للأدب المسرحي هو هذه المرونة الشديدة التي يتصف بها دون سائر البحور والأوزان. ولقد برع شيكسبير في هذا الشعر المرسل براعة ممتازة أخذت تزداد معه كلما أمعن في إنتاجه وسيطر على فنه، وحسبك أن تقرأ له - مثلا - «رتشرد الثالث» من نتاج المرحلة الأولى، ثم «يوليوس قيصر» من نتاج المرحلة الوسطى، ثم «الملك لير» من نتاج المراحل الأخيرة؛ لتعلم كيف كان هذا العبقري يسير في فن الشعر المرسل بخطوات الجبابرة حتى بلغ به أوج الكمال.
لكن ليس الشعر القصصي الإنجليزي كله شعرا مرسلا، فهنالك بحر آخر يأتي بعد المرسل في صلاحيته للقصص، وذلك هو بحر «الدوبيت»، والدوبيت بيتان على قافية واحدة، يغلب فيهما أن يتألف الواحد منهما من خمس تفعيلات أيامبية، والتفعيلة الأيامبية هي التي تتألف من جزأين يقع الضغط الصوتي على ثانيهما ولا يقع على الأول. وكان تشوسر أول من استخدم هذا البحر في حكاياته المشهورة في القرن الرابع عشر، وهو خير من المقطوعة التساعية الاسبنسرية في سياق القصة؛ لأن الدوبيت الواحد أقل من أن يكون وحدة معنوية مستقلة، فلا تتفتت القصة أجزاء وتتناثر، كما هي الحال في قصة تروى بالمقطوعات الاسبنسرية، التي فيها يقف الذهن وقفة في ختام كل مقطوعة، فلا يتصل حبل القصة. الدوبيت بحر يصلح للقصة؛ لأن وحداته تبدو كأنها الخطوات السريعة التي تخطو بالقارئ إلى الأمام، وكل خطوة فيها من القصر بحيث يتقدم بها القارئ في القصة ولا يتحدد بها اتجاه معين، فيظل الكاتب ممسكا بزمام السير والسياق يوجهه كيفما شاء؛ وإذن فالزوج يتلو الزوج من هذا البحر، يهيئ الحركة التي هي أهم عناصر القصة، وفضلا عن ذلك فإن الدوبيت يميل بطبيعته إلى أن يكون مطردا في انتظام لا يعرف الشذوذ، كأن وحداته قطع متساوية أخرجتها آلة على صورة واحدة؛ فكل وحدة بيتان مقسومان بالقافية إلى نصفين متساويين، وكل بيت تتوازن فيه التفعيلتان الأوليان مع التفعيلتين الأخريين، يتوسطها تفعيلة وسطى كأنها للطرفين بمثابة المحور.
هكذا ترى للدوبيت حركة مرتبة النغم حسنة التوقيع، تسير ضرباتها في انتظام صارم كأنها كتيبة من الجند تسير بخطوة واحدة ثابتة، لكن هذا الانتظام السوي نفسه هو للدوبيت نقيصة تهبط بمنزلته في حكاية القصة دون منزلة الشعر المرسل. وقد حاول «دريدن» - في أواخر القرن السابع عشر - أن يعالج في الدوبيت هذا النقص، فغير من مواضع الوقف بحيث تتباين الأزواج ولا تقع في الأذن رتيبة مملولة، لكن محاولته إن أفلحت في التغلب على الرتابة المملة، فقد بقيت أزواج الأبيات على استوائها واطرادها الذي يمنعها من العلو إلى الذروة ساعة تعلو العاطفة ويسمو الفكر بجناحيه. يستطيع الدوبيت أن يصعد بالعاطفة والفكر خطوة فوق المجال العادي المألوف في الحياة اليومية، لكنه يعجز عن الضرب في أجواز السماء إلى أوجها، كما يعجز - عادة - عن الهبوط إلى العادي المألوف. هو أصلح ما يكون في قصة تموج بالحوادث الخلابة التي تستوقف الأنظار بغرابتها، بحيث تكون حوادث القصة هذه هي مركز الانتباه ومحور الاهتمام، بل ربما كان الدوبيت أصلح بحور الشعر جميعا في رواية قصة لا تعنى بالحوادث، على أنها مجرد أفعال وقعت كما تقع الحوادث في الحياة، بل تحاول أن تكسب الحوادث قوة فوق قوتها الذاتية الطبيعية. وكذلك يصلح الدوبيت في شعر الهجاء؛ لما يضيفه إلى الحوادث التي يرويها من قوة، وخير مثال لهذا قصيدة «دريدن» الهجائية المشهورة «أبشالوم وأكيتوفيل»؛
3
ففيها ترى الدوبيت في يد الشاعر أداة طيعة تعينه على السير بالحوادث حتى تتكامل له القصة، لكنه في الوقت نفسه يزيد من ملامح الصورة قوة بحيث تجيء أقرب إلى الصور «الكاريكاتورية» منها إلى التصوير الصادق للأشخاص الذين يروي عنهم في قصته. ومن مزايا هذا البحر أيضا أنه يمكن الشاعر من بعض الانحراف عن سير القصة دون أن يتأثر بالسياق؛ لأنه إن اعترض مجرى الحوادث، بزوج يحشره بين زوجين، لما كانت هذه الزائدة استطرادا يلفت النظر ويعطل المسير. ولسنا نرى بين أبحر الشعر الإنجليزي كلها بحرا أصلح من الدوبيت في شعر الهجاء، أو في شعر النقاش بالحجة والدليل، فلأزواج الأبيات ما للنصل الباتر من حدة وبريق، فيقع كل منها موقع الحد المرهف على المهجو، وتتلاحق الضربات تلاحقا لا يدع للمهاجم فرصة يفيق فيها، وكذلك قل في شعر يراد به إقامة الدليل وإنهاض الحجة. على فرض أن هذا موضوع صالح للشعر فيستحيل أن تجد بحرا يدنو من الدوبيت في حسن أدائه لهذا الغرض؛ لأنه يسير بالنقاش خطوة في إثر خطوة كأنه بحث منطقي منظم تتعاقب فيه المقدمات مرتبطة متصلة، فما تزال الأدلة والشواهد يأخذ بعضها برقاب بعض، وتتجمع منها واحدة فوق واحدة حتى ينتهي التدليل إلى خاتمة مركزة في هيئة الحكمة المستندة إلى أقوى برهان وأصدق دليل. اقرأ - مثلا - «مقالة في الإنسان» لبوب، وهو رب القريض في هذا البحر غير مدافع، تجد في القصيدة روحا يوحي إليك بقوة في منطق الفكرة وسلامة المقدمات والنتائج. والواقع أن منطقه في القصيدة واه متهافت ضعيف، وإنما أوحى بذلك الروح فيها طريقة نظمها؛ فمن شأن الدوبيت أن يضع الفكرة في حدود البيتين، فيبلورها ويركزها، فتوهم السامع أنها الرأي القاطع الجازم الذي لا يأتيه الشك من بين يديه ولا من خلفه. من أجل ذلك كان لهذا البحر سيادة مطلقة في العصر الاتباعي (الكلاسيكي) في تاريخ الأدب الإنجليزي، وموقعه النصف الأول من القرن الثامن العشر؛ لأن أدباء الاتباع - على نقيض أصحاب الابتداع (الأدب الرومانتيكي) - يجولون بأشعارهم في مرحلة وسطى، لا هم يرتفعون إلى اللحظات التي تسمو فيها العاطفة إلى أحدها، ولا هم يهبطون إلى حيث تعمق الحياة إلى أغوارها. وهذا أنسب الظروف للدوبيت؛ فلا هو يبلغ الذرى، ولا هو ينزل إلى الأعماق، وإنما يجيد غاية الإجادة التعبير عن المعاني حين تكون وسطا بين الطرفين. ومن أجل هذا أيضا تجد أدباء المسرحية يستخدمون الدوبيت عادة ليختموا به فصلا أو منظرا أو خطبة؛ لأنه يقع في أذن القارئ أو السامع بمثابة الستار المنسدل.
هذان هما البحران الرئيسيان اللذان يجري فيهما الشعر القصصي، وليس ينفي ذلك بالطبع أن بعض الشعراء قد يختار غيرهما لقصصه، لكنها قلة ولهما الكثرة الغالبة. أما الشعر الغنائي الذي يعبر عن الوجدان ولا يقص الحوادث، فبحوره أكثر تنوعا وأوسع نطاقا، وهي بصفة عامة أعقد تفصيلا من بحور الشعر القصصي؛ فكلها يتألف من مقطوعات، وكثيرا ما تكون المقطوعات معقدة التأليف متشعبة في تفعيلاتها من حيث الأوزان والقوافي، وليس في هذا التعقيد والتشعب بالقياس إلى بساطة الشعر القصصي ما يدعو إلى العجب، فلسنا في القصيدة الغنائية الوجدانية إزاء قصة بسيطة عن أشخاص وحوادث، إنما نحن في هذا الشعر إزاء التعبير عن عالم العواطف والمشاعر التي تجيش في صدورنا، وهي من التنوع والتباين والتغير بما يستلزم هذا التعقيد والتشعب في وسيلة التعبير. والقصائد الغنائية أنواع تختلف باختلاف العاطفة التي تعبر عنها القصيدة؛ فهنالك «الأغاني»، وقد تكون الأغنية مما يتغنى بالحب أو بالشراب أو بجمال الربيع أو بألوان لا تنتهي من ألوان الغناء، ولكنها على اختلافها تعبر في مجموعها عن المشاعر التي يشترك فيها الشاعر مع غيره من الناس، على الرغم مما لها من قوي الأثر في حياة الشاعر الخاصة؛ ولهذا كانت «الأغاني» أبسط أنواع الشعر الغنائي بناء وتركيبا، فكلما قلت الفردية الذاتية في الشعر قل بناؤه تعقيدا. الأغنية - إذن - بسيطة التركيب لشيوع موضوعها وعدم اقتصارها على شعور قائلها، ولو أنك قد تجد شعراء الأغاني أحيانا - وخصوصا في أغاني الحب - يحسون العاطفة قد تفردت في نفوسهم، وتميزت عن عواطف الناس بطابع فردي خاص، رغم اشتراك سائر الناس معه في اسمها ونوعها؛ فالحب هو الحب عند المحبين جميعا، لكن الشاعر الغزل قد يرى في حبه ما يجعله مخالفا للحب عند الآخرين. هكذا كان الأمر عند الشعراء الطوافين في فرنسا في العصور الوسطى، وهكذا كان عند «بترارك» الشاعر الإيطالي في عصر النهضة. لذلك استدعى هذا الحب الفردي بعض التعقيد في بناء القصيدة الغنائية؛ ومن ثم نشأت المقطوعة الأربع عشرية
4
على يدي «بترارك» وكان له فيها فنه الخاص. لكن ضروب النظم التي ابتكرها الطوافون في الشعر الفرنسي، وابتكرها «بترارك» في الأدب الإيطالي، سرعان ما أصبحت نماذج لمن جاء بعدهم من الشعراء يحتذونها؛ إذ شاع فيهم نوع الحب الجديد بفعل العدوى، وبات يحس المحب إزاء حبيبته ما أحسه «بترارك» نحو معشوقته، فيجري غناءه الغرامي على نحو ما أجرى «بترارك» الغناء.
وهنالك من الشعر الغنائي أيضا «الترانيم» و«الأناشيد» و«المراثي» و«الأغاني الشعبية» وغيرها، لكل منها خصائص تميزها، وقد تتمسك إحداها ببحر تقليدي لا تخرج على أوضاعه. ولسنا نستطيع أن نفيض القول في هذه الأنواع، فحسبنا في بعضها كلمة موجزة. ونريد أن نؤكد قبل المضي في الحديث أن الصورة العروضية التي اختص بها كل من هذه الضروب الغنائية، إنما شاعت بين الشعراء لأنها أنسب القوالب لصياغة المعنى وأدائه في كل مجال على حدة؛ فالنشيد ينظم ليتغنى به حشد من الناس، ليحمدوا به الله ويبتهلوا إليه في ظروف تتطلب من النفوس خشوعا ووقارا. أما الأرجوزة الغزلية أو القصيدة الغرامية فتنظم معطرة لتصلح للغناء بين يدي المعشوقة في مخدعها. لهذا يميل شاعر النشيد إلى صياغة قصيدته في بناء متسق منسجم، وكثيرا ما يكون في مقطوعاته بساطة وقوة وجلال، وبخاصة إن قصد بها إلى تمجيد الوطن في أعياده القومية وذكرياته الخالدة. ومثل هذا النشيد ذي البناء الفخم الجليل ينسب إلى الشاعر اللاتيني «هوراس» فيقال «نشيد هوراسي»؛ لأنه منشئه وواضع أساسه. لكن من الأناشيد ما لا يأخذ بالبساطة الهوراسية، ويتأنق ويكثر من التفعيلات والأجزاء، وينسب هذا النوع إلى الشاعر اليوناني «بندار» فيقال «نشيد بنداري»، وأبرز خصائصه أنه يتألف من وحدة ثلاثية، وذلك أن النشيد البنداري كانت تغنيه جوقة في نوع من الرقص الحلقي؛ فمقطوعة من القصيدة تلازمها حركة الراقصين من اليمين إلى اليسار، والمقطوعة التي تليها تلازمها حركة من اليسار إلى اليمين، وفي المقطوعة الثالثة يقف الراقصون في سكون، وهذه الوحدة الثلاثية يكررها الشاعر في قصيدته عددا من المرات كما يشاء. ومن أمثلة هذه الأناشيد في الشعر الإنجليزي قصيدة «شلي» وعنوانها «نشيد الرياح الغربية»، وقصيدة «كيتس» وعنوانها «نشيد العندليب»، وقصيدة «سونبيرن» «نشيد عيد الميلاد»، وقصيدة «تنسن» «الدوق ولنجتن». وليست هذه الأناشيد في موضوعها شبيهة بأناشيد بندار إلا في وقار الموضوع وجد العاطفة. وكان الأصل في النشيد أن يكون جماعيا تنشده طائفة من الناس في صوت واحد في مناسبات قومية، كالانتصار في الحروب أو الظفر في حلبة السباق، ولكنك إذ تلقي نظرة عجلى على الأناشيد عند «شلي» و«كيتس» - مثلا - تدرك للوهلة الأولى أنها ليست من الأناشيد الجماعية في شيء. وهذا التحول نتيجة طبيعية للحضارة الحديثة التي أزالت - فيما أزالته من أوضاع المجتمع القديم - الشعائر القبلية والجماعية والقومية التي كانت أول ما أوحى بهذه الأناشيد للشعراء القدامى، لكنك إن تعمقت الأمر بنظرة فاحصة، أدركت في الأناشيد الحديثة روح الجماعة رغم تغير الموضوع. خذ - مثلا - لذلك نشيد «شلي» «في القبرة»، فهو على الرغم من تعبيره عن وجدانه الذاتي الفردي يدير هذا الوجدان حول موضوع ليس قبليا أو قوميا فحسب، بل موضوع عالمي يشتمل العالم كله. وكذلك في نشيده «الرياح الغربية» تستطيع أن تتبع الشاعر مقطوعة بعد مقطوعة وقد تحللت فرديته حتى اندمجت في الرياح التي يوجه إليها النشيد، بل في العالم كله الذي لم تكن الرياح إلا أنفاسه. النشيد - إذن - لون من الشعر الغنائي يعبر عن وجدان الشاعر في علاقته بمجموعة الناس أو ظواهر الطبيعة.
ولن نقول في الترانيم والمراثي والأغاني الشعبية شيئا، فكلها ضروب من الغناء تختلف موضوعا ونظما، لكننا لا نحب أن نطوي الحديث عن الشعر الغنائي قبل أن نعود إلى المقطوعة الأربعة عشرية نطنب فيها القول ونتتبع مراحلها في تطورها؛ لنتخذها مثالا يوضح كيف تنمو صور الأدب، كما تنمو الكائنات الحية جميعا، فتبدأ ناقصة التكوين وتأخذ في الرقي والكمال كلما تقدم بها الزمن على أيدي الشعراء، فلن تجد صورة أدبية خلقها وسواها شاعر واحد.
تتألف المقطوعة الأربع عشرية من أربعة عشر بيتا، وكان أول من أكثر الغناء بها شاعر اللاتين «بترارك» في بث حبه لمهجة قلبه «لورا»، وقد عاش بترارك في عصر جاشت فيه الصدور بجديد الدوافع والحوافز، عصر كان فاتحة عهد جديد في تاريخ البشر يطلق عليه المؤرخون اسم «النهضة»؛ ليدلوا به على أن كل شيء قد هب بعد رقاد طويل همدت فيه العقول وخمدت القلوب قرونا متتابعة. فرأى «بترارك» وجه الحياة على غير ما رآه معاصروه، وأحس الحب على نحو يختلف عما تعود الناس أن يحسوه؛ فأراد أداة جديدة يعبر بها عن تجربة جديدة، وسرعان ما وجد في المقطوعة الأربع عشرية خير أداة تعبر له عما يريد. لقد كانت في حبه للورا لفتة غريبة وجو غير معهود، كانت فيه مثالية يشوبها شيء من شهوة الحس العفة الطاهرة ، ثم كان فيه ما جرى به العرف بين العاشقين من تقديس المحبوبة وعبادتها، كان حبا عذريا وشهويا في آن معا، فكانت هذه العاطفة الجديدة في نفس الشاعر بمثابة التجربة الجديدة التي تطلبت منه أسلوبا جديدا، وكان أسلوبه الجديد في التعبير عن حبه هذا الجديد هذه المقطوعة القصيرة المركبة رغم قصرها، التي تلمع وتسطع بأجزائها المصقولة كأنها أحجار الماس في دقة صنعها، والنجوم الخالدة في لألائها وبريقها. ولم يكد «بترارك» يصوغ لعاطفته هذا القالب الجديد حتى سار الشعراء في إثره جماعات، وباتت المقطوعة الوليدة عرفا سائدا بين عشية وضحاها؛ ذلك لأن المشاعر الجديدة التي كان «بترارك» أول من وعاها وأحسها إحساسا حادا واضح المعالم، كانت
ومضت سنون، وشرع الناس في إنجلترا يدركون في غموض وإبهام مثل هذا الشعور الذي سبقهم «بترارك» إلى تبينه في نفسه، فأحسوا رغبة التعبير، فما أسعفتهم إلا أداة جديدة، هي هذه المقطوعة الأربع عشرية نفسها، فجروا فيها على غرار منشئها، لكنهم سرعان ما وجدوا أنهم إذ ينقلون المقطوعة البتراركية وزنا بوزن وقافية بقافية لا يعبرون عن مثل ما عبر عنه صاحب المقطوعة في لغته الإيطالية، فما وجدوا فيها عندئذ كبير نفع؛ لأنهم لم يكونوا بحاجة إلى قالب أجوف، إنما أرادوا صورة حية تعبر لهم عن هذا الإحساس الجديد الذي أحسوا فعله في نفوسهم، والذي سبقهم الشاعر الإيطالي إلى إحساس فعله في نفسه؛ فجاهد شعراء العصر الأليصاباتي في إنجلترا - ما وسعهم الجهاد - أن يجدوا في الإنجليزية أداة تساوي الأداة الإيطالية في قدرتها على التعبير، حتى انتهت بهم المحاولة إلى ضرب من المقطوعة الأربع عشرية، يختلف اختلافا بينا عن مقطوعة «بترارك» في الشكل والملامح، لكنه يؤدي بالضبط ما أدته مقطوعة «بترارك» من عاطفة وشعور.
لقد زعمنا في بداية حديثنا عن الأسلوب أنه يتألف من ثلاثة عناصر أساسية؛ الألفاظ التي يستخدمها الشاعر أو الكاتب، وتركيب هذه الألفاظ في جمل، ثم طريقة السير في موضوع الحديث. وقد فرغنا فيما سلف من البحث في الألفاظ وقيمتها في أداء المعنى، وفرغنا كذلك من البحث في وجه واحد من وجوه تركيب الألفاظ، وأعني به تنسيقها بحيث يكون لوقع أنغامها في الأذن أثر وتعبير. وكان لا بد لنا أن نتناول سائر وجوه التأليف بين الألفاظ في ضروب العبارة المختلفة، ولكن ذلك سيدخل بنا في دقائق البيان والبديع، فلنا أن نتجاوز عنها لنفسح لأنفسنا بعض المجال لبحث العنصر الشعري الثالث في إيجاز، وأعني به طريقة السير في موضوع الحديث. فكيف يعالج الأديب مادته؟
لقد أسلفنا لك فيما مضى كيف يستغل الأديب - والشاعر بصفة خاصة - ما للألفاظ من قوة تعبيرية، بحيث يؤدي بها فضلا عن معانيها العقلية كل ما تحمل في أحشائها من صور مدخرة ومشاعر كامنة لفت نفسها لفا حول ذلك المعنى العقلي. وقلنا إن الألفاظ كالقماقم أغلقت سداداتها على شحنة من تجارب لا حصر لها، اختزنها فيها الإنسان على كر العصور، والشاعر البارع هو الذي يعلم كيف يزيل عن تلك القماقم سداداتها ليفرغ المكنون المدخر فيها. وهذا بعينه هو طريقته في معالجة موضوعه؛ فهو لا يعنيه أن يعرض موضوعه عرضا عقليا، بل يحاول أن يبرز كل ما يحتويه الموضوع من سائر العناصر التي هي قوامه وجوهره. خذ هذين البيتين لمردث:
لا بد لي أن أهوي واجفا
على هذا الصدر الذي يحمل الوردة؟
ويريد بهما الشاعر أن الملحد - الذي يكفر بخلود الروح بعد موت الجسد - لا ينبغي له أن ييأس ما دام مصيره هذه الأرض التي تحمل الورد فوق صدرها، لكن الشاعر لا يقنعه أن يسوق معناه هذا مستقيما واضحا كما عبرنا عنه في النثر؛ لأن المعنى العقلي وحده لا يكفيه ، إنما يريد أن يضيف إليه ألوان المشاعر والعواطف التي ليست من المعنى العقلي في شيء وإن تكن مرتبطة به. «فالصدر الذي يحمل الوردة» هو الأرض، ولكن هل هو الأرض التي تتألف من الكربون والنتروجين وما إلى ذلك من عناصر التربة والصخور؟ كلا، بل إنه ليرى في هذه الأرض أما رءوما تنسل من جوفها الورد الجميل، ويخلع على الأرض عاطفة الأمومة نحو نسلها هذا الجميل، فكل هذه الخواطر تتداعى إلى الذهن حين يقرأ عن الأرض أنها «الصدر الذي يحمل الوردة»، وهو وصف بعيد عن الدقة العقلية كل البعد، فليس الورد أطفالا، وليست الأرض صدرا حنونا يضم إليه هؤلاء الأطفال، ولكن هذا الانحراف نفسه عن الدقة العقلية هو قيمة الصورة التي رسمها الشاعر باستعارته؛ فالمماثلة بين الأرض والورد من ناحية، والأم وأطفالها من ناحية أخرى تشبيه حقيقي صادق، لكنه يخفى عن العين حتى يكشف عنه الشاعر بمثل هذه الصورة التي يرسمها، فكلنا يستطيع أن يرى الوردة نباتا تنتجه الأرض، والشاعر وحده هو الذي يرى الوردة طفلا تلده الأرض. فالشعراء بما يرسمون من صور كهذه يخلعون على الأشياء صفات ليست لها في حكم العقل، لكنها في حقيقة الأمر ترمز لروحها الحق وجوهرها الصحيح. هذه الصور هي إحدى الوسائل الشعورية التي يستخدمها الشعراء في التعبير عما يريدون.
وبديهي أن تحكم للشاعر بالجودة في صوره هذه التي يكونها ليعبر بها عن معانيه بما لها من قوة التأثير والتعبير، فقد تكون الصورة ممتعة في ذاتها مزخرفة مزركشة، لكنها لا تضيف جديدا إلى معاني القصيدة، بل قد تضعف تلك المعاني. ونعود مرة أخرى إلى هذين البيتين اللذين يصف بهما الشاعر السحاب في يوم عاصف، فنتخذهما مثالا موضحا:
تسربل وشيا من حرير تطرزت
مطارفها لمعا من البرق كالتبر
فوشي بلا رقم ونقش بلا يد
ودمع بلا عين وضحك بلا ثغر
فلا شك أن هذه كلها صور جميلة؛ فالسحاب الذي لبس رداء من حرير، والرداء الذي طرزه لمع البرق، والدمع الذي ينسكب من غير المحاجر، ثم الضحك الذي تتحدر قهقهته من غير الأفواه، كل هذه صور جميلة ولكنها تفسد المعنى؛ لأنها لا تترك في القارئ أثر السماء العاصفة ببرقها ورعدها.
وخذ مثالا آخر من الشعر الإنجليزي، يقول «لونجفلو» في قصيدة «أنشودة الحياة»
5
ما يأتي:
حيوات العظماء حافزة لنا
أن نعلو بالحياة إلى أعلى القنن؛
حتى إن رحلنا تركنا في إثرنا
آثار أقدام على رمال الزمن.
وظاهر أن تصوير الجزاء الذي يلقاه ذو الحياة العظيمة - والذي يراد به أن يكون إغراء للناس أن يحيوا حياة عظيمة - بخلود لا يزيد على آثار أقدام فوق الرمال لن تلبث أن تسفيها الرياح، لا يؤدي المعنى المراد إلا أضعف الأداء؛ فالصور الكلامية التي يستخدمها الشاعر إن أجيد استخدامها كانت أداة مفيدة في أيديهم، فبفضلها تشخص المعاني المجردة، وتصب في صور مرئية محسوسة، وبذلك تكتسب قوة ونصوعا. ويجمل بنا في هذا الصدد أن نشير إلى حيلة شائعة في الآداب الأوروبية، وكانت أكثر شيوعا في العصور الوسطى منها في العصر الحديث، وهي أن يكتب الشاعر اسم المعنى المجرد الذي يريد تشخيصه وتجسيده مبدوءا بحرف التاج، وإنها لحيلة قمينة أن تبلغ غايتها في الشاعر المجيد، لكنها أقرب إلى الإخفاق؛ لأنها في أكثر حالاتها لا تحمل إلى الذهن صورة مجسدة كما أريد لها أن تفعل. ومن خير الأمثلة التي تساق لنجاح الشاعر في تشخيص المعاني المجردة مع جعلها حية في الذهن، ما صنعه «ملتن» في «الفردوس المفقود» إذ شخص «الخطيئة» و«الموت» فأبرزهما في أبشع صورة لهما، وما صنعه هو نفسه كذلك في إحدى قصائده الأخرى، إذ شخص «الضحك» فجعله كأنما هو شخص ينبض بالحياة ممسكا جانبيه بكلتا يديه من فرط القهقهة.
وما هذا التشخيص إلا واحد من مئات من طرائق التعبير وأساليبه عند الشعراء، يريدون بها ألا يقتصروا في أداء المعنى على مجرد سرده وبسطه بطريقة مستقيمة مباشرة؛ لأنهم إن فعلوا كانوا يخاطبون العقل، ومهمتهم أن يثيروا بألفاظهم وصورهم الجيدة كل ما يمكنهم أن يثيروه في أنفس القراء من مشاعر وذكريات. ومن أهم هذه الطرائق التي يصطنعها الشعراء في أداء المعاني التشبيه والاستعارة. وللاستعارة في الشعر قيمة بالغة، بحيث يكاد يستحيل أن يكون الشعر شعرا بغيرها؛ وذلك لأن الشاعر يرى بين الأشياء التي تبدو منفصلة لا علاقة لإحداها بالأخرى روابط وصلات، فإذا ما ربط بعضها ببعض كانت له استعارة أو تشبيه، وأمثلة الاستعارة والتشبيه في الأدب كثيرة لا تقع تحت الحصر، يقول الشاعر:
فأمطرت لؤلؤا من نرجس وسقت
وردا وعضت على العناب بالبرد
فليست العين نرجسا، ولا قطرات الدمع لؤلؤا، ولا حمرة الخدود وردا، ولا أطراف أناملها المخضبة عنابا، ولا أسنانها بردا، لكن هكذا ربط الشاعر الصلة بين هذه المتفرقات ليوحي إلى القارئ بمعنى وصورة لا يوحي بهما التعبير المستقيم «سالت عبراتها على خدها وعضت على أناملها بأسنانها»، فلن يمضي القارئ على اللؤلؤ والنرجس والورد والعناب والبرد، دون أن يتصور لألاءها وعبقها وفتنة جمالها.
ويقول امرؤ القيس في وصف الليل:
وليل كموج البحر أرخى سدوله
علي بأنواع الهموم ليبتلي
فقلت له لما تمطى بصلبه
وأردف أعجازا وناء بكلكل
فانظر إلى هذا البيت الثاني، يريد الشاعر أن يقول إن ليله طويل بطيء ثقيل، فلما رأى لليل وسطا ممتدا استعار له من البعير صلبه وهو يتمطى به، ولما رآه بطيئا ثقيلا مضى في استعارته لأجزاء البعير فجعل له أعجازا، ثم أمعن في تصوير الثقل والبطء فجعل بعيره ينوء بكلكله. وهكذا صور الليل على صورة البعير، حيث جعل له صلبا يتمطى به أولا، ثم عقب على ذلك بذكر العجز، ثم بالكلكل، وهو ما يعتمد عليه البعير إذا برك.
وانظر إلى هذا الشاعر الذي يصف لك كاتبا يحل المشكلات بقلمه، فيجعل الأقلام نبالا، ويجعل الأنامل ريشا لتلك النبال، ثم يجعل من سواد الليل نصولا لها، ويجعل القرطاس أمامه حلبة، وكأنما الأقلام جياد في هذه الحلبة، وما صريرها وهي تكتب إلا صهيل تلك الجياد.
نبل حباها من رءوس بنانه
ريشا ومن حلل المداد نصولا
ففرت شواكل كل أمر مشكل
ورددن كل مفضل مفضولا
وترى الصحيفة حلبة وجيادها
أقلامه وصريرهن صهيلا
ثم اقرأ هذه الاستعارة التي تثير فيك التأمل والتفكير:
العيش نوم والمنية يقظة
والمرء بينهما خيال ساري
فاقضوا مآربكم سراعا إنما
أعماركم سفر من الأسفار
وهذه الاستعارة التي يرثي بها والد ولده:
وهلال أيام مضى لم يستدر
بدرا ولم يمهل لوقت سرار
عجل الكسوف عليه قبل أوانه
فمحاه قبل مظنة الإبدار
واستل من أترابه ولداته
كالمقلة استلت من الأشفار
فلو قال لك إن ولدي مات صغيرا، لما وفى ما أراد أن يقوله، إنما أراد هذا الأمل الذي يتعلق به ويرقبه يوما بعد يوم لعله أن يكتمل، وإذا به يقضى قبل أوانه بقدر مباغت لم يكن يتوقعه، كهذا الكسوف الذي ينقض على الهلال فيقضي عليه قبل أن يكتمل إبداره، ولا تقل إن في هذا التصوير خطأ يبعد به عن الواقع، إذ الكسوف لا يصيب القمر إلا وهو بدر مكتمل؛ لأن الشاعر يريد التأثير بألفاظه وصوره، فلو أثرت ألفاظه وصوره الأثر الذي يريد لم يعد له بعد ذلك مطلب.
