مقدمة
القسم الأول: فلول الظلام
جذور التصدع
ثلاثة أصوات
نفوسنا صدئت فأصقلوها
روحانيون نحن؟ وبأي معنى
عصر الضمير الغائب
أعجاز نخل خاوية
هنالك آخرون! «وإذا الموءودة سئلت»!
شبح اسمه الغزو الثقافي
هذه الأجهزة وحرية الإنسان!
أدرك السفينة يا ربانها
عودة إلى تجويع النمر
ردة في عالم المرأة «1»
ردة في عالم المرأة «2»
ردة في عالم المرأة «3»
القسم الثاني: بشائر الفجر
أنت تنفخ في رماد
تعالوا نفكر بأبجدية جديدة
نماء وانتماء
مثقف يحاكم نفسه
رسالة في زجاجة
ثقافة السكون ... وثقافة الحركة
جاهل بالسياسة يتحدث عنها «يانوس» بين عامين
القسم الثالث: إشراقة الضحى
بينات من الهدى
من خصائص الفكر العربي
حسبك من بستان زهرة
صورتان من القرن الرابع الهجري
والنقط كذلك تحت الحروف
العقل الحر ما هو؟
الكاتب ومستويات القراء
ندوة في خطاب
القسم الرابع: مصر تبحث عن نفسها
قضية تستحق النظر
نحو فكر أوضح
مفتاح الشخصية المصرية
مقدمة
القسم الأول: فلول الظلام
جذور التصدع
ثلاثة أصوات
نفوسنا صدئت فأصقلوها
روحانيون نحن؟ وبأي معنى
عصر الضمير الغائب
أعجاز نخل خاوية
هنالك آخرون! «وإذا الموءودة سئلت»!
شبح اسمه الغزو الثقافي
هذه الأجهزة وحرية الإنسان!
أدرك السفينة يا ربانها
عودة إلى تجويع النمر
ردة في عالم المرأة «1»
ردة في عالم المرأة «2»
ردة في عالم المرأة «3»
القسم الثاني: بشائر الفجر
أنت تنفخ في رماد
تعالوا نفكر بأبجدية جديدة
نماء وانتماء
مثقف يحاكم نفسه
رسالة في زجاجة
ثقافة السكون ... وثقافة الحركة
جاهل بالسياسة يتحدث عنها «يانوس» بين عامين
القسم الثالث: إشراقة الضحى
بينات من الهدى
من خصائص الفكر العربي
حسبك من بستان زهرة
صورتان من القرن الرابع الهجري
والنقط كذلك تحت الحروف
العقل الحر ما هو؟
الكاتب ومستويات القراء
ندوة في خطاب
القسم الرابع: مصر تبحث عن نفسها
قضية تستحق النظر
نحو فكر أوضح
مفتاح الشخصية المصرية
في مفترق الطرق
في مفترق الطرق
تأليف
زكي نجيب محمود
مقدمة
منذ نهاية الحرب العالمية الثانية (1945م) أخذ العالم يسدل ستارا على عصر ذهب زمانه، ويتأهب لدخول عصر جديد؛ فقوائم الحياة كما عهدها الناس حتى ذلك التاريخ، بدأت تتشقق وتهتز لتهوي، فلا العلم هو العلم، ولا السياسة هي السياسة، ولا الثقافة هي الثقافة، ولا شعوب الأرض هي الشعوب التي عرفناها؛ فالعلم قد وثب وثبة جبارة لا عهد للتاريخ كله بمثلها، ويكفيك أن تذكر صواريخ الفضاء ونزول الإنسان على أرض القمر؛ وأن تستحضر إلى ذهنك في عمق ويقظة ووعي كيف أرغم العلماء قطعا من الحديد على أن تحسب وتفكر وتتنبأ، وأما السياسة فقد كانت مطمئنة على وهم مريح، وهو أن في الدنيا سيدا واحدا وثقافة واحدة، والسيد الواحد هو الرجل الأبيض في أوروبا وما تفرع عن أوروبا من البلاد الأمريكية، والثقافة الواحدة هي ثقافته، فالإنسان في أي قطر من أقطار الأرض يكون مثقفا بمقدار قربه من ذلك النموذج الواحد الوحيد، وعلى سائر الألوان من صفر وسود وسمر أن تحني رءوسها لحكم أصحاب الجلدة البيضاء؛ فتغير هذا كله بعد الحرب العالمية الثانية، وتحررت الشعوب بشتى ألوانها، وذهبت عن ثقافة الرجل الأبيض سيادتها، فأصبح لكل ثقافة قيمتها في ذاتها.
لكن هذه التغيرات الواسعة والعميقة، ليست مما يبدأ وينتهي في ثلاثة عقود من السنين أو أربعة، بل لا بد لها من أمد طويل لكي تتسرب مضموناتها الجديدة إلى ملايين القلوب والعقول؛ ولهذا كان من الطبيعي - لنا ولغيرنا من شعوب الدنيا - أن نعبر هذه الفترة في خطوات متعثرة مترددة، ننشد هدفا لم تتضح كل معالمه! ومع ذلك فمن الطبيعي كذلك، أن خطأ الإنسان في نقل أقدامه على هذه الأرض الملفوفة بالضباب، لا بد أن يقل شيئا فشيئا، وأن صوابه يزداد تبعا لذلك شيئا فشيئا، كلما اقترب من هدفه الجديد، وتبينت معالمه أمام عينيه.
وفي هذا الكتاب لمحات كتبها كاتبها مستنيرا بمنطق عقله، مهتديا بنبض قلبه، مخلصا لنفسه ولوطنه ولأمته؛ والكتاب أربعة أقسام؛ في أولها وقفات عند مواطن القصور في حياتنا؛ وفي ثانيها تلمس لمنافذ الضياء المبشر باقتراب الفجر، وفي ثالثها تشوف لما يمكن أن يتحقق لنا في ساعات الضحى، وأما ختامها فهو خاص بمصر، يحاول تحليل المرحلة الحاضرة من حياتها، التي يمكن وصفها بأنها فترة تضارب فيها الرأي، وتعدد الهدف، وتناقض المذهب، وغمض الاتجاه، فكأنما هي تبحث عن ذاتها وسط أنقاض التاريخ، مهتدية في بحثها بمفتاح شخصيتها الأصيلة العريقة، وما ذلك المفتاح إلا أن يعود المصري فيكون - كما كان دائما - عاملا عابدا.
وبالله التوفيق.
زكي نجيب محمود
القسم الأول
فلول الظلام
جذور التصدع
استبدت في الرغبة منذ حين ليس بقصير، في أن أعرض على الناس صورة تصورتها عن الحياة الفكرية كما نحياها اليوم، لكنني أخذت أقدم يدا وأؤخر يدا، لا لأنني لم أكن على ما يشبه اليقين فيما تصورته، بل لأنني خشيت أشواك الطريق، وهي أشواك تأتي من صعوبة الموضوع وغرابته من جهة، ومن عسر معالجته على نحو يجد طريقه إلى عقول القارئين من جهة أخرى. ثم أراد لي الله خيرا، فساق إلي طالبا في إحدى الكليات العلمية، يكثر من القراءة ويحسنها، وهو طراز نادر بين طلابنا، جاءني ليسألني: هل يمكنه أن يتلقى عني شيئا يفهم به فهما واضحا ماذا يراد بالفلسفة؟ وماذا يقرأ ليرتاد ذلك العالم المجهول؟
أجبت الطالب بقولي: لا، لن أقدم لك ما تريده جاهزا على طبق من فضة، بل سأعرض عليك موضوعا يمس حياتنا الثقافية والفكرية في الصميم، وسنحاول تحليله معا، وفهمه معا، تعاونني وأعاونك، حتى إذا ما انتهينا معا إلى نتيجة ترضينا، فعندئذ فقط سأجيب لك عما جئتني لتستوضحه. فقال الشاب في فرحة وثقة بنفسه: لك علي ذلك. قلت: إذن فلنبدأ من فورنا، والخطوة الأولى في الموضوع، هي أن نحاول معا الإجابة عن هذا السؤال الآتي: افرض أن حياتنا اليومية العملية قد قذفت أمامنا بمشكلة يراد لها أن تحل حلا حاسما وسريعا، ولتكن - مثلا - مشكلة «النسل» وضرورة ضبطه، أو «تنظيمه»، ثم طرحت المسألة على أصحاب الرأي ليدلوا بآرائهم في حل المشكلة، وهي كما ترى مشكلة قومية، فتعال معي نحصر «أنواع» الآراء التي يمكن أن يعرضها أصحاب الرأي هؤلاء.
قال الفتى: ماذا تعني ب «أنواع» الآراء؟ قلت: أعني الاتجاهات المختلفة التي يمكن أن يتجه إليها المشاركون بالرأي. فأنا أريد لك أن تتبين الفرق بين اختلافات في الرأي تأتي من الزاوية الواحدة، واختلافات أخرى تأتي بسبب أن زوايا النظر قد تباينت، فمثلا قد ترى رجلين يتفقان على ضرورة تحديد النسل، لكنهما بعد ذلك يختلفان كيف يكون التحديد، وإلى أي حد يكون؟ ثم قد ترى رجلين آخرين لا يتفقان منذ البداية على المبدأ نفسه، إذ يقول أحدهما إن تحديد النسل لا بد منه، ويقول الآخر بأن مثل ذلك التحديد باطل من أساسه ولا يجوز الأخذ به، فكلا الموقفين: موقف الاختلاف بين الرجلين في الحالة الأولى، وموقف الاختلاف بين الرجلين في الحالة الثانية، أقول إن الموقفين كليهما يظهران اختلاف الرأي، لكن «نوعه» في الحالة الأولى لا يشبه «نوعه» في الحالة الثانية، إذ هو في الحالة الأولى اختلاف في ظل مبدأ مشترك، وأما في الحالة الثانية فلكل من الرجلين مبدأ يختلف به عن مبدأ الثاني.
قال الفتى: فهمت ما تعنيه، والآن فلنحاول إحصاء «أنواع» الاختلاف كما أردت، وفي ظني أننا قد وقعنا بالفعل على نوعين، فهناك فئة ترفض تحديد النسل لأنها ترفض المبدأ، وبالتالي فليس لديها ما تقدمه من خطط ووسائل، وهنالك فئة أخرى تقبل المبدأ، وربما تفرعت فيما بينهما بعد ذلك فروعا عند التفكير في الخطط والوسائل، فقلت له: نعم، لكن إياك أن تحسب الفئة الأولى نفسها بمثابة النوع الواحد؛ لأنها هي الأخرى قد تتفرع بدورها فروعا، كل فرع منها يقدم سببا مختلفا يعلل به رفضه للمبدأ، فهنالك من يرفضون مبدأ التحديد على أساس ديني، وهنالك من يرفضونه على أساس اقتصادي، وهنالك من يرفضونه على أساس صحي، وهكذا، لكن عد بنا إلى الفئة التي قبلت المبدأ، ثم تفرعت آراؤها تحت تلك المظلة الواحدة، فهل لك أن تحللها إلى فروعها تلك؟
قال الشاب: نعم، سأحاول التحليل ما وسعتني الحيلة، فيبدو لي أن تلك الفئة الكبرى تنقسم بادئ ذي بدء قسمين: قسم منها تغلب عليه النزعة العلمية، بمعنى أن أفراده إذا هموا بعرض وجهات نظرهم فهم يميلون إلى إقامة تلك الآراء على بحوث فيها دقة العلم، ومن هؤلاء: الأطباء، وعلماء الاقتصاد، وعلماء النفس، وعلماء الاجتماع. وأما القسم الثاني فأفراده من طراز آخر؛ لأنهم وإن يكونوا على استعداد لقبول ما يقوله العلماء بدقتهم العلمية، إلا أنهم في الوقت نفسه يرون أن ما هو أهم من العلم ودقته في موضوع كهذا، هو الذوق الحضاري، وقد جرى العرف أن يطلق على أمثال هذه الطائفة المفكرين.
قلت للطالب الشاب الساعي وراء المعرفة: يكفينا هذا القدر من التحليل، لنعود بأنظارنا إلى تلك الأقسام والفروع التي ذكرناها، فنلقي على أنفسنا سؤالا آخر، يقع في مستوى أعلى من المستوى الذي تحركت أفكارنا فيه حتى الآن، فلقد كنا حتى الآن نحصي أنواع الرأي التي يحتمل ظهورها بين رجال الفكر عندنا، إذا ما طلب إليهم إبداء الرأي في مشكلة تلح علينا أن نجد لها حلا، ألا وهي مشكلة النسل وضرورة تحديده، وبعد أن عرضنا عدة أنواع وما يتفرع عنها، نريد الآن أن ننظر، لا في مجرد السرد والإحصاء، بل في أبرز الخصائص الفكرية والثقافية التي تتميز بها تلك الأقسام والفروع، فماذا ترى في ذلك؟ فأجاب الشاب: أظن أن فكرة الزمن يمكن أن تتخذ معيارا لتقسيم هؤلاء جميعا. سألته: وماذا تعني بفكرة الزمن في هذا المجال؟ قال: إنما عنيت أن أصحاب الرأي عندنا يمكن تقسيمهم ثلاث فرق؛ بحسب ما تراه كل فرقة منها زمن المثل العليا أين كان؟ أكان الماضي وما قد شهده من بطولات ومن طموحات في كل ميادين الحياة، هو النموذج لنا اليوم فنحتذيه؟ أم يكون النموذج قائما في مجرد تصور ذهني نتصوره نحن لما نريد لمستقبلنا أن يجيء عليه؟ أم لا هو الماضي ولا هو المستقبل، بل هو تحت أقدامنا حيث نقف، أعني أنه في اللحظة الحاضرة وما تقتضيه، فلهذه اللحظة مشكلاتها القائمة بالفعل، والتي تتطلب منا حلولا لها، فلا ينبغي لنا أن نبحث عن تلك الحلول عند السلف، كما لا ينبغي أن ترجأ تلك الحلول إلى أن يتحقق لنا فردوس على الأرض ، وإنما الواجب هو حل تلك المشكلات هنا والآن. بما بين أيدينا من العلوم وأدواتها.
أعجبت أيما إعجاب بهذه النظرة التحليلية النافذة إلى حقائق الأمور، وأبديت للشاب إعجابي بعرضه للفكرة وتوابعها، ووافقته على أن خير ما يلقي لنا الضوء على أصحاب الآراء المختلفة في الموقف الواحد بين رجال الفكر والثقافة عندنا، هو - كما قال الطالب - اللفتة الزمنية عند كل جماعة منهم، فنحن - إذن - نستطيع القول بأن أصحاب الرأي عندنا منقسمون إلى سلفيين أسقطوا من حسابهم فعل الزمن، وظنوا أن الماضي بحذافيره يمكن أن يمتد وجوده كما هو الحاضر والمستقبل وإلى أبد الآبدين، فبالنسبة إلى السؤال المطروح بين أيدينا في هذا الحديث، عن مشكلة النسل فهم كأنما يصيحون بلسان الحال ولسان المقال معا، بأنه ما دام السلف لم ينظروا في مشكلة النسل إذن فهي لا يجوز أن نعدها نحن مشكلة في يومنا؛ لأن اليوم لا بد أن يصب في قالب الأمس، أولئك هم جماعة السلفيين من أصحاب الرأي عندنا، وأما الجماعة الأخرى فهي ما يمكن تسميتها جماعة النظرة المستقبلية، وهي جماعة من المثقفين والمفكرين، تميل بهم اتجاهاتهم النظرية إلى أن ينسجوا نسيجا، بوحي مما قرءوه أو ما فكروا فيه بأنفسهم لأنفسهم، يصور - أي النسيج النظري الذي نسجوه - ما يرجون أن يروه متحققا في مستقبل بلادنا، ومثل هذه النظرة المستقبلية إما أن يقيمها أصحابها على تحليل علمي للحاضر، وما ينتظر لهذا الحاضر أن يتمخض عنه من نتائج، وإما عن رؤية بالبصيرة يجاوز بها أصحابها حدود التحليلات العلمية وقيودها، وفي كلتا الحالتين نخرج ب «أمل»، ولكن الأمل وحده يترك لنا الحاضر كما هو بمشكلاته، وتبقى الجماعة الثالثة، وهي تلك التي تعلق اهتمامها الأول على اللحظة الحاضرة، فالمشكلة المعينة - كمشكلة النسل - هي مشكلة الأحياء في يومهم هذا، فلا مجد الأولين بذي نفع لنا فيها، كلا ولا جنة المستقبل التي تصورها لنا الأحلام.
واتجهت إلى الشاب الطلعة الذكي الطموح، مكررا له إعجابي بصفاء فكره، ومقررا موافقتي إياه على اختيار فكرة الزمن أساسا لتقسيم رجال الفكر والثقافة عندنا ، ومواقفهم مما يعرضون له من قضايا، ثم أضفت له ما يأتي: لعلك تذكر أننا قد صعدنا بحديثنا عن مشكلة النسل التي ضربناها مثلا نوضح به ضروب اختلاف الرأي بين أهل الرأي في مجتمعنا، أقول لعلك تذكر أننا - حتى الآن - قد صعدنا بحديثنا ذاك درجتين، كانت الأولى حين بلورنا الآراء المصطرعة المتناثرة في جماعات تمثلها، وكانت الثانية حين أدرجنا تلك الجماعات تحت فكرة اخترناها لتكون أساسا للتمييز بين جماعة وجماعة، وهي فكرة «الزمن». وأريد منك يا بني أن تفكر لنا في درجة ثالثة للصعود، وسيكون الصعود هذه المرة، من الأساس الزمني الذي استخدمناه للتقسيم بين الجماعات المتنافرة، إلى الأصل البعيد الذي لا بد أن يكون ذلك الأساس الزمني نفسه قد اشتق منه.
فبعد فترة قضاها الطالب العلمي النابه في التفكير قال: إن ثمة إطارا نظريا عاما أراه صالحا لأن يكون هو ذلك الأصل البعيد الذي نبحث عنه، وهو تصور العلاقة بين ثلاثة أطراف، هي: السماء من أعلى والأرض من أسفل، والإنسان فيما بينهما يتأرجح صعودا إلى السماء وهبوطا إلى الأرض.
فلم يكد الشاب يطرح أمامي هذا الإطار العام، حتى أخذتني فرحة نشوانة يعرفها كل من يربط سعادته بالقدرة على كشف الجديد في دنيا الأفكار، وقلت له: ألا إنه لينبوع غزير الثراء هذا الذي وقعت عليه يا صاحبي، فلنتأمله معا لنرى كيف السبيل إلى استخدامه وما نحن بصدد البحث عنه.
قال الفتى: لقد ازدادت الصورة وضوحا أمام عيني، فالإطار النظري العام الذي يحدد به الإنسان نظرته إلى نفسه، والذي يجيء اختلاف الثقافات بعضها عن بعض، سواء أكان ذلك بالنسبة إلى تعدد الشعوب، أو بالنسبة إلى تعاقب العصور، هو أن يكون لنفسه تصورا معينا لوضع الإنسان في الكون، ووضعه بالنسبة إلى عالم الغيب، بما في ذلك من مصدر وحيه الديني، الذي يمده بالعقائد والقيم المنظمة لسلوكه، وإنني لأرسم أمام ذهني الآن صورة لثلاث درجات: عليا ووسطى ودنيا، وأتصور الإنسان هو في الدرجة الوسطى يضع قدميه على الدرجة الدنيا، ويشرئب بطموحه نحو الدرجة العليا ، ويجيء اختلاف المواقف الثقافية - بين الشعوب وبين أفراد الشعب الواحد أحيانا - من الطريقة التي نتصور بها وضع الإنسان بين تلك الدرجات، فهناك إطار ثقافي عام يقيس قيمة الإنسان بمقدار استطاعته أن يهمل الدرجة الدنيا بكل ما فيها ليعلو ما استطاع إلى الدرجة العليا، وهنالك إطار ثقافي عام آخر يرى أن الجدوى الحقيقية، والمحك الأساسي الذي يبين قيمة الإنسان هو قدرته على أن ينصرف باهتمامه إلى الدرجة الدنيا (التي هي هذا العالم الطبيعي الذي نعيش فيه) فيوغل فيها بحثا ومعرفة بأسرارها، ومن ثم يتاح له أن يكون فيها سيدا يمسك بزمام الطبيعة، كما يسيطر الفارس الجريء المدرب على جواده، مقيدا إياه باللجام والشكيمة، ليصرفه حيثما شاء، وكيفما شاء له أن ينصرف، وكلا الإطارين الثقافيين اللذين ذكرناهما، على تضاد ما بينهما؛ إذ إن أحدهما يبيع الأرض من أجل السماء، في حين أن الآخر يستدبر السماء لينكب على الأرض. أقول إن هذين الإطارين كليهما، على تضاد ما بينهما، متشابهان في الأساس العميق للرؤية، وهو عدم القدرة على الجمع بين اهتمام الإنسان بالسماء والأرض معا في وقت واحد، ولنا بعد ذلك أن نتصور إطارا عاما ثالثا، لا هو يدير نفسه على محاور الدين كما نزل، ولا هو يديرها على محاور الواقع الطبيعي كما يقع، وإنما هو يبني لنفسه بيتا من أوهامه وأحلامه، كما ينسج العنكبوت فلا هو ينعم بما رسمته له السماء، ولا هو يتقيد بواقع الأرض، ونحن إذ نقول ذلك عن الإنسان الحالم بحياته، نخرج - بالطبع - ذلك الضرب من الأحلام التي تبنى على ضرورات الواقع وقوانينه؛ لأن مثل هذه الأحلام كثيرا ما كانت أسسا لبناء حياة جديدة.
فرغ الشاب الموهوب من هذا البيان الرابع، فما وسعني إلا أن أزيده ثناء وتقديرا، ثم توليت عنه الشرح والتعليق، فقد كان فيما قدمه تخطيط يشبه رسوم المهندسين بالخطوط البيضاء على ورقات زرقاء، ظاهرها بسيط لكنها - برغم بساطتها تلك - تقام على أساسها أعقد ناطحات السحاب وأدقها وأعلاها، نعم، لقد أنار لنا الطالب العلمي النابغة مصباحا، وعلى ضوء ذلك المصباح، أستطيع أن أجيب عن أسئلة كثيرة: فمثلا، سؤال: ماذا يكمن في صميم قولنا إن أوروبا «نهضت» في القرن السادس عشر، نهضة نقلتها من عصور مظلمة إلى عصور مضيئة؟ جواب: الفكرة التي تكمن في صميم هذا القول، هي أن الأوروبي كان يهمل الأرض وشئونها، لتستوعبه السماء وغيوبها فلما نهض نهضته تلك تحول ببصره من أعلى رأسه إلى ما تحت قدميه، وعني بالدنيا ومشكلاتها فعمرت الأرض ولم تضار السماء. سؤال: ماذا يكمن في صميم قولنا إن الحياة الفكرية والثقافية في مصر خلال مرحلتها الراهنة، تدفع المصري إلى الخلف، بعد أن كانت تلك الحياة في الجيل الماضي تحاول دفعه إلى الأمام؟ جواب: تكمن في صميم قولنا هذا فكرة مؤداها أن رواد الفكر والثقافة في الجيل الماضي كانوا يشدون أبصار الناس إلى أرض الواقع الحي، بدل أن تستغرق كلها في النظر إلى أعلى، فجاء رواد الفكر والثقافة في هذا الجيل، ليصرفوا أنظار الناس عن واقعهم وحقائقه، ونموذجهم في ذلك هو ما كانت عليه مصر خلال القرون الثلاثة (16-19) التي اكتفى الدارسون فيها بتقويس ظهورهم على صحائف يحفظونها اليوم لتسميعها غدا. سؤال: لماذا فشل التعليم (بالنسبة إلى ما يبذل فيه من جهود المخلصين) في يومنا؟ جواب: للسبب نفسه، وهو إغماض العين عن الطبيعة وما يبنى عليها من علوم، والاتجاه بمعظم الجهد نحو الإعداد لحياة آخرة.
ولو كان هنالك تناقض بين أن يمسك الإنسان بالحياة من طرفيها: أولاها وأخراها معا، لقلنا إنهم معذورون في إيثار الخلود على الزوال، لكنه لا تناقض بل إنه لأساس مكين من أسس العقيدة الإسلامية أن يحيا الإنسان حياته بأولها وآخرها، وفي هذه المناسبة أذكر شيئا سمعته ممن لم أكن أتوقع أن أسمعه منه، حدث ذلك سنة 1936م حيث ذهبت من إنجلترا إلى ألمانيا في رحلة سياحية مدة أسبوعين، وبينما نحن في سفينة تجول بنا في بحيرة هناك، جاءني دليل المجموعة السائحة التي كنت أحد أفرادها، وعرف أني مصري مسلم، فاسمع ماذا قاله ذلك الشاب الألماني في تعليقه، قال: إنني أتصور الكاثوليكية والبروتستانتية (في المسيحية) والإسلام، وكأني أرى أمامي ثلاثة فروع من جذع واحد: الفرع الأوسط هو الكاثوليكية في الجنوب الأوروبي، وهي للآخرة أكثر منها للدنيا، والفرع الثاني - فرع البروتستانتية - يمتد في الشمال الأوروبي، وهو للدنيا أكثر منه للآخرة، والفرع الثالث - وهو الإسلام - يمتد جنوبا عبر أفريقيا وآسيا، وهو للدنيا والآخرة معا في توازن جميل.
واتجهت إلى زميلي طالب العلم، معترفا له بفضله ورجاحة عقله، وقلت: إننا الآن يا زميلي قد أصبح في مقدورنا إعادة النظر إلى حياتنا الفكرية والثقافية على ضوء المخطط الذي وضعته بين أيدينا، فنرى تلك الحياة وكأننا ننظر إلى تفصيلاتها تحت المجهر، فهنالك جماعة تتجه هي، وتشد الكثرة الكاثرة من الجمهور، نحو أن يكون المثل الأعلى هو أن نستجير بالسماء وخلودها من الأرض وعوابرها النواقص الفانيات (ونحن هنا نتحدث من ناحية الفكر والثقافة) ولو جاز لي أن أقدر بالأرقام نسبة تلك الجماعة ومن يسيرون في ركبها لقلت إنها لا تقل عن تسعين من كل مائة في أفراد الشعب الراشدين، وهنالك جماعة أخرى تقع في النقيض، لكنها قليلة، قليلة حتى ليستطيع عدها بالعشرات لا بالألوف ولا بالمئات، وديدنها الاكتفاء بحياة الدنيا، مع تعميقها بالعلوم والفنون والإنتاج والثراء والعيش الرخي المستريح، ولا يسير في ركاب هؤلاء أحد من جمهور الناس، وأما الجماعة الثالثة، فهي وإن تكن أقلية ضئيلة من حيث عددها، فهي ذات صوت مسموع إلى حد كبير، وهي جماعة تحرص أشد الحرص على أن يعيش الناس حياتهم كما أراد لهم الله أن يعيشوها، وأعني أن تجيء الحياة بكل امتلائها على الأرض، وبكل ما يرضي الله، ابتغاء حياة الآخرة بما وعد فيها المؤمنون، وليس الجمع بين الطرفين ممكنا فحسب، بل هو علامة من أبرز ما يميز عقيدة الإسلام.
ولو كان المجتمع سويا في فكره وثقافته، لاتحدت «الرؤية» في الإطار العام، ثم انحصر اختلاف الرأي تحت مظلة المبدأ المشترك، لكن مجتمعنا اليوم قد أصابه التواء، فتعددت الرؤى، فتفسخت أوصاله، وتصدعت جدرانه، وكمنت جذور ذلك التصدع في أننا لم نتفق على الألف باء، التي هي في هذه الحالة، ماذا يكون وضع الإنسان بالنسبة للإطار العام ذي الدرجات الثلاث.
قلت للطالب النابه: لقد جئتني أول الأمر، تسألني هل يمكنك أن تتلقى مني بيانا لحقيقة «الفلسفة» ما هي؟ وتساءلت إن كان في مستطاعك أن تكون على فهم جيد واضح للمراد بهذا الاسم العجيب، الذي يتبادله الناس ليرفعوا قدره إلى أعلى عليين مرة، ثم ليهبطوا به إلى أسفل سافلين مرة أخرى، فأرجأت جوابي عن سؤالك حتى نفرغ معا من محاورة نجريها لنستوضح - معا - صورة حياتنا الفكرية والثقافية كما نحياها، ولم أرد أن يكون حوارنا في غير موضوع، فاخترت لك مشكلة عينية من مشكلاتنا الحادة، وهي مسألة تحديد النسل وضرورته، وها نحن قد انتهينا معا بعد صعودنا في المحاورة درجة بعد درجة، إلى نتيجة عامة وشاملة.
ونعود الآن إلى سؤالك الذي جئت من أجله، وهو: ما الفلسفة؟ وجوابي هو أن الفلسفة منهج فكري، يبدأ دائما من السطح الفكري الذي يعيشه الناس، ثم يأخذ في الغوص تحت هذا السطح، ليصل آخر الأمر، إلى حقيقة عامة وشاملة تفسر ذلك الذي يجري على السطح - من جهة - وتشير بالتالي إلى ما كان ينبغي أن يكون، والحوار الذي أجريناه اليوم معا، هو مثل متواضع للفكر الفلسفي كيف يعمل.
ثلاثة أصوات
هي ثمانية أسابيع لم تزد على ذلك يوما ولم تقل، قضيتها وراء البحر، أطلب الراحة والعلاج: الراحة لمن لا يعرف كيف يستريح، والعلاج لما ليس منه شفاء، وماذا تكون ثمانية أسابيع بالقياس إلى عمر طال بصاحبه نحو أربعة آلاف من الأسابيع؟ إنها كنصف الدقيقة منسوبة إلى يوم ذي أربع وعشرين ساعة، إذن، فما كان ينبغي لها أن تغير من عادات حياتي شيئا، ولكنها فعلت، وذلك عندي هو موطن العجب.
فقد كنت خلالها، إذا ما أردت أثناء ظلمة الليل، أن أضغط على مصباح النور المجاور لمخدعي، مددت إلى المفتاح ذراعي اليمنى، فلما عدت إلى داري بالقاهرة، والتمست خلال الليلة الأولى نور المصباح، مددت ذراعي اليمنى كما كنت أفعل هناك، ولبثت لحظة أتحسس الحائط بأصابعي دون جدوى، فأسأل نفسي في عجب: أين ذهب مفتاح النور؟ ثم استيقظت الذاكرة لتنبئني بأنني الآن قد بت في القاهرة، حيث تمد الذراع اليسرى إلى مفتاح الضوء. ونهضت من فراشي إلى حيث أريد، فأنساني الشيطان مرة أخرى، واتجهت بخطواتي إلى اليمين، مع أن الطريق إلى باب الغرفة يتجه نحو اليسار، وكان مصدر الخطأ هو تلك البقية الضئيلة الباقية من حياة لم تدم أكثر من ثمانية أسابيع.
ولما أصبح بي الصباح، «تصفحت» الصحيفة اليومية، ولقد وضعت كلمة «تصفحت» بين الحواصر، لألفت النظر إلى أنني إنما أردت الكلمة بمعناها الدقيق، فلعل هذه الكلمة لم تخلق في اللغة إلا من أجلي ومن أجل أمثالي، الذين لا يستطيعون من القراءة - بحكم الضرورة - أكثر من نظرة تلقى على الصفحة كلها، لعلها تلتقط منها عنوانا ضخما هنا، أو عنوانا ضخما هناك، فقراءتي باتت تصفحا، ورحم الله أياما، لا بل أعواما تعد بالعشرات، لم يكن يرضيني من قراءة ما أقرؤه، إلا أن أستوعب المكتوب لفظا لفظا، أم أقول قراءة تستوعبها حرفا حرفا؟ وكنت إذا ما تبينت في المادة المقروءة أهمية خاصة، فعلت ما هو أكثر من ذلك؛ إذ كنت أثبت في قطعة من الورق - وأحيانا على هامش الصفحة التي أقرؤها - كلمة تدل على كل فكرة وردت خلال السطور، ثم أعيدها، وأترك الصفحة التي أمامي، وأشخص ببصري إلى سقف الغرفة، لأعيد رءوس الأفكار التي وردت في السياق، فلم أكن أقرأ لأتسلى، بل كنت أقرأ لأعرف.
ذهب هذا كله، وأصبحت قراءتي «تصفحا»، ولماذا أقول هذا؟ أقوله لأعلن به أنني أعترف مقدما بأن ما سوف أذكره الآن، قد لا يكون صوابا، وأن تكون علة الخطأ هي أن قراءتي للصحيفة اليومية التي أشرت إليها، لم تكن في الحقيقة قراءة يعول عليها، وإنما كانت «تصفحا»، الأغلب فيه أنه يؤدي بصاحبه إلى الباطل أكثر مما يؤدي به إلى الحق.
نعم فقد أصبح بي الصباح الأول بعد غياب لم يطل أكثر من ثمانية أسابيع، فلما «تصفحت» الجريدة اليومية، خيل إلي كأن فكرة لمعت أمامي، لم أدركها بمثل ذلك الوضوح الناصع من قبل، وهي أن ثلاثة أصوات تنبعث من الصفحات، ولا أقول إنها أصوات «متنافرة» بل أقول إنها كانت على الأقل - كما بدت لي - تستقل بعضها عن بعض، كأن كل صوت منها يتعمد ألا يكون له شأن بالصوتين الآخرين، وتلك الأصوات الثلاثة هي: صوت «الدولة» فيما تنشره من حقائق، وصوت «الجمهور» فيما يبثه من الأنين والشكوى، وصوت «الكتاب» الذي يخيل إليك أنه آت من المريخ أو من زحل.
أما أول الأصوات - صوت الدولة - فهو بغير شك أضخمها جرسا وأعلاها نبرة، وأشدها رنينا، وأميز ما يميزه هو ضخامة الأرقام التي يندر ألا تراها متصدرة في المقال، أو في البيان، أو فيما شاء أصحابه أن يسموه (وأذكر القارئ بأنني لا أجاوز ببصري حدود العنوان. بحكم الضرورة) فالأرقام هي بالملايين ومئات الملايين، وإذا تواضعت كانت عشرات الألوف ومئاتها: فالمساكن الجديدة قد شيد منها كذا ألفا، والتليفونات التي تجيء على الطريق هي كذا من عشرات الألوف، والأرض التي ينتظر زرعها بعد أن كانت جدباء هي كذا مليونا من الفدادين، وهكذا قل في جميع نواحي الحياة صغيرها وكبيرها على السواء، ولست أشك في صحة الأرقام المذكورة، لكني أقول إنها - بسبب صدقها - تبشر بما يشبه الجنة على الأرض.
فإذا ما أدرت صفحة وما بعدها، جاءك الصوت الثاني، الذي لا بد أن يكون صاحبه قد غض بصره عن أرقام الصوت الأول؛ لأن ذلك الصوت الثاني لا يسمعك إلا توجعا مما يلاقيه، ومع التوجع ضراعة أن تمتد إليه أيدي الغوث لعله يظفر هو وعياله بأقل من القليل، لماذا؟ ألم تصل إليه قطرات من ذلك الفيض الغزير الذي تعلن عنه الدولة بأرقامها، وهي أرقام لا تعرف إلا الملايين ومئاتها، والألوف وعشراتها؟ أم أن مشكلات حياتنا قد أصبحت كالبحر المحيط، وما وجوه الإصلاح إلا كاغترافنا من مائه بملعقة لنجففه، فإذا هو باق على حاله بحرا محيطا؛ كنت ذات يوم أتحدث إلى واحد من أصحاب الأنين والشكوى، فقلت له خلال الحديث: إنك يا صاحبي تنظر إلى صفحة من الكتاب وتترك الصفحة التي تقابلها، فتشكو مما يزحم الطرقات من أكوام الرمل والزلط، وتترك ما يقابل تلك الأكوام من عمائر تقام، وتشكو من غلاء اللحوم والفاكهة وغيرها من مواد الغذاء، وتترك ما يقابل ذلك من أن أحد الأسباب التي أدت إلى ذلك، هو أن ملايين كانوا لا يأكلون فأكلوا، فنافسوك في الطلب، فارتفعت الأسعار، وتشكو من قلة الأيدي العاملة داخل بيتك وخارجه، وتترك أن العلة إنما تعني أن تلك الأيدي كلها تعمل وتكسب المال، حتى لم يعد يسيرا عليك أن تجد منها يدا خالية لتسعفك.
لكننا الآن لسنا في مجال هجوم ودفاع، وكل ما يعنيني بهذه السطور التي أقدمها، هو أن أبين للقارئ ماذا صنعت بي ثمانية أسابيع قضيتها وراء البحر، ولم تكن هذه أول مرة أقضي فيها الأسابيع وراء البحر، بل هي عادة ألفتها منذ أعوام لا أدري كم يبلغ عددها، فما الذي جعلني هذه المرة أقرأ الصحيفة اليومية، فكأنما أتبين فيها - للمرة الأولى - أن من صفحاتها تنبعث ثلاثة أصوات، ولا يأبه صوت منها بالصوتين الآخرين، كأن كلا منها في واد منعزل: فالدولة بصوتها الضخم القوي العريض مشغولة بملايينها في واد، والجمهور بأنينه المتوجع في واد ثان، وأصدقاؤنا الكتاب في واد ثالث، وأقل ما أزعمه لتلك الأصوات الثلاثة، هو أنها أبعد ما تكون عن أن تؤلف معا معزوفة موسيقية تستريح لها الأذن.
كنت أحدثك عما وجدته في الصحيفة من توجع الجمهور وضراعته، وها أنا ذا أكمل لك حديثي عن الصوت الثالث، وهو صوت الكتاب بمختلف صنوفهم، وحسبي أن أقول إنني رأيت انشغالا بالآخرة أكثر من الانشغال بالأولى، ووجدت ما يشبه معركة قائمة: هل كان فلان يرجع بأصوله الأولى إلى بلاد واق الواق، أو كان يرجع بتلك الأصول إلى جزيرة الشيطان؟
ترى هل أزالت عني تلك الأسابيع الثمانية حجابا فوضحت الرؤية أمامي، أو أضافت لي حجابا إلى حجب فضللتني؟ لقد جلست على مسمع من التليفزيون عشية ذلك اليوم، لأسمع الأخبار، فكنت كمن أدرك للمرة الأولى أننا لا نقدم الأخبار مرتبة وفق أهميتها الموضوعية الحقيقية، كما رأيت الناس يفعلون وراء البحر، بل نرتبها بمقدار قربها أو بعدها عن أصحاب المناصب العليا، فمقابلات السيد رئيس الجمهورية، والأخبار المتعلقة بالوزراء وكبار المسئولين، تسبق أنباء حرب اشتعلت نيرانها في أرض تهمنا، أو أنباء زلزال ارتجت له الأرض فقضى في لمح البصر على عشرات الألوف من البشر، والله أعلم منا أين الصواب في ذلك وأين الخطأ. لكن ذلك لا يمنع الإنسان من عرض رأيه على الناس، وهم أحرار في رفضه وقبوله، ورأيي هو أن مقياس الصواب في هذه الحالة وأمثالها، هو أيهما أنفع أثرا في تربية الشعب تربية إنسانية مرهفة الحس، يقظانة الضمير؟ وأحسب أنني إذا حرصت على تقديم الأهم قبل المهم، يوما بعد يوم، وعاما بعد عام، كنت بذلك أقرب إلى تربية الشعب في سلامة الإدراك، وفي رؤية النسب الصحيحة بين الأشياء والحوادث.
وإن ذلك ليغريني بذكر شيء، قرأته في صحيفة الصباح، وسمعته في تليفزيون المساء، وهو شيء تعمدت بادئ الأمر ألا أتورط في ذكره أو الإشارة إليه، لكنني أحسست - حين حانت لحظته المناسبة - بأن واجبي هو أن أقول الحق كما أراه، ولتشفع لي سني التي بلغت ما بلغته، إن لم تكن النية الحسنة وحدها شفيعا كافيا، وإنما قصدت بهذا ما قرأته وما سمعته عن «منحة» العيد للعاملين، بتوجيهات من السيد الرئيس، وإني لأستأذن السيد الرئيس بكل ما عرفناه فيه من إخلاص ونزاهة وجدية وصدق، أستأذنه في أن أطرح السؤال الآتي: هل نعمل على تربية الشعب تربية ديمقراطية صحيحة، وعلى بث روح العزة والكرامة والاعتداد بالنفس، حين نعلن في مناسبات الأعياد عن «منحة» للشعب العامل، بأمر من رئيس الجمهورية؟ من الذي يمنح من؟ ومن أي مال يمنحه؟ إنني - معاذ الله - لا أستهدف قطع الأرزاق، ولكنني لا أستريح ضميرا حين أرانا نعيد صور الماضي الذي ثرنا عليه لنغيره، ذلك الماضي الذي كان الحاكم فيه يقول للناس إنه «ولي النعم»، وواجبنا هو أن نمحو من الوجود محوا، كل أثر يوحي للإنسان بأنه تابع يتلقى الصدقة من سيده، إذا أراد سيده أن يتصدق عليه، ومغفرة إذا كنت على خطأ.
وأعود إلى الأصوات الثلاثة التي لا يلتقي صوت منها بصوت وكل في واد يهيم، إنك إزاءها لا تعرف هل لك أن تتفاءل أو عليك أن تتشاءم؟ فإذا أردت تفاؤلا، فاقرأ صوت الدولة بأرقامها، وإذا أردت تشاؤما فاقرأ صوت الجمهور، وإذا أردت أن تفقد هويتك وأن تسبح في بحر النسيان وغياب الوعي، فاقرأ بعض ما يكتبه «الكاتبون»، صوت الدولة يضعك على أرض تجري فيها أنهار العسل واللبن، وصوت الجمهور يملأ سمعك بالأنين، ويملأ قلبك بالحسرة والأسى، ومع بعض الكرام الكاتبين لا تعرف أين أنت، ولا تدري وأنت معهم متى ولماذا.
مع كل صوت من الأصوات الثلاثة خريطة لمصر، لكن خريطتها هنا ليست هي خريطتها هناك، ومن يقصر رؤيته على خريطة واحدة منها، لم يعرف شيئا عن أهل الخريطتين الأخريين، فأنين الخريطة الثانية لا تسمع أصداؤها في الخريطة الأولى، وأرقام الخريطة الأولى لا تعيها الخريطة الثانية، وأما أصحاب الخريطة الثالثة فهم في عالم آخر، وعلى سبيل التفكهة أروي ما قاله لي صديق كان أستاذا للجغرافيا الاقتصادية في كلية التجارة، وقد ورد في كتاب له يدرسه طلابه، عن محصول البن أنه يهم الناس جميعا، من الزارع والتاجر إلى رجل الشارع وسيدة الصالون وهي تحتسي قهوة الصباح، فجاءه طالب ليقول له مازحا: لقد بحثت يا دكتور في كل خريطة عندي عن السيدة التي تحتسي القهوة في صالونها، فلم أجد لها أثرا.
الفرق بعيد بين أن تتعدد الأصوات في جماعة من الناس، تعددا يجعل كل صوت منها مقطوع الصلة بالأصوات الأخرى، وأن تتعدد الأصوات في جماعة أخرى تعددا لا يمنع أن تجيء تلك الأصوات بمثابة التنويعات على لحن واحد، في الحالة الأولى تنتج عن الأصوات ضجة، وفي الحالة الثانية تنتج عنها معزوفة موسيقية، في الحالة الأولى قد يمحو كل صوت أثر الصوت الآخر، وفي الحالة الثانية يزداد كل صوت قوة بفعل الأصوات الأخرى، وفي الحالة الأولى تجيء حركة المجتمع أقرب إلى حركة الذي يقفز قفزته إلى أعلى، ليعود إلى موضعه من الأرض حيث كان، وفي الحالة الثانية تجيء حركة المجتمع شبيهة بحركة من يقفز قفزته إلى أمام، حتى إذا ما عاد إلى موقع من الأرض، وجد نفسه قد تقدم بمقدار ما قفز.
المثل الأعلى لحياة المجتمع، هو أن يكون لكل فرد طابعه الخاص الذي يتميز به دون سائر الأفراد، وأن يختلف بصوته (أي برأيه) ما شاء له فكره أن يختلف؛ لأنه إذا تشابه فردان من البشر تشابها كاملا، كان أحدهما زائدة لا مبرر لوجودها، ولكن شريطة أن يجيء اختلاف الأفراد، مماثلا لاختلاف الآلات الموسيقية مع مختلف العازفين في سيمفونية واحدة، فما دامت الفرقة العازفة بكل أفرادها، تتبع «نوتة» واحدة، فاختلاف الأصوات عندئذ يكون قوة ولا يكون ضعفا.
ولنقف هنا لحظة هادئة، نتأمل فيها هذه السمة التي هي من علامات الحياة السليمة القوية، نتأملها على مهل؛ لأنها مفتاح مهم للطريق السوي، إذا ما أردنا لأنفسنا هداية على الطريق، فحياة الناس في أمة بعينها، وفي أي مرحلة زمنية من مراحل تاريخها، إنما هي مجموعة مركبة من مئات الألوف من الأمزجة والأفكار والأعمال والهوايات والقدرات والميول والرغبات، ويستحيل ألا تجيء الحياة على صورة شديدة التركيب والتعقيد، ما دام لكل فرد من أبناء تلك الأمة الواحدة اتجاهاته وملكاته واختياراته، ولكن هذه الكثرة الغزيرة من مناحي الحياة وطرقاتها، كثيرا جدا ما تلتقي كلها في جذور واحدة، إبان العصر التاريخي الواحد، بحيث يستطيع المؤرخ بعد ذلك، بشيء من نفاذ البصيرة، أن يصف ذلك العصر بالصفة التي تميزه دون سائر العصور، وذلك - بالطبع - إذا كانت تلك الحياة - كما قلنا - سليمة التكوين، واضحة الأهداف، سديدة الخطى، وأما إذا جاءت كثرة العناصر خليطا مهوشا، لا يتفق العازفون فيه على لحن واحد، كان الناتج شيئا كالذي أصيبت به بابل القديمة، حتى امتنع عليها أن يكون لها كيان موحد، يطرد سيره ويصبح له تاريخ.
إنه لأمر معروف مألوف، في تاريخ الحضارات، أو في تاريخ الفكر، أن يبحث الباحثون عن الخصائص البارزة المميزة للعصور المختلفة، ولولا أن الحياة الاجتماعية، على الرغم من تباين أفرادها فيما يعملون، يظل لها المحور الواحد الذي تدور عليه رحاها، أقول إنه لولا ذلك، لتعذر أو استحال أن نميز عصرا معينا في حياة أمة معينة، أعني أن نميزه بصفة تحدد معالمه، وفي هذه المناسبة أذكر أنه قد صدر منذ بضع سنين، سلسلة من الكتب الإنجليزية يصور كل كتاب منها، الحياة الفكرية في أوروبا إبان قرن من الزمان، بادئة من القرون الوسطى فصاعدة نحو عصرنا، ويكفي أن يقرأ القارئ عنوان الكتاب في تلك السلسلة، ليعرف الروح التي سادت خلال القرن المعين الذي يتحدث عنه الكتاب، فكتاب العصور الوسطى عنوانه «عصر الإيمان»، وكتاب القرن السادس عشر عنوانه «عصر النهضة»، ثم تتوالى العنوانات مع القرون: «عصر العقل»، «عصر التنوير»، «عصر التطور»، وأخيرا «عصر التحليل»، وهذا هو القرن العشرون، فإذا قرأت كتابا من تلك السلسلة، عرفت كيف تلتقي مناشط الفكر كلها - في القرن الواحد - عند محور أساسي واحد. وبديهي أن واحدية المحور قد نتجت عن واحدية الهدف عند الجميع.
