أهداني أحد الأصدقاء هذه الكراسة لتدوين المذكرات، قسمت صفحاتها تقسيما يسير بها مع أيام سنة 1967، فلكل يوم صفحة كاملة، والكراسة مصقولة الورق، جيدة الصناعة، مزخرفة الغلاف، صقلا وجودة وزخرفة تلفت النظر، فلم نألف لفترة طويلة أن تعرض لنا أسواقنا كراسات بهذه الأناقة كلها، فلعلها جاءت إلى صديقي من لبنان؛ إذ وجدت على صفحاتها ما يدل على ذلك ... وضعت الكراسة على مكتبي، وتركتها تختفي حينا وتظهر حينا بين الكتب والأوراق، فهي آنا هنا وآنا هناك، هي على السطح مرة، ومرة في القاع، ولطالما اعترضت طريقي وأنا أبحث عن ورقة أو كتاب، فأنحيها بحركة عنيفة، كأنها هي المسئولة عن اختفاء ما أبحث عنه، وظلت هكذا طوال العام - 1967 - الذي خلقت من أجله، ظلت هكذا كراسة خرساء، تضر ولا تنفع، تعوق ولا تعين، لم أخط على صفحاتها حرفا، ولكني كذلك لم أجرؤ على إتلافها، وهي الكراسة المصقولة أوراقها، المزخرف غلافها، المتقنة في صنعها.
فلما انتهى العام، وتهيأ الناس لاستقبال عام جديد، قلت لأنطقن هذه الصفحات الخرساء، خلال العام الجديد، ولا بأس في أن أتأخر بها عاما عن موعدها، فهكذا عودتني حياتي في كل مراحل عمري؛ إذ عودتني أن أتأخر عن الركب أعواما، ثم أظهر بعد أن تكون الفرصة الملائمة قد لفها الظلام.
عند هذا الموضع من مذكراتي، قلبت أربع ورقات أو خمسا، ثم تابعة القراءة:
لئن كان الإنسان مخلوقا ساميا شريفا، بالنسبة إلى سائر المخلوقات جميعا، فليس هو كذلك إلا في صفوة من أفراده، وفي لحظات محدودة من حياة هؤلاء الأفراد هي لحظات الإبداع في الفكر والفن، وأما ما دون ذلك من أفراد الناس، ومن لحظات لا إبداع فيها عند الصفوة الممتازة، فالحياة عندئذ هي عضل قوي أو ضعيف، ومعدة تهضم الطعام أو لا تهضمه، وقلب يضخ الدم، ورئة تتنفس في صحة أو في مرض، فبينما يعلو الفكر والفن بالمبدعين إلى منزلة تدنو من منازل الملائكة، تهبط الأبدان بأصحابها إلى مرتبة واحدة مع الحيوان ... أقول ذلك وفي ذهني صورة مضحكة مبكية لرجل من أصحاب الأبدان، رأيته في سيارة الطريق الصحراوي إلى الإسكندرية، اشترى لنفسه تذكرتين ليريح بدنه الضخم على مقعدين، ثم شاءت الظروف النكدة لمسافر أن يخطئ السيارة التي حجز مكانه فيها، فركب التي تليها، ولكنه لم يجد له مكانا، فاتجهت الأنظار إلى صاحب المقعدين ليفسح مكانا للمسافر المخطئ المسكين، غير أنه أصم أذنيه عن أصوات الرجاء.
إن مسلك ذلك الرجل ذي المقعدين، وقد جعل أذنا من طين وأذنا من عجين، حتى لا يصل إلى سمعه شيء من أصوات الرجاء، أقول إن ذلك المسلك له اليوم أشباه في مجتمعنا تعد بمئات الألوف، كأنما انقلبنا بين يوم وليلة شعبا لا يحب فيه أحد أحدا، إلا أن تكون العلاقة علاقة القربى الوثيقة، فهل تقول إن الروح «الوطنية» لم تتأصل في نفوسنا بعد، ونحن من نحن من أمة ترابط أبناؤها في وطن واحد منذ آلاف السنين؟ وإذا لم تكن هذه هي العلة فماذا عساها أن تكون؟
كان ذلك بعض ما قرأته في كراسة المذكرات التي وقعت عليها «مدشونة» بين أكوام الكتب والأوراق، فقلت لنفسي: سبحان الله، فلقد جاءني خلال اليومين الأخيرين سؤال واحد موضوعا في صورتين مختلفتين: قالت السائلة الأولى، بعد أن أخذت تقص علي روايات تجاوز حدود الخيال، عن ضروب من الكراهية فيما يتعامل به الناس بعضهم مع بعض، هنالك في بنائنا الاجتماعي الآن خلل، فقل لي أين موضعه؟ وقالت السائلة الثانية بعد شكاة تئن بالألم: إننا اليوم أشبه برجل دب في أوصاله وجع لا يعرف مصدره، فهلا قلت لي أين مكمن الوجع؟ وإذا أضفت إلى هاتين السائلتين عشرات من لقاءات عابرة، راح الملتقون فيها يرسلون أحاديثهم إرسالا غير مدبر ولا مقصود، لكن تلك الأحاديث المرسلة لم تكن تلبث إلا قليلا - في كل حالة - حتى تنعقد على محاولات للإجابة عن سؤال مضمر أحيانا صريح أحيانا، وهو سؤال يقول: ماذا أصابنا بحيث أصبح أحدنا يأكل لحم أخيه ميتا فلا نكرهه!