والفرق بين التشبيه والاستعارة هو أن الأول يحتفظ للمشبه والمشبه به بذاتيهما، وكل ما يفعله أن يربط الصلة بينهما. وأما الاستعارة فتدمج الواحد في الآخر وتجعلهما شيئا واحدا؛ ففرق بين أن يقول الشاعر: «فأمطرت لؤلؤا من نرجس وسقت وردا وعضت على العناب بالبرد» وبين أن يقول: «فأمطرت دمعا كاللؤلؤ من عين كالنرجس وسقت خدا كالورد وعضت على أنامل كالعناب بأسنان كالبرد» فالتشبيه - كما ترى - أقرب إلى تصوير الواقع. أما الاستعارة فأمعن في الخيال؛ لأنها تطمس الأشياء طمسا وتستبدل بها أشباهها؛ فالفتاة الباكية في هذا البيت لم تسفح من عينها دمعا كاللؤلؤ، إنما سفحته لؤلؤا؛ لهذا كان التشبيه أكثر شيوعا من الاستعارة في العصور «الاتباعية» التي يكون فيها الشعراء أقل حدة في الخيال، وأكثر انصياعا لأحكام العقل والمنطق، وكانت الاستعارة أكثر شيوعا من التشبيه في العصور «الابتداعية» التي يشطح فيها الخيال ويجمح، فلا يكون للعقل عليه ضابط.
ولعله من الخير أن نختم هذا الفصل بتحليل لقصيدة «المعشوقة المفقودة» للشاعر الإنجليزي «براوننج»؛
6
لنوضح بمثال محسوس كيف يستخدم الشاعر أدوات التعبير حين ينشئ قصيدته. «فالمعشوقة المفقودة» قصيدة يفصح فيها شخص معين عن تجربة معينة يمارسها في ظروف معينة؛ فلكي تقرأ القصيدة قراءة صحيحة لا مندوحة لك عن خلق الظروف التي كانت تحيط بهذا الشخص في موقفه ذاك، ولا مندوحة لك أيضا عن تبين طبيعة خلقه، حتى يتاح لك أن تعيد تجربته في نفسك حية قوية كما كانت في نفسه وهو يمارسها. تستهل القصيدة بقول العاشق «إذن فكل شيء قد انتهى.» وتدلنا كلمة «إذن» أن الرجل قد سمع لتوه من حبيبته ما أفاده أن كل شيء قد انتهى، فتتطلع نفوسنا إلى معرفة وقع هذا الهجر والصدود في نفسه، فلو عرفنا ذلك لوفقنا إلى مفتاح يكشف لنا عن حقيقة شخصيته. وسرعان ما نتبين أن صد المعشوقة لم يصرعه باليأس والأسى، فهو فيما يظهر ليس بذي عاطفة عميقة محتدمة؛ إذ تراه هو نفسه لا يكاد يعرف وقع الضربة في نفسه، فبدل أن ينطلق لسانه ليعبر في صورة محدودة عن إحساسه وشعوره، تراه يتساءل:
أترى الحق مرا
كما يظن به لأول وهلة؟
واضح من هذا التساؤل أنه رجل ينطوي على نفسه، ويستبطن مشاعره ليتعقبها، وهي تجري في دخيلته؛ كي يعلم حقيقتها وكنهها، أم نرى الضربة قد أطارت شيئا من صوابه، أو على التقدير القليل قد فلت من حدة انفعاله بعض الشيء. فلم تترك له من القوة المدركة ومن تماسك النفس إلا قدرا يستطيع به أن يعلم من نفسه هذا الذي يلاحظه ويعجب لحقيقته؟ إننا بعد لا نعرف طبيعة الرجل، فلا بد لنا أن نأخذ تساؤله هذا «أترى الحق مرا كما يظن به لأول وهلة؟» على أنه بحث يلقيه فيلسوف من طبيعته أن يغوص إلى حقائق الأشياء، ولعله أراد الآن أن يطرح أمام نفسه هذه المشكلة النفسية لدراستها في نفسه هو، وقد وقع به مصاب كان يظن به المرارة أول الأمر، وبغير أن يقول الرجل عن نفسه ما يكشف لنا عن طبيعته تراه ينتقل فجأة فيقول:
أنصت! إنه العصفور يناغي: عم مساء،
على مقربة ها هنا فوق رفرف البيت!
بهذين البيتين قضي الأمر وانزاح الشك وتبينت حقيقة الرجل. لقد شككنا في أن يكون فيلسوفا بلغ من حبه للتفكير المجرد أنه في اللحظة التي علم فيها أن أمله في الحب قد ضاع، أخذ يحلل وقع الأمر في نفسه باحثا مدققا ليجزم إن كان «الحق مرا كما يظن به لأول وهلة». لكن الفيلسوف الذي يغرق في تفكيره المجرد والذي يستطيع أن يمسك بزمام نفسه، فينظر إلى الأمور نظرة موضوعية علمية هادئة حتى وهو في محنته، مثل هذا الفيلسوف لا تستوقف سمعه مناغاة خافتة من عصفور يعشش على رفرف البيت. فلم يعد من سبيل إلى الشك في أن صاحبنا عاطفي تسوقه مشاعره ولا يعهد بزمام نفسه إلى عقله المجرد الخالص، إنه رجل يتلفت إلى الدنيا ومن حوله فلا يفتنه منها إلا الأحاسيس الرقيقة الممتعة، إنه ليسعد ويغتبط إذا ما استجاب إلى المؤثرات العاطفية التي تنبعث عن الطبيعة من حوله؛ ومن ثم استوقف سمعه تغريد العصفور. لقد ساق الشاعر مناغاة العصفور في هذا الموضع من قصيدته؛ لأن العصفور كان يناغي في عشه على رفرف البيت حين وقف الشاعر عند بابه عقب لقائه بالحبيبة الهاجرة، لكن الشاعر لم يرد أن يثبت في قصيدته وجود العصفور في ذلك المكان وفي تلك الساعة من ذاك المساء لمجرد أنه حقيقة وقعت، بل أراد فوق ذلك أن يبين أي نوع من الرجال صاحبنا، فلولا أنه رجل تغلب عليه العاطفة لما أدرك وجود العصفور ولا تحدث عنه. لقد ألف الرجل في أماسيه الذاهبة أن يهمس في أذن حبيبته لغوا، كالذي يهمس به المجنون، لغوا محببا إلى النفس. ولقد كان الحبيبان يطيران على جناح من الخيال والعاطفة، فإذا ما تناغيا: «عم مساء» عند الفراق، سمعا العصفور يناغي كذلك: «عم مساء» كأن لحبهما صدى في صدور الطير. فإن علمت هذا استطعت أن تدرك وقع ما ناغى به الطير عندما أقبل المساء في تلك الليلة على نفس الحبيب المهجور. إن الحياة الواعية عند صاحبنا تبدأ بأحاسيسه ؛ لأنها من حياته أهم ما يستثير عنايته واهتمامه، وقد أراد في مستهل القصيدة أن يسلط عقله على هذه الأحاسيس؛ لعله يهديها سواء السبيل. وها هو ذا يرى ويسمع العصفور الصغير الذي يضرب بضعفه المثل بين الأحياء جميعا. ها هو ذا يرى العصفور ويسمعه وقد اتصلت حياته، فكانت الليلة كما كانت الأمس وكما ستكون غدا وبعد غد. إن العصفور الهزيل الضئيل يحيا حياة موصولة لا مقطوعة؛ وذلك دليل في حكم العقل الذي أسلمه الرجل زمام عاطفته على أن أساس الحياة في الكون كله هو الاستمرار والاتصال. فكيف يمكن في كون هذا أساس الحياة فيه أن يفهم أو يسيغ فكرة النهاية والانقطاع، أو أن يصدق عن إيمان وعقيدة «أن كل شيء قد انتهى» كما قالت له المعشوقة الصادة، فاستهل بقولها قصيدته! كلا، يستحيل عليه أن يفهم أو يسيغ فكرة النهاية والانقطاع، ثم يزداد ذلك استحالة عليه؛ لأنه وقد فك عواطفه من عقالها وأطلق سراحها، تلك العواطف التي اعتاد أن تثيرها في نفسه ظواهر الطبيعة من حوله، مضت في طريقها لا تنتظر مثيرا يدفعها، فراحت تجري في مخيلته يدعو بعضها بعضا في صف متتابع الصور. فلئن ذكر العصفور لأن صوته وقع في سمعه، فقد عقب عليه بذكر الكروم ولم تكن هناك، لكن الخواطر تتداعى من تلقاء نفسها:
والزغب على براعم الورق فوق الكرم،
لقد لحظته ذلك اليوم.
وفي البيت الثاني دلالة كبرى؛ فهو في ألفاظه وتركيبه كاللغة الدارجة على الألسن في الحديث السائر، وليست فيه محسنات الشعر وزخارفه. وكان في مقدور شاعر مثل «براوننج» أن يتأنق لك في العبارة كيف شئت، وأن يرسم لك من الصور المطرزة ما يخطف السمع والبصر، لكنه لم يرد في هذا الموضع إلا هذا القول البسيط؛ لتشم منه رائحة الحياة الجارية المألوفة بما تعهده فيها من لغو بين المحبين. إنه يريد أن يعيد إلى ذهنك حياة الحبيب مع حبيبته كل يوم، فلقد لبث العاشقان أمدا طويلا يجولان في الطرق المحيطة بالبيت، يلغو كل منهما للآخر لغوا مرحا طروبا بما يراه من ظواهر الطبيعة البهيجة من حوله؛ فلطالما لاحظا وتحدثا عن الحشرة تزحف فوق الأرض، والفراشة تنشر جناحها فتبدي ألوانه الزاهية، وجذوع الأشجار وقد حزت فيها علامات وإشارات، وأوراق الأشجار وقد بدت إحداها في وضع رشيق ... تلك كانت أحاديث اليوم بين الحبيبين. وفي مثل هذه الحياة يكون اليوم الذي تسقط فيه أول قطرات الثلج في الشتاء يوما مشهودا له عند الحبيبين علامته التي تميزه، وربما ظلا يرقبانه أمدا بعيدا وقد ملأهما المرح والفرح والنشاط، فإذا ما قدم احتفلا به، في إقبال طروب على الحياة. هكذا كانت حياة الحبيبين معا؛ دورة متجددة تسري فيها عاطفة يخف لها قلباهما. فلما سمع صاحبنا مناغاة العصفور عند المساء، انطلق خياله إلى مظهر آخر في الطبيعة لحظة ذاك النهار، وربما احتفظ به في واعيته ليكون موضوع السمر بينه وبين حبيبته، بل ربما كانت تلك البراعم الزاغبة على أوراق الكرم ظاهرة أخذا يرقبانها معا ليبتهجا بها عند أول ظهورها، فطبيعي أن ترد على خاطر الرجل حلقة أولى في سلسلة الخواطر التي أثارها تغريد العصفور. هكذا ترى الرجل غير مدفوع بتدبير من العقل الواعي، بل يفيض عنه التعبير فيضا وينبثق انبثاقا، كما يتفجر الينبوع بالماء والشمس بالضياء، فيصور لنا نفسه على سجيتها في تعبيره البسيط الذي جاء على نفس الصورة التي كان سيحدث بها حبيبته عن براعم الأوراق في كرمة العنب. فأما وقد طفت براعم أوراق الكرم من اللاشعور الدفين إلى الشعور الواعي - فوردت في القصيدة - فكيف تراه يتأثر بها؟ لقد أحدث تغريد العصفور في نفسه إحساسا باستمرار الحياة واتصال الوجود، فماذا عسى أن تحدث هذه الصورة الجديدة في نفسه؟ لقد أحدثت فيه أثرا قويا ناصعا، لا بمجرد استمرار الحياة كما فعل العصفور، بل بناموس طبيعي آخر يدفع الكائنات الطبيعية كلها دفعا نحو حياة أكمل خلقا وأتم نضجا. فكيف لرجل تتردد في خاطره هذه الأحاسيس أن يفهم أو يسيغ ما قالته له الحبيبة وما استهل به القصيدة «إن كل شيء قد انتهى»؟ إنه في هذه اللحظة المعينة، وفي هذا الموقف المعين، يستحيل عليه أن يصدق ذلك عن عقيدة وإيمان، فيمضي قائلا:
وإذن فسوف نلتقي غدا كما كنا نلتقي يا حبيبة الفؤاد!
لقد حملته مشاعره إلى عالم آخر لا يعرف اتصاله انقطاعا، فتراه قد نسي الآن نسيانا تاما أن «كل شيء قد انتهى» بينه وبين حبيبته، وأخذ يتوقع أن يتم اللقاء بينه وبين حبيبته غدا كما كان يتم كل يوم، ولكنه لم يكد يخرج هذا الأمل الذي يجري به خاطره عن غير وعي، لم يكد يخرجه في ألفاظ فيعيه عقله الذاكر اليقظان حتى أيقن من فوره أن اللقاء لن يكون غدا كما كان، ومع ذلك فهو لا ييأس كل اليأس، ويستخرج من الموقف كل ما في مستطاعه ليشبع عاطفته. فلئن استحال أن يكون اللقاء غدا كما كان كل يوم، فلا ينفي ذلك أن يتم ذلك اللقاء على أي وجه من الوجوه:
هل لي أن أضع يدك في يدي؟
صديقين ولا شيء غير صديقين؛ ففي الصداقة العابرة
كثير مما نفضت عنه رجائي.
فقد استدرك ها هنا أنهما إذا التقيا غدا فلن يكونا حبيبين، ولكنها لا شك ستأذن له أن يضع يدها في يده. وهل تحرمه لذة تهبها أصدقاءها العابرين؟ فبعد أن يهدهد عاطفته على هذا النحو، ويبعث فيها الطمأنينة بالآمال الكاذبة، يفيق من غفوته ويواجه الموقف كما هو، فيتبين له في جلاء فقد الحبيبة إلى الأبد، فليس في غد لقاء بين الحبيبين ولا بين الصديقين، فتحتد فيه العاطفة وتشتد حتى تنقلب انفعالا مضطرما محتدما، ويبدأ الجزء التالي من القصيدة بنبرات أقوى:
فكل لمحة من عين بهذا البريق وهذا السواد
سأحفظها في النفس والقلب جاهد
وصوتك إذ ترجين أن يكون لقطرات الثلج أوبة ومعاد.
يئس المحب - إذن - من لقاء حبيبته، فلا أقل من أن يحفظ أبد الدهر نظراتها وصوتها، ثم يعود الشاعر في الجزء التالي فيهدئ من عاطفته الثائرة ليخفي عن نفسه مدى فادحته التي حلت به، ثم ليمني نفسه بحظوة عندها ضئيلة جدا، لكنها أصبحت في هذه الحالة اليائسة تكفيه:
لست أريد أن أقول لك إلا ما يقوله سائر الخلان،
أو أزيد عليهم بفكرة.
سأمسك يدك كما يمسكها بقية الإخوان،
أو أزيد عليهم بطول الفترة.
وهكذا نترك صاحبنا مغمورا بعاطفته حتى أطراف أنامله، كل أمله من حبيبته أن يضغط الضاغطون على يدها ثانيتين اثنتين، وأن تترك يدها في يده ثانيتين ونصف ثانية.
لقد حاولنا بهذا التحليل أن نوضح ما لعوامل التعبير الثلاثة من قوة؛ الألفاظ، ثم الصور، ثم طريقة السير في الموضوع. وكان ينبغي إتماما للتحليل أن نستعرض الأوزان والقوافي؛ لأن الصوت والنغم - كما قدمنا - جزء من التعبير، لكن ذلك لا يكون إلا في الأصل الموزون المقفى.
الفصل الثالث
كل فن لما خلق له
لقد أنبأناك منذ فاتحة الكتاب أننا سنستخدم لفظ «الشعر» لندل به على كل ضروب الأدب التي تقصد لذاتها وجمال فنها، لا لنفعها وما فيها من علم وعرفان، ولكن العرف قد جرى بتقسيم هذا الشعر أنواعا وأقساما؛ فملحمة ومسرحية وقصيدة غنائية وقصة ومقالة إلى آخر هذه الأقسام والأنواع، وكلها يخضع لما قدمناه في الفصلين السابقين من مبادئ وموازين، إلا ما يخص النظم منها، فهو لا ينطبق إلا على المنظوم؛ فالعوامل التي تؤدي إلى قوة التعبير هي بعينها لا تتغير في كل هذه الضروب الأدبية على اختلافها، فمهما تكن القطعة الأدبية، ملحمة كانت أو قصيدة غنائية أو مقالة، فينبغي لك أن تقرأها على النحو الذي أفضنا في شرحه وتوضيحه في الفصلين السابقين، لكن مشكلة جديدة تنشأ ها هنا، وتتطلب منا التفكير والحل. لقد زعمنا أن الميزان الذي نميز به جيد الشعر من رديئه، هو قوة الألفاظ والصور في التعبير عما أريد لها أن تعبر عنه، لكننا عرفنا مما قدمناه في الفصل السابق أن لأنواع الشعر المختلفة قدرات مختلفة على التعبير؛ فقصيدة في الشعر المرسل تختلف في طريقة أدائها للمعنى وتعبيرها عما يريد الشاعر عن قصيدة في بحر الدوبيت، وإذن فربما كانت الطريقة المثلى في الحكم على قصيدة أن نحكم عليها باعتبارها شعرا أولا، ثم باعتبارها هذا الضرب أو ذاك ثانيا؛ إذ يستحيل أن تزن قصيدة بميزان النقد الكامل العادل إلا إذا قستها بمعيار نوعها، أما أن تقيس القصيدة الغنائية بما تقيس به الملحمة، ثم تستخف قيمتها وتستصغر شأنها لأنها لا تؤدي ما تؤديه الملحمة، فضلال وانحراف عن سواء السبيل، ولا يقل خطلا وحمقا عمن ينتقص من شأن النمر لأنه لم يكن أسدا؛ فإذا كانت القصيدة الغنائية تختلف عن زميلتها القصصية بمقدار ما يختلف النمر عن الأسد، فبديهي أن تحكم على القصيدة الغنائية في حدود ما يستطيع الشعر الغنائي أن يؤديه، وأن تحكم على الملحمة في حدود ما يستطيع الشعر القصصي أن يبلغه؛ فالقصيدة الغنائية الجيدة هي التي تجود في صفتها الغنائية، كما أن خير النمور ما يمثل طبيعة النمر على وجهها الكامل. ونسوق لذلك مثالا هذه العبارة الآتية التي وردت في تأمل «هاملت» وهو وحده يحدث نفسه، قالها وهو يفكر في العالم الآخر، فيصفه بأنه:
العالم المجهول الذي من حدوده
لا يعود مسافر.
وتقرأ العبارة في أصلها الإنجليزي فتجد لها رنينا جميلا ونغما حلوا مستساغا، ولا تخطئ فيها جودة الصياغة وقوة التعبير، وما دمت قد حكمت لها بقوة التعبير فقد سلكتها في الشعر الجيد، فذلك مقياسنا الذي اتخذناه وحرصنا أن تكون له المنزلة الأولى في الحكم والتقدير. تقرأ هذه العبارة فتشعر أنك قد أحببتها، لا لأن لها نغما جميلا في مسمعيك فحسب، بل لأنها بأسلوبها؛ أي بطريقتها في معالجة موضوعها. تصور لك العالم الآخر صورة تغنيك وترضيك؛ فتصوير هذا العالم الآخر «بعالم مجهول» وبأنه لسفر الحياة نهاية وختام، قد هيأ للشاعر أن يبرز صفتين هما من أهم الفوارق بينه وبين هذا العالم الأرضي الذي نعيش فيه؛ أولاهما إلغازه وغموضه فهو «عالم مجهول»، والثانية انفصاله التام عن هذا العالم؛ إذ «من حدوده لا يعود مسافر». وهكذا كشف الشاعر عن العناصر الأساسية في الفكرة التي يسوقها كشفا صحيحا جميلا، فلا يسعنا إلا أن نحكم لعبارته بالجمال، وإذن فهي عظيمة بمقياس الشعر بوجه عام، لكنها ليست شعرا بمعنى الشعر العام وكفى. إنها قول معين لشخص معين في نوع معين من الشعر هو المسرحية، فلا يمكن الحكم لها أو عليها حكما قاطعا إلا إذا رأيناها في موضعها من المسرحية التي وردت فيها؛ لنزن قدرها في ذلك الموضع ومقدار أدائها لما أريد لها أن تؤديه. ونعود إلى المسرحية فإذا العبارة تجري على لسان «هاملت»، وإذا بعامل جديد يدخل في الحكم والتقدير؛ فقد كنا حكمنا على العبارة بالجودة لأنها عبرت لنا عن رأينا في العالم الآخر؟ حكمنا لها بالجودة لصدقها، لكنها تجري في الرواية على لسان «هاملت» الذي يعلم دون سائر الناس جميعا أنها كاذبة! فلم يكن قد مضى في حوادث المسرحية إلا قليل حين رأى «هاملت» مسافرا قد عاد إليه من العالم الآخر، ولم يكن المسافر العائد إلا أباه. كان هاملت قد رأى منذ قليل شبح أبيه أمام عينيه، وأخذ الشبح يقص عليه من الأنباء ما تشيب له النواصي وتنخلع له القلوب. فواضح - إذن - أن الصفة التي جعلتنا نحكم على العبارة بالجودة وقوة التعبير - أعني صفة الصدق في التصوير - قد ارتفعت عنها في موضعها من الرواية؛ فإن كانت لا تزال جيدة قوية في سياقها، فلسبب آخر غير صدقها. وهنا نتساءل: ولماذا وصف هاملت العالم الآخر وصفا كاذبا بالنسبة إليه؟ إن تجربته القريبة القوية قد دلت على عكس ما يقول؛ إذ آب إليه من حدود العالم المجهول مسافر هو أبوه، ولا نكاد نبدأ البحث عن علة هذا حتى ينفتح لنا طريق نتسلل منه إلى أعماق نفسه؛ فحين أخذ هاملت يتأمل الحياة بفكره المجرد كما يتأملها الفيلسوف، طارت عنه تجربته الشخصية المحدودة المحسوسة، فهو في تأمله هذا قد بات عقلا خالصا مفصولا عن الجسد وتجاربه، وفي هذا وحده كل مأساته! إن مأساة هاملت في صميمها أنه رجل يسير بفكره المجرد في واد وبجسمه وحواسه وتجاربه في واد آخر، هو رجل لا يبني تفكيره على تجاربه؛ ومن هنا كانت متاعبه، رجل يعرف كيف يتأمل ولا يعرف كيف يعمل؛ لأن التأمل من خصائص العقل وهو على عقله مسيطر، وأما العمل فمن صفات الجسم وليس له على جسمه من سلطان؛ وإذن فقد ظهر للعبارة جمال آخر وروعة أخرى، إنها ليست عظيمة في سياقها من الرواية لمجرد أنها تقول الصدق، بل لأنها عند التحليل مفتاح لشخصية هاملت، فتفتح آفاق نفسيته وتلقي عليه الضوء، وبذلك تفسر المأساة كلها؛ هي عبارة جميلة قوية من حيث هي شعر مطلق، ثم هي أجمل وأقوى من حيث هي جزء في رواية مسرحية ينطق به شخص معين في موقف معين.
من هذا ترى أنك لا تستطيع الحكم بالجودة على قول في مسرحية إلا بمقياس المسرحية، ولا على بيت في قصيدة غنائية إلا بميزان القصيدة الغنائية وهكذا. أما الحكم على إطلاقه فعبث وضلال. وإنه ليشيع اليوم بين رجال النقد رأي بأنه لا فرق بين شعر وشعر عند الحكم والتقدير، فما نريده من شعر القصيدة الغنائية هو ما نريده من شعر المسرحية أو الملحمة، أو غير ذلك من فنون النظم؛ فالشعر إما أن يكون شعرا أو لا يكون شيئا. ويمضي رجال النقد في رأيهم، فيزعمون أن ما يجعل الشعر شعرا لا يتوقف في قليل ولا كثير على المصادفة البحتة التي جعلت هذا البيت من الشعر جزءا من قصيدة غنائية أو جزءا من مأساة. وعندنا أنه رأي بعيد عن الصواب؛ فقد رأينا في تحليل العبارة التي قالها «هاملت» أنها اكتسبت قوة وجودة وجمالا بعد إذ نظرنا إليها وهي في موضعها من المأساة، ولو جردناها عن موضعها ذاك لاحتفظت بقليل من قوتها وجودتها وجمالها. إن الرواية المسرحية تختلف عن القصيدة الغنائية بمقدار ما يختلف الأرغن عن القيثارة؛ فإن كانتا أداتين مختلفتين في طبيعتهما فبديهي أن تختلفا كذلك في قدرتيهما على التعبير. ولن نقدر قصيدة غنائية أو مسرحية حق قدرها إلا إذا عرفنا في غير لبس ماذا تستطيع القصيدة الغنائية أو المسرحية أن تؤديه، وبالقياس إلى ما تستطيعه من الوجهة النظرية يمكن الحكم على هذه القصيدة المعينة أو المسرحية المعينة، بأن نرى كم جرت من شوطها المفروض. ولكن أنى لنا أن نعلم لكل نوع مداه؟
كنا في الفصل الأول قد آثرنا في تعريف الشعر طريقا مأمونا من الخطل والزلل بعيدا عن العمق والغموض، فقلنا إن الشعر هو ما يصنعه الشاعر. وذلك هو ما نعنيه إن قلنا بعبارة أخرى إن الشعر فن. ولكن كلمة «الفن» قد اضطربت معانيها في استعمالاتها الحديثة فغشيها بعض الغموض؛ فقد تفهم الفن على أنه وجه آخر من المعرفة غير «العلم» وإنه لكذلك، ولكن وجه الخطأ في هذا الفهم أن تضع هذين الضدين في غير موضعهما الصحيح، فقد تتوهم أن «العلم» أشد ارتباطا بالحياة العلمية النافعة من «الفن». فالعالم هو عند أهل العصر ما يبحث في المعرفة النافعة، فيخترع للصناعة آلاتها وللحرب أدواتها، وللحياة اليومية ما يزيدها رغدا وبهجة وجمالا. أما «الفنون» فتشمل صنوفا من الدراسة لا خير فيها، وتشغل وقتها وتنفق جهدها في كتب عتيقة أكل عليها الدهر، تعالج علما قديما بلغة ماتت ومات أصحابها. ذلك ما يتوهمه أهل هذا العصر من العلم والفن، وإنه لقلب للوضع الصحيح. فإن أردنا الدقة ألفينا «العلم»، بعيدا كل البعد عن الحياة العملية؛ إذ العلم لا ينظر إلى المعرفة من وجهها النافع المفيد، فهو لا يعنيه إلا المشكلات المجردة والمبادئ العامة، العلم فكر مجرد يقوم به العالم، بغض النظر هل يفيد في نهاية الأمر أو لا يفيد. وأما «الفنون» فهي في حقيقة أمرها، ليست فروعا من المعرفة، بل هي الطرائق العملية لصناعة الأشياء وأدائها، والمواد الدراسية التي يطلق عليها اليوم في الجامعات اسم «الفنون»، كاللغة اللاتينية والتاريخ والأدب الإنجليزي وما إليها «فنون»؛ لأنها جميعا تعمل على التوسيع من «فن» الحياة، فهي تهيئ للإنسان أدوات تعينه على أن يعيش حياته على صورة أكمل وأوفى. الفن - إذا - في حقيقة معناه صناعة وعمل وطريقة أداء. وأصدق ما أسوقه لك من مثال، يوضح كيف يخلط الناس اليوم بين «العلم» و«الفن»، خلطا يضع كلا منهما مكان الآخر، هو ما يفهمه الرجل من أوساط الناس من معنى «مدرسة الفنون». فعنده أن هذه مدرسة تعد التلاميذ لصناعة الأشياء المختلفة، كالتصوير والتطريز وتركيب الآلات وإصلاحها وغير ذلك، وهو مصيب في فهمه، لكن خطأه يبدأ حين يظن أن هذه الأمور هي من أبواب «العلم»، مع أنها «فنون» خالصة ليس لها من «العلم» الخالص البحت كثير ولا قليل. «مدرسة الفنون» في حقيقة أمرها تطبق العلوم على صناعات مختلفة، أي أنها تعلم «الفنون» التي تتصل بفروع العلم الخالص. فالصباغة - مثلا - فن وصناعة، لكنها تعتمد على فرع من فروع العلم البحت، هو كيمياء الألوان.
إذا فصورة تصورها وقطعة من القماش تصبغها، تجعلانك من أصحاب الفنون لا من رجال العلوم. لكننا نعود فنفرق بين هذين الفنين، فتصوير الصورة فن، وصبغ القماش فن، لكن الأول من عمل «الفنان» والثاني من صنائع «الصانع». فلئن كان «الفنان» و«الصانع» كلاهما من رجال الفنون، إلا أن أولهما معني «بالفنون الجميلة»، وثانيهما معني «بالفنون المفيدة». فصانع القصائد وصانع الصور، وصانع التماثيل وصانع الموسيقى، فنانون يعالجون «فنا جميلا»، وصانع الأحذية وصانع الإطارات للصور، وصانع المناضد وصانع القيثار، فنانون يعالجون «فنا مفيدا». فما الفرق بين الفن الجميل والفن المفيد؟
قيمة ما يصنعه الصانع مرهونة بفائدة ما يصنع، فغاية الحذاء أن يصنع شيئا ننتفع به نفعا معينا، نعم قد نحب لحذائنا أن يكون جميلا، لكننا قبل جماله نتطلب أن يكون وقاية لأقدامنا، فلا بد للحذاء أن يكون على شكل القدم، وألا تكون به خروق تدخل الماء، وأن يكون ذا جلد قوي يقاوم صلب الأديم فيحمينا من أذاه، وبعبارة أخرى لا بد لإنتاج الحذاء أن يكون في شكله وبنائه وصفاته، متمشيا مع الظروف المفروضة عليه، فهو في صناعته يرضي عوامل خارجة عنه، ليس له عليها نفوذ وسلطان، عليه أن يستخدم مادة معينة - هي الجلد عادة - لأن للجلد من الخصائص والصفات ما يجعله نافعا أكبر النفع فيما نريده له، ثم عليه أن يشكل الجلد ويصوغه على نحو فرض عليه فرضا؛ إذ لا بد له أن يخرج الحذاء على صورة معلومة. نعم في وسعه أن يستغل ما لبعض صنوف الجلد من صفات، فيؤثر اللامع منها على القاتم؛ لكي يكسب صناعته جمالا، لكن الجمال في الحذاء له المرتبة الثانية، ولفائدته المكان الأول، والحذاء الماهر هو الذي يصنع لنا أحذية تنفع وتفيد، لا من يقصر عنايته على جمال المظهر.