وعلى هذا الأساس، أطرح السؤال الآتي أمام القارئ: بأي الخصائص نصف الحياة في مصر إبان هذه الفترة من تاريخها؟ إنه إذا وجد الجواب الصحيح، كنا بخير ونسير على هدى، وأما إذا وجد مناشطنا واتجاهاتنا أقرب إلى الخليط البابلي الذي لا يجد ما يوحده على صوت واحد، ولغة واحدة، كان من حقنا أن نطالب بوقفة هادئة نراجع فيها أنفسنا، لعلنا نرسم طريقا للسير، يترك المجال فسيحا لكل فرد أن ينشط بما يحقق ذاته، لكنه في الوقت نفسه يربط الجمع برباط اللحن الواحد.
ولكن على فرض أنني كنت على صواب، حين قلت إن ثلاثة أصوات في حياتنا يزحم بعضها بعضا، ولا يبالي صوت منها ما يصيح به صوت آخر، وبالتالي فإن حياتنا تلك قد جاءت بلا لون غالب يميزها؛ لأنها حياة بغير هدف واضح، فماذا نحن صانعون؟ إنه لا يكفي أن نشخص المرض - وإن يكن هذا التشخيص ذا أهمية بالغة إذا كان صادقا - بل لا بد كذلك من التفكير في العلاج، فلو جاز لي أن أختم حديثي بإشارة سريعة إلى العلاج الذي أراه، توحيدا للهدف، وتوحيدا للصوت، أو قل توحيدا للنغمات المتباينة في معزوفة واحدة، لقلت: إنه لا بد أولا من الإيمان بوجوب المشاركة الفعالة في أسس حضارة عصرنا وثقافته، ثم صب هذه الأسس في قالب الشخصية المصرية العربية، فإذا أدركنا تلك الأسس على حقيقتها، وأدركنا معها مقومات الشخصية المصرية العربية، عرفنا كيف نقيم إطارا للتربية والتعليم على هذا الأساس، وإطارا للحياة السياسية على هذا الأساس، وإطارا للفن وللأدب على هذا الأساس، وإطارا للنظم الاجتماعية من الأسرة فصاعدا على هذا الأساس، وفي كل مجال من تلك المجالات، لا بد بطبيعة الحال أن تتعدد شواغل الناس واهتماماتهم وأعمالهم، بمقدار ما يتعدد الأفراد، لكن هذا التعدد سينطوي كله تحت مظلة واحدة، هي تلك الصيغة التي تصورناها وصورناها وأقمنا مناشطنا على أساسها.
هي ثمانية أسابيع قضيتها وراء البحر، لم تكن أول مرة ولا عاشر مرة أقضي مثلها هناك، لكنني هذه المرة دون سابقاتها، عدت فأحسست بعدها بأن في حياتنا تتزاحم الأصوات، مما يكاد يبطل بعضها بعضا.
نفوسنا صدئت فأصقلوها
كنت أنقل عيني في كراسات قديمة، ملأت صفحاتها على امتداد سنوات خمس، في مرحلة معينة من مراحل حياتي، وهي مذكرات عن مقروءات مررت بها، إذ كنت إذا أعجبتني عبارة، أو استوقفتني فكرة، أسرعت إلى إثباتها في تلك الكراسات، ومعظم ما أثبته منها قصير، لا تزيد الواحدة منها عن سطر واحد أو سطرين، لكنني أهملت تلك الكراسات إهمالا أخرجها من حياتي، حتى لقد نسيت أين وضعتها، وذلك لأني أدركت قلة جدواها، فلا هي مفهرسة ولا هي مبوبة، فكيف لي أن أستخرج منها شيئا، إلا أن أظل أتصفح ما يقرب من خمسمائة صفحة، عسى أن تقع العين على المدونة التي أبحث عنها؟
لكنها موجة الملل التي غمرتني بالأمس، هي التي دفعتني إلى التقليب والتنقيب هنا وهنا وهناك، وإذا بتلك الكراسات تظهر من خفائها، فكانت هي ما اخترته لأزيح به موجة الملل! ورحت أقلب الصفحات، وأنقل العين، معجبا بهذه العبارات هنا، مبتسما لتلك الفكرة هناك، ولقد كان جميع ما امتلأت به خمسمائة صفحة من قبسات مدونة، مغرقا عندي في بحر النسيان، ولكنني - يا للعجب - برغم طول المدة على تلك القبسات، وعمق النسيان الذي غرقت في بحره عندي، كنت كلما وقعت عيني على واحدة منها، تذكرت من فوري أين كنت قرأتها، فكأنني كنت أوقظ النيام من رقادهم بلمسة أصبع.
ووقفت عند إحداها، وهي عبارة تقول: «حادثوا هذه النفوس، فإنها سريعة الدثور.» كأنما أراد: أصقلوها وأجلوا الصدأ عنها. انتهت العبارة كما وردت في تلك المذكرات، وبلمعة كلمعة البرق، تذكرت أنني نقلتها عن أبي حيان التوحيدي في كتابه «الإمتاع والمؤانسة»! وقبل أن ألجأ إلى الكتاب لأبحث عن تلك العبارة في سياقها الذي وردت خلاله، وقفت بضع دقائق أتساءل فيها عن كلمة «حادثوا» في قوله: «حادثوا هذه النفوس». ما معناها؟ لقد بدت لي العبارة على شيء من الإبهام، وهنا أخرجنا الكتاب من مكمنه، وما هي إلا لحظة خاطفة حتى تذكرت كل شيء عن ذلك المعنى، فكتاب «الإمتاع والمؤانسة» هو تسجيل لأحاديث دارت في قصر الأمير، وأظنها كانت أربعين حديثا (أو نحو ذلك) دارت على أربعين ليلة، وكان الحديث الأول الذي وقع في الليلة الأولى، يدور حول سؤال ألقاه الأمير على أبي حيان التوحيدي عن خصائص الحديث الجيد، ما هي؟ فأخذت خواطر المتحدث تنساب متقاطرة خاطرا بعد خاطر، وكان بينها تلك العبارة التي أسلفت ذكرها: حادثوا هذه النفوس فإنها سريعة الدثور. كأنما أراد أصقلوها وأجلوا الصدأ عنها.
ويزداد المعنى لك وضوحا، حين تعلم أن جزءا كبيرا مما قاله أبو حيان التوحيدي في تلك الليلة، كان منصبا على العلاقة في المعنى بين كلمة «حديث» بمعنى ما يدور بين المتكلمين من حوار ونقاش وتبادل رأي، وهذه اللفظة نفسها (حديث) بمعنى: جديد، ليخلص الحاضرون - بعد استطراد في الخواطر - إلى نتيجة هامة جدا في هذا الموضوع، وهي: وجوب أن يأتي كلام المتحدث بما هو جديد، وإلا فالصمت خير له من الكلام، فحديث المتحدثين ليس بذي نفع إلا إذا كان «حديثا» أي إلا إذا كان يحمل معنى جديدا لم يكن يعلمه السامعون.
وبعد هذا التوضيح، فلنعد إلى الجملة التي كنت نقلتها في مذكراتي: «حادثوا هذه النفوس، فإنها سريعة الدثور»، أي إن الضرورة الحيوية تقتضي أن نزود الناس في محادثاتنا إياهم بما هو جديد، تتجدد به النفوس، إذ لو ظللنا نعيد لهم ونبدي في غمة رتيبة، أشياء ألفوها، لأنهم سمعوها من قبل ذلك ألف مرة، فسرعان ما يعلو نفوسهم الصدأ، وينتابها البلى، وواجبنا هو أن نصقلها ونجلوها من الصدأ الذي لحق بها، وذلك لا يكون إلا بجديد نقدمه، وبتجديد في النفوس يترتب عليه.
وفي هذا الضوء، أرجوك أخلص الرجاء - يا قارئ هذه الكلمات - أن تركز انتباهك فيما يقال لنا من «أحاديث»، وما يذاع فينا، وما ينشر علينا، وانظر كم في تلك «الأحاديث» ما هو حديث، بمعنى الجديد؟ ومتى يكون الجديد جديدا بكل معنى هذه الكلمة؟ إنه لا يكفي في الجديد الذي نطلبه أن يكون أي شيء غير مألوف، وإلا لكانت حركات اللاعبين في السيرك من مشي على حبال مشدودة في الخلاء، ومن مداعبات للسباع والنمور، وما إلى ذلك، هي ذروة العبقرية في حياة الناس؛ لأن فيها ما لم يألفه الناس في حياتهم المعتادة في البيت والشارع؛ بل الجديد المطلوب هو ذلك الذي يغير حياتنا العملية أو الثقافية، إنه هو الذي يبدل فينا نظرة بنظرة، إننا بغير شك قد تخلفنا على طريق الحياة المتحضرة المتطورة، كنا في طليعة الطليعة على مدى قرون من الزمان، ولم يقتصر بنا موقع الريادة على مائة عام أو مائتين، فما الذي أصابنا إن لم يكن فكرا فاسدا ملأ رءوسنا، وسلوكا عقيما قد شغل حياتنا؟ وكانت أحاديث المتحدثين لنا في معاهد التعليم وفي أجهزة الإعلام، لتنتج فينا ما ينقلنا من الضلال إلى الهدى، لو أن تلك الأحاديث قد التزمت معناها الذي أشار إليه التوحيدي، وهو أن تكون «حديثا» أي أن تنقل إلينا الجديد الذي نتجدد به فكرا وسلوكا.
وإنه ليخيل إلي أننا - وأعني الأمة العربية في مجموعها - متميزون بالنسبة إلى سائر الأمم بحبنا للتحدث بعضنا مع بعض، «فالكلام» جزء حيوي جوهري في حياتنا، هو بالطبع حيوي وجوهري بالنسبة إلى كل إنسان، عربيا كان أو غير عربي! ولكنه معنا يزيد عنه مع غيرنا، ولا أدري إن كانت البيئة الصحراوية علة مباشرة لتلك الخاصة فينا. وفي هذه المناسبة، أحب لك أن تلحظ بأن الصحراء هي موطن الأمة العربية كلها، ولا ينفي هذه الحقيقة الجغرافية أن يتخلل تلك الصحراء الممتدة من الخليج العربي شرقا إلى المحيط الأطلسي غربا، أقول إنه لا ينفي صحراوية تلك الصحراء الفسيحة، أن تتخللها واحات خضراء بزرعها، بعضها صغير متناثر هنا وهناك، وبعضها الآخر كبير يتمثل في وديان الأنهار، ومنها نهر النيل وواديه الأخضر، فالصحراء هي التي أمدتنا بكثير جدا من طباعنا، التي ربما كان منها طبع «الكلام» ليكون وسيلة - أهم وسيلة - في شغل أوقات الفراغ، وحين يبلغ ذلك الكلام ذروته الفنية، يكون «أدبا» شعرا ونثرا، ومرة أخرى أقول إن البيئة الصحراوية، التي هي موطن الأمة العربية كلها بصفة عامة، هي المسئولة عن شدة حبنا ل «الحديث» من حيث هو وسيلة لتمضية الفراغ، كما أنها هي التي أدت - في الوقت نفسه - إلى أن يكون للشعر في حياة العربي مكانة قد تعلو على مكانته في أي شعب آخر، وقد لحظ الجاحظ هذه الملحوظة عن الشعر العربي ومكانته، وقال إنه كما تميزت الشعوب الأخرى بما يميزها، فاليونان ميزهم الكتاب (أذكر أن هذه هي اللفظة التي ذكرها الجاحظ في هذه المناسبة، ليشير بها إلى «الفكر» اليوناني) والفرس ميزتهم العمارة، والهند ميزها كذا، فالعرب قد تميزوا بالشعر، ويرتب الجاحظ على ذلك نتيجته، وهي أنه بقدر ما يسهل على الشعوب الأخرى نشر ثقافتهم عن طريق الترجمة، يصعب، بل يستحيل على العربي نشر ثقافته بين الآخرين، لتعذر نقل الشعر بالترجمة (اقرأ ذلك في الجزء الأول من كتاب «الحيوان» للجاحظ).
أردت أن أقول إن اللغة - حديثا يتبادله السامرون، أو أدبا من شعر أو نثر فني - هي في الصميم من الحياة العربية، جدا ولهوا، فلم يكن من قبيل المصادفة أن يجتمع معنيان في كلمة «حديث»، فالحديث معناه الكلام، والحديث كذلك معناه ما هو جديد، فكان هذا الربط بين المعنيين من عبقرية اللغة العربية؛ لأنه ربط صدر عن ضرورة تحتمها حياة الصحراء. فساكن الصحراء، إذا لم يأته الجديد عن طريق الأحاديث، فقلما يأتيه من مصدر آخر، وفي ضوء هذه الحقيقة الطبيعية والنفسية نسأل: هل يجوز لنا أن نضيع ألوف الساعات بعد ألوفها في أحاديث فارغة، أو شبه فارغة، إذا قيست بما يغير فينا وجهات النظر؟ من أين يأتينا التغيير نحو الأفضل والأرقى، إذا لم نكن نسمع من المتحدثين إلينا إلا كلاما مكرورا معادا، كأن تيار الزمن قد قيل له: قف! فوقف وتجمدت حركته عند لحظة مرت عليها قرون؟
إن مما يقال على سبيل الفكاهة، ولكنها فكاهة يميزون بها بين بعض الشعوب في الغرب، أنه إذا كان الفيل هو مدار الاهتمام، كانت طريقة الألماني أن يقرأ عنه في مراجع علوم الحيوان، ليقدم عليه دراسة فلسفية، وكانت طريقة الفرنسي أن «يتفرج» عليه في حديقة الحيوان، وكانت طريقة الإنجليزي أن يحمل معدات الصيد ويذهب إلى الفيل في موطنه ليصيده، وكانت طريقة الأمريكي أن يأخذ صيد الإنجليزي ليتاجر فيه. ولقد أضفت من عندي إلى هذا القول أن طريقة العربي هي أن ينظم فيه شعرا، أو أن يتحدث عنه مع خلانه في حلقات السمر، فللحديث عندنا طلاوة وحلاوة، وليس في ذلك بأس، شريطة أن يلتزم معناه، وهو أن يحمل الحديث في ثناياه ما هو حديث، ولابن الرومي بيتان من الشعر يبدأ أولهما بقوله: لقد سئمت مأربي ... (ونسيت بقيته) ثم يأتي البيت الثاني فيقول: «إلا الحديث، فإنه، مثل اسمه، أبدا حديث.»
وأعود إلى البيئة الصحراوية وما تبثه في أبنائها من طبائع، فنرى كيف أن اطراد الحياة وظروفها، واطراد المناخ وحالاته، يجعل ساكن تلك البيئة دائم التطلع إلى حدث جديد يخفف عنه سأم الرتابة، ومن ثم كانت أهمية «الجدة» فيما يطرأ عليه مما يفسر أن تجمع اللغة العربية كلا المعنيين: الحدوث، والجدة، في لفظة واحدة، هي لفظة «حديث»، ولعل تطلع العربي للحادث الذي هو في الوقت نفسه يحمل معه النبأ الجديد، هو ما جعل اللغة العربية تضع «الفعل» قبل الفاعل في ترتيب مفردات الجملة الفعلية فنقول: «جاء زيد» أكثر مما نقول: «زيد جاء»؛ لأن المجيء - مجرد المجيء - هو الذي يهم المترقب، أكثر مما يهمه من هو الذي جاء، ولقد عبر التوحيدي عن هذا المعنى في حديث الذي أشرنا إليه، بقوله: «الحس شديد اللهج بالحادث.» أي أن حواس المترقب، من بصر وسمع، شديدة اللهفة على ما يحدث في الحياة الرتيبة من جديد يصاحبه بالضرورة شيء من التغير.
وفي هذه المناسبة سأله الأمير: ما الفرق بين الكلمات الثلاث: حادث، ومحدث، وحديث؟ فقال التوحيدي ما معناه: إننا نستعمل كلمة «حادث» عندما يكون الموقف الذي نحن بإزائه مفهوما بذاته، مستقلا عما سواه، وأما كلمة «محدث» فتستخدم عندما يرتبط الموقف الذي نتحدث عنه في أذهاننا، بالشيء الذي كان مصدرا لحدوثه، ثم تستعمل كلمة «حديث» بمعنى «جديد» عندما يكون الأمر وسطا بين الحالتين اللتين ذكرناهما، فالموقف الحديث، لا هو مرتبط في الفهم حتما بموقف سبقه، ولا هو مستقل بذاته، وإنما هو مرتبط في الفهم عند المتكلم والسامع كليهما باللحظة الزمنية، فهو حديث لأنه وليد لحظة حاضرة أو قريبة من اللحظة الحاضرة، وعلى هذا فلا بد أن يكون ما هو حديث، قريب الولادة، أو قريب النشوء، أو بعبارة التوحيدي: «قريب العهد بالكون، وله نصيب من الطرافة.» وها هنا وردت عبارة التوحيدي التي أخذت منها عنوان هذا المقال، وهو قوله: «حادثوا هذه النفوس، فإنها سريعة الدثور.» وكأنما أراد (ذلك السلف) أن يقول: أصقلوها، وأجلوا الصدأ عنها.
ولم يفت التوحيدي، في هذا الموضع من كلامه، أن يشير إلى منزلة ما هو «قديم» في النفوس، بالقياس إلى ما هو حديث (أو جديد)، فقال إن ما هو حادث من شأنه أن يثير في النفس شعور التعجب، وأما ما هو «قديم» فيثير الشعور بالتعظيم والإجلال، وكاتب هذه السطور يضيف إلى قول التوحيدي هذا، ما يشرحه، أنه لما كان الشيء الحديث أو الجديد - بحكم حداثته هذه - مغايرا لما ألفه الناس، كان لا بد له أن يلفت إليه النظر المقرون بالدهشة، وبالتالي فهو يحرك الذهن نحو التفكير فيه، ومن هنا قال اليونان الأقدمون إن الشعور بالدهشة هو الذي يحفز الإنسان إلى التفكير العلمي أو التفكير الفلسفي، فلو فرضنا أن شعبا قضى على نفسه أن يوصد أبواب الجديد مكتفيا بما هو قديم موروث ومألوف، فالراجح ألا يعرف شعب كهذا طريقه إلى الإبداع بكل جهاته: في العلم وفي الفلسفة وفي الأدب والفن، وأما «القديم» فله منا كل تعظيم وإجلال؛ ولذلك حرصنا على بقائه وإقامة المتاحف التي تعرضه على الأنظار، ليكون مصدر وحي في عملية الإبداع، ولنلحظ هنا تلك العلاقة الوثيقة بين «القدم» والخلود لمبدعات السلف، فحتى لو كشفنا في باطن الأرض عن بقايا إناء من الفخار، لبث حيث احتقرناه بضعة آلاف من السنين، فإننا نعظمه ونوقره ونصونه في صندوق زجاجي داخل متحف الآثار. لماذا وهو مجرد إناء قديم من فخار؟ ذلك لأن «القدم» في ذاته يكسب القديم قيمة فنية فيخلد بها، ولا عجب أن نجد رجال الفن حريصين على أن تكون المادة التي يستخدمونها في مبدعاتهم قادرة على مغالبة الدهر، والذي استهدفته من هذا الشرح الذي قدمته، تبيانا للفرق بين الجديد والقديم في نفس المتلقي، هو أن أوضح ما ينبغي لنا أن نضعه إزاء قديمنا وجديدنا، فللقديم منا كل التعظيم وكل الإجلال، من حيث هو باعثنا على الإبداع، وأما الجديد فهو الذي من شأنه أن يكون موضع تفكيرنا العلمي، أو تأملنا الفلسفي؛ لأن القديم قد استنفد أغراضه مع أصحابه السالفين، علما وفلسفة.
عندما طلب الأمير من التوحيدي أن يحدد له خصائص الحديث الجيد، وكان ذلك في مستهل الجلسات التي اعتزم الأمير إقامتها في داره، ليتيح الفرصة للصحاب أن يستمعوا إلى علم التوحيدي ومعرفته الواسعة، كان شرط «الجدة» محتوما، وقد عرضنا فيما أسلفناه أبعادا مختلفة لتلك الصفة في الحديث الجيد، لكن ذلك الشرط لم يكن عند التوحيدي هو الشرط الوحيد، بل أضاف شروطا أخرى في غضون حديثه، يلفت النظر منها قوله: «الحديث معشوق الحس بمعونة العقل.» وهو قول يستحق منا وقفة متأملة، فأما أنه معشوق الحس فأمر واضح؛ لأنه إذا لم يكن الحديث لافتا للأسماع، فما جدواه؟ إذا حدثنا محدث فكان في حديثه ثقيل الدم كثيف الظل، وصممنا عنه آذاننا، فقد سددنا عليه الطريق إلى عقولنا، وذهبت كلماته لغوا فارغا، لكن الذي يحتاج إلى بعض الشرح والتوضيح في عبارة التوحيدي، فهو قوله «بمعونة العقل»، فماذا يصنع «العقل» في الحديث الجيد؟
العقل في أخص خصائصه، وهي الخصائص التي من أجلها أطلقت عليه لغتنا العربية اسم «العقل» أي «القيد» الذي يقيد خطواته ويحكمها، لنضمن به الوصول إلى غاية منشودة، أقول إن «العقل» في أخص خصائصه هو «ترتيب» المقدمات مع النتائج التي تتولد عنها، وأرجوك أن تتمهل في قراءتك لكلمة «ترتيب» هنا؛ لأن فيها لب العقل وصميمه، فالكلام، «اللامعقول» هو الذي لا يلتزم ترتيب اللاحق مع السابق في سياق الحديث، وأظن القارئ على علم بما كان يسمى بأدب اللامعقول، وكان من أمثلته مسرحية «يا طالع الشجرة» للأستاذ توفيق الحكيم، فهو أدب جاء في عصرنا ليصور ما أصيب به الناس في عصرنا من انسداد في طريق التفاهم، فالناطقون باسم هذا الشعب أو ذاك - في هيئة الأمم المتحدثة مثلا - إنما يتكلم الواحد منهم، وكأنه يخاطب الهواء؛ لأن أحدا من الشعوب الأخرى لا يعنيه أن يسمعه السمع الذي يتأثر به.
مرة أخرى أقول إن شرط «العقل» الذي يشترطه التوحيدي في الحديث الجيد والنافع، معناه أن تجيء الأجزاء مرتبة على نحو يكون فيه الجزء اللاحق قائما على بينات وردت في الأجزاء السابقة، ومثل هذا التسلسل مؤد حتما إلى نتيجة يخرج بها السامع، إما أن يأخذ بها، وإما أن يعترض عليها، بأن يبين للمتكلم أين يقع موضع الخطأ في التسلسل المذكور.
ذلك هو جانب «العقل» في الحديث الجيد، مذاعا لتسمعه الأذن، أو منشورا على الورق لتطالعه العين ، ولا كذلك تكون الحال فيمن يتحدث حديثا يشبع به وجدانه، فها هنا لا يطلب من المتكلم أو الكاتب مثل ذلك الترتيب، بل يكون المطلوب ترتيبا آخر مؤداه أن يتأثر شعور المتلقي بالأثر الذي يراد له أن يتأثر به، ومن هذا القبيل يكون الشعر - مثلا - فلسنا نطالب الشاعر بأن يرتب أفكاره مقدمات تتلوها نتائج، بل نترك له حرية الترتيب الذي يراه كفيلا بإحداث الأثر المطلوب، وغاية ما يجوز اشتراطه في هذه الحالة هو أن يراعي الشاعر - أو الفنان في أي فرع من فروع الفن والأدب - أن تجيء الأجزاء متصلا بعضها ببعض، على نحو ما تتصل أعضاء الكائن الحي، وذلك لكي تتاح الفرصة بأن يتجمع الأثر في بؤرة واحدة، فيبلغ في التأثير أقصى مداه.
لقد استطرد بنا الحديث حتى لأخشى أن نكون قد بعدنا عن قلبه إلى أطرافه، فقلب الموضوع الذي نعرضه هو أن نروج لما هو جديد، مستندين في هذا الترويج إلى قطعة حية من التراث، ومستندين فيه كذلك إلى دلالات اللغة العربية ذاتها، حين جمعت في كلمة «حديث» المعنيين معا: الألفاظ التي نتحدث بها، والجديد الذي لا بد لتلك الألفاظ أن تحمله إلى المتلقي، وإلا فقدت قيمتها، فقد سئل أعرابي: أتمل الحديث؟ فأجاب بذكاء قائلا: إنما يمل العتيق. فكأنما أدرك الأعرابي المسئول ازدواجية المعنى لكلمة «حديث»، فإذا كان السائل قد قصد بسؤاله جانب «الكلام» من معنى كلمة حديث؛ فقد آثر المجيب أن يبرز الجانب الآخر المتروك، وذلك لأهميته وهو جانب «الجدة»، فأجاب بجوابه المذكور، وهو أن الذي يمل إنما هو القديم الذي قتله التكرار.
وإني لأقولها في صراحة، ورزقي على الله، وهو أنني في كثير جدا مما يذاع أو يكتب، في مجال الثقافة والتثقيف، والقيم والتقويم، كأني أشم رائحة العفن، حتى لقد زكمت الأنوف وصدئت النفوس، وحق لنا أن نصيح بالدعوة التي أفصح عنها أبو حيان التوحيدي في حديثه مع الأمير وجلسائه: قال السلف: حادثوا هذه النفوس، فإنها سريعة الدثور. كأنما أراد: أصقلوها، وأجلوا الصدأ عنها.
روحانيون نحن؟ وبأي معنى
شهد الله أني ما كتبت حرفا، أبتغي من ورائه شيئا إلى أن يحمل عني فكرة أريد لها أن تبلغ القارئ، بلوغا يقنعه عقلا، أو يهزه قلبا، وشهد الله أني لم أكتب حرفا لأسعى من ورائه إلى مال أو جاه أو شهرة، فهذه أمور - حتى لو سعيت إليها - فليست وسيلتها أن تنثر لها قطرة من المداد في صحيفة أو كتاب، وإنما يتوسل إليها أصحابها بوسائل أخرى تقترن بكتابة أو لا تقترن على حد سواء، وكل شأني مع الكلمة والقلم، هو أني وجدت أمتي - على تدرج اتساعها مصرية وعربية وإسلامية - أمة ضعيفة بعد قوة، هزيلة بعد عز ومجد وسلطان، متخلفة بعد إمامة وريادة، جاهلة بعد علم ومعرفة، مقعدة بعد قوة وفتوة ومغامرة، تابعة بعد أن كانت في طليعة الدنيا، تحمل اللواء وتشق الطريق لها وللآخرين يجيئون من ورائها تابعين، فسألت نفسي لماذا؟ ثم حملت القلم لأجعل أخوتي في الوطن يشاركونني السؤال، ويحاولون معي أن نجد الجواب.
ونمد أبصارنا إلى ما وراء البحر، فنرى شعوبا أخرى تمسي في نشاط وتصبح في نشاط، لها ساعة الضحى من كل يوم كشف علمي جديد، ولها ساعة الظهر من كل نهار برهان على قوة وجبروت، ثم لها في ساعات الأصيل من كل يوم إبداع جديد، في الفن، في اختراق الآفاق، في الصناعة، في الطب، في كل شيء يخطر لنا في بال أو في الخيال، أو لا يخطر. نعم، نعم، ولهم كذلك في كل ساعة قتل وفتك وعنف وتخريب، يوجهونه إلينا نحن الضعفاء الكسالى والمساكين، أكثر مما يوجهونه إلى أنفسهم.
ونسأل: لماذا؟ ماذا أصابنا؟ فلا نجد إلا الحيرة، أو الصمت الذاهل، ولكن ينطق لك مجيب من تحت الغطاء ليقول لك: هم ماديون، ونحن روحانيون! وهنا يتحول السؤال ليكون: أحقا ما تقولون؟ وبأي معنى يا ترى تكون تلك المادية الملعونة وهذه الروحانية المزعومة؟
كلا، لا تغضب، فهو سؤال جاد لا هزل فيه، ومعذرة إذا وجدتي أسير بك ومعك نحو دقة في التحليل، ربما لم تكن قد ألفتها، لكن الأمر هو أمر حياتنا، كرامتنا، وجودنا، فلا يحتمل أن نمر عليه بلمسات على السطح، نستخدم فيها ألفاظا مبهمة وغامضة، قد لا يكون فيها من القوة إلا تكرارها في أحاديثنا ألف ألف مرة كل دقيقة من نهار أو ليل. فترسخ فينا لتكرارها، فنظنها من حقائق الكون الثابتة، كشروق الشمس مع الصباح، وغروبها مع المساء.
روحانيون نحن؟ وبأي معنى؟ إننا إذا نزعم المعنى لأي لفظ مما نستخدمه في حديث أو كتابة، فلا بد أن نكون على استعداد لبيان ذلك المعنى، إذا سألنا عنه سائل. على أن «المعاني» ليست كلها من نوع واحد، بل هناك منها عدة أنواع، تختلف باختلاف الألفاظ ذوات المعنى، وأهم تلك الأنواع ثلاثة: أولها هو أن يكون معنى اللفظ شيئا مجسدا محسوسا، يمكنك الإشارة إليه، كأن تسألني عن معنى «تمثال نهضة مصر» فأصحبك إلى التمثال المقام على الطريق المؤدي إلى جامعة القاهرة، وأشير إليه قائلا هذا هو معنى «تمثال نهضة مصر»، والنوع الثاني هو معان تكون في أذهاننا تصورات عقلية لا هي مجسدة ولا محسوسة، فإذا سألتني عن معنى «الحرية» ما هو؟ أجبتك بشرح يشرح ما «أتصوره» في ذهني عن الحرية. وبعد ذلك قد نجد ذلك التصور مجسدا في أنماط سلوكية نراها في حياة الناس الفعلية، ويمكن رؤيتها بالعين، وقد لا يكون لها وجود فعلي على الإطلاق، وفي هذه الحالة تكون الحرية بالمعنى الذي أردته لها، مجرد وهم عندي أتخيله، دون أن يكون له تطبيق يجسده في دنيا الواقع، وأما النوع الثالث من ضروب «المعنى» فهو ذلك الذي نجده في الحالات التي يكون فيها الحديث عن كائنات ليس لها وجود في عالم الأشياء وإنما هي من محض الخيال، الذي لا كان ذات يوم أمرا واقعا، ولا هو الآن كائن، ولن يكون أبدا متحققا في كائن من كائنات الواقع الفعلي، مثل «هاملت» في مسرحية شكسبير، ومثل «طائر الرخ» في حكايات ألف ليلة وليلة، وأمثال هذه الأسماء التي ليس لها مسميات في عالم الواقع، كثيرة الورود في الروايات وما يشبهها من مبدعات الخيال، وفي هذه الحالات، أين نجد «معنى» تلك الأسماء؟ الجواب: نجده في السياق الذي وردت فيه، فهذا السياق هو بمثابة العالم الطبيعي الذي نرجع إليه كلما أردنا أن نتثبت عن شيء مما ورد فيه من أسماء وعبارات، فمثلا، إذا سألت قائلا: هل صحيح أن هاملت قتل عمه؟ فأين نجد الإجابة عن سؤالك؟ في المسرحية المعروفة. وهنا أرجو من القارئ أن يركز انتباهه، حتى لا تفلت منه هذه الحقيقة الهامة - الهامة جدا في تكويننا العقلي - وهي أن هنالك أسماء كثيرة وكلمات لا حصر لعددها، ليس لها معنى إلا فيما ورد عنها في الكتب التي هي مذكورة فيها، أي إنها لا تعني شيئا على الإطلاق في دنيا الأشياء والكائنات.
إذا كنت قد صبرت معي خلال الفقرة السالفة، واستوعبت الأنواع الثلاثة ل «المعاني»، فتعال ندقق النظر في «الروحانية» التي ننعت أنفسنا بها، ونتخذها تعلة نتعلل بها، كلما تحركت ضمائرنا لتحاسبنا على حياة التخلف التي نحياها في طمأنينة ورضا؛ يقينا إن معنى «الروحانية» ليس من النوع الأول الذي ضربنا له مثلا عبارة «تمثال نهضة مصر»، فليس هنالك شيء قائم على الأرض، نشير إليه قائلين: تلك هي الروحانية، كما نشير إلى الهرم الأكبر وجبل المقطم ونهر النيل، والأغلب كذلك أنها ليست من النوع الثالث، الذي يشمل الأشياء التي تسمى كائنات من خلق الخيال، وردت في رواية أو قصيدة شعر، إنها ليست من قبيل واق الواق، أو العنقاء، أو مصباح علاء الدين، وبقي لنا النوع الثاني من أنواع المعنى، الذي قلنا عنه إن المعنى فيه يكون تصورا عقليا يمكننا شرحه للسائلين، وإما أن يكون لذلك التصور تجسيد في عالم الواقع - كما يحدث أحيانا - وإما ألا يكون له مثل ذلك التجسيد - كما يحدث أحيانا أخرى - وقد ضربنا مثلا لهذا النوع من المعاني كلمة «حرية» ومثلها في ذلك كلمات كثيرة، وأحسب أن «الروحانية» هي من هذا القبيل، فهي تصور ذهني لنمط معين من السلوك ومن وجهة النظر إلى الكون والإنسان، على أن ذلك التصور الذهني قد يجد في عالم الواقع ما يجسده أو لا يجد.
فما هي العناصر الأساسية، التي نتوقع لها أن تكون مكونة لمفهوم «الروحانية» في أذهاننا؟ لا بد أن يكون واضحا أمامنا - بادئ ذي بدء - أن اسم الروحانية منسوب إلى الروح، وأن الإنسان في تصوره العقلي، إذا ما ذكر الروح، قابله بالجسد، فالإنسان يتصور نفسه ذا جانبين: أحدهما مشتق من عالم المادة، والآخر آت إليه من حيث لا يدري أحد من أمره شيئا، سوى الخالق سبحانه وتعالى، فالزاعمون بأنهم «روحانيون» في طريقة حياتهم، لا بد أن يكون بعض ما يقصدون إليه هو دورانهم في حياتهم حول محور ذلك العنصر المجهول من كيانهم البشري، أي «الروح»، وأما البدن وحاجاته فيكتفي في شئونه بالحد الأدنى الذي يضمن للإنسان استمرار الحياة، من طعام وشراب وسائر ما هو خاص بالوجود البدني.
وأما عن حياة الروح، فأهم ما يرد عنها إلى الخاطر هو عبادة الله جل شأنه، وعلى الرغم من أن العبادة في معظم أركانها تعتمد على الجسد، فالشهادة ينطق بها اللسان ومعه سائر أجزاء الجهاز الصوتي، والصلاة وقوف وركوع وسجود ونطق، والصيام امتناع الجسد عن الطعام وغير الطعام مما يتصل بحاجات الجسد، والحج طواف ووقفة على عرفات وعبارات تقال ورمي للجمرات ... إلخ، وكلها يؤديها الجسد، أقول إنه على الرغم من أن الجسد أداة ضرورية لأداء العبادات، إلا أنه في ذلك مجرد أداة، وأما الغاية فهي من شأن الروح التي لا يعرف أمرها وسرها إلا ربها.
إلى هنا والتقسيم بسيط وواضح، وخلاصته أن من يزعم عن نفسه أنه روحاني، فإنما يعني أنه لا يعنى بحياة بدنه إلا من حيث هو أداة، وأن عنايته تنصب على العبادات، وهو تقسيم، إذا وسعناه، استطعنا أن نجعل شطريه - بدل قولنا جسد وروح - دنيا وآخرة، فالحياة الدنيا لا بد منها، لكنها ليست مقصودة لذاتها، وإنما قصد بها أن تكون معبرا لما هو غاية في ذاته، وأعني الحياة الآخرة، ومن هنا كان وصف الإنسان لنفسه بأنه «روحاني» يتضمن اكتفاءه من شئون الدنيا بالحد الأدنى الضروري للبقاء ، فهي - كما قيل عنها - دار مفر لا دار مقر.
لكن تعال معي نمعن النظر أكثر فأكثر، فيما تتضمنه «العبادة» ومفهومها، إنها وإن تكن في معظمها تتجلى في صورة حركات بالجسد، بما في ذلك ما ينطق به اللسان من كلمات وعبارات، فإن هذا كله لا يكون شيئا إذا لم نجاوزه إلى دلالاته، وليس هنا الموضع الذي نتناول فيه تلك الدلالات بالتفصيل، لكن الذي يهمنا منها في سياق حديثنا هذا هو ما تنطوي عليه العبادات من «قيم» مطلوب لها أن تنتقل من مجرد كونها كلمات ينطق بها العابد، لكي تصبح ضوابط للسلوك الفعلي الذي يمارسه ذلك العابد في حياته العملية اليومية، وقارئ كتاب الله الكريم إنما يقرأ في كل آية من آياته عن قيمة من القيم العليا، التي من شأنها أن تجعل من الإنسان الفرد إنسانا كاملا، وأن تجعل من ذلك الإنسان الفرد حين يواطن آخرين ويشاركهم في وطن واحد وفي أمة واحدة، مواطنا كاملا، و«الروحاني» هو ذلك الذي يحيا حياته وفق المعايير التي تفرضها تلك القيم.
فكم مرة يقرن الكتاب الكريم إيمان المؤمن بما يعمله من صالحات؟ وكم مرة يحض الكتاب على الصدق والإخلاص والأمانة؟ كم مرة يدعو الكتاب إلى فك الرقاب وإطعام المسكين ورعاية ذوي القربى؟ كم مرة يدعو الكتاب إلى الجهاد في سبيل الله؟ كم مرة ينادي بوجوب الرحمة والعدل؟ كم مرة يشجع المؤمن على النظر في خلق الله والتعقل والحكمة والتدبر؟ فحياة «الروحاني» هي حياة تجمع من هذا كله ما استطاعت قدرة البشر، لقد شاء لي الله في لحظة مباركة أن ألحظ فارقا عظيما في مغزاه، بين تصور الإسلام للقيم الأخلاقية وتصور غيره من عقائد ومذاهب، وهو أنه بينما «المثل العليا» عند تلك العقائد والمذاهب إنما هي «نماذج» يتصورها الإنسان ليجعلها غاية يسير نحوها، مع استحالة أن يحققها هنا في هذه الدنيا، أي إنه يتحتم بحكم الضرورة أن تكون هنالك فجوة بين المثل الأعلى من جهة وسلوك الإنسان الفعلي من جهة أخرى، مهما بلغ ذلك السلوك من درجات الكمال ، ترى التصور الإسلامي يدمج الطرفين معا فيما هو ممكن للإنسان أن يحققه، بمعنى أن سلوك المسلم الحق، هنا على هذه الأرض، يمكن أن يتطابق مع ما هو مثل أعلى، ذلك لو أخلص المسلم لعقيدته، وصدق فيها، وآمن بها على النحو الذي يصور به الكتاب الكريم جماعة المؤمنين، مفرقا بين من أسلم مجرد إسلام، وبين من أسلم وآمن، وهذا هو «الروحاني» في حياته وفي رؤيته، وفي تعامله مع الناس، إن الكتاب الكريم يشير إلى فرق بين من يقنع في حياته بمجرد «حياة» (بغير أداة التعريف) وبين من يحيون «الحياة» (بأداة التعريف) كما ينبغي لها أن تكون.
وبعد أن رسمنا هذه الصورة الموجزة ل «الروحاني» فإنه من حقنا أن ننظر إلى صور من الحياة الفعلية التي يحياها أولئك الذي يرفضون علوم العصر، وفنون العصر، وأدب العصر، ونظم العصر لأنهم «روحانيون». أما أبناء العصر فماديون حقت عليهم اللعنات، وهنا أترك لكل قارئ أن يراجع خبراته بمسالك الناس من حوله وفي دواوين الحكومة وفي الأسواق وفي أي ميدان آخر يختاره للمراجعة والنظر، ليرى إن كان فيما يراه ويراجعه من «الروحانية» ما يساوي أن نتخلف على طريق الحضارة، تاركين لغيرنا أن يكونوا هم العلماء، وهم المبدعون.
أهو «مادي» من يفني حياته منقبا في الأرض، وغائصا في البحر، وطائرا في الهواء وما يجاوز الهواء، ليزداد علما بخلق الله؟ وهل هي «الروحانية» أن نتربع على الأرض جلوسا، في انتظار «الخواجة» ليخرج لنا من أرضنا بترولها وحديدها ونحاسها؟ أهو «مادي» ذلك الذي صنع لنا «القمر الصناعي العربي» الذي ينتظر استخدامه بعد قليل، والذي إذا سمعت ما سوف ينجزه للأمة العربية ذلك القمر الصناعي فكأنك سمعت المذهلات من سحر الساحرين؟ وهل «الروحانية» هي أن نجمد كالمقعد الأشل، انتظارا لما يصنعه لنا ذلك «المادي» الملعون، فننعم نحن بما صنع؟ أحقا تكون أجهزة كأجهزة الحاسبات الإلكترونية «مادية» وهي تؤدي ما يؤديه «العقل» في دقة لا تستطيعها عقول البشر في حالتها الفطرية؟ إن جهازا من تلك الأجهزة إنما هو عقل مجسد، فكر مجسد، علم مجسد، وليس هو قطعة من حجر الأرض ملقاة في فلاة، أهي «مادية» تلك الأجهزة الدقيقة التي تصور للطبيب حنايا القلب في مريضه، وثنايا أمعائه، ليقوم بالعلاج على بصيرة وهدى؟ متى، وأين، منذ كان على الأرض إنسان خلت حياة الإنسان من استخدمه للآلات في زراعة أرضه وإقامة بيوته ونسج ثيابه؟ فهل تكون روحانية إذا ظلت تلك الآلات على سذاجتها الأولى، وتنقلب «مادية» إذا زادها الإنسان لنفسه دقة وتهذيبا؟
أم يريد أولئك الذين يضربون الطبول وينفخون في الأبواق تنفيرا للناس من عصرهم وحضارته، إني أسأل: أم يريد هؤلاء بالمادية تلك الفنون والآداب، من موسيقى وشعر، وتصوير، وعمارة، التي قصارى جهودنا حتى الآن أن نحاكيها فنزداد بالمحاكاة غزارة وثراء ونورا، فكيف بنا إذ كنا نحن الأصلاء المبدعين؟ كنت أتمنى للدعاة الذين يملئون علينا الهواء صياحا، في محاربة العصر وعلوم العصر وفنون العصر، ويصدقهم الناس، كنت أتمنى لهم ألا يجدوا أنفسهم مضطرين اضطرارا أن يستخدموا في صياحهم تلك الأجهزة والآلات والوسائل التي هي «مادية» صنعها «الماديون» الأشرار، لكنهم يصيحون صياحهم في مذياع هو من صنع الماديين، وفي تلفاز هو من صنع الماديين، أو هم ينشرون صياحهم مطبوعا بمطابع هي من صنع الماديين، ويكتبون ما يكتبونه بأقلام هي من صنع الماديين، ويلبسون ثيابا نسجت بمكنات من صنع الماديين، ويسكنون عمارات بنيت على طراز معماري هو من فن أولئك الماديين، أحلال لنا أن نستخدم كل هذه الوسائل، وحرام على أصحابها أن يبدعوعها؟ اللهم سبحانك.
لا، لا، يا رجل - هكذا قد يصرخ في وجهي من يصرخ - ليست هذه الأمور المادية التي نعنيها، وإنما نعني «الأخلاق»، ففي حياة تلك الشعوب المتحضرة بحضارة العصر - والعياذ بالله - فوضى بين الرجال والنساء تأباها الأخلاق، وفي حياتهم خمر، وقنابل ذرية تفتك بالبشر ... إلى آخر ما يقولون، فمن ذا يصدق أن حياة فيها من الفوضى الخلقية ما يزعمون تستطيع أن تبلغ من العلم ما بلغوه، ومن الفكر والفن ما بلغوه، ومن النظام في شئون الحياة اليومية ما بلغوه؟ ومع ذلك فليس الأمر بيننا هجوما ودفاعا، فعصرنا مثقل بمشكلاته، فلماذا لا ننظر النظرة الصادقة ونعد العصر عصرنا ومشكلاته مشكلاتنا؟
الوقفة الصحيحة التي ننادي بها، ليست رفضا للعصر وحضارته، على زعم أنه عصر الفوضى الخلقية التي تتنافى مع تراثنا وتقاليدنا، بل هي وقفة نقبل فيها حضارة العصر بكل مقوماته الأساسية ثم نحاول أن نضيف إليه من تراثنا وتقاليدنا بعدا إنسانيا خلقيا يكمل وجه النقص فيه، فليس الرأي الصواب فيما بيننا وبين الغرب مبدع الحضارة القائمة، هو أن نقول إما نحن وإما هم، بل الرأي الصواب هو أن نخلق صيغة حياتية جديدة تشمل مقومات حضارتهم من علوم وصناعات ومنهج وفنون وطائفة صالحة من النظم السياسية والاجتماعية، كما تشمل في الوقت نفسه مقوماتنا الخلقية وغيرها مما يشكل وجهة النظر وفلسفة الحياة. لا ليس الصواب هو: إما نحن وإما هم، بل الصواب هو: نحن وهم في صيغة واحدة، بها لهما من الخطأ أن نشير إلى مبدعي الحضارة الجديدة بضمير الغائب «هم»، والصحيح هو أن نستخدم ضمير المتكلم الجمع «نحن»، وفي نحن هذه نضع كل ما يسلكنا في الحياة الحضارية بالصورة التي ترضينا، وإلا كنا كمن يحكم مسبقا علينا بالعقم الذي لا يرجى منه مشاركة في إنتاج علمي وفني وتكنولوجي نشارك به في إقامة البناء.
البديهية التي يفوتنا إدراكها هي أنه كان من الممكن أن يكون السلطان والتقدم والازدهار ما يزال معقودا للمسلمين وفي تلك الحالة الافتراضية كان هذا العلم كله والتقنيات كلها والفنون كلها، ليكون من إبداع مسلمين. فليس في إسلام المسلم ما يمنعه من أن يكون هو الذي كشف عن أسس العلم الجديد ونهض بالصناعات الجديدة وصعد إلى القمر، وأنشأ كل ما يتميز به العصر من سمات؛ أقول ليس في إسلام المسلم ما يمنع هذا، سوى ما أصاب المسلمين من ضعف وتخلف حضاري تبعه ضعف وتخلف اقتصادي وسياسي حتى أصبح نهبا مباحا لكل من أراد أن يغزو ويسيطر. إن أولئك الذي يهاجمون أسس الحضارة العصرية يوحون للناس بأن مبادئ الإسلام وتلك الأسس نقيضان لا يجتمعان ، ومن هنا تشيع فينا دعوى أننا روحانيون على سبيل الدفاع عن النفس في عجزها وقصورها.
لكن الروحانية بالمعنى الذي حددناه لها، والذي يجعلها متمثلة في العبادات أولا ثم متمثلة في القيم الخلقية التي تسري في دنيا العلم والعمل لا تتناقض مع أن يكون الروحاني عالما في ميادين العلم الطبيعي بكل فروعه ولا يتناقض مع أن يكون الروحاني هو الذي ابتكر الحاسبات الإلكترونية وغيرها، بل العكس هو الصحيح؛ لأن الكشف عن أسرار خلق الله من شأنه أن يزيد الروحاني روحانية أي - والمعنى واحد - أن يزيد العابد إخلاصا في عبادته لله عز وجل، كما يجعل ذلك العابد نفسه ينقل الأسس الخلقية من ساعات العبادة ليقيمها كذلك في ساعات العلم والعمل.
ولقد بدأت لك الحديث بعنوان جاء في صيغة سؤال: روحانيون نحن؟ وبأي معنى؟ والآن أترك لك أنت أن تجيب.