وعندي أن ما أصابنا يمكن تلخيصه في جملة واحدة، وهي أن المصري في هذه المرحلة من تاريخه فقد حسه بوجود «الآخرين»، فالفرد الواحد يتصرف - ما مكنته الظروف - وكأنه وحده في هذا البلد، يريد أن يبتلع من المال أكثر مما يسع جوفه أن يبتلع، وأن يجمع في يده من السلطان أكثر مما يقتضيه وجوده، فكيف حدث ذلك للمصري، وهو الذي عرف الانتماء إلى «أمة» قبل أن يعرف ذلك سواه؟ كيف حدث للمصري أن يجعل من نفسه «فردا» أكثر جدا مما يجعل من نفسه «مواطنا» «يواطن» آخرين، في بلد واحد، وهو الذي أدرك فكرة «الوطن» قبل أن يدركها سواه؟ كيف حدث للمصري أن يسلك وكأنه لا يحمل في فؤاده «ضميرا» يضبط له ذلك السلوك ويقيده، وهو الذي على يديه - كما يقول المؤرخ الأمريكي «بريستد» - لمعت الطلائع الأولى من «فجر الضمير»؟
لكن لا، مهلا، فعن أي مصري نتحدث؟ إن هذا الذي أثار حيرة السائلين، لا يصدق إلا على قلة محدودة ممن قست عليهم ظروف المرحلة التي نجتازها اليوم، ولعلها تنحصر - بصفة عامة - في متعلمين لم يتحقق طموحهم بسبب فجوة واسعة بين ما تعلموه وما كانت تريد لهم الحياة أن يتعلموه؟ ولكن هل تصدق تلك الشكوى على المرأة المصرية من حيث هي أم تفني نفسها في رعاية أطفالها؟ وإذا لم تكن تصدق عليها، فهذا هو نصف الأمة، ثم هل تصدق الشكوى على ملايين الزارعين لأرضهم، كأن تلك الأرض ولد من أولاده، بل ربما ظفرت من عطفه بقسط أكبر، وإذا لم تكن الشكوى تصدق على نسبة ضخمة من الزارعين، فهذه عدة ملايين من الأمة لم يصبها السوء وتستطيع أن تضيف شرائح عريضة أخرى من بنائنا الاجتماعي لا تزال تحمل على كتفيها أمانة الإخلاص.
ومع هذا التحفظ فليس فينا من لا يلحظ تحولا في وقفة المصري من سائر مواطنيه وقفة فيها استغلال للآخرين، وفيها استغفال للآخرين، بل فيها ما يشبه الإنكار لوجود الآخرين، وها هنا موضع «الخلل» - إذا استخدمنا اللفظة التي أوردتها إحدى السائلتين في سؤالهما - وها هنا كذلك مكمن «الوجع»، إذا استخدمنا اللفظة التي وردت في سؤال السائلة الثانية.
إذا كان هذا هكذا، فسؤالنا الضخم العويص، المعقد، هو الآن: ما الذي حدث في حياة المصري فأفقده شعوره بالآخرين؟! الباحث الفاحص في طبيعة المصري وملامحها الكبرى، يستحيل أن تخطئ عينه صفة التكافل الاجتماعي التي تميز المصري منذ أقدم عصوره، نعم إنه بغير قدر من ذلك التكافل الاجتماعي لما وجدت أمة بأي معنى من معانيها، في مصر وفي غير مصر على السواء، لكن هنالك الفرق الشاسع بين تكافل يفرضه القانون على المواطنين، وتكافل ينبثق من طبائع الفطرة أو الثقافة الموروثة بغير حاجة إلى قوة القانون، فإذا رأيت ضروبا من التكافل هنا وهنالك وفي كل مكان، فذلك في حد ذاته لا يجعل الكل سواء، لأن بعضهم يتعاطف مع الآخرين بحكم المحكمة، وبعضهم لا ينتظر من المحكمة حكما ليتعاطف مع ذوي قرباه، وجيرانه، وأهل قريته - ثم مع مواطنيه جميعا - وكانت مصر من هذا الضرب الثاني، إلى أن حدث ما حدث في مرحلتنا الراهنة، فأصبحنا من أصحاب الضرب الأول، في أن تكون رعاية الفرد للآخرين مفروضة بأحكام القانون، مع فرق بيننا وبين سوانا - ربما - وهو أن سوانا فيهم كثيرون يحترمون القانون فينفذونه لا عن خوف، بل لأنه قانون وكفى، وأما نحن - أخشى أن أقول - فمنا كثيرون يجعلون اهتمامهم الأول إزاء القانون، هو البحث عن ثقوب فيه تصلح للفرار بين قيوده دون التعرض للعقاب.
صفحة غير معروفة