قابل هذه القيود التي تكبل الصانع في صناعته، بالحرية التي ينعم بها الفنان في أدائه لفنه، فليس على المصور قيد تفرضه الظروف، فلا عليه أن يضع الألوان والأصباغ على نحو معين لتكون مفيدة نافعة. أمام المصور ألوان، لكل منها قدرة على التمثيل والتعبير، وكل نبوغه أن يدرك على أي نحو توضع الألوان، فتبلغ حدها الأقصى في التمثيل والتعبير. وإذا فإنتاجه الفني - أي الصورة - لا يخضع لشروط تأتيه من خارج، وإنما يخضع للخصائص الكامنة في طبائع الألوان ذاتها، باعتبارها أدوات تعبر. خذ مثلا آخر: أعط مادة الصوت لصاحب مصنع ولرجل موسيقى، يسارع صاحب المصنع إلى تشكيل نبرة الصوت بحيث تنفعه، فتوقظ له من العمال من تأخذهم سنة من النوم، وهو إذ يعد الصفارة التي تصفر للقوم، إنما يخضع لعوامل خارجة عن نفسه، فلا بد أن يسمع آذانا غافلة، لا تريد أن تسمع، فهو لا يشكل الصفارة لتعجب بصوتها بل لتنفع وتفيد. أما الموسيقي فمطلق السراح من هذه القيود، وهو يخرج الصوت على نحو لا يقيده ولا يحدده إلا قدرة الصوت نفسه على حسن التعبير وقوته. وهاك مثلا ثالثا: أعط قطعة من المرمر لبناء، ومثلها لفنان يصنع التماثيل، فأما البناء فيصوغها بحيث تنفع في بناء ما يبنيه، وهو في صناعته يضع نصب عينه الظروف الخارجية، فيسوي قطعة المرمر مستطيلة أو مربعة أو مكورة، وفقا لما تمليه تلك الظروف. أما المثال فينحت قطعته تمثالا، ولا يحدده في نحت تمثاله ما يتطلبه العالم الخارجي، وإنما يستوحي شيئا واحدا فقط، وهو القدرة الكامنة في المرمر على التعبير عما يريد أن يبثه فيه من معنى، فيشكله في وضع يؤدي ذلك المعنى خير الأداء.
ونسوق مثلا رابعا وأخيرا يوضح الفرق بين الفنون الجميلة والفنون المفيدة توضيحا جليا، ويهيئ لنا في الوقت نفسه علامة لا تخطئ، في تمييز ما أنتجه الفن الجميل وما أخرجته الصناعة، وإنما قصدت فن الحياة، والحياة فن من الفنون، ما دامت طريقة تصرف وسلوك وأسلوب عيش. فهل الحياة فن جميل أو فن مفيد؟ لكي نجيب لا بد لنا من نظرة نلقيها على النتاج الفني نفسه، على الثمرة التي أخرجها الفن، على رجل ونوع حياته، لنرى هل كانت حياته تلك فنا جميلا أو مفيدا، ثم لكي نجيب لا بد لنا أن نسأل: هل هذا الرجل كما هو الآن، قد جاء نتيجة لظروف وعوامل خارجة عن نفسه، أم هو نتيجة لعوامل كامنة في مادته الخامة التي منها نشأ وتكون، ومادته الخامة هي الطفل الذي كانه، فلو كانت الحياة فنا جميلا، لاقتضى ذلك أن يكون الرجل - وقد نما واكتمل - قد برزت فيه كل خصائص الطفل الكامنة فيه، بروزا بلغ بها أقصى ما تستطيعه من قوة ونضج، دون أن يحول في سبيل نموها حائل ليس منها. لكن ما هكذا يتم تكوين الرجال، فملكات الطفل وقواه لا تنطلق في طريقها إلى النمو، بغير أن تعرقل سيرها وتعوق نموها ألوف العوامل الخارجية؛ فهذه ضرورات اقتصادية، وهذه تقاليد اجتماعية، وتلك عادات أهله وذويه، بل هذه ضرورة العيش قد ألزمته أن يسلك في كسب قوته سبيلا، قد يكون بينها وبين استعداده الفطري شقة بعيدة؛ فقد ينعرج طريق الحياة باليافع إلى مصنع، ينفق فيه بياض نهاره ضاربا بالمطرقة فوق السندان، أو إلى مكتب ما ينفك فيه مطقطقا بالآلة الكاتبة فوق القرطاس، أو إلى الجامعة يطيل الدراسة النظرية بالاستماع آنا، وبالقراءة والبحث آنا آخر. وربما كان حامل المطرقة أولى بالجامعة، والطالب الجامعي أنسب للمطرقة، لكنها ظروف العيش تضع رجلا هنا ورجلا هناك، بغض النظر عن المواهب والملكات، فليس الرجل - إذا - طفلا نما فنمت ملكاته معه إلى حدها الأقصى، لقد شكلته ظروف خارجة عن نفسه، قاهرة ملزمة، أكثر مما سيرته ملكاته وقواه التي غرسها الله في فطرته. ليست الحياة - وا أسفاه - فنا جميلا، ولكنها فن نافع مفيد .
ليس الرجل الذي صنعته الظروف آية يتجلى فيها الفن الجميل؛ لأنه لا يحقق معنى «الرجولة» تحقيقا كاملا، فقد حالت دون نمو «الرجولة» فيه عوامل، قطعت ذلك النمو الطبيعي قطعا، أو أجرته في طريق ملتو، لا يتفق مع الاستعداد الموهوب والقوة الفطرية، عوامل خارجة عنه لا تمت إلى «رجولته» بسبب من الأسباب. ويسوقنا هذا المثل الذي ضربناه، إلى تدبر الفن الجميل من ناحية أخرى، فلقد كثر الحديث بين رجال النقد، عن الصلة التي تربط الطبيعة بالفن الجميل. ونحب أن نقرر في جلاء أن الآية، مما ينتجه الفن الجميل، تختلف اختلافا جذريا بينا عن الشيء إذا كونته الطبيعة وأنتجته. خذ بذرتين من بذور الورد، واغرس إحداهما في العراء، فإذا ما ازدهرت ورودها، فاتركها للرياح تلفحها، للأمطار تصفعها، ولحرارة الشمس تذويها، ولآفات النبات تقضي عليها، يكن لك بذلك عمل من أعمال الطبيعة. واغرس الأخرى في مكان تحوطه الرعاية، بحيث لا تنال من زهراتها العوامل الخارجية، يكن لك من وردها شيء، هو بعمل الفن الجميل أشبه؛ إذ يعبر عما كان كامنا في البذرة من صفات الورد، تعبيرا تاما كاملا، وإنما تخيرت هذا المثل عامدا؛ لأنني أعلم أن كثرتنا الغالبة، تستمد متعة فنية من شجرة الورد الأولى، بما يلفحها من ريح وما يصفعها من مطر، وما يذويها من حرارة الشمس، وما يقضي عليها من آفات النبات، أكثر مما تستمده من الشجرة الثانية، بكل ما يحوطها من عناية ورعاية، وكل ما ظفرت به في النهاية من نمو واكتمال؛ لكنني أعلم إلى جانب ذلك أن المتعة الفنية، التي تستمدها من الشجرة الأولى، ليس مصدرها «وردية» الشجرة، بل أساسها أننا نحب أن نرى الورد والريح والمطر، تفعل فعلها في آن معا، وقد وجدنا بغيتنا في شجرة غرست في العراء، تحيط بها عوامل الطبيعة المنشودة. وإذا فهي شجرة تعبر، بما انتهت إليه، عن مجموعة من القوى مجتمعة: قوة الريح والمطر والورد. أما الشجرة الثانية ففيها فن «الوردية» قد نما واكتمل، وإن ما صنعه فيها النباتي، هو بعينه ما يصنعه كل فنان في مادة فنه؛ فقد حررها من كل القيود والعوامل الخارجية القاهرة، ولم يبق إلا على العوامل الفطرية الكامنة في جبلتها، تنميها كما أراد لها الله أن تنمو شجرة ورد فقط، لا شجرة ورد أضيفت إليها العوامل والمؤثرات. وخير قصيدة من الشعر، هي ما أبرزت أكثر ما يمكن إبرازه، من الشعور من المادة التي منها صنعت، وقد صنعت من ألفاظ، فخير قصيدة هي ما حققت خصائص الألفاظ الكامنة فيها تحقيقا يبلغ الغاية القصوى، أو بعبارة أخرى هي ما أخرجت من الألفاظ قدرتها على التعبير إلى أبعد الحدود. أما قصيدة لا تستخدم فيها الألفاظ، للتعبير إلى أبعد ما يمكن للألفاظ أن تستخدم وتستغل، فهي قصيدة رديئة، أو قل إنها ليست من الشعر في شيء. والواقع أن عددا قليلا جدا من القصائد، هو الذي تستطيع أن تقول عنه إن القصيدة منه شعر كلها من الفاتحة إلى الختام، وأما الكثرة الساحقة مما نعده شعرا جيدا، فلا تكون القصيدة شعرا صادقا إلا في بعض أجزائها، وتلك الأجزاء هي التي يبلغ فيها التعبير حد الكمال، فليس الشعراء شعراء في كل ما يكتبون، فهذا وردزورث مثلا - وهو من فحول الشعر - لا ينازع في صدق شاعريته وقوة عبقريته ناقد واحد، ومع ذلك تراه في بعض ما يكتب بعيدا عن الكمال. لقد اخترنا له في الفصل الأول قصيدة «الحاصدة المنفردة»، نموذجا جيدا من شعره، وتناولناها بالتحليل، فأسقطنا منها المقطوعة الأخيرة؛ لأنها لم تساير زميلاتها قوة وجودة. إن وردزورث في بعض ما ينشئ يقف موقف المعلم المرشد الواعظ، فيبطل أن يكون شاعرا، فخير ما يكون الشاعر معلما حين لا يحاول أبدا أن يعلم. نحن لا ننكر أن يكون للشاعر حكمة يعلمنا إياها، بل إن الشاعر أحق الناس بجمع الحكمة؛ لأن رجلا أرهفت حواسه، بحيث استمتع من تجارب الحياة، بعدد أكبر مما استمتع به سواه، تكون حكمة الحياة أقرب إلى أطراف بنانه منها إلى غيره، لكن تحصيل الحكمة وإنشاد الشعر عملان مختلفان، وما أكثر ما يسهو عن هذه الحقيقة شعراؤنا، كأنما هم يجهلون أن محاولة أي من العملين يفسد الآخر؛ فإن كنت حكيما فلست بشاعر، وإن كنت شاعرا فلست بحكيم في شعرك.
1
وليس تعليل ذلك علينا ببعيد، فالشعر من شأنه أن يرفع نفوسنا عن تجربة الحياة العادية المألوفة إلى مستوى أرفع وأعلى. من شأن الشعر أن يخدعنا عن أنفسنا، فينسينا لحظة ما يحيط بحواسنا من واقع، ليجول بنا في محيط أسمى من حياتنا، فإن سها الشاعر وحشر حكمة - والحكمة قانون الحياة التي نحياها؛ إذ تركز تجربة هذه الحياة في جوهرة لامعة - أقول إن سها الشاعر وحشر حكمة في هذا المجال الخيالي السامي، كان بمثابة من يخرج إلينا من وراء الستار، ونحن ننظر في دهشة وإعجاب، إلى بعض المناظر العجيبة على المسرح، فيدلنا على سر الحيلة التي أحدثت كل هذه الغرابة فيما نرى، فلا يكون قوله هذا شاذا في موضعه فحسب، بل يفسد كل شعورنا، ومهما يتقن اللاعبون بعد ذلك حركاتهم، فلن نعود إلى سحرنا الأول.
ولنعد إلى موضوعنا فنستأنف فيه الحديث، لقد بلغنا بالبحث مرحلة قررنا عندها أن العمل يكون فنا جميلا لو استغل مادته الخامة، فأخرج منها قواها المعبرة إلى آخر قطرة فيها، ولكن كيف لنا أن نعرف ما في وسع هذه المادة أو تلك أن تبلغه، حتى نقول إن العمل الفني هنا قد استخدم القوة الكامنة، أو لم يستخدمها فيكون تبعا لذلك جيدا أو رديئا؟ لا أحسبنا مستطيعين ذلك إلا إن كنا من رجال الفن، فعبقرية الفنان هي التي تهديه إلى ما في مادته، من قوة تعبيرية في وسعه استغلالها وإخراجها، فالشاعر - مثلا - يرى في الألفاظ معنى أغزر وقوة تعبيرية أكبر مما يراها فيها سواه، لكننا قد نوفق إلى سبيل تؤدي بنا إلى حيث نريد، لو اقتفينا أثر رجال الفن، الذين يستخدمون المادة التي نحن بصدد الحكم عليها، لنرى ماذا يصنعون لإدراك ما في مادتهم من قوة كامنة. السبيل المؤدية بنا إلى ما نريد، هي أن نستعرض بعض روائع الفن، التي أراد بها أصحابها أن يستخرجوا معنى بعينه من مادة بعينها، بالتصرف فيها على هذا النحو أو ذاك، بهذا نستطيع أن نصل إلى مبادئ عامة، تكون لنا بمثابة القوانين الثابتة التي تصلح مقياسا للحكم، على شرط ألا نركب رءوسنا فنظن بهذه القوانين صدقا لا يقبل ريبة ولا شكا؛ لأننا - على أحسن الفروض - ننتزع هذه القوانين مما أبدعه رجال الفن السابقون، وقد يهب الله فنانا ما لم يهبه أحدا غيره، فيستخرج من مادته ما لم يستطع سواه من السابقين أن يستخرجه.
ولنبدأ البحث بالنظر في آثار المرمر، التي خلفها جهابذة النحت في تماثيلهم، فلماذا آثر المثالون أن يصوروا بتماثيلهم الأرباب وعمالقة الأبطال والشخوص الرمزية وقادة الأمة من مشاهير الرجال؟ آثروا ذلك لأن المثال إن صنع تمثالا لهذا الفرد أو ذاك، فهو لا يريد حقا هذا أو ذاك، وإنما يرمي إلى شيء وراءهما، إن المثال إن نحت تمثالا «لأخيل» أو «نلسن»، فإنما يريد أن يخلد المرمر العنصر الخالد فيمن يصوره بتمثاله؛ يريد العنصر الذي يمتاز به بطله من سائر الناس، ويهمل سائر صفاته التي يشترك فيها مع السواد، ومن أجل هذا اختار المثالون المرمر مادة لفنهم؛ لأنه يبرز العظمة والجلال ويهمل الدقائق الصغيرة، التي ليست بذات شأن أو خطر، ومن أجل هذا ترى المثالين يخلعون على شخوصهم أردية بسيطة، تنسدل من عواتقهم إلى أوساطهم في أقواس بسيطة الانحناء قوية الأثر، فذلك عندهم أوفى بالغرض المقصود من ثياب، كلها تفصيلات وأجزاء وزخارف ونقوش؛ لأن مثل هذه الثياب المزخرفة المزركشة، المعقدة بأجزائها الكثيرة من الشئون العابرة الفانية. ونحن إنما نريد أن نبقي من بطلنا على جانبه الخالد، ونزيل عنه كل ما يعلق به من فقاقيع الحياة اليومية، التي يستوي فيها العظيم وغير العظيم. ومن ناحية أخرى فإن المرمر يلائمه أن يصور الثياب البسيطة، القوية بطياتها القليلة المستقيمة المنسدلة في فخامة وجلال، لا أن يصور المخرم الرقيق الدقيق، فإن رأيت من المثالين المحدثين من يأبى أن يلبس أبطاله الثياب البسيطة، التي جرى بها العرف بين رجال النحت خلال العصور، ويؤثر لهم أن يبدوا في حللهم العسكرية أو ثياب التشريف، فاعلم أنه لا يريد بذلك أن يظهر أبطاله في دقائق الحياة اليومية، فتلك الدقائق في ذاتها صغار لا يستحق الخلود، وإنما يرمز بتلك الحلة العسكرية أو ثياب التشريف، إلى ما في بطله من عنصر قومي أو عالمي.
ويزيد موضوعنا وضوحا موازنة نجريها بين النحت والتصوير، فلو سئلت: أيهما تحب تخليدا لذكر صديق قضى: صورة له ملونة أو تمثال نصفي، فما أحسبك إلا مفضلا صورته على التمثال، فالصورة بما تستطيعه من تباين في الظل والنور ودرجات اللون، يمكنها أن تصور صديقك كما كان في حياته، محتفظة له بكل الدقائق الصغيرة التي جعلته رجلا فردا كما عهدته وعرفته. الصورة تقدم إليك الصديق في محيط الحياة اليومية، التي ألفت أن تراه فيها فأحببته وأعززته. أما التمثال فبطبيعة مادته لا يمثل لك الصديق رجلا فردا، له سماته الشخصية وخصائصه المميزة، بل يمثل منه الجانب الذي يجعله إنسانا عاما، ينتمي إلى وطن معين، وقد يكون الجانب القومي العام الذي يبرزه التمثال أحق بالبقاء والخلود، من دقائق حياته اليومية التي جعلته فردا من الأفراد، لكنك بهذه الدقائق المألوفة، ربطت بينك وبينه أواصر الصداقة والود.
ويتبين من هذا الذي عرضناه، أن كل فن من الفنون الجميلة له مجال خاص به، تتجلى فيه قدرته وقوته على التعبير، وهي قوة مستمدة من خصائص المادة، التي يستخدمها في صنع نتاجه. وفي كل فن جميل يبلغ الإنتاج ذروة الكمال، إن تحقق فيه كل ما تنطوي عليه مادة ذلك الفن من قدرة كامنة على التعبير، فالمرمر يستطيع أن يمثل زخرفة الثياب ووشيها، لكنها عندئذ تكون مهارة صانع لا براعة فنان؛ إذ الفنان الحق يعلم ما يكمن في مادته من خير خصائصها، ويبرزه دون غيره، وخير خصائص المرمر أن يبرز البسيط الجليل.
نستطيع الآن أن نلخص المشكلة في عبارة وجيزة واضحة فنقول: إن للفن الجميل أنواعا مختلفة، من تصوير ونحت وموسيقى وشعر وما إليها، وإنما كانت هذه الأنواع صورا مختلفة للتعبير؛ لأنها تستخدم ألوانا مختلفة من المادة، تعبر بها عما تريد، وما دامت موادها قد اختلفت عنصرا، فقد اختلفت كذلك في قدرتها على التعبير. فهل نستطيع أن نصل بالتحليل إلى معرفة العلاقة بين المادة الخامة، التي هي وسيلة التعبير، وبين قدرة الفنان على استخدامها؟
سنجد جواب هذا السؤال مبسوطا في وضوح وقوة، عند شاعر ناقد ألماني، هو «لسنج» في كتابه «لاو كون»، الذي يبحث فيه وجوه الخلاف بين التصوير والشعر، في القدرة على التعبير، معللا لما يقول، ونرى لزاما علينا قبل أن نقدم إليك خلاصة رأيه، أن نحذرك من بعض الأخطاء الشائعة التي سببتها ألفاظ معينة، فأولا لا فرق بين «التعبير» و«التمثيل»، في مثل قولنا إن هذا التمثال يمثل «أخيل» أو يعبر عنه، فإن كانت الفنون الجميلة كلها وسائل تعبير، فهي كلها وسائل تمثيل لأشياء. هذا تحذير لا مناص منه في هذا الموضع، لما نشأ من خلط في التفكير عند التعليق على تعريف الفن، بأنه «محاكاة» الطبيعة، وهو تعريف قديم مرده إلى فلاسفة اليونان الأقدمين، فجاء المحدثون وأنكروا هذا التعريف في أنفة وكبرياء؛ إذ ساءهم أن تتقلص فنونهم الجميلة، وتهوي من ذروة «الخلق والإبداع» إلى حضيض «المحاكاة والتقليد»، هم يخلقون ويبتكرون ولا يحاكون أو يقلدون، لكن محاكاة الطبيعة معناها تمثيلها، وتمثيلها معناه التعبير عنها. ولا بد أن تفهم الطبيعة بأوسع معانيها، فتشمل القوى الإلهية، والطبيعة البشرية فضلا عن ظواهر الطبيعة المادية، التي كثيرا ما تفهم وحدها من اللفظ. محاكاة الطبيعة ليس معناه أن ننقل عن الطبيعة «نسخة طبق الأصل» كما يقولون، وإلا انقلب الفنان آلة تصوير تنقل ما تقع عليه عينها في أمانة ودقة، وليس معناها كذلك أن يكون العمل الفني هو الواقع حرفا بحرف، فصدق العمل الفني بهذا المعنى الحرفي علامة فشله لا دليل نجاحه، فهذا «شلي» ينشئ قصيدته المعروفة عن «القبرة»، فلا تكون آية فنية رائعة إلا لأنها لا تصور ما في الطبيعة، إن أريد بالطبيعة هنا القبرة التي تراها في الحقول أنى سرت. فإذا أردت قبرة طبيعية، فعليك بها في حقولها ودع شاعرنا وشأنه ، أما قبرة الشاعر فطائر صب عليه الشاعر سحر خياله، فتحول طائرا فيه طبيعة إلهية، ولا تقل إن «شلي» شاعر «مثالي» يحور الواقع ويسمو به عن حقيقته، وإن هنالك من الشعراء «الواقعيين» من يعنى بالطبيعة كما هي، فالتفرقة الزائفة بين «المثالي» و«الواقعي» في الفنون، هي النقطة الثانية التي أردنا أن نحذر منها، فهؤلاء الواقعيون أنفسهم قلما ينقلون في فنهم صورة طبق أصلها الطبيعي بغير زيادة أو نقصان، فهم لا يحاولون أن يصوروا الواقع تصويرا فوتوغرافيا، بكل ما فيه من دقائق وتفصيلات، إنما هم يختارون وينتقون من تلك الدقائق الكثيرة، ما يلائم الأغراض التي ينشدونها، ويهملون سائرها. وكل الفرق بين الشعراء من نوع «شلي» وغيرهم ممن قال عنهم واقعيون، أن شلي وأضرابه المثاليين يختارون من موضوعهم جانبا معينا، ويختار الواقعيون من نفس الموضوع جانبا آخر. «شلي» يؤثر السحاب وقوس قزح وأفلاك السماء وأنجمها السواطع، ويؤثر الشاعر الواقعي بيوت الفقراء والأرض والطين، وقد يكتفي بها، وقد يضيف إليها العناصر التي اختارها شلي. وعلى كل حال فالشاعران كلاهما يتفقان في أنهما يختاران من عناصر الموضوع الذي يصورانه، ما يريان أنه يصوره خير تصوير في رأي كل منهما. فكلاهما بهذا المعنى «مثالي» يهمل كثيرا من تفصيلات الواقع؛ ليركز الوصف في جانب معين يقع عليه اختياره. وإذا فإطلاقنا على هذا الشاعر اسم المثالي، وعلى ذاك اسم الواقعي فيه بعد عن الصواب، لكنها تفرقة مفيدة في التمييز بين طائفتين من الشعراء، إن لم يكن الخلاف بينهما في مثالية إحداهما وواقعية الأخرى، فهما مختلفتان في جانب الطبيعة الذي يختاره كل منهما موضوعا لفنه، فليست القصور الباذخة بأقل واقعية من الأكواخ، ومع ذلك فالفنان الذي يصور الأكواخ وساكنيها - في عرف هؤلاء القوم - واقعي، والذي يصور القصور وآهليها مثالي، وذلك بغير شك خلط في معاني الألفاظ. ومما يزيد الأمر سخرية وهزلا أن أولئك «الواقعيين» كثيرا ما يكونون أمعن إيغالا في المثالية من «المثاليين»، فترى مصور الأكواخ يتعنت في وصفه ويتزمت، فلا يأذن لشعاع واحد من أشعة الشمس ، أن يتسلل إلى ساكن الكوخ المسكين، لتجيء الصورة كما أرادها محلوكة دامسة فيها بؤس وشقاء. وأما مصور القصور فكثيرا ما يفسح صدره للعصافير، تعشش فوق سقوفها أو تزقزق على نافذة مكسورة الزجاج. وإذا فآمن طريق - فيما نرى - لاستخدام هاتين اللفظتين الخطيرتين - مثالي وواقعي - ألا ننظر إلى الموضوع المختار، بل إلى طريقة السير في الموضوع كائنا ما كان؛ فقد تكون مثاليا في وصفك للأكواخ، وقد تكون واقعيا في وصفك للقصور، فالعبرة بالطريقة لا بالموضوع. على أنه يجب أن نضع نصب أعيننا، أن الفن الجميل بكل أنواعه وضروبه - مثاليا كان أو واقعيا - ليس هو صورة صادقة للشيء، كما هو في الطبيعة بكل أجزائه ودقائقه، فتلك الأجزاء والدقائق لا سبيل إلى حصرها وحدها، إنما هو انتقاء واختيار. ومعنى ذلك أن كل عمل فني مثالي، بمعنى أنه يسير بشيئه نحو مثاله، الذي تتركز فيه صفات الشيء الذاتية الجوهرية، مهملا صفاته العرضية المتغيرة، فإن اختار الفنان صفة أو صفتين يرمز بهما لجوهر الشيء، الذي يصوره كان فنانا «مثاليا»، وإن آثر أن يختار من تفصيلات الموضوع، ما وسعه أن يختار كان فنانا «واقعيا».
ولنعد بعد هذا التحذير إلى «لسنج» وكتابه «لاو كون»؛ لنعرض رأيه في مشكلة التفرقة بين فني التصوير والشعر، في قدرتهما على التعبير. إن كل الفنون الجميلة - بما فيها التصوير والشعر- تمثل ناحية من الطبيعة، لكن في جنبات الطبيعة أنحاء كثيرة مختلفة، فماذا في الشعر مما يجعله أصلح لتصوير جانب منها دون جانب، وماذا في التصوير؟
الأشكال الملونة هي وسيلة التصوير، فأي جوانب الطبيعة يمكن تمثيلها، خير تمثيل بهذه الوسيلة من وسائل التعبير؟ فانظر إلى الأشكال الملونة: ما هي وكيف تكون في الطبيعة؟ إن المصور إذ يتناول لوحته، غايته المنشودة أن يثبت على مسطحها أشكالا ملونة جنبا إلى جنب، فالمادة التي يستخدمها المصور تتألف من أجزاء يقع بعضها إلى جانب بعض في حيز من مكان، فهذا التجاور المكاني خاصتها الطبيعية وشرطها اللازم، ودع مصورنا لحظة وجل ببصرك في جوانب الطبيعة، التي قد هم ذلك المصور أن يمثل منها جانبا، أو إن شئت فقل الطبيعة، التي هم المصور أن يختار منها موضوعا لفنه، فماذا في الطبيعة يجاور بعضه بعضا في حيز من مكان؟ هي «الأجسام» فكل ما في الطبيعة مما يتجاور في المكان نسميه «أجساما»، فلو اختار المصور أجساما يمثلها في صورته - أجساما حية أو جامدة - فقد اختار من الطبيعة موضوعا لفنه شديد الصلة بوسيلته في التعبير؛ لأن ظروف الأجسام في الطبيعة وظروف الأشكال، التي يثبتها على لوحة واحدة لا خلاف بينها، وأعني بها التجاور في المكان. خير ما تستطيع الأشكال الملونة المتجاورة على لوحة الفنان، أن تمثله من الطبيعة أشياء يجاور بعضها بعضا في المكان، ومن ثم رأيت المصور يختار الأجسام موضوعا لفنه، أو بعبارة أخرى فإن موضوع الصور الفنية كلها إما صور لأشخاص، أي صور لأجسام حية، وإما صور لمناظر من الطبيعة، أي صور لأجسام جامدة. وليس أدل على ذلك من جولة في أي متحف شئت من متاحف الفنون، فلن ترى هناك إلا صور أشخاص أو صور مناظر طبيعية، وإن صادفت بينها قليلا من الشذوذ، لا يستقيم مع القاعدة، فذلك شذوذ في الظاهر كما سنبين بعد حين.
وانظر إلى الشعر على نحو ما نظرت إلى التصوير فماذا ترى؟ انظر إلى المادة التي يتخذها الشعر وسيلة لتعبيره، وإلى الظروف التي تحيط بتلك المادة شرطا لوجودها، ولك أن تقرر بعد ذلك أي جانب من الطبيعة يقع في هذه الظروف عينها، فيكون ذلك الجانب هو موضوع الشعر، فالخامة التي يتكون منها الشعر ألفاظ، لكن الألفاظ لا تقوم في مكان كما تقوم الأجسام. نعم تقع اللفظة المكتوبة أو المطبوعة، في حيز مكاني من الصفحة التي كتبت عليها أو طبعت، لكن هذا الرمز المرقوم على الصحيفة ليس هو ما نقصده بالألفاظ؛ إذ نقول إنها أداة الشاعر. الألفاظ - كما يستخدمها الشاعر - أو كما تستخدمها أنت ويستخدمها كل إنسان للتعبير عن خواطره ومشاعره - ليس لها شيء من خصائص المكان، هي حركة عقلية ونشاط ذهني، فهي لا تملأ حيزا من مكان ، وإنما تشغل جزءا من الزمان، اللفظتان أو الألفاظ لا تتجاور في مكان، لا يقف بعضها إلى جانب بعض كالأشجار والأحجار، لكنها تتعاقب بعضها في إثر بعض في فترة من زمان، انطق بالعبارة فلن تجد لعبارتك مساحة، ولكنك ستجد لها زمنا قيلت فيه، وإذا ما نطقت بالكلمة الثانية فقد ذهبت الأولى إلى العدم، أو قل أصبحت ماضيا، ويستحيل عليهما معا أن يقفا جنبا إلى جنب كما تفعل الأجسام. وأحسبك الآن تستطيع في غير عسر، أن تحزر أي جوانب الطبيعة، يخضع لنفس الظروف التي تخضع لها الألفاظ، حتى تتخذ منه موضوعا لها، أي الأشياء في الطبيعة لا يملأ حيزا من مكان، ولكنه يستغرق فترة من الزمان؟ أي الأشياء في الطبيعة تتعاقب ولا تتجاور؟ هي «الأفعال» ولا فرق بين أن يكون الفعل حركة في جماد أو في كائن حي، لا فرق بين أن يكون الفعل لإنسان أو زهرة، لماء متدفق أو ريح عاصفة، فالشعر - إذا - بطبيعة مادته الخامة التي يتألف منها - وهي الألفاظ - أنسب ما يكون وسيلة لتصوير الأفعال، فهو في ذلك المجال أبرع وأروع ألف مرة من تصوير الأجسام. وكما أشرنا عليك بجولة في أي متحف شئت من متاحف الصور؛ لترى صدق ما زعمناه من أن روائع التصوير، إنما تمثل أجساما حية أو جامدة، فكذلك نشير عليك الآن أن تستعيد ما شئت من قصائد الشعر؛ لتعلم أن مجال الشعر تصوير الحركة والفعل.