عصر الضمير الغائب
لست في الحق أدري، أكان هو «الوعي» الذي غاب عن الناس ثم عاد إليهم أو لم يعد، أم هو «الضمير» الذي طمس ليختفي ولو إلى حين؟ أم أنهما - الوعي والضمير معا - يطفوان على سطح حياتنا حينا، أحدهما أو كلاهما، ثم يتواريان حينا آخر، أحدهما أو كلاهما؟ هذه الاحتمالات كلها ممكنة الحدوث! أي إنها قد تكون صحيحة ومتحققة، وقد لا تكون، إلا احتمالا واحدا منها، وهو أن تكون ضمائر الناس في أرجاء العالم، ومصير جزء من العالم، مستيقظة لما يقولونه ويفعلونه؟ مما ترى جزءا منه منشورا في الصحف وغير الصحف، وأما التسعة والتسعون جزءا الباقية من المائة، فيدخرونها ليجعلوها موضوعات لأسمارهم كلما اجتمعوا يسمرون.
وقبل أن أمضي في الحديث، قد يكون من المفيد لنا، أن نقف وقفة قصيرة شارحة، نبين بها ما نراه فرقا بين «الوعي» من جهة و«الضمير» من جهة أخرى، فأما «الوعي» فهو إدراكنا لما حولنا، فوعيك قائم في يقظتك، غائب في نعاسك، أو ما يشبه تلك الحالة غيبوبة الإغماء أو التخدير، وإن الوعي ليغيب بدرجات تتفاوت عمقا، لكنه لا ينعدم إلا مع الموت، وأما «الضمير » فشيء آخر ، فليس كل ذي وعي ذا ضمير حي بالضرورة، واسمه وحده يدل على شيء من خصائصه، فهو دائما «مضمر» في صاحبه، كما تضمر تروس الساعة في غلافها، بحيث تحرك العقارب لنراها في مواضعها من وجه الساعة، أما هي فتظل في مخبئها، ولست في حاجة إلى القول بأنني قد أردت بهذا التشبيه أن أقول إن الضمير مؤلف من قطع معدنية - أو غير معدنية - ركب بعضها مع بعض، وحفظت في ركن معين معلوم من الجسم، كلا، بل الأمر في بساطة، هو أن أولئك الذين يتولون عملية التربية للإنسان، طفلا وصبيا وشابا، إنما يبثون فيه يوما بعد يوم أن الفعل الفلاني جائز وأما الفعل الفلاني فلا يجوز، وهكذا حتى ينشأ عند الفرد «ذوق» عام يستطيع به في كل موقف يعرض له، أن يحكم بما يجوز فعله وما لا يجوز، على أن هنالك من يرون بأن هذه القدرة عند الإنسان على التمييز بين الجانبين، هي جزء لا يتجزأ من فطرته، يولد بها، ثم تأخذ في الظهور كلما نما الإنسان واتسعت مداركه، وسواء أكانت المسألة مرهونة بتربية الفرد على أيدي من يتولون أمر تربيته، أم كانت فطرة مغروزة في جبلة الإنسان، فالنتيجة واحدة بالنسبة إلى ما يهمنا في هذا الحديث.
والذي يهمنا بالدرجة الأولى هنا هو أن الإنسان ينطوي في دخيلة نفسه على «دفة» كدفة السفينة توجهها، أو قل إنه ينطوي على «رقيب» يجيز لصاحبه شيئا ولا يجيز له شيئا آخر، لكنه رقيب - لسوء حظ الإنسان - يشبه مجلس الأمن في هيئة الأمم المتحدة، ليس لديه قوة التنفيذ، فهو قد يقرر بأن فعلا معينا من دولة معينة، غير مشروع لها، ولا هو مقبول من سائر الدول، فلا تأبه الدولة المعنية بالقرار، ويكتفي مجلس الأمن عندئذ بالأسف، وهكذا يكون الضمير مع صاحبه، فهو يقرر له متى يصح الفعل ومتى يبطل، فإما اهتدى صاحبه بهدي ضميره، وإما رفض أن يهتدي فيحيا وكأنه بلا ضمير، أو كأن ذلك الضمير قد غاب عن صاحبه إلى حين، لا يدري كم يقصر أو يطول.
وأتحدث هنا عن العالم في مجموعه، ومصر جزء منه، فأقول إنه يجتاز مرحلة لعلها حتمت بالضرورة أن يغيب عنه ضميره، أو أن هذا الضمير هناك، يأمر بالقبول وبالرفض، لكن أوامره تذهب مع الريح إلى حيث لا يدري، وأرى أن بلادنا قد شاركت سائر الدنيا في كثير من غيبة الضمير، أو من وجوده وجودا أشل، حتى ليخيل إلي أننا إذا أردنا أن نصف عصرنا هذا بصفاته المميزة، لوجدنا قائمة طويلة من تلك الصفات، فهو عصر العلم الذي تصحبه تقنيات، وهو عصر الفضاء وغزوه، وهو عصر الحرية لشعوب كثيرة كانت مقيدة بقيد المستعمرين، وهو عصر كذا وعصر كيت، ثم هو عصر الضمير الغائب، ومن ثم فقد انطلقت الشياطين من قماقمها، ففي كل يوم ألف من حوادث العنف، الذي يخطف الطائرات براكبيها، ويمسك بالرهائن الأبرياء، ويلقي في الطريق بقنابل لا يعرف من الذين سيلقون بها حتفهم، إلى آخر ما أعرفه وما لست أعرفه من أعمال العنف، إن كانت لها آخر، ولا عجب أن يكون هذا العصر كذلك عصرا للخوف والقلق، والاغتراب وما يدور هذا المدار.
ولكن هذا العصر بكل ما فيه هو عصرنا الذي نعيش فيه، قد تعرض لما تعرض له بسبب كونه عصرا انتقاليا بين حضارتين، إحداهما سادت إلى أوائل هذا القرن العشرين، والأخرى قد يرجى لها أن تسود في القرن الحادي والعشرين، وعصور الانتقال الحضاري تشبه إلى حد ما فترة المراهقة في حياة الفرد الواحد، إذ هي فترة تنقل صاحبها من الصبا إلى الشباب، فلا هو صبي مع الصبيان يلهو كما يلهون، ولا هو شاب نضج واكتمل، يعمل في ميادين الإنتاج كما يعمل الشباب، ومن هذه الطبيعة الانتقالية لتلك المرحلة، يتعذر جدا أن يحدد المراهق معالم ذاته، بل ويتعذر ذلك التحديد على من يتولونه بالرعاية، وذلك لأنه - بالفعل - يجتاز مرحلة يبحث فيها عن ذاته، أي إنه يبحث فيها عن خصائص - يختص بها - تتفق مع قدراته وميوله من جهة ويتميز بها عن سائر الناس من جهة أخرى، ومثل تلك المرحلة الرجراجة المتميعة التي لم يتبلور لها شكل بعد، ولا ظهر لها لون، نرى المرحلة الراهنة التي تجتازها شعوب الأرض جميعا، في انتقالها من حضارة كانت، إلى حضارة أخرى بدأت بشائرها ولم تكتمل بعد ظهورا.
لكن ما لنا الآن وسائر الدنيا وشعوبها، إن الذي يهمنا هو مصر في المقام الأول، فمصر هي أنت وأنا، وولدك وولدي، إنها طعامنا وشرابنا ومأوانا، إنها ماضينا وحاضرنا ومستقبل حياتنا، إنها ليست معنى من تلك المعاني النظرية المجردة التي تتبادلها أذهان مع أذهان، كلما أراد المفكرون لأنفسهم شيئا من رياضة العقل، لا بل هي - مصر - رئاتنا وأنفاسها، قلوبنا ونبضاتها، تقلنا فوق أرضها، وتظللنا بسمائها، فهذه الأرواح من جوها، وهذه الأجساد من تربها، (كما قال أبو العلاء المعري) فلئن كانت مصر تشارك أرجاء العالم غيبة ضميره، في هذه المرحلة الانتقالية من تاريخه، فليس حديثنا عن الأرجاء الأخرى في ذلك شبيها بحديثنا عن مصر فيه؛ لأن حديثنا عن تلك الأرجاء البعيدة عنا، هو كحديثنا عن القنابل الذرية التي أسقطت في ختام الحرب العالمية الثانية، على هيروشيما وناغازاكي، نرويه خبرا من الأخبار، وأما حدثينا عن مصر فمتصل شريانه ووريده بنبض القلب وتنفس الرئتين ... والضمير في مصر اليوم غائب غيابه في سائر أنحاء الدنيا.
وانعكس غياب الضمير عندنا في ظواهر كثيرة، منها أنه لم تعد في حياتنا قواعد ضابطة، كبر الأمر أو صغر، فمثلا، بكم يكون الانتقال في إحدى سيارات الأجرة من الجيزة إلى الزمالك؟ ثلاثة جنيهات في تقدير السيارة الأولى - من سيارتين متجاورتين - وبجنيه واحد في تقدير السيارة الثانية، وبات محرما على طالب الانتقال أن يسأل: أليس في كل سيارة عداد يضع القاعدة، ويضبط التعامل بين الناس؟ لا، لا، هذه العدادات وأمثالها من ضوابط القانون قد أصبحت خرافة من خرافات الأولين ... وكم يكون راتب الجامعي إذا عمل في إحدى الشركات، إنه ثلاثون أو أربعون جنيها عند إحداها، وثلاثمائة أو أربعمائة (وقد تبلغ ألفا) عند الأخرى، فإذا سألت عن القاعدة الضابطة لهذه الرواتب هنا وهناك؟ أهي الخبرة. وليس عند أحد من متخرجي العام الجامعي الواحد، خبرة يزيد بها على أخيه، أهي درجة النجاح؟ لا أبدا، فالممتاز منهم قد يكون نصيبه العشرات، ومن دونه قد يكون نصيبه المئات؟ إذن فما هو الضابط؟ كلا، محرم عليك هذا السؤال؛ لأن الحقيقة المقررة الآن هي ألا قواعد ولا ضوابط، والمسألة كلها «شطارة» في شطارة! ولن أترك هذا الموضع من حديثي قبل أن أزيدك علما بهذه «الشطارة» ما أصلها وما فعلها؟ إذ قد لا تعلم أن أصل اللفظة هو أولئك الذين كانوا في الماضي يشطرون جيوب الضحايا لسرقة ما فيها؟ فالشاطر هو لص في أكثر الحالات.
وكم تتقاضى «أمينة المنزل»؟ (وهذه التسمية عندي أفضل من قولنا خادمة وشغالة) إن أحدا لا يدري أي رقم تنفرج به شفتاها عند النطق بالجواب، فالأمر في ذلك مرهون بالمصادفات، إنه خمسون جنيها مرة، ومائة جنيه مرة أخرى، وأكثر من ذلك أو أقل من ذلك مرة ثالثة، فلم يعد هناك «هامش» تنحصر فيه احتمالات التقدير، بحيث يكون فيه حد أعلى وحد أدنى، وكم سوف يتقاضاني - يا ترى - نجار دعوته لإصلاح باب انكسر مفصله؟ اللهم إنه لا يعلم ذلك إلا أنت يا علام الغيوب، أما نحن البشر فلا بد لنا من انتظار ما ينطق به النجار عند «النطق بالحكم»، فقد يكون خمسة جنيهات، وقد يكون عشرين، وكم يكون هذا، وكم يكون ذلك؟ إننا لا ندري شيئا - نحن البشر - قبل النطق بالأحكام؛ لأنه لا قواعد، وقد اختفت القواعد حين غابت الضمائر عن أصحابها، فباتت حياتنا سفينة بلا سكان (وسكان السفينة في اللغة هو دفتها) ومع غياب الضمائر وانقلاب السفينة، غاب الذوق، وغابت الرحمة، وتعرضت إنسانية الإنسان نفسها للضياع.
ولولا غياب الذوق لما وقع ما حكاه لي صديق بيني وبينه أوثق الروابط، إذ حكى أن إحدى جامعاتنا خارج القاهرة، اتصلت به ملحة عليه أن يستجيب لرغبة الطلاب في الاستماع إليه محاضرا، وقد كان إلحاحها بالخطابات مرة، وبالهواتف مرة أخرى نتيجة لاعتذاره المتكرر، وما كان اعتذاره إلا لضعفه في شيخوخته، ولكثرة معوقاته، لكنه لبى الدعوة آخر الأمر، وسافر إلى هناك بسيارته وتم اللقاء بينه وبين الطلاب في محاضرة عامة وفي مناقشات سبقتها ولحقتها، وبالطبع لم يكن له بد من قضاء ليلته في الفندق الذي دعي للمبيت فيه، فلما أصبح عليه الصباح، وأراد العودة، أبلغه مضيف الفندق بأن خطاب الجامعة إليه، يحتم عليه ألا يقدم إلى الأستاذ الزائر إلا طعام الإفطار فقط، وأظنه وضع تحت كلمة فقط خطين غليظين لئلا تفلت من عين القارئ، وأما أن الأستاذ سافر على حسابه الخاص، وأما أنه بحكم الضرورة كان لا بد له من غداء وعشاء، فذلك ما لم ترد الجامعة الداعية أن يؤخذ في حسابها، ذلك ما حكاه لي الصديق، فلم يسعني ساعتها، إلا أن أصيح في وجه الهواء: يا ناس يا هوه اسألوا في أقطار الدنيا جميعا، هل رأت أستاذا جامعيا، هرم وشاخ في أستاذيته ولبى الدعوة بعد إلحاح ضاغط يعامل من إحدى الجامعات بمثل هذه المهانة والإهانة؟ فماذا نقول إلا أن الضمائر قد غابت عن أصحابها؟
ذلك عن الذوق الذي جف عوده وذوى، وأما غياب الرحمة فلا أطلب منك إلا أن تقرأ صحيفة يومية واحدة، في يوم واحد، فأنت لا بد واقع فيها على عدة حوادث تكشف عن قسوة القلوب كم بلغت بالناس، وعلى غلظ الأكباد وما قد وصل إليه التعامل بعضنا مع بعض، وقد كنا قبل الآن نتوهم أن تلك الفظاظة يعرفها ناس في غير بلادنا، وأما في مصر فأبناؤها يحنو بعضهم على بعض حنان الأشقاء في أسرة واحدة، ونعم، وألف نعم لقد كانت تلك هي مصر التي كانت ولم يبق إلا دعاء ضارع إلى المولى عز وجل أن يعود بمصر إلى ذاتها، وإلا فهل عرفت مصر قبل الآن فتاة تذبح خمسة أطفال، لتأخذ ما فوق أجسادهم من ذهب وفضة؟
لا، استحلفتك الله ألا تقول: إن العيب هنا هو عيب الدولة التي لا تسن القوانين الرادعة! ولست أملك في هذا الموضع من سياق الحديث، إلا أن أعيد بضعة أسطر من مسرحية شكسبير «دقة بدقة »؛ إذ يقول فيها «الأمير» في مناسبة كهذه:
لقد أصدرنا من القوانين أشدها صرامة، ومن «اللوائح» أدقها تفصيلا، وأعددنا لجوامح الخيل اللجم والشكائم لكننا أرخينا قبضاتنا أربعة عشر عاما فأصبحت تلك القوانين واللوائح، وتلك اللجم والشكائم جميعا كالليث الهرم قابعا في عرينه لا يخرج لصيده، أو قل إننا كالآباء الحمقى الذين يخزنون عصا التأديب الرادعة أو هم لا يزيدون على التلويح بها أمام صغارهم يتوعدونهم العقاب ثم لا يعاقبون فيجيء على العصا يوم محتوم، تصبح فيه مثارا للسخرية أكثر منها أداة للوعيد، وهكذا القانون قد بات مجمدا كأن لم يكن ولما كانت الحرية تابعة للعدالة، فإذا كانت عدالة، كانت الحرية مرغمة على الظهور.
وما دامت العدالة بيننا قد ذهبت مع اختفاء القانون.
رأيت الطفل الرضيع يصفع حاضنته. «رأيت الحياة الكريمة قد تفككت منها الأواصر.»
لا يا صاحبي، نشدتك الله ألا تهيل على الدولة تبعات فوق تبعاتها. (انتهى قول الأمير)
فإذا كان ما نطلبه من الدولة قوانين رادعة تزجر أصحاب الضمير الميت، فالقوانين هناك، ولكنها - كما قال شكسبير على لسان «الأمير» في مسرحية «دقة بدقة» - كالليث الهرم، رابضا في عرينه، لا يبرحه في سبيل صيده، ومع ذلك فالقانون لا يغني عن الضمير؛ فالإنسان بالقانون «يخشى» ولكنه بالضمير «يختشي»؛ القانون صوت زاجر يأتي إلى الإنسان من خارجه وأما الضمير فصوت زاجر من الداخل، القانون يفرض نفسه على الإنسان فرضا، بقوة الشرطة والتهديد بالسجن أو التغريم؛ فأما الضمير فينبع تشريعه من نبع باطني في الإنسان نفسه، وعقابه عذاب التأنيب، وثوابه الطمأنينة بالرضا، الإنسان أمام ضواغط القانون هو كالجماد أو الحيوان أمام ضواغط السنن التي خلقت عليها، وأما أمام الضمير وأوامره فالإنسان ينفرد في الكون سيدا يرتفع إلى رتبة الملائكة، ومع ذلك كله، فما أكثر ما يجد الإنسان في قوانين الدولة ثغرات للمراوغة والهرب، وأما الضمير إذا رصد صاحبه، فأين منه الفرار والنجاة؟ ونشدتك الله يا صاحبي مرة ثالثة، لا تلق بهمومنا على «الظروف»! إن حفر الطريق، وما ألقي على قارعته من أكوام الحديد والرمل والزلط، ليست مبررا للكفر بالوطن، لأن الوطن - وأقولها وأعيدها - هو أنت وأنا وهم وهن، الوطن هو نحن، وهل يكفر الإنسان بنفسه ثم يحق له أن يعيش؟ لا، يا صاحبي، إننا نعيب زماننا والعيب فينا، كما قال أبو العلاء، وليس الخطأ، أي عزيزي بروتس كائنا في طوالع نجومنا، بل الخطأ كامن في جوانحنا. كما قال شكسبير أيضا في مسرحية «يوليوس قيصر».
عد ببصرك إلى السطرين الأخيرين من المقطوعة التي نقلتها إليك من «دقة بدقة»، تجد شكسبير يفتح أعيننا على حقيقة هامة، وهي أن «العدالة» أصل، و«الحرية» فرع من فروعها، فإذا قامت قائمة العدالة - كما قال - شدت وراءها الحرية شدا رغم أنفها، وذلك صحيح وواضح لو تأملت قليلا؛ لأن العدالة أيا ما كان معناها (ويمكن فهمها بمعان كثيرة) تتضمن وجود «الآخر»، وإلا فبين من تقيم التعادل الذي يوازن بين شتى الأطراف؟ إن «العدل» هو اسم من أسماء الله الحسنى، وهو الذي يتضمن معنى التوازن بين قوى الكون التي كانت لتصطرع ويهدم بعضها بعضا لولا أن «العدل» سبحانه وتعالى يقيم لها موازينها، وما دامت العدالة تتضمن وجود «الآخر» فإن الحرية بعد ذلك إذا ما ظفر بها الإنسان، كانت حرية مقيدة بوجود الآخرين، ولقد قلت في مناسبة أخرى، إن العلة التي ينتهي إليها التحليل آخر المطاف، والتي تفسر ما أصابنا، وأصاب العالم كله بدرجات، هو أن كلا منا يتصرف وكأنه وحده في هذا البلد الكريم، وكأنه ليس إلى جانبه «آخرون»، واللحظة التي يتبين وجود الآخرين معه، هي نفسها اللحظة التي تقام فيها دعائم العدالة، ثم هي اللحظة كذلك التي يستقيم له فيها ضمير، ويصدق هذا القول على مستوى الأفراد داخل الوطن الواحد، وعلى الدول داخل العالم الواحد، على حد سواء.
إن تسلسل الحلقات يجري هكذا: عدل، فقانون وشرع، فضمير ينعكس على مرآته القانون والشرع، وبهذا الاتساق يسير الإنسان - أنى سار - وفي صدره محكمة، إنه يسير وفي صدره الرقيب والقاضي، وأما إذا تحطمت في أنفسنا تلك المرآة التي تعكس لنا على سطحها القوانين والشرائع ، غامت الرؤية أمام أبصارنا، واختلط علينا الأمر بين حق وباطل، فإذا ما اهتدينا إلى الحق فبالمصادفة نهتدي، وإذا أضلنا الباطل فبالمصادفة نضل، لا، بل إنه إذا تحطمت في أنفسنا مرآة الضمير، تحطمت معها الوحدة التي تجعل كلا منا فردا متماسك الشخصية، تماسكا يجعل سلوكه مطردا على نسق واحد، ويجعل من يعاملونه على بينة من حقيقة أمره، فيصبح كل شيء ممكنا، فلا يدري أحد بماذا يفاجئه هذا الشخص أو ذاك، وهذا الشيء أو ذاك، ولا غرابة إن لعبت هذه الفوضى بخيال السابقين، فتصوروا للجن خاتما، إذا وجدناه وحككناه على نحو أو على آخر، قدمت لنا الدنيا كل ما نريده، وتختفي كل الفوارق بين الجائز والمستحيل.
وإنه ليبدو لي أن اللحظة التي ولد فيها «الضمير» لآدم - عليه السلام - ولبنيه من بعده - هي اللحظة التي عصى فيها ربه هو وزوجه، فأكلا من الشجرة المحرمة، استجابة لوسواس الشيطان هاتفا: ... يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى ؟
فأكلا منها فبدت لهما سوآتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة وعصى آدم ربه فغوى .
وطرد مع الإنسان ضميره يفرق له بين الحق والباطل، مستلهما في ذلك الشرع والقانون اللهم إلا إذا تنكبت به الطريق فطغى عليه عصر غام فيه الأمر على ذلك الضمير فغاب.
أعجاز نخل خاوية
قلتها يوما، وأقولها اليوم مرة أخرى، وهي أن مصر في مرحلتها التاريخية الراهنة، ليست هي مصر التي عرفها التاريخ في معظم مراحله؛ كلا، ولا هي مصر التي سوف تكون - بإذن الله - بعد حين لن يطول؛ إذ هي في عصر يتوسط بها بين مصرين: مصر التي عهدناها، ومصر التي سوف نحياها، وحديثي هنا ثقافي حضاري قبل أي شيء آخر، فقد كانت مصر - من هذه الناحية - مثلا رائعا للبلد الذي يعرف كيف يحافظ على الأصول ويغير في الفروع، فقد لبثت مصر هي مصر دائما، دون أن يحول ذلك بينها وبين أن تنضو عن نفسها حضارة ذهب زمانها، لترتدي ثوب حضارة جديدة، ومع الحضارة تأتي ثقافة، أو مع الثقافة تأتي حضارة - إذا شئت - فالعلاقة بينهما هي علاقة الجسد والروح التي تحل فيه: الحضارة مجسدات والثقافة قيم وأذواق تسري في عروقها.
فما فرغت مصر من عصرها الأول، الذي كانت فيه مبدعة الحضارة لنفسها ولغيرها، حتى أخذت حضارات أخرى تتوالى عليها، فلا تكاد تتلقى حضارة منها حتى تمسك بزمامها وتنزل منها منزل الصدارة، وهذا هو جانب من معنى عبارة نرددها بحق وصدق، إذ نقول عن مصر إنها «مقبرة الغزاة»، فهؤلاء الغزاة ومعهم غزواتهم، يفنون في أرضها، لتحيا هي، وسر ذلك هو أن الغزوات غالبا ما كانت حاملات لحضارات استحدثت، فتصادف في المصري إنسانا واثقا بنفسه وبتاريخه، فيأخذ ما يتلقاه، ويتمثله، وسرعان ما يبرع فيه حتى ليحتل منه مكان الريادة، كالذي حدث في حالات اليونانية والرومانية والمسيحية والإسلامية، وكالذي أوشك أن يحدث شيء منه أمام الحضارة الحديثة وثقافتها، لولا نكسة انتكسناها، فولينا وجوهنا - من الذعر - نحو ظهورنا، وكأننا هممنا أن نجعل سيرنا إلى الوراء.
والسؤال مطروح أمامنا جميعا، نسأل به: ماذا أصابنا؟ وهل يمكن أن نعود بالمصري إلى حيث كان؟ إنه سؤال طرحته هيئات علمية، وطرحه أفراد، وحاول الجميع - مخلصين - أن يجدوا الجواب، وكان السؤال يوضع - عادة - في هذه العبارة: كيف نحقق إعادة بناء الإنسان المصري؟ وهي عبارة تتضمن أن خللا ما قد أصاب بناء المصري في شخصيته، فما هو؟ وكيف نعالجه ليعود المصري سيرته الأولى؟ وكنت بين من حاولوا الإجابة أكثر من مرة، في أكثر من مناسبة وكانت الإجابة في كل مرة تدور حول محور أساسي، هو أن مصر تجتاز اليوم مرحلة، هي نفسها المرحلة التي يجتازها العالم كله، فتتعرض خلالها لما يتعرض له العالم كله، من جهة، ثم تنفرد وحدها بظروف خاصة بها، من جهة أخرى، فأما الجانب الذي تشارك فيه سائر أقطار الأرض، متقدمها ومتخلفها على السواء، فهو ذلك القلق الذي يسببه السير في طريق مجهول، فعصرنا هذا - منذ ختام الحرب العالمية الثانية بصفة خاصة - هو عصر انتقال بين حضارتين، عرفنا إحداهما؛ لأنها هي التي سادت الدنيا خلال القرن الماضي وأوائل هذا القرن، وأما الحضارة الأخرى التي ننتقل إليها فلا نعرف عنها إلا بشائر ومقدمات، لكن تفصيلاتها لم تزل مجهولة، انتقلنا من حضارة انعقدت فيها السيادة بلا منازع، للرجل الأبيض الأوروبي والأمريكي، إلى حضارة بدأت كتابها بصفحة جديدة من حيث تلك السيادة اللونية، ولم يعد أحد يجادل الآن في إزالة الفوارق بين الألوان، اللهم إلا أن تكون تلك الفوارق مكتومة في الصدور، ونتج عن هذه الثورة اللونية ثورة أخرى حققت الحرية للشعوب الملونة وغير الملونة، التي كانت مغلوبة على أمرها، وأصبح الجميع سواسية في عضوية الأمم المتحدة، اللهم إلا بقية هامة ما زالت باقية في امتياز للدول الكبرى في مجلس الأمن، وانتقلنا من حضارة تصنع الآلة ليستخدمها الإنسان في النقل وفي الانتقال، وفي الصناعة والزراعة والحرب ... إلخ، إلى حضارة أخرى تصنع آلات أمهات تلدن آلات، وكان بين «الفراخ» المتولدة ما حقق المذهلات، وماذا تقول في أجهزة تقوم بمعظم ما كان يتميز به العقل البشري دون سائر كائنات الأرض والسماء؟ ثم ماذا تقول في أجهزة تغزو أجواز الفلك؟ لقد كان بعض المشتغلين بالفكر الفلسفي (في بريطانيا على وجه الخصوص) إلى عهد قريب جدا، إذا ما تناولوا موضوع «الممكن» و«المستحيل» ليروا خصائص كل من الحالتين، يضربون أمثلة لما هو مستحيل، كان منها رؤية الإنسان للوجه الآخر من القمر، إذ من المعلوم أن القمر يواجه الأرض بأحد نصفيه دون نصفه الآخر الذي يظل دائما مختفيا عن الأرض وسكانها، ولم يكن يخطر لأحد منهم أن الإنسان على وشك أن يدور بمركبته حول القمر نفسه - فضلا عن نزوله ليطأه بقدميه - فيرى بعينيه ذلك النصف الذي كان خافيا عن أبصارنا منذ كان في العالمين قمر وأبصار.
نعم، إننا ننتقل إلى حضارة جديدة، قائمة على أسس جديدة، لم نعلم من حقيقتها وطبيعتها إلا البشائر والطلائع، ومن أراد صورة مفصلة بعض الشيء عن تلك البشائر والطلائع، فليقرأ كتابا ممتازا في ذلك أصدره الأستاذ الدكتور حازم الببلاوي بعنوان «على أبواب عصر جديد»، وفي اجتيازنا لهذه المرحلة الانتقالية بين الحضارتين، لا مندوحة لنا - في مصر وغير مصر من سائر أقطار الأرض - عن التخبط في الطريق؛ إذ انبهمت أمامنا الفواصل بين الصواب والخطأ في كل الميادين، وإلا فمن منا يستطيع القول وهو موقن بما يقوله: ما هو أفضل نظام للحكم؟ ما هو أفضل نظام في دنيا الاقتصاد؟ ما هو أفضل نظام للتعليم؟ وهكذا يمكنك المضي بأسئلة كهذه عن كل وجه من وجوه الحياة الإنسانية، فإذا بك أمام عشرات الإجابات المتضاربة، والسبب واضح، وهو أن الإنسان لم يعرف بعد طبيعة العصر الذي نحن في حالة انتقال إليه، فكأننا نعيش على تجارب نجريها كل يوم تفشل تجربة فنجرب أخرى.
في هذا الضباب الحضاري - ويلحق به ضباب ثقافي - تشارك مصر بقية العالم، لكنها تعود فتنفرد وحدها بظروف جديدة خاصة بها، لا أقول إنها ظروف تضيف إلى الضباب ضبابا أكثف، بل هي ظروف فعلت بنا أكثر من ذلك؛ لأنها مالت بنا نحو أن نترك المسيرة الحضارية بضبابها وصفائها، لننكص على أعقابنا قافلين إلى مولد التاريخ.
ثم لم تكفنا تلك الردة الحضارية العامة، فزدناها تخليطا وعسرا، بأن أقمنا أمام الأبصار نموذجا جديدا للإنسان الناجح في حياته (والنجاح في قاموسنا القومي معناه منصب كبير أو مال كثير) ويتلخص ذلك النموذج الجديد في برنامج سهل على من اتسعت حيلته، وهو برنامج شعاره: أكبر ناتج ممكن، بأقل جهد ممكن، فلم يعد النجاح مكفولا لمن يحملون الأثقال، ويحطمون الصخر، ويلهثون وتتفصد أجسادهم عرقا، لا، فتلك صور من الماضي، حين كان الخبراء الحكماء يضحكون على الأبناء بقولهم: من طلب العلا سهر الليالي، أو ربما بقيت تلك الحكمة الخالدة، مع تغيير في مضمون كلمة واحدة من كلماتها، هي كلمة «سهر» وكان الذي أوحى بالشعار الجديد، أمثلة لا تعد ولا تحصى، لأفراد بلغوا ذروة الجاه، إذا قيس الجاه بالمناصب ونفوذها، أو بلغوا ذروة من الثراء لم يكن أحد يسمع قبل اليوم بمثلها، فثراء المصري حتى الأمس القريب، كان يقاس بعشرات الألوف أو بمئاتها، أما لغة الملايين فلم تكن معروفة في اللغة العربية بأسرها، فالألف هو أقصى ما استعدت له لغتنا باسم خاص، لا بل إن «الملايين» الدخيلة على حياتنا، قد كثرت حتى أهينت، فاختير لها اسم الأرانب.
وإذا لم يكن العمل المنتج هو الذي يصل بصاحبه إلى «النجاح» بالمعنى الذي نعرفه له، وهو مناصب النفوذ والثراء، فما هي الوسيلة في ظل الشعار الجديد؟ إنها وسيلة غاية في البساطة، تتلخص في: الكلمة المناسبة، تقولها في اللحظة المناسبة، للشخص المناسب، فإذا وفقت في ذلك، وجدت نفسك بين غمضة عين وانتباهتها، صاحب النفوذ الذي يهيمن ويسيطر ويكسب المال، وما دام هذا هو النموذج القائم أمام الأبصار، فلا بديل أمام الشباب الساعي إلى حياة ناجحة (بمعنى النجاح في قاموسنا القومي) سوى أن يتجه بمعظم جهده لا نحو مزيد من كد وكدح وعناء في دنيا العمل، بل إلى البحث عن تلك «المناسبات الثلاث» التي هي: الكلمة المناسبة، في اللحظة المناسبة، للشخص المناسب، وهو طريق يؤدي بنا حتما إلى اختلال العدالة من جهة، وإلى ضعف الإنتاج (المادي والعلمي) من جهة أخرى، أما اختلال العدل، فلأن من لا يستحق ستكون له السيادة على من يستحق، وأما ضعف الإنتاج بكل أنواعه، فلأن الزمام حين تمسك به أيد غير قادرة، ضلت سواء السبيل، وأضلت، ثم هي فوق ذلك تحدث في نفوس العاملين مرارة ويأسا واستهتارا وتراخيا.
كان ذلك أو ما يشبهه هو ما كنت أقدمه جوابا على السؤال المطروح، الذي نسأل به: ماذا أصابنا؟ وهل يمكن أن نعود بالمصري إلى حيث كان. لكنني - في الحق - حين كنت أقول شيئا كهذا، لم أكن أخلو من قلق باطني؛ لأنني لم أكن أجده قولا يشمل فئات الشعب جميعا، فهنالك ملايين ممن لا يزالون يعملون «مصريين» كما كانوا، أو «مصريات» كما كن، فانظر إلى المرأة المصرية، زوجة وأما، سواء أكانت في الريف أم كانت في المدينة، وقل لي كم منهن قد انحرفن عن الجادة بمغريات المناصب والثراء. إن الأم المصرية في رعاية أبنائها لا تعرف إلا شيئا واحدا، هو التضحية بكل ما يتعلق بشخصها في سبيل أطفالها ، وإذا قصرت في التماس الطرق الصحيحة لقصور في تعليمها ودرجة وعيها، فليس الذنب ذنبها، ولا هو وليد الظروف الجديدة بشعارها الجديد، ونسبة ضخمة من الرجال العاملين، لا يزالون على إخلاصهم المعهود، وإذن فلعلها فئة لا تبلغ ربع السكان، هي التي أصابها السوء، ومع ذلك فهي حقيقة لا ريب فيها، سواء أكان السوء مقتصرا على الربع أو ينقص عن ذلك أو يزيد، وتلك الحقيقة هي أننا نشعر جميعا بأن مناخا جديدا يسودنا في حياتنا، هو ذلك الذي أشرنا إليه، فما يزال السؤال قائما: لماذا؟ وكيف؟
وخطرت لي خاطرة، مرت كلمعة البرق حتى كادت تفلت وتختفي مع أنها خاطرة تحمل إلي فكرة جديدة، تزيل عني كثيرا من القلق الذي كان ينتابني كلما أجبت بإجابتي تلك عن السؤال المطروح، لشعوري الغامض بأنها إجابة ناقصة، وخلاصة الفكرة الجديدة، هي أن المصري في هذه المرحلة الزمنية من حياته قد أصابه انقسام فصل جانب «الفرد» من كيانه عن جانب «المواطن»، وكان الناتج هو أنه ظل كما كان دائما «فردا» يتميز بما يتميز به من حسنات، لكنه أصيب في جانب «المواطن» من شخصيته، فلم يعد ذلك المواطن الصالح الذي كان، ومعنى هذا التحليل هو أن موضع الشكوى لا يشمل «المصري» بكل وجوده، بل يشمل المصري بجزء من ذلك الوجود، وهو الجزء الذي «يواطن» به الآخرين من أبناء الوطن الواحد.
انظر إلى المصريين «أفرادا» في حياتهم الخاصة، بين ذويهم ومع أصدقائهم، تجدهم كما تريد لهم أن يكونوا، وكعهدك بهم، أوفياء متعاونين يخلصون الود ويصدقون النصيحة، ثم انظر إلى كثرة منهم في ميادين العمل والتعامل، تجدهم قد تهاونوا فيما عرفوا به من صفات من تواد وتراحم وتعاون وإخلاص؛ العامل يريد الأجر الفادح بلا عمل، والزميل يراوغ ويخادع، لا يزال المصريون على امتلائهم بالقيم المصرية الأصيلة وهم فرادى، أعني وهم في دنياهم الخاصة، لكنهم في «المواطنة» قد أصبحوا وكأنهم أعجاز نخل خاوية، أو قل في اختصار: إن المصري في حياته الراهنة «صادق» وهو فرد، «كاذب» وهو مواطن.
فإذا أجريت الحديث بلغة النقد الفني، قلت إن قصيدة الشعر التي كانت محكمة البناء مبنى ومعنى ووزنا وقافية (والقصيدة هنا رمز للمجتمع المصري) قد انهار بناؤها، وفصلت الشكل عن مضمونه، حتى أصبحت مجموعة مفردات وجمل لا نجد الوحدة العضوية التي تربطها معا في وجود مشترك. هنا همست لنفسي: إننا لو عرفنا متى يكون الشاعر «صادقا» عرفنا بالتالي متى يصدق المصري، لا في حياته الخاصة فحسب، بل كذلك في حياته التي يجتمع بها مع سائر الأفراد، وأحسب أننا لا نبعد عن الصواب إذا قلنا إن الغاية التي يتعلق بها الشعر ويتعلق بها الأدب بصفة عامة هي «الإنسان»، فالشاعر في حقيقته كشاف لطبيعة الإنسان التي قد تخفى عن العين العابرة، وحتى حين يتعلق الشاعر بالطبيعة الجامدة، كالجبل، والنهر، وأنجم السماء، فهو لا يتركها جمادا كما هي بل يبث فيها حياة مثل حياته، ليبادلها الحديث، وليضفي عليها مشاعره وكأنها من الأناسي، حتى إذا ما تكاملت للشاعر العلاقة العاطفية التي تربطه بما حوله، كان مطالبا بالصدق في التعبير، وليس الصدق المقصود هنا هو الصدق العلمي الذي يحلل الشيء الواقعي إلى مقوماته وتفاعلاته الحقيقية كما تقع في دنيا الأشياء، بل المطلوب هو صدق التعبير عما يجده في نفسه فعلا إزاء ما يجعله محورا لشعره.
فهنالك ثلاثة مواقف مختلفة نحو أي شيء نريد التحدث عنه، وليكن هو «النيل» مثلا، الموقف الأول هو موقف الجغرافي الذي يصف المجرى والمنبع والمصب وكمية الماء والبلدان التي يمر عليها ... إلخ ... إلخ، وهذا هو موقف «العلم»، والموقف الثاني هو موقف الشاعر الرديء الذي تراه ينعت النهر بأي صفة يراها هو جذابة، إلا أن يقول عنه إنه نهر وفيه ماء، فقد يقول عنه إنه عسل أو لبن، يجري على أرض من زمرد وعقيق، فكل ما هو في الأسواق أغلى ثمنا من الطين والماء، يكون عند الشاعر الضعيف الكاذب، أجدر بأن يصف به نهر النيل، من أن يصفه بما هو على حقيقته من حيث هو ماء يجري على أرض من صخر وتراب. وأما الموقف الثالث فهو موقف الشاعر الجيد الصادق، فالنيل أمامه مجرى ماء ينساب على الأرض، لكنه - كأي شاعر حق - لا يدعه جمادا مواتا، بل يؤنسنه، أعني أنه ينفخ فيه من خياله حياة الإنسان، ليحبه أو ليكرهه، ليزامله أو لينفر منه، أي إنه يصل نفسه به بروابط مشاعره الحقيقية نحوه.
ولسنا نقول عن الشعر الجيد الصادق، ولا عن أي فن من الفنون على إطلاقها، شيئا كثيرا، إذ نحن لم نذكر شرطا أساسيا جوهريا لا يكون الفن فنا بغيره، ولا الأدب أدبا بغيره، ألا وهو «الصورة» أو «الشكل» أو «الإطار» أو «القالب» الذي يقيمه الفنان أو الأديب ليضع بين جدرانه وحول دعائمه ما يريد أن يقوله.
وعلى ضوء هذا الذي ذكرناه عن قصيدة الشعر الجيدة الصادقة، نقول كذلك عن المجتمع السوي القوي النابض بالحياة، كما نتمنى لمصر اليوم أن تكون، وكما كانت في عصور عزها ومجدها، فأولا نريد لمجموعة المواطنين أن يكون بينهم من الروابط والصلات، ما يجعل منهم جميعا وحدة حيوية واحدة، وكأنهم أجزاء من شجرة واحدة، تختلف أجزاؤها بعضها عن بعض، لكن ليس لجزء منها غنى عن سائر الأجزاء، فليست جذور الشجرة هي أوراق وفروعها، ولكن لا حياة لتلك الأوراق والفروع لو لم تكن هنالك الجذور التي تمدها بالبقاء وبالحياة، وثانيا لا بد أن تكون صلة المواطن بالمواطن الآخر كصلة الشاعر بموضوعاته، أي أن ينظر إليه على أنه «إنسان» وليس أداة صماء يستغلها لقضاء مصالحه، وثالثا يجب أن يكون المواطن صادقا في التعبير عما يشعر به إزاء الآخرين كصدق الشاعر الجيد، حين يقر وجود موضوعه كما هو على حقيقته، ثم يضفي عليه مشاعر من عنده كما يحسها، ولو توافرت لنا هذه الخصلة، لضمنا ألا ينافق بعضنا بعضا في العلانية، ثم نتستر وراء جدراننا لنصب على الآخرين سيلا من اللعنات.
قلنا إن المصري في مرحلته الحاضرة قد شطر نفسه شطرين: فرد جيد في ناحية، ومواطن سيئ في ناحية أخرى، وقصدنا بالسوء تلك الصفات نفسها التي تجعل من الشاعر إزاء موضوعاته شاعرا رديئا، ينظر إليها على غير حقيقتها أولا، ثم يكذب في التعبير عن مشاعره نحوها، وذلك تماما هو بعض ما أصابنا إذ ننظر إلى من بأيديهم السلطان والجاه والمال على غير حقائقهم أولا، ثم نكذب في التعبير عن مشاعرنا نحوهم، ولا نقول عنهم الحق كما نراه، إلا ونحن بمعزل عنهم نتبادل الأحاديث مع ذوينا وخلصائنا.
ولو اقتصر هذا الانقسام الخطير في شخصية المصري وهو يجتاز المرحلة الراهنة من تاريخه على ميدان السياسة، لقلنا إنه راسب من رواسب ذلك التاريخ، حين كان المصري ينطوي على حياته الخاصة التماسا للأمان؛ إذ كان على يقين بأن رأيه في الشئون العامة، لا يعود عليه إلا بالوبال إذا هو أغضب السلطان، لكن ذلك الانقسام الخطير الذي أشرنا إليه، قد يكون له أصداء قوية الرنين في شتى المجالات الحيوية، كالتعليم والاقتصاد، بل والحياة الدينية نفسها، بمعنى أن يحتفظ الفرد برأيه الحقيقي، لا يفصح عنه إلا في مجالسه الخاصة - ذلك إن فعل - وأما في دنيا العلانية فهو إما يمسك لسانه ويزم شفتيه (وذلك أهون الشرور) وإما ينطق بما يعلم أنه كذب اكتسابا للقبول والرضا، فكانت النتيجة أن بسط ذلك الانقسام جناحيه العريضين على رقعة فسيحة من حياتنا، ففي دنيا العلم - مثلا - هنالك زاوية منفرجة في شخص المتعلم، بين ما نقول عنه إنه تعلمه، وبين ما نعرفه أن يعلمه حقا، وهنالك زاوية أشد انفراجا في حياتنا الاقتصادية والعملية، بين ما نقول إننا قد أنجزناه، وبين ما نعرف أنه حقا قد تم إنجازه، وهكذا إذا أنت تعقبت أوجه حياتنا من زواياها المختلفة، صدمتك تلك الزاوية التي هي منفرجة في أكثر حالاتها، بين ما نقول عنه إنه حقيقة واقعة، وما نعرف حقا عنه أنه بالفعل لم يقع، وفي التحليل الأخير لجميع تلك الحالات ستجد المصري الفرد لا يزال على أصالته الرصينة في حياته الخاصة، وأما في الحياة العامة، فليس هو ذلك المواطن الذي ينظر إلى الوطن نظرته إلى بيته، وينظر إلى سائر المواطنين نظرته إلى أبنائه وإخوته، هو في الحالة الخاصة مليء بمضمونه الإنساني، وهو في الحالة العامة خاو أجوف وكأنه مع مجموعته أعجاز نخل خاوية.
وإذا كنت في هذا التحليل قد وقعت على الصواب، كان الطريق إلى العلاج مفتوحا أمامنا، ومن أهم مداخل ذلك الطريق تهيئة الفرص الكثيرة التي تجمع مجموعات من المواطنين في عمل واحد مشترك، فذلك من أقوى الوسائل التي تذكر الفرد بأنه - إلى جانب فرديته - مواطن لآخرين، وهي فكرة كان الفقيه النافذ البصيرة «ابن تيمية» قد تنبه لها، مما جعله يؤكد أن «الأمة» الواحدة إنما تصير كذلك بالمشاركة بين أبنائها في فعل واحد، وكان حديث ابن تيمية هذا في سياق كلامه عن «الأمة الإسلامية» وما يمكن أن يوثق الروابط بين أفرادها.
ولفت نظري خبر عابر قرأته منذ قريب، وهو أن تمثال الحرية المقام عند مدخل نيويورك قد أصابه تلف، استدعى أن يعلن عن البدء في إصلاحه، وبالتالي عن منع زيارة الزائرين له، وكانوا يعدون كل يوم بعشرات الألوف، يصعدونه بسلم داخلي من قدميه إلى تجويف الرأس، والمهم هنا هو أنه تقرر أن ينفق على إصلاحه من تبرعات «الأطفال» الذين هم دون سن العاشرة أو نحو ذلك، وكان يمكن للدولة أن تدفع من مالها، لكن أولي الأمر يتصيدون كل مناسبة سانحة، فيتيحون الفرصة أمام مجموعات من أبنائها للمشاركة في فعل واحد؛ لأن ذلك هو الطريق إلى تماسك أفراد الشعب في كتلة متجانسة متعاونة، وقد نقول: إن أمريكا حديثة العهد، ومواطنوها جاءوا إليها من أركان الأرض جميعا، فهم بحاجة إلى مشروعات كهذه تقوي بينهم الروابط، وأما نحن فما عذرنا؟ والجواب هو أننا - لأمر ما - قد أصابتنا العلة التي لا بد أن تكون مؤقتة وعابرة، ولكن ما ضرنا لو استطعنا أن نسرع بأعجاز النخل الخاوية إلى العودة لتمتلئ باللباب والثمر؟
هنالك آخرون!
اختلط في مكتبتي الفقيرة قمحها بشعيرها، ولم أعد أدري أين أمد أصابعي لأتحسس بها كتابا أريده أو ورقة أبحث عنها، وما أكثر ما تكون الأصابع أيقن إدراكا من العين، فالعينان - حتى وهما سليمتان - قد تخدعان الرائي فتوهمانه بوجود شيء ليس له وجود ، وأما الأصابع فإذا أنبأت صاحبها بأنها لمست شيئا، فلا بد أن يكون ثمة شيء يلمس، انظر إلى «مكبث» (في مسرحية شكسبير) حين أخذه الفزع بعد أن قتل الملك، ليجلس هو على العرش مكانه، فأوهمه فزعه أنه يرى في الهواء خنجره الذي اغتال به ضحيته، فازداد فزعا على فزع، ونظر إلى يديه وهو يمدهما نحن شبح الخنجر في الهواء، وقال مخاطبا أصابعه ما معناه: في وسعك أنت أيتها الأصابع أن تقطعي الشك باليقين، فعيناي تريان شبحا لخنجري الملعون معلقا في الهواء، ليذكرني بجريمتي المنكرة، فتحسسي أنت يا أصابعي وأنبئيني هل تلمسين خنجرا، فلمستك هي التي لا تخطئ اليقين ... وأعود إلى ذكر مكتبتي التي اختلط غثها بثمينها، لأقول إنه لا العينان تسعفان فيما أريد إخراجه من الرفوف، ولا الأصابع تهدي، فإذا تأزمت نفسي وضاقت، أخذت أجذب من الخزائن مكنونها كيفما اتفق، لعل مصادفة عمياء تهديني إلى الضالة المنشودة.