وهنا نورد ذكر ما قد يبدو لك شذوذا، لا يطرد مع القاعدة ولا يستقيم، فكأني بك معترضا تقول: أليس من الشعر ما يصور أجساما ولا يمثل فعلا؟ فما هذا «الشعر الوصفي» إذا، إن لم يكن وصفا لمناظر من الطبيعة وقد سميتها أجساما؟ لكن هيا نمعن في النظر، أيستطيع الشاعر حقا أن يصور منظرا من مناظر الطبيعة، بالمعنى الحرفي الذي يفهم من هذه العبارة؟ إن المصور في وسعه أن ينشر لوحته، فيثبت القمر في ركن من أركانها، وقد أحاط به الغيم، ويضع تحته الأشجار، وفي ظلها يقيم دارا ويشق طريقا ويجري جدولا، حتى إذا ما فرغ كانت الصورة كلها منشورة أمام أبصارنا، قمرا وسحابا وشجرا وبيتا وطريقا وجدولا، متجاورة كلها في مكان واحد وفي لحظة واحدة. أما الشاعر فما شأنه؟ يصف القمر في البيت الأول من قصيدته، والسحاب في بيته الثاني، والأشجار في الثالث وهكذا، حتى إذا ما جاء إلى وصف الجدول في بيته الأخير، فأين ذهب القمر؟ لقد انحدر إلى غروب! لقد بات ماضيا؛ وذلك لأن الوسيلة التي يستخدمها الشاعر في تصويره - وهي الألفاظ - لا تقوم جنبا إلى جنب في مكان واحد، وفي برهة واحدة، إنما تتعاقب خلال فترة من الزمن، وهي إذ تتعاقب على هذا النحو، لا تبلغ آخرها إلا وقد ذهب عنك أولها، فبديهي أن الشاعر لا يستطيع أن ينافس المصور في تمثيل المناظر الطبيعية، ليس في وسع الشاعر أن يصور القمر مستقرا في السماء، كما يصوره زميله المصور. أما إن أراد غروبه - مثلا - فها هنا تراه يجول في ميدانه؛ لأن الغروب فعل وحركة، وليس هو بالحالة المستقرة الثابتة.
ومع ذلك كله فلسنا ننكر - ولا نريد أن ننكر - أن القصائد الوصفية جزء من الشعر؟ كلا، بل لا تكاد تجد قصيدة واحدة تخلو من الوصف في بعض أجزائها، لكنه - في الأعم الأغلب - لا يكون وصفا بمعنى التصوير، فقد يبدو لك الشاعر وكأنما يصف منظرا كالذي أسلفنا، لكنه في حقيقة الأمر لا يريد أن يمثل لك مجموعة الأجزاء كلها، متماسكة في منظر واحد، فهو في ختام قصيدته لا يرجو أن يضع أمام عينيك في آن واحد ما هنالك من قمر وشجر وجدول، هو لا يريدك على أن ترى القمر وأنت تنظر إلى الجدول، وإنما يطالبك أن تحتفظ بذكرى القمر فتعكس ضوءه على الجدول إذ ترنو إليه. ولا شك أن القمر في موقف كهذا لم يعد قمرا، لكنه ذكرى، وأما ضوءه معكوسا على صفحة الماء «ففعل» يناسب الشعر، فليس الشاعر في قصيدة كهذه يصور منظرا معينا من مناظر الطبيعة، لكنه يمثل أثر القوى الطبيعية بعضها في بعض، أو بعبارة أخرى يمثل أفعالا. قد يصف الشاعر قرية وحقولها، لكنه فيما يفعل لا ينافس المصور في عمله، وإنما يتخذ من منظر الدور والحقول بطانة، يقيم عليها ما يريد من أفعال وعواطف، مما تضطرب به حياة الناس في القرية، ما تجيش به صدورهم. والشاعر قد يصف لك نهرا وزهرا، فيخيل إليك أنه قد اختار لقصيدته موضوعا، كالذي يقع في نطاق المصور، لكنك إن أمعنت النظر، ألفيت الشاعر يصف الأجسام متحركة، فيصور النهر دافق الموج مسموع الصوت، والزهر راقصا مع الريح ناشر العطر. وتدفق الموج وانبعاث الصوت ورقص الزهر ونشر العطر «أفعال»، ويستحيل على الشاعر الحق أن يريد الأجسام لذاتها، كما هي جامدة في الطبيعة، إنه يريدها كما تستعيدها الذاكرة، ليعيد وضعها وترتيبها كما يحلو لنفسه، وهذا التشكيل الجديد لأجسام الطبيعة «فعل»، يدخل في نطاق الشعر والشاعر. يريد امرؤ القيس أن يصف جواده، فلا يصف فيه إلا حركة و«فعلا»:
مكر مفر مقبل مدبر معا
كجلمود صخر حطه السيل من عل
وحتى إن وقف عند بعض أجزاء الجسم، يصفها ويصورها فلكي تعلق بذهنك ذكراها، وتتخيلها وهو في فعله وحركته، وكذلك قد يصف الشاعر منظرا ليستثير به الذكريات، وعندئذ يكون بمثابة من بث الحركة في المنظر الجامد؛ لأن المحور الرئيسي في هذه الحالة، لا يكون الجسم الموصوف، بل حركة الخواطر والذكريات تتداعى وتتعاقب في ذهن الرائي.
من ذلك كله ترى أن «الفعل» هو خير مجال، تتجلى فيه قدرة الشعر على التعبير، فإن حاول وصف الأجسام لذاتها قصر دون التصوير، كما يقصر التصوير دون الشعر، إن حاول تمثيل «الفعل». خذ - مثلا - صورة تاريخية تحاول أن تمثل فعلا وقع، فماذا ترى؟ تراها لا تصور - ولا تستطيع أن تصور - الفعل في ذاته وهو يجري، وكل ما في وسعها أن تفعله، هو أن تصور الفعل منظرا، أعني أنها تصور الفعل وقد تم أداؤه، أو على وشك أن يقع، تصور قدم الجواد مرفوعة؛ لتعلم أنه يوشك على الوثوب، أو ذراع الجندي منشورة والسهم في قبضتها؛ لتري أنه قد هم بقذفه وهكذا . أما الوثوب نفسه والقذف نفسه وما إليهما، فأفعال يستحيل تصويرها وإن أمكن أن يوحى بوقوعها.
تلك خلاصة لما يقوله الشاعر الناقد الألماني «لسنج»، في كتابه العظيم «لاو كون» وهو بغير شك مما يعيننا على تفهم الفنون، فالفنون الجميلة كلها وسائل للتمثيل والتصوير، وهي تكون في كمالها، إن تشابهت وسيلة التمثيل والشيء الممثل، أي إذا كان الشيء ووسيلة تصويره في ظروف متماثلة متشابهة، ومن ثم كان لكل فن مجال خاص به بحكم خامته، وإنما يبلغ كل فن درجة كماله الفني، إذا ما أحسن القيام بمهمته. وها نحن أولاء قد عرفنا أن مهمة الشعر ومجاله، تصوير «الفعل» وتمثيله، وبقي لنا أن نعرف أي ضرب من ضروب الفعل يناسب القصة، وأيها يلائم الرواية المسرحية، وفي محاولتنا أن نعرف ذلك سنصادف الموازين، التي نرجح بها قصة على قصة، ونؤثر بها مسرحية على أخرى.
الفصل الرابع
القصة
القصة أشيع ما يعرفه عصرنا هذا من صور الأدب، لا يدنو منها في شيوعها بين الناس صورة أخرى، فتكاد لا تجد من لا يقرأ القصص، ولكل قارئ ما يؤثره مما قرأ. ولما كانت القصة بطبيعتها مجالا خصبا لبذر الآراء والمذاهب؛ رأيت كتابها يبثون في قصصهم ما يريدون من مبادئ الاقتصاد والاجتماع والدين. وقد يحب الكاتب أن يتخذ من قصته أداة للتحليل النفسي، الذي ربما ذهب فيه إلى أبعد الآماد عمقا واتساعا، فلا عجب إن رأينا الكثرة الغالبة من القراء، لا تقوم القصة إلا بما تحمل لها من تلك الآراء والمذاهب، فلا تزنها بمقياس الفن الخالص، ولا تقدرها على أساس القواعد الفنية للقصة، بغض النظر عما تحمل في طيها من مذهب أو رأي أو تحليل، ولا غرابة كذلك إن رأينا أديبا عظيما مثل «ولز» - بعد أن كان يعنى بفن القصة أولا وبالمذهب الفكري بعد ذلك - أصبح اليوم لا يكتب القصة إلا ليبث فيها رأيا أو مذهبا، يريد له الذيوع بين الناس. ومن الجائز أن يكون ذلك أجدى على قرائه وأنفع، لكنا إن جزيناه على ما فعل من حسن الصنيع ، فإنما نجزيه مفكرا اجتماعيا لا كاتبا قصصيا؛ لأنه بقصصه التي ينشرها اليوم، قد جاوز ما نعرفه للقصة الفنية من حدود وأوضاع. وكأني بك تسأل الآن: وما هذه الأوضاع وما تلك الحدود التي تشترط في القصة الفنية؟ كيف نحكم لقصة دون أخرى بالجودة والإتقان، أو بعبارة أقصر وأوضح: ما هي القصة؟ ذلك هو ما نحاول الإجابة عنه في هذا الفصل.
القصة ضرب من ضروب الشعر، مثلها في ذلك مثل المسرحية والملحمة والقصيدة الغنائية. ولعلك لم تنس بعد ما زعمناه لك في أول الكتاب، من أن الشعر يتناول كل ضروب القول، الذي أريد به أن يمتع لا أن يفيد. وقد رأيت فيما سلف أن ضروب الشعر كلها تمثل «الفعل»، أصدق تمثيل وأحسنه؛ لأنها تستخدم الألفاظ وسيلة وأداة، فموضوع الشعر بكافة ألوانه هو تصوير «الأفعال». وإذا فالقصة كسائر زميلاتها من فنون الشعر، خلقت لتصوير هذه الأفعال، لكنها لم تخلق لتصويرها بكل صنوفها، وما كان لها أن تطمع في هذا؛ لأنها فن واحد من فنون الشعر، فيجمل بها أن تقصر نفسها على لون واحد من ألوان الحركة والنشاط؛ لتترك لسائر الزميلات سائر الألوان، فأي جوانب «الفعل» هو للكاتب القصصي ميدانه وحلبته؟ أي جوانب «الفعل» يتهيأ فيه للكاتب القصصي أن يجول مما لا يستطيعه أصحاب الفنون الشعرية الأخرى؟
لقد قابلنا بين الشعر والتصوير في فصل سابق، فأتاحت لنا المقابلة منفذا يدنينا من مثل هذا المطلب. فلنبدأ البحث في الوسيلة التي يستخدمها القصصي في تصوير ما يصوره، أو بعبارة أخرى: في الخامة التي يعالجها الكاتب القصصي؛ لنرى ماذا في وسع هذه الوسيلة، أو هذه الخامة، أن تصنعه في تصوير ما يراد لها أن تصوره. أول ما يرد على الخاطر هو أن وسيلة القصصي أو خامته، هي الألفاظ، لكن الألفاظ أداة يشاركه فيها أصحاب الفنون الشعرية على اختلافها، ومن ثم اشتركوا جميعا في مهمة واحدة هي تصوير «الأفعال». وإنما سبيلنا الآن أن نرى وجوه الخلاف، التي تميز أداة القصصي من أدوات فنون الشعر الأخرى. فالملحمة والقصيدة الغنائية - مثلا - تتخذ الألفاظ الموزونة أداة لها، أما القصة فتستخدم الألفاظ منثورة. إذا فوضع الألفاظ في سياق النثر من الخصائص المميزة لمادة القصصي. فلننظر الآن في قدرة النثر على التعبير والتصوير، بالقياس إلى الكلام المنظوم. لكن ذلك جانب واحد من جوانب الموضوع، فليست القصة وحدها دون سائر فنون الشعر، هي التي تستخدم النثر أداة لها، فالمسرحية - مثلا - تستخدم الأداة نفسها، وإذا فلا بد لنا أن نعود فنميز القصة من ضروب الكتابة النثرية، وقد يكون هذا مطلبا عسيرا يشق علينا بحثه في استقصاء وشمول، فحسبنا أن نشير إلى الخصائص البارزة التي تفصل فنون الأدب النثري بعضها عن بعض. فإن أردنا موازنة القصة والمسرحية النثرية من حيث الخامة التي يتألف منها كل منهما، فلن نخطئ بينهما فارقا واضحا هو الطول؛ فللقصة أن تطول كما تشاء، لها أن تبلغ ستة عشر جزءا، كما كان مألوفا في قصة القرن السابع عشر، ولها أن تكون أربعة أجزاء كما أرادت قصة القرن الثامن عشر، ولها أن تقتصر على ثلاثة كما شاءت قصة القرن التاسع عشر، ثم لها أن تكتفي بجزء واحد كشأنها اليوم. ولكنها حين تكتفي بجزء واحد فهي - برغم ذلك - أطول جدا من المسرحية التي يقتضيها زمن تمثيلها - وهو ساعتان أو ثلاث - ألا تطول إلا بمقدار ما يسعه ذلك الزمن القصير.
فمن حقنا - إذا - أن نتخذ هاتين الصفتين طابعين يميزان القصة، وليس هو بالتمييز الدقيق الجامع المانع، لكنه تمييز يعين على التفرقة بينها وبين سائر فنون القول على كل حال. فالمادة الخامة أو الأداة التي يستخدمها القصصي في التصوير هي النثر، ولهذا النثر أن يطول به النفس إلى غير حد معلوم، فعلى أي نحو تستعين القصة بهاتين الصفتين على أداء واجبها؟ أو بعبارة أخرى: أي ضرب من ضروب الفعل يمكن تصويره أحسن ما يكون التصوير بهذه الأداة التي يصطنعها القصصي في فنه؟ أي موضوع هو للكاتب القصصي خير مجال؟
لنبدأ جوابنا بالحديث في النثر. فبماذا يتميز النثر عن الشعر في القدرة على التعبير؟ لقد قدمنا لك - فيما سلف من فصول - بعض الجوانب عن هذا السؤال، حين تناولنا بالبحث وزن الشعر وأدب المقالة، فحسبنا الآن في موضوعنا كلمة أو كلمتان. إننا نحس الرغبة في قول الشعر عندما تنزع نفوسنا إلى التسامي، فإذا ما أردنا - مثلا - أن نطرح عن أنفسنا أعباء العيش الدنيوي، بكل ما فيه من كلل وملال، لنصعد بأرواحنا إلى ذرى التعبد ونشوة المثول بين يدي الله، تغنينا بالترانيم الدينية شعرا، فالشعر بإيقاعه الجميل يكون لنا بمثابة الأجنحة، تخفق خفقات متتابعة فتعلو بأرواحنا وعقولنا إلى أجواز السماء، ومن هنا كان النغم الجميل في جرس القرآن الكريم، وكانت الحكمة في أن يرتل في القراءة ترتيلا منغوما. وإذا ما امتلأت نفس العاشق بحرارة الحب، تراه ينفجر في غزل منظوم يتغنى به، فيشعره الغناء المنغم الموزون أنه قد سما إلى أوج لا يسمو إليه في مجرى عيشه المألوف. وقد تكون العلة الحقيقية فيما للشعر على نفوسنا من أثر يصعد بها، أو يشعرها بالصعود، شيئا في فطرتنا يجعل النفس تستجيب للوزن والإيقاع، فليس من شك في أننا نفتن بسحر النغم في الشعر فتنة تخدعنا عن أنفسنا فنقبل كل ما يسوقه إلينا الشعر من أفكار وصور وعواطف ومشاعر، فمهما يكن ما يقدمه إلينا الشعر، يصادف منا عقولا وعيونا وشعورا مذعنة، مستسلمة متعاونة كلها على استيعابه وقبوله، فمعظم بحور الشعر - كما قدمنا - لها القدرة على هذه الفتنة وهذا السحر، الذي تستجيب له نفوسنا على النحو الذي ذكرنا، فضلا عن أنها، بفعل ذلك السحر، تزيد من ضخامة ما يحمل الشعر من معان. فانظر مثلا إلى «ملتن» في شعره المرسل، تجده يستخدمه في تفخيم معانيه وتضخيمها، بمثل ما يستخدم المثال مادة المرمر، ليعلو بفكرته التي يصبها في تمثاله، ولو نحت التمثال نفسه في مادة غير المرمر، لهبطت قيمة الفكرة الممثلة فيه وقل وزنها. فهكذا تجد الفكرة المألوفة قد ارتفعت درجات في شعر «ملتن»، ولو كتبت نثرا لما كانت شيئا.
وقل ما شئت في تعليل ما للشعر من أثر في النفوس، فالنتائج التي نقررها واضحة ، لا لبس فيها ولا غموض. الشعر صوت ينطق بما هو خارق للمألوف، وبما هو أسمى من مجرى الحياة المعهود، وبالإحساس النادر الذي لا يلم بالإنسان إلا قبسات متباعدة، فهو على الجملة يتحرك في مجال أعلى من مجال الحياة الواقعة. أما النثر فهو - على نقيض ذلك - أداة تعبر عن الحياة الجارية المألوفة الشائعة، التي لا غرابة فيها ولا شذوذ ولا سمو، فترانا نباشر أعمالنا بالنثر، ونطلب إفطارنا بالنثر، وننجز سائر شئون العيش بالنثر، ففي مقدور النثر أن يعبر عن كل هذه الأشياء، تعبيرا أدق وأوفى مما يستطيع الشعر. وإذا فطبيعة النثر من ناحية، وما جرت به العادة ألوف السنين من ناحية أخرى، جعلت هذا النوع من التعبير، مرتبطا في أذهاننا بما هو عادي واقعي مألوف.
من هنا كان النثر أداة ملائمة للتعبير عن حوادث الحياة اليومية، التي تجري على المألوف ولا تكون عظيمة المغزى. ولما كانت القصة حكاية تروي بالنثر وجها من أوجه النشاط والحركة في حياة الإنسان، فخير لها إذا أن تقص قصة عادية عن الإنسان العادي الحقيقي، كما تجري حياته في عالم الواقع المتكرر كل يوم. أما الحكاية التي تساق شعرا، فموسومة بالمواقف الخارقة والتطلع إلى المثل الأعلى والخيال الجامح. فالملحمة - مثلا - قصيدة من الشعر القصصي، تروى عن أحداث فوق ما يألفه البشر، يؤديها رجال عتاة جبابرة، من طراز أسمى من مستوى البشر. الحكاية التي تروي شعرا - كهذه التي أنشأها «سكت» و«بيرن» في الأدب الإنجليزي - تحكي حوادث غريبة تتم في جو خيالي على أيدي رجال خوارق، فإن رأيت حكاية منظومة تبدو للوهلة الأولى، أنها تعالج أحداثا عادية في جو مألوف، فاعلم على الفور أن الشاعر إنما يريد بها، غاية غير التي بدرت في القراءة الأولى.
الحكاية النثرية المثلى - أي القصة الجديدة - هي التي تستغل كل ما للنثر من قدرة على التعبير، وقد علمت أن النثر من شأنه أن يعالج الواقعي المألوف، وإذا فروعة القصة وبراعتها أن تروي حكاية الحوادث المألوفة الواقعية الجارية. وكأنى بك تعترض على هذا القول محتجا بطائفة من أروع القصص، فهذه «رحلات جلفر» وتلك «روبنسن كروزو» وأشباههما كثيرة لا تقع تحت الحصر، لا تصور الحياة كما نراها في البيت والشارع، وهل نرى في البيت والشارع أقزاما في طول الأصابع وعمالقة في ارتفاع العمائر العالية؟ فهي بغير شك تنقلنا من عالمنا الواقعي إلى بلاد لا عهد لنا بها؛ لتقص علينا هناك أغرب الأنباء وأعجب الحوادث. ولكن رويدك لا تتعجل الحكم، فنظرة منك فاحصة، ستؤدي بك إلى نتيجة غير التي ظننت، وتردك إلى ما زعمناه لك من خصائص القصة الفنية الأصيلة البارعة. فالكاتب في أمثال هذه القصص التي ذكرنا، ينبئك بالحوادث الشاذة في بلاد غريبة، فلا الحوادث مألوفة، ولا البلاد لك بمثلها عهد، ولكن غايته التي يضعها نصب عينيه، هي أن ينسيك شذوذ الحوادث وغرابة الرحلات. فسوفت يحاول جاهدا موفقا في «رحلات جلفر» أن يخدعك عن نفسك، بحيث لا تأخذك ريبة في صحة الحوادث التي يرويها، إذ يخلع ثوبا من الواقعية على «ليلبيت» أرض الأقزام، و«بروبد نجناج» أرض العمالقة، ويروي لك «روبنسن كروز» قصته في يوميات ليوهمك أن الحوادث التي يسجلها، هي ما حدثت بالفعل في عالم الواقع المشهود، فتراه كلما اعترضه موقف طارئ، عالجه بنفس الأدوات والوسائل، التي يعالج بها الناس مشكلاتهم في حياتهم اليومية؛ هكذا يفعل في طهيه للطعام وإعداده للثياب، وسائر ما تتطلبه ضرورات الحياة. اقرأ القصة وأمعن النظر في شخصية «روبنسن»، تجده رجلا يصح أن يكون واحدا من جيرتك، فلا إسراف فيه ولا شذوذ ولا إفراط في الخيال، ولن تلمس فيه تلك العواطف المحتدمة العنيفة المستهترة، التي تراها في أبطال شاعر مثل «بيرن»، إنه رجل بسيط متمسك بالتقاليد، يعيش حياته كما تعيش أنت حياتك وكما أعيش حياتي. انظر مثلا إلى جموده فيما يتصل بعقائد الدين وقواعد الأخلاق، إنه لا تشوبه شائبة من الإغراق والشطط والجموح، التي نعهدها في المغامرين كما يصورهم الشعراء الخياليون، فقد أراد «دفو» أن يصبه في هذه الصورة، ليمثل أمام عيني القارئ رجلا من الطبقة الوسطى، كأي رجل آخر ممن يصادفهم في الحياة، حتى يشيع في قصته جو الحقيقة والواقع. وإذا فقصتا «روبنسن كروزو» و«جلفر» لدى النظرة الفاحصة لا تحيدان قيد شعرة عما اشترطناه للقصة من التزام الصدق في التصوير، بحيث لا يداخل القارئ شك في أنه يخوض - وهو يقرأ القصة - حياة كالتي عهدها ومارسها.
قلنا إن للقصة طابعين يميزانها: النثر والطول. وحسبنا ما قلناه في خاصة النثر، لننتقل إلى الصفة الثانية، ولكي ندرك ما تكسبه القصة من طولها في قدرتها على الأداء والتعبير، يجب أن نقارنها بضرب آخر من ضروب الأدب، مضطر إلى القصر اضطرارا بحكم طبيعته، وهو المسرحية؛ فالمسرحية لا بد أن تقصر نفسها على مجال يبدأ وينتهي في سويعات قلائل، ومن خصائص الحوادث التي تعرضها، أن تبعث شيئا من الدهشة في نفوس النظارة لغرابتها ومفاجآتها. القصة والمسرحية - كسائر ضروب الشعر - تمثلان أفعالا، ولكن ماذا نقصد بكلمة «فعل»؟ أصحيح أن هنالك شيئا معينا محدودا، يصح أن نطلق عليه هذه التسمية؟ إنك إذا ما تناولت بالبحث وعمق النظر عملا مما تواضعنا على اعتباره «فعلا» واحدا، وجدته في حقيقة أمره حزمة كبيرة من الأفعال، فرميك الكرة قد يبدو «فعلا» واحدا، مع أنه في الواقع يحتوي سلسلة طويلة من الأفعال، يعقب بعضها بعضا! إمساك الكرة والشد عليها بقبضة اليد، وقذف الذراع إلى الوراء مسافة معينة، وثني الرسغ، وتطويح الذراع إلى الأمام ثم إطلاق الكرة وهكذا، وقل مثل هذا في كل فعل آخر. لا بل إن الفعل الواحد لا يقتصر على أنه في ذاته متألف من مجموعة كبيرة من الأفعال، إنما يزيد في تعقده أنه مرتبط بمئات من الأفعال سبقته ومئات أخرى ستلحق به، وهذه السوابق واللواحق مرتبطة به ارتباطا بحيث يستحيل فصلها عنه، ففي المثال السابق، قد تقدم رمي الكرة رؤيتها ورؤية الهدف، والانحناء إليها وهي ملقاة على الأرض، وتبع رميها إرخاء الذراع وتعقب الكرة في سيرها وهي مقذوفة في الهواء وهكذا، وإذا فمن العسير أن تعزل فعلا واحدا عما يحيط به من الأفعال، فالذي اصطلحنا أن نسميه «فعلا »، هو في الحقيقة مجموعة أفعال كثيرة يمكن اعتبارها وحدة متصلة، ومثل هذه المجموعة من الفعل هو ما يتخذه القصصي والمسرحي كلاهما موضوعا لإنشائه، لكن المسرحي - على عجل - لا يملك أن يضيع من وقته القصير شيئا؛ لأنه ملزم أن يفرغ مما يريد تمثيله وتصويره في ساعتين أو ثلاث، فليس في مقدوره أن يقدم إليك الفعل بكل حذافيره وأجزائه، ولا بد له أن يتخير من الحوادث الكثيرة التي ترتبط بالفعل عددا قليلا، يراه أكثر من غيره دلالة ومغزى، فلو كان «الفعل» الذي نحن بصدده مدا في البحر وجزرا يعقبه، كان على المسرحي أن يسقط من حسابه ألوف الألوف من صغار الموج، مكتفيا بقمة الموجة الكبرى أو بأسفل الفجوة بين الموجتين؛ لأن هاتين النقطتين أبرز وأوضح ما تراه العين من حركة البحر في مده وجزره. فالمسرحية إذا لا تمثل من الفعل إلا الجانب البارز الواضح الملحوظ، الذي كثيرا ما يثير الدهشة والعجب.
أما القصصي فليست تلزمه الضرورة أن يبتر الحادثة أو الفعل ليجتزئ منها بجانب دون جانب، فهو إذا ما عمد إلى تصوير فعل، بسطه بكل تفصيلاته من سوابق ولواحق وأجزاء. فافرض - مثلا - أن القصصي والمسرحي كليهما يصوران مائدة الغداء، ففي المسرحية يرتفع الستار وإذا بالمائدة قد هيئت، والأضياف قد جلسوا في أماكنهم من المائدة، وكل ما على المسرحي أن يمثله بعد ذلك تقديم الطعام وأكله، أما القصصي ففي وسعه أن يرتد إلى الأصول الأولى لهذا الطعام، فيرجع بك إلى البطاطس حين جناها الزارع وعرضها البائع واشتراها الطاهي، وأخذ يعدها في مطبخه تقشيرا وسلقا وتهيئة في الصحون، وهكذا يستطيع أن يصنع في كل ما قدم في الغداء من ألوان الطعام. وبعد أن يمضي بك في ذلك صفحات تلو صفحات، ينتهي بك إلى حيث وجدت المسرحي، فيطالعك بالأضياف وقد جلسوا إلى المائدة يأكلون، وليس حتما على المسرحي أن يختار من الفعل نهايته، فقد كان يستطيع أن يمثل جانبا آخر من حلقات الفعل غير المائدة وحولها الأضياف، لو رأى أن ذلك الجانب الآخر أبرز علامة وأوضح دلالة للمعنى الذي يريد. وأيا ما كان الجانب الذي يختاره المسرحي، فيستحيل أن يذهب في عرضه وتمثيله، إلى ما يذهب إليه القصصي من تحليل وتفصيل. هذا شيكسبير في رواية «كما تهواه» يفاجئك بجماعة يأكلون في الغابة، ولا تدري كيف أعدت ألوان الطعام هناك، ولا عليك ألا تدري، فالمهم هنا أن تشهد الطاعمين وهم يأكلون، وهذا هو أيضا في رواية «ماكبث» يبدأ حفلة عشاء في قصر ماكبث، لكنه لا يلبث أن يسوق من الحوادث ما ينحرف بك عن العشاء، فلا تدري عن الآكلين شيئا؛ لأن اختيار الكاتب لم يقع على هذا الجانب من حلقات الفعل؛ إذ رأى جانبا أجدر منه بلفت النظر. أما قصصي مثل «مردث» ففي وسعه أن يملأ ثلاثة فصول كاملة، بشارب يحتسي زجاجة خمر، و«جولز ور ذي» ينفق مساء بأكمله في عشاء هادئ للأسرة، التي يصورها في قصة «فور سايت ساجا»، ويخلص من هذا كله إلى نتيجة نريد تقريرها، وهي أنه لما كانت القصة هي الفرصة السانحة لعرض الفعل بكل أجزائه ودقائقه، كان الكاتب القصصي أبرع وأجود، وكانت قصته أروع فنا كلما استطاع استغلال هذه الفرصة السانحة.
ولقد وصف «ستيرن» - القصصي الإنجليزي في القرن الثامن عشر - فن القصة، فحصره في مهارة الكاتب في الاستطراد، بحيث لا يعوق هذا الاستطراد تطور الحوادث وسيرها، بل يسير الاستطراد والتقدم بحوادث القصة، جنبا إلى جنب رغم ما يبدو في ذلك القول من تناقض، فيكون الكاتب مثلا بصدد شخص يحكى عنه، ثم يعترض الحكاية شخص آخر أو حادثة، فينحرف الكاتب إلى هذا الطارئ الجديد، على شرط ألا يغفل عمن كان يحكي عنه، بل يذكره خلال استطراده بلمحات بارعة آنا بعد آن، بحيث تزيد صورته في ذهنك وضوحا ورسوخا، حتى يعود إلى حكايته من جديد بعد فراغه من استطراده الطارئ الدخيل.
ومن الحكايات النثرية ما لا يفرط في الطول، فلا تدخل في عداد القصص بمعناها الصحيح، وقد جري العرف أن تسمى واحدتها «قصة قصيرة» أو أقصوصة.
وليست القصص القصار في أوضاعها الفنية شبيهة بالقصص التي حدثناك عنها، فقد يبدو للوهلة الأولى أنها تعالج موضوعات وأشخاصا كالتي تعالجها القصص الطويلة، لكنك لا تلبث بعد الموازنة الدقيقة أن تتبين فروقا بين هذه وتلك؛ فقد رأينا في تحليل «الفعل»، أن ما نعده «فعلا» بسيطا، هو في حقيقته مركب معقد، يشتمل على أفعال ثانوية صغرى تلازمه، ويتعذر عزله وفصله عن أفعال أخرى كثيرة، تحيط به قبل وقوعه وبعد وقوعه، فالفعل يأتيه الإنسان ليس حادثا واحدا وخيطا مفردا، وليس هو كذلك مجرد عمل يظهر في السلوك المرئي المشاهد، بل هو نتيجة عدد كبير من الدوافع والرغبات والعادات والضوابط، وما إلى ذلك مما تموج به النفس وتزخر، سواء كانت هذه العوامل الباطنية الخافية في حدود الوعي، عند القيام بالعمل أو لم تكن، فقد يدرك الإنسان دوافعه وحوافزه إلى العمل حينا ولا يدركها أحيانا، لا بل الأمر أوسع من ذلك نطاقا وأبعد مدى، فهذا العمل الظاهر نفسه، الذي هو ثمرة لأخلاط من العوامل النفسية المستترة، يعود بدوره فيحدث آثارا شتى في شخصية الفاعل، ثم لا يقتصر الأمر على شخص الفاعل، بل إن رشاشه ليتسع ويتشعب فيشمل أسرته ومحيطه الاجتماعي كله، وقد يمعن في الاتساع والتشعب، حتى يؤثر في الحضارة القائمة كلها. وبديهي أنك لو أردت أن تستقصي كل هذه الأصداء، التي تتردد نتيجة لحدوث الفعل المعين، كان لزاما عليك أن توسع من مجال البحث، بحيث تتغلغل في نفس الفاعل، لتتعقب كل ما اقترن بالفعل، من خواطر ومشاعر ودوافع وموانع، ثم تجوب في أنحاء العالم الخارجي، مسجلا كل ما أحدثه الفعل من آثار في الحياة والناس جميعا. وإن ذلك ليقتضيك إطنابا لا تستطيعه إلا القصة الطويلة، وأما كاتب «القصة القصيرة» فيدع ذلك لزميله صاحب القصة الطويلة، ولا يحاول أن يجاريه في مضماره هذا، ويكتفي من هذا الخضم الزاخر بالأجزاء والدقائق، بالحادثة الأولية التي أحدثت هذا كله، ويحصر اهتمامه بالفعل وحده دون نتائجه ومقدماته، باطنة كانت تلك المقدمات أو ظاهرة، فتجيء قصته حكاية لسلسلة من الحوادث، لا صورة تفصيلية لوجه من وجوه الحياة الإنسانية، بما فيها من شتيت التجارب وعديدها. وهو يختار لقصته محورا تدور حوله الحوادث، بحيث يكون ذلك المحور شائقا في ذاته ولذاته، لا يرجو القارئ أن يستشف وراءه شيئا. وخير ما نسوقه مثالا للقصة القصيرة، هذا النوع الذي يسمى بالقصة البوليسية، فاقرأ - مثلا - قصة «شرلوك هولمز» المشهورة، لا تجد فيها تحليلا نفسيا بالمعنى الصحيح الدقيق، رغم ما فيها من محاولات سطحية لتصوير شخصيتي «هولمز» و«وطسن»، فالمهم في القصة البوليسية، أو القصة القصيرة بوجه أعم، هو سلك الحوادث وحبكتها. نعم استطاع عبقري مثل «بو»، أن يأخذ نفسه أخذا دقيقا، بقيد القصة القصيرة فحصر نفسه في الحوادث، وأن يلون الحوادث في الوقت نفسه بلون الحالة النفسية، التي أحاطت بوقوعها تلوينا قويا ساطعا، يترك في نفس القارئ أثرا، فيه دراسة كاملة لموقف من مواقف الحياة، لكن ذلك لا يعدو أن يكون خداعا يحدثه فن الكاتب بما فيه من سحر وفتنة، فلقد سما «بو» بالقصة القصيرة حتى بلغ بها في دولة النثر ذروة تعادل الذي صعد إليه «كولردج» في قصيدة «البحار القديم» - كلاهما يخلع على الموصوف لونا من فنه يزيده فتنة - وقد اختار «بو» لنفسه نمطا خاصا من القصة، وذاك أن يحكي حوادث تلقي في النفوس فزعا ورعبا، فجاء نثره أداة قوية تعينه على الأداء، بحيث بلغ من الكمال مرتبة ليس بعدها زيادة لمستزيد، فالحادث المرعب يزداد في قلمه رعبا؛ لأنه يقربه من الواقع ويدنو به من المألوف، ولو كتبت مرعباته شعرا لما استطاعت أن تفوح برائحة الصدق والواقع كما هي الآن في نثرها. لكن مهما بلغت القصة القصيرة في دقة التصوير وروعة التعبير، فهي قصة قصيرة، وليست من قبيل القصة الطويلة في فنها وأوضاعها، ما دامت تحصر همها وغايتها في الحادثة أو سلسلة الحوادث، سواء جاءت هذه الحوادث في تتابع ساذج بسيط، أو تعقدت فكونت حبكة تستثير انتباه القارئ بتعقدها وحلها.
حسبنا هذا حديثا في الفخامة التي تتكون القصة من عناصرها، فليس يسمح لنا مجال القول في هذا الكتاب الصغير ، بالإفاضة في البحث والتحليل، وأظننا بما قدمناه من تعليل وتدليل، نستطيع أن نزعم أن القصة ضرب من الخيال النثري له مهمة خاصة به، وهي أن تقص أعمال الرجل العادي في حياته العادية، بعد أن تضعها في شبكة من الحوادث كاملة الخيوط، متتبعة كل فعل إلى أدق أجزائه وتفصيلاته وسوابقه ولواحقه، موغلة في دخيلة النفس حينا لتبسط مكنوناتها أثناء وقوع الفعل، مستعرضة الآثار الخارجية للفعل حينا آخر، لا تترك من جوانبه وملحقاته ونتائجه شاردة ولا واردة، إلا سجلتها في أمانة وصدق، كما تحدث في الحياة الواقعية التي يخوضها الناس ويمارسونها.
لو كانت هذه مهمة القصة، إذا فقد أصبح لدينا مقياس واضح، نزن به قيمة ما نقرؤه من القصص، لنميز فيها الطيب من الخبيث، فكلما وجدنا في القصة روح الواقع، الذي يمثل لنا الحياة الصحيحة، كما تجري يوما بعد يوم، كانت أصدق مراعاة لفن القصة كما ينبغي أن يكون.
أما وقد فرغنا من بسط المبادئ النظرية، فيجمل بنا أن نستعرض تاريخ القصة وبعض القصص الرائعة؛ لنرى إن كانت تقوم دليلا قاطعا على صدق ما ذهبنا إليه، فإذا استبعدنا القصص التي صادفت إعجابنا لا بفنها، بل بما تذيعه وتوضحه من آراء ومذاهب، فليس بعد ذلك من سبيل إلى الشك في أن طابع القصة الجيدة هو، أولا وقبل كل شيء، هذه «الواقعية» التي تعكس لك الحياة كما ألفتها وعرفتها في حياتك، وحياة أهلك وجيرتك وعشيرتك والعالم الذي تعيش فيه.
وأول ما يلفت النظر - إذ نستعرض القصة في ماضيها وحاضرها؛ لنرى إلى أي حد تصدق مبادئنا على نتاج الأدباء - هو حداثة سنها في تاريخ الأدب، فهي حديثة العهد جدا إذا قيست بسائر ضروب الأدب وفنونه، ومع ذلك فهي أوسع تلك الضروب والفنون شيوعا بين الناس، فلو قارنتها - مثلا - بالملحمة التي عرفها الإنسان منذ أول نشأته، ألفيتها وليدة الأمس لا تزال في نعومة أظفارها تحبو، فقد يحدثك مؤرخو الآداب أن القصة قد شهدت نور الحياة أول ما شهدته سنة 1740م، حين أخرج القصصي الإنجليزي «رتشردسن» قصة «باملا». وسيبدو لك ما زعمه مؤرخو الآداب أمرا عجيبا؛ لأنك في أغلب الظن ستخلط بين الحكاية والقصة، وسترجع بخيالك إلى أعمق أعماق الماضي السحيق، لترى الناس يروون الحكايات كلما كان فراغ ودار في حلقات السمر حديث، ثم تقول: وهذه قصص العرب، وألف ليلة وليلة، وهي كلها أسبق من هذا التاريخ الذي زعمه مؤرخو الآداب بداية للقصة، لكنك قد أنسيت خصائص القصة بمعناها الصحيح، فليست كل تلك الحكايات الأولى قصصا؛ لأنها تفقد أخص خصائص القصص، فما هي بالصادقة في تصوير الحياة، ولا هي تتعقب أجزاء الحادثة الواحدة تحليلا حتى تبلغ أقصى مداها، إنما هي حكايات تطالعها، ولا تنسى قط وأنت تطالع أنك في عالم من خيال، ولكن لماذا تأخرت القصة في الظهور؟
تأخرت بسبب تلك الحكايات الأولى نفسها، التي أخطأت منذ حين قليل، فظننتها من القصص وما هي منها في كثير ولا قليل، فقد كان الرجل الموهوب في الخيال القصصي، إذا ما جلس ليروي للناس حكاية في الأزمان الغابرة، توهم أنه لو ساق في حكايته الحوادث العادية المألوفة، لم يستوقف أسماع المنصتين ولم يستثر إعجابهم، كما لو ساق في حكايته الحوادث الشاذة العجيبة الشاطحة في خيالها؛ فلا بد إذا لكي يظفر أولئك الحكاءون بالتقدير، أن يرووا المدهشات التي تثير نفوس السامعين بغرابتها؛ لهذا جاءت حكايات القديم والعصر الوسيط حول الأرباب وأبطال الأساطير، فتروى الأعاجيب عن الملك أرثر وملوك الجن والشياطن وما إلى ذلك. وكانت هذه الحكايات تروى شعرا في أوروبا القديمة والوسطى؛ لأن الشعر هو الأداة التي تستطيع أن ترتفع بالكاتب أو الحكاء إلى هذا الخيال البعيد، وهو الأداة التي تصلح أن تطير بعقول السامعين إلى أرض الجن والشياطين، وتخلص عقولهم مما يقعد بها ويثقلها من شئون هذا العالم الأرضي الذي نعيش فيه. ونحب - إنصافا لهذه القصائد القصصية - أن نقول إنها تمثل جانبا من الحياة النفسية الحقيقية، وإن لم تصور الواقع الملموس من أوضاع الحياة؛ ذلك لأنها تشبع في الناس أهواء ونزعات لا يشبعها عالم الواقع، فهي في ذلك كأحلام اليقظة أو أحلام النوم ، تحقق للحالم أمانيه التي لم يستطع تحقيقها في دنياه. خذ مثلا لذلك مغامرات الفرسان في أساطير الملك أرثر، فلا هي بالصحيحة ولا هي بالباطلة، لا هي تصور ما يغامر به الفرسان فعلا في الحياة الواقعة، ولا هي بعيدة عما يتمناه الفرسان من مثل أعلى، هي تصور الفرسان كما ينبغي أن يكونوا، فهي صحيحة إن نظرت إليها على أنها أمنية تتردد في أنفس الفرسان وأمل يبتغون تحقيقه، وهي باطلة إن قستها بالحياة الواقعة الجارية كما هي؛ لهذا أجراها الأدباء شعرا؛ لأن الشعر - كما قدمنا - يخدع القارئ عن نفسه ويلون له الباطل في صورة الحق، ويعلو بالنفس إلى أفق أعلى من مستوى الحياة، الشعر أصلح من النثر في التعبير عن الغريب الشاذ الذي يسمو على المألوف، فإن فقدت الحادثة غرابتها وشذوذها وسموها كان النثر لها أصلح أداة. ونعود فنقول إن مغامرات الفرسان المثالية كانت تمثل ما يطمح إليه الفرسان، فكان الشعر أداة صالحة لها. فلما ذهب عصر الفروسية وانقضى، ولم يعد الناس يرون مثلهم الأعلى في حياة الفارس المغامر، ذهبت عن تلك الأماني حلاوتها وطلاوتها، وأصبحت مجرد حكايات تروى عن حوادث خيالية غريبة، دون أن تكون صورا مثالية تفخم الواقع وتسمو به. وعندئذ جاز لكاتب مثل «مالوري» أن يحولها إلى النثر، فيروي بها ذكريات عصر زال أو في طريقه إلى الزوال.
بدأت القصة إذا حكاية خيالية تروي الغريب الشاذ ولا تصور الواقع، ثم مضت في هذا الطريق عصورا طوالا، فحتى حين اطرح الحكاءون التقليد القديم، الذي كان يحتم أن تدور الحكاية حول أشخاص جبابرة عمالقة يعلون عن مألوف الرجال، فقد استبدلوا بذلك التقليد غرابة في الحوادث التي صوروها. نعم كانوا يختارون لحكاياتهم أشخاصا من الحياة العادية، لكنهم سلكوا هؤلاء الأشخاص في مجرى من الحياة لا يشبه الحياة الجارية في شيء، فكأنهم بذلك استبدلوا شذوذا بشذوذ، وغرابة بغرابة، ولم تبلغ بعد حكايتهم أن تكون قصة تقص الواقع في أشخاصه وحوادثه على السواء. هكذا كانت الحكاية في عصر اليصابات، لم تعد كما كانت سالفتها في العصور الوسطى، تنتقل بأشخاصها وحوادثها في أرض الجن والشياطين، ولم تعد تختار عمالقة الأبطال يخوضون الحروب الصليبية؛ ليأتوا بالبطولة النادرة التي لا يسلم بصدقها عقل سليم، وأصبحت تختار لأبطالها أشخاصا عاديين، بل أشخاصا أقرب إلى سفلة الناس يتسكعون في الحانات ومباءات الفساد. لكن هؤلاء الأبطال السفلة يأتون من الأعمال ما لا يقل غرابة وشذوذا عن فرسان الملك أرثر في حكايات العصور الوسطى. ومن ذلك ترى أن القصة التي تعالج ناسا كأوساط الناس، يحيون حياة كالحياة المألوفة الواقعة، كانت لم تخلق بعد في عصر اليصابات، وكان من الجائز أن تظهر عندئذ لو أن عقول الناس تهيأت للتمتع بالقراءة عن أشخاص عاديين في حياة عادية، فقبل أن يفكر كاتب في وصف حياة الرجل العادي، في حياته الجارية بكل تفصيلاتها وأجزائها، لا بد أن تنشأ عند الناس عادة الانتباه إلى الحوادث التافهة العابرة التي لا تحمل في طيها مغزى ولا معنى، وعادة تقديرها وتقويمها لمجرد أنها وقعت تحت عين المشاهد الذي يرقب مجرى الحياة بعين تلحظ كل الدقائق. لا يمكن لقصة بمعناها الصحيح أن تنشأ، إلا إذا اهتم الناس أولا بأجزاء الحياة وتفصيلاتها اهتماما يحول التافه إلى شيء ذي وزن وشأن، وإلا إذا أخذوا يستمتعون بمطالعة أوجه الحياة المألوفة كما تقع كل يوم.
لكن هذا الاستعداد الخاص لم ينشأ عند القراء إلا في بطء شديد. نعم أثارت صور الحياة الواقعة اهتماما شديدا عند شيكسبير ومعاصريه، لكنهم كانوا في الحياة كالمبهوت الذي يعجب بكل شيء يراه لأنه جديد؛ ولهذا صوروا من الحياة فتنتها وسحرها، ولم يعنوا بجوانبها الفاترة الرتيبة. فلما انقضى قرن بعد شيكسبير وعصره، أخذ اهتمام الناس يزداد رويدا رويدا بالتوافه من مقومات الحياة، وكان هذا الاهتمام الناشئ مرتبطا أشد ارتباط بروح علمي ناشئ، تمثل في إنشاء الجمعية الملكية العلمية سنة 1662م. والبحث العلمي - كما تعلم - يوجه النظر إلى الملاحظة الدقيقة الفاحصة في أتفه الأشياء وأقلها خطرا، ثم إلى تسجيل ما انتهت إليه الملاحظة، تسجيلا هادئا عاريا عن كل تهويل ومبالغة. وساير هذه النظرة التحليلية لظواهر الطبيعة نظرة تحليلية أخرى، تنطوي على باطن الإنسان ودخيلته، تحلل مكنون نفسه، وما يضطرب فيها من خواطر ومشاعر، فكما أرادت الملاحظة الخارجية تسجيل العالم الخارجي كما تراه العين، أرادت الملاحظة الباطنية تسجيل العالم النفسي الداخلي، كما يراه من يستبطن نفسه وينظر في طويته. ولم يكن هذا الاستبطان الذي يسجل خواطر النفس معروفا عند شيكسبير؛ فلا تراه حتى في شخص كهاملت رغم ما يتصف به من تأمل وإغراق في التفكير، لأنه لم يعمد قط إلى تحليل نفسه تحليلا دقيقا. ثم أخذ انطواء الإنسان على نفسه يزداد مع الأيام، وأسرع الخطى في عهد المتزمتين، الذين ما فتئوا يفحصون ما تنطوي عليه ضمائرهم؛ ليطهروها من أدرانها وشوائبها، فترى ظاهرة الاستبطان النفسي بادية في جلاء عند كاتب مثل «بنين»
Bunyan
في كتابه المشهور «رحلة الحاج»، الذي يعد في الطليعة إذا عدت روائع الأدب الإنجليزي، ثم سار التحليل النفسي خطوة أخرى إلى الأمام، وأخذ الكاتب لا يحلل نفسه وكفى، بل يتحسس نفوس الآخرين ليستخرج كوامنها وأسرارها، ليتخذ ما يظفر به من علم وسيلة تعينه على تقسيم الناس أنماطا مختلفة. وهنا ينشأ لون جديد من الأدب يعنى بتصوير الشخصية البشرية، تصويرا يرد هذا الفرد أو ذاك إلى هذا النمط أو ذاك من نماذج البشر. فما إن أقبل القرن الثامن عشر وأخذ يتقدم بأعوامه، حتى اشتدت هذه النزعة في تصوير النفوس المتباينة، لأهل الطبقات الوسطى والدنيا؛ إذ كان زمام الأمر ينتقل إلى أيدي هذه الطبقات رويدا رويدا، بحيث لم يعد تصريف الأمور من شأن الأشراف والنبلاء، بل عهد به إلى الطبقة الوسطى، التي كان قوامها رجالا أثروا عن طريق التجارة. ومن أجل هذه الطبقة الجديدة أخذ يكتب الأدباء، فإليهم خاصة توجه «أدسن» و«ستيل» بما كانا يكتبان من مقالات في الصحف التي أنشآها لهذه الغاية، فقد بذل هذان الكاتبان، وغيرهما من أدباء القرن الثامن عشر، كل جهد مستطاع لتركيز الحياة كلها بما فيها من أوجه النشاط المختلفة، في مقهى أو في مائدة للطعام؛ أعني أنهم يصفون لك هذه المجامع الصغيرة، فيحاولون أن يلحظوا كل شيء مما يجري بها، ثم يعرضون مجرى الحياة فيها بكل جوانبها ودقائقها. فأدب القرن الثامن عشر بدأ يصب اهتمامه على الحياة الواقعة وعلى أهل هذه الحياة الواقعة كما يعيشون وينشطون ويسلكون ويفكرون، فترى أدباء ذلك العهد يتناولون بأقلامهم الرجل العادي، فيلحظون فيه شذوذ مسلكه وخواص تفكيره، مما يميزه عن سائر أفراد الطبقة التي يعيش بينها. واقترن بهذه الاتجاهات الأدبية ما قد نسميه مبادئ الشعور الديمقراطي، وهو الإيمان بقيمة الرجل العادي، الذي لا يحتل في الحياة مكانة ممتازة تملأ النظر. فلما أخذت هذه الاتجاهات تنتشر وتسود، أخذ يسود إلى جانبها جو فكري جديد، كان من شأنه أن ينتج القصة بمعناها الصحيح. وهكذا قدر للقصة أن تظهر في عالم الوجود، بعد أن جاهدت في سبيل الظهور قرونا، كانت خلالها تبدو آنا بعد آن شائهة الخلق ناقصة التكوين، وكتب لها آخر الأمر أن تولد في صورتها السوية على يدي «رتشردسن» في قصة «باملا» عام 1740م كما قدمنا. والعجيب في نشأة القصة أنها - وإن لم تكن قد جاءت نتيجة جهود متصلة وخطوات متتابعة متلاحقة - إلا أنها ظهرت وكأنها وليدة المصادفة، التي لم يهيئ لها منطق الحوادث، فقد هم «رتشردسن» أن يكتب سلسلة من رسائل نموذجية، يستعين بها من لم يصب حظا من التعليم من رجال ونساء الطبقة الوسطى والطبقة الدنيا، ثم طاف بذهنه خاطر وهو أن يربط هذه الرسائل ربطا يجعلها تحكي قصة، فكان له بذلك قصة «باملا»؛ فهي إذا مجموعة من الخطابات، تبودلت بين فريق من الرجال والنساء، وإنما تعد القصة الأولى في آداب العالم، لأنها تروي حكاية تتألف من رسائل عادية، تبادلها أشخاص عاديون، وعبروا فيها عن حياتهم وشعورهم تعبيرا صادقا أمينا، ومن الخطابات يستخرج القارئ صورة كاملة وافية لحياة خادمة عادية - هي باملا - في حياتها وسلوكها، سجلت أفكارها العابرة وعواطفها الصحيحة كما وقعت، وكما تقع دائما في الحياة الواقعة.
ولم تكد القصة الأولى تشهد الوجود، حتى تبين للعالم أنه قد اهتدى إلى ضالته ، التي ظل ينشدها قرونا طوالا، يلتمس إليها الطريق ولا يجدها، حتى وقعت عليها عبقرية «رتشردسن»، وأخذت القصة منذ ذلك الحين تتبوأ مكانة عالية في نفوس الناس، فما زالت تزداد انتشارا حتى أصبحت أوسع فنون الأدب ذيوعا بين القراء؛ ولذلك أسباب ظاهرة، فالعالم كما نعرفه يشدد علينا قبضته أكثر مما يفعل بنا عالم الخيال، وها هي ذي القصة قد صورت هذا العالم وأهله، والعالم عالمنا والأهل أهلنا. وإذا فالقصة مرآة تعكس كل شيء في العالم، الذي يؤثر فينا بعوامله، ويجتذب انتباهنا ويسترعي اهتمامنا بحوادثه وناسه. أضف إلى ذلك عاملا آخر وسع من انتشار القصة، وهو أن عصر الديمقراطية الذي نعيش فيه، والذي يرفع من قدر الطبقات الوسطى والدنيا، يجد نفسه منعكسا بكل دقائقه في القصة، فالدوافع الكثيرة التي تحركنا باعتبارنا من أهل تلك الطبقات، كلها مصورة في القصة تلتمسها هناك فتراها، فالقصة تمثل لنا أنفسنا وتمثل لنا المحيط الاجتماعي الذي نعيش فيه، بما فيه من تيارات سياسية وغيرها، ومن ثم لجأ إلى القصة كل من أراد أن ينشر في الناس رسالته السياسية أو الدينية أو الاجتماعية؛ لأنهم يعلمون أنها أقرب الفنون الأدبية إلى قلوب القراء، فتراهم يصورون - فيما ينشرون من قصص هذا العالم نفسه - ما يبشرون به من عقائد ومذاهب وآراء؛ ليبينوا في جلاء أنها طريق إلى السعادة التي ينشدونها للمجتمع، أو تراهم يمثلون في قصصهم هذا العالم، بما فيه من عقائد ومذاهب وآراء؛ ليبينوا أنها لو بقيت بغير إصلاح فالمجتمع مصيره إلى بؤس وشقاء.
لكن هنالك خطرا عظيما في أن يستخدم ذو هوى أداة من أدوات الفن الخالص، فإن عمد فيلسوف سياسي إلى قصة ينشئها، فاعلم أنه لن يصور فيها العالم والناس كما هم في الواقع، بل سيبشر فيها بمذهبه، بأن يبدي العالم في الصورة التي يريدها له، إذا ما اعتنق الناس مذهبه، وهذا القول يصدق على «ولز» إلى حد ما، فقد لبث هذا الكاتب الكبير يمثل العالم الحقيقي في قصصه حينا من دهره، ثم اتجه اهتمامه إلى آرائه الاجتماعية لا إلى الحياة كما تقع، فهو مخلص لمذهبه وعقيدته إخلاصا حدا به ألا يتصور العالم في قصصه، إلا وقد شاع في الناس ذلك المذهب وتلك العقيدة. ومن الجائز أن يصلح العالم بذلك، لكن على حساب الفن القصصي، فقصة لا تصور الواقع كما هو، ليست من ذلك الفن في شيء. وقد يصلح الناس بقراءة أمثال قصصه، لكنهم سيدفعون ثمن ذلك الإصلاح متعة، كانوا قمينين أن يلاقوها في قصة فنية. وإننا لعلى يقين أنه حتى لو كان الغرض المقصود، أن يتحول الناس إلى الرأي الجديد، فهم أسرع إلى هذا التحول إن قرءوا قصة فنية، منهم إذا قرءوا قصة تسوق إليهم الرأي الجديد بالبرهان العقلي. وهذه قصة «آن فيرونكا
Anne Veronica » تدافع عن حرية المرأة، دفاعا يستند إلى براهين العقل، فكم حولت من قرائها إلى الرأي الذي تدافع عنه؟
كانت القصة من خلق القرن الثامن عشر، خلقها «رتشردسن» ثم أعقبه «فيلدنج»، فصور الحياة كما تجري في الهواء الطلق، كما صور «رتشردسن» الحياة داخل الدور. فقصته «توم جونز
Tom Jones » صورة للحياة اليومية في إنجلترا سنة 1742م، وحسبك - لتعلم مقدار عناية الكاتب بالرجل العادي في تصويره - أن ترى هذا العنوان الذي اختاره لقصته، فهذان الاسمان «توم» و«جونز» مما يفوح برائحة الطبقات الشعبية. ثم جاء «ستيرن» وقصته «ترسترام شاندي
Tristram Shandy »، مثلا قويا، يوضح لك كيف تعنى القصة الصحيحة بالتفصيلات الدقيقة للحوادث، فمجلدات عدة منها تقص لنا أنباء البطل «ترسترام» في حياته الأولى، بل إنها لتبدأ في حكاية أنباء بطلها منذ كان نطفة في جوف أمه، وتقرأ الفصل بعد الفصل، و«ترسترام» لا يزال جنينا لم يشهد النور! ولا يولد إلا وقد قرأت من الرواية شطرا كبيرا من المجلد الثالث! فهي قصة لا تمل من تعقب الدقائق، بحيث تكون صورة شاملة كاملة للمراحل الأولى من حياة شخص لا يزنه المجتمع إلا بأخف الموازين، مع ذكر تفصيلات البيئة التي نشأ فيها، بحيث لا يترك منها شاردة ولا واردة إلا أثبتها. وبطل القصة رجل له شذوذه وغرابته ، لكنه الشذوذ الذي تلمسه في سواد البشر. ولا نحسب قصة غير هذه استطاعت أن تستغل ما تمتاز به القصة من سائر الفنون الأدبية، وهو حرية الكاتب في الإفاضة والإطناب إلى غير حد معلوم، فترى الكاتب يطيل الوقوف عند كل حادثة؛ لأنه يراها محوطة بشبكة كبيرة واسعة الأطراف من الحوادث المسايرة، فيظل يتابع الطريق المتشعبة هنا وهنالك في هوادة، لا يتعجل الوصف ولا يسرع إلى الختام، بل يتتبع الخيوط والشعب حيث تسير به، حتى يشبعها وصفا وتحليلا. وعاصر «ستيرن» قصصي آخر هو «سمولت
Smollett »، صاحب «رودريك راندم
Roderick Random »، وكان السهم الذي شاطر به في تقدم القصة وتطورها، أنه لم يكتف بما اكتفى به زملاؤه، وهو أن يتعقب الدقائق ساعة بعد ساعة، بل أضاف إلى ذلك لونا من الواقعية، هو ما يفهمه سواد الناس من كلمة «واقعي»، وإن لم يكن ذلك فهما للكلمة صحيحا دقيقا؛ وذلك أنه يذكر الحقائق الغليظة التي يأباها الذوق المهذب المرهف، فكان ذلك معينا قويا للقصة على تصوير الدنيا، كما هي بغير حذف ولا تشذيب، فسواد الناس يؤمنون بأن «أنابيب المياه»، أكثر واقعية من قوس قزح بألوانه الزاهية، وهذه الناحية من الواقع هي ما صورها «سمولت».
لكن تقدم القصة أصابته نكسة مؤقتة؛ إذ عاود الناس حنين إلى القصة القديمة الخيالية المسرفة في خيالها، حتى بعد أن تكشفت لهم قيمة القصة الفنية الصحيحة. وليس في هذه النكسة ما يدعو إلى العجب؛ فالإنسان روحان في إهاب واحد، يحب ما يدنو من قلبه وفؤاده وما تألفه عيناه وأذناه، أي أنه يحب الواقعي الذي يعيش بين ظهرانيه، وهو في الوقت نفسه يحن إلى البعيد النائي الساحر بخياله، الذي هو أقرب إلى الأحلام منه إلى الحق والواقع، أي أنه يحن إلى فتنة الوهم والخيال الجامح. فهل تريد من فن أدبي ذائع بين سواد الناس - وهو فن القصة - أن يكتفي بإشباع جانب واحد من الإنسان دون جانبه الآخر؟ هل يمكن أن يقنع القصصي بمخاطبة الناحية الواقعية منها، ويهمل الناحية الخيالية إهمالا تاما؟ لقد كان للجانب الخيالي الغلبة على القصة قرونا طوالا، حيل فيها دون القصة الواقعية، فلما ظهرت القصة الواقعية، لم تعدم قصة الخيال رجالا يعودون إليها بأقلامهم، مفتونين بسحرها مأخوذين بأحلامها.