وذلك ما وقع لي منذ قريب، فقد أرقتني رغبة حامية في أن أعثر على بضعة أسطر كنت كتبتها في دفتر من دفاتر المذكرات، وكانت الفكرة المعروضة في تلك السطور، هي أن العلم يتقدم في عصرنا بسرعة تفوق الخيال أحيانا، ثم سيق مثل لذلك، العالم ج. ج. تومسن وولده، فقد كان الوالد قد ترك حقيقة علمية معينة وهي على صورة يعلمها ويحفظها، فلما حدث أن التقى بابنه - وهو كذلك عالم في الميدان نفسه الذي كان يعمل فيه أبوه - أقول إنه حين حدث أن التقى الوالد بالولد وورد في حديث بينهما ذكر تلك الحقيقة العلمية المعينة، تبين أن الصورة التي كان الوالد قد عرفها عنها أيام أن كان عاملا في ميدانه العلمي، قد تغيرت مع الزمن القصير - وهو الفارق بين والد وولده - حتى لأوشكت أن تنقلب رأسا على عقب.
كان ذلك هو مدى ما حفظته لي الذاكرة من أمر تلك الحقيقة، لكن الرغبة اشتدت بي حتى أرقتني، الرغبة في أن أراجع الحادثة في دقة أصلها، فأين أجدها؟ في أي دفتر يا ترى بين دفاتر المذكرات؟ ها هنا دفعني اليأس إلى أن أبقر أكداس الخزائن لأخرج أمعاءها في ضوء النهار. معى معى، وكالطفل الذي يبكي على شيء مفقود، فيلهيه عن ضالته وعن بكائه أن يعثر على شيء آخر لم تدر به خواطره، كذلك كنت.
وذلك أن وقعت عيني على كراسة مكتبية (أجندة) لسنة 1967، جميلة التغليف إلى درجة تخطف البصر، ملئت صفحاتها بفقرات مرقمة، فهمست لنفسي: ماذا تحمل هذه الكراسة في صفحاتها؟ وهنا تركت أكداس الكتب والأوراق مكومة على أرض الغرفة، واستدرت لأستوي إلى مكتبي، وأعددت عدساتي، وأضأت المصباح، وأخذت أقرأ، بادئا بالفقرة الأولى، فقرأت من أسطرها الأولى ما يلي:
أهداني أحد الأصدقاء هذه الكراسة لتدوين المذكرات، قسمت صفحاتها تقسيما يسير بها مع أيام سنة 1967، فلكل يوم صفحة كاملة، والكراسة مصقولة الورق، جيدة الصناعة، مزخرفة الغلاف، صقلا وجودة وزخرفة تلفت النظر، فلم نألف لفترة طويلة أن تعرض لنا أسواقنا كراسات بهذه الأناقة كلها، فلعلها جاءت إلى صديقي من لبنان؛ إذ وجدت على صفحاتها ما يدل على ذلك ... وضعت الكراسة على مكتبي، وتركتها تختفي حينا وتظهر حينا بين الكتب والأوراق، فهي آنا هنا وآنا هناك، هي على السطح مرة، ومرة في القاع، ولطالما اعترضت طريقي وأنا أبحث عن ورقة أو كتاب، فأنحيها بحركة عنيفة، كأنها هي المسئولة عن اختفاء ما أبحث عنه، وظلت هكذا طوال العام - 1967 - الذي خلقت من أجله، ظلت هكذا كراسة خرساء، تضر ولا تنفع، تعوق ولا تعين، لم أخط على صفحاتها حرفا، ولكني كذلك لم أجرؤ على إتلافها، وهي الكراسة المصقولة أوراقها، المزخرف غلافها، المتقنة في صنعها.
فلما انتهى العام، وتهيأ الناس لاستقبال عام جديد، قلت لأنطقن هذه الصفحات الخرساء، خلال العام الجديد، ولا بأس في أن أتأخر بها عاما عن موعدها، فهكذا عودتني حياتي في كل مراحل عمري؛ إذ عودتني أن أتأخر عن الركب أعواما، ثم أظهر بعد أن تكون الفرصة الملائمة قد لفها الظلام.
عند هذا الموضع من مذكراتي، قلبت أربع ورقات أو خمسا، ثم تابعة القراءة:
لئن كان الإنسان مخلوقا ساميا شريفا، بالنسبة إلى سائر المخلوقات جميعا، فليس هو كذلك إلا في صفوة من أفراده، وفي لحظات محدودة من حياة هؤلاء الأفراد هي لحظات الإبداع في الفكر والفن، وأما ما دون ذلك من أفراد الناس، ومن لحظات لا إبداع فيها عند الصفوة الممتازة، فالحياة عندئذ هي عضل قوي أو ضعيف، ومعدة تهضم الطعام أو لا تهضمه، وقلب يضخ الدم، ورئة تتنفس في صحة أو في مرض، فبينما يعلو الفكر والفن بالمبدعين إلى منزلة تدنو من منازل الملائكة، تهبط الأبدان بأصحابها إلى مرتبة واحدة مع الحيوان ... أقول ذلك وفي ذهني صورة مضحكة مبكية لرجل من أصحاب الأبدان، رأيته في سيارة الطريق الصحراوي إلى الإسكندرية، اشترى لنفسه تذكرتين ليريح بدنه الضخم على مقعدين، ثم شاءت الظروف النكدة لمسافر أن يخطئ السيارة التي حجز مكانه فيها، فركب التي تليها، ولكنه لم يجد له مكانا، فاتجهت الأنظار إلى صاحب المقعدين ليفسح مكانا للمسافر المخطئ المسكين، غير أنه أصم أذنيه عن أصوات الرجاء.
إن مسلك ذلك الرجل ذي المقعدين، وقد جعل أذنا من طين وأذنا من عجين، حتى لا يصل إلى سمعه شيء من أصوات الرجاء، أقول إن ذلك المسلك له اليوم أشباه في مجتمعنا تعد بمئات الألوف، كأنما انقلبنا بين يوم وليلة شعبا لا يحب فيه أحد أحدا، إلا أن تكون العلاقة علاقة القربى الوثيقة، فهل تقول إن الروح «الوطنية» لم تتأصل في نفوسنا بعد، ونحن من نحن من أمة ترابط أبناؤها في وطن واحد منذ آلاف السنين؟ وإذا لم تكن هذه هي العلة فماذا عساها أن تكون؟
كان ذلك بعض ما قرأته في كراسة المذكرات التي وقعت عليها «مدشونة» بين أكوام الكتب والأوراق، فقلت لنفسي: سبحان الله، فلقد جاءني خلال اليومين الأخيرين سؤال واحد موضوعا في صورتين مختلفتين: قالت السائلة الأولى، بعد أن أخذت تقص علي روايات تجاوز حدود الخيال، عن ضروب من الكراهية فيما يتعامل به الناس بعضهم مع بعض، هنالك في بنائنا الاجتماعي الآن خلل، فقل لي أين موضعه؟ وقالت السائلة الثانية بعد شكاة تئن بالألم: إننا اليوم أشبه برجل دب في أوصاله وجع لا يعرف مصدره، فهلا قلت لي أين مكمن الوجع؟ وإذا أضفت إلى هاتين السائلتين عشرات من لقاءات عابرة، راح الملتقون فيها يرسلون أحاديثهم إرسالا غير مدبر ولا مقصود، لكن تلك الأحاديث المرسلة لم تكن تلبث إلا قليلا - في كل حالة - حتى تنعقد على محاولات للإجابة عن سؤال مضمر أحيانا صريح أحيانا، وهو سؤال يقول: ماذا أصابنا بحيث أصبح أحدنا يأكل لحم أخيه ميتا فلا نكرهه!
وعندي أن ما أصابنا يمكن تلخيصه في جملة واحدة، وهي أن المصري في هذه المرحلة من تاريخه فقد حسه بوجود «الآخرين»، فالفرد الواحد يتصرف - ما مكنته الظروف - وكأنه وحده في هذا البلد، يريد أن يبتلع من المال أكثر مما يسع جوفه أن يبتلع، وأن يجمع في يده من السلطان أكثر مما يقتضيه وجوده، فكيف حدث ذلك للمصري، وهو الذي عرف الانتماء إلى «أمة» قبل أن يعرف ذلك سواه؟ كيف حدث للمصري أن يجعل من نفسه «فردا» أكثر جدا مما يجعل من نفسه «مواطنا» «يواطن» آخرين، في بلد واحد، وهو الذي أدرك فكرة «الوطن» قبل أن يدركها سواه؟ كيف حدث للمصري أن يسلك وكأنه لا يحمل في فؤاده «ضميرا» يضبط له ذلك السلوك ويقيده، وهو الذي على يديه - كما يقول المؤرخ الأمريكي «بريستد» - لمعت الطلائع الأولى من «فجر الضمير»؟
لكن لا، مهلا، فعن أي مصري نتحدث؟ إن هذا الذي أثار حيرة السائلين، لا يصدق إلا على قلة محدودة ممن قست عليهم ظروف المرحلة التي نجتازها اليوم، ولعلها تنحصر - بصفة عامة - في متعلمين لم يتحقق طموحهم بسبب فجوة واسعة بين ما تعلموه وما كانت تريد لهم الحياة أن يتعلموه؟ ولكن هل تصدق تلك الشكوى على المرأة المصرية من حيث هي أم تفني نفسها في رعاية أطفالها؟ وإذا لم تكن تصدق عليها، فهذا هو نصف الأمة، ثم هل تصدق الشكوى على ملايين الزارعين لأرضهم، كأن تلك الأرض ولد من أولاده، بل ربما ظفرت من عطفه بقسط أكبر، وإذا لم تكن الشكوى تصدق على نسبة ضخمة من الزارعين، فهذه عدة ملايين من الأمة لم يصبها السوء وتستطيع أن تضيف شرائح عريضة أخرى من بنائنا الاجتماعي لا تزال تحمل على كتفيها أمانة الإخلاص.
ومع هذا التحفظ فليس فينا من لا يلحظ تحولا في وقفة المصري من سائر مواطنيه وقفة فيها استغلال للآخرين، وفيها استغفال للآخرين، بل فيها ما يشبه الإنكار لوجود الآخرين، وها هنا موضع «الخلل» - إذا استخدمنا اللفظة التي أوردتها إحدى السائلتين في سؤالهما - وها هنا كذلك مكمن «الوجع»، إذا استخدمنا اللفظة التي وردت في سؤال السائلة الثانية.
إذا كان هذا هكذا، فسؤالنا الضخم العويص، المعقد، هو الآن: ما الذي حدث في حياة المصري فأفقده شعوره بالآخرين؟! الباحث الفاحص في طبيعة المصري وملامحها الكبرى، يستحيل أن تخطئ عينه صفة التكافل الاجتماعي التي تميز المصري منذ أقدم عصوره، نعم إنه بغير قدر من ذلك التكافل الاجتماعي لما وجدت أمة بأي معنى من معانيها، في مصر وفي غير مصر على السواء، لكن هنالك الفرق الشاسع بين تكافل يفرضه القانون على المواطنين، وتكافل ينبثق من طبائع الفطرة أو الثقافة الموروثة بغير حاجة إلى قوة القانون، فإذا رأيت ضروبا من التكافل هنا وهنالك وفي كل مكان، فذلك في حد ذاته لا يجعل الكل سواء، لأن بعضهم يتعاطف مع الآخرين بحكم المحكمة، وبعضهم لا ينتظر من المحكمة حكما ليتعاطف مع ذوي قرباه، وجيرانه، وأهل قريته - ثم مع مواطنيه جميعا - وكانت مصر من هذا الضرب الثاني، إلى أن حدث ما حدث في مرحلتنا الراهنة، فأصبحنا من أصحاب الضرب الأول، في أن تكون رعاية الفرد للآخرين مفروضة بأحكام القانون، مع فرق بيننا وبين سوانا - ربما - وهو أن سوانا فيهم كثيرون يحترمون القانون فينفذونه لا عن خوف، بل لأنه قانون وكفى، وأما نحن - أخشى أن أقول - فمنا كثيرون يجعلون اهتمامهم الأول إزاء القانون، هو البحث عن ثقوب فيه تصلح للفرار بين قيوده دون التعرض للعقاب.
أعود فأقول: إن سؤالنا العويص المعقد الآن، هو ما الذي حدث للمصري ليتحول هذا التحول الغريب؟ قد تختلف في التعليل، وقد تتعدد العوامل التي أدت إلى التحول، لكنني أرى أن أهم ما حدث في هذا الصدد، هو انعدام الصلة السببية (تقريبا) بين المواطنين وجهودهم وقدراتهم وإنتاجهم من جهة، وما يصيبونه من جزاء من جهة أخرى، فإذا سألت عن مواطن: لماذا وضع في خريطة حياتنا هذا الموضع؟ فقلما يجيئك الجواب الذي يقنعك حقا بأن جهوده وقدراته وإنتاجه هي التي أدت به إلى ذلك، فهنالك ألف سبب وسبب قد تفعل في ذلك فعلها، قبل أن يكون ل «الأحقية» اعتبارها؟ وحسبنا أن نعيد إلى الذاكرة تلك المفاضلة العجيبة التي شغلت أذهاننا ذات يوم، بين أصحاب الكفاءة وأصحاب الثقة لأيهما يكون الأمر؟ وتنتهي المفاضلة يومئذ بتفضيل من يوثق في إخلاصه على الكفء القادر؟ وكأن الكفاءة القادرة تتعارض مع الإخلاص والولاء، والذي نود هنا أن نلفت إليه النظر، هو أن للكفاءة مقاييسها المحددة الواضحة، وأما الثقة فمسألة ذاتية صرف، فإذا حق للسائل أن يسأل ما برهانك على أن فلانا مهندس بارع، فلا يحق لك أن تسأل الواثق في إخلاص مساعديه: ما برهانك على أنهم جديرون بالثقة؛ لأن الأمر هنا - إلى حد بعيد - يختلط بعوامل نفسية خالصة تؤدي إلى حب أو إلى كراهية.
وضعت القيادات في أيدي المقربين بحكم إخلاصهم، سواء اقترن ذلك بالقدرة أو لم يقترن، ثم ما هو إلا أن بات هدف الطامحين إلى الصعود، هو أن يكون الطامح من هؤلاء المقربين قبل أن يكون من القادرين، فنتج عن ذلك نتيجة حتمية، وهي أن يصعد الصاعدون فوق رءوس القادرين، حتى إذا ما بلغوا ذراهم كانت لهم السيطرة على توجيه الكفاءات إلى حيث يريدون لها أن تتجه، لا إلى ما تقتضيه طبائع الأشياء والمواقف كما تراها المعرفة العلمية والخبرة بتطبيقها.
فإذا تذكرنا بعد هذا كله أن العدل الاجتماعي لا يعني آخر الأمر إلا أن يجد كل مواطن نفسه في الموضع الذي هيأته له فطرته وقدراته، عرفنا أمرين يتصلان بموضوع حديثنا: الأول هو أننا أخلصنا لمبدأ العدالة الاجتماعية أكثر جدا مما نجحنا في تحقيق ذلك المبدأ، والثاني - وهو المهم في الموضوع حديثنا هذا - أننا كثيرا جدا ما جعلنا الطريق إلى بلوغ الأهداف التي يطمح إليها الطامحون، يقتضي بالضرورة أن يداس على أعناق «الآخرين»، ومن هنا نشأ «نموذج» اجتماعي جديد، هو الذي أراه مصدر «الخلل» أو مكمن «الوجع» فيما نشكو منه، وعلاج الأمر هنا - لحسن الحظ - بسيط ويسير وهو أن نعود إلى النموذج الاجتماعي الذي لا يعطي مكانا لمواطن إلا إذا قدم من عمله وقدرته ما يبرر ذلك العطاء، وإذا حدث هذا قلت حدة السعار في أن يأكل أحدنا لحم أخيه ميتا ثم لا نكرهه!
ومن بواعث حيرتي أن أجد في المرحلة الزمنية نفسها، التي تشهد هذه اللامبالاة القاسية من الفرد نحو «الآخرين» - إذا ظنهم عقبات في طريقه - أقول إن المرحلة الزمنية نفسها التي تشهد هذا، تشهد كذلك ميلا ملحوظا إلى التزمت الديني، أو التظاهر به، فكيف حدث لهذين الخطين أن يتوازيا جنبا إلى جنب في وقت واحد؟ مع أن المسلم إذا ما شدد قبضته على عقيدته الإسلامية، ازداد شعورا ب «الآخرين» لا من حيث هم وسائل تستغفل وتستغل، بل من حيث هم غايات في أنفسهم، وانظر نظرة مدققة متعمقة إلى كل ركن من أركان الإسلام الخمسة، تجده منطويا على ضرورة أن يتصور المسلم نفسه دائما، لا على أنه فرد مستقل منعزل، بل على أنه كذلك عضو في جماعة.
فالركن الأول، وهو شهادة ألا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، يتضمن بمنطق «الشهادة» نفسه الاعتراف بثلاث حقائق: الشاهد، والمشهود به، والمشهود أمامه، فأنا موجود بحكم أني «أشهد»، والله سبحانه موجود وحده لا يشاركه في الألوهية إله آخر، بحكم منطوق الشهادة، وثالثا أن «آخرين» موجودون، هم الأمة التي أنا عضو فيها، والتي أشهد أمامها شهادتي لتكون معلنة، والركن الثاني من أركان الإسلام هو إقامة الصلاة، وفيها يحث الفرد على أن يصلي مع «آخرين» جماعة، فإن تعذر ذلك طيلة أيام الأسبوع، أصبح الأمر فرضا عليه يوم الجمعة، ليتحقق وقوفه أمام الله مع «الآخرين»، وكأن في ذلك عهدا مقطوعا من الفرد أمام ربه، بأنه يقر بألا حياة له إلا منتسبا إلى هؤلاء، ومتآزرا معهم في صف واحد، يستقبلون قبلة واحدة، والركن الثالث هو إيتاء الزكاة. فإلى من تزكي إن لم تكن زكاتك ل «آخر»، وتأمل جيدا موقف «الزكاة»، فالزكاة تنمية بمعناها اللغوي، فأنت تنمو وتزكو وتسمو حين تعين «الآخرين» على النمو والزكو والسمو، فهي ليست تبعة «اقتصادية» نحو الآخرين فحسب، بل هي في الوقت نفسه تبعة أخلاقية وروحية، وكدت أقول «حضارية» أيضا.
وأما الركن الرابع فهو صيام رمضان، ولست أعرف فترة زمنية يتكلم المسلمون خلالها لغة حياتية واحدة، أكثر مما يفعلون في رمضان، فالأمة كلها كأنها على صلة هامسة كل فرد بالآخرين، يأكلون معا ويمسكون معا، بل وكثيرا ما يتحدون في ألوان الطعام، فتزول الحواجز كلها بين الفرد و«الآخرين» والركن الخامس وهو حج البيت لمن استطاع إليه سبيلا، ففكرة «الآخرين» أوضح من أن يشار إليها، على أن «الآخرين» هنا تتسع دائرتهم لتشمل العالم الإسلامي كله.
فهل يكون المصري مصريا وهو يغض ناظريه عن «الآخرين» وجودا وحقوقا؟ وهل يكون المسلم مسلما إذا فعل؟
«وإذا الموءودة سئلت»!
في سرحة من سرحات فكري، التي تعاودني كلما خلوت إلى نفسي، وإني لأخلو إليها ألف مرة في النهار الواحد، شأن من فرغ وفرغت حياته من أثقالها، وهي السرحات التي كلما عاودت، شطحت بذاكرتي في ذلك المستودع العجيب الرهيب، مستودع النفس وما حوته من مخلفات ماضيها، أقول إنه في سرحة من تلك السرحات التي ينصرف فيها الإنسان إلى دخيلة نفسه، حتى لتصبح العين وكأنها مغمضة عما حولها، والأذن وكأنها صمت لا تسمع الصوت، رأيتني وجها لوجه مع تلك الفتاة، التي كنت قد التقيت بها على صفحات التاريخ، ولم أكد أنظر إلى شبحها في ثوب أبيض كأنها القديسة في طهرها وصفائها، حتى تذكرت في وضوح ناصع، متى وأين التقيت بها، ووقفت معها طويلا طويلا، إنها «هيبا شيا» الإسكندرانية، نذرت حياتها - على قصر تلك الحياة - للفلسفة ، فهي في ذلك فريدة في تاريخ الفكر، فذاكرتي الآن لا تسعفني باسم آخر لامرأة ذكرها تاريخ الفلسفة على صفحاته، لكنها كانت كذلك فريدة في مصرعها على أيدي رجال قساة غلاظ القلوب يحملون على أعناقهم رءوسا خاوية إلا من الهوس وأخلاط الجنون.
كانت «هيبا شيا» هي التي جاءتني بها سرحة فكري هذه المرة، رأيتها ماثلة أمامي في رزانتها الرصينة، ففتحت العين وأرهفت الأذن وكأنما سمعتها تقول: لقد دعوتني، فها أنا ذا.
قلت: لا، لم أدعك، ولا توقعت قدومك، فربما استدعاك ما كنت أفكر فيه.
قالت: وفيم كنت تفكر؟
قلت: في رجل الشارع، لكن دعينا الآن مما كنت أفكر فيه، ولنا إليه عودة، أما الآن فقصي علي ما أصابك، إنني أعلم شيئا عنه، أضاع منه النسيان شيئا وأبقى شيئا.
قالت: وكيف عرفت ما عرفته عن مأساتي، وبيننا خمسة عشر قرنا، فأنا من أهل القرن الخامس الميلادي، وأنت من أبناء القرن العشرين؟
قلت: قرأت عن مأساتك فيما كتبه شيخ المؤرخين الإنجليز «إدوارد جيبون»، ذلك المؤرخ الذي كان يكتب التاريخ بقلم الأديب، يرسم الصور بقلمه فتحيا ويحيا معها القارئ، فكان قلمه للأحداث هو نشور لها بعد دثور.
قالت: كانت مأساتي مروعة دامية، وأعجب ما فيها أن جنايتي عند أولئك القساة هي اشتغالي بالفلسفة وعلوم الرياضة، ولقد أوقعوا بي ما أوقعوه باسم الدين.
قلت: هيه يا فتاتي، حدثيني، فأمسنا يبدو كيومنا، والإنسان هو الإنسان لا يغيره الزمان، حدثيني يا فتاتي عما حدث.
قالت: أراد بي ربي ألا ألهو مع اللاهيات فشغلت نفسي بالدراسة، ودفعني هواي إلى أن تكون الفلسفة موضع حبي، ولعلك تعلم أن الفكر الفلسفي والفكر الرياضي قرينان؛ لأنهما شبيهان في طريقة البدء وفي منهج السير.
وما أنا ذات يوم في ساعة الضحى، وبينما كنت منتقلة في عربة أطوي بها الطريق في مدينة الإسكندرية، أنعم بزرقة البحر تحت زرقة السماء، والهواء منعش جميل، إلا وقد دهمت العربة جماعة اشتد بهم الهوس والجهل معا، فحسبوني خارجة على الدين، فلا هم يعرفون حرفا مما أدرسه، ولا هم يأخذون بكلمة مما يوصي به الدين، فانتزعوني من العربة انتزاعا، وخلعوا عني الثياب عنوة وقسرا، ودفعوا بجسدي العريان على الأرض، وشدوني إلى حبل، ثم جروني جرا على حصباء الطريق، حتى لقد تسلخ ونهش وكادت تظهر العظام مما كان يكسوها، فلما بلغوا بي إلى حيث أرادوا، وجدت رؤساءهم في انتظاري، وأقاموا من أنفسهم ما يشبه المحكمة الدينية لمحاكمتي.
وعبثا حاولت الكلام، فالبدن منهوك القوى، والطغاة لا يصغون، والحكم مقرر سلفا، فانقضوا علي بالسكين ذبحا، وأشعلوا نارا، وأخذوا يكشطون ما بقي من لحمي بمحارات مسنونة الأطراف، ويقذفون في النار بالأشياء شلوا شلوا، وبقطع اللحم قطعة قطعة، وكان بعضها يلقى في اللهب وهو لم يزل يرتعش ببقية من حياة.
قلت: يا لهول المأساة، هل لك أن توجزي فلسفتك في عبارات قليلة، لأوازن بين الجريمة والعقاب؟
قالت: أتقول «جريمة» عن فكر فاحص باحث دءوب؟ لا، لا، إنه لا جريمة هناك، وما كانت فلسفتي إلا صدى للفلسفة التي سادت الإسكندرية منذ نحو قرنين! فلقد كانت الإسكندرية - ولا بد أن تكون على علم بذلك - نقطة التقاء الشرق والغرب في كل شيء، من تبادل السلع في دنيا التجارة، إلى تبادل المذاهب الفكرية في دنيا الفلسفة، وكانت الإسكندرية كذلك، هي التي رفعت لواء الفكر، بعد أن وهنت دون حمله مدينة أثينا، وكان قد جاءنا فيما جاءنا من اليونان فلسفة أفلاطون، فأخذناها، لكننا طبعناها بطابع مصري أصيل، كشأن مصر دائما في عصور قوتها، وماذا يكون الطابع المصري الأصيل، إن لم يكن هو التدين والتصوف؟ وهكذا مزجنا الأفلاطونية اليونانية، بجرعة قوية من الدين والحس الصوفي، فكان لنا بذلك ما يسمونه بالأفلاطونية المحدثة، وكان حقها أن تسمى بالأفلاطونية المصرية، والفضل في إبداعها هو لذلك الأسيوطي «أفلوطين» الذي كان قد جاء إلى الإسكندرية من موطنه أسيوط في صعيد مصر، جاء يطلب العلم واكتساب الحكمة، ولست أنا إلا تابعة من أتباعه.
قلت: الحق أني لا أجد في تلك الرؤية الفكرية ما يستحق العقاب.
قالت: أبدا، أبدا ليس فيها ما يعاب، فهي رؤية تؤكد وحدانية الله ودوامه ومشيئته، بالنسبة إلى مخلوقاته المتعددة المتغيرة الفانية، ثم هي تقدم تفسيرا معقولا لخلق الله للعالم، إذ تشبه ذلك بالشمس يفيض عنها الضوء.
قلت: لا تحزني يا فتاتي، فالذين - واللائي - اغتالهم الجهل والتعصب كثيرون في التاريخ، وتحضرني الآن قصة ذلك المتصوف التقي الورع عبد الله بن حباب، الذي جاءت حياته بعد حياتك بمائة عام أو يقرب منها إذ فاجأته جماعة من الخوارج بمثل ما فاجأتك الجماعة المتهوسة التي رويت لي حكايتها.
قالت: ومن هم الخوارج، ومن هو عبد الله بن حباب؟
قلت: لقد نزل على العالمين بعد عهدك بأقل من قرن واحد، دين الإسلام، وكان محمد - عليه الصلاة والسلام - هو في ذلك نبي الله ورسوله، وبين أصحابه كان عبد الله بن حباب، الذي بلغ من حبه للإسلام أن علق كتاب الله حول عنقه بخيط ليظل الكتاب على صدره، وأما الخوارج فهم جماعة اجتمعت فيها متناقضات، فبينما هم يوصلون في عبادة الله ليلهم بنهارهم، حتى لقد كانت جباههم تتقرح من كثرة السجود على الرمل والحصى، كانوا من غلظة القلب على من يخالفهم في الرأي، بحيث لا يترددون في قتل المخالف، والنقطة الأساسية عندهم في اختبار من يصادفونه من المسلمين، هي رأيه في أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، وهو الذي «خرجوا» على طاعته، حين اعتقدوا أنه لم يلتزم كتاب الله في نزاع قام حول الخلافة، فمن وجدوه من المسلمين مواليا لعلي، قتلوه، فاسمعي ما جرى من حوار قصير بين نفر من هؤلاء الخوارج، وعبد الله بن حباب، وقد كان عبد الله هذا مع زوجته في داره، حين سمع صوتا آتيا من الطريق، عرف منه أن رجالا من الخوارج، يجوبون الحي ليفتكوا بمن وجدوهم مخالفين لهم في الرأي، فخرج عبد الله بن حباب ومعه امرأته، ليلوذا بالفرار حتى لا يصيبهما السوء، لكنهما ما كادا يخرجان من دارهما، حتى أمسك بهما هؤلاء الرجال، ودار الحوار الآتي:
الخوارج لابن حباب :
إن هذا الذي في عنقك يأمرنا بقتلك.
ابن حباب :
ما أحياه الله فأحيوه ، وما أماته الله فأميتوه.
الخوارج :
ما القول في علي بعد التحكيم؟
ابن حباب :
إن عليا أعلم بالله، وأشد توقيا على دينه، وأبعد بصيرة.
الخوارج :
إنك لست تتبع الهدى، إنما تتبع الرجال على أسمائهم.
وبعد هذا الحوار المقتضب القصير دفعوه هو وزوجته إلى شاطئ نهر قريب، فأضجعوه، فذبحوه، ثم اتجهوا إلى امرأته الحبلى، فبقروا بطنها.
وكانت تلك الفظاظة والفظاعة وقسوة القلب وغلظة الكبد، هي أيضا باسم الدين، كالذي حدث لك في مأساتك يا هيبا شيا.
إن رسالات السماء يا فتاتي إنما نزلت رحمة للعالمين، لكنه الإنسان وما يكمن في صدره من غرائز الحيوان، هو الذي يضيق به الأفق فلا تقوى طبيعته على حمل الرسالة حتى وهو مؤمن بها فيما يظن، فالجماعة التي اغتالتك على نحو ما فعلت، ربما جاءت لتتربص بك، بعد أن أدت شعائر الصلاة في الكنيسة، إذ تقول رواية التاريخ، إن القديس كيرلس، راعي كنيسة الإسكندرية وقتئذ، كان هو مدبر الاغتيال، صادرا في تدبيره ذاك عن إيمانه الديني كما صورته له روح التطرف، وكذلك كان الخوارج الذين فتكوا بالصحابي الورع عبد الله بن حباب، يصدرون في فعلتهم عن إيمانهم الديني كما صورته لهم روح التطرف، فالعلة - إذن - يا هيبا شيا هي في التربية الدينية وعلى أي صورة ينبغي أن تكون.
وفي صفحات التاريخ عشرات الأمثلة بعد عشرات، أمثلة للجريمة حين تجيء عند مقترفها نتيجة نية هي في حقيقتها نية طيبة؛ إذ ماذا أنت قائلة في سلوك يسلكه صاحبه، معتقدا أنه إنما يتحرك بدافع من ضميره الديني، فمصدر الخطأ - كما ترين - هو في تربية لم تحسن التوجيه، فتركت الناشئ ينشأ على خلل في موازين التقويم، فيحسب حسنا ما ليس بالحسن، ولو حدثتك عما يحدث الآن في عصري الذي أعيش فيه، وهو كما تعلمين. يجيء بعد عصرك أنت بخمسة عشر قرنا، أقول إني لو حدثتك عما يحدث في عالمي اليوم، من جرائم هي أبشع الجرائم، يصدر فيها مقترفوها عن أسمى المعاني، إذ يصدرون عن العقيدة الدينية كما صورت لهم وتصوروها، أو عن روح وطنية، أو غير ذلك من الدوافع النبيلة في ذاتها، لكنها كثيرا ما توضع في غير مواضعها الصحيحة فيكون ما يكون، لو حدثتك عن ذلك لما صدقت أذنيك! ويكفيني أن أذكر لك طرفا مما يحدث في بلد عربي حبيب، هو لبنان، فهل سمعت يا هيبا شيا في عصرك وقبل عصرك عن بلد ينتحر كله باسم الدين؟ إنك لو أمعنت النظر في مأساة لبنان، لرأيت أن كل شاب ممن يحملون السلاح، ويلقون بالقنابل، إنما هو ينطوي على معنى من الإيمان أو من الوطنية، أو من الانتماء، لو أخذته مجردا وحده، وجدته معنى شريفا، لكنه وضع في سياق مغلوط فأصبح شيئا آخر، لم تسمع الدنيا بأبشع منه، ثم انظري إلى ضرب آخر من الانتحار الجماعي، في الحرب بين بلدين مسلمين يريد أحدهما أن يفني الآخر، وانظري إلى ما يفعله الجيش الجمهوري في إيرلندا، يستحلون التقتيل والتخريب مدفوعين في ذلك بمزيج من الدوافع الوطنية والدينية، وأما ما يحدث بدوافع السياسة في يومي هذا، فقولي عنه ما شئت لأنك لن تعرفي كيف تبالغين في القول، حتى إذا تعمدت المبالغة، لأن الواقع في جرائم السياسة يفوق كل خيال، حتى بين أبناء الوطن الواحد، ومكمن النكبة في جرائم السياسة، هو في الخلط بين فكرة الغايات وما يؤدي إليها من وسائل؛ إذ يصور الجنون القاسي لأصحابه، أنه ما دامت الغاية شريفة، فكل وسيلة هي بعد ذلك جائزة، حتى لو كانت تلك الوسيلة هي أن تعذب إنسانا من البشر، فضلا عن أن ينال التعذيب جماعات من مواطنيك، قد يعدون بعشرات الألوف أو بمئاتها.
أتعرفين يا هيبا شيا ماذا حدث بالأمس؟ لقد كنت قد ذكرت منذ قريب عن تعذيب الطغاة لشاب عربي، وأن عيني قد دمعتا حين قرأت النبأ؛ لأنني إذ كنت أقرؤه، تخيلت أني هو ذلك الشاب فيما لقي من إهانة وهوان على أيدي أعدائه، فجاءني كتاب من مؤلفه، ومع الكتاب خطاب فيه بضعة أسطر قليلة تشيع فيها نبرة السخرية من رجع تدمع عيناه لحادثة كهذه، وحوله ما هو أفجع وأبشع مما لقيه ألوف المواطنين من صنوف التعذيب، والكتاب المرسل هو سجل لبعض ما عاناه مؤلفه، أو ما شهد غيره وهم يعانون، وهذا هو الكتاب في يدي، أقرأ عليك صفحة واحدة من صفحاته، لتسمعي إلى أي حد بعيد يمكن أن تذهب قسوة مواطنين بمواطنيهم، تحت لواء «الأهداف الوطنية العليا»، فاسمعي، ولن أقول لك متى كان هذا ولا أين؟
قررت إدارة السجن ذات يوم ضرب جميع المعتقلين، فأصدر قائد السجن أمرا بصرف خمسين عصا لكل معتقل، احتفاء بذكرى ... ولقد نفذت فينا العقوبة بصورة مخزية، فقد أمرنا جميعا بربط عصابات على أعيننا، ثم الحبو على أرجلنا وأيدينا، شأننا شأن القرود والكلاب، وأمرنا بالزحف هبوطا على درجات السلم إلى ساحة السجن، ثم طرحنا على ظهورنا، وأمرنا برفع أرجلنا لنتلقى تحية الذكرى.
يسأل القرآن الكريم عن الموءودة إذا سئلت، بأي ذنب قتلت؟ وعلى هذا الضوء الهادي، نسأل عن الذبائح البشرية في أرجاء العالم كله اليوم، بأي ذنب ذبحت، وعن المعذبين في معتقلات العالم المتخلف وسجونه، يلقون من التعذيب ما يشيب له الولدان، بأي ذنب عذبوا، وسيكون الجواب في هذا كله هو أنهم أصحاب رأي وعقيدة، وبعد هذا ترانا إذا صرخنا بكل ما تحتمله الحناجر من صراخ، دعوة للناس أن يراعوا حقوق الإنسان، قيل لنا في سخرية العابثين: ما الجديد في الدعوة إلى حقوق الإنسان، هذا شيء نعرفه من زمان، وهو مسطور في تراثنا، فكأنما يطلب من الجائع ألا يشكو من الجوع؛ لأن أسماء الطعام مكتوبة في الكتب.
أمسكت عن حديثي إلى هيبا شيا، لأنني لم أعد أرى صورتها ماثلة أمامي، وإذا بصوتها يسألني: حدثني عما كان يدور في خواطرك، عندما استدعيتني من مخزون الذاكرة، فلقد قلت لي لحظة ظهوري، إنك كنت تفكر في رجل الشارع، فكان هذا الخاطر عن رجل الشارع هو الذي شدني من مخبئي، فما علاقتي برجل الشارع حتى ليكفيك أن تذكره فأستيقظ في ذهنك وأنجذب إلى وعيك؟
أجبتها قائلا: لا عليك من هذا، وإذا شئت الحق ، فالصلة بينك وبين رجل الشارع لم تكن عندي، بل سمعتها تتردد على ألسنة زملاء أعزاء، فهم الذين ربطوا بينك وبين رجل الشارع.
قالت: كيف؟
قلت: ألست موصولة بالفلسفة حتى لقد ذبحت من أجلها؟ فذكرك يذكر بالفلسفة، وذكر الفلسفة عند الزملاء الأعزاء يذكر برجل الشارع، وهم يقولون في ذلك إن رجل الشارع يعيش «الفلسفة»، إذن فهو فيلسوف مع الفلاسفة، وينتج عن هذه الرابطة ألا نعلم الفلسفة إلا ورجل الشارع في أذهاننا. هذا ما يقوله الزملاء الأعزاء.
قالت هيبا شيا: لكنهم وقعوا في خلط شديد، أليس كذلك؟
قلت: نعم، لقد خلطوا بين أطراف الموقف خلطا لم يكن يجوز الوقوع فيه؛ فالناس «يعيشون الضوء» و«يعيشون الصوت» و«يعيشون الكيمياء» و«يعيشون النبات» ... نعم إن هذه الأشياء كلها تقع في صميم حياتهم اليومية، لكن أحدا لا يجرؤ على القول إنه بناء على ذلك يجب أن يكون لرجل الشارع مشاركة في علم الضوء، وفي علم الصوت، وفي علم الكيمياء، وفي علوم النبات والحيوان، وحقيقة الأمر هي أن الطريق بين رجل الشارع والعلوم (ومن بينها الفلسفة إبداعا ودراسة) هو طريق صاعد هابط، بمعنى أن موضوعات العلم إنما تأخذ مادتها مما هو واقع، ثم تصعد العلوم بهذا الواقع إلى مستوى الدراسة النظرية التي لا يضطلع بها إلا العلماء، ثم تهبط نتائج تلك الدراسة العلمية إلى دنيا التطبيقات العملية، أي إلى الدنيا التي يعيش فيها رجل الشارع، فنحن إذ ننادي بوجوب أن تأخذ الفلسفة في اعتبارها دراسة الأفكار الشائعة في دنيا الناس، محاطة بالغموض، فيكون من واجبات دارس الفلسفة أن يتناولها بالتحليل والتوضيح، لا نعني بذلك أن يشارك رجل الشارع في الدراسة والتحليل، العلماء وحدهم ينتجون العلم، ورجل الشارع يستخدم في حياته العملية ما أنتجوه.
قالت هيبا شيا: إن أصدقاءك الأعزاء قد ذبحوا الفلسفة ذبحا، أو قل إنهم خنقوها بتراب الشارع.
فتلوت خاشعا:
وإذا الموءودة سئلت * بأي ذنب قتلت ؟ وكانت هيبا شيا عندئذ قد اختفت من مخيلتي صورة وصوتا، فتركت مقعدي، وأويت إلى فراشي لأدخل في نعاس الليل.
شبح اسمه الغزو الثقافي
إنه لا يزورني إلا حينا طويلا بعد حين طويل، لكنه إذا فعل، بشرت نفسي بمحدث يستولي على لب سامعه بسحر حديثه، ومع ذلك فكثيرا ما يلوذ بصمت مفاجئ لا أدري له سببا، وذلك ما حدث في زيارته الأخيرة، وهي أخيرة لكنها وقعت منذ عامين أو نحو ذلك.
إنه في تلك الزيارة، جاء فاستوى على كرسيه بجواري، ولزم الصمت بعد تحية سريعة قصيرة هامسة، فأخذت من جانبي أحييه ثم أحييه، وأرحب به ثم أرحب به، فيكتفي بهزة رأسه ووضع كفه على صدره، مع ابتسامة مصنوعة، فبحثت في مخزون الدماغ عن أي شيء أقوله، لعلي أحرك فيه شهوة الإجابة، فتنحل عقدة لسانه، قلت: إنني يا أخي كثيرا ما أقع خلال قراءتي، على عبارة هنا وعبارة هناك، فيها من الغرابة عن المألوف ما يصدم، ولكن فيها كذلك من الحق ما يوقظ، وعندئذ أنظر إلى العبارة مرقومة أمامي على صفحتها بمداد أسود، إلا أنها تتألق أمام بصري وكأنها تحولت إلى أحرف من نور، أو هكذا يخيل إلي ساعتها، ولعل ذلك الوهم العجيب في طبيعتي، إزاء عبارات كهذه، هو الذي يعين ذاكرتي على الاحتفاظ بها، وكأنها احتفرت فيها بمسمار من نار.
هنا تحرك زائري حركة خفيفة على مقعده، وقال في اهتمام واضح: مثل ماذا؟ فقلت: مثل عبارة وردت في سياق ما يعرضه الكاتب، تقول: «إنهم يقولون لماذا تستعبدون الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا، مع أن هؤلاء الناس قد ولدتهم أمهاتهم مكبلين بقيود من فولاذ، هي قيود الغرائز التي لا حيلة لهم فيها، وقيود الظروف التي ترسم لهم معظم طريق الحياة مقدما.» تلك عبارة، وأخرى وجدتها تقول: «لا تنصت إلى من ينصحك بأن تعامل الناس كما تحب أن يعاملوك به، فقد فعلت ذلك ولقيت الوبال، فأنا أحب لنفسي أن يعاملني أصغر صغير وكأننا متساويان في الصغر، أو متساويان في الكبر إذا أردت فعاملت كبيرا ذات يوم بنبرة في الحديث قد توحي إليه بأننا متساويان صغرا مثل صغري، أو كبرا مثل كبره ، فحزن لذلك واغتم وبطش بي بعد ذلك بطش الأشداء لأعرف من هو ومن أنا، وكم تكون المسافة بيننا.» وعبارات أخرى في مجالات أخرى، مثل قول الجاحظ في كتاب الحيوان: «إن القردة تشبه الإنسان في ظاهر ملامحه وحركاته، ولكنها لا تشبهه في السريرة التي تبعثه على الوفاء، وأما الكلاب فتشبه الإنسان من باطن، إذ تشبهه في بواعث سريرته ولا تشبهه في ملامح وجهه أو حركات بدنه، ولذلك نضحك من القردة لأنها تحاكي الظاهر ولا تحاكي الباطن، ولا نضحك من الكلاب؛ لأنها اختارت الباطن حين حاكت.» هذا هو معنى ما ورد عند الجاحظ، وضعته لك في عبارتي لأنني لا أحفظ نص عبارته، وهكذا يا صاحبي فماذا ترى في أقوال كتلك؟
تحرك زائري مرة أخرى في مقعده، وابتسم، لكن حركته هذه المرة لم تكن كسابقتها صادرة عن قلق، بل جاءت لتعبر عن طمأنينة، كما لم تكن ابتسامته هذه المرة مصنوعة كسالفتها، بل جاءت مطبوعة بطبعة الرضا الودود، ثم قال: لقد صدقت إنها عبارات كاشفة كأنها المصابيح يتوهج الضوء في زجاجها، وهنا رأيته وقد اعتدل في جلسته، مسترخيا هادئا، استرخاء المطمئن وهدوءه، فعرفت أنني مقبل على حلو الحديث، قال:
سأقص عليك قصة، هي - كالعبارات التي ضربت لي أمثلة منها - في ظاهرها من البعد عن المألوف ما يصدم، ولكن فيها كذلك من الحق ما يوقظ! فلعلي ذكرت لك مرارا، ذلك الصديق الذي ورث عن أبيه الثراء العريض، كما ورث منه كذلك ميلا إلى تحصيل المعرفة تحصيلا دائبا متصلا، ومع ذلك فهو لم يصل عند ذلك التحصيل حد الإشباع، إن لم يكن قد زاده نهما، وهو الصديق الذي قلت لك عنه إنه دائم السفر، لا يستريح من رحلة إلا ليأخذ أهبته، ويعد عدته إلى رحلة أخرى، في كل مرة يعود إلي بزاد وفير، عما رآه وسمعه في طول أرض الله وعرضها، ولقد جاءني هذه المرة بأغرب ما يروى وربما كان كذلك أصدق ما يروى في دلالته الخافية لا في صورته الظاهرة.
زعم لي أنه مر بإحدى الجزر المجهولة في الجزء الجنوبي من المحيط الهادي، ذكر لي اسمها، لكني نسيته لأنه مما ينسى لطوله وكثرة أجزائه، وأهل تلك الجزيرة - كما روى لي - يرتدون ثيابا غريبة لكن الطيبة تشع نورا هادئا من وجوههم السمحة وعيونهم الوديعة، ويبدو أن الجزيرة غنية بطيباتها مما يتيح لأهلها فراغا وراحة، ثم ما هو إلا أن سمعوا صاحبي ينطق جملا متقطعة بلغته العربية غير المفهومة لهم، فأدركوا من فوهم أنها هي لغة من جاءهم من الرحالة وأحبهم، وأقام معهم، فأسرعوا به ليلتقي بهذا الزائر الجديد، وإذا بالرجل يمني عربي، استطاب الإقامة فأقام، وكان ذلك لصاحبي نعمة هبطت إليه من السماء.
تلازم العربيان، وأخذ الزائر القديم يقص على الوافد الجديد عن أهل الجزيرة أغرب القصص، وكان أغربها عن سلطان الجزيرة الذي يقيم وحده في برج مغلق عليه، أو لعله برج بلا نوافذ وأبواب.
قال اليمني - واسمه حامد - لصديقي الرحالة: منذ بضعة أعوام ضجت هذه الجزيرة الهادئة ضجة اهتز لها كل أبنائها، وذلك إثر حادث غريب، امتزج فيه الوهم بالواقع، واختلطت الخرافة بالعلم الصحيح، وكانت نقطة البداية أن رأى السلطان - أو خيل إليه أنه رأى لا في أحلام نومه، بل في عز صحوته، شبحا غريبا - لا ندري كيف وجد طريقه إلى داخل البرج، والبرج مصمت كما ترى، وكان الشبح - فيما نقل عن رواية الرواة - شبحا لرجل، لا كالرجال في عالم الإنسان، فهو أطول من أي رجل رأته العين، وأعرض كتفين، وأغلظ عنقا، ورأسه بلا شعر، وله ثلاثة أعين في وجهه، وعين رابعة في أم رأسه، وأما عيون الوجه فاثنتان في الصدغين والثالثة في جبهته.
فزع السلطان لرؤيته فزعا شديدا، وهم بصرخة المستغيث لولا أن كتمه الشبح بإحدى راحتيه قائلا له: لا تخف يا صاحب الجلالة، سوف تجدني صديقا معينا.
السلطان :
من أنت؟ ومن أين جئت؟
الشبح :
وماذا ينفعك من أكون؟ وماذا يفيدك من أين جئت؟ لكن الذي يهمك حقا هو أنني جئتك منذرا بغزوة تقلب نعاسكم يقظة، وغفلتكم صحوة وحرصا.
السلطان :
لم أفهم عنك شيئا !
الشبح :
سل عراف المعبد في الجزيرة ينبئك الخبر اليقين.