وترى هاتين النزعتين متمثلتين في القصة في القرن التاسع عشر، فقصة تميل إلى تصوير الواقع كما هو، وقصة تميل إلى الجو الخيالي الذي يسمو عن عالم الواقع ويبعد عنه، وثالثة تجمع اللونين معا ما استطاعت إلى جمعهما سبيلا. فهنالك في أول القرن «جين أوستن
Jane Austen » تخلص الولاء للقصة الفنية، محتفظة لها بعناصرها الرئيسية الأساسية، فتسجل شئون الحياة العادية كما كانت تجري في عصرها، وإلى جانبها «سكت» يحاول جهد طاقته، أن يجمع بين الإيهام الواقع وبين روعة الخيال وسحره، وكانت «القصة التاريخية» سبيله إلى غايته المنشودة، فقصته «قلب الأسد» تجري مجرى الخيال، الذي لا يرتبط بالواقع بصلة قوية، لكنها في الوقت نفسه تتخذ من الموضوع التاريخي الذي تعالجه ذريعة لإيهام القارئ أنه في جو من العالم الواقعي الصحيح، لكنه لم يوفق فيما أراد؛ لأن الواقعية التي نريدها للقصة الفنية الكاملة، ليست هي الواقعية التي يشهد بصدقها المؤرخون، وتقوم الوثائق دليلا على صحتها، لكنها الواقعية التي تلقي في روع القارئ أنها صحيحة. فسواء كانت حوادث القصة مأخوذة فعلا من الحياة الجارية أو لم تكن، فكل ما نشترطه للقصة أن توحي للقارئ بشتى الوسائل الفنية، أنه يخوض حياة واقعية كالتي تجري كل يوم. ومما هو جدير بالذكر في هذا الصدد - وهي ملاحظة قد يعجب لها القارئ - أن «سكت» أبرع فنا وأروع تصويرا وأدنى إلى أوضاع القصة الصحيحة، ومقتضياتها في أشخاصه الذين خلقهم بخياله خلقا من عدم، منه في أشخاصه الذين استمدهم من بطون التاريخ، وهذا وحده أقوى دليل على أن واقعية التصوير، هي كل ما يطلبه الفن الصحيح، ولا عبرة بعد ذلك أكان الموضوع من خلق الخيال أو من حوادث التاريخ. على أن القصة الفنية الصحيحة تختار بطلها رجلا عاديا، ممن أهملتهم صحائف التاريخ ووثائقه؛ إذ ليست القصة بحاجة إلى الرجوع إلى الماضي، لانتقاء أبطالها من بين أعلام التاريخ، وأولى لها أن تقصد إلى تصوير هؤلاء الناس الذين نعيش بينهم. أضف إلى ذلك أن معرفة الدقائق التي أحاطت بحياة البطل التاريخي متعذرة أو مستحيلة، وهذه الدقائق هي لحمة القصة وسداها، فكلما أمعنت القصة في الماضي لاختيار موضوعها، كانت أبعد عن مجالها لبعدها عن جو الحياة بتفصيلاته وظروفه، وبذلك تبعد عن «الواقعية» المطلوبة. فلا عجب أن رأينا «سكت» أنجح في قصصه - التي لم تعد أول القرن الثامن عشر في رجوعها إلى الماضي - منه في قصصه التي اختار موضوعاتها من الماضي السحيق؛ فهو في قصته «ويفرلي
Waverly » التي يختار لها عنوانا ثانويا «منذ ستين عاما»، كان موفقا في فنه؛ لأنه استطاع أن يستعيد جو الحياة التي يحكي عنها، إذ لم تكن قد طواها الماضي البعيد فطمسها، بل كانت لا تزال ذكراها عالقة في ذاكرات الأحياء، لا سيما إن ذكرنا أن «سكت» من رجال العشائر والقبائل الأسكتلندية، التي تحتفظ بحقائق ماضيها زمنا طويلا. ومهما يكن من أمر فلا سبيل إلى الشك في أن الحياة المعاصرة القائمة هي ميدان القصصي؛ وذلك هو السبب في أن القصة، أحب فنون الأدب إلى الناس وأمسها بقلوبهم؛ لأن القصصي إنما يخاطب معاصريه بما يفهمونه ويألفونه. ولسنا - بطبيعة الحال - نريد لقصص «سكت» التاريخية أن يلقى بها في اليم أو أن ينتقص من قدرها وقيمتها، بل إننا - على نقيض ذلك - نعترف لها بسحر الفن وفتنته، ولا نضعها إلا بين روائع الأدب الخالدة، على ألا نضعها بين القصص؛ لأنها ليست منها. إنها لا تقع عند التبويب والتقسيم مع طائفة القصص النثرية، التي تعالج أمورا قاصرة على النثر، ولا يستطيع أداءها غير النثر، ولكن رحاب الأدب لن تضيق بها صدرا، فهنالك مكانها بين القصة النثرية وبين القصة الشعرية؛ لأنها لا إلى هذه ولا إلى تلك، بل تقع بين بين، تأخذ من الأولى نثرها ومن الثانية لون خيالها. وما أكثر ما تشتهي النفس، أن تطير في عالم الخيال على جناح النثر، في قصة من قبيل ما جادت به قريحة «سكت». لسنا نريد أن نحرم هذه الروائع، فكلها مطلوب لمتعة النفس التي تنشد الجمال، لكننا لا نحب خلط الأوضاع واضطراب الأقسام، فالقصة قصة لها خصائصها وسماتها، وليست مؤلفات «سكت» مما يتصف بتلك الخصائص والسمات، أم تظن أنه ما دام «المزمار البلدي» يمتعنا أحيانا أكثر من موسيقى «موزار»، فالمزمار البلدي وموسيقى «موزار» شيء واحد؟
كانت الغاية التي وضعها «سكت» نصب عينيه، وتمنى أن يبلغها بقصصه، هي أن يؤلف على نحو ما عناصر الخيال وعناصر الواقع في صعيد واحد، لكنه لم يصب توفيقا فيما أراد، فخير قصصه هي التي يسود فيها الروح الواقعي، وأما قصصه التي يسودها جو الخيال، فهي أدنى إلى «الحكايات» القديمة منها إلى القصص في فنها الحديث، وإذا وزنتها بميزان «الحكاية» لا «القصة» ألفيتها رائعة بارعة، وسر روعتها وبراعتها هو استخدامها للنثر، على نحو بلغ من جودة الفن مبلغا عظيما استطاع أن يخلع على الحوادث الخيالية العجيبة رداء فيه شبه بالواقع، لكنها رغم هذه البراعة تترك في قارئها أثرا قويا بأن هذا الذي يقرؤه لا يتم له الكمال إلا إذا جرت به يراعة شاعر؛ لأنه يحس أن الكلام الذي يطالعه كأنما ينقصه الوزن والقافية!
وشهد القرن التاسع عشر قصصيا عظيما أعقب «سكت»، وواجه المشكلة القصصية التي واجهت سلفه - بل التي واجهت القصة طوال القرن التاسع عشر - وهي أن يشبع في قصصه الجانبين جميعا؛ جانب الواقع وجانب الخيال؛ وذلك هو «دكنز»، فليس من شك في أن «دكنز» يعالج بقصصه العالم الواقعي كما هو، فلا تفوته بيوت الفقراء واللصوص وصغار الدكاكين. قصصه مرآة للحياة كما تجري وكما تبصرها عيناه، لكنه إذا ما صور الشخصيات مال إلى المبالغة، فبعد عن الواقع وضرب في عالم الخيال بسهم. إنه لا يصور رجاله ونساءه كما يشاهدهم في الحياة الحقيقية في مجموعها، بل يصورهم في لحظات من حياتهم يختارها، ثم يمط تلك اللحظات ويمدها حتى يجعل منها حياة بأكملها. فهذه شخصية «مستر مكوبر» يمثلها لك تنتظر الفرج دائما، ولا ينقطع عنها الأمل في انفراج الضائقة التي تلم بها، وهذه شخصية «مارك تابلي»، لا تنفك باسمة عن قلب طيب وميل إلى فعل الخير، وهكذا، فشخصياته «خيالية» وظروف الحياة التي يقدمها «واقعية» - وهذا ما يقصده رجال النقد حين يقولون عن «دكنز» إنه يمثل شخصياته تمثيلا «كاريكاتوريا»، ولا يرسمهم رسما يطابق الحق والواقع. وقد كان «ثاكري»
Thackeray
أكثر إخلاصا للفن القصصي من زميله «دكنز»، فهو لا ينظر إلى الحياة والأشخاص بمنظار وردي، يلون له الأشياء والأحياء على غير طبائعهم، وهو في الوقت نفسه لا ينظر إلى العالم بمنظار أسود، يبدي له هؤلاء الناس أتعس وأخبث مما هم في حقيقة الأمر؛ فهو من ناحية لا يجد «بطولة» في الحياة البشرية العادية، ولا تقتضيه أن يدير قصته حول «بطل»؛ ولذلك ترى قصته «عبث الحياة الدنيا
Vanity Fair » خالية من البطل، لكنه من ناحية أخرى يصور لك في هذه القصة شخصية «بكي شارب»، فتاة واقعية حقيقية تتحرك في دنيا الحق والواقع، لا تزيد منه ولا تنقص، ومع كل هذا الميل الشديد الذي أبداه «ثاكري»، نحو تصوير الواقع كما هو، تراه ينحرف آنا بعد آن، في عالم من الخيال البعيد عن دنيا الواقع، على شرط ألا يقلل ذلك الانحراف الخيالي من واقعية قصته، فلا عجب إن قرأت «عبث الحياة الدنيا»، فوجدت مناظر مستمدة من الحكايات القديمة، عن طرائق القتال التي جرى بها في تلك الحكايات، عرف ثابت وتقليد لا يتغير، فلم تكن الحكاية القديمة لتعالج غير المعارك واحتشاد الجيوش للقتال، ورفرفة الأعلام في حومات الوغى ودوي المدافع، والغواني وقد جلسن على مسمع من ذلك الدوي يرقبن في قلق ما عسى أن تتمخض عنه الواقعة. وإلى هذه المادة بعينها كان يرجع كل كاتب يحن إلى حكاية الماضي، فهكذا فعل «بيرن» في قصته الشعرية «تشيلد هارلد»، وهكذا صنع «ثاكري» في قصته «عبث الحياة الدنيا»، حين أدخل فيها تلك المناظر حينا بعد حين، وبهذا مزج ثاكري عنصر الخيال القديم بعنصر الواقعية الحديث، لكنه - كما ذكرنا - لم يأذن قط لعنصر الخيال أن يطغى، بل إنه ما استخدم الخيال، إلا ليعينه على الروح الواقعي الذي أراد تصويره.
فترى من ذلك أن «ثاكري» لم يكد يوسع من نطاق القصة شيئا، وكل فضله عليها أنه ثبت لها عناصرها الواقعية، وأضاف إليها هذه القبسات الخيالية، التي تلمع بين صفحاتها آنا بعد آن. أما من وجه القصة توجيها جديدا تحتفظ فيه بواقعيتها، وتضيف إلى تلك الواقعية رحابا فسيحة من الخيال، فأخوات ثلاث: «إملي» و«شارلوت» و«آن»، وينسبن إلى أسرتهن «برونتي»؛ فقد جعلن موضوع القصة ما يألفه الناس جميعا من شئون الحياة، لكنهن يخترنه بحيث يصلح، مع ذلك، لأن يحتمل أغرب النواحي وأبعثها على الدهشة والعجب، فموضوع القصة عندهن هو العاطفة الإنسانية، لا كما تبدو في المدينة التي تزخر بأوجه الحضارة، بل في الريف وسهول الرعي التي تقف من المدينة عند هامشها، فهي متصلة بالحضارة منفصلة عنها في آن معا، تتصل بها اتصالا بعيدا لا يغمسها في لجتها، ولا يجعلها في عزلة تامة عنها. لقد اختار الشعراء في أوائل القرن التاسع عشر موضوعات لقصائدهم من الريف النائي؛ لكي يجدوا الطبيعة البشرية على صفائها ونقائها، ولكن الريف النائي عن ألوان الحضارة لا يصلح للقصة الواقعية، فتوسط «أخوات برونتي» بين الطرفين، ووقعن على حياة ريفية لا تتصل بحياة المدينة الصناعية اتصالا تاما، ولا تنفصل عنها انفصالا تاما. والعاطفة عند «أخوات برونتي» هي لب الحياة وصميمها؛ فهي من مقدمات الإنسان كائنا من كان، تكمن في كل منا ولا تنفك شديدة الصلة بنفوسنا، هي معنا في الدار والمصنع والملهى، فهي عنصر مألوف لا غرابة فيه ولا شذوذ، لكنها في الوقت نفسه قابلة للثوران العنيف، فتبدي فيه أعجب القوى. هذه العاطفة هي أهم جوانب الطبيعة البشرية غير العاقلة، والجانب غير العاقل من الإنسان، هو بذرة العنصر الخيالي في الحكاية القديمة، وهو ما كان أصحاب القصة في القرن التاسع عشر يحاولون أن يضعوه مع العنصر الواقعي جنبا إلى جنب. فالعاطفة - إذا - تستطيع أن تشبع رغبة الإنسان في الصورة الواقعية، ورغبته في فتنة الخيال سواء بسواء. وهكذا شق أخوات برونتي طريقا جديدا في تاريخ القصة ، إذ أدرنها حول العاطفة الإنسانية، ولهن قصص - منها «جين أير» و«مرتفعات وذرنج» - تبدأ في القصة عصرا جديدا. ولك أن تقول وأنت بمنجاة من الزلل، إن الشطر الأعظم من الأدب القصصي منذ أيامهن، مدين لقصص هؤلاء الأخوات بما فيه من قوة العاطفة.
ولسنا بالطبع نعني أن العواطف البشرية، لم تدخل القصة إلا على أيدي أخوات برونتي، فنحن نعلم أنه حيثما كان إنسان كانت عاطفة بشرية، أما ما صنعنه في القصة، ولم يكن قبلهن معروفا ولا محققا، فهو مقدار ما يكمن في عاطفة الشخص العادي، من قوة وقدرة على الخيال والسحر. ولم تكن الغضبات العاطفية قبل هؤلاء الكاتبات، تتجلى إلا في الشواذ، ولكنهن جئن فبين هذه القوة في أوساط الناس وعامتهم. نعم كانت العاطفة قبلهن أداة يستغلها القصصيون؛ فمعظم القصص يدور حول الحب، ولكن ذلك لا ينفي ما زعمناه لهن من مكانة؛ لأن الكثرة العظمى ممن جاء قبلهن، عالج عاطفة الحب في وجهها العاطفي الخيالي، وعالجها الآخرون من حيث هي عنصر في بناء الأسرة، أي أنهم عالجوها من جانبها الواقعي، فكاد أخوات برونتي أن يكن أول من وحد بين هذين الجانبين، فعالجن عاطفة الحب من وجهيها الخيالي والواقعي في آن معا، فضلا عن أنهن تناولن ألوانا أخرى من العواطف البشرية، فأظهرن ما لها من قوة توجه الإنسان في حياته.
وسنختم هذا الفصل بكلمة نوضح بها ما نريده بلفظة «الواقعية» التي طال ترديدها، لا سيما وقد فسرت جماعة من قادة الأدب القصصي في عصرنا الحاضر هذه الكلمة تفسيرا عجيبا، فراحوا يحشدون حوادث القصة في خلط وفوضى، لتجيء قصتهم مطابقة للحياة؛ لأن حوادث الحياة لا تسير على نظام معلوم، تراهم لا يجعلون لقصتهم بداية ولا نهاية؛ لأن الحياة لا تبدأ عند نقطة وتنتهي عند أخرى، ولا بد لهم أن يصوروا الواقع في قصصهم ما داموا يؤمنون بالواقعية، فيضعون حقيقة في إثر حقيقة، لا تربطهما صلة؛ لأن حقائق الحياة تتتابع على هذا النحو بغير صلة لازمة بين السابقة واللاحقة. ومن هذا القبيل أيضا ما يتجه إليه بعض رجال القصة المعاصرين ، من سوق حكايات قصيرة متعاقبة، أو محادثات متقطعة تفصل بينها الفواصل، وقد بلغ هذا الاتجاه الجديد في القصة، أبلغ مداه عند «جويس»
Joyce
و«مس رتشردسن»، فتراهما يخرجان القصة في خلط عجيب، زاعمين أنهما يصوران الحياة تصويرا واقعيا. والحقيقة أننا نطالب كاتب القصة بأن يترك في نفوسنا، بقصته أثرا نحس معه واقعية الحياة، لكن ذلك لا يعني أن يترك فينا هذا الأثر، على نفس الصورة التي تتركه بها الحياة نفسها؛ ففي القصة يجب أن يتلقى القارئ هذا الأثر، وهو شاعر به مدرك له، أما في الحياة نفسها بما فيها من اضطراب في تتابع للحوادث، ومجال للمصادفة العمياء في سيرها، فإننا لا نحس الأشياء، إلا إحساسا غامضا مهوشا مضطربا، ونشعر بها شعورا ناقصا، وندركها إدراكا ليس فيه كل الوعي لصفاتها وخصائصها، كأننا نتلقاها ونحن غافلون. وواجب القصة أن تقدم لنا هذه الأشياء، على صورة تشعرنا بها شعورا كاملا قويا، واجب القصصي أن يخلق من فوضى الحياة نظاما متسقا في قصته، وإن ما نسميه بالحبكة القصصية، ما هو إلا عملية اختيار وتقديم وتأخير للحوادث، فالقصصي يختار الحوادث الصالحة، ويضع هذه قبل تلك وتلك قبل هذه، بحيث يجيء السياق والتتابع موفيا بالغرض المقصود. ولو خلت القصة من «الحبكة» لم تعد قصة فنية، ولو كان لنا أن نختم هذا الفصل بنصح نسديه للقارئ، فذاك أن نوصيه بقراءة قصة إنجليزية حديثة لجولز ورذي، عنوانها «فورسايت ساجا»
Forsyte Sega ، وهي تدور كلها حول أسرة تسمى بهذا الاسم، تصف حياتها وتصور أشخاصها، ففي هذه القصة تتمثل كل عناصر القصة الفنية، التي أشرنا إليها فيما سلف.
الفصل الخامس
الرواية المسرحية
الرواية المسرحية كالقصة؛ ضرب من ضروب الأدب، لأن الألفاظ وسيلتها إلى التصوير، لكن ظروف الألفاظ في الرواية المسرحية تختلف عنها في القصة، وأول ما يلمحه النظر بينهما من فروق، هو أن المسرحية تكتب لتمثل، وأما القصة فتكتب لتقرأ، أو بعبارة أخرى، المسرحية والقصة كلتاهما تمثلان «أفعالا»، لكن الأفعال التي تصلح الرواية المسرحية لتصويرها، تختلف عن الأفعال التي تصلح لها القصة؛ ذلك لأن لكل فن مجاله، الذي تتجلى فيه قدرته وروعته، فما الذي تتميز به المسرحية من سائر فنون الأدب؟ ما خامتها وما مداها في قوة التعبير؟
أما طابعها المميز فهو بغير شك أنها أدب يراد به التمثيل، لكن التمثيل متعدد العناصر، فيه الممثلون وفيه الملابس، وفيه المسرح، وفيه المناظر، وفيه النظارة وفيه البناء الذي يجتمع فيه النظارة ليشاهدوه، فكل هؤلاء عناصر تتكون من مجموعها الخامة التي تتألف منها المسرحية، فإذا ما تضافرت هذه العناصر كلها في اتساق وانسجام، كان لنا بذلك نتاج فني من الطراز الأول، وعلامة المسرحية الرديئة أن ترى هذه العناصر متنافرة، يضرب كل منها على وتر غير ما يضرب عليه الآخر، أو بعبارة أخرى يفصح كل منها عن قوته المعبرة مستقلا عن سواه، وتلك هي الحال حين تأخذ صورة جديدة من المسرحية في التكون، فعندئذ تكون هذه العناصر في تنافرها، وكلما سارت الصورة الفنية الجديدة خطوة في مجرى تطورها، تحللت العناصر وتداخل بعضها في بعض، بحيث يتكون منها في النهاية صوت واحد متناغم النبرات، وهنا يتكامل للمسرحية الجديدة تكوينها، والفنان البارع هو الذي أرهف حسه لعناصر فنه، بحيث يدرك من فوره كيف يستطيع أن يستغل تلك العناصر إلى أقصى مداها. وأما من لم يهبه الله ملكة الفن الصحيح، فيعمى عن القوة الكامنة في عناصر فنه، ومن ثم لا يسعه استغلالها وإخراجها، فيجيء إنتاجه خلقا شائها ناقص التكوين مبتور الأعضاء. ولعلك تذكر حديث المقطوعة الأربع عشرية، وكيف تطورت هذه المقطوعة في الأدب الإنجليزي، وكيف كان الشعراء الإنجليز بادئ الأمر يحسون رغبة غامضة، ولا يجدون لها التعبير الملائم، حتى قيض الله لعبقري أن يحس الرغبة عينها، وأن يعبر عنها في هذه المقطوعة بأوزانها وقوافيها، تعبيرا تنفث فيه النفس كل ما يجيش بها، فتبعه الشعراء جميعا، وهكذا توجد العناصر اللازمة، وتظل متنافرة فيكون النقص والعجز، حتى إذا ما أتيح لها من يوفق بينها ويضعها في مواضعها الصحيحة، بحيث تتفق وتتسق كان لها الكمال، وهذا ما يحدث في كل خلق فني جديد .
الصورة الفنية الجديدة تنشأ من ائتلاف عناصر، كانت قبل مختلفة ثم اتصلت في توافق وانسجام، لكنها لا تكون عند مولدها حاصل جمع عناصرها ومقوماتها، إنما تتخذ لها طبيعة جديدة وحياة جيدة، ويكون لها كيان عضوي جديد وقدرة جديدة على التعبير. وإنك لتسلب الشعر قيمته الكبرى إذا فاتك أن ترى هذا الطابع الذي يميزه. ونحن نعلم أن من أخطر النتائج التي قد تترتب على طرائق النقد والتقدير التي قدمناها، أنها قد تنسيك هذا الطابع، فقد تحلل القصيدة إلى عناصرها، وتخطئ فتظن أنه يكفي أن تضم العناصر بعضها إلى بعض؛ لتكون لك قصيدة الشاعر، لكن الأمر في القصيدة كالأمر في الكائنات الحية جميعا، فقد يظفر العالم بكل مقومات الحشرة أو الزهرة أو الإنسان، لكنه مع ذلك يعجز أن يصبها في حشرة حية أو زهرة نامية أو إنسان يعيش يشعر ويفكر، ولا يستطيع أن يأتي بهذه المعجزة إلا الشاعر. إن القصيدة من الشعر كالمركب الآلي فيه عجلات وتروس وأذرعة وأنابيب، ثم أضيف إلى هذه الأجزاء روح فكانت القصيدة، لكن الشاعر وحده يستطيع أن يدرك أي مركب آلي يصلح لقصيدته، على أن المركب الذي يختاره الشاعر يعود بدوره فيؤثر في عمله. ولو رأيتنا اليوم نتحدث عن أدوات الشعر كالأوزان والبحور والقوافي وما إلى ذلك، فاعلم علم اليقين أنه ما كان لنا أن ندرك لهذه الأشياء وجودا لو لم يخلقها الشعراء. وإن النقاد ليحسنون صنعا - إذ هم يقتتلون في بحور الشعر وما إليها - أن يذكروا أن بحور الشعر هي صنيعة الشعراء، هي ما يجري فيه الشعراء شعرهم بالفعل، لا ما يقرر أصحاب النظريات النقدية أنه يصلح للشعر، وينبغي أن يكون أداة في يد الشاعر. ولنعد بعد هذا الاستطراد الواجب إلى حديثنا في الرواية المسرحية.
الطابع الذي يميز الرواية المسرحية من سائر الفنون الأدبية أنها أدب يمثل، أي أنها أدب ينطق به الممثلون على مسرح، فيه مناظر على جوانبه، وأمامه نظارة يجلسون في بناء على نحو معين، ولا بد لنا أن نتساءل عن القوة المعبرة في هذه العناصر، بحكم تكوينها وطبيعتها، فمن تلك القوة المعبرة الكامنة فيها جميعا تتكون الرواية المسرحية.
الرواية المسرحية تمثل في مسرح ليشهدها نظارة، والنظارة ناس كسائر الناس من رجال ونساء، جاءوا في وقت معين ليرجعوا في وقت معين، فلا مندوحة للرواية أن تحدد الزمن الذي يلزمها، للتعبير عما تريد أن تعبر عنه، ومن ثم نشأت ضرورة في إنشاء الرواية المسرحية، أن يختار كاتبها من الفعل الذي يريد تمثيله، أعقابه التي تحرك الدهشة والعجب في نفوس المشاهدين، وليس له أن يصور الفعل بكل دقائقه المفصلة وأجزائه المعقدة المركبة المتشعبة، التي تقع في الحياة الحقيقية الجارية، وترتب على ذلك أيضا إيثار الرواية المسرحية لأنواع من الحوادث، تضم كل واحدة منها أكبر ما يمكن ضمه من العناصر المثيرة، حتى يتركز في الزمن القصير المحدد لتمثيلها مقدار كبير من الحوادث التي تستوقف النظر. وليس معنى ذلك بالطبع أنه كلما ازداد الفعل المختار إثارة للنفوس، ازدادت الرواية روعة وجودة في فنها، فليس كل مقومات الرواية المسرحية فعلا مثيرا، إنما هي كائن عضوي مركب فيه مئات الألياف والأنسجة والخلايا، ولكل من هذه العناصر الكثيرة خصائصه، ولا تبلغ الرواية مرتبة الكمال إلا إن جاءت هذه الأجزاء كلها متسقة متفقة متناغمة، لا تنافر بين نغماتها ولا نشاز، فإن أبرز عنصر واحد منها في إفراطه - بغض النظر عما تقتضيه سائر العناصر - فقد يحدث التعارض والتضارب، ومن ثم الاضطراب والنقص والسوء، فربما كان الغلو في اختيار الحوادث المثيرة طاغيا على عنصر آخر، كالممثل مثلا، فلا يمكنه من إخراج كل ما يستطيع إخراجه من قوته. ونعود فنقرر أن الرواية المسرحية تزداد كمالا، كلما زال التنافر بين العناصر المكونة لها، فلا يطغى عنصر منها على عنصر، وتتحد خيوطها جميعا في وتر واحد يخرج نغمة واحدة. خذ مثلا روايتي شيكسبير «تيتس أندرونكس» و«رتشرد الثالث»، تجد الأولى بغير شك أكثر ازدحاما بالحوادث المثيرة من الثانية، ولكنها في الوقت الذي أذنت فيه لعنصر من عناصرها أن يبرز قوته على هذا النحو، حدت من قوة عنصر آخر، فالممثل الذي يمثل «تيتس» يوضح بأعماله كيف يمكن لرجل أن يؤثر في مجرى الحوادث بقوته الجسدية العضلية، مع أنه لو بين إلى جانب ذلك كيف يؤثر في مجرى الحوادث، بقوة أخلاقه وقوة فكره، لحقق الشخصية الإنسانية أكثر مما فعل، وهذا ما قصدناه حين قلنا إن كثرة الحوادث المثيرة في الرواية، قد طغت على عنصر الممثل، فلم تسمح له أن يبرز كل ما يستطيع، وبهذا بعدت الرواية عن الكمال. أما «رتشرد الثالث» فقد أزالت هذا التنافر بين العنصرين: عنصر الحوادث، وعنصر الممثل؛ فجاءت أكمل فنا من زميلتها، إذ هي تمثل الحوادث والشخصية الإنسانية في اتزان بحيث لا يطغى جانب منهما على جانب. ونلخص ما نريده فنقول: إن الرواية المسرحية تتبع قانونها الذاتي وتنساق مع طبيعتها، إذا أباحت لنفسها أن تختار من الحوادث ما يدهش ويثير، على شرط ألا يكون في تصوير الفعل على هذا النحو ما يحد قوة أخرى لعنصر آخر من عناصرها، تستطيع أيضا استغلالها وإبرازها.
ونحن إذ نضع الممثل في اعتبارنا عنصرا أساسيا من عناصر الرواية المسرحية، نتساءل: ما دامت الرواية كغيرها من صور الأدب، لها مجالها الخاص وقوتها الخاصة في تمثيل الفعل، فأي نوع من الفعل يصلح لها أكثر من غيره - مع العلم بأنها تستخدم إنسانا بشريا وسيلة لتمثيل فعلها؟ الأمر واضح جلي، فالممثل - وهو إنسان من البشر - يكون في أحسن حالاته ومواقفه إن مثل فعلا إنسانيا مما يأتيه البشر، فالأفعال الإنسانية هي مجال الرواية المسرحية، وعليها أن تتجنب غير ذلك من الأفعال الخوارق التي تقتضي طبيعة غير طبائع البشر، فليس من شأنها أن تمثل فعل القوى الطبيعية، ولا فعل الحيوان والطير. نعم لها أن تحدث - إذا اقتضى الأمر - رعدا «مسرحيا» أو تيارا من الماء جارفا، لكن إن غالت في ذلك بحيث لم تعد هذه الظواهر الطبيعية عنصرا ثانويا، يساعد على اتساق الرواية في مجموعها وحدة متصلة؛ أقول إن غالت الرواية في تصوير هذه الظواهر الطبيعية، فجعلتها عنصرا أساسيا مقصودا لذاته ، فقد خرجت على حدودها الطبيعية من جهة، وأذنت لعنصر واحد أن يطغى على سائر العناصر من جهة أخرى. وكذلك لا يجوز للمسرحية أن تمثل فعل الطير والحيوان. وقد ترى روايات يقوم بأدوارها طير وحيوان، ولكن ذلك لا يهدم القاعدة ولا يشكك في صحتها؛ لأن الطير والحيوان في أمثال هذه الروايات تمثل الآدميين وأفعالهم بطريقة الرمز. ثم هل للرواية المسرحية أن تدخل عنصرا روحانيا بين عناصرها؟ هل لها أن تقبل بين عناصرها أربابا وأشباحا وجنيات وساحرات؟ الجواب بالإيجاب على شرط أن تعامل - كالطير والحيوان - معاملة الآدميين خلقا وسلوكا، ومع ذلك فالذوق المسرحي الحديث ينفر من أمثال هذه الخوارق ولا يستسيغها. وكم يعاني المخرج الحديث في روايات شيكسبير، حين يخرج له الشبح في «هاملت» أو في «ماكبث». ولقد كانت هذه الأشباح - فيما يظهر - أيسر تناولا في عصر شيكسبير، بل في عصر اليونان الأقدمين، ولنا إلى ذلك عودة.