واختفى الشبح، فجزع السلطان لاختفائه كما جزع لظهوره، ولما أصبح الصباح، أرسل في لهفة مرتاعة يطلب من عراف المعبد أن يمثل بين يديه، ولكن - يا هول ما يسمع وما يرى - فقد عاد إليه رسوله، لينبئه بأن العراف يصر على بقائه في معبده وعلى السلطان أن يذهب إليه إذا كانت به حاجة، فلم يجد السلطان بدا من أن يقصد متخفيا إلى المعبد، وكيف كان ليعلن عن نفسه أمام شعب الجزيرة، الذي لم يعهد قط في سلطانه إلا أن يبقى حصينا في برجه، وعلى كل من أمر السلطان بمثوله بين يديه أن يصدع بالأمر بمن فيهم عراف المعبد؟
قصد السلطان متخفيا إلى عراف المعبد وهو في صومعته ودار بينهما حديث:
السلطان :
جئتك لأقص عليك نبأ عجيبا.
العراف :
أعرف كل شيء، فقد فاجأك الشبح ليلة أمس.
السلطان :
ومن أدراك؟
العراف :
أنسيت جلالتكم أنني العراف؟
السلطان :
قل لي أيها القديس، ماذا يكون ذلك الشبح المخيف؟
العراف :
إنه ليس مخيفا.
السلطان :
إنك إذا رأيته وسمعته، فقد رأيت وحشا نبتت في رأسه قرون الشياطين، وله في يديه وقدميه مخالب الذئاب وصوته ذو بحة كفحيح الأفاعي، أتوسل إليك أن تنبئني من يكون؟ وماذا يعني نذيره لنا؟
العراف :
هون على نفسك الأمر يا صاحب الجلالة، فهو آت من بلد بعيد، جنسه ليس جنسنا، وعقله لا يشبه عقولنا، وقد أطلقوا عليه اسم «الغزو الثقافي» وحق لهم أن يفعلوا لأنه يكتسح ويغزو، لا بالدبابة والمدفع، ولكن بما يملكه من فكر وفن.
السلطان :
اللهم احفظنا من كل سوء، وكيف جاء إلينا، والبحر يحيط بنا والسماء فوق رءوسنا؟
العراف :
ومن ذلك البحر وهذه السماء جاءكم، فهو ساحر يسبح فوق البحر آنا ويغوص في جوفه آنا، ثم هو يطير في الهواء بأجنحة كأنه من جماعة النسور.
السلطان :
ولكن لماذا أطلقوا عليه، أو أطلق على نفسه، هذا الاسم المركب الذي لم يألفه الناس اسما بين الأسماء؟ وهل سمعت - أيها القديس - باسم كهذا من قبل؟
العراف :
الذي أطلق عليه اسم «الغزو الثقافي» هو أنتم يا مولاي، هو أهل جزيرتكم فاستملح هو الاسم حين سمعه، واصطنعه لنفسه، وكأنه عده ضربا من التحدي فقبل التحدي، قذفتم له بالقفاز كما كان يفعل المتبارزون، فالتقط هو القفاز، هو في الأصل كان اسمه «ثقافة» فقط، وكان وهو بهذا الاسم البسيط في صورة بشرية من لحم ودم، فلما تحول على أيديكم وأيدي أهل الجزيرة، يا مولاي، من «ثقافة» إلى «غزو ثقافي» تحول كيانه تبعا لذلك، ليتم التطابق بين الاسم والمسمى، فتحول من صورته البشرية الأولى إلى صورته الشبحية الراهنة، وماذا كنتم تريدون له أن يفعل ما دمتم قد جعلتموه شيئا لا وجود له بينما هو موجود في دنيا الوقائع والحقائق.
السلطان :
ماذا تعني بهذا الكلام الغريب؟
العراف :
أعني أن الموجود عندنا أو عند غيرنا هو ثقافة لا غزو فيها، فإذا أضفتم إليها صفة الغزو، انتقلت هي بعد هذه الإضافة من الوجود إلى العدم! ومن هنا جاءت ضرورة أن يتحول الجسم الحي إلى شبح كالذي رأيته ليلة أمس يا مولاي.
وبعد أن فرغ زائري من روايته لما قصه عليه صديقه الرحالة ضحك ضحكة هادئة وسألني: هل خرجت من هذه القصة بشيء؟ قلت له: نعم، بالتأكيد فقد كنت أتابع ما نقلته عن صديقك، فأشعر كأنني أتابع قصة الثقافة في مصر إبان تاريخها الحديث، أو على الأقل خلال فترات من ذلك التاريخ، منها هذه الفترة الراهنة التي نجتازها اليوم. فأدهشت إجابتي الأخ الزائر دهشة انفعل بها حتى أخرجته من هدوئه، فسألني بما يشبه الصياح، وهو يمد ذراعيه أمامه ويطوح بهما ذات اليمين وذات اليسار مرة وإلى أعلى وإلى أسفل مرة أخرى قائلا في ذهوله: ماذا تقول يا أخانا؟ أقص عليك خرافة عاشتها جزيرة نائية حينا من دهرها، فتجعلها أنت تصويرا للثقافة المصرية في بعض مراحل تاريخها الحديث، كيف كان ذلك يا مولانا قل لي بربك كيف كان ذلك؟
قلت: اهدأ قليلا يا أخي، فليس الصياح برهانا ولا اضطراب الأعصاب يزيدنا شيئا في توضيح المعاني، سأبين لك الآن كيف أن ما أسميته أنت بخرافة أهل الجزيرة هو في الوقت نفسه تصوير لحياتنا نحن الثقافية اليوم، فلنفرض أن أحدا جاءني وأراد الاستعانة بي في تفسير حلم له رآه في نومه، ثم أخذ يقص علي هذه القصة ذاتها التي رويتها لي عن الجزيرة وأهلها نقلا عن صديقك الرحالة، فكيف كنت لأفسرها، كنت لأقول له شيئا كالآتي: أما الجزيرة الصغيرة النائية، فترمز هنا للعزلة المميتة التي نحيا اليوم في ظلمتها، وأعني بها عزلتها الثقافية؛ وذلك لأن المعول في الحكم على حياتنا الثقافية ليس هو تلك العشرات القليلة من صفوة المثقفين الذين يتابعون تيارات الفكر والفن في العالم المتقدم، الذي شاء له الله في هذا العصر أن يكون مبدع الحضارة الجديدة، والثقافة الجديدة معا، بل المعول هو على ما ينشره أصحاب الصوت المسموع لجماهير الشعب ولتسعة أعشار المتعلمين أيضا، فإذا رأيت هؤلاء جميعا في واد، وما يعج به العالم المتقدم في واد آخر، فاعلم إذن أن خير تصوير لهذه الحالة هو جزيرة نائية في جنوبي المحيط الهادي لا تسمع عن أحد ولا يسمع عنها أحد.
وأما سلطان الجزيرة - والحديث هنا عن حياتنا الثقافية بوجه عام - فهو يرمز إلى أولئك الذين أمسكوا بزمام الجماهير، يكتبون للجماهير ويذيعون للجماهير، فتسمع الآذان جميعا، وتقرأ الأعين القارئة، فذلك السلطان المتسلطن على عرشه، لم تكفه عزلة الشعب في جزيرة فينعزل معه، بل أمعن في العزلة فسكن برجا مصمت الجدران، لا تبصر فيه العين بابا ولا نافذة حتى لتعجب من أين يكون الدخول والخروج، اللهم إلا أن يكون السقف مفتوحا نحو السماء.
وأما الشبح البشع المخيف، الذي هاجم سلطان «الثقافة» الشعبية، فليس هو في الحقيقة بذي وجود وإلا لما كان شبحا، وإنما هو موجود في أوهام السلطان وأعوانه وأشباهه ومريديه. إن الشبح إذا كان قد هدد السلطان بغزو وشيك لجزيرته فما ذلك إلا انعكاس للسمادير الهائمة في تلافيف دماغ السلطان وأدمغة الحاشية، وصورة من الهلوسة التي تفزعهم بالنهار ويرونها في كوابيس الليل، أما الموجود حقا عبر المحيط، والذي يتسلل إلى الجزيرة رغم أنف الكارهين، فهو «ثقافة» تأتي لتنفتح الأبصار وترهف الآذان.
هنا قاطعني زائري بقوله: وما الذي يدعوهم إلى أن يظنوا بالثقافة «غزوا» إذا لم يكونوا قد رأوا تلك الثقافة خطرا على حياتهم.
قلت له: نعم، لقد صدقت، فالثقافة العصرية بعلومها وفنونها وآدابها، هي بالفعل خطر على «حياتهم»؛ لأنها تحمل من العلم ما لا يعلمون، ومن الفن ما لا يقدرون، ومن الأدب ما لا يتذوقون، إن الأمر - يا سيدي - لا يزيد ولا يقل عن دفاع غريزي عن النفس تماما كما يفزع الكائن الحي أينما كان، لأخف حركة غير مألوفة يحس بها، وقد فاجأته فتسري في بدنه رعدة الخوف، وتفرز له الغدد المختصة ما تفرزه داخل جسمه وينسحب الدم من رأسه حتى ليصفر وجهه، وذلك ليتجه ذلك الدم المنسحب إلى الأذرع والأرجل استعدادا إما لمواجهة القتال وإما للفرار، هو أمر طبيعي يا أخي لا غرابة فيه ولا شذوذ، والسلطان و«حاشيته وأشباهه» في حياتنا الثقافية قد حفظ أشياء حفظا أصم وهو مستعد لإخراجها كلما دعت الحاجة، ثم يطويها في صندوقها انتظارا للحظة أخرى يطلب منه فيها إعادة تسميعها، ومن هذا يكسب رزقه الحلال، فلماذا يعرض نفسه لخطر الجديد الوافد كائنا ما كان نفعه عند أصحابه؟ من هنا رأيته يرى في أية «ثقافة» ترد إلى أرضه «غزوا».
قال زائري: ومتى، يا ترى، ولماذا أخذ أصحابنا هذا الموقف؟ أم كانت تلك هي الحال دائما معنا ومع غيرنا؟
أجبته قائلا: إنها حالة تنتاب الرءوس في مراحل الضعف، لكنها تختفي اختفاء تاما في مراحل القوة، انظر إلى العرب الأوائل عندما بلغوا من القوة ما بلغوا في صدر الإسلام، لقد فتحوا ثغورهم جميعا لكل ثقافة تأتي من خارج حدودهم، أيا ما كان مصدرها. وهي إن لم تأتهم من تلقاء نفسها أتوا بها عامدين، جاءتهم «ثقافة» وأرسلوا رسلهم ليجيئوا لهم بثقافة ولم يخطر لأحد منهم - إلا نادرا - أن يقول قائل منهم إنه «غزو ثقافي»؛ وذلك لأنهم كانوا أصحاء أشداء لا يخشون على أنفسهم لفحة البرد ، أو حتى ضربات الصقيع.
ولماذا نطوي القرون القهقرى أكثر من ألف عام بحثا عن مثال لما قد كان بين الأسلاف، إنه لتكفينا بضع عشرات من السنين، لنرسل أبصارنا إلى ساحة الرجال، فهذا هو الشيخ محمد عبده يقرأ ما كتبه هانوتو ليرد عليه، ثم يسافر إلى إنجلترا ليلتقي وجها لوجه مع شيخ فلاسفة بريطانيا في ذلك العهد، وهو هربرت سبنسر، ثم ها هم أولاء رجالنا في العشرات الأربع الأولى من هذا القرن: قاسم أمين، لطفي السيد، طه حسين، العقاد، الدكتور هيكل، سلامة موسى، أحمد شوقي، طلعت حرب ... إلى آخر ذلك الرعيل الرائد من أقوياء فتحوا لكل ما عند العصر من فكر وأدب وفن، فتحوا له صدورهم وقلوبهم وعقولهم في غير خوف، فلا بارك الله أنفس الجبناء.
وأعود إلى رؤيا الحالم الذي افترضت وجوده، وتخيلت أن تكون رؤياه التي جاءني بحثا عن تعبيرها عندي، هي نفسها الصورة التي نقلتها إلي عن الجزيرة وأهلها والشبح الذي اسمه «الغزو الثقافي»، فأقول: إن «عراف المعبد» الذي ورد ذكره في الرواية إنما يرمز إلى الفئة المباركة التي «تعرف» الأمر على حقيقته، وأين تعرفه؟ إنها تعرفه وهي في المعبد، تعرفه وهي مؤمنة بربها وبنفسها، تعرفه وهي على صلة بخالقها ومصورها وباريها، فهكذا خلقها سبحانه فئة طموحة تريد أن تطير في الهواء بأجنحة النسور، أستغفر الله، بل تريد أن تطير إلى ما هو أبعد من حدود الهواء، فتنطلق في أعماق الكون بأجنحة الصواريخ.
هذه الأجهزة وحرية الإنسان!
في مجلة «مايند» (العقل)، التي هي بين المجلات الفلسفية من أرفعها مستوى، إن لم تكن أرفعها جميعا، قرأت منذ بضع سنوات، مقالة في فلسفة الأخلاق، طرح فيها كاتبها سؤالا طريفا يبعث على التفكير، والسؤال يكاد يفرض نفسه على العقل في هذا العصر فرضا. فالعجيب هو ألا نلتفت إلى المشكلة التي يثيرها، حتى ينبهنا إليها كاتب كالذي نشر المقالة المذكورة، وقد قصر ذلك الكاتب بحثه على جانب واحد من الموضوع، لكن قارئه سرعان ما يجد مجال التفكير قد اتسع حتى شمل جوانب أخرى كثيرة في حياة الناس العملية والنظرية على حد سواء.
والسؤال المحدد الذي ألقاه على نفسه وعلينا صاحب المقالة، هو عن مدى التبعية الأخلاقية التي يتحملها إنسان على أفعاله، إذا كان ذلك الإنسان قد تعرض للعملية التي يطلقون عليها اسم «غسل المخ» على أيدي أعدائه وهو أسير؛ و«المخ المغسول» - كما هو معلوم لنا - عبارة يشار بها إلى الحالة العقلية والوجدانية والإرادية، التي تبث في الإنسان بوسائل علمية، لتحل محل ما قد كان قائما عنده من قبل، فهذا الذي كان قائما يمحى و«يغسل» فيصبح كأن لم يكن؟ فإذا كان الفرد المعين يفكر على نحو ما تربى في بيئته وأمته الأصلية، وإذا كان ذا مشاعر خاصة نحو أشياء بعينها، بحيث يؤدي به ذلك كله إلى أن يسلك في حياته سلوكا ذا صورة معينة، جاءت عملية «الغسل» فغيرت له هذا كله، لنضع مكانه أي شيء آخر يريد صاحب الشأن أن يضعه؟ ويخرج المسكين - دون أن يدري - وإذا هو قد اتخذ لنفسه «وجهة نظر» أخرى، فتكونت له - بالتالي - أفكار أخرى ومشاعر أخرى، فيحب ما كان يكرهه قبل الغسل، ويكره ما كان يحبه، فإذا كان مواطنا أمريكيا - مثلا - وشارك في حرب فيتنام، على عقيدة بأنه بجنه إنما ذهب ليحارب باطلا، ثم وقع أسيرا وتعرض لغسل المخ بالطرق العلمية، انتهى به الأمر إلى يقين آخر فيما يختص بالحق والباطل، وإنما ضربت هذا المثل لأنه مأخوذ من الواقع الفعلي، فكثيرون هم أولئك الذين قرأنا عنهم وعما قالوه بعد عودتهم إلى وطنهم الأمريكي من حرب فيتنام وما أصابهم فيها من أسر، وكيف تغير إطارهم الفكري والشعوري كله، نتيجة مباشرة لما أجري عليهم من عمليات سيكولوجية.
والسؤال الذي طرحه الباحث في مقالته المذكورة، هو - كما أشرنا - على أي أساس تقام التبعة الأخلاقية، إذا كان الإنسان قد أصبح في حالة تجعله يريد إرادة غيره، إذ هو يريد ما أراد له غيره أن يريده، فيفعل الفعل، ظانا أنه حر الاختيار لما يفعله، مع أنه في حقيقة أمره ، يفعل ما أريد له، ثم استطرد الباحث ليشمل بحديثه حالات التنويم المغناطيسي كذلك؛ إذ المنوم بهذه الطريقة، يؤمر بفعل أشياء، فينفذها وكأنما هو ينفذ ما أراده لنفسه، إلى أن تزول عنه آثار التنويم فيعود إلى وعيه. وخلاصة القول، فإن ذلك الكاتب - وهو مشتغل بفلسفة الأخلاق - يسأل: هل يعد الفاعل في هذه الحالات مسئولا عما يفعل؟ وصحيح أنه مع التقدم الذي حققه علم النفس في العصر الحديث، أصبح في حدود المستطاع بدرجة أكبر جدا مما كان في مقدور الإنسان قبل ذلك، أن يشكل سلوك من أراد تشكيل سلوكه، وعلى الصورة التي يريدها له، والتجارب على الحيوان في هذا المجال كثيرة وناجحة، ويكفي أن نذكر في هذا الصدد ما يستطيعه مدرب الحيوان في «السيرك»، فلا الأسد يصبح بين يديه أسدا، ولا الفيل يظل فيلا، بل كل يفعل ما رسم له المدرب أن يفعله.
على أن قارئ ذلك المقال، لا يكاد يفرغ من قراءته حتى تنفسح أمامه آفاق السؤال، إلى الحد الذي يتعجب معه من ذلك الباحث أن يقصر الحديث على المخ المغسول في ظروف سياسية أو عسكرية، مما يتكرر حدوثه في عصرنا؛ إذ ماذا تكون الثقافة الخاصة بأي شعب من الشعوب، إذا لم تكن ضربا من صب النشء في قالب فكري وشعوري وإرادي، يضمن لذلك النشء أن يشبوا على غرار آبائهم، فيتجانسون معهم فكرا وشعورا وسلوكا؟ حتى ليعد الخارج على النمط المألوف الموروث «منحرفا» يستحق العقاب والتقويم، فإذا ما بلغت «التربية» بناشئ حد كمالها، رأيته يفكر كما يفكر الآخرون، ويشعر كما يشعر الآخرون، ويسلك كما يسلك الآخرون، وهو في كل ذلك يظن أنه حر الإرادة يختار لنفسه بنفسه فكره ووجدانه وسلوكه، مما يذكرنا بما قاله «اسبينوزا» عن الحجر الملقى، لو كان ذا شعور ونطق، لقال إنه قد سار في مساره، وسقط على الأرض حيث سقط، بحر إرادته وبمحض اختياره، ولو عرف حقيقة أمره لعرف أن اليد التي قذفت به، هي التي رسمت له مساره وبقوة الدفع التي لا بد معها أن يسقط حيث سقط .
وإذا كانت الثقافة الإقليمية في مجموعها، تكون غلافا يحيط بعقل الإنسان ووجدانه وإرادته، ليحميها من المؤثرات الخارجية التي قد تفتتها فتمحو معالمها، ولكنه في الوقت نفسه غلاف يقيد حركتها ويكتم أنفاسها، فيحرم الإنسان الحبيس انطلاقة الإدراك وحرية الإرادة، أقول إنه إذا كانت الثقافة الإقليمية تصنع ذلك الصنيع في أبنائها، فإن خطورة الانغلاق تزداد فداحة، حين يحتفر الإنسان لنفسه داخل ذلك المعتقل الثقافي جحرا يلوذ به، فعندئذ تزداد الظلمة ظلاما، ويزداد الغطاء كثافة، فيحجب عنه كل قبس من ضياء! فيعيش الحبيس في أوهام كهفه وهو يظن أنه إنما يواجه الحق الذي لا ريب فيه، فالطريقة التي يربى بها الناشئ، والأشياء التي يعاقب عليها أو يثاب، والمقارنات والمفاضلات التي تجري أمامه، والتي تجعل شيئا أفضل من شيء - وفكرة أصح من فكرة وعقيدة أصدق من عقيدة - وهكذا، تنتهي بذلك الناشئ إلى «وجهة نظر» على أساسها يصدر بعد ذلك أحكامه، بحيث يصعب جدا أن تقنعه بأن ما عنده إنما هو «وجهة نظر» نشأ عليها، وكان يمكن أن ينشأ في ظروف أخرى فتتكون له «وجهة نظر» أخرى.
الإنسان هو حصيلة ما يراه ويسمعه ممن يحيطون به، وذلك هو ما جعل ديكارت يتساءل - عندما أراد أن يكون على يقين من صحة المعرفة التي جمعها على مدار أيامه - يتساءل: من ذا أدراني بأن المعرفة التي جمعتها معرفة صحيحة؟ إن مقدارا كبيرا منها قد جمعته حين كنت لا أملك القدرة الناقدة التي أمحص بها تلك المعرفة كلما تلقيت شيئا منها، ومن هنا أخذ يفرغ رأسه من كل ما يحتويه، باحثا عن ركيزة يقينية يستند إليها فيما يعود إلى قبوله أو إلى رفضه من تلك المعرفة التي جعلها موضع شك حتى يثبت له صوابها على أساس مكين، وكان الإمام الغزالي قبل ذلك بخمسة قرون، قد وقف من علمه وقفة شاكة شبيهة بوقفة ديكارت، باحثا - هو كذلك - عن ركيزة يستند إليها في يقينه بما يعود فيوقن به، وكلا الرجلين بحث عن الركيزة المنشودة داخل نفسه، أي فيما يدركه إدراكا مباشرا غير قائم على برهان، إذا ما استبطن شعوره من داخل، وكان الفرق بينهما هو أنه بينما رأى ديكارت ركيزته في أنه «يفكر»، فقال مبدأه المشهور: «أنا أفكر فأنا موجود.» رأى الغزالي ركيزته في أنه «يريد»، فإذا جاز لنا أن نصوغ مبدأه في عبارة ديكارتية، كان ذلك المبدأ هو: «أنا أريد فأنا موجود.»
ولماذا أقول هذا؟ أقوله ليزداد القارئ إيمانا بما نزعمه له، وهو أن الإنسان إذا ما ترك نفسه للمعرفة التي حصلها إبان طفولته وصباه وما بعدهما، دون أن يراجع تلك المعرفة مراجعة نقدية تميز له ما كان صوابا فيها وما كان باطلا، أصبح وكأنه يقضي حياته في كهف مغلق معتم معزول، أقامه له من تولوا تزويده بتلك المعرفة على امتداد حياته، ثم تركوه حبيس ظنونه، التي قد يصدق منها ما يصدق ويكذب ما يكذب. وكما طرح الباحث الذي أشرنا إليه في أول حديثنا هذا، سؤاله عن مدى التبعية الأخلاقية التي تقع على صاحب «المخ المغسول»، فالسؤال نفسه يجوز طرحه بالنسبة إلى ما يفعله الإنسان مدفوعا بما لقنوه إياه منذ أخذ يلثغ بالتحدث مع ذويه ومن يحيطون به جميعا.
وكان الإمام الغزالي، ثم كان الفيلسوف ديكارت، على حق حين أراد كل منهما أن يحذر الناس من عدم التفرقة بين ما هو معرفة ظنية تحتمل الخطأ، ومعرفة أخرى أقيمت على منهج يؤدي بصاحبه إلى معرفة صحيحة لا يأتيها شك من أي جهة من جهاتها، وحتى إذا كان المنهج الذي يطالبان به عسير المنال في أغلب الأحيان، لأنه إذا تيسر تحقيقه في المجال العلمي، فليس هو بذلك اليسر في المجالات الأخرى التي يكتفى فيها عادة بدرجة من الدقة أقل، أقول إنه حتى إذا كان ذلك المنهج عسير المنال بكل دقته فلنقنع منه بما استطعناه، كما فعل الدكتور طه حسين في كتابه عن الأدب الجاهلي، حين رسم لنفسه طريقا يعالج به موضوعه، منتهجا منهج ديكارت، وهو أن يبدأ بالشك فيما يعرفه، والذي يعرفه في تلك الحالة هو أن شعراء الجاهلية الذين روى عنهم التاريخ - كامرئ القيس مثلا - كان لهم وجود فعلي في الفترة التاريخية التي نسبوا إليها، فبدأ الباحث بالشك في هذه الحقيقة حتى يثبت صدقها على المنهج الذي فصله ديكارت، فهو إن لم يكن قد استطاع تطبيق المنهج بحذافيره، بادئا من حقائق أولية تدرك في باطن النفس إدراكا مباشرا؛ لأن طبيعة الموضوع الذي يبحثه لا يتيسر لها أن تنصاع لتلك الخطوات، فلا أقل من أن يأخذ من المنهج كل ما استطاع أخذه من الحرص والحذر. «غسل المخ» - إذن - اسم جديد لحقيقة قائمة منذ أن أقام الإنسان نظمه الاجتماعية، فانخراط الفرد في جماعة ليكون عضوا فيها، يستلزم أن يعد بالتربية إعدادا يتنازل به عن كثير من مقوماته الشخصية الخاصة لكي يتجانس مع الآخرين في عرف مشترك، فكل فرد - آخر الأمر - هو بمثابة من ألبسوه منظارا ملونا باللون الذي تقرره الجماعة، لم يسع حامله إلا أن يرى الأشياء زرقاء أو خضراء أو ما كان من لون المنظار، والمثل الأعلى في مجتمع ما، هو أن يتجانس لون المناظير عند الأفراد، لكنه كثيرا ما يحدث لمجتمع معين أن ينقسم على نفسه في الرؤية العامة، نتيجة لانقسامه في الثقافات التي يتشربها، وذلك هو ما حدث لنا في مصر - وفي الوطن العربي بصفة عامة - حين اصطدمنا حضاريا بحضارة الغرب التي هي حضارة العصر، فعندئذ تشعبنا شعبا تبعا للدرجة التي أتيح بها لكل فرد أن يغترف من حضارة الغرب الجديدة، فأصبح منا من كاد يتحول كله تحولا يجعله غريبا خالصا في رؤيته، ومنا في الطرف الآخر من كاد ألا يذوق قطرة واحدة من إناء الغرب، وبين الطرفين تدرجت الظلال، على أنه كان من الممكن - إلى عهد قريب - أن نرى حياتنا الفكرية والثقافية في مصر، وكأنها قد شطرتنا شعبتين، لكل منهما رؤية شديدة الاختلاف مع رؤية الشعبة الأخرى، فإحداهما سلفية تقيس الحاضر بمقاييس الماضي، والأخرى عصرية مستقبلية تجعل حضارة العصر وأسس ثقافته معيارا لها، لكن ذلك الانقسام قد أخذ - والحمد لله - يضيق انفراجه، منذ أخذت جامعة الأزهر وضعها الجديد من جهة، وازدادت عناية الجامعات الأخرى بالتراث من جهة أخرى، وإذا قلنا هذا كنا كمن يقول إننا قد اتجهنا نحو أن تكون مناظيرنا موحدة اللون، لكن «اللون» ما زال قائما بطبيعة الحال، يجعل لنا رؤية تختلف كثيرا أو قليلا عن رؤية الأوروبي أو الأمريكي - مثلا - اختلافها عن الروسي والياباني كذلك، وبقدر ما تكونت مناظير الناس بحكم النشأة والتربية وظروف البيئة، يكون القيد الذي يحد من حرية الفكر والشعور والإرادة.
وكان ذلك كله - في الشعوب الحرة - لا يحرم الأفراد من هامش عريض يترك للفرد ليحيا في رحابه مطلقا من القيود، فيكون حرا في فكره، حرا في توجيه مشاعره، حرا في إرادته فيفعل ما يحلو له أن يفعل، فهو إن تجانس مع سائر الأفراد في أمور حيوية تقتضيها الوحدة القومية، يظل له جانب من حياته ينفرد بنفسه فيه، فيتميز عن سواه بفكره وبعاطفته وبطرائق سلوكه، حتى أخرج لنا عصرنا هذا السيل من أجهزته التي هي نعمته ونقمته في آن معا، وأخص بالذكر من تلك الأجهزة جهازين لو تركناهما يسيران في طريقهما بلا وعي منا، لأجهزا على كثير جدا من حرية الإنسان، وأعني بهما الراديو والتليفزيون.
هما نعمة - كما قلت - أنعم بهما الله على بني آدم، فمن ذا في العصور السابقة كانت أحلامه تستطيع أن تشطح في تهاويم الخيال، حتى تبلغ بها حدا يظن عنده الحالم أن الإنسان - كل إنسان - سيمسك بين أصابعه بجهاز صغير، فإذا العالم كله في قبضة يده، يغمزه بطرف أصابعه هنا، فهو في أمريكا يستمع إلى أهلها، ثم يغمزه أخرى هناك، فهو في روسيا أو ما شاء من أطراف الأرض، أين من هذا خاتم سليمان ومصباح علاء الدين؟ أين منه قمقم الجن الذي ينبثق أمام المحظوظ ليقول له: شبيك، لبيك، أنا عبد بين يديك؟ هي نعمة أنعم الله بها على بني آدم في هذا العصر، عن طريق علمائه، ثم زادت الأعجوبة عجبا حين جاء الجهاز الآخر: التليفزيون، فأضاف اللون ... اللون! اقرص على أذنيك لتصحو وتتنبه ... إنه اللون ينتقل إليك عابرا آلاف الأميال، لترى ما تراه ملونا بالأخضر والأحمر والأزرق! فلماذا - إذن - نستكثر من أولدس هكسلي أن يتنبأ بيوم تنتقل فيه الرائحة، فتجيئك الزهور بأريجها؟ هي نعمة كبرى أنعم بها الله على الإنسان في هذا العصر عن طريق علمائه، وقل ما شئت فيما نتج عن هذين الجهازين من معلومات تكدست بها رءوس الناس، من القابع في خيمته هناك في جوف الصحراء، إلى ساكن المدينة.
لكنها نعمة لم يشأ لها الإنسان أن تكون له نعمة خالصة، يزداد بها الناس علما ومعرفة وثقافة وتهذيبا، فمزجها بشر من طبعه حتى صارت على يديه، في بعض حالاتها، نقمة تضيع معها تلك البقية التي كانت بقيت للفرد من حرية، ليفكر كيف شاء، ويشعر كيف أراد، ويسلك كيف استطاب، فإذا كان للعلم في عصرنا فضل النعمة، فقد كان للسياسة في عصرنا أيضا إثم النقمة، وذلك حين تخطط السياسة لنا ما تريدنا أن نراه وأن نسمعه، ويوما بعد يوم، وشهرا بعد شهر، وعاما بعد عام، وإذا إرادات الناس قد «صنعت» لهم، وإذا أفكار الناس قد حفظت في علب جاهزة، وإذا مشاعر الناس قد رسم لها الطريق، وإذا الجميع آلات تدور كما يراد لها أن تدور.
أهي محض مصادفة عمياء ضلت طريقها في ظلمة عماها، أن نرى في هذا العصر ما لم يشهده التاريخ كله، ولا شهد مثقال ذرة منه، أن يشهد هذا التقارب الذي جمع أطراف الدنيا في جهاز صغير يمسك به الإنسان - كل إنسان وأي إنسان - وأن يشهد التقارب كذلك، بين شعوب الأرض جميعا، وهي مجتمعة في هيئة الأمم المتحدة وفروعها وفي مؤتمرات تعقد كل يوم هنا وهناك، على «القمم» تارة، وفوق السفوح طورا، حتى لقد قيل - بحق - إن الكوكب الأرضي قد أصبح قرية ذرية، أقول: أهي مصادفة عمياء أن يشهد عصرنا هذا التقارب الشديد بين أجزائه وأطرافه، ثم يشهد في الوقت نفسه، ما لم يشهده في أي عصر مضى من عصور التاريخ من التنافر بين أبنائه؟ إنه ليحدث كل يوم، كل ساعة، كل دقيقة ، أن تفتك جماعات الناس بعضها ببعضها الآخر، غيلة وغدرا، بالقنابل، وبالحرائق، وبالخطف، وبكل ما يسع الخيال أن يتصوره من وسائل، لماذا؟ لأن السياسة قد أرادت، أو لأن ألوان الجلود قد اختلفت، أو لأن العقائد الدينية قد تباينت، أو من يدري؟ لعل يوما قريبا سيأتي لتفتك جماعات الناس بعضها ببعضها الآخر؛ لأنهم لم يتفقوا مزاجا في ألوان الثياب وفي صنوف الطعام!
لا، لم يكن اجتماع هذين النقيضين في عصر واحد مصادفة عمياء، وإنما هي أجهزة الإعلام وما تفعله بالرءوس، فإذا كان التقارب المعاصر بين شعوب الأرض ظاهرة أملاها «العقل» ويرحب بها العقل، ويتمنى لها المزيد، فإن التنافر الذي يبث كل تلك العداوة بين الشعوب، بل وبين أجزاء الشعب الواحد أحيانا، إنما هو ظاهرة أخرى تمليها النزوات والأهواء والغرائز الحيوانية، وجاءت أجهزة الإعلام لتخدمها بتوجيه من رجال السياسة، فهذه الأجهزة تعبأ بمواد مختارة، لتعبئ بدورها أدمغة الناس بما يشعل فيهم التحزب والتعصب وضيق الأفق، ولا عجب أن القابض على هذه الأجهزة، قابض في الوقت نفسه على عقولهم وقلوبهم وعزائمهم وكل ما هو حيوي في كيانهم، لذلك نرى أنه إذا حدث انقلاب في بلد ما، أول ما يفكر فيه المنتصرون هو أن يحتلوا الإذاعة والتليفزيون؛ لن ذلك معناه الإمساك بزمام الجمهور فكرا ووجدانا.
إنه لا حيلة للمتلقي من هذين الجهازين، إلا أن يتلقى، فالآذان مفتوحة لتسمع والأعين مفتوحة لترى، إنه لا مناقشة ولا حوار، فحركة مرور الأفكار والمؤثرات النفسية تشبه حركة المرور في اتجاه واحد، فالاتجاه واحد من الجهاز إلى العين أو إلى الأذن، ثم لا رجوع ولا مراجعة، بل ولا مهلة للتفكير والتدبر، الأصوات والألوان تنزل على المتلقي كما ينزل المطر على السائر في فلاة، ليس هنالك ما يحميه من شجر أو جدران أو أي ضرب من ضروب العمران.
أول أركان الحرية هو النقد، أن تكون أمام المتلقي فرصة الفحص والتمحيص لما يتلقاه، لتكون له - بالتالي - مبررات القبول ومبررات الرفض، أما أن تجيئنا البضاعة مغلفة بأغلفة عازلة، تحول دون التحليل والتركيب والتقليب ، ليتبين الجيد من الرديء، فمعناه أننا لا نلبث أن نكون كالدمى في مسرح العرائس، يحركها من يحركها وهو في الخفاء، ومن هنا نلحظ الفرق الكبير في تكوين الإنسان بين أن يكون مصدره الكتاب، وأن يكون مصدره هذه الأجهزة، فالقارئ يتفاعل مع الكاتب، يسرع تقليب الصفحات، أو يقف ويتمهل عند جملة واحدة بضع ساعات يناقش محتواها. إنه في الكتاب يملك زمام فكره وشعوره. أما والمصدر جهاز من هذه الأجهزة، يصب في أذنك الصوت، وفي عينك الضوء، صبا متلاحقا، لا تملك له إيقافا ولا إسراعا ولا إبطاء، ومحتوم عليك أن تقبل الجمل بما حمل، جيده مع رديئه، فمصير ذلك تبعية وعبودية وتمزق وفراغ.
بدأت حديثي بتلك المقالة التي طرح فيها صاحبها مشكلة المسئولية الأخلاقية ماذا يكون مداها عند من تعرض لعملية غسل المخ، بحيث أصبح إرادة غيره لا إرادة نفسه. أيظل مسئولا عما يفعل؟ ثم استطرد معي الحديث، فرأيت أن الأثر المتروك في مخ مغسول بالمعنى الحديث، يشبه الأثر المتروك في حالات أخرى كثيرة، وآخرها حالة المتلقي من الراديو ومن التليفزيون سيلهما المنهمر. دون أن يكون له فيما يتلقاه حول أو قوة، فالنتيجة واحدة، وهي أن ينتهي هو الآخر بمخ مغسول، ويصدق عليه السؤال نفسه الذي طرحه الباحث: هل تظل لمثل ذلك المتلقي مسئوليته الأخلاقية كاملة كما كانت؟ فإذا سأل سائل: لماذا جعلت المتلقي أمام الراديو أو التليفزيون مفقود الإرادة، وفي وسعه أن يبدل قناة بقناة، وموجة بموجة، أو أن يغلق الجهاز ويستريح؟ والجواب على ذلك هو أن الانتقال من قناة إلى غيرها، ومن موجة إلى موجة، إنما هو بمثابة استبدال سيد بسيد آخر، وأما إغلاق الجهاز فليس شبيها بإغلاق الكتاب؛ لأنك تغلق الكتاب لتأتي بكتاب آخر، على حين أنه لا آخر نلوذ به في حالة الإذاعة والتليفزيون.
وماذا تريد لنا أن نصنع؟ أريد أن نبقي لهذه الأجهزة على نعمتها وأن نلتمس وجها للخلاص من نقمتها، ونقمتها أساسا هي تلك الحرية السلبية، وطريق الخلاص موجود، يتلخص في أن نسمح لكل ضروب الفكر والاتجاه أن تعلن عن نفسها، فبدل أن تكون الخطة مرسومة على أساس وحدانية الخط والهدف، ترسم على أساس تعدد الخطوط وتعدد الأهداف القريبة، التي تلتقي جميعا عند هدف قومي واحد بعيد المرمى.
وهذا يستلزم أمرين: أولهما أن يكون المجلس الأعلى، المشرف على هيئة الإذاعة والتليفزيون مستقلا في قراراته عن الحكومة استقلالا حقيقيا، لا استقلالا شكليا يكتفي فيه بأنه مكتوب على ورق، فإذا هو استقل على هذا النحو، كانت هنالك فرصة أن يكون محايدا، لا في مجال السياسة وحده، بل محايدا في شتى مجالات الرأي، وعندئذ لا يكون للحكومة حق استخدام تلك الأجهزة أكثر مما يكون لأي مواطن ذي رأي فيه رجاحة الوزن التي تبرر أن يظفر بحق التعبير عن رأيه عن هذا الطريق، وأما الأمر الثاني فهو عندي بمثابة المبدأ الأساسي الذي تقام، أو ينبغي أن تقام عليه أجهزة الإعلام، وهو ألا تعرض المادة التي تقدم في تلك الأجهزة على أنها هي وحدها الاتجاه الفكري الصحيح، وأما ما عداها فضلال باطل؛ لأنها لو عرضت بهذه الروح، كانت بمثابة غسل لمخ المتلقي، غسلا يثير السؤال الأخلاقي الذي أوردناه في أول هذا المقال، وهو: هل يكون صاحب المخ المغسول مسئولا من الناحية الأخلاقية عما يقوله أو يفعله بعد ذلك طالما هو قد أصبح مصنوع الإرادة، أي إن الفكر عنده هو فكر غيره، والإرادة عنده هي إرادة غيره؟ وإنما الطريقة الصحيحة والعادلة، هي أن تعرض المادة التي تقدمها أجهزة الإعلام عرضا لا يوحي إلى المتلقي بأن يقول: هذا صحيح، بل يوحي له أن يقول: هل هذا صحيح؟ فإذا ترك المتلقي مكانه من الجهاز الإعلامي، ومثل هذا السؤال هو الذي يشغل ذهنه، كان بهذا قد وضع عقله ووجدانه وإرادته على أول الطريق الذي ينتهي به إلى أن يكون حرا في فكره وفي اتجاه وجدانه، وفي إرادته التي يختار بها بعد ذلك ما يفعله وما يرفض فعله.
أجهزة الإعلام في هذا العصر أدوات سلطانها على الناس جبار، ونحن الذين نصنع من ذلك السلطان شيطانا يحيل المستقبلين بضرباته عبيدا، أو نصنع منه رسولا يبشر بالحرية، بل ويزرعها زرعا في عقول الناس وقلوبهم.
أدرك السفينة يا ربانها
كان من أهم ما اشتغلت به أقلام المفكرين خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر في أوروبا - وفي إنجلترا وفرنسا على وجه التحديد - مسألة المجتمع وكيف نشأ أول ما نشأ. ولم يكن الذي يهم هؤلاء المفكرين في ذلك هو مجرد التسلية بفكرة نظرية يلهون بها لهو من أراد إزجاء فراغه في نشاط عقلي وكفى.
بل جاءت مشغلتهم تلك ردا مباشرا على أزمات سياسية قائمة بالفعل، مدارها العلاقة بين الشعب والحاكم كيف ينبغي لها أن تكون؟ ولكي يجيبوا عن سؤال كهذا، لم يجدوا بدا من الرجوع بالمشكلة إلى جذورها الأولى، باحثين عن الطريقة التي نشأت بها تلك المجتمعات، خروجا بالإنسان من فطرة الحياة في الغابات أو الأحراش أو كيفما كانت البيئة المعنية التي نشأ فيها مجتمع معين، ففي بحث هؤلاء المفكرين عن الطريقة التي نشأت بها المجتمعات، خرجوا بالإنسان من فطرة الحياة في الغابات أو الأحراش أو كيفما كانت البيئة المعينة التي نشأت بها تلك المجتمعات. كانوا في حقيقة الأمر إنما يبحثون عن الصورة الأولى التي ارتبط بها محكوم بحاكم، وعلى ضوء تلك الصورة يمكن إقامة بناء فكري في فلسفة السياسة، يبين للعقل كيف يتجه، حتى لا يكون كالطائر الذي يظل يصفق بجناحيه ولا يطير، إذ لا يجد الهواء الذي يطير فيه.
وفي هذا الموضع من سياق الحديث. أراه مما يفيد القارئ أن أقارن له مقارنة سريعة بين شعب يتوقد بجذوة الحياة، وشعب آخر تيبست أطرافه وجمدت دماؤه وتفحمت فيه جذور الحياة وأصولها. وإذا كان شعب ما في الحالة الأولى توقعنا له نهوضا، أو استمرارا في نهوض قائم، وأما الشعب الذي نلمح فيه عوارض الحالة الثانية أيقنا أن بينه وبين أن ينهض نهضة حقيقية، تتبدل بها حياته حالا بعد حال، مسافات تقاس بما يشبه الأرقام الفلكية، فكان الأمر قد أصبح معها ضربا من المحال، فمن العلاقات الدالة على أن شعبا معينا يحيا الحالة الأولى ، ذلك الضرب من التوتر العقلي الذي يأبى على صاحبه إلا أن يتعقب المشكلات المثارة أمام العقل، تعقبا يمضي به خطوة وراء خطوة حتى يضع أصابعه على الينبوع، وقد يقتضي تحليل عقلي كهذا، أعواما بعد أعوام، وكتبا تؤلف، ومعارضات ومناقشات قد تتولد عنها تيارات فكرية مختلفة يدوم جريانها في حياة الناس عصرا بأكمله.
فانظر - مثلا - في القرون الأولى من تاريخ الفكر الإسلامي، حين كانت تنهض أمام الناس مشكلة فكرية، كم كانوا يبذلون من جهة في سبيل حلها.
نضرب مثلا واحدا، وذلك حين رأوا في أول طريقهم أن فهم القرآن الكريم فهما يعتد به يستوجب، بادئ ذي بدء، أن تعرف أسرار اللغة العربية، وهي اللغة التي نزل بها الكتاب، فأخذوا يحيطون بأطراف الموضوع من جميع أقطاره! جمعا للمفردات اللغوية وتقعيدا لقواعد النحو التي كان لا بد أن يستخلصوها مما بين أيديهم من صور التعبير وبحثا عن الشواهد التي يستدلون بها على ما يزعمونه من قواعد وأصول، فكان أن جمعوا من الشعر الجاهلي ما جمعوا ... إلى آخر تلك الجهود التي تذهل دارسيها، وما نقوله عن مشكلة اللغة ودرسها، نقول مثله عن الجهود الفكرية المبذولة في ميادين الفقه وعلم الكلام وغيرهما، فهم في كل تلك الميادين أصلاء أولا ومتعقبون إلى جذور الجذور ثانيا. فهي - إذن - حالة شعب حي متوقد الحيوية، ولا كذلك شعب - ولن أقول لك أين تراه - لا هو أصيل في حلوله لما يعرض له من مشكلات حياته العقلية، بل ينقل عن الآخرين نقلا غبيا ولا هو يريد أن يتعقب مشكلة واحدة إلى جذورها، بل تكفيه النتائج يجمعها مختصرة عما ينقله. ثم يحيلها في ذاكرته إلى محفوظات يتعامل بها. وذلك هو أحسن الفروض.
ونعود إلى موضوعنا فقد قلنا إن مشكلة العلاقة بين الحاكم والمحكوم كانت من أمهات المسائل التي فرضتها ظروف الحياة العملية على رجال الفكر في إنجلترا وفرنسا بصفة خاصة، خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر، فقد حدث في إنجلترا - مثلا - أن قامت ثورة ضد الملك شارل السادس (وكان ذلك في القرن السابع عشر) على أساس أن الملك مغتصب لحقوق الشعب. والذي يهمني من ذلك في حدود حديثي هذا هو ماذا كان دور رجال الفكر إزاء تلك الثورة السياسية بطرفيها، فالثائرون من الشعب في ناحية، والملك المثار عليه وأنصاره في ناحية أخرى، هل أقفل المفكرون على أنفسهم أبواب بيوتهم طلبا للعافية وراحة البال؟ هل اكتفوا من الأمر بعبارات موجزة يخطفونها خطفا من هنا وهناك؟ هل استندوا إلى وقفات عاطفية يؤيدون بها هذا الطرف أو ذلك الطرف ثم استراحوا؟ لا، لا شيء من هذا، فذلك شأن الشعب حين يريد لنفسه الموت، أما أولئك الرجال فقد أخذوا حياتهم بجدية من يحيا حياة قوية ولا يتردد في أن يحمل تبعاتها.
كان هنالك منهم من رأى مناصرة الملك كما كان هنالك من رأى مناصرة الشعب الثائر، لكن المهم هنا هو كيف تكون المناصرة بالنسبة لرجل يفكر؟ فالذي يرى أن حق القرار آخر الأمر إنما يكون للحاكم وكذلك الذي يرى أن حق القرار إنما يكون - أول الأمر وآخر الأمر - للشعب ممثلا في نوابه، أقول إن كلا الرجلين إذ يناصر من يناصره، لا بد له من إقامة الرأي على دعامة فكرية، ولا تكون تلك الدعامة قائمة على أساس مكين ثابت، إلا إذا تعقب الباحث مجتمعه إلى أصول أصوله، ليرى - كما أسفلت القول - هل في الطريقة التي نشأ بها المجتمع ما يكشف عن الإجابة السليمة؟
وكان «تومس هوبز» (في القرن السابع عشر) هو على رأس من تصدوا للدفاع عن حق الملك في اتخاذ القرار النهائي، وأن ثورة الشعب التي تزعمها كرومويل لم تكن على حق في مهاجمته ثم قتله؛ ولكي يوضح هوبز على أي الأسس أقام حكمه ذاك، أصدر كتابه المعروف «اللواياتان»، وهو اسم لحيوان وهمي يبتلع في جوفه كل ما عداه، وقد نترجم هذا الاسم بعبارة «التنين الجبار»، وفي هذا الكتاب تحليل مستفيض لما كان عليه أفراد الإنسان، وهم بعد على فطرتهم الأولى، وقبل أن يلتئموا في مجتمع، ثم انتقل من ذلك التحليل إلى نتيجته، وهي أنه لا بد أن قد تم اتفاق بين جماعة من الأفراد على أن يعيشوا معا بحيث يتنازل كل منهم عن جزء من رغباته لكي يمكن التوفيق بين مختلف الأفراد، لكن من الذي يضمن لهم حسن التنفيذ؟ إنه لا مناص من أن يوكل أمر ذلك إلى رجل قوي يستطيع أن يكون حكما عند نشوب اختلاف بين الأفراد، وأن تكون له القدرة على ردع المتمرد، وبهذا بذرت البذرة الأولى لقيام الدولة، ولقيام الملكية التي تتجسد بها فكرة الدولة، وإذا كان هذا هكذا، فما علينا بعد ذلك إلا أن نستخلص ما يترتب على تلك النشأة من نتائج خاصة بتحديد العلاقة بين الملك والشعب، من حيث الحقوق والواجبات.
وواضح أن وجهة النظر هذه مهما يكن من أمر ما تنطوي عليه من مبادئ نظرية، قد جاءت مضادة للتيار التاريخي الذي كان يتجه بالناس نحو أن تكون السلطة للشعب لا للملك الذي يحكمه. وهنا قدم مفكر آخر عملاق، هو «جون لوك» كتابه «الحقوق المدنية» (وهو الكتاب الذي استوحاه في فرنسا جان جاك روسو بعد ذلك، كما استلهمته الثورة الأمريكية كذلك قبيل قيام الثورة الفرنسية بقليل)، وكان التحليل النظري الذي أروده هذا الكتاب، بحثا عن نشأة المجتمع كيف جاءت، قد انتهى إلى نتائج شبيهة في صورتها بما انتهى إليه كتاب «هوبز» وأعني افتراض «تعاقد» بين الأفراد الذين منهم نشأ المجتمع، إلا أن «لوك» بنى على فكرة التعاقد شيئا يختلف كل الاختلاف عما بناه «هوبز» على الفكرة نفسها؛ إذ وصل «لوك» إلى وجوب أن يكون الرأي للشعب في وجود الملك نفسه أو خلعه؛ لأن الشعب هو الذي اختار ملكه عند النشأة الأولى، فيظل للشعب حق الإبقاء عليه أو خلعه، وكانت فكرة «لوك» هي التي كتب لها بعد ذلك أن تكون أدوم بقاء وأعمق أثرا.
ثم شهدت إنجلترا بعد «لوك» فيلسوفا آخر، كانت له مشاركة في بحث المسألة نفسها، مسألة العلاقة بين الشعب وحاكمه كيف تكون صورتها، وهو «ديفيد هيوم» (في القرن الثامن عشر)، وهو الذي قد أورد في سياق كلامه عن «التعاقد الاجتماعي» التشبيه بالسفينة وركابها وربانها، فإذا كان ركاب السفينة قد ركبوها باختيارهم؛ فإنهم حين تصبح السفينة في عرض البحر ملزمون بأشياء لم يكونوا ملزمين بها قبل ركوبهم، فالربان ومعه طاقمه (وهذا هو ما يقابل الدولة) مسئولون عن تسيير السفينة إلى هدفها، وأما الهدف نفسه فقراره هو قرار المسافرين، وهو متضمن في اختيارهم إياها لتكون وسيلة تحقق لهم ما يرغبون في تحقيقه، وبهذه القسمة تتحدد العلاقة بين ربان السفينة وركابها، فلهؤلاء اختيار الهدف، واختيار الربان ضمنا حين اختاروا السفينة، بحيث يصبح لذلك الربان ومعاونيه إذا ما أقلعت السفينة قرار طريقة التسيير.
وأرى أن هذه الموازاة بين المجتمع - شعبا وحاكما - وبين السفينة - ركابا وربانا - موازاة نافعة في توضيح نقاط كثيرة، وإن كنت في الوقت نفسه أتحفظ في قبول التشابه المطلق بين الجانبين؛ فبينما الخط الفاصل بين المسافرين على السفينة من جهة، وربان تلك السفينة من جهة أخرى، هو خط حاسم في فصله بين طرفين، فالمسافرون قرروا لأنفسهم أهدافهم والربان ومعاونوه تعهدوا بتوصيلهم إلى تلك الأهداف، نجد الأمر بين الشعب والدولة ليس فيه هذا الفصل الحاد بين الطرفين؛ لأن الذين يضطلعون بالحكم هم أيضا مواطنون يشاركون سائر المواطنين في تحديد الأهداف، ثم ينفردون بعملية التخطيط والتنفيذ بغية تحقيق تلك الأهداف، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن الشعب ممثلا في نوابه، قد لا يتركون للهيئة الحاكمة أن تنفرد بعملية التخطيط والتنفيذ، دون مراجعتها خطوة خطوة، ليطمئن الشعب على سلامة السير.
لكن برغم وجود هذه الاختلافات بين طرفي التشبيه، فهو تشبيه يفيدنا كثيرا في التوضيح، ومن الخير أن نركز انتباهنا على هذه التفرقة في عمومها، وهي أن الشعب هو الذي يحدد ما الذي يريده، وأن الحاكم ومعاونيه (وهم من اختيار الشعب في معظم الحالات) هم الذين يحققون للشعب ما أراده لنفسه، عن طريق نوابه، فهذه التفرقة من شأنها أن تدلنا دلالة مؤكدة وسريعة إن كانت أمورنا تسير سيرا حسنا، أم هي مصابة بالعطب والعرج؛ إذ ما علينا إلا أن نتجه بأنظارنا إلى الشعب أولا، لنرى هل هو حقا محدد الأهداف؟
ثم نتجه بأنظارنا نحو الهيئة الحاكمة، لنرى إذا كانت تلك الأهداف في سبيلها حقا نحو التحقيق، فإذا عبرنا عن هذا المعنى نفسه بلغة السفينة ركابا وربانا، قلنا إنه يلزم توافر شيئين، وهما أولا أن يكون للركاب أهداف واضحة يريدون الوصول إليها، وثانيا أن يكون الربان سائرا بالسفينة نحو تلك الأهداف.
والآن فسؤالنا هو: أصحيح أن ركابا على سفينتنا قد اكتملت لهم صورة واضحة محددة ودقيقة إلى أن يريدون للسفينة أن تتجه بهم؟ فإذا نحن حللنا موقفهم في أمانة، فوجدناهم لا يعرفون لأنفسهم هدفا يتجهون إليه، علمنا أن هنالك انفصالا خطيرا بين الركاب والربان، وحق لنا أن نصيح به: أدرك السفينة يا ربانها.
أدركها يا ربانها، فراكبوها قد تناقضوا أهدافا وتعارضوا وسيلة واختلفت بينهم المعايير، والسفينة بين هذا وهذا وذاك، في أي اتجاه عساها أن تسير، إنها سفينة القرن العشرين بحديدها وخشبها ووقودها ودخانها، وأما المسافرون عليها ففيهم من كل قرن من قرون الزمان أبناء، إنه لا ضير في أن تتعدد الاهتمامات والاتجاهات بين الأفراد، بل لا بد لها أن تتعدد، وإلا انقلب هؤلاء الأفراد كالمصنوعات التي تخرجها المصانع مصبوبة في قالب واحد، كالسيارات والطائرات والجوارب والأقلام وهي من طراز واحد، فكل واحد منها يغني عن أي واحد، لكن اهتمامات الأفراد واتجاهاتهم مهما تنوعت وتباينت، فلا بد لها - إذا كان المجتمع سويا سليما - أن تلتقي عند نقطة بعيدة، وتلك النقطة هي التي قد نطلق عليها روح العصر، أو هدفه، أو فلسفته، أو غير ذلك من الأسماء التي تشير إلى الرباط الخفي الذي يربط الكثرة الكثيرة التي تراها الأبصار عائمة على سطح الحياة اليومية الجارية، ولولا ذلك الرباط الذي يجمع الكثرة البادية من اهتمامات الأفراد واتجاهاتهم في وحدة واحدة، لما استطاع مؤرخ أن يؤرخ لأمة من الأمم؛ إذ كيف يؤرخ ما لم يجد في العصور المتلاحقة ما يميز بعضها عن بعض؟ بل كيف يتاح له أن يشير إلى مرحلة زمنية معينة على أنها «عصر » من عصور التاريخ في حياة تلك الأمة، فالعصر المعين إنما يكون عصرا قائما بذاته، متميزا بصفاته، بالنسبة إلى ما سبقه وما لحقه، لكونه قد اشتمل على مبدأ تلتقي عنده مختلف الاتجاهات والاهتمامات والأفكار والمذاهب.
في العصر الواحد المعين هنالك ساسة ينشطون اتفاقا أو اختلافا بعضهم مع بعض، وهنالك رجال فكر يتجانسون أو يتعارضون، وهنالك رجال فن يبدعون فنا، كل في مجاله، لكنهم بحكم طبيعة الإبداع الفني ذاته، لا بد أن يتفرد كل فنان بما يميزه عن كل من عداه، وهنالك عمارات تقاوم وتجارة وصناعة وخدمات، هنالك تلك المناشط التي يأخذ كل فرد من أفراد الشعب بطرف منها، مما قد يوهم الرائي أن الأمر كله إنما هو أفراد لكل منهم حياته وشواغله وعمله ومزاجه وفكره، وليس ثمة ما يربط بينهم إلا رقعة جغرافية واحدة تجمعهم على أرضها، لكن لا، إن ذلك التنوع الشديد من شأنه في الحالات السوية السليمة أن يلتقي عند ينبوع واحد مبدأ واحد، هدف واحد، برغم أنه قد يكون هدفا بعيدا يجاوز الأهداف القريبة التي تختلف باختلاف الأفراد.
وإذا لم يكن الأمر كذلك، فكيف تسنى للمؤرخين أن يقولوا عن أوروبا في عمومها، إنها كانت في عصر النهضة إبان القرن السادس عشر، وفي عصر الإعلاء من شأن العقل إبان القرن السابع عشر، وفي عصر التنوير بنشر المعرفة إبان القرن الثامن عشر وفي عصر سادته النزعة التطويرية الدينامية إبان القرن التاسع عشر، وفي عصر تغلب عليه نزعة التحليل في هذا القرن العشرين، بل انظر إلى مصر في تاريخها الفكري خلال القرون العشرة الأخيرة، ألا تستطيع أن تميز في وضوح ثلاث مراحل كبرى، لكل منها طابعها واتجاهها، وهي مرحلة دار نشاط العلماء فيها حول تجميع التراث وتبويبه وتنسيقه، وكانت نهايتها مع نهاية القرن الخامس عشر، تلتها مرحلة حفظ لما هو وارد في كتب الأقدمين وشرحه وتلخيصه وتعليمه وهي مرحلة انتهت مع بداية القرن التاسع عشر، ثم مرحلة ثالثة هي التي امتدت خلال القرنين الأخيرين، التاسع عشر والعشرين، وهي التي نحياها اليوم ، وفيها نلحظ التصدع الذي جعلنا أشتاتا تكاد لا تجد رباطا ثقافيا في كيان واحد ذي رؤية واحدة، على أن هذه المرحلة الأخيرة قد جاءت على موجات تتفاوت فيها ظاهرة التصدع الثقافي قوة وضعفا، وكانت الوحدة على أقواها في النصف الأول من هذا القرن، برغم الازدواجية التي كانت تكمن فيها، بين اتجاه سلفي في ناحية، واتجاه غربي في ناحية أخرى، وأما تلك الوحدة الثقافية، أو ما يشبه أن يكون وحدة ثقافية فهي على أضعف صورة لها في الفترة الراهنة التي نجتازها فبعد أن كان الاختلاف بيننا في الجيل الماضي لا يعدو أن يكون «ازدواجية» في الاتجاه والرؤية، أصبحنا اليوم موزعين على جميع أطياف الضوء؛ إذ تشقق كل فرع من ازدواجية الجيل الماضي قنوات، وكل قناة خرجت منها ترع، وكل ترعة انبثقت منها جداول، فالاتجاه السلفي اليوم عدة أشكال، والاتجاه الغربي عدة صنوف، فماذا أنت صانع بالسفينة يا ربانها؟
إن أول ما تمليه البديهة علينا في هذا الصدد هو أن نخطط لتربية أبنائنا خطة تجمع ناشئة الأمة جميعا تحت مظلة ثقافية واحدة لفترة من أعمارهم تطول أو تقصر بحسب قدراتنا المالية، ولنفترض أننا قادرون على إقامة هذه التربية المشتركة حتى يبلغ أبناؤنا وبناتنا سن الخامسة عشرة من أعمارهم، فإلى تلك السن يستقي كل الدارسين من ينبوع واحد وبطريقة واحدة، ثم بعد ذلك تتفرع الدراسة بمن أردنا له أن يتابع دراسته، فروعا مختلفة في المرحلة الثانوية، يكون بينها فرع يؤدي بأصحابه إلى الجامعات، وفرع يتخصص استعدادا لجامعة الأزهر، وفروع للدراسة الثانوية التجارية، أو الصناعية أو الزراعية، فمهما تنوعت بهم سبل الدراسة الجامعية، أو سبل العمل، فقد ضمنوا قبل ذلك اشتراكهم في جانب هام من مكونات الرؤية الثقافية الموحدة.
ذلك ما كان ينبغي أن يكون، أما ما هو قائم بيننا اليوم في نظم التعليم، ففيه ما يعمق الفجوات بين أبناء الشعب، ومن ذلك أن الخط الدراسي المؤدي إلى الأزهر يبدأ استقلاله منذ اللحظة الأولى في حياة الدارس، بمعنى أن يخرج الشقيقان من بيت واحد . وهما بعد على الدرجة الأولى من سلم التعليم، فإذا كان مقصودا بأحدهما أن يدرس آخر الشوط في الأزهر ومقصودا بالآخر أن ينتهي به طريق الدراسة إلى إحدى الجامعات الأخرى، فإن الشقيقين منذ اللحظة الأولى يختلفان اتجاها؛ فأولهما إلى مدرسة أولية تبدأ منها سلسلة المعاهد الدينية، وثانيهما إلى مدرسة أولية من صنف آخر تبدأ منها سلسلة أخرى من حلقات التعليم، فماذا نتوقع بعد ذلك، سوى أن يصبحا رجلين مختلفين في طريقة النظر إلى الأشياء والأفكار وأنماط الحياة؟ وأعيد هنا سؤالي: أليس أول ما تمليه علينا البديهة في هذا الصدد هو أن يتحد جميع أبناء الأمة وبناتها في تعليم واحد، إلى أن نصل بهم إلى نقطة يحدث عندها التفريع، فتختلف بينهم التخصصات دون أن تختلف عندهم الأصول الأولى في تكوين وجهة النظر؟ إنه إذا كانت الدراسة على برامج المعاهد الدينية هي الأصلح - في رأي رجال التربية - فلتكن تلك الدراسة للجميع، وإذا كانت الدراسة في الخط التعليمي العام هي الأصلح، فلتكن كذلك هي الدراسة للجميع. وأما أن نشق جمهورنا شقين، من بداية الطريق إلى نهايتها، فذلك بمثابة من يشير إلى كل من الطائفتين، قائلا لها: أنت طائفة مختلفة عن الطائفة الأخرى، وكان الأصوب أن نقدم إلى الناشئة جميعا ما يوحي لهم بقوة أنهم أبناء أمة واحدة، لا بد أن تكون لها رؤية ثقافية واحدة.
ومع ذلك، فيا ليت الازدواجية الثقافية التي نخلقها بأيدينا خلقا، تظل ازدواجية ولا يتسع بها الانشقاق والشقاق، والمخالفة والاختلاف، فكما يحدث لقطرة المداد تلقي بها في إناء الماء فلا تظل محدودة بحدودها، بل إنها لتتسع وتتسع حتى تتناول بأثرها كل الإناء وما فيه، كذلك يحدث في الازدواجية الثقافية حين تلقي بها في صفوف الجماهير، فتأخذ في التفرع والتوسع حتى يكون لكل مجموعة من الناس رأيها واعتقادها، وتنتج لنا حالة كالتي نحياها اليوم، ولولا عروق ممتدة في حياتنا من تاريخ مشترك طويل، لرأيت ما قد استحدث فينا من أضداد ومتناقضات أشد وضوحا.
إن سفينتنا واحدة تحيط بها لجة خطرة من موج غاضب يتربص بها ليغرقها، ولا يحميها من الخطر الداهم إلا أن تتوحد السفينة ركابا وربانا، فركابها يحددون الهدف المنشود، وربانها هو السائر بالسفينة نحو ذلك الهدف، فإذا رأينا الهدف قد تشقق أهدافا متعارضة، تتأرجح بها السفينة بين أمام ووراء وبين يمين ويسار؛ فهل نملك إلا أن نصيح صيحة الفازع: أدرك السفينة يا ربانها!
عودة إلى تجويع النمر
كنت في إنجلترا إبان الحرب العالمية الثانية دارسا، ولم تكن سني عندئذ هي متوسط السن عند الدارسين، بل كانت تعلو فوق ذلك المستوى بعدة أعوام، إذ لم يشأ لي الله سفرا بعد التخرج إلا بعد أن بلغت تلك السن المتقدمة بالنسبة إلى الآخرين، فلأمر ما، سارت بي الحياة بمثل تلك الحركة البطيئة التي يصطنعونها بآلات التصوير، عندما يريدون للمشاهد أن يرى على شاشات السينما أو التليفزيون حركة معينة بكل دقائقها وتفصيلاتها، كحركات اللاعبين والمتسابقين، أو حركات الحيوان في معاركه أو في مناشط حياته، فتتحرك الأجسام في بطء وتراخ، وكأنها مخدرة بنعاس ثقيل، وهكذا شاء لي الرحمن أن تسير مراحل حياتي، كل مرحلة منها تجيء، لا لترحل عند انقضاء أوانها، بل «تتمطى بصلبها، وتردف أعجازها، وكأنها تنوء بحمل ثقيل يحول بينها وبين خفة الحركة» - مستعيرا صور امرئ القيس في وصف ليله الطويل - فكانت كل مرحلة تبدأ معي ثم لا تريد أن تخلي الطريق إلى ما بعدها، فيتقدم السائرون وأنا مجمد القدمين، كأني ملصق بأديم الأرض، لا أتزحزح من مكاني إلا كما تتزحزح السلاحف، ولم تكن تلك الحركة البطيئة نتيجة ضعف في الجهد، أو قصور في الهمة وبلادة في الحس والإدراك، فقد كنت أيام الدراسة في طليعة المتفوقين، ثم أخذت بعد التخرج أبذل الجهود فوق الجهود، لا كلل ولا ملل، ولا شكوى.
لا، لم تكن الحركة البطيئة في تعاقب المراحل، نتيجة لقلة الجهد المبذول، أو لبلادة الذهن وقصوره، وإنما هي - في أرجح الظن - نتيجة لجهلي باللغة التي يتفاهم بها الناس في بلادنا، ولست أعني بالطبع لغة القواميس، بل أعني تلك الرموز السحرية التي تنفتح لها الأبواب للداخلين من قبيل «افتح يا سمسم» في قصة علي بابا، والأقدار بعد ذلك لا ترحم من تلكأت قدماه على الطريق.
أوه! ذلك هو عصرنا، وهذه مصرنا، ونحن أبناؤه وأبناؤها.
إنني لم أمسك بقلمي لأكتب شيئا من هذا، بل أردت أن أقول إنني كنت في إنجلترا إبان الحرب العالمية الثانية دارسا، وكانت الحرب قد بلغت تلك المرحلة التي كانت فيها ألمانيا تقذف إنجلترا بقذائف كانوا يسمونها ف2، وهي قذائف لم تعد تجدي معها صفارات الإنذار؛ لأنها تباغت الناس، فقد تكون في قاعة المحاضرات، أو في المطعم تتناول طعام الغداء، أو ماشيا في الطريق، أو حيثما تكون، وإذا بالدوي الذي يصم الآذان، والذي ترتج له الأرض والجدران رجا عنيفا، وإذا بالقذيفة التي أحدثته لا تبعد عنك إلا بضعة أمتار، فإذا ما وقع هذا، ساد الصمت بضع ثوان، ثم مضى كل فيما هو فاعله، لا هلع، ولا صوت، ولا حركة، ولا تبادل نظرات، ولا أي شيء من هذا كله أو ما يشبهه، ترى له أثرا على أحد.
وكان بيني وبين زميل مصري موعد، ضربناه ليكون عند «القوس المرمري»، فهنالك كان مشرب الشاي لأمثالنا، في «بيت الناصية»، وهو مكان اشتهر برخص أسعاره، مع فخامة في معداته، فمثلنا لم يكن يقوى على أكثر من هذا كلما أراد طعاما أو شرابا؛ لأنه محدود بحدود البنسات والشلنات، فما جاءت ساعة اللقاء، إلا وقذيفة من تلك القذائف المباغتة قد نزلت على ميدان القوس المرمري، فاستحال اللقاء، وطافت برأسي فكرة، قلت لعل فكرة مثلها تخطر لزميلي، وهي أن أنعرج إلى شارع «بارك لين» قاصدا إلى نادي الطلبة المصريين، وهو قريب من هناك، وفي النادي وجدت مجلة الثقافة ملقاة على إحدى المناضد، فأخذت أتصفحها انتظارا للزميل المرتقب.
وفي تلك المجلة قرأت مقالا رائعا، للمرحوم الأستاذ محمد فريد أبو حديد، كان له وقع في نفسي، حال بيني وبين النوم في تلك الليلة، قبل أن أكتب مقالة من وحي ما كتبه الأستاذ أبو حديد؛ لأبعث بها إلى النشر في مجلة الثقافة ، ولأبعث بها صباح اليوم التالي، وجعلت عنوان مقالتي: «تجويع النمر»، وها أنا ذا أستأذن القارئ في نشر الجزء الأول منها، تمهيدا للإضافة الجديدة التي عن لي اليوم أن أضيفها:
إنني مدين بساعة من أجمل ساعات التفكير للكاتب الفاضل الذي أدخل تعديلا على نظرية التطور كما رآها «دارون»، فجعل الأناسي تنتمي إلى أصول عدة، لا إلى أصل واحد، فالناس في رأي الكاتب الفاضل، منهم الكلب الذليل، ومنهم الخنزير القذر، والفأر الجبان، والثعلب الماكر، والحمار العبيط، كما أن منهم الليث الهصور، وإنه لمن الشطط والإسراف حقا أن نحاول التوحيد فيما أراد الله له اختلافا وتباينا.
تلك لمسة عبقري لا شك في نبوغه، والرأي - فيما يظهر - حق لا ريب فيه، فليس الأمر هنا خيالا شطح بالكاتب فطار به عن الواقع، أو شطح به الكاتب وهو من برجه العاجي في عزلة عن الناس، بل هو مستمد من ذلك الواقع نفسه، ومن هؤلاء الناس، ودنيا الواقع لم تختف، ولن تختفي إلى آخر الدهر، فإن شئت تحقيقا لما نزعمه لك، فسر في الطريق مفتوح العينين، لا نطلب منك أكثر من هذا ولا أقل، على أننا نشترط شرطا واحدا، وهو ألا تنخدع بالإهاب البشري الذي يلبسه الناس في الطريق، بل احلل عراه بخيالك - ولا شك أن لك نصيبا من الخيال قل أو كثر - وسترى في جوفه الكلب أو الخنزير أو الفأر أو الحمار، أو ما شاءت لك الظروف أن تجد.
والساعة الجميلة التي أنا مدين بها لكاتبنا الفاضل هي ساعة استبطنت فيها دخيلة نفسي أولا، ثم استعرضت بعدئذ فلانا وفلانا ممن أعرف من الناس، وحاولت أن أتعقب كلا إلى عروقه الأولى ... لكنني ما إن بدأت النظر، حتى تبدى لي ما أوقعني في حيرة، إذ خيل إلي أني حين كشفت عن دخيلة «فلان» و«فلان»، وجدت في كل منهما أكثر من حيوان واحد، وكان النمر عنصرا مشتركا فيهما معا، ففي الأول رأيت كلبا ونمرا، وفي الثاني وجدت فأرا ونمرا، وهنا أسقط في يدي، ولم أدر بماذا أفسر ما أرى، فلا هو يجري مع دارون في جمع الناس تحت أصل واحد، ولا هو يجري مع مذهب الكاتب الفاضل في تعدد الأصول، بل الأمر فيما أرى يقع وسطا بين المذهبين، فأي هذه الثلاثة أختار لنفسي رأيا ومذهبا؟
ولم تدم حيرتي إلا لحظة قصيرة، ثم استجمعت شجاعتي وقواي، وانتهيت إلى قرار: فلماذا أضعف أمام دارون؟ ولماذا أضعف أمام الكاتب الفاضل صاحب التعديل؟ أليست الحقائق أمامي جهيرة الصوت، لا تدع مجالا لريب مرتاب؟ أليس «فلان» أمام ناظري، فيه الكلب والنمر في آن معا؟ ثم أليس «فلان» الآخر فيه الفأر والنمر جنبا إلى جنب؟ إن سلامة المنطق تقتضي بأنه إذا تعارضت النظرية مع حقائق الواقع فلا مفر من نسخ النظرية استمساكا بالوقائع المحسوسة، ولا بد عندئذ من إعادة التفكير، بحثا عن نظرية أخرى تتفق مع حقائق الواقع، فلماذا لا أدلي بدلوي في الدلاء، لعله يخرج إلى الناس بقليل من الماء؟ إذن، هاك ما انتهيت إليه:
ليس الناس جميعا فروعا من أصل واحد، كلا ولا هم بغير هذا الأصل الواحد، فالناس جميعا يتفقون في شيء، هو النمر، ثم يختلفون في أشياء، هي شتى صنوف الحيوان، فكل فرد من الناس في جوفه نوع من الحيوان، وإلى جانبه نمر، وهو يبدي من هذين التوءمين، ما يقابل به المواقف على أتم وجه وأوفاه، فقد رأيت «فلانا» في موقف بذاته كلبا ذليلا خافت الصوت خافض البصر، حتى إذا ما سنحت له الفرصة المواتية «تنمر»، وكذلك رأيت «فلانا» الآخر ذات ساعة فأرا هزيلا ضئيلا رعديدا جبانا، حتى إذا ما سنحت له الفرصة أيضا «تنمر».
هذا النمر الرابض في جلودنا، هو بيت الداء وأس البلاء، لو بعون الله أخرجناه، ومن جذوره اقتلعناه، صلح من أمرنا ما فسد، واستقام من حياتنا ما اعوج، لو أخرجنا من أجوافنا هذا النمر الضاري، لما وجد الكلب منا داعيا أن يذل، ولا الفأر مبررا أن يجبن، لكن كيف السبيل إلى تحقيق هذه الأمنية، ودونها - فيما يبدو - خرط القتاد؟
مهلا، مهلا، فأصعب المسائل قد يزول بأسهل الحلول ... فإذا وجدت فيمن معك نمرا مسلطا عليك، وأردت القضاء عليه لينزاح عن صدرك الكابوس الذي يقض لك في الليل مضجعك، فالتجويع هو وسيلة القضاء على النمر، إن النمر يتغذى وينمو ويترعرع، كلما أفسحت له أنت من مجال «التنمر»، أما إذا جوعت هذا النمر أينما وجدته، خلصت من شره وخلص معك الوطن كله، وعملية التجويع أبسط من البساطة، فكلما بدت عليه علامات «التنمر»، انسحب من غرفته، واتركه وحيدا بغير غذاء، وعندئذ يأكل النمر بعضه حتى يقضي على نفسه القضاء الأخير، فيريح ويستريح.
ذلك ما رأيته وكتبته، أعني جزءا مما رأيته وما كتبته، بوحي من مقالة المرحوم محمد فريد أبو حديد، ثم دارت الأيام دورتها، مرت أربعون سنة منذ ذلك التاريخ إلى يومي هذا، والمشكلة في صميمها ما زالت هي المشكلة، ظاهر الناس غير باطنهم، الشوارع ملأى بالكذب، لكن الأسلوب اختلف، فتحتم أن يختلف العلاج.
لم يعد في الصدور نمور كالتي كانت منذ أربعين عاما، وإلا فمن يتنمر على من؟ لقد قوي الضعيف وضعف القوي، تبدلت المحاور، فبعد أن كان لأصحاب الرءوس ما يشبه السلطان على أصحاب الأيدي، تغير الموقف، فارتفعت الأيدي وانخفضت الرءوس، لم يعد - في الحق - أحد يستطيع أن يتنمر على أحد، وهذا في ذاته كسب كبير، لولا أن تبدل لون الحرباء لتتلاءم مع الأرض الجديدة، على غرار ما نقوله عن الاستعمار مثلا، إذ نقول إنه بعد أن تعذر على المستعمر أن يمارس السيطرة بجيوشه، غير الوسيلة، وجعلها «اقتصادا»، مما قد نفهم بعضه ولا نفهم بعضه الآخر، ولكن بقي الاستعمار استعمارا كما كان، وكذلك نقول عن ظاهرة التسلط التي تستبد بنا منذ لا أدري كم ألفا من السنين، فلكل عصر عندنا وسيلته في التسلط، وكانت الوسيلة «تنمرا» عندما كنت شابا في الثلاثين، ثم أصبح التسلط اليوم شيئا آخر، لكي يبقى جوهر التسلط قائما كما كان.
وصورته في عصرنا هذا صورة غريبة قد تخفى عن الأبصار، وأقرب تشبيه وجدته لها هو «ملاحظ الأنفار»، فليس هدف المتسلط في يومنا هذا، هو أن يكون نمرا يمزق بأنيابه فرائسه من الضعفاء، وإنما هدفه اليوم هو أن يقوم بدور «ملاحظ الأنفار»، بمعنى أن يعمل العاملون، وهو هناك على رءوسهم يقف ليرى، حتى إذا ما فرغ العاملون من أداء ما اجتمعوا لأدائه، نسب الفضل للملاحظ الذي وقف وفي يده عصا سحرية، تراها القلوب الراجفة ولا تراها العيون. «ملاحظ الأنفار» الجديد لا يتنمر كسلفه، بل قد تراه غاية في التهذيب والوداعة ونعومة الحركة، لكنه بارع في التماس طريقة نحو موقع الرئاسة، حيث يجلس مراقبا متعقبا، والعاملون من حوله يعملون وينتجون، ليكون هو آخر الأمر صاحب الفضل والمكانة معا، وفي هذا المجال لا فرق بين عمل وعمل، فقد يكون ملاحظ الأنفار في مكانه التقليدي الذي ألفناه، وهو أن يلاحظ فئة من عمال الزراعة أو من عمال البناء، ولكنه في يومنا هذا قد يرتفع ليكون ملاحظا على علماء أو أدباء أو نفر من رجال الفن، وفي هذه الحالة ليس المهم أن يكون هو نفسه عالما أو أديبا أو فنانا، إذ يكفيه أن يلاحظ ويراقب، وبقدرة قادر يصبح هو العالم، وهو الأديب، وهو الفنان، وهو صاحب البلاغة والفصاحة، على أن ملاحظي الأنفار هؤلاء، كثيرا ما يخدعون أنفسهم لئلا تثور عليهم ضمائرهم، فيوهمون أنفسهم بأن الإدارة في هذا العصر الحديث أمر باتت له أهمية، تضعه في الصف الأول، فماذا يعيب الرجل، إذا هو برع في إدارة الأنفار وتشغيلهم، حتى يستخرج منهم مكنونهم كله؟ إنه في هذا الحالة شبيه بالعالم الذي يعرف كيف يستخرج كنوز الأرض من مناجمها، وحتى لو أضاف الفضل لنفسه آخر الأمر، فذلك حقه؛ لأنه لولاه لما كان ما كان.
إنها مكيافلية من طراز جديد، ومكيافلي - إذا أردت أن تتذكر - سياسي ومؤرخ إيطالي، عاش في أواخر القرن الخامس عشر وأوائل السادس عشر، وقد ظفر بشهرته فيلسوفا سياسيا، بكتابه «الأمير» الذي ألفه وأهداه إلى أمير فلورنسة، وفيه يحلل العوامل التي لا بد من توافرها للأمير، إذا أراد الاحتفاظ لنفسه بالإمارة؛ ولقد كان محور التفكير في هذا الكتاب، هو أن الوسائل تبررها الغايات؛ فكل وسيلة تنتهي بك إلى تحقيق الغاية التي تنشدها، هي فعل مقبول، حتى لقد كان من أقواله في هذا المعنى، قوله: «إن الأمير الذي يريد حفظ كيان دولته، لا بد له في كثير من الأحيان، أن يخالف الذمة والمروءة والإنسانية والدين.» ولهذا أصبحت كلمة «مكيافلية» تعني في الاستعمال الجاري، الوصول إلى الغاية بأي وسيلة تعين على الوصول، بغض النظر عن موقعها من موازين الأخلاق.
لكن المكيافلية الجديدة عندنا اليوم، والتي أشرت إليها منذ حين، تختلف قليلا عن النموذج الأول؛ فمن الإنصاف لمواطنينا أن نقول إنهم في سعيهم للوصول، يندر أن يخالفوا الذمة والمروءة والإنسانية والدين، إنهم في الحقيقة أخلاقيون إلى حد كبير، لكن الذي ينقصهم هو مشاركتهم الأنفار؛ فليس شرطا لملاحظ الأنفار في البناء أو في تفريغ السفن، أن يكون هو نفسه قادرا على أن يؤدي هذه أو تلك؛ وكذلك ملاحظو الأنفار في مجالات حياتنا اليومية، بكل أنواعها؛ قد يتربع على عروشها من ليس بالضرورة عليما بأسرارها؛ لكنه ملاحظ فقط، وهذا يكفل له - في مقاييسنا - أن تخلع عليه الصفات التي لا هي منه ولا هو منها، تماما كملاحظ الأنفار.
على أن أنصار المكيافلية الجديدة عندنا يلتقون في نقطة جوهرية مع المكيافلية في نموذجها الأول، وتلك النقطة هي ما أوصى بها مكيافلي أميره، بأن يحرص أشد الحرص على التظاهر بما ليس فيه، مما قد يكون له قوة الجذب عند الجماهير؛ فمثلا ليس من الضروري أن يكون رحيما رقيق القلب في حقيقته، فليعصف بالناس كما شاءت له نزواته ومصالحه الخاصة، شريطة أن يفعل ذلك وهو متستر بقناع من هو رحيم رقيق القلب؛ لأن هذه الصفة هي مما يجذب إليه الجمهور، وليكن في حقيقته بخيلا مقبوض اليد كيفما شاء، على شرط أن يبدو للناس كريما، وهكذا؛ وأظن أن أنصار المكيافلية الجديدة عندنا، لم يفتهم هذا الدرس المفيد؛ فملاحظ الأنفار إذا وجد أنفاره من العلماء، عرف كيف يظهر وكأنه أعلم العلماء؛ وإذا كان أنفاره من رجال الفن، أتقن الظهور بمظهر العليم بأسرار الفن وخفاياه.
قال صاحبي الذي كنت أتحدث معه بهذا كله: كأني بك قد جعلت ظاهرة التسلط، التي تستبد بنا، تظهر عند أصحابها في شكلين مختلفين: ففي المرحلة التي عشتها أنت في شبابك، كانت هي النمور الرابضة بين الضلوع، تنتهز الفرصة لتنقض على الفريسة، وفي هذه المرحلة الراهنة، أخذت شكل «ملاحظي الأنفار» الذين يستمدون مكانتهم من عمل غيرهم، فإذا كنت قد أحسنت فهمك، كانت مصيبتنا في هذه المرحلة أفدح؛ لأن النمور - كما قلت - يمكن تجويعها، وأما ملاحظ الأنفار، فكيف نتقيه؟ يا ليتك استطعت أن تستخدم طريقة التشبيه بالحيوان في هذه الحالة الثانية، كما استخدمتها في الحالة الأولى لعلنا نهتدي.
قلت: إذا استخدمت طريقة التشبيه بالحيوان، أحللت «الثعالب» محل «النمور»؛ فالتسلط هو التسلط في الحالتين، لكنه بينما كان افتراسا للضحايا عندما كانت الظروف السياسية والاجتماعية تسمح بذلك، نراه اليوم قد أصبح «دهاء»، وأما العلاج في هذه الحالة فقد نهتدي إليه من الطريقة التي كان يتبعها النبلاء في صيد الثعالب، وهي أن تصحبهم كلاب الصيد، التي تشم رائحة الثعلب وهو على بعد بعيد، فتتعقبه مهما بلغ خفاؤه في ظلمات الغابة، حتى تعود به قتيلا، وما دمنا قد ذكرنا الثعالب، فلا بد أن نذكر ما قاله المتنبي عن ثعالب مصر أثناء زيارته لمصر؛ إذ قال ما معناه: إن أعين الحراس في مصر قد غفلت عن ثعالبها، حتى امتلأت بطون تلك الثعالب بالعنب، ومع ذلك فكلما أتت الثعالب على العناقيد الموجودة، أثمرت لها الكروم عناقيد أخرى، وهكذا دواليك، خيرات لا تفنى، وثعالب ما فتئت متربصة تأكل الخيرات، وكأنه لا حراسة ولا حراس.
نظرت إلى الموقف في شبابي، فرأيت نمرا، واستطعت قتل النمر تجويعا بإهماله؛ وها أنا ذا أنظر إلى الموقف في شيخوختي، فكأني أرى ثعلبا، وما زلت حائرا كيف أتقيه.
ردة في عالم المرأة «1»
ما أبعد الفرق - في حياة المرأة المصرية - بين الليلة والبارحة! وليلتها التي أخذ يتغشاها الغسق بظلامه، هي هذه المرحلة الراهنة من حياتها، وأما بارحتها التي تنفس فيها صبح جديد، حسبناه يومئذ بشيرا لها بإشراقة الضحى، فهي تلك الأعوام الخمسون التي امتدت من أول هذا القرن إلى منتصفه، كانت المرأة المصرية في بارحتها تتوثب طموحا وكأنها أرادت أن تبلغ الأفق البعيد بقفزة واحدة، إنك لو رأيت المرأة المصرية في الأعوام الأولى من بارحتها تلك، إذن لرأيت ما يشبه القوس المشدودة إلى صدر راميها، وقد سنحت بالتحفز، حتى إذا ما ارتخت عنها قبضة الرامي، طارت حتى نافست نسور السماء وصقورها، وبضربات منها سريعة متلاحقة، حطمت قيود الحريم، واستردت كرامتها المفقودة وإنسانيتها الضائعة، أو قل إنها أوشكت أن تسترد كرامتها المفقودة وإنسانيتها الضائعة، أو قل إنها أوشكت أن تسترد تلك المفقودة وهذه الضائعة، ثم ما هي إلا أن رأيناها مجاهدة في كل ميدان، يعطونها القليل فلا يرضيها إلا ما يتكافأ مع قدراتها، وقدراتها كانت في طليعة القدرات.
كانت تلك الوثبات الطموح سمة واضحة في بارحتها، وأما في ليلتها فقد فترت العزيمة وما حسبناها تفتر بهذه السرعة الخاطفة، فلقد ضحك عليها من ضحك، وخدعها من خدع، وكانت مأساتها أن جازت عليها الحيلة فصدقت أن دنياها ليست هي دنيا الناس، من علم وعمل، وفن وأدب وفكر ورأي، وريادة وهداية وجهاد، صدقت أن «المرء» و«المرأة» بينهما من التباين ما بين الروح والجسد، أو ما بين الطيران الطامح في صعوده، والقعود المكبل بأغلال الكسيح، ضحك عليها من ضحك، وخدعها من خدع، فصدقت البريئة أنها حلية يتملكها من يقتنيها، ومن حق هذا المقتني أن يلف حليته باللفائف، وأن يحفظها في الخزائن، ونسيت أنها فرع من فرعين يتألف منهما «الإنسان»، ولقد تعمدت منذ أسطر قليلة أن أستعمل كلمتي «مرء» و«مرأة»، بدل كلمتي رجل وامرأة، لعل البريئة تدرك كم يتشابه الفرعان، حتى بعد أن يتفرعا من الأساس «الإنساني» المشترك، لكن البريئة صدقت، وراحت تلف نفسها قبل أن يلفها مقتنيها، ولم نعد نسمع منها إلا حنينا إلى العودة لتنخرط مرة أخرى في معتقل الحريم.
تعالوا نناقش الأمر فيما هو أهدأ من الهدوء، تعالوا نناقشه بأعصاب محكومة ، لعلنا نميز الحق من الباطل، وبعدئذ يكون لكل منا - مرءا ومرأة - أن يختار لنفسه طريق حياته وهو أو هي على بصيرة ووعي بما يختار أو تختار، وسأكون في هذه الخطوة من خطوات الحديث محدد الكلمات واضح المعاني، فليس يعنيني إلا أن نصل إلى حقيقة نستريح إليها، وسأطرح هذه الخطوة من خطوات حديثي، على مرحلتين: (1)
المرحلة الأولى عن تعليم المرأة وعملها: (أ)
من حق كل مواطن بحكم الدستور أن يتعلم إلى آخر حد تمكنه مواهبه (أو مواهبها) أن يصل إليه. (ب)
من شأن التعليم الصحيح، أن يخرج المتعلم معدا لعمل معين على أساس ما تعلمه. «النتيجة»: من حق المواطن (أو المواطنة) أن يحصل على أكبر قدر مستطاع من التعليم، وأن يشارك في دنيا العمل بما تعلمه. (2)
المرحلة الثانية عن المرأة زوجة وأما لأطفال، وها هنا تنشأ المشكلة المحيرة حقا، فكيف توفق المرأة بين واجباتها في العمل، وواجبات الرعاية لأطفالها الصغار، وهذه هي المشكلة التي يحتج بها من يريدون للمرأة أن تنسحب من ميادين العمل التي من أجلها تعلمت لتنحصر في دارها، والرأي عندي هو أن يترك لكل امرأة على حدة حق الاختيار لنفسها في ضوء ظروفها، فإذا اختارت أن تبقى في بيتها لتربية الطفل، كانت حرة في اختيارها، وإذا اختارت ميدان العمل فواجب الدولة أن تيسر لها السبل التي تكفل الرعاية للطفل؛ إذ لا يجوز لنا أن ننسى أن الطفل «مواطن» له على الدولة ما لسائر المواطنين من حق الرعاية، فتنظم دور للحضانة في كل مراكز العمل أو في مواطن السكنى.
الأساس عندي هو - إذن - ذو شعبتين: الأولى أن للمرأة كل الحق في أن تتعلم إلى آخر قطرة تطيقها قدراتها الفطرية، وإذا قلنا إنها «تعلمت» فكأننا قلنا بالتالي إن لها مكانا في دنيا «العمل» بمقدار ما تعلمت وبنوع ما تعلمت؛ لأن التعلم بكل صنوفه ودرجاته، ليس كلاما يلقى به في الهواء على سبيل التسلية وإزجاء الفراغ، بل التعلم في حقيقته تدريب على عمل يؤديه المتعلم، وأما الشعبة الثانية فهي أن المرأة إذا ما تجاذبتها واجبات العمل من ناحية وواجبات أسرتها من ناحية أخرى، فلها هي وحدها حق الاختيار لما تفعله حلا لإشكالها، وذلك في ضوء ظروفها الخاصة، مستعينة بكل ما يجب على الدولة أن تعينها به من تيسيرات.
وليست المأساة التي جعلت الفرق بعيدا بين مرأة هذا الجيل ومرأة الجيل الماضي، هي في أن أحدا يتدخل في شئون حياتها، فيحد من حقها في التعلم وحقها في العمل، أو يحد من حرية اختيارها لميدان نشاطها: أيكون في دنيا العمل العام، أم يكون في أسرتها الخاصة؟ بل المأساة أنها هي التي أخذت ترتاب في جدوى التعلم بالنسبة إليها - والتعلم المهني بصفة خاصة - ثم زادت طينها بلة بأن أخذت تشك كذلك في مشروعية حقوقها الإنسانية من حيث هي مواطنة كأنما يوسوس لها شيطان بأنها إنما خلقت - لا لتكون حرة مسئولة أمام ربها وضميرها - بل لتكون تابعة لهذا، خاضعة لذاك، تتحجب إذا شاء لها سيدها أن تتحجب، وتسفر إذا أمرها مولاها أن تسفر، فأين هي - إذن - من سالفتها في جيلنا السابق، حين أخذت رائدات الحركة النسوية تشق جلاميد الصخر لتفسح للمرأة طريقها إلى ضوء النهار، لكن ماذا نقول؟ فلعلها الموجة الرجعية العاتية التي تغرق حياتنا الفكرية كلها اليوم، هي التي نثرت رذاذها في كل اتجاه حتى أصاب المرأة ما أصابها، فلم تعد تذكر إلا أنها امرأة تتبع، ونسيت أنها كذلك إنسانة ترود.
إن من الأباطيل التي كثيرا جدا ما يزل فيها الإنسان بفكره، كلما كان الحديث حديثا عن الرجل والمرأة في اقتسامهما للحياة، أن تذكر أوجه الاختلاف بين الجنسين ثم ترتب على وجود اختلاف بينهما نتيجة تزعم بأن للرجل الحق في أن يملي، وعلى المرأة واجب أن تطيع مع أن الاختلاف بين شيئين لا يدل بذاته على تفاوت في الدرجة بينهما، فالتفاح والكمثرى مختلفان، لكن اختلافهما وحده لا يدل على أيهما أفضل من الآخر، والأغلب في حالات كهذه أن يكون لكل من الطرفين ظروف بعينها يتفوق فيها على الآخر.
نعم، بين الرجل والمرأة أوجه كثيرة من الاختلاف، لا نستند في ذكرها - لسوء الحظ - على نتائج بحوث علمية إلا في القليل النادر، وأما في أكثرها فإنما نكتفي بالملاحظات العابرة وبالانطباعات الذاتية، التي قد نصيب فيها وقد نخطئ، وربما يفيدنا في موضوعنا هذا أن نذكر أمثلة واضحة لما بين الجنسين من ضروب الاختلاف؛ لأنه قد يتبين لنا أن بعض تلك الاختلافات في صالح المرأة وبعضها في صالح الرجل، وإذا كان الأمر كذلك وجب علينا بعد ذلك ألا نحكم بالتفوق لأحد الجنسين على الآخر حكما مطلقا، بل نقيد حكمنا بما بين أيدينا من شواهد، في كل حالة على حدة، ولعله مما يسهل علينا النظر والمقارنة أن نجمع الفروق الظاهرة بين الجنسين تحت رءوس ثلاثة:
أولها فروق في شخصيات الأفراد من حيث هم أفراد، وثانيها فروق في أساليب التعامل في المجتمع، أي أن ننظر إلى الفرد الواحد، لا من حيث هو كائن قائم برأسه، بل من حيث هو مواطن يتعامل مع آخرين هم سائر المواطنين، وثالثها فرق في موقف كل من الجنسين، لا بالنسبة إليهما في الحياة الفردية، ولا بالنسبة إلى تبادل الأفعال وردود الأفعال في حياة اجتماعية قائمة، بل فيما يجاوز ذلك كله إلى العمل على استمرارية الحياة الإنسانية ذاتها.