الفعل الإنساني - إذا - هو مجال الرواية المسرحية، لكنه الفعل الإنساني ممثلا وظاهرا في سلوك مرئي مشهود. ونقول ذلك لأنك قد تجد من المسرحيات ما يقل فيه الفعل الجسدي المنظور قلة تلفت النظر، ويكثر فيها الكلام، ولو أن كثرة الكلام في المسرحية وقلة العمل، لا تخرجها عن حدودها الطبيعية؛ لأن الكلام ضرب من الفعل الإنساني على كل حال، لكن حصر الفعل البدني في دائرة ضيقة يعرض فن الرواية لخطر عظيم، وهو أن يفقدها قوة كامنة في أحد عناصرها، وبذلك يضيع التوازن واستغلال العناصر إلى أقصى حد مستطاع، فلا تتوفر فيها شروط الجودة والكمال. وكم من مسرحية قضي عليها بالإفلاس والفشل؛ لكثرة القول فيها وقلة العمل، وفي رواية «شو»: «الإنسان والإنسان الأعلى» منظر لا فعل فيه ولا حركة، فيوشك المخرجون جميعا أن يسقطوه حين يهيئون الرواية للتمثيل، ومع ذلك فالمسرحية الحديثة أميل من سابقتها إلى الحد من الفعل الجسدي فوق المسرح، وذلك بحكم الرغبة - التي أخذت تشيع - في أن تنحصر مناظر الرواية في أمكنة مسقوفة، أعني أن تمثل الرواية من الأفعال ما يمكن حدوثه داخل الدور، وتهمل منها ما يقتضي السهول الطلقة والعراء المكشوف، وفي هذا بالطبع تحديد شديد لما يمكن تمثيله، فلا معارك ولا جماهير محتشدة ولا حقول ولا غابات، إلى آخر هذه الأشياء التي لا تقع بين الجدران. ولنا كذلك إلى هذا الموضوع عودة.
كمال الرواية المسرحية - كما رأينا - في تمثيلها للفعل الإنساني، وذلك راجع قبل كل شيء إلى وجود الممثل - وهو إنسان - بين عناصرها التي تكون خامتها، لكن الممثل لا يقف وحده فردا قائما بذاته، إنما تحيط به جماعة من الناس هو عضو من أعضائها، فماذا تستفيده المسرحية من هذا العنصر الجديد؟ أتراه يضيف إلى قوتها المعبرة قوة جديدة؟ وازن في ذلك بين المسرحية والقصيدة الغنائية، فالشاعر الغنائي إذا ما انطلق يتغنى بشعره، فهو إنما يحصر غناءه في نفسه ويسمو بوجوده الذاتي، حتى يبلغ أوجا يطلق فيه نفسه من قيودها لتخرج مكنونها، فهو يضع نفسه في عالم خيالي لا يقيم في وجهه الحوائل والحواجز، عالم يخلقه بخياله يسود فيه سيادة مطلقة، فيستطيع أن يقول في نفسه ما يشاء، عالم من خلاء لا يسكنه سواه، فلا اهتمام إلا بشخصه، وليس لشيء غير شخصه وزن ولا قيمة، وإن كان لشيء قيمة ووزن؛ فلأنه يتصل بشخصه ويكتسب وجوده من وجوده. أما في الرواية المسرحية فالممثل يعبر عن نفسه في عالم مأهول، فتراه في هذا العالم يفعل فيكون لفعله رد فعل في سواه، أو يفعل سواه فيكون لفعلهم رد فعل فيه. هو في عالم أرضي يتفاعل فيه مع غيره، يؤثر في الناس ويتأثر بهم. وإذا فالرواية المسرحية الكاملة هي التي تضع شبكة الأفعال وردود الأفعال في صورة طبيعية تتفق مع جماعة إنسانية. الرواية الجيدة لا تمثل الفعل الإنساني في خلاء بل تمثله في مجتمع، ولا تمثله على المريخ بل فوق هذا الكوكب الأرضي، وفي هذه الحياة الدنيا. الرواية الجيدة تمثل الفعل الإنساني من جانبه الاجتماعي، لا من جانبه الفردي كما تفعل القصيدة الغنائية، هي تصور لنا الأفراد وحدات من مجتمع، لا أفرادا استقلوا بوجودهم.
هذه الصفة الاجتماعية التي تكون جزءا أساسيا من طبيعة الرواية المسرحية، هي التي تفسر لنا كثيرا من الظواهر الغربية في تاريخ المسرحية الحديثة، فكيف حدث - مثلا - للمسرحية الحديثة ألا تكتفي بتخصيص شطر عظيم من مجالها واهتمامها للنشاط الاجتماعي، وأن تغالي فتجعل من نفسها ميدانا للبحث الاجتماعي وعرض نظريات الاجتماع؟ لماذا نجعل بين روايات العصر الحديث عددا ضخما لا يدور إلا حول محور واحد، هو شرح مشكلة اجتماعية أو علاج لمرض اجتماعي؟ انظر إلى «شو» و«جولز ورذي» و«باركر» من أدباء المسرحية في العصر الحديث، تجدهم قد دفعوا أدبهم المسرحي في الاتجاه الاجتماعي إلى نهايته، فأصبحت الرواية المسرحية تفوق كل ضروب الفن الأخرى في تصوير وجهة النظر الاجتماعية وتمثيلها. أتظنها مصادفة عرضية عابرة أن ينتج أحسن الروايات المسرحية من «إبسن» إلى يومنا هذا رجال يعتنقون الاشتراكية مذهبا اجتماعيا؟ ثم كيف نعلل خلو الأدب الإنجليزي من الإنتاج المسرحي فترة طالت، فامتدت من عهد «شردان» و«جولد سمث» في منتصف القرن الثامن عشر، بحيث لم تستيقظ من رقادها إلا في ختام القرن التاسع عشر؟ لن نقول إنه عصر ضعف فيه الأدب وعز فيه الأدباء الفحول، فحسبه خصوبة وغزارة أن يكون بين رجاله «وردزورث» و«كولردج» و«شلي» و«كيتس» و«تنسن» و«براوننج». لبثت الرواية المسرحية خامدة في الأدب الإنجليزي ما يزيد على قرن كامل، حتى أيقظها كاتب مسرحي من النرويج هو «إبسن»، أفلا تكون هناك علاقة بين النزعة الفردية القوية، التي تملكت النفوس طوال تلك السنين، وبين موات الأدب المسرحي؟ أليس لنا أن نقول إنه لا رجاء في أدب مسرحي قوي، إلا إذا شاع في الناس شعور اجتماعي، يحس معه الفرد أنه لا يتحرك في خلاء، إنما يحيا في عالم مأهول يؤثر فيه ويتأثر به؟ لقد أنشأ «بيرن» في فترة الجدب المسرحي كثيرا من الروايات، لكنها فشلت جميعا؛ لأنه لم يستطع أن يجاوز حدود نفسه إلى سواه، وكذلك كتب «براوننج» الروايات، ولكنها فشلت أيضا لأنها لا توضح أثر أشخاصها بعضهم في بعض. عني «براوننج» في مسرحياته بالفرد، حتى لقد أطلق عليها «مسرحيات وجدانية»، فجاءت أبعد ما تكون المسرحيات عن كمالها الفني، باعتبار نوعها لا باعتبار شعرها.
الرواية المسرحية إذا محتوم عليها - بحكم طبيعتها - أن تمثل فعلا إنسانيا، فعلا من شأنه أن يقع من الرجال والنساء في هذه الحياة، لكنها تنظر إلى الفعل يأتيه الفرد من حيث علاقته بالأفعال يأتيها سائر الأفراد، أو بعبارة أخرى تنظر إلى الأفعال وردودها، تنظر إلى الفعل من جانب اجتماعي، وقد يكون بين الفعل ورد الفعل صنوف من الروابط والعلاقات، لا تقع تحت الحصر والتحديد، ولكنا نستطيع أن نجمع العلائق التي تصل فردين أو جماعتين، تحت نوعين رئيسيين، فهي إما علاقة ود أو نفور، وللرواية المسرحية أن تختار ما شاءت من النوعين، لكنها توشك ألا تختار منهما إلا نوعا واحدا، هو ذلك الذي فيه عداوة ونفور؛ ذلك لأن الرواية تمثل ليشهدها نظارة في مسرح، وهذه الحقيقة قد مالت بالأدب المسرحي - كما رأينا - نحو الحوادث المثيرة والأفعال، التي تبعث الدهشة في النفوس، ولا شك أن العداوة بين الناس أبعث على الدهشة من التغني بأناشيد السلام. إن العين تجذبها المعركة تنشب بين رجلين أكثر مما يستوقفها الرجلان يتصافحان في ود وصفاء، إلا إن كانت المصافحة مقدمة للقتال، أو ممهدة لصداقة بعد قتال! ومن ثم كان موضوع المسرحية المفضل المختار أفعال الفرد التي تصطدم مع أفعال الآخرين. وكل حبكة مسرحية هي في حقيقة الأمر مصطرع فيه تضارب وصدام، وأغلظ أنواع الصراع هو بالطبع ما اشتجر فيه المتقاتلان بالأكتف ضربا وصفعا، وقد يتخذ الصراع صورة أعلى، فينافس بطل الرواية نذلها منافسة تنتهي بنصره وفوزه بالجزاء، والجزاء امرأة، تلك هي الحبكة التي لا تكاد تتغير فيما يسمى «بالميلودرامة»، والميلودرامة مسرحية ترمي إلى تحريك الانفعالات الشديدة في نفوس المشاهدين، ثم تنتهي بخاتمة سعيدة، وقد كانت فيما مضى تتخللها الأغاني، لكن الأغاني لم تعد شرطا لها. ولما كان الصراع فيها بين البطل والنذل محور الحوادث، كانت ميدانا صالحا لتمثيل الفعل الجسدي، وبهذا اتصفت بأخص خصائص المسرحية الجديدة، لكنها معيبة من ناحية أخرى، وهي أنها لا تتعمق في الحوادث والأشخاص، فلا تمكن الفن المسرحي أن يستغل كل قوته المعبرة الكامنة في طبيعته؛ إذ لا تتيح للممثل أن يعرض الإنسان في تعقده وتشعبه، كما ينبغي له أن يعرض، لكن الكاتب المسرحي متأثر بكثير من العوامل، التي تحدد له نوع الصراع الذي يختاره موضوعا لروايته.
فمن هذه العوامل الكثيرة التي تسير الكاتب المسرحي في فنه، وتضطره اضطرارا أن يتخذ لنفسه طريقا معينا، أنه يريد أن يشكل الحوادث التي تقع خلال ساعتين، تشكيلا يوحد بينها ويكسبها قوة وشدة وقع في نفوس نظارته، فهو ملزم بالضرورة أن ينصرف بأكثر عنايته إلى البطل، فيوليه اهتماما لا يظفر بمثله سائر أشخاص الرواية، وبذلك يرسخ البطل في أذهان المشاهدين أكثر من سواه، ولكن لا بد لهذا البطل أن يصطرع ويختصم، وأن يكون الصراع وأن تكون الخصومة مع ند وقرين، فماذا يصنع الكاتب وكل أشخاص الرواية أدنى منه شأنا وأقل قوة وخطرا؟ إذا فليثر معركة بينه وبين جماعة، أو قل بينه وبين طائفة اجتماعية، أو بينه وبين تقاليد المجتمع وعقائده، وقد يؤدي ذلك إلى انتقال ميدان الصراع من الدنيا الخارجية إلى العالم الباطني، إلى دخيلة نفسه، فيكون موضوع الرواية صداما بين البطل ونفسه، بين نوازعه المختلفة ودوافعه المتعارضة، بين واجبه الوطني وولائه لأسرته - مثلا - أو بين الحب والواجب أو بين نداء العقل ونداء القلب وهكذا. في مثل هذه الحالة نرى البطل، وكأنما تمزقه النوازع المختلفة والدوافع المتعارضة تمزيقا مخيفا، ويترتب على ذلك أن يجعل الكاتب المسرحي لهذه العوامل الباطنية الماثلة، قوة أعنف مما يجعل للفرد الذي يحتويها، وتلك ناحية سنعود إليها بعد حين، وحسبنا أن نقول إن مثل هذه المسرحية تمثل فعلا لا يقع في صميم المجال المسرحي، وإذا فهو فعل لا يمكن للمسرحية أن تبلغ فيه حد الكمال؛ لأنه خارج عن طبيعتها، أو قل إنه فعل لا يستغل كل عناصر الرواية المسرحية، فهو يهمل المسرح ولا يستخرج منه كل ما يمكن أن يستخرجه من قوة تضيف إلى قوة التعبير.
الفعل الذي يمثل المسرح هو فعل إنسان، قد تضارب وتعارض مع أفعال سائر الناس، ولكن أي صراع يناسب التمثيل المسرحي؟ ستقول: هو الصراع الذي يقتضيه الجو الذي تقع فيه الحوادث. فأي المناظر وأي الجواء يكون المسرح على أكمل مراتبه وهو يمثلها؟ لقد رأينا أن المسرح بمثابة الميدان، يلتقي عليه الممثلون فيتفاعلون، كما يلتقي الناس في الحياة الواقعة، فهو وسط اجتماعي لا يكون فيه الفرد قائما بذاته، لكننا نعود فنقول إن الحياة الاجتماعية التي تربط الأواصر بين الفرد وغيره صنوف وأشكال، فقد تكون «الجماعة» أسرة، وقد تتدرج في الكبر والاتساع فتكون جمعية أو قرية أو حزبا سياسيا، أو سكان هذه الأرض كلها، أو كل ما يعمر الكون من أرواح، فهل يلائم الرواية المسرحية جماعة من هذه الجماعات دون أخرى؟
مما ينفعنا في الإجابة عن هذا السؤال أن ننظر إلى المسرح ومناظره، فهما عامل قوي يوجه الرواية المسرحية إلى خير جماعة تختارها موضوعا لتمثيلها، فافرض أنك في مسرح في مدينة القاهرة، تمثل عليه رواية تقع حوادثها في غرفة الاستقبال من منزل في لندن، فماذا تتوقع أن ترى؟ تتوقع أن ترى مناضد ومقاعد وما إليها، مما يصح أن يكون في غرفة الاستقبال من بيت إنجليزي، وعلى الرغم من يقينك بأن هذه المناضد والمقاعد التي تشاهدها على المسرح، لم تكن قط في بيت في لندن، فأنت توقن كذلك أنها تماثلها وتحاكيها، وإذا فالمسرح يحاول أن يكون بين أشيائه وبين الأشياء التي يمثلها شبه كالذي بين الأصل وصورته، أو بعبارة أخرى، يميل المسرح، بما عليه من أشياء، أن يكون واقعيا يصور الحقيقة كما هي، ثم تجيء المناظر المرسومة والستائر فتزيد من هذه النزعة الواقعية. وتاريخ المسرح من أوله إلى آخره، يتلخص في جهاده المتصل أن يقرب من تصوير الواقع جهد المستطاع، فتراه يصطنع الوسيلة إثر الوسيلة، مما يدنو به من هذه الواقعية المنشودة. وقد حقق المسرح ما ينشده من تصوير الواقع، تحقيقا بلغ أقصى مداه في المناظر، التي تمثل البيئة الاجتماعية المباشرة كالمنازل والشوارع، وبواطن الدور والمباني، كتصويره لغرف البيوت أو الفنادق، وللمكاتب والمتاجر، وقد ساعده على النجاح في تمثيل هذه الأماكن المغلقة، أنه بحكم هندسته يشبه الغرفة أو المكتب، أو المتجر بجدرانه الثلاثة التي يقع عليها بصر الرائي.
نتج عن هذا كله ميل طبيعي في المسرح نحو الواقعية فيما يمثله، أضف إلى ذلك ميل المسرحية بطبيعتها أن تعالج الشئون الاجتماعية، أعني شئون الإنسان باعتباره عضوا في جماعة، وأن تكون هذه الجماعة واقعة ملموسة كالأسرة، أو المدينة، أو القرية، أو الطائفة التي ينتمي إليها الفرد، وما إلى ذلك، فتصور المسرحية ما يقع من صدام بين الفرد وتقاليد الأسرة، كأن تمثله وقد أفلت من والديه ليؤسس أسرة لنفسه، أو تمثله وقد أراد أن يظفر بزوجة رجل آخر وما شابه ذلك. وكذلك تصور المسرحية ما يقع من صدام بين الفرد وطائفته التي ينتمي إليها، أو جماعته التي هو عضو فيها، كأن تمثله يعمل حيث تقضي التقاليد الدينية أن يقف العمل، أو تمثله صاخبا بالحديث في حجرة المطالعة العامة، حيث القراء يريدون الصمت، أو يلبس الجلباب حيث يجب أن يلبس غيره، أو يخلع الطربوش في وقت لا بد فيه أن يلبسه وهكذا. هذه أمثلة قليلة من الخلاف الذي يقع بين الفرد وما يحيط به من أفراد المجتمع، في منزله أو في ناديه أو في مكان عمله. وصفوة القول أن المسرح يعمل على تمثيل الحياة كما تبدو، ولاحظ أن هناك فرقا بين الحياة كما تبدو للعين وبينها على حقيقتها، والمسرح يهتم بها كما تتراءى وتبدو بغض النظر عن حقيقتها، هو يأخذ الأشياء بظواهرها لا بحقائقها الكامنة وراء تلك الظواهر، أي أنه يصور الحياة من السطح لا من الأغوار والأعماق، فهو مثلا يمثل السلوك الظاهر، ولا شأن له بمبادئ الأخلاق الكامنة وراء هذا السلوك، ويقف عند تقاليد المجتمع وأوضاعه، ولا يأبه بمشكلات الكون الكبرى. وبعبارة أخرى فإن المسرحية ملزمة - بحكم استخدامها للمسرح وأدواته - أن تتجه اتجاها واقعيا، وإن هذه الواقعية لتزداد شيئا فشيئا، كلما سارت المسرحية في طريق التطور، وكلما ازدادت في تطورها وواقعيتها، تبع ذلك ازدياد في ميلها إلى الملاهي دون المآسي، فالسير في طريق الواقعية يوازيه حتما رجحان الملهاة على المأساة، وذلك ما وقع فعلا في تاريخ الرواية المسرحية، فالكثرة العظمى مما يخرجه أدباؤنا اليوم من المسرحيات ملاه. وارجع ببصرك إلى بدء الرواية المسرحية في تاريخ الآداب الأوروبية، تجد للمأساة الرجحان، ثم تعادلتا أيام النهضة الأوروبية، ثم أخذت الملهاة تطغى على زميلتها وتسود. ومن الخطل أن نعلل هذه الظاهرة بأننا اليوم أقل جدا وأكثر هزلا من أسلافنا، والتعليل الصحيح إنما يلتمس في طبيعة المسرحية ذاتها. فهذا التحول نتيجة لا مندوحة عنها لما طرأ على المسرحية من تغير، وبخاصة صناعة المسرح نفسه وإعداده بأدواته.
وتتضح العلاقة بين الملهاة والواقعية، إذا عرفنا الفروق بين الملهاة والمأساة، فقد رأينا فيما سلف أن الرواية المسرحية تمثل صراعا، والصراع إما أن ينتهي بالنصر أو بالفشل (لأن التعادل الذي لا هو إلى النصر ولا هو إلى الفشل، ليس نهاية لموضوع الخلاف، بل هو تسويف وإرجاء لصراع آخر). فأما المسرحية التي تنتهي بفوز البطل - والفوز عادة ظفر بزواج امرأة يحبها - فملهاة، وأما التي تنتهي بفشله - والفشل عادة يقتضي موته - فمأساة. على أن العبرة ليست بالنهاية وحدها، وإلا لكانت المأساة والملهاة كلتاهما سواء في سائر الأجزاء، حتى الفصل الذي يسبق الأخير، فإن كان الفصل الأخير فوزا للبطل كانت ملهاة، وإن كان فيه قضاؤه كانت مأساة. فالخاتمة في الحقيقة نتيجة لازمة للفصول السابقة كلها، وفيها العقاب أو الثواب الذي يترتب على سلوك البطل في مجرى الرواية كلها، ولو أراد المسرحي لبطل الرواية أن يموت في نهايتها، فحتم عليه أن يرتب الحوادث ترتيبا محكما، بحيث يجيء الموت نتيجة طبيعية، لا تثير العجب والاستنكار.
ماذا يحدث إذ نقصد إلى المسرح لنشاهد فيه مأساة؟ إننا ندفع أجرا لقاء «متعة»، نرقبها من رؤية منظر فيه الأسى وفيه الموت! ترى أيكون ذلك منا حمقا لا يبرره العقل السليم؟ لننظر إلى الأمر عن كثب، نحن ندفع أجر الدخول، ونستوي في مقاعدنا، ويرفع الستار ويقدم لنا المسرحي بطل الرواية، رجلا ليس لنا به صلة كائنة ما كانت، لكن المسرحي سرعان ما يستميلنا بفنه، فلا تكاد تمضي الرواية في حوادثها قليلا، حتى يكون البطل قد تسلل إلى قلوبنا، واحتل من نفوسنا مكانة، كأننا معه على ود قديم، ثم تمضي الرواية ونزداد بالبطل إعجابا، حتى إذا ما بلغ حبنا له وإعجابنا به أقصى الحدود، أخذ المسرحي نفسه يتسلل وراء البطل خفية، ثم يضربه الضربة التي تقضي عليه، ويكون في ذلك الختام. فكيف نحتمل مثل هذه الفجيعة تقع على مرأى منا فوق المسرح! لماذا لا يحدث للنظارة وقد أوذيت في شعورها، أن تنهض من فورها ثائرة تصب لعناتها على المسرحي الذي لم يعرف قلبه الرحمة، وظن النظارة في مثل فظاظته وغلظة قلبه؟ أم ترى المؤلف المسرحي يفترض أننا بغرائزنا نستمتع بموت من أحببناه وأعجبنا به؟ ولو لم يكن ذلك لما اقتضانا أجرا ولما دفعناه، اللهم إن كان هذا شأن المأساة فما أغنانا عن رؤية الفجيعة لقاء مال ندفعه! لكن المأساة ليس هذا شأنها، وما أصاب رجال النقد الذين زعموا أن المأساة والملهاة متشابهتان كل التشابه في مجرى الحوادث، ولا تختلفان إلا في الختام، فقد زعموا أن ما يصلح ملهاة قد يصلح مأساة، لو تغيرت الخاتمة وحدها، لكننا لا نذهب معهم فيما ذهبوا إليه، ونحتم أن يجيء موت البطل في المأساة نتيجة طبيعية لمجرى الحوادث، حتى لا نصدم النظارة في شعورهم. يجب أن يشعر هؤلاء النظارة أن موت بطلهم، الذي ظفر منهم بالحب والإعجاب، لم يكن عنه محيص؛ لأنه - كما يرون - جزاء وفاق لما قدمت يداه، وليس هو بالعقاب الظالم المفاجئ الذي لا تبرره المقدمات، فمنذ بداية الرواية يضع المؤلف المسرحي عنصرا أو مجموعة عناصر، ثم يدعها تفعل فعلها وتسير سيرها المنطقي الصارم المحكم الدقيق، فإذا بها تنتهي إلى ختامها الطبيعي وهو موت البطل، تلك هي المأساة الجيدة عندنا، وخير مقياس تحكم به على جودة المأساة، أن ترى هل تحقق عند مشاهديها الشعور، بأن موت البطل محتوم بحكم الحوادث، فإن فعلت جادت، وإلا فاحكم عليها بالضعف والفشل. لو شعرت لحظة واحدة وأنت تشاهد مأساة، أنك تود لو نهضت من كرسيك لتنقذ البطل من موقفه، فاعلم أن المأساة ضعيفة فاشلة. فمثلا قد يصيح مشاهد إذ يرى روميو قد هم بقتل نفسه، إلى جانب ما ظنها جثة حبيبته جوليت، أقول قد يصيح مشاهد في مكانه محذرا روميو ألا يتم فعلته؛ لأن جوليت في حالة من التخدير وليست بميتة، فتكون هذه الصيحة نقدا سليما، نوجهه إلى رواية شيكسبير «روميو وجوليت»؛ لأن هذا الصائح لم يحس من أعماق نفسه، أن روميو سيموت نتيجة لازمة لما قدمت يداه، بل شعر أنه موت ظالم وقع في غير موضعه، وإن كان هذا هكذا فالرواية ضعيفة بغير شك من هذه الناحية. إننا نعترف أن «روميو وجوليت» مترعة بألوان السحر الفني، الذي لا يستطيعه إلا شاعر في عظمة شيكسبير ونبوغه، لكنها من حيث هي مأساة فيها ضعف لا شك فيه، مصدره هذا الشعور الذي أشرنا إليه، وهذا الشعور إنما نشأ عن ضعف في منطق الحوادث، أدى إلى نتيجة لا تلزم حتما هذه المقدمات. الموت في ختام هذه الرواية ليس وليد الحوادث نفسها، إنما هو ضربة من القدر شاءتها المصادفة، وربما شاءت سواها، وقد أدرك ذلك شيكسبير - وهو الفنان العبقري - فأدخل في فنه عنصر «القدر»؛ ليسعفه بموت البطل، حيث لا تسعفه حوادث الرواية نفسها. لكننا اليوم إذ نشاهد رواية لشيكسبير فيها إصبع القدر، لا نعترف بهذا العامل الدخيل، على أنه جزء من طبائع الأشياء؛ لأنه في رأينا اليوم اسم آخر يطلق على المصادفة العمياء التي تقع لغير سبب ظاهر. وفي رواية «روميو وجوليت» يلجأ شيكسبير إلى حيلة فنية أخرى، يخفف بها من وقع الموت المفاجئ على النظارة، وهي إصلاح ذات البين بين الأسرتين المتخاصمتين - الأسرة التي منها روميو والأسرة التي منها جوليت - لعل هذا الوئام بين أسرتي الشهيدين يشفع له عند نظارته، لكنه في الحق عوض ضئيل، إذا قيس إلى الفاجعة الأليمة.
يشترط لخاتمة المأساة أن تكون نتيجة لازمة لطبائع الأشياء ، حتى يشعر المشاهدون أنها متفقة مع ما يسود الكون كله من سببية مطردة لا تتخلف، فإن وقعت الأسباب فلا مناص من وقوع المسببات في أثرها. لا يجوز أن يجيء موت البطل في النهاية بفعل المصادفة، التي لا تجد مبرراتها في فصول الرواية، بل يجب أن تصعد الحوادث بعقول النظارة خطوة فخطوة، حتى تبلغ ذروة مرتكزة على الماضي كله. هنالك مآس يموت أبطالها بفعل حوادث عارضة أو عوامل مؤقتة، فلا شك في أن هذه المآسي معيبة لم يكمل فنها، إذ أعوزها شعور المشاهد بأن القوانين التي تتحكم في حوادثها هي نفسها القوانين التي يسير بمقتضاها الكون كله، فقد يموت البطل مثلا في حادثة تصدمه فيها سيارة فتقضي عليه، ومثل هذه الحادثة مما يقع في الحياة، ويستدر العطف والإشفاق، ومع ذلك فلا يجوز للمؤلف المسرحي أن يختارها نهاية لبطله؛ لأنها تشعر بعامل المصادفة الذي لا ينساق مع قوانين الكون، اللهم إلا إن كان المشاهد ممن يعتقدون أن اصطدام السيارة نتيجة ترتبت على ألوف الحوادث قبلها، فمنذ الساعة الأولى التي رصفت فيها الطريق، ومنذ الطرقة الأولى في صناعة السيارة، ومنذ اليوم الأول في حياة البطل، ودقائق الحادثات تجري على صورة معينة من شأنها أن تؤدي، في لحظة معينة، إلى أن تصدم السيارة البطل في هذا المكان. نقول إنه بغير هذه العقيدة - وهي بعيدة عن معظم المشاهدين - لن يسعك إلا أن ترى في موت الرجل تحت عجلات السيارة خروجا على المألوف وشذوذا في القانون ونتيجة لا تلزم طبائع الأشياء. وإذا فمأساة كهذه ضعيفة في فنها.
تلك هي المشكلة في كثير من المآسي الحديثة التي تؤثر في الأعم الأغلب أن تختار موضوعها ما بين الفرد وموقفه الاقتصادي من تعارض وصراع. وخير مثل يساق لذلك روايات «جولز ورذي»، فلو جعلت تحس وأنت تشاهد الرواية أن النظم الاقتصادية والقضائية القائمة، التي يصارعها البطل فتصرعه في النهاية - لو جعلت تحس أن هذه النظم رغم ما يبدو أنها مؤقتة عرضية قد تتغير وتتبدل ، ضاربة بجذورها في طبائع الأشياء الثابتة الدائمة - كانت المأساة جيدة لا غبار عليها ولا عيب فيها، لكنك لا تحس هذا الإحساس في المآسي الحديثة، بل إن المؤلف المسرحي نفسه يعرض عليك في رواياته هذه النظم الفاسدة التي تصرع الأفراد، ليستحثك على إصلاحها وتغييرها، وما دمت قد شعرت أن الأسباب التي انتهت بمصرع البطل عرضية عابرة، لا تمت إلى نظام الكون المطرد وقوانينه الدائمة الصارمة التي لا تتخلف، كانت المأساة معيبة في فنها. نعم قد تستدر منك العطف والإشفاق، لكنها مع ذلك يعوزها «العنصر الكوني»، أي يعوزها العنصر الذي يوحي إلى المشاهد أنه يرى قطعة تأتلف مع نواميس الكون، ليس بينها وبينه نبو ولا نشاز. ولسنا نريد بهذا أن نزعم أن ظروفا معينة، أو موضوعا معينا، يستعصي على الفنان فلا يمكنه من معالجته على نحو يجعله «كونيا»، كما ينبغي له أن يكون إذا قصد به إلى الكمال الفني - وفي هذا قدرة الفنان ونبوغه - إنما أردنا أن نوضح قاعدة للحكم على المأساة بجودة الفن أو ضعفه، فليس أصحاب المآسي الحديثة من الفنانين المجيدين، تطبيقا لهذه القاعدة، هم يعالجون المشكلات الاجتماعية حقا، يشخصون الداء ويصفون الدواء، فينتفع بهم نظام المجتمع، فإن استحقوا على مجهودهم الجزاء، فإنما هو الجزاء الذي نقدمه لمن ينفعنا في أخلاقنا وبنائنا الاجتماعي، وليس هو بالجزاء الذي يستحقه الفنان القدير في فنه. ونعود فنقرر الفكرة من جديد ترسيخا لها في الأذهان، وهي أن مآسي «إبسن» ومن لف لفه من رجال الرواية المسرحية في عصرنا الحديث، وهم جميعا يعالجون في مسرحياتهم مشكلات اجتماعية، ويبينون أن للنظم القائمة كثيرا من الضحايا لاضطرابها وفسادها. مآسي «إبسن» ومن لف لفه قد تعد جيدة، لو اعتبرت البيئة الاجتماعية بنظامها الراهن جزءا من نظام الكون ليس لنا برده قبل، أو بعبارة أخرى لو كنت قدريا، يؤمن بأن كل أوضاع الحياة من فعل القضاء الذي لا راد له، عندئذ تشاهد المأساة وتشهد البطل صريعا أمام هذه النظم الاجتماعية، فتدرك أنه هزم أمام قوة تشتمل الكون كله، فتكون المأساة جيدة سليمة. أما إذا نظرت إلى النظم الاجتماعية، نظرتك إلى الأشياء العرضية السطحية العابرة، التي كان يمكن اجتنابها، والتي لا يزال في وسعنا أن نصلح فيها كما نريد، فليست المآسي الحديثة من جودة الفن في شيء.