وإذا نحن بدأنا المقارنة بين الجنسين من النقطة الثالثة، الخاصة باستمرارية الحياة الإنسانية، وقعنا على اختلاف بينهما قد يكون هو المصدر الرئيسي - أو أحد المصادر الرئيسية - التي منها يتفرع سائر ما قد نراه بين الرجل والمرأة من أوجه التباين، وذلك لأن للمرأة دورا في جانب تلك الاستمرارية لا يقاس إليه دور الرجل، وذلك واضح منذ أن يكون الجيل القادم أجنة في بطون أمهاتهم من بنات هذا الجيل، فمن هذه النقطة الأولية تنبثق أهم خصائص المرأة فردا، وعضوا في مجتمع لأنها نقطة تحتم عليها أن تميل إلى الحياة الآمنة، لتوفر للأبناء مناخا صالحا يتربون في أمنه حتى يبلغوا النضج، ولا كذلك الرجل لأنه بحكم ضرورة أن يهيئ مقومات الحياة لهؤلاء الأبناء قد يضطر إلى المغامرة، بل وإلى القتال، مما ينتهي بالمرأة والرجل إلى مزاجين مختلفين في الأساس: المرأة تبسط جناحيها في هدوء على ما هو موجود ليظل موجودا، والرجل يصفق بجناحيه ليطير. إن استقرار الحياة هو أساسا من صنع المرأة، والثورة على الحياة لتغييرها هي أساسا من صنع الرجل، ومن هنا تولدت فروق فرعية كثيرة في حياة كل منهما، من حيث هما فردان، ومن حيث هما عضوان في حياة اجتماعية، فالمرأة في الحب أصدق وأعقل وأذكى، والرجل في الكفاح أقوى وأشجع وأكثر اندفاعا، وتطول بنا قائمة المقارنات لو استطردنا، لكن ما يهمنا هنا هو أن الفروق بين الرجل والمرأة موجودة غير أنها فروق لا تستلزم بالضرورة أن يتفوق منهما أحد على أحد، وتبقى الحياة العقلية، التي بها يكون التعلم ويكون العمل، مشتركة ومتعادلة بينهما، فيتفوق فيها فرد على فرد، لكن لا يتفوق فيها نوع على نوع، وحتى إذا نحن سلمنا بأن أحدهما يتميز عن الآخر بقدرات معينة، كالذي كثيرا ما يقال عن الرجل من أنه أقدر من المرأة على «الإبداع» في العلم والفن والأدب وغيرها، فإننا لا بد واجدون في النوع الآخر امتيازا في ناحية أخرى تحدث التوازن، فإذا كان الرجل أقدر على إبداع الجديد، فإن المرأة بدورها أقدر على المحافظة التي لولاها لما أمكن للحياة أن تدوم للناس يومين متتاليين، إذا كان اليوم التالي سيجيء ليهدم ما بناه اليوم السابق باسم الإبداع، فالخير هو أن يتقاسم شئون الجماعة عاملان متكاملان، أحدهما يسد نقص الآخر، أحدهما هو عامل التجديد، الذي ما ينفك مسايرا للزمان في جريانه، وأما الآخر فيصون ثبات الهوية الواحدة ودوامها حتى لا تنجرف مع تيار التغير، وذلكما هما الرجل والمرأة، تماما كما يحدث لحياة الفرد الواحد، فهو في كل يوم، في كل ساعة، في كل دقيقة، يستبدل في كيانه العضوي جديدا بقديم، إذ هو يلفظ الهواء الفاسد في شهيقه ويحل محله بالزفير هواء جديدا، وإذ هو يفعل شيئا كهذا حين ترد الأوردة دما فاسدا لتجيء الشرايين بدم جديد، وهكذا في كل مناشط البدن، صحو يهدم ونوم يبني، دون أن يفرط الفرد خلال تلك التغيرات المتلاحقة في هويته، فهو يظل دائما فلانا الفلاني بشخصيته الواحدة.
الحديث عن الرجل والمرأة وهما يتعاونان مرة ويتصارعان أخرى، يتفقان يوما ويختلفان يوما، لم ينقطع منذ هبط آدم وحواء إلى هذه الأرض ليسعيا، ولا بأس في كل ما قيل عنهما وما يقال، لا بأس في أن يفاخر الرجل بدوره وتفاخر المرأة بدورها، طالما جاء هذا كله على سبيل المزاح، أما أن ينقلب المزاح إلى جد الحياة بحيث يصبح الرجل آمرا والمرأة طائعة، ويجعل الرجل من نفسه سيدا وتجعل المرأة من نفسها تابعة، فذلك هو «الوأد» بعينه، لولا أن الموءودة هنا ليست واحدة، بل هي الجنس بجميع أفراده، وإذا كان عجبا أن يدعي الرجل لنفسه ما يدعيه، فأعجب منه أن تستجيب المرأة بقولها آمين! وهذا هو ما نرى المرأة اليوم في سبيلها إليه، بعد كل ما صنعته أخوات لها من بنات الجيل الماضي لترفع عنها نير الهوان.
المرأة اليوم تتبرع سلفا بحجاب نفسها، قبل أن يأمرها بالحجاب والد أو زوج، فكأنها بذلك الحجاب الطوعي تقف على مئذنة لتصيح في الناس: ها هي ذي سلعة من عهود الحريم لمن يشتري! وهل هي تدري - يا ترى - بأية سرعة سريعة يتحول حجاب الوجه ليصبح حجابا للفكر كذلك؟ إنها إذا لم تكن تعلم ذلك، فهي إذن لا تعلم شيئا عن تأثير الظاهر في الباطن، فالأمر في هذا الصدد لا يقتصر على أن يستتبع حجاب الوجه حجابا للروح، كما يستتبع سفور الوجه سفورا للروح، بل يجاوز ذلك إلى كل ظاهر وباطن، فالحركات الجسدية الظاهرة في الصلاة ركوعا وسجودا، سرعان ما تشيع في قلب العابد ضراعة وخشوعا، ولعل هذا بعض ما تعنيه الآية الكريمة من أن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، فهي - بداهة - لا تفعل ذلك لمجرد حركات الجسد الظاهرة، بل نتيجة لما يتولد عن تلك الحركات الظاهرة من شعور قلبي باطني فيه خشوع العابدين.
ولتغفر لي مواطناتي اللائي أخذتهن ردة إلى عهود الحريم، وامتلأت نفوسهن بوساوس الشك في صلاحية المرأة لمشاركة الرجل مشاركة الأنداد في كل شيء: في العلم والعمل، في الفكر والفن والأدب، في السياسة والحكم، في التجارة والصناعة، في المغامرة والكفاح، نعم، لتغفر لي أولئك المواطنات - وهنالك منهن اليوم عشرات الألوف - إذا قلت إنني كلما رأيت منهن واحدة انزلقت بضعفها - تطوعا - إلى هوة الماضي، تذكرت ما كتبه شوبنهاور عن المرأة، سائلا نفسي: أيكون ذلك الفيلسوف الألماني قد أصاب الرأي فيما وصف به المرأة؟ وسأعرض الآن مقتبسات مما كتبه في ذلك، راجيا من كل قارئة أن تتلمس في نفسها رد الفعل، فإن وجدت نفسها غاضبة مما يدعيه شوبنهاور عنها وعن بنات جنسها، كان الأمل كبيرا في أن تنفض عن عقلها ما غشاه لتعود إلى استئناف طريقها إلى الحرية التي كانت سالفتها قد رفعت لها لواءها.
يبدأ شوبنهاور ما كتبه عن المرأة بقوله (ولنتذكر أن موقفه من المرأة كان رد فعل للخصومة الغريبة التي نشأت بينه وبين أمه، فقد كانت أمه أديبة ذائعة الصيت، ولعلها أحست شيئا من الغيرة حين وجدت نجم ابنها يزداد سطوعا كل يوم، فنشب بينهما خلاف ذات يوم، أدى بالألم إلى أن تطرد الابن من دارها، فخرج الابن وهو يقول لها: إن التاريخ لن يذكرك إلا من حيث كنت لي أما) وهاك بعض ما كتبه عن المرأة:
إن المرأة بحكم تكوينها لا تستطيع أن تضطلع بالمنجزات الكبرى، الجسمي منها والعقلي على حد سواء، فرسالتها في الحياة منحصرة في الإنسال ورعاية الأطفال، مع وجوب طاعتها للرجل وخضوعها له، فلقد أرغمتها طبيعتها على أن تسلك في حياتها سبيلا مطمئنة وادعة، لا تصادف فيها ما يصادفه الرجل في حياته من التطرف في اللذة وفي الألم كليهما، وإذا كانت الحياة قد ركنت إلى المرأة في أن تكون أداة تتعهد الصغار في طفولتهم الباكرة، فمعنى ذلك أنها قد أعدتها إعدادا عقليا يلائم الغرض من وجودها، فجاءت ضعيفة العقل، قصيرة النظر، حتى لكأنها طفل كبير لكي يتم بينها وبين أطفالها شيء من التناسق، أو إن شئت فقل إنها مرحلة عقلية بين الطفولة والرجولة؛ فالرجل هو الكائن البشري الحق، الذي قصدت إليه الحياة.
ومعلوم أنه كلما ارتفع الكائن الحي في درجات الكمال، كان أبطأ وصولا إلى مرحلة النضج، فبينما المرأة يكتمل نضجها في الثامنة عشرة ترى الرجل لا يتم له النضج إلا في الثامنة والعشرين، على أن نضج المرأة بعد أن يكتمل، لا يجعلها تحقق من القدرة العقلية إلا قدرا محدودا، لا يمكنها من أن تنفذ إلى حقائق الأشياء؛ ولذلك كان من السهل انخداعها بالظواهر، وتراها منشغلة بتوافه الأمور، دون الهام منها والخطير، وكذلك تتميز المرأة بأنها تعيش في حاضرها فقط؛ لأنها تعجز عن الامتداد بفكرها إلى الماضي وإلى المستقبل، فبالقوة العقلية وحدها يستطيع الرجل أن يحطم حدود الزمن التي تقيد المرأة كما تقيد الحيوان.
ولعل هذه الخاصة في الرجل، وأعني قدرته على مجاوزة اللحظة الحاضرة إلى الماضي وإلى المستقبل، حتى يضم الزمان من الأزل إلى الأبد بنظرة واحدة، هي التي كثيرا ما تصيبه بانقباضة المهموم، وهي انقباضة لا تعرفها المرأة وهي تنعم بلحظتها الحاضرة، غير حافلة بما قد يأتي به غد من ويلات وكروب، والمرأة في ذلك تشبه الحيوان الأجهر (ضعيف البصر) الذي يرى ما هو قريب منه في دقة ووضوح، ولكن بصره لا يمتد إلى بعيد، أي إن المرأة قد تستطيع أن ترى الحوادث الجارية حولها أدق مما يراها الرجل، لكنها عاجزة كل العجز عن اجتياز الحاضر إلى وراء وإلى أمام، ولعل في ذلك يكمن السر في إسرافها الذي قد يبلغ بها حد الحماقة والسفه.
كان هذا بعض ما أفاض القول فيه الفيلسوف الألماني في أواسط القرن الماضي، ولو كانت المرأة على حقيقتها - وحقيقتها هي أنها «إنسان»- تتمثل في المرأة المصرية التي أصابتها في أيامنا هذا نكسة ارتدت بها إلى ما قبل وثبتها التي شهدناها في امرأة الجيل الماضي، لاستحقت ما قاله عنها ذلك الفيلسوف، فالذي نلاحظه في هذه المرأة المرتدة هو أنها قد تتعلم، لكنها تتعلم غير مؤمنة بما تتعلمه، وقد تشارك في ميادين العمل، لكنها غير مؤمنة بجدوى العمل . فهي آخذة في الضمور العقلي والوجداني إلى مصير لا يعلمه إلا رب العالمين.
ثم تكتمل فصول المأساة، حين نرى الرجال يصفقون لها إعجابا بضمورها وذبولها وعودتها إلى حياة الحريم، فإذا أراد الله بإحداهن خيرا، وجعلها تصمد على الكرامة، وعلى حقها في الطموح من أجل نفسها ووطنها، ضاقت صدور الرجال وبكوا على خراب البيوت وضياع الأطفال، فلقد جاءتني رسالة من قارئ يعاتبني على ما قلته في حوار إذاعي سمعه، وهو أن للمرأة حقا مساويا لحق الرجل في التعليم وفي العمل، فأخذ القارئ الكريم علي هذا الرأي، محتجا بما قد يصيب الزوج والأطفال من إهمال، ولكني لم أقل - ولن أقول أبدا - إن هذه المشكلات الأسرية تترك بغير حل، بل لا بد من حلها بمشاركة المرأة نفسها في ذلك الحل، على أن تجيء الحلول في إطار حق المرأة في العلم والعمل وسائر ما نطالب به ل «الإنسان» من حقوق، على أن أبشع جوانب الردة في حياة المرأة المصرية اليوم، ليس هو أنها تريد أن تتعلم إلى آخر المدى، فيمنعها أحد، لأن أحدا لا يمنعها من ذلك، وليس هو أنها تريد أن تعمل بما تعلمته فيمنعها أحد؛ لأن أحدا لا يقفل في وجهها أبواب العمل، وإنما الجانب البشع من تلك الردة، هو أن المرأة اليوم تريد أن تجعل من نفسها وبمحض اختيارها، حريما يتحجب وراء الجدران، أو يتستر وراء حجب وبراقع، وكأنها الفريسة السهلة تخشى أن تتخطفها الصقور، أما أن تحصن نفسها بقوة الروح، وبالشعور بكرامتها إنسانة مستنيرة واعية، فذلك زمن أوشك على الذهاب مع ذهاب رائدات الجيل الماضي.
ألا ما أبعد الفرق في حياة المرأة المصرية بين الليلة والبارحة، ففي بارحتها ألقت بحجابها في مياه البحر عند شواطئ الإسكندرية، إيذانا بدخولها عصر النور، وأما في ليلتها هذه فباختيارها تطلب من شياطين الظلام أن ينسجوا لها حجابا يرد عنها ضوء النهار.
ردة في عالم المرأة «2»
كانت قد جاءتني رسالة من قارئ، يسألني فيها عدة أسئلة في موضوعات مختلفة، تتصل بالدراسات الفلسفية من قريب أو بعيد، فأحسست من الأسئلة أن صاحبها جاد ينشد علما بأمور لم تكن ظروفه قد أتاحت له أن يدرسها في جامعة لأنه - كما قال - اضطر إلى الوقوف في الطريق التعليمي عند نهاية الدراسة الثانوية، لكنه قرأ قراءة الدارسين، حتى اتسع به المدى وبعدت الأعماق، وكان ذلك واضحا من الطريقة التي كتب بها رسالته، وكذلك من الطريقة التي انتقى بها أسئلته وصاغها، وإني لأذكر كيف أرجأت الرد عليه فترة طويلة، ترددت خلالها بين تلبية رجائه والكف عن تلك التلبية، وكان ذلك التردد عندي لسبب واحد، هو أن أسئلته كانت تقتضي للإجابة عنها مادة علمية قد تثقل على الكثرة الغالبة من القراء، لكنني آخر الأمر قررت أن أستجيب وأجيب؛ وذلك لأني رأيته واجبا - كما قلت في فاتحة مقالتي تلك - إذ «التعليم» هو مهنتي ومهمتي؛ فلما طالعت المقالة بعد نشرها، وجدت بها خطأ مطبعيا، تغيرت به كلمة «التعليم» فأصبحت «القلم»، وباتت العبارة: «إذ القلم هو مهنتي ومهمتي»؛ فابتسمت لذلك الخطأ قائلا: إنه خطأ كالصواب، أو هو - بعبارة أدق - خطأ فيه نصف الصواب، فبينما «التعليم» هو مهنتي ومهمتي، كان «القلم» هو كذلك مهمتي، لكنه لم يكن قط مهنتي.
وأحمد الله حمدا كثيرا أن وقف القلم معي عند حد الهواية المهمة، ولم يكن أبدا هو المصدر الأساسي الذي أرتزق منه لقمة العيش؛ لأنه لو كان كذلك لجاز لي أحيانا أن أرعى رغبات «الزبائن»، فأقدم إليهم ما يحبون قراءته، لا ما يجب عليهم أن يقرءوه؛ أما والكتاب في حياتي اهتمام شخصي، يلتقي فيه الواجب الاجتماعي والمزاج الذاتي في آن معا، فقد أتيح لي بهذه النعمة التي أنعم الله بها علي، ألا أكتب كلمة واحدة إلا إذا كنت مؤمنا بصدقها؛ على أن ما أؤمن بصدقه، قد لا يكون هو بالضرورة ما يراه الآخرون صوابا؛ بل إنني إذا رأيت اليوم رأيا وجدت فيه الصواب، ثم جاءت لي الأيام بعد ذلك بما يثبت خطأه، فإني لا أتردد لحظة في تصحيح نفسي، دون أن أشعر بأي حرج أمام نفسي؛ فنحن بشر ، والبشر يصيبون آنا ويخطئون آنا، وحسبي أن أكون على أيقن يقين، بأني أكتب ما أريد أن أكتبه؛ وأن الذي أكتبه هو ما أراه صوابا عند كتابته.
ولما كان التعليم - كما قلت - هو مهنتي ومهمتي، فقد انعكس ذلك في كتابتي، كما لا بد أن يكون قرائي قد لاحظوا؛ إذ تراني أحاول التوضيح ما أسعفتني قدرتي؛ وعندما أكتب، تجري معي الكلمات في كثير من الأحيان، وكأنها كلمات موجهة إلى صديق جلس أمامي لأبادله الحديث؛ فكلما ورد في حديثي شيء شعرت أنه قد يكون غامضا على السامع، عدت إلى الفكرة المعروضة فوضعتها في عبارة ثانية، ثم في عبارة ثالثة إذا اقتضى الأمر ذلك، وكذلك كثيرا ما تراني أضرب الأمثلة الموضحة للفكرة المعروضة، لكي أزيل عنها غموضها، وأظل أسوق لها الحجة بعد الحجة، كأنني محام يدافع عن قضية يؤمن بصوابها، على أن ذلك كله لا يعني أن ما يشغلني من قضايا، هو دائما ما يشغل كل إنسان من أعلى السلم الثقافي إلى أدناه؛ ولا يعني كذلك - وهذا هو الأهم - أنني أقدم ما أعلم مسبقا أنه يعجب القراء، فلست بقالا، ولا بائع خردوات أو تاجر أقمشة، أعرض في دكاني البضاعة التي يقبل عليها الزبائن، بل إني أقرب إلى الطبيب الذي لا يبالي أن يسقي مريضه الدواء المر إذا وجد فيه شفاءه من علته؛ لا، بل إني أكثر من ذلك، لأنه إذا كان الطبيب لا يطب إلا للمرضى، فصاحب الفكرة حين يعرضها على الناس، إنما يطب للأصحاء، فمن هو صحيح تظل أمامه الفرصة بأن يكون أصح مما هو عليه، وذلك هو طريق الارتقاء؛ وقديما قال «إخوان الصفا» في «رسائلهم» - في الصفحات الأولى من تلك الرسائل - حين أرادوا المقارنة بين الشريعة والفلسفة، إن الشريعة تطب للمرضى، أي للذين بهم ميل إلى الانحراف عن جادة السلوك الصحيح فيصححوه؛ وأما الفلسفة فتطب للأصحاء الذين يتطلعون إلى ما هو أسمى.
ولقد كتبت بالأمس القريب عما أراه من نكوص على الأعقاب في طائفة كبيرة من نساء هذا الجيل وبناته، بالقياس إلى الطموح الذي تميزت به أمهاتهن في الجيل الماضي؛ فجاءني بريد تحمل رسائله خلجات الغضب؛ وقرأت تلك الرسائل، بكل الاحترام، وبكل الحب وبكل الإنصات العاطف والفكر المتأني؛ وكيف لا أفعل، وأصحاب الرسائل هم وهن إخوتي وأخواتي، إنهم أهلي، أسرتي، عشيرتي ... لكنني أقولها بكل الصدق، وبكل الإخلاص، وبكل الاحترام والحب، إنني لم أجد في تلك الرسائل جميعا ما يحملني على أن أغير حرفا مما كتبته، ولو أعدت الكتابة لكررت ما قلته كلمة كلمة.
ولست أنوي هنا الدخول في تفصيلات أناقشها وأجادل فيها، فقد قلت ما عندي ولا أرغب في أن أضيف إليه شيئا، ولا أن أحذف منه شيئا، لكنني أريد التعليق بملاحظات عامة عن البريد الغاضب الذي تلقيته؛ لأنه - فيما أرى - تعليق واجب ومفيد:
أولا:
رضيت نفسي كل الرضا حين جاءت الكثرة الغالبة من الرسائل في أدب حميد، لا يعتدي بسباب، ولا يخدش بسخرية، وذلك برغم المعارضة؛ وهكذا في الحق ينبغي أن يكون الحوار في شعب هذبته ستون قرنا من حضارة رفيعة؛ ولم يشذ عن ذلك إلا عدد أقل من القليل، استباحوا لأنفسهم ما لم يكن يجوز لهم أن يقولوه؛ فلو تريث أي ممن كتبوا لي لتبين كم كان الأجدر به أن يفكر أكثر من مرتين قبل أن يهاجم بالشتم أو بالسخرية؛ لأنه لو كان للمهاجم أو الساخر أستاذ علمه، فالأرجح جدا أني كنت ذات يوم أستاذا لأستاذه، إما بالفعل وإما بالإمكان؛ وماذا تقول عن رجل، لو طرح من عمره العشرة الأعوام الأولى على أنها طفولة لاهية، والعشرة الأعوام الثانية على أنها مراهقة حالمة، لبقي له نحو ستين عاما، لو استثنينا منها ساعات النوم، لقلت فيما يقرب من الصدق الكامل، إنه لم يضيع أسبوعا واحدا بغير دراسة وتحصيل وكتابة وضع فيها ملاحظاته ومقارناته وتحليلاته عما درس وحصل؟ إنه لم يخطف العلم والمعرفة خطفا، بل قضى السنين بين درس فيه الأناة والصبر، وتدريس فيه الإخلاص والجد؛ ثم هو لم يسرع إلى الوثوق بعلمه قبل أوانه، بل لبث أعواما وأعواما يتوارى وراء جدران التواضع لا يجرؤ أن يقول: هاكم ما فكرت فيه، بل يقول هذا ما نقلته عن فلان؟ حتى شاء له الله أن ينضج له عقل، ويتولد منه فكر، ولو كان لا بد للزاعم أن يقدم «الشهادات» المؤيدة لزعمه، لتكاثرت الظباء على خراش - كما قال الشاعر - فلا يدري خراش ما يصيد.
نعم، لو تمهل أي ممن هاجم وسخر، حتى يرى المسافة بينه وبين من يهاجمه؛ لعرف أن أقل ما يمكن قوله على سبيل المقارنة، هو أنه إذا قال الأصغر منهما قولا - في الموضوع المطروح - فهو خطأ يحتمل الصواب، وأما إذا قال الأكبر والأعلم منهما قولا، فهو صواب يحتمل الخطأ.
ثانيا:
كانت الكثرة الغالبة من تلك الرسائل الغاضبة، مرسلة من رجال، وأوثر أن أترك لغيري تعليل هذه الظاهرة الغريبة؛ لكن الذي يهمني من تلك الرسائل «الرجالية» هو أن أصحابها لم يقرءوا مقالتي التي جاءت رسائلهم تعليقا عليها؛ بل اكتفوا بقراءة ما كتب عنها؛ وذلك واضح من طريقة كتابتها؛ وعلى أية حال، فهذه الطريقة في الاكتفاء بملخصات مبتورة، دون الرجوع إلى الأصول في اكتمالها، قد أصبحت هي العادة السائدة في تعليمنا كله على اختلاف درجاته؛ كما أصبحت العادة السائدة في حياتنا الثقافية كلها، ففقرة واحدة من مقالة تغني عن قراءتها، وإشاعة تشيع عن كتاب تغني عن قراءة الكتاب، وإذا كان هذا أمرا عجيبا في حد ذاته؛ فأعجب منه أن أولئك الذين يكتفون من المقالة أو من الكتاب بلسمة خاطفة على طرف اللسان، لا يتحرجون من أن يقفوا مما قد خطفوه خطفا، لا موقف الناقد فحسب، بل موقف المهاجم المقاتل أيضا.
ولا علينا الآن من هذه القضية العامة الشاملة لحياتنا العلمية والتعليمية والثقافية والنقدية جميعا، وحسبنا أن نحصر أنفسنا في موضوعنا الراهن، فقد قلت إن الأغلبية الساحقة من أصحاب الرسائل رجال، وإن معظم هؤلاء الرجال - كما وضح من رسائلهم - قد اكتفوا بما كتب عن المقالة التي يهاجمونها بمثل ذلك الغضب، وأضيف الآن جانبا ثالثا لعله أعجبها جميعا، فقد أوردت في مقالتي رأيا لفيلسوف ألماني عن المرأة - هو شوبنهاور - وكان واضحا أني أوردته لأسخر منه، وذكرت أنه إنما رأى رأيه ذاك، صدورا عن مرارة في صدره ترسبت منذ نشب خلاف بينه وبين أمه؛ ومع ذلك أخذ السادة أصحاب الرسائل يعنفونني، فلماذا - كما قالوا - أستمد شواهدي من رجال أوروبيين، وكان أجدر بالكاتب المسلم أن يستمد شواهده من القرآن الكريم؟!
هذه واحدة، والأخرى هي أنني في ختام مقالتي أشرت إلى امرأة الجيل الماضي في نهضتها، قائلا إنها ألقت بحجابها في البحر عند شواطئ الإسكندرية؛ وكانت الإشارة أوضح من الشمس لمن يعرفون شيئا عن تاريخ الحركة النسوية في مصر؛ إذ من المشهور المذكور أن هدى شعراوي عند عودتها من رحلة لها بالخارج - وكان ذلك عقب ثورة 1919م - ذهب حشد كبير من النساء لاستقبالها في ميناء الإسكندرية؛ ولوحت لهن الزعيمة وهي على ظهر السفينة، ثم ألقت ببرقعها في البحر قبل نزولها إلى الشاطئ، فكيف فهم إشارتي تلك السادة أصحاب الرسائل؟ فهموها على أنها إشارة إلى لابسات «المايوهات» على الشواطئ، وراحوا يصرخون: كيف أعد مثل هذا العري إيذانا بدخول المرأة عصر النور؟ وربما لو كتب الرسائل نساء، لما وقعن في هذا المطب؛ لأنهن أعرف بتاريخ الحركة نحو تحرير المرأة.
ثالثا:
ذكرت في مقالتي شيئا عن تأثير ظاهر الإنسان في باطنه، بمعنى أن يكون لحركات الأبدان، ولأنواع الثياب تأثيرها على الحالة الشعورية الباطنية، فاستنكر أصحاب الرسائل هذا الذي ذكرته؛ وقد يكون لهم عذرهم في ذلك، إذا كانوا لم ينتبهوا إلى الفرق بين النظر إلى شيء معين في حقيقته الواقعة، والنظر إليه باعتباره «رمزا» يشير إلى معنى مقصود، فالثوب الأسود هو ثوب كغيره من الثياب، لكن إذا لبسته صاحبته لتعلن به حزنها على عزيز فقدته، كان من النتائج المتوقعة عندئذ أن يحدث ذلك «الرمز» أثره في حالتها الشعورية الداخلية، بأن يشيع في نفسها حزن حقيقي؛ وإنها لتقع في تناقض يلفت نظر الرائي، إذا هي لبست ثوب الحداد ثم سلكت سلوك الضاحك المرح السعيد، إن علم الدولة في حقيقته قطعة من قماش كأية قطعة أخرى؛ لكنها منذ اللحظة التي ترسم عليها الرسوم التي تجعلها علما للدولة، يصبح لها في نفوس أصحابها قيمة شعورية خاصة، بحيث إذا رأوا أحدا يعرضها للإهانة فقد لا يكفيهم في عقابه شيء أقل من الإعدام؛ إن الوشاح الذي يرتديه القاضي وهو على منصة القضاء، و«الروب» الذي يلبسه أستاذ الجامعة في قاعة المحاضرات، أو وهو في لجنة لامتحان طالب لإجازة الدكتوراة، مقصود به أن يشيع في نفس المرتدي شعورا خاصا يتلاءم مع الوظيفة التي يؤديها؛ ولقد شهدت يوما منظرا لا أنساه لبعد مغزاه، إذ شهدت فتاة كانت من قبل عاملة في خدمة أسرة معينة، وكانت إبان تلك الفترة لا يسمح لها أن تصحب الأسرة المخدومة، إلا وقد عصبت رأسها بمنديل من مناديل الرأس المعروفة، وكانت هذه هي العادة المصطلح عليها في معظم الأسر أيام أن كانت للأسر خادمات، وكان المقصود - بالطبع - هو أن يكون على رأس الخادمة ما يعلن للناس أنها خادمة؛ والمشهد الذي رأيته هو إحدى تلك الفتيات وقد نزعت منديلها ذاك بحركة عصبية في لحظة غيظ، وهي لحظة أنفت فيها أن تعلن على الملأ حقيقة وضعها، إنه ليس في منديل الرأس عيب يعاب، بل هو قطعة جميلة من ثياب المرأة المصرية، حين تتسق مع بقية الثياب، لكنه حين يكون رمزا يشير إلى معنى بغيض، فإنه يثير النفس، وقد يدفع لابسته إلى نزعه عن رأسها في غضب، كما فعلت تلك الفتاة عندما استيقظ وعيها.
والأمثلة في حياتنا لا سبيل إلى حصرها، لأشياء تختلف معانيها وهي مجرد أشياء لها طبائعها في واقع الأشياء، ثم وهي - بعد ذلك - مستخدمة على نحو رمزي يشير إلى معنى؛ ولم يكن أحد ليعلق بكلمة واحدة على قطعة من ثياب امرأة، اختارتها كما يختار أي إنسان ثيابه التي تلائم ذوقه؛ لكن الموقف يتغير إذا أريد بقطعة معينة من الثياب أن تكون رمزا له دلالته، وها هنا يبدأ السؤال.
لقد بدأت هذه الموجة المتحفظة مع شبابنا - ذكورا وإناثا - بعد نكسة 1967م، ثم أخذت في التضخم والاتساع حين وجدت من ينفخ لها النار؛ حتى أصبحت ظاهرة في حياتنا الاجتماعية، ولا أظن أن لها شبيها في بلدان أخرى كثيرة، والظاهرة التي أعنيها هي أن يكون الجيل الأكبر في معظم الأسر، أو قل في كثير منها، أقل نزوعا إلى تلك المحافظة من الجيل الأصغر، ففي حالات كثيرة نرى الأم سافرة وابنتها محجبة (بالمعنى الجديد لهذه الكلمة الذي هو غطاء معين على الرأس، يراعى فيه أن يحقق المعنى الرمزي الذي أشرت إليه). وفي حالات كثيرة أيضا ترى الوالد الحليق اللحية وابنه مرسلها على هذا النحو أو ذاك، وإنها لمفارقة شديدة في أي مجتمع، أن ترى الجيل الأصغر منه سلفيا بدرجة تزيد على الحد المألوف، وترى الجيل الأكبر منه أقل سلفية - في ظاهره على الأقل - من أبنائه وبناته! وإذا رأيت مفارقة كهذه كان من حقك أن تتأمل أبعاد الموقف في عناية؛ لأنه يكون في هذه الحالة موقفا ضد طبائع الحياة السوية؛ إذ المألوف من تلك الطبائع أن يميل الجيل الأكبر إلى الجمود، بينما يبحث الجيل الأصغر عن أجنحة يطير بها إلى المستقبل قبل أوانه إذا استطاع، أفليس هذا الوضع العجيب داعيا لسؤال، هو: ماذا حدث فأحدث في حياتنا الاجتماعية تلك المفارقة؟ والذي حدث - أولا - هو هزيمة 1967م، فنتج عن تلك الهزيمة - ثانيا - شعور قوي بالإحباط واليأس وانسداد الطريق أمام الشباب قبل سواهم، وظهر في الوقت نفسه - ثالثا - نموذج اجتماعي نقل إلينا عن آخرين، فوجد ذلك النموذج ترحيبا من الشباب اليائس؛ وقد نضيف عاملا رابعا، هو ثورات الشباب التي عمت العالم وبلغت ذراها خلال الستينيات في أوروبا وأمريكا بصفة خاصة، وفي أرجاء العالم بدرجات متفاوتة؛ فكان لتلك الثورة العقلية والنفسية صداها في شبابنا؛ لكنه صدى جاء عندنا ليعكس الترتيب الطبيعي للأوضاع كما هو شائع ومعروف؛ فبينما الشباب الثائر في البلاد الأخرى، كان يحتج على أوضاع الحياة الراهنة وبطء حركتها نحو المستقبل الجديد المأمول، رأينا ثورة شبابنا تحتج هي الأخرى على أوضاع الحياة الراهنة، وتدعو إلى عودة بها إلى نموذج السلف، ثم وجدت هذه اللفتة السلفية من يربطها للشباب بالدين، وهنا تأتي النقطة الرابعة التي سأجعلها الأخيرة.
رابعا:
أوردت الرسائل في سياقها آيات قرآنية كريمة، يستشهد بها أصحاب الرسائل، على أن فتور الهمة نحو العلم ونحو العمل في امرأة هذا الجيل، وميلها نحو العودة إلى البيت، ونحو أن تتحجب - أو على الأقل أن تضع على رأسها رمزا يشير إلى معنى الحجاب - هو أمر تحتمه الشريعة الإسلامية، وأقول إنه لو كان ذاك صحيحا، لكنت أول الداعين إليه؛ ولكن هل هو صحيح؟ أكانت تلك الشريعة معطلة حتى جاء شباب هذا الجيل ليعيدها إلى الحياة؟ إنني مهما تواضعت في قدر نفسي، فلا أظنني أصل بذلك التواضع درجة تحرمني من فهم الآيات الكريمة التي سيقت في الرسائل شواهد على ما أراده أصحابها؛ فالقرآن الكريم كتابهم وكتابي؛ وعند هذا القول أختم الحديث، ذاكرا قول الله - سبحانه وتعالى:
قل كل يعمل على شاكلته فربكم أعلم بمن هو أهدى سبيلا .
ردة في عالم المرأة «3»
كنت قد اعتزمت أن أمسك عن الكتابة إلى ما بعد الصيف! وذلك لأني شعرت بأن طاقتي قد استنفدت إلى آخر قطرة فيها، فباتت الراحة أمرا يفرض نفسه علي فرضا، ولكن حدث أمران أغرياني معا بأن أضع بين يدي القارئ كلمة قبل سفري إلى حيث أقضي أشهر الصيف لأستريح، أما أحد الأمرين فهو ما استباحته أقلام عن شخصي، بما أعتقد أنه أبعد ما يكون القول عن الحق وعن العدل، وأما الأمر الثاني فهو كثرة ما تلقيته من رجاء استئناف الكتابة، وإنما تلقيت ذلك الرجاء من أفراد لا يربطني بأحد منهم إلا ما يربط قارئا بكاتب، ولقد أحسست من نغمة كلماتهم - سواء جاءتني تلك الكلمات مسطورة في رسائل أم جاءت منطوقة في أحاديث تليفونية - بأنهم ربما أخذتهم خشية بأن يكون انقطاع كتابتي لم يكن بإرادتي.
ولأمر ما، وجدتني أردد لنفسي عبارة صيغت معي على غرار ما صاغ هاملت عبارته المشهورة «أكون أو لا أكون؟ ذلك هو السؤال.» لكنني بدلت من كلماتها لتجيء مطابقة لما كنت فيه، فأصبحت : «أكتب أو لا أكتب؟ ذلك هو السؤال.» ولم يكن الأمر مع هاملت ومعي مجرد لعب بالألفاظ على سبيل التفكه، كلا، بل كان جادا فيه عمق الجد ورزانته ورويته وهمومه وتبعاته، وذلك برغم الفارق البعيد في طبيعة الموقف بين هاملت وبيني، فهاملت حين عاد إلى وطنه من غربته، وجد أن أباه قد مات، ثم أخذته الوساوس بأن أباه إنما قتل غدرا بيد عمه، ليتزوج ذلك العم أرملة أخيه، وليتربع على عرش الدنمارك مكان أخيه، فلما استيقن الأمير الشاب - هاملت - بأن أمه وعمه مسئولان عن جريمة قتل أبيه، أخذته الحيرة الشديدة ماذا هو صانع إزاء موقفه ذاك المعقد العجيب؟ وهنا وردت عبارته: «أكون أو لا أكون؟ ذلك هو السؤال.» بكلمات أخرى: «أأحيا أو لا أحيا؟ تلك هي قضيتي.» وذلك لأن حياة الحي ليست مجرد شهيق وزفير بالرئتين، ونبض القلب وامتلاء المعدة بطعام وشراب، وإنما حياة الحي - إذا هو اختار لنفسه أن يحيا - إنما هي تبعات ثقال لا بد من حملها، منها واحدة تتصل بالموقف الذي وجد نفسه فيه، وأعني وجوب أن يثأر لأبيه، بغض النظر عمن يقع عليه الثأر، فقد يقع في هذه الحالة على عمه أو على أمه أو على كليهما، لأن المسألة هنا هي مسألة «العدل» قبل أي شيء آخر، وماذا تكون الحياة بغير عدل تقام له الموازين؟
وأما موقفي أنا، حين أخذت أردد لنفسي: أكتب أو لا أكتب؟ ذلك هو السؤال، فلم يكن فيه قتل ولا ثأر، لكن كانت فيه حيرة كحيرة هاملت، لا بين لفظتين، بل هي حيرة بين التصدي لتبعات الواجب مهما نتج عن ذلك التصدي من صعاب، وبين استرخاء خامل يضمن لصاحبه الدعة والعافية وراحة البال، فإذا اخترت أن أكتب، لم يكن معني ذلك - عندي - أن أسكب بالقلم قطرة مداد أنثرها في أسطر لا تغير من حياة الناس شيئا، إذا كانت تلك الحياة - باعتراف هؤلاء الناس أنفسهم - مليئة بجوانب فيها من الضعف ما يوجب لها أن تتغير، لا، إنني إذا اخترت الشطر الأول من اللامعادلة (أكتب أو لا أكتب) لم يكن معنى ذلك عندي إلا أن أكتب جادا، وصادقا، ومخلصا، لأكشف من حياتنا عما هو مختل معيب، ويريد له الناس أن يتغير، أو قل إنه كان يجب على هؤلاء الناس أن يريدوا له ذلك التغيير، وأما إذا وقع اختياري على الشطر الثاني من تلك اللامعادلة - وهو ألا أكتب - كان ذلك كفيلا لي بالسلامة والنجاة من الأذى، ولكنه في الوقت نفسه اختيار يجردني من أخص خصائص الإنسان، ألا وهو الضمير الحي، الذي لا يأذن لصاحبه أن يستريح، إذا هو أحس أن ثمة واجبا ينبغي له أن يؤدى لعل حياة الناس أن تصلح بأدائه. وأنا أسأل القارئ هنا سؤالا، وأكتفي منه بأن يجيب عنه في سره، وهو: هل صادفت في بلدنا مواطنا واحدا راضيا كل الرضا عما نحن فيه؟ وإذا كان جوابك بالنفي، قدمت إليك سؤالي الثاني، وهو: من الذي تقع عليه التبعة في أن يبرز أمام الأبصار والعقول مواضع الخلل، إن لم يكن هذا الابن أو ذاك من أبناء الوطن، وكل منا بحسب ما حباه الله من قدرة على الرؤية وعلى تشخيص العلة، وعلى وصف العلاج والمشاركة في أدائه إذا استطاع؟ وليس بي حاجة هنا إلى القول، ثم إلى تأكيد القول، بأن مواطنا ما، إذا هداه إدراكه إلى فكرة ما تختص بالكشف عن مواضع الضعف في بنياننا القومي، توطئة لبحثها ومعالجتها، ثم دفعه ضميره ألا يسكت عما رآه، فنشره بين الناس، أقول: إنه إذا رأى مواطن منا رأيا وأفصح عنه، لم يكن معنى ذلك - بالبداهة - أنه رأي محتوم الصواب، كما يكون الصواب محتوما في المعادلات الرياضية، وفي بعض العلوم الطبيعية، بل كان ذلك معناه أن الرأي المطروح هو ما أسعفت به قدرات صاحبه، وبعد ذلك يكون لكل مواطن آخر، إذا كان مؤهلا للبحث والنظر في المسائل العقلية، حق المحاورة والاقتراح، والتعديل، فالحياة لنا جميعا وهمومها، إنما تقع بأثقالها على عواتقنا جميعا، وليس الأمر في هذا حكرا لأحد دون أحد بحكم ارتفاع المنصب أو قوة الجاه.
وإذا كان هذا هو الضمير الحي وما يمليه على صاحبه، فما الذي جعلني أردد لنفسي تلك العبارة: «أكتب أو لا أكتب؟ ذلك هو السؤال.» فيم كانت حيرتي، ما دام الأمر أوضح من الشمس، وهو أن أي مواطن يهتدي إلى رأي يراه في إصلاح حياة الناس، ثم يدفعه ضميره إلى الإفصاح عن رأيه ذاك ليكون ملكا للجميع يناقشونه ويفكرون فيه لعلهم واصلون به إلى ما فيه الخير، أقول: فيم كانت الحيرة إذا كان ذلك هو حق لكل مواطن قادر، بل هو واجب على كل مواطن قادر؟
وجوابي هو: إن ما أوقعني في الحيرة، أو ما يشبه الحيرة، بين أن أكتب وألا أكتب، هو ما قد حدث بالفعل، حين نشرت رأيا منذ قريب، ولم يصادف ذلك الرأي قبولا عند طائفة من الناس، فلو كنا حقا نعرف للإنسان - أي إنسان وكل إنسان - حقه في حرية التفكير والتعبير، لاكتفى أولئك الرافضون للرأي المعروض بأن يفندوه، أوبأن يرفضوه في صمت إذا لم تكن لهم القدرة على إقامة الحجة دفعا لما يرفضونه، لكن الصورة التي جاء عليها رفض الرافضين، أظهرت في جلاء كيف يمكن في أي وقت أن تهدر حقوق الإنسان بيننا، فلم تكن صورة الموقف هي صورة مواطن يحاور مواطنا آخر في مسألة مشتركة بينهما، لكونها مسألة تدخل في شكل البناء الاجتماعي، بل كانت صورة الموقف هي أقرب إلى صورة الإعصار، أثاره المعارضون للرأي ونفخوا فيه، لعل صاحب الرأي يختنق به فيموت. وحسبي هنا أن أذكر جانبا واحدا من تلك العاصفة، وهو جانب أذكره، لا سعيا به نحو فائدة أرجوها لنفسي، بل أذكره بحثا عن حياة نحياها بحيث يأمن الإنسان محصنا بحقوقه، وهي حقوق فرضتها الديانات على الناس، قبل أن يعود الإنسان إلى فرضها من جديد، في الإعلانات الدولية عنها، والجانب الواحد الذي قلت إني سأذكره مكتفيا به هو أن بعض خطباء المساجد، استحلوا أن يشهروا بي علنا في خطبة الجمعة ذاكرين اسمي مشفوعا بصفات تدينه وتشينه، والسؤال الذي أطرحه على أصحاب الرأي من المواطنين، وبصفة خاصة رجال القانون، هو هذا: هل يجوز قانونا، وحماية لحقوق الإنسان، أن يتخذ خطيب المسجد من التشهير بمواطن معين باسمه، موضوعا لخطبته؟ ولنلحظ هنا أن الدولة، ممثلة في إحدى وزاراتها، هي المشرفة على المساجد، أو على أكثرها فيما أعلم، إنه لو جاء مثل هذا التغريض والتحريض مكتوبا في صحيفة أو كتاب، لكان أمام المتهم فرصة أن يرد دفاعا عن نفسه، ولكن كيف يتاح له هذا الرد والدفاع إذا جاء الاتهام على ألسنة خطباء المساجد، وأود أن أكرر القول بأنني لا أذكر هذا الجانب من جوانب العاصفة، سعيا وراء نفع لشخصي، بل أذكره ليكون بمثابة موضوع مطروح للنظر، من حيث هو موصول بمسألة حقوق الإنسان.
وقد كنت أرغب في أن أضيف إلى هذا الجانب الواحد من جوانب العاصفة جوانب أخرى، لا تقل أهمية وخطورة عنه في موضوع حقوق الإنسان كذلك، لولا أن مجال الحديث لا يتسع، فأقول على سبيل اللمح والإيجاز: هل من الحق والعدل أن تفتح الصحافة أبوابها لمن أراد أن يتهجم ويسخر ويشتم ويهين؟ وأن تغلق تلك الأبواب دون من أراد الموافقة والتأييد؟ ومرة أخرى أؤكد بأنني لا أستهدف بما أذكره هنا، فائدة لشخصي، بل الهدف هو «حقوق الإنسان» وكيف تصان؟ وهل يجوز أن يصادر على حرية الرأي والتعبير عنه؟ لا سيما إذا كان صاحب ذلك الرأي يحمل وراءه تاريخا طويلا شريفا نظيفا مجاهدا، ولا يبتغي من جهوده مالا ولا جاها؟ أقول: هل يجوز أن يصادر على حرية الرأي؟ والتعبير عنه في حالة كهذه؟ بأحكام تأتي من المناصب العليا؟ فتأتي إلى جمهور الناس وكأنها أحكام القدر؟ أو أن الحق والعدل كانا يقتضيان أن تتكافأ أهمية المناصب العليا التي أصدرت أحكامها مع دقة البحث والتقصي، والعناية في تحليل النص الذي هو مناط تلك الأحكام، حتى تجيء الأحكام إلى جمهور الناس مستندة إلى تحقيق دقيق، فتعلو بذلك كلمة الحق، وترسخ بذلك جذور العدل.
تساءل هاملت: أأكون حيا أو لا أكون؟ واختار الأولى - فوقعت عليه تبعاتها - وللحياة الحرة الكريمة تبعات، وتساءلت أنا بطريقته ، أأكتب أم أكف عن الكتابة؟ ما دامت تلك هي العواصف التي تثار لتعصف بمن كتب؟ وأنا أعني أن تؤخذ عبارة «من كتب» بحرفيتها؛ لأن الصورة التي كتبت داعيا لها، هي صورة قائمة بالفعل في مئات الألوف من المواطنات، من الوزيرة، والسفيرة، وأستاذة الجامعة، فنازلا إلى صغار الطالبات والعاملات، هي صورة متحققة بالفعل في تلك المئات من ألوف البشر الحي الذي تشهده الأبصار، ومع ذلك لم يقل أحد في ذلك شيئا، فلا خطباء المساجد خطبوا، ولا الصحف فتحت أبوابها لمن يهجم ويشتم، ولا المناصب العليا أنزلت أحكامها، لكن ذلك قد حدث لأنني كتبته، نعم! لقد تساءلت أمام العاصفة: أأكتب أم أكف عن الكتابة؟ ولم يطل بي التساؤل إلا قليلا، واخترت أن أكتب متحملا للكتابة تبعاتها.
وللكتابة تبعات، إذا أردتها، لا بمعناها الذي يبدأ بالقلم وينتهي بالقلم، بل بمعناها الذي يبدأ بعقيدة وموقف وهدف، لينتهي ذلك كله إلى قلم يجريه على ورق، ومن هذا المعنى تجيء التبعات، إذ الأرجح جدا أن يعرض الكاتب أفكارا ليست هي التي سادت وتواضع عليها الناس فناموا واستراحوا، وليكن معلوما أن الإنسان بطبعه ينفر من فكرة تغير من أوضاع حياته، إذا كانت تلك الأوضاع قد أراحت جنبيه، وهو بطبعه يتجنب بواعث التفكير؛ ولا عجب أن رأينا أساطير الأقدمين تنسب التفكير - عادة - إلى أصحاب الشر بكل صنوفه، أما الخيرون فهم الطيبون الذين يحيون بقلوبهم أكثر مما يحيون بعقولهم، والسر في ذلك كله خوف الناس من الفكرة الجديدة تأتيهم لتغير من حياتهم ما قد اطمأنوا إليه واستراحوا.
للكتابة المسئولة تبعاتها وهمومها، وقد اخترت أن أكتب، فإلى اللقاء بعد أشهر الصيف، إذا شاء الله لنا لقاء.