وليس لختام الملهاة كل هذا الخطر، الذي عزوناه إلى ختام المأساة؛ لأن الملهاة لا تخلص إلى نهاية يكون الأمر فيها موتا أو حياة، وكذلك تقل في نظرنا أهمية العوامل والقوى، التي تتفاعل في مجرى الرواية وتؤدي إلى الخاتمة، تقل في الملهاة عنها في المأساة. الحوادث في الملهاة أقل شأنا وأخف وزنا منها في المأساة، فلو صورت لنفسك بطل المأساة وقد وقف أمام محكمة القدر، تطوح به هنا وهناك جريا على قوانين الكون الثابتة، فلك أن تتصور بطل الملهاة رجلا تفصل في أمره جماعة النادي؛ لتقبله عضوا بين أعضائها أو لا تقبله، فالملهاة تختار الحوادث السطحية التافهة الخفيفة، وتترك للمأساة الحوادث العميقة الجادة ذات الخطر البعيد. الملهاة تنظر في الرجل، هل تخول له عاداته وصفاته، أن يكون عضوا في ناد أو لا يكون، والمأساة تنظر في الرجل هل يقضى عليه بالموت لما قدمت يداه أو لا يقضى. فمن شأن الملهاة أن تعالج من الأشخاص عاداتهم، التي قد تتفق أحيانا مع أوضاع المجتمع وقد تتعارض أحيانا، ولكنها على كل حال لا تضم الشرف ولا تمس صميم الأخلاق، من شأنها أن تصور من الأشخاص جوانبهم، التي تجعلهم مصادر شغب في المجتمع، لكنها لم تبلغ من العمق والجد حدا يجعلهم بين المجرمين الآثمين، فإن كان بين بطل الملهاة وبين المجتمع الذي يحيط به صراع وتضارب، فمن أجل هذه التوافه، فهو يثرثر والناس يريدون الهدوء والصمت، وهو يشمخ بأنفسه والناس يريدون التواضع، ففي مثل هذا التعارض بين الصفات السطحية الخارجية للشخص، وبين نظم المجتمع العرضية المتغيرة العابرة، يكون موضوع الملهاة. العالم الذي تتحرك فيه الملهاة تسيره التقاليد، وأما العالم الذي تتحرك فيه المأساة، فتسيره القوانين الطبيعية التي لا تتخلف، فليس هناك قانون كوني صارم، يحتم أن تنطق حرف القاف في مثل «قلم» ألفا أو جيما، لكن إن تواضع القوم على نطقه ألفا وجاء رجل ينطقه بالجيم، كان في ذلك تعارض بين عاداته وبين الجماعة التي هو عضو فيها، وفي مثل هذا التعارض تكون ملهاة، ومثل هذا الخارج على أوضاع الجماعة يكون بطل الملهاة، وعاقبة خروجه أن يعاقبه الناس بالضحك والسخرية. وأغلظ أنواع الملاهي هو ما يختار بطله رجلا لا يأتي الأشياء إلا معكوسة مغلوطة مقلوبة، وعندئذ يكون بطل الملهاة مهرجا لا أكثر ولا أقل، فيدخل هذا المهرج الساخر سائرا على يديه ورجلاه إلى أعلى، ويضع السترة حيث تواضع الناس أن يضعوا السراويل، ويقول ألفاظا تعني عكس ما يريد وهكذا. وتتدرج الملهاة صاعدة من هذا التهريج الصبياني الغليظ، إلى ألوان من الانحراف دقيقة لطيفة، لكن أساس الملهاة واحد في كلتا الحالتين. ولئن كان المسرح وأدواته يحاول أن يمثل الواقع كما يبدو للعين، فهو في هذه المحاولة أنجح في تمثيل الملهاة منه في تمثيل المأساة، ما دامت الملهاة تتحرك على سطح الحياة الظاهر، والمأساة تغوص إلى الأعماق. إنه أيسر على المسرح بغير شك أن يمثل ثياب الرجل من أن يمثل قلبه الدفين، وأن يمثل عاداته الظاهرة من أن يوضح مبادئه الكامنة في نفسه، وسلوكه البادي من أن يمثل أساسها الخلقي الراسخ. والملهاة أقرب من المأساة إلى المجتمع الذي يمسنا من قريب، هي أقرب إلى حياتنا في الدار والنادي ومكان العمل. ولما كان أيسر على المسرح وأدواته أن يمثل هذه البيئة القريبة تمثيلا واقعيا صادقا، أيسر عليه أن يمثل غرفة في الدار أو بهوا في النادي أو حجرة في مكان العمل، كانت كل العوامل المسرحية مؤدية إلى نجاح الملهاة أكثر مما تؤدي إلى نجاح المأساة. ومن ثم كان تطور الملهاة وتطور المسرح يسيران جنبا إلى جنب كما أسلفنا لك القول، ومن ثم كان التوفيق الذي أصابه أدباء المسرح في ملاهيهم في عصرنا هذا. فنستطيع أن نضع ملاهي «برنارد شو» في طليعة ما عرفته آداب العالم من الأدب المسرحي حتى اليوم.
ولا أحب لك أن تفهم من هذا العرض الذي عرضته أمامك من خصائص الملهاة والمأساة، أن الملهاة لخفة موضوعها تخلو حتما من الجد العميق؛ فامتيازها ومجال نبوغها أنها تصور الأشياء من ظواهرها، ولا تتعمق فيما يكمن وراء هذه الظواهر البادية من مبادئ عميقة. امتياز الملهاة ومجال نبوغها أنها تصور من الأشياء جانبها المادي، والصعاب التي تقيمها في وجه بطلها أدخل في شئون الحياة العارضة منها في أصولها الحيوية الجوهرية، والمبادئ التي يخرج عليها بطل الملهاة هي التقاليد السائدة في جماعة - ضاقت حدودها أو اتسعت - وليست هي النظم الأبدية الثابتة في الخير والشر والصواب والخطأ. لكن الملهاة تستطيع أن توسع من أفقها بحيث تمثل النظام الاجتماعي، الذي يظلل الإنسان بصفة عامة، ولا يقتصر على قوم أو طائفة، وتستطيع أن تجعل التقاليد التي يخرج عليها البطل، مما يؤمن به الجنس البشري كافة، ضرورة لا مندوحة عن رعايتها وصيانتها؛ لتسير الحياة الإنسانية سيرها في أمن وسلام. فالبطل في الملاهي الخفيفة يستمد بطولته هذه من خروجه على تقاليد طائفة أو فريق محدود من الناس، والبطل في الملاهي الرفيعة بطل؛ لأنه يخرج على أوضاع الجنس البشري كله، ويتحدى ما يمليه الإدراك الفطري السليم. وأسمى الملاهي ما مجد هذا الإدراك الفطري السليم الذي يهدي - أو يحب أن يهدي - الإنسان في سلوكه وتصرفه. فمن أخطأه هذا الإدراك الفطري، فثار على ما يوحى به، وتحدى ما يمليه يعد ثائرا على المجتمع متحديا له؛ لأنه لا يعترف بالشروط والقيود التي لا بد من رعايتها، إن أريد للإنسان حياة آمنة فوق هذه الأرض. والملهاة بما تصوره لنا من شروط الحياة الواجبة المفروضة، إنما تقصد إلى غاية عملية خالصة، تريد أن تبصرنا كيف ينبغي أن نحيا حياة مستقيمة، لا تعارض فيها ولا تضارب، وتريد أن تمدح الخصال التي تعين على مثل هذه الحياة، وأن تقدح في الخصال التي تعرقل سيرها وتعوق مجراها. غاية الملهاة أن تفصل ما يصلح للعيش من صفات، تاركة لزميلتها المأساة أن تبين ما هو حقيق، بالتضحية والموت في سبيله من تلك الخصائص والصفات، الملهاة تأخذ الأمور كما هي، ولا تبحث عما يمكن لها أن تكون عليه، ولا ما ينبغي أن تصير إليه، تأخذ العالم كما يبدو للعين، لا كما هو في حقيقته الخافية، وروح الملهاة وصميمها أنها تجعل من الإدراك الفطري السليم، فيصلا يفرق بين الطيب والخبيث. فالبداهة عند الملهاة هي الحكم الأول والأخير، فما رأيت بالبداهة الفطرية أنه صحيح فهو صحيح، وليس بك حاجة إلى تعمق الأمور إلى جذورها وأصولها، وحكم البداهة عند الملهاة هو مفتاح السعادة والنجاح، في هذه الحياة الدنيا التي نحياها، في هذه الحياة الدنيا التي جعلت للناس جميعا، ولم تخلق لفريق من الناس دون فريق، والتي نرى الحياة فيها مشكلة عملية تحتاج إلى حلول عملية، لا إلى فروض نظرية، حتى يتاح للفرد أن يعيش بين الناس في غير تضارب، مع تقاليدهم وقوانينهم ومصالحهم، وفي غير تعارض مع ما للطبيعة من شروط وفروض. الملهاة من شأنها أن تفصل للناس أسلوب العيش الهانئ السعيد، وليس من شأنها أن تعد الإنسان للخلود بعد الموت، مهمتها السعادة هنا لا هناك، ومجالها الحياة الدنيا لا الحياة الآخرة.
تلك إذا غاية الملهاة، فامتيازها ومجال نبوغها أن توضح ضرورة الإدراك الفطري السليم، ضرورة الاحتكام إلى البداهة التي لا عوج فيها ولا التواء؛ كي نعيش في هذه الحياة الدنيا خير عيش مستطاع. وعلامة الملهاة الجيدة في فنها، هي هذه النظرة الصادقة التي تفرق بها بين السوي والملتوي، بين المألوف والشاذ، علامتها هي إرهافها لحواسنا إرهافا يشعرها بما يقع من تناقض بين حماقة الحمقى، وبين ما يستوجبه الإدراك الفطري والبداهة السليمة، علامتها أنها تصور العالم وقد ساده النظام بفضل ما فيه من تناسق بين الأجزاء. وتناسق الأجزاء في صميمه وجوهره، إن هو إلا حب الإنسان للإنسان، وتسامح سخي كريم يصدر عن روح الفكاهة. علامتها أنها تنظر إلى الدنيا كما هي، لا تضجر بها ولا تضيق، تلك هي الغاية التي تلتمس إليها الملهاة الجيدة مختلف الوسائل والسبل، فقد تسلك إليها سبيل إظهار الفعل المنحرف بوضعها في محيط يبرز انحرافه واعوجاجه. وفي هذا التباين الواضح بين الشيء وما يحيط به ما يستثير الضحك، كأن تلبس عبدا أسود قبعة من الحرير الأسود، أو أن تجعل الماجن المأفون يقف موقف الواعظ الهادي، فهذا تناقض تلمحه العين. وقد تسلك إليها سبلا أخرى في بيان التناقض والتباين، إذ توضح التناقض بين الفكرة والفكرة، لا بين الشيء المنظور والشيء المنظور. وفي التناقض الذي يلمحه العقل ولا تراه العين فطنة بارعة، ومن ثم كان الحوار الفكه من أفعل أدوات الملهاة؛ لأنه مجال خصيب للمؤلف المسرحي أن يعرض فيه الفكرة، ثم لا ينفك يقرنها إلى أضدادها وأشباهها، مقارنة تبين على الفور أوجه الضعف والركاكة فيها. فكم فكرة لنا رسخت في أذهاننا بحكم العرف القوي، ولم نتبين سخفها وغضاضتها إلا حين تعرض لها كاتب مثل «وايلد» أو «شو»، فوضعها أمام عقولنا جنبا إلى جنب مع أشباهها، فظهرت لنا فيها أشياء لم تدر بخلدنا من قبل، وبهذا اهتز أساسها، وترنح بناؤها، وقد كان متينا مكينا.
ولنعد الآن بحديثنا إلى المأساة؛ تمثل المأساة فعل الفرد وهو في صراع مع بيئته، وليست غايتها عملية كالملهاة، إنما هي مطلقة مجردة تبحث عن القوى النظرية، والقوانين العامة التي تسير حوادث الحياة، ومن ثم رأيت مآسي كل عصر خير مرآة، تعكس لك عقائد ذلك العصر فيما يتعلق بالقوى التي تتحكم في مصاير البشر، ولكل عصر في ذلك عقائده، فالمأساة بهذا المعنى تنطوي على فلسفة عصرها؛ لأنها تمثل الفعل الذي يشف عن القوة العليا، المدبرة للكون المسيطرة على ما فيه، في رأي ذلك العصر. وعلى الرغم من ذلك فليس مؤلف المأساة فيلسوفا يحلل بعقله الكون وقواه، ليستخرج القوة العليا الكامنة وراء ظواهر الوجود، إنما هو رجل ذو خيال خصيب يدرك عناصر تلك القوة بقوة خياله، وليس لكاتب المأساة عن إدراك هذه القوة المتسلطة المسيطرة محيص؛ لأن مأساته لا بد لها أن تقرر مصير بطلها بالموت والحياة، فمن ذا يصرف مثل هذا القضاء الخطير غير قوة يعتقد العصر وأهله أن لها الأمر في آجال الرجال؟ وعظمة منشئ المأساة تنحصر في قدرته على إيهام النظارة بفعل تلك القوة الخفية الجبارة، إيهاما لا يدع لهم مجالا للشك بأنها هي صاحبة الحول والطول والنفوذ والسلطان، فالمأساة سلسلة من الأفعال يتلو بعضها بعضا، وينتهي بها البطل إلى قضائه المحتوم، فواجب الأديب أن يحبك هذه المراحل حبكا محكما، بحيث يبدي لنظارته في جلاء لا يقبل الشك، أن البطل سائر في طريقه ذاك، مسيرا بتلك القوة العليا لا يلوي ولا ينحرف. وما تلك القوة العليا بالطبع إلا ما تتعلق به عقيدة العصر، فقد كانت «ربة الانتقام» عند اليونان هي المصرفة للبشر، فكان على كتاب المآسي عند اليونان مثل: «اسخيلوس» و«سوفوكليز»، أن يؤلفوا مسرحياتهم على نحو يجعل الأمور كلها من فعل «ربة الانتقام»، ولم يصغروا من شأنها في أعين الناس، فيرمزوا لها بشخص يظهر على المسرح أمام الأبصار، إنما جعلوها يدا خفية، تبدي آثارها للناس ولا تبدو، وبهذا لم يزالوا في خطأ زل فيه رجال المأساة في العصور الوسطى، إذ جعل هؤلاء قواهم العليا مثل «الخير» و«الشر» و«الضمير» و«التوبة» إلى آخر هذه المعاني المجردة، التي شخصوها وجسدوها واعتبروها مصرفة للأمور، ثم جعلوها تبدو على المسرح مرموزا لها بأشخاص الممثلين، فكان ذلك بغير شك تخفيفا من خطرها وتهوينا من شأنها. خذ مأساة «أويدبس» عند اليونان، فقد تزوج «أويدبس» من أمه على غير علم منه، لكن الجريمة ترتكب جهلا لا تجد مغفرة عند «ربة الانتقام»، ولا بد أن يكفر الآثم عن إثمه؛ لأن قوة سماوية عليا قد أوذيت بفعله، فلا مناص من التكفير ليزول ذاك الأذى، لقد كان «أويدبس» أداة جاءت إلى الأرباب بالسوء، فلا بد أن ترد الأرباب عن نفسها السوء في شخص «أويدبس». وهكذا ترى أطراف القصة في محيط يعلو على المحيط الإنساني الخالص، ولا تقف عند القوانين الموضعية المؤقتة، بل تعدوها إلى قوانين الكون بأسره؛ فقوانين الكون العليا هي التي أوذيت بفعل الآثم، وقوانين الكون العليا هي التي ترد الإيذاء، وتقيم الأمور في نصابها الصحيح، وليست هذه قوانين الدولة أو قوانين المدنية أو تقاليد الأسرة أو النادي أو الحزب الذي ينتمي إليه البطل، ليست هذه القوانين الموضعية المؤقتة، هي التي تتصرف في الأمر، فمجال الفعل في المأساة اليونانية هو الكون الروحاني الأعلى، لا العالم الأرضي الذي نعيش فيه.
لكن كيف يمكن للمسرح أن يمثل هذا المجال الروحاني؟ كيف له أن يمثل مكانا لا تحده الحدود الموضعية، وزمانا لا تقيده مقاييس الزمان؟ لقد رأينا أن كفاية المسرح وامتيازه، إنما يظهران في تمثيله للواقع زمانا ومكانا، وهذه الواقعية هي التي جعلته في عصرنا أداة قوية في إخراج الملاهي، التي هي أقرب من المآسي إلى الحياة الواقعة. المسرح الحديث يخلع على الفعل شبها بالحياة الصحيحة الواقعة؛ لأنه يحيط الفعل بمكان وزمان يشبهان ما في الدنيا الواقعة من مكان وزمان، أفيكون المسرح الحديث الذي يصلح للملهاة أدنى قوة وأضعف أداة للمأساة من المسرح أيام اليونان وأيام شيكسبير، وإلا فكيف كان هؤلاء وأولئك يمثلون على مسارحهم ما في رواياتهم من عناصر هي أسمى من حياة البشر؟
إن ما جعل المسرح عند اليونان وفي عصر شيكسبير أصلح أداة من المسرح الحديث لتمثيل المأساة - كما كانت تفهم المأساة عندئذ - هو أنهم لم يعدوا المسرح بحيث يمثل المنظر تمثيلا واقعيا صحيحا، إنما كانوا يكتفون فيه بالرمز، فلم يكن عند اليونان مناظر مرسومة يعلقونها على جدران المسرح، لتدل على مكان الفعل وزمانه، إنما كانوا يرمزون للزمان والمكان باعتبارهما حقيقتين مجردتين، فلم يكن يعنيهم أن يمثلوا مكانا معينا وزمانا معينا، وكفاهم أن يقولوا إن الحوادث حدثت في مكان ما وفي زمان ما بغير تحديد. كانوا يكتفون فوق المسرح بحاجز يقام في طرفه الخلفي ليكون رمزا للمكان، ولم يأبهوا في مآسيهم بتحديد الزمن تحديدا يتفق مع الواقع، فليس ما يمنع مثلا أن نسمع أن أجاممنون بسفنه في عرض البحر، ثم نراه بعد لحظة في داره مع زوجته. وحسبهم أن هذه الحادثة وتلك وسائر الحوادث وقعت في زمان. وليس بذي خطر أن يصور المسرح أوضاع الزمان وأقسامه، كما هي في الدنيا الواقعة، وزاد من هذه النزعة نحو التجريد عند اليونان، أن ممثليهم كانوا يلبسون أقنعة تخفي وجوههم، فلا يعود الممثل المقنع شخصا له قسماته ومميزاته، بل يصبح صوتا يمثل نمطا من أنماط الإنسان، ونموذجا من نماذج البشر، وهكذا كان الفعل يأتيه الممثل المقنع من هؤلاء، فعلا مجردا من كل جوانبه، فلا هو يعزى إلى فرد معين، ولا هو يتقيد بحدود مكان معين وزمان معلوم.
أما المسرح في عصر شيكسبير فكان أقرب إلى مسارحنا الحديثة منه إلى مسرح اليونان الأقدمين، ولكنه شابه المسرح القديم في اصطناعه للرموز بدل التمثيل الواقعي، فلم يكن يصور المكان المعين الذي تقع فيه الحوادث، إنما كان يشير إليه بالرمز الدال، فشجيرة توضع على جانب المسرح دليل على غابة، بل ربما وضعت لوحة كتب عليها وصف المكان المفروض. لكن لم يكن الممثلون يقنعون أنفسهم كأسلافهم اليونان، بل كانوا على عكس ذلك يمثلون بين النظارة أنفسهم. كان الممثل عند اليونان يمثل في مدرج فسيح يتسع لألوف المشاهدين؛ ولذلك لم يكن بد من أن يقف على مبعدة منهم، وكذلك ترى الممثلين في مسارحنا الحديثة يفصلهم عن الجمهور حاجز من مصابيح، أما المسرح في عصر شيكسبير فمصطبة بارزة في فناء، والمشاهدون يجلسون حول جوانبه الثلاثة، بل يجلسون على أطراف مصطبة التمثيل نفسها. ومن هنا كان الممثلون في عصر اليصابات أشخاصا من لحم ودم، وليسوا رموزا مقنعة، كانوا أفرادا لكل طابعه المميز، وملامحه الخاصة التي تجعله إنسانا بين الناس، وكان لهذا أثره في قوة المأساة عندئذ؛ إذ أتاحت هذه الفرصة للممثل أن يعبر عن معانيه بملامح وجهه وإشارات جوارحه، فنظرة من العين، وإشارة باليد، ونبرة في الصوت قد تزيد في التمثيل قوة، بل كان لظهور الممثل بين النظارة أثر أقوى من هذا؛ إذ كان عاملا ذا شأن في صياغة الموضوع المسرحي عند شيكسبير.
لم تكن القوة العليا التي تسيطر على مجرى الحياة عند شيكسبير «ربة الانتقام» كما كانت عند اليونان، بل لم تكن قوة خارجة عن الإنسان نفسه، إنما يتحكم الإنسان في مصير نفسه، والقوة العليا نابعة من نفسه لا مفروضة عليه من خارج، فالذي ساق «هاملت» إلى قضائه المحتوم، لم تكن قوة آمرة ناهية خارجة عنه، بل قوة داخلية فيه، ساقته إلى قضائه «فرديته» أو «شخصيته»، من هنا كان للشخصية الإنسانية في مآسي شيكسبير أكبر شأن وأعظم مكان؛ فالذي يحدد مسلك الفعل من أوله إلى آخره، ويقرر له مراحله التي يجتازها، هو شخصية الإنسان نفسه الذي يقوم بذلك الفعل. فالشخصية - إذا - هي القوة الدافعة، ولن تجد سبيلا إلى فهم مسرحية عند شيكسبير، إلا إذا ألممت بعناصر شخصية البطل إلماما تاما؛ لأنها المفتاح الذي يلقي الضوء على سلوكه وتصرفه. وكثيرا ما ترى شيكسبير يحشر المناظر المسرحية، لا ليواصل بها القصة لمجرد أنها فعل متصل، بل ليتيح فرصة أخرى يدخل بها إلى صميم شخصية البطل، إذ كلما تعددت المواقف كثرت النواحي، التي ندرس منها نفسية البطل وحقيقة خلقه، ولا أمل في فهم الحوادث نفسها فهما صحيحا، إلا إذا وفقت إلى هذه الدراسة؛ إذ بغيرها تظل مفردات الحوادث حلقات مفككة، لا تجد من عامل الشخصية في البطل ما يربطها في سلسلة واحدة.
وقد وجد شيكسبير من نظام المسرح في عصره، ما عاونه على بناء المسرحية على هذا الأساس؛ إذ كان الممثلون في طليعة العناصر المكونة للمسرح والرواية المسرحية، هم العامل الأول الهام، وعلى براعتهم تتوقف قوة التعبير المسرحي للرواية، فتمكن المؤلف المسرحي بذلك أن يجعل الأفراد، الذين يتفاعلون في الرواية أفرادا لهم شخصياتهم، ولكل طابعه المميز، لا مجرد أشباح ورموز؛ لأنه كلما كان الممثل ذا شخصية حية متميزة، أمكن أن يقوم بدور فيه هذه الخصائص الفردية المتميزة. كان الممثلون إذ ذاك عاملا يساعد على تمثيل الواقع؛ لأنهم يمثلون أفرادا ممن تصادفهم في الحياة بين أهلك وجيرتك، لكن البطانة المسرحية من أدوات ومناظر مرسومة وما إلى ذلك، لم تكن تساعد حينئذ على هذه الواقعية كما تساعد عليها اليوم، لم يكن يدل المسرح بما عليه من أدوات ورسوم على مكان الحادثة وزمانها. وإذا فقد كان الممثلون طلقاء من حدود الزمان والمكان، كأنما هم أفراد قوامهم الدوافع الأبدية الكونية الخالدة، ومعنى ذلك أن سلوكهم الخارجي لم يكن ينظر إليه نظرة جغرافية تاريخية، تربطه بمكان معلوم وزمان معلوم، من بيئتهم التي يعيشون فيها، بل كان ينظر إليه باعتباره صادرا عن عالم روحي كامن في أنفسهم.
وصفوة القول أن المسرح الحديث يصور العالم المحسوس، الذي يحيط بنا ويبرز جوانب الحياة الظاهرة البادية، دون صميمها الخفي المستور. والحياة الظاهرة المحسوسة العملية، كما تبدو أمام أعيننا، هي خير مجال للملهاة بصفة خاصة. أما المأساة - فعلى نقيض زميلتها - من شأنها أن تتغلغل إلى ما وراء هذه القشور الظاهرة التي تغلف الحياة لتضرب في الصميم الكامن خلف ستارها؛ لهذا كله كان المسرح الحديث أصلح لتمثيل الملاهي منه لتمثيل المآسي، ومن ثم كان تطور الرواية المسرحية نحو الملهاة.
ونختم الحديث بكلمة موجزة عن اللغة التي تكتب بها الرواية المسرحية. ظلت المسرحيات مآسيها وملاهيها على السواء، تكتب شعرا حتى القرن السادس عشر، وعندئذ بدأ النثر يأخذ مكانته رويدا رويدا، حتى أصبحت له الغلبة على الشعر في الملهاة، وبقي الشعر سائدا في المأساة وحدها، ولكن حركة التطور لم تقف عند حد، فأخذ النثر يتسلل إلى المأساة أيضا، حتى أصبحنا اليوم ومعظم المآسي تكتب نثرا، وتلك نتيجة طبيعية لسير المسرح نحو الواقعية، فتمثيل الواقع من شأنه أن يضع النثر مكان الشعر؛ لأنه لغة الحياة الواقعة، غير أننا نلاحظ أن النثر أصلح للملهاة منه للمأساة؛ وذلك لسبب ظاهر، فالملهاة - كما أسلفنا لك القول - تعالج ظروف الحياة القائمة كما نعيشها ونلمسها، وأما المأساة فتضرب وراء الظواهر لتصل إلى الأعماق. المأساة تريد القوانين الكونية الشاملة الأبدية الخالدة، ولا يعنيها في كثير أو قليل قوانين هذه الطائفة من الناس أو تلك. وإذا فالنثر في الملهاة يساعد على واقعيتها، والشعر في المأساة يساعد الخيال على تحطيم الحدود المادية، التي يوهم بها المسرح وأوضاعه؛ لكي يطير بأجنحته إلى المجال الكوني المطلق. لكن شعر المأساة يعجز عن تحطيم حدود المسرح المادية؛ إذ كانت هذه الحدود مقيدة شديدة التقييد، لا يستطيع الخيال أن يتخلص من أثقالها، فقد كان المسرح عند شيكسبير - مثلا - لا يحمل ما يدل على الزمان والمكان دلالة قوية. ولهذا كان شعر المأساة قمينا أن يطير بالخيال، وراء تلك القيود الخفيفة. أما في المسرح الحديث فيكاد يستحيل على مأساة مهما سمت بشعرها، أن تتخلص مما يزدحم به المسرح من مناضد ومقاعد وطنافس وستائر ومناظر تقيد الخيال بمكان معين وزمان معين تقييدا لا خلاص من أغلاله. فمن الغفلة - إذا - أن يقف الممثلون وسط هذه الأشياء، التي تنم عن الحياة المادية، ثم يتكلمون شعرا! فلا بد أن يكون حديثهم شبيها بملابسهم ومقاعدهم ومناضدهم وسائر متاعهم، حتى تتم خديعة الحواس عند النظارة، ويعيشوا في جو واقعي مسرحا وحديثا ووقائع. ولعلك الآن تدرك العسر الشديد الذي يلاقيه المخرجون في إخراج روايات شيكسبير على المسارح الحديثة.
لقد حدثناك فيما سلف عن نوعين من الرواية المسرحية؛ المأساة والملهاة، وبقيت أنواع أخرى لن نجد المجال لبسطها؛ فهناك المسرحية التي تجمع بين المأساة والملهاة، ثم هنالك الرواية التاريخية. فما مجالها؟ إن كانت الملهاة تصور لنا مجتمعا بشريا خالصا كما نشاهده ونمارسه، وتضع الفرد على محك الإدراك الفطري والبديهة السليمة؛ لترى هل يتصرف بما يتفق مع أوضاع المجتمع القائم، أو يشذ وينحرف فيكون مثيرا للضحك، ثم إن كانت هذه المأساة تصور لنا القوانين الكونية العليا التي تتحكم في أقدار البشر، وتضع الفرد على محك الأبدية المطلقة؛ لترى إن كان متفقا مع روح الكون بأسره. فهل يكون للمسرحية التاريخية مجالها الخاص كذلك؟ هل تضع الفرد على محك ثالث لتسبر فيه جانبا ثالثا؟ قد يكون ذلك. قد تكون المسرحية التاريخية معيارا للإنسان - لا باعتباره حيوانا اجتماعيا كما تفعل الملهاة، ولا باعتباره طامحا إلى الخلود كما تفعل المأساة - ولكن باعتباره أداة سياسية في المجتمع، أعني باعتباره خادما ساهرا على مصلحة الجماعة التي يعيش فيها. ولعل البطل في المسرحية التاريخية أن يكون فردا تمحي الفردية فيه أمام عنصره السياسي الذي يمت إلى الجماعة بصفة عامة .
صفحة غير معروفة