القسم الثاني
بشائر الفجر
أنت تنفخ في رماد
أحقا يا مصر أنت كما يقول عنك بنوك اليوم؟ أحقا إننا نوجه إليك النداء فلا تسمعين؛ لأن الموتى لا يسمعون؟ أحقا إننا إذا أردنا أن ننفخ في نارك لتنير كنا كمن ينفخ في رماد؟ أحقا أصابك هرم ليس بعده عودة لشباب؟ اللهم لا! لكن هذا القول أو ما يشبهه، هو الذي حملته إلي خمس رسائل في يوم واحد، وكانت الرسائل الخمس من خمسة أبناء، تفاوتت أقلامهم، وتباعدت مصادرهم، لكنهم تلاقوا عند نقطة واحدة، هي التعجب من رجل مثلي يحاول بقلمه ما أحاوله؟ ولو أوجزت ما قالوه في عبارة من عندي، لقلت إنهم مشفقون على هذا الكاتب الذي يتوهم أن كلماته ستذهب إلى أبعد من الورقة التي خط عليها تلك الكلمات! لكن لماذا؟ هكذا سألت نفسي غاضبا، ألأن كلماتي أضعف من أن تجاوز سن القلم؟ أم لأن آذان من سيتلقونها بها صمم؟ أما إذا كانت الأولى فكيف إذن بلغت كلماتي أصحاب تلك الرسائل ذاتها؟ وأما إذا كانت الثانية فبماذا تعلل أنهم نهضوا من فراشهم، وجلسوا إلى مكاتبهم، ونشروا أوراقهم، وحملوا أقلامهم، ثم كتبوا إلي ما كتبوه، وأخرج كل من جيبه بضعة قروش ليشتري بها طابع البريد الذي أرسل به الخطاب؟
وأعود إلى الرسائل الخمس مرة أخرى، وأعيد قراءة بعض سطورها فأجد أن أصحابها كأنما أرادوا أن ينفوا التهمة عني وعن أنفسهم جميعا، فلا الضعف في كلماتي، ولا الصمم في آذانهم، إنما العلة في «مصر»، وكأن مصر هذه لا هي هم، ولا هي أنا، بل هي شيء كالمسرح تدور عليه أحداث الرواية ونحن المتفرجون، والذي يلفت النظر في تلك الرسائل هو أن ثلاثا منها قد لجأت إلى بيتي الشعر القائلين:
لقد أسمعت لو ناديت حيا
ولكن لا حياة لمن تنادي
فنارك لو نفخت بها أنارت
ولكن أنت تنفخ في رماد
وكل الفرق بين تلك الرسائل الثلاث في ذلك وهو أن اثنتين منها اكتفتا بذكر البيت الأول، وأما الثالثة فذكرتهما معا.
تركت الرسائل أمام مبعثرة وأرسلت بصري - أو ما بقي منه - خلال زجاج غرفتي حيث النيل ينساب في هدوء وشموخ وكبرياء، أتدري ماذا كانت أول صورة مرت بخاطري؟ إنها صورتنا ونحن أطفال نلهو بعدسة زجاجية، نسلط عليها أشعة الشمس، فإذا ما تجمعت تلك الأشعة في بؤرة واحدة، أحرقت السطح الذي تجمعت عليه، إذا كان قابلا للاحتراق كقطعة الورق مثلا ؛ ولقد حدث لي ذات يوم أن لهوت بالعدسة مثل ذلك اللهو، مسلطا أشعة الشمس على يدي فلسعتها النار، ومثل تلك اللسعة أحسستها الآن، وكأن الرسائل الخمس حين اجتمعت في لحظة واحدة، تجمع منها لهب كلهيب النار، ومن تلك الصورة الأولى استدعيت صورة تالية، هي صورة ذلك المكان من قريتنا، الذي شهدنا أطفالا نلهو بالعدسة الزجاجية، حتى نحرق قصاصات الورق، وقد نشوي جلودنا معها. وأخذت الخواطر تغترف من ذكريات القرية ما تغترف، فلعل تلك القرية التي ولدت فيها، وقضيت بها بضعة الأعوام الأولى من حياتي، ثم إجازات الصيف كلما حانت، أقول لعلها كانت هي المخبار المركز الذي شهدت فيه نماذج التفاعل بين الناس، وما أكثر ما شهدته في ذلك المخبار، شهدت المحبة والعداوة، شهدت اللين والشدة، شهدت الرحمة والقسوة، فإلى جانب صورة الولد يحتضن أباه ليلوذ به من دواعي الذعر، رأيت صورة الولد الذي قتل أباه وهو نائم، انتقاما لنفسه من ظلم وقع عليه في قسمة الأرض بين إخوة منهم أشقاء ومنهم غير أشقاء، وإلى جانب الفتاة تطيع والديها في غير تذمر، رأيت الفتاة تعصي والديها اللذين أرادا إرغامها على زواج لا تريده، إلى الحد الذي ألقت معه بنفسها من سطح الدار لتسقط وقد فارقت الحياة أو فارقتها، وإلى جانب الجماعات التي رأيتها تلتقي لتصلح بين خصمين أو بين زوجين أو بين أسرتين، سمعت كذلك بجماعات جعلت مسلاتها تدبير المكائد. وهكذا كان مخبار القرية أقوى الينابيع التي استقيت منها خبرتي بالناس؛ وربما لو كنت سئلت وأنا بعد في سن المراهقة، أو بعدها بقليل: هل يمكن لهذه القرية بكل تناقضاتها أن تأتي عليها لحظة معينة فإذا بها حقا قرية موحدة تضم أسرة واحدة وأهدافها واحدة؟ لأجبت بأن ذلك بعيد الاحتمال، لكن استمع إلي في كلمة صدق أرويها.
إن قريتي تلك، التي ولدت بين أرضها وسمائها، وخبرت فيها ما خبرته على قصر الفترات التي عشتها فيها هي ميت الخولي عبد الله، وهي من قرى دمياط. ولقد لبثت من قرى الدقهلية حتى بلغت أنا من العمر خمسين عاما أو نحو ذلك، ثم اقتطع من الدقهلية جزؤها الشمالي ليكون محافظة دمياط، وبهذا انتقلنا نحن من صدر حنون إلى صدر حنون؛ وقد تذكر قريتنا في كتب التاريخ أحيانا باسم منية عبد الله، وحدث لي وأنا في العشرين تماما أن رغبت في القيام ببحث علمي أرصد به تلك الثورات الكثيرة المتناثرة في أنحاء مصر، ضد الوجود الفرنسي بمصر أيام حملة نابليون، ولجأت إلى أستاذنا المغفور له شفيق غبريال ليهديني إلى المراجع التفصيلية في ذلك، فبينما أنا أقرأ وأسجل، وإذا بعيني - وا فرحتاه - تقع على ثورة في الشمال الغربي من دلتا النيل، يقودها ويشعل نارها ويستبسل فيها أهل قرية تسمى ميت الخولي عبد الله!
فهل تصدقني إذا أنبأتك كيف طفرت من عيني دمعة؟ أين إذن ذهبت ضروب التنازع بين أهلها، التي لا بد أن قد كان منها يومئذ مثل ما هو فيها الآن؟ كيف اندمجت الجماعة في صوت واحد، وهدف واحد، وجهاد واحد، وروح واحدة؟ فيا أصحاب الرسائل الخمس، تلك هي مصر وهي في قريتها الواحدة كشأنها في واديها بأسره من شماله إلى جنوبه.
تلك واحدة وأخرى حدثت في الأعوام الأولى من الستينيات بفاصل زمني بين اللحظتين بلغ ما يقرب من أربعين عاما، وكانت الدولة وقتئذ تحتفل بانتصارات مصر التاريخية، كل في مناسبته، وبين تلك الانتصارات كان انتصارنا على الحملة الصليبية السابعة، التي جاءت إلى مصر من جهة دمياط، وعندما أخذت الهيئات المختلفة ولجانها المتخصصة تعد في أوائل الستينيات - كما ذكرت - للاحتفال بتلك الذكرى، كنت عضوا في لجنتين من لجان الفنون، إحداهما لجنة المتاحف والأخرى لجنة المقتنيات الفنية، وكان لكل من اللجنتين دور في الإعداد لذكرى انتصارنا ذاك؛ ففضلا عن اللوحات الفنية التي رسمها الفنانون لتلك المناسبة، أردنا إعادة النظر إلى دار ابن لقمان بالمنصورة، وهو المكان الذي سجن فيه الملك لويس التاسع بعد القبض عليه، فلما حددنا لأنفسنا يوما للذهاب إلى المنصورة في سبيلنا إلى غايتنا المنشودة، رأيت لنفسي أن أقضي بضع ساعات أطالع فيها تفصيلات ما وقع في تلك الحادثة التاريخية، وما كدت أقلب صفحة بعد صفحة حتى سبقتني عيني إلى سطر ورد فيه اسم قريتي ميت الخولي عبد الله؛ فقفزت إلى ذلك الموضع لأعلم أنه بينما كان لويس التاسع في طريقه من دمياط إلى حيث لا أذكر، ربما كان قاصدا إلى المنصورة، وأظنه كان ذاهبا بسفينة في النيل، أخذته الحمى، مما اضطر معه معاونوه إلى نقله إلى أقرب قرية ليستقر بها حتى يشفى، وكانت ميت الخولي عبد الله هي تلك القرية، وإلى هنا فلا فضل في ذلك للقرية وأهلها، لكن فضلها وفضلهم يبدأ من هنا، وذلك أن الملك المريض قد شملته الرعاية الإنسانية إلى آخر مداها، في المنزل الذي اختير له لينزل فيه، ولكن أهل القرية بينما كانوا يضطلعون بذلك الواجب الإنساني الذي لا تفرقة فيه بين عدو وصديق، لم يفتهم أن المريض هو نفسه قائد الحملة الصليبية التي جاءت غازية لبلادهم، وأنه إذا ما بلغ حد الشفاء من مرضه، عاد فاستأنف غزوته، فدبروا وتدبروا في روية وذكاء وعلى مهل، ماذا هم صانعون بذلك «الصيد» السمين؟ ولقد أحكموا خطتهم حتى إذا ما جاءت اللحظة المرتقبة، وجد الملك لويس التاسع، نفسه - برغم جنوده وأعوانه - أسيرا في أيدي المقاومة المصرية، وسيق إلى المنصورة حيث أودع دار ابن لقمان سجينا، إلى أن يقضى في أمره. قرأت ذلك فيما قرأته يومئذ، وأنا أتأهب للذهاب مع الزملاء إلى المنصورة، وأرجو أن يلتمس لي القارئ عذرا، إذا وجد هفوات في تفصيلات الرواية التي رويتها، فالذاكرة قد لا تسعف باليقين، لكن جوهر الرواية هو ما أردته هنا، وهو فرحتي بقريتي فرحة دمعت لها عيني هذه المرة أيضا، حين تمثلتها في تلك اللحظة التاريخية تدبر فتحكم التدبير وكأنها رجل واحد، وقلب واحد، وضمير واحد، وهدف واحد، وليس أمامها من هدف إلا مصر وعزة مصر.
لم تكن قريتي في وقفتها عندما أسرت لويس التاسع سنة 1250م، وحينما تزعمت ثورة على حملة نابليون بعد سنوات قليلة من وصولها، وكان وصولها في 1789م، إلى قرية من أربعة آلاف قرية، تتشابه كلها في جوهرها الأصيل ، وإن اختلفت فيما بينها بعد ذلك في مصادر الرزق أو في مظاهر السلوك، وذلك الجوهر الأصيل هو «مصر». ليكن بيننا من نوازع العيش ما يكون، لكن انظر إلينا في لحظات الحرج، التي هي اللحظات التي عندها تتبدى الأمة على حقيقتها أمة واحدة، لا اختلاف فيها بين إنسان وإنسان، انظر إلينا أيام الثورة العرابية، وانظر إلينا أيام ثورة سعد زغلول، وانظر إلينا أيام ثورة 1952م، وانظر إلينا أيام حرب 1973م، نعم، نعم، وانظر إلينا عند هزيمة 1967م، أما عن الثورة العرابية فقد سألت جدتي لأبي ذات يوم مازحا: كيف تعرفين عمر ولدك الأكبر؟ قالت أعرف ذلك من أني كنت عندما أهدهده وهو في عامه الأول، كنت أتغنى بقولي: «اللهم انصرك يا عرابي.» ومن هذه الإجابة الساذجة تظهر لنا حقيقة كبرى، وهي أن موجة وجدانية واحدة شملت الشعب بأسره، حتى بلغت أما ريفية وهي تغني لرضيعها، وتلك هي وحدة الشعب، في لحظة الحرج، وأما عن ثورة 1919م، فحسبنا تلك الإجابات الساذجة أيضا، التي كان الساخرون بنا والناقمون علينا، يتندرون بها، وهي الإجابات التي يرد بها الفلاح البسيط أينما كان، عندما يوجهون إليه السؤال أيام الانتخابات للبرلمان: تنتخب من؟ فيجيب أنتخب سعد زغلول؛ فمهما كان لتلك السذاجة من دلالات أخرى، فلها أيضا هذه الدلالة الصارخة، وهي أن موجة وجدانية واحدة تلف الأمة كلها ساعة الحرج؛ وأما عن ثورة 1952م عند الإعلان عنها، ثم عن هزيمة 1967م وبعدئذ عن حرب 1973م، فلست أطالبك أيها القارئ إلا بأن تلقي السؤال على نفسك أنت من باطن، لتسمع منها الجواب.
نتلقى أنباء القتال بلاغا بلاغا عندئذ ستجيبك النفس بجواب هو هو الجواب الذي تجيب به كل نفس مصرية على صاحبها إذا ما وجه إليها السؤال؛ وتلك هي مصر في وحدتها، في جوهرها، في قدرتها الفائقة على نسيان كل شيء عند الساعات الفواصل، إلا شيئا واحدا هو «مصر»، فيا أصحاب الرسائل الخمس، الذي حسبوني أنفخ في رماد، إنه هو ذلك الجوهر المصري النفيس الكامن في صدورنا جميعا الذي نتوجه إليه بالخطاب كلما أردنا استنهاض الهمم .
وأنتقل الآن من تلك الرسائل الخمس، التي عزفت كلها على وتر واحد، هو الوتر اليائس، ذلك اليأس الذي تظلم الدنيا في وجهه، فلا يرى نارا ونورا، بل كل ما يراه هو الرماد، أنتقل إلى رسالة سادسة أرسلها مهندس كان في رسالته بارع التصوير، لكنها براعة إن أنصفته أديبا يحسن التصوير، فهي لا تشفع له مهندسا يقيم العمران، فقد قدم في رسالته صورتين، يصور في إحداهما حالة اللامبالاة اليائسة التي شملت الناس، فيقول ما معناه: إن مجتمعنا قد بات شبيها بجماعة من الناس جلسوا على مقهى كل منهم مشغول بمشغلته؛ واحد يشرب قدح الشاي، وآخر يأكل الساندوتش، وثالث يتصفح جريدة اليوم؛ ثم يحدث أن يكون في المقهى زبون آخر، بلغ به الضيق بمشكلات حياته أن جاء ومعه مسدس وأخرجه وصوبه نحو دماغه لينتحر، لكن أحدا من الجالسين لم يأبه له، فجن جنونه من هذا الإهمال لشأنه فوجه مسدسه نحو الآخرين ليفتك بهم بعد أن كانت نيته بادئ الأمر أن يزهق روح نفسه. تلك صورة، وأخرى يصور بها سكان البيوت المتداعية في القاهرة وهي تعد بعشرات الألوف كيف يمسكون قلوبهم بأيديهم كلما سار قطار، أو اهتز الهواء بأي عامل آخر خشية أن تنقض منازلهم فوق رءوسهم، ثم يضيف السيد المهندس إلى صورته تلك رومانسية؛ إذ يضيف يأس المحبين من أن يجدوا شققا تحميهم؛ ليقيموا فيها حياة زوجية هانئة سعيدة.
وعن الصورة الأولى، صورة المقهى وزبائنه وحامل المسدس، أقول للسيد المهندس: ما الذي أثار الغيظ في صاحب المسدس الراغب في الانتحار حين رأى بقية الجالسين يستمتعون، كل منهم بما يمتعه، أحدهم يرشف من كوب الشاي ما يرشفه، وآخر يطعم بما يأكله، وثالث يقرأ الصحيفة ... ماذا في هذه المجموعة الهانئة مما يثير الغيظ لأنهم لم يتحركوا لإسعافه عند تصويبه لمسدسه نحو دماغه ... وهل صوب لينتحر أو صوبه لينقذه الآخرون؟ كنت أفهمك لو أنك جعلت سائر المجموعة الجالسة رجالا ضاقت نفوسهم هم الآخرون وطفقوا يشكو بعضهم إلى بعض سوء الحال. لكن العكس هنا هو الصحيح ، وهو أن الجالسين على المقهى كانوا آكلين شاربين قارئين هانئين، ومعذرة يا أخي لو قلت لك إن تصويرك هذا هو في حد ذاته دليل على ظلم الشاكي من حالة مصر الحاضرة أكثر منه دليلا على وجاهة الشكوى، وللأسف هذا هو ما أراه وأسمعه في كثير جدا من معارض الشكوى في مثل هذا المجال. وأما عن الصورة الثانية التي قدمتها عن البيوت المتداعية وأزمة الإسكان فأنا الذي أسألك وأنت مهندس: ما هو الحل الذي تراه يا أخي؟ إن الظلام دامس، وهذا صحيح، ولكن لو وقف الناس جميعا يلعنون الظلام ولا يفعلون شيئا، فواجب المهندس لكونه مهندسا، أن ينصرف بجهده بحثا عن مصباح يزيح به ذلك الظلام.
حياتنا مليئة بالمشكلات، لكنها مشكلات لا تندرج كلها في صنف واحد، فمنها مشكلات ممكنة الحل لولا أننا مقصرون في الإرادة أو في الجهد أو في حسن التدبير، وفي هذه الحالة إذا زعق فينا زاعق منا حاثا على جمع العزيمة وبذل الجهد وإحكام التدبير، فلا ينبغي أن يقال له: خل عنك، فأنت تنفخ في رماد، ومنها مشكلات عسيرة الحل، وتتطلب صبرا مقرونا بالعمل الدائب على تذليل الصعاب، وفي هذه الحالة لا يجوز إثارة القلق والفزع؛ لأن ذلك لا يحل من الإشكال شيئا، وأما الضرب الثالث من المشكلات فهو ذلك الذي يطلب المستحيل، وهنا يكون العيب عيب الشاكي لا عيب المشكلة في ذاتها، وإنه ليبدو لي أن أصحاب الرسائل الخمس البائسة يقعون في الضرب الأول، وأما المهندس فهو بمشكلة الإسكان يقع في الضرب الثاني، وبمشكلة المجنون حامل المسدس يقع في الضرب الثالث، ولكن هؤلاء جميعا يا مصر: من يئس منهم ومن شكا، من صرخ منهم ومن صمت، من تندر منهم ومن سخر، هؤلاء جميعا يا مصر هم بنوك وهم مخلصون، فإذا جد جد وناديت سترينهم يفعلون ما فعلته قرية عرفتها وانتميت إليها، حين أسرت ملكا فخما ضخما جاء بحملته ليغزو أرضها، وحين أشعلت ثورة على قائد أفخم وأضخم جاء هو الآخر بحملته وفي حسابه أن يستهين بحرماتها ، فقري يا مصر عينا بأبنائك؛ من رضي منهم ومن سخط، ومن رفع الصوت منهم ومن صمت، فهم جميعا بنوك وهم مخلصون.
تعالوا نفكر بأبجدية جديدة
هذا الكوكب الأرضي بيتنا، وذلك الكون الفسيح من حولنا كتابه مفتوح الصفحات أمام أبصارنا، ولنا في بيتنا حق العيش كما نريد لأنفسنا أن نعيش، شريطة أن نحمل تبعات ما أردناه، أمام ضمائرنا وبين يدي الخالق جل وعلا، يوم الحساب، ثم علينا أن نقرأ حقائق الكون في صفحاته المفتوحة، ما وسعتنا القدرة، وما أسعفتنا الحيلة؛ وذلك لأن الحقائق لم تفصح عن نفسها في تلك الصفحات، بل لجأت إلى الرمز والإيماء، وتركت للناس أن يقرءوها كما يحلو لهم أن يقرءوا، وبالطريقة التي يطيب لهم أن يسلكوها، ولو كان المسطور في كتاب الكون معلنا في وضوح صريح، لما اختلفت العصور المتعاقبة في قراءته، لكنها اختلفت.
سار الإنسان على طريق الحياة، يطوي طريقه مرحلة بعد مرحلة، بدأه صيادا لطعامه، ثم كان راعيا يتنقل مع قطعانه إلى حيث المرعى، ثم أصبح زارعا مستقرا عند زراعته، ثم أمسى صانعا يشكل مواد الأرض على أي صورة يشاء، وكانت حقائق الكون معروضة أمامه على طول الطريق بمختلف مراحله، ولكن كانت له في كل مرحلة طريقة يقرأ بها ما يراه ويسمعه، فلم يكن إدراك صياد المرحلة الأولى، ليدرك الكائنات كما أدركها من بعده الراعي، ولا كان متاحا للراعي أن يرى رؤية الزارع، ولا اقتضت ضرورات الزراعة من فلاح الأرض كل ما أصبحت ظروف الصناعة تقتضيه من إنسان الصناعة في يومنا الراهن، وإذا شئت فقل: إن هذا الكون قصيدة كبرى، تنشدها العصور واحدا بعد واحد، فيكون لكل عصر تأويله لما يقرؤه، وللشعر قابلية التأويل على أوجه ليس لها نهاية، كان لكل مرحلة قيسها وليلاها، وكان قيس في كل مرحلة يغني بما تطرب له ليلاه.
نعم، قد تداخلت تلك المراحل بعضها في بعض، فصياد الحيوان في المرحلة الأولى عرف كيف «يصنع » لنفسه من الحجر سكينا، كما أن في عصر الصناعة هذا لا يخلو الأمر من صيد ، لكن الحكم على العصور إنما يكون على أساس الغلبة والروح السائدة، وعصرنا - بغير شك - عصر صناعة وعلوم، ولكن بطريقته الخاصة في صناعاته وعلومه، كان له أبجدية يفكر بها غير أبجديات العصور السابقة، فهل علينا من حرج إذا دعونا من لم يتعلم تلك الأبجدية الجديدة منا، أن يتعلمها عسى أن يفتح عليه الله فيدخل عصره من أوسع أبوابه، بعد أن كان خارج الأسوار مقعدا، يقنع بالأصداء الغامضة تأتيه من ثقوب تلك الأبواب؟
مأساتنا هي أننا لا نكاد نحيا في عصرنا إلا بجسومنا، وأما عقولنا فمتلكئة هناك مع أهل عصور ذهبت وذهب زمانها، نعيش في عصرنا بأشباحنا وأما أرواحنا فهائمة هناك في أرض غير أرض زماننا، وتحت سماء ليست هي السماء التي تظل زماننا، إننا بالنسبة إلى عصرنا نعيش خارج أسواره، وحتى إذا أراد لنا الله عزيمة للدخول، أمسكنا بأيدينا المفتاح المغلوط الذي لا تنفتح به الأبواب، تلك هي مأساتنا، وأما مأساة المأساة فهي أننا لا نشعر ببرودة الغربة، ولا نحس لسعة الحرمان.
فهل تريد أن تعرف ماذا هناك داخل الأسوار وخلف الأبواب؟ اسمع يا سيدي - إذن - وصفا أمينا، أستعين فيه بما رواه أولئك الذين يعلمون عن العصر وروحه واتجاهه ولفتاته ما لا علم لنا به، ولكن قبل أن أسوق إليك ما أريد لك أن تعرفه، أراه لزاما علي أن أسبق السياق لأقول إنه لا ينبغي لنا أن نأخذ عن الآخرين أخذ القردة حين يحاكون ما يرونه حركة حركة، بل إن العصر كما يعرفه صانعوه من أهل الغرب، تنقصه جوانب لا بد من إضافتها إليه، لكي يجيء الإنسان إنسانا سويا، ومن حسن الحظ أن تلك الجوانب المراد إضافتها إلى إنسان العصر، لينجو مما أصابه من تمزق وقلق ويأس وميل إلى العنف والشر، هي هي نفسها البضاعة التي بين أيدينا نحن أبناء الثقافة العربية كما ورثناها، ومن عجب أن ثقافتنا العربية هذه، لم تعد تصلح وحدها لمن أراد أن يعيش في هذا العصر بظروفه المستحدثة من علوم وصناعات، وكذلك ثقافة العصر كما تسود الغرب في يومنا، لا تصلح وحدها إذا أراد الإنسان أن يحيا حياته سليم النفس متفائلا، وسأذكر تلك الجوانب التي أعنيها، بعد أن أعرض الموجز الذي سوف أعرضه وصفا لروح العصر وجوهره.
فهنالك دعامتان أساسيتان، يقوم عليهما بنيان الحياة في عصرنا هذا، الأولى هي العلوم بصورتها التقنية الجديدة (وسأتناولها بشيء من الشرح والتوضيح)، والثانية هي أن تقام الأخلاق، وأعني معايير السلوك في تعامل الناس بعضهم مع بعض، على ما ينتج عنها من منفعة، لا للفرد الواحد، بل للصالح العام (وسأتناول هذا الجانب أيضا بالإيضاح)، هاتان هما الدعامتان الأساسيتان في بنيان الحياة العصرية، ونظرة واحدة إلى حياتنا - وحياة الأمة العربية في جملتها - تكفي لنتبين منها أننا لا نحن نفكر بالمنهج الذي من شأنه أن ينتج علوما من النوع الذي يتميز به عصرنا، ولا نحن نسلك في حياتنا العملية مسالك من شأنها مراعاة المصلحة العامة.
ولنبدأ بشرح النقطة الأولى في إيجاز، فأقول: إن الحياة العملية في مراحل تاريخها، لم تنهج نهجا واحدا امتد بها ومعها طوال ذلك التاريخ، بل كان ذلك النهج يتغير كلما تغيرت طبيعة الموضوع الذي شغل به العلماء، كل مجموعة منهم في عصرها الخاص. نعم، إن ما هو حق من الناحية العلمية هو حق دائما، وإذا لم يكن كذلك، فإنما يكون أصحابه قد تساهلوا مع أنفسهم حين زعموا له الصواب على أساس علمي، لكن الذي حدث، والذي يحدث، وسيظل يحدث، هو أن الإنسان في عصر ما، حين يصب فكره العلمي على موضوع معين فإنه - بالطبع - لا يلم إلا برقعة ضيقة، هي رقعة الموضوع المعين الذي اختاره لبحثه، فهو لا يستوعب في لحظة واحدة كل ما يمكن أن يكون ذا صلة بعيدة بموضوع بحثه؛ ومن هنا نرى نتائجه العلمية تتعرض للقصور، عندما تأتي الأيام المقبلة بمشكلات تمس ذلك الموضوع الذي كان العلماء قد فرغوا منه في عصرهم، وعندئذ لا يتسع أبناء الزمن الجديد إلا أن يعيدوا النظر، لعلهم يجدون نتيجة علمية أوسع نطاقا في تطبيقها من النتيجة السابقة، بحيث تشمل النتيجة الجديدة ما كانت شملته سالفتها، ثم تشمل كذلك الجوانب الأخرى التي استحدثت مع مر الزمن، فأرسطو أيام اليونان القديمة، حين تحدث عن حركة الأجسام - مثلا - لم يكن قد شمل بنظرته تلك الجوانب التي شملتها نظرة جاليليو بالنسبة لحركة الأجسام، وأيضا لم تكن نظرة جاليليو - بدوره - قد شملت ما جاءت نظرة عصرنا الحالي لتشمله من حركة، إذا أضاف عصرنا إلى أسلافه، النظر في حركة الكهارب داخل الذرة الواحدة، وهكذا كان أرسطو مصيبا، ولكن في دائرة بحثه، ثم كان جاليليو مصيبا أيضا، ولكن في دائرة بحثه، وجاءت نظرة عصرنا لتصيب في دائرة أوسع وأشمل، ومن يدري ماذا تكون نظرة الغد إلى الموضوع نفسه، حين تظهر ظواهر توجب على العلماء أن يوسعوا رقعة النظر من جديد على أن العلم كلما وسع من مجال النظر، ليجيء بفكرة علمية جديدة، تشمل ما لم تشمله الأفكار العلمية السابقة، قد يضطر إلى انتهاج منهج جديد غير المنهج الذي كان أسلافه قد اصطنعوه في بحوثهم، حتى ليمكن القول - بصفة عامة ومبسطة - إن العلم قد استخدم في تاريخه ثلاثة مناهج، كل منهج منها جاء في عصره ليسد نقصا في المنهج الأسبق. ولاحظ بدقة أنني لا أقول إن منهجا ما كان «خطأ» في عصره وفي مجاله؛ بل أقول إنه «قصر» دون أن يشمل رقعة أوسع، وإذا أردت تشبيها موضحا، فقل إن الإنسان في رؤيته البصرية للأشياء، يستخدم عينيه المجردتين، ثم يتبين له أن عينيه لم تريا إلا في حدود معلومة، إذ قد يكون هناك خارج المجال البصري، ما هو أبعد من أن تراه العينان، وما هو أصغر من أن ترياه، فيستحدث نوعين من المناظير لتغطية أوجه النقص، نوعا منهما يقرب البعيد (التلسكوب) ونوعا آخر يكبر الصغير (الميكروسكوب) فيرى الإنسان ما لم يكن يراه، لكن هل يعني ذلك أن العين البشرية في مرحلتها الأولى قد «أخطأت» الرؤية؟ كلا، فقد رأت ما رأته رؤية صحيحة، لكنها لم تكن كافية، وهكذا شأن المناهج العلمية حين يكمل بعضها بعضا على تعاقب العصور.
أقول إن الإنسان قد عرف في مراحل تاريخه العلمي ثلاثة مناهج متعاقبة، أحدها صيغت نظريته وقواعده على أيدي اليونان الأقدمين، وهو الذي يطلق عليه اسم منهج «القياس» بمعنى أن الباحث فيه يستخلص نتيجة (لفظية) من مقدمات (لفظية كذلك)، وكان منهج القياس هذا هو الذي أخذه العرب السابقون وهم في عز نشاطهم العلمي، من علوم اللغة، إلى الفقه، إلى العلوم الطبيعية والرياضية، وهكذا لبثت السيادة المطلقة معقودة لمنطق القياس في مجالات النظر العلمي، طالما كان مدار العلم «كلاما» من نوع أو من آخر، وطالما كان المطلوب من العالم هو أن يستخرج كلاما من كلام، أعني أن يستخرج لفظا من لفظ آخر.
فلما جاءت المرحلة التي يسمونها ب «النهضة» الأوروبية، وكان ذلك في نحو القرن السادس عشر، وجد المشتغلون بالعلم أن الذي أصبح مطلوبا هو قراءة ظواهر الطبيعة قراءة مباشرة، لا أن يقرأ عنها في كتب الأولين، فأحسوا عندئذ بضرورة تقنين منهج علمي جديد، يقوم على أسس مختلفة عن الأسس التي كان منهج القياس يقوم عليها، ففي مكان المقدمات اللفظية التي كانت توضع في الصدارة، ليستخرج الباحثون مضموناتها، أصبح المطلوب هو «مشاهدة» ظواهر الكون ذاتها، بالعين أو بما يساعد العين من مناظير مقربة أو مكبرة، وبذلك ولد منهج علمي جديد، كان مداره هو الكشف عن مواضع الاقتران بين الظواهر، حتى إذا ما وجدت ظاهرتان مقترنتين دائما إحداهما بالأخرى، عد هذا الاقتران بينهما قانونا من قوانين الطبيعة، يستخدم في التنبؤ العلمي؛ لأنه إذا وقعت إحدى الظاهرتين؛ توقعنا حدوث ما يقترن بها.
ودار الزمان دورته، وجاء القرن التاسع عشر، فجاءت معه رؤية جديدة للكون وظواهره، كما جاءت معه «قدرة» جديدة، فأما الرؤية الجديدة فكان مؤداها أن كل شيء - جمادا أو حيوانا - إنما هو كائن ذو تاريخ، أي أن حقيقته كامنة في تسلسل ما طرأ عليه وما سوف يطرأ عليه من أحداث يتطور معها من حال إلى حال، وأما القدرة الجديدة، فهي اصطناع «الأجهزة» العلمية في إجراء البحوث العلمية، إذ لم يكن الإنسان قبل ذلك قد استخدم من هذه الأجهزة إلا القليل، بل الأقل من القليل، وماذا تصنع تلك الأجهزة؟ إنها تفعل ما تفعله الحواس الطبيعية في جسم الإنسان، ولكن بدقة أكثر، وبهذا العنصر الإضافي الجديد، دخل العلم في أكناف منهج جديد، وذلك هو أدق المعاني لكلمة «تكنولوجيا»؛ إذ هي كلمة تعني - حكما بمقطعيها اللذين تتكون منهما - «علم بواسطة الأجهزة». ثم حدث أن كان من نتائج العلم القائم على هذا المنهج، أن تمت صناعات آلية كثيرة، كالطائرة والسيارة والثلاجة وهلم جرا، فانتقل استخدام كلمة «تكنولوجيا» من كونها اسما للمنهج الجديد، إلى كونها أيضا اسما لمنتجات ذلك المنهج.
ولعلك بعد هذه الصورة الموجزة لتطور مناهج البحث العلمي، تستطيع أن تدرك بعض الأبعاد التي نقصد إليها، حين نقول إن إحدى الدعامتين الأساسيتين لعصرنا، هي علوم قامت على أجهزة وأدت إلى صناعة أجهزة. وننتقل الآن إلى الدعامة الخلقية، والتي قلنا إنها تركز على «المنفعة» الناجمة عن الفعل، بشرط أن يفهم من هذه الكلمة تلك المنفعة التي تعم فتخدم المصلحة العامة.
وكشأن الفلسفة في كل عصورها، تجيء دائما انعكاسا للمناخ الثقافي والحضاري السائد، جاءت فلسفة الأخلاق عند القوم، أصحاب حضارة العصر بعلومها الجديدة وتقنياتها، جاءت الفلسفة لتبلور روح عصرها، فقالت ما خلاصته: إن قيمة الفعل تقاس بنتائجه، لا بمصادره، أي إنها تقاس بغده لا بأمسه، وهنالك عاملان يعملان على تشكيل الناس تشكيلا يتسق مع هذه الوجهة للنظر، هما القانون من ناحية، والرأي العام من ناحية أخرى، فكلا هذين العاملين، بما يقدمانه من ضروب الثواب والعقاب، ينتهيان بالفرد من الناس إلى أن يدرك كم هو في حدود المستطاع أن تلتقي منفعة الفرد مع منفعة المجموع، إننا لا نطالب الأفراد بتضحية منافعهم من أجل أحد، بل نطالبهم بأن «يتفهموا» مصالحهم على وجهها الصحيح، وإذا هي فهمت على هذا الوجه الصحيح رأيتها متفقة آخر الأمر مع صالح المجموع، إذ ماذا يجدي كسب الملايين عن طريق الجريمة، أو نهب حقوق الآخرين، إذا كان من شأن ذلك أن ينهدم البناء الاجتماعي على رءوس ساكنيه، سواء منهم من كسب حراما ومن اغتصبت حقوقه ليتحقق ذلك الكسب الحرام لأصحابه؟ إنه يجب أن يكون مفهوما أن الأثرة لا تتناقض مع الإيثار، وأن رعاية الفرد لمصالح نفسه، قد تكون هي نفسها رعاية لمصالح الجميع، وإذا كان الأمر كذلك، وجب أن تتجه تربية النشء في اتجاه هذا الهدف.
وقد تسألني: أليس العصر كما يعيشه الناس في الغرب هو أكثر من هاتين الدعامتين اللتين ذكرتهما: دعامة العلوم وتقنياتها، ودعامة الأخلاق بالمعنى الذي يجعل قيمة الأفعال مرهونة بنتائجها لا بمصادرها؟ وأجيبك: نعم، هي أكثر جدا من هاتين الدعامتين، فهنالك فنون شتى من طراز جديد لم تعهده العصور السابقة، في الموسيقى، والتصوير، والشعر، والرواية، والمسرح، والعمارة، وهنالك نظم سياسية واجتماعية واقتصادية قد لا تكون استمرارا حرفيا لما كان قائما إبان القرن الماضي وما سبقه من قرون، لكن هذه الجوانب كلها - إذا أمعنت فيها النظر - وجدتها نتائج تلزم بالضرورة عن قيام العلوم وتقنياتها بصورتها الجديدة، وعن لفتة الأخلاق تلك اللفتة التي لا أقول إنها جديدة، وإنما هي لفتة قائمة في الحياة العملية إلى حد كبير، ولا يلزمنا تجاهها إلا أن نوجه إليها الأنظار.
إن تركيزنا على نتائج الأفعال، لا على مصادرها وأسانيدها، معناه أن نستوثق دائما، كلما قمنا بضرب من ضروب النشاط، أو حكمنا على مناشط الآخرين، من أن ذلك النشاط مؤد إلى تحقيق الأهداف، أهداف من؟ إنها - كما أسفلنا - أهداف صاحب الفعل بالنسبة لنفسه هو، ولكنه بحكم تربيته، سيجعل تلك الأهداف الشخصية مؤدية إلى تحقيق الأهداف القومية، ومن الذي يضع للقوم أهدافهم القريبة والبعيدة، وعلى أي أساس توضع تلك الأهداف؟ الجواب: يضعها الشعب بالرأي المباشر، أو بالرأي محمولا على ألسنة نوابه، وأما على أي أساس توضع، فها هنا تتبدى الفوارق بين شعب وشعب؛ إذ يعمل كل شعب على أن تكون أهداف حياته متفقة مع تراثه الذي هو قوام هويته وشخصيته.
وعند هذه النقطة لا بد لنا من القول إننا إذ أشرنا إلى دعائم العصر الجديد بثقافته وحضارته، لم نكن نعني أن نحاكي ما هناك محاكاة القردة - كما أسفلت القول - بل ينبغي علينا ألا ننسى مقوماتنا نحن، دون أن نتنكر للإطار العصري لا لشيء إلا لأنه عصري، والحق أن أمامنا في مجال الإضافة الشخصية مجالا واسعا، وذلك أن حضارة العصر وثقافته، كما هما قائمتان بالفعل في أوروبا وأمريكا، قد ثبت أنهما يطغيان على نفوس الأفراد، حتى ليكادان يطمسانها طمسا، ومن هنا أخذهم القلق والسأم وشعور الاغتراب؛ لكن من هنا أيضا نشأ عند القوم أنفسهم ما يحدث التوازن المفقود، وذلك باصطناع الفنون في اتجاهاتها الجديدة؛ لأنها بتلك الاتجاهات تبرز الاهتمام بالجانب الذاتي الصرف للفنان. وكذلك نشأت الفلسفة الوجودية، لتقر في أذهان الناس حق الفرد في اتخاذ القرار، ليكون بحق إنسانا حرا ومسئولا، فالفلسفة الوجودية بمعالجتها لبعض ما يترتب على سيادة العلوم وتقنياتها، هي في الوقت نفسه برهان على قيام تلك السيادة، التي هي أبرز معالم العصر، وفي هذا القول مني، رد على أولئك الذين يحتجون علي، كلما قلت عن فلسفة العصر إنها أساسا فلسفة تخدم العلوم، بقولهم: وهل نسيت الفلسفة الوجودية التي ليس لها شأن بالعلم؟ نعم هي هناك، وهي في ذاتها برهان سلبي على أنه عصر تسوده العلوم وملحقاتها.
وأخيرا قد أسمع صوتا يعاتب: أهكذا نحن كما وصفتنا، غرباء على العصر ومقوماته؟ أليس فينا العلماء أشكالا وألوانا، ومنهم من بلغ من العلم حدا لا ينكره إلا جاحد؟ جوابي هو: نعم وألف نعم لرجالنا النوابغ في مجالات العلم والفن جميعا، ولكن العبرة آخر الأمر إنما هي بالجمهور، بالرأي العام، بالمناخ السائد، بوجهة النظر العامة، فعلماؤنا النوابغ، ورجال الفن منا، على ارتفاع قدرهم، قد تراهم هم أنفسهم - خارج حدود علمهم وفنهم - مع عامة الجمهور في الروح ووجهة النظر، وها هنا تكمن المأساة.
نريد أن نقرأ الحياة الجديدة بأبجدية جديدة، قوامها روح العلم الجديد ومنهجه الجديد، ولن يكون لنا من عصرنا ذلك النصيب الذي يتناسب مع مجدنا ومكانتنا في التاريخ، إذا نحن قنعنا بالحفظ والتسميع والتطبيق لما يبدعه الآخرون، نريد أن «نسهم» في الإبداع الحضاري الجديد بسهم منظور ، وليس إسهاما أن ننقل عن القوم علومهم حتى ولو حفظناها حفظا عن ظهر قلب، وأن ننقل عنهم أجهزتهم وتقنياتهم، حتى لو بلغنا الغاية القصوى من مهارة تشغيلها، أو حتى مهارة محاكاتها ب «تجميع» للأجزاء نجريه على أرضنا؛ فإذا كانت الأبجدية التي ألفناها هي أبجدية الحروف والكلمات والنصوص والمحفوظات والمسموعات، فإن الأبجدية الجديدة قوامها أجهزة ومكنات وصناعات ومغامرات في كشف المجهول، وإذا كان أهل الغرب قد قصروا في المحافظة على «نفوس» الأفراد و«قلوبهم» فدورنا نحن - ارتكازا على تراثنا وعقائدنا - هو أن نعلمهم كيف يمكن المشاركة في مقومات العصر كلها، مع الحفاظ على إنسانية الإنسان.
نماء وانتماء
العلاقة اللفظية بين «نمى» و«انتمى» - حتى وإن لم تكن اللفظتان من أصل لغوي واحد - تغريني بأن أقيم رباطا سببيا وثيقا بين شعور الكائن الحي بالانتماء لبيئة معينة من جهة والعوامل التي ساعدته على النمو - من جهة أخرى - وبعبارة أخرى: أقول إن الكائن الحي إنما ينتمي - بمحض فطرته - إلى حيث يجد الظروف مواتية لنمائه؛ وإذا كان الأمر كذلك فليس انتماء المصري إلى مصر - مثلا - بحاجة منا إلى «وعظ» (كما نفعل الآن) بقدر ما هو بحاجة إلى أن نوفر للمصري عوامل النمو والازدهار في بلده، فينتمي هو بعد ذلك مدفوعا بفطرته.
ذلك أن انتماء الكائن الحي إلى بيئته أمر فرضته الحياة نفسها، ولا فضل لنا فيه؛ فلقد استطاع علماء البيئة أن يضبطوا الرابطة بين أنواع الكائنات الحية وبيئاتها ربطا تمكنوا به من أن يستدلوا أحد هذين الطرفين من الطرف الآخر، بمعنى أننا لو عرفنا تفصيلات البيئة كان في وسعنا أن نستدل منها تفصيلات الكائن الحي الذي يعيش فيها، وكذلك لو عرفنا تفصيلات الكائن الحي المعين كان في وسعنا أن نستدل منها في أية بيئة يحيا.
وإذا كان ذلك كذلك بالنسبة إلى صنوف الأحياء على اختلافها فهو يصدق أيضا على الإنسان، لولا أن هذا الإنسان يضيف إلى تلك الرابطة الطبيعية بين البيئة وكائناتها الحية - نباتا وحيوانا وإنسانا - عوامل تزيدها قوة ورسوخا؛ إذ هو يضيف إلى الألفة الفطرية حبا واعيا يدفعه إلى خدمة وطنه ورعاية ذلك الوطن والقتال من أجل حمايته والسعي إلى تقدمه ما استطاع إلى ذلك من سبيل. فالإنسان وحده - دون سائر الكائنات الحية في علاقاتها ببيئاتها - هو القادر على «التضحية»، وهو على وعي بتلك التضحية من أجل وطنه الذي نشأ فيه، أي إنه هو وحده القادر على أن يجعل الأولوية للوطن على المواطن لإدراكه أن أبناء الوطن يولدون ويموتون، يجيئون ويذهبون، وأما دوام الوجود فهو للوطن الذي إليه ينتمي هؤلاء الأبناء.
على أن هذا الانتماء إلى رقعة بعينها من الأرض، إذا كان أمره موكولا في جزء كبير منه إلى الفطرة، التي قد لا تفرق في هذا الصدد بين إنسان وحيوان ونبات، فهنالك ضرب من الانتماء ينفرد به الإنسان، وأعني به الانتماء الثقافي الذي يدخل به الفرد في مجموعة متكاملة من الأفكار والقيم والأعراف والتقاليد، يحيا بها وتحيا به، فهل تظل - على مدى أعوامه - تسري في حناياه، حتى تتحول عنده إلى وجود غير محسوس، كأنه الهواء يتنفسه وهو لا يراه، ومن تلك المجموعة التي يسري كيانها في كيانه، يصبح الفرد منتميا إلى حيث ينمو، كأن يصبح المصري مصريا، ثم تتسع دوائر انتمائه، كلما اتسع نطاق تلك المجموعة من الأفكار والقيم والأعراف والتقاليد، ومن هنا يكون المصري في وقت واحد مصريا عربيا إسلاميا أفريقيا إنسانيا، على أن ما أريد له أن يكون واضحا هو أن الإنسان حين ينتمي إلى ثقافة بعينها، بما يصاحبها من قيم وأفكار، فهو إنما ينتمي إلى ما يزيده نماء وازدهارا، مؤكدا العلاقة القوية بين تنمية الإنسان وانتمائه، فهو ينتمي إلى حيث ينمو.
وعند هذا الموضع من سياق الحديث، أذكر سؤالا ورد إلي من قارئة جامعية، ألقت به على ضوء خبرة كابدتها في التدريس، وكأنها أحست من خبرتها تلك، صعوبة أن يتشكل المتعلم على نحو ما يريد له القائم بتعليمه، فتسأل في ختام رسالتها: من هو «المعلم» الذي نحن بحاجة إليه، وما دوره في التنمية؟ وإنني لأجيب على هذا السؤال إجابة مجملة أولا ، ثم أنتقل إلى تفصيلها. وأما الإجابة المجملة فهي أننا بحاجة إلى معلم قادر على تنمية تلميذه - أي على تربيته - بحيث يؤهله لأن ينتمي إلى الدوائر المتدرجة التي نريد لأنفسنا أن ننتمي إليها وهي دوائر - على تعددها وتدرجها - لا بد لها أن تتبلور في قطبين، أولهما هويته القومية، وثانيهما هو العصر الذي يعيش فيه، وأنتقل بعد هذا الإجمال إلى تفصيل.
لقد أسفلت القول بأن الإنسان «ينتمي» إلى حيث «ينمو» وفي هذا الضوء يتحول السؤال المطروح علينا ليصبح سؤالا كهذا: كيف نوفر ظروف النماء للمواطن لكي ينتمي؟ وكأني بالسؤال وهو في هذه الصورة يرسم لنا طريق الإجابة؛ إذ ما علينا إلا أن ننظر في عالمنا المحيط بنا، لنرى كيف تقدم من تقدم، وكيف تخلف من تخلف، فإذا ما وقعت على العناصر التي تكفل لصاحبها صعودا على السلم الحضاري كان لنا في تلك العناصر نفسها ما يحقق لنا هدفين في وقت واحد، هما: التنمية والعصرية معا، فيبقى علينا بعد ذلك أن ننظر في الطريقة التي يتشرب بها أبناؤنا وبناتنا تلك العناصر دون أن تصاب هويتنا القومية بالمسخ والتشويه.
فما الذي يميز - في عصرنا هذا - بلدا نما وارتقى وأسهم في إقامة الصرح الحضاري، الذي هو نفسه «العصر»، بحيث إذا غابت تلك الخصائص المميزة عن بلد آخر، عد متخلفا أو - على أحسن الفروض - عد واحدا مما يسمونها بالبلدان «النامية»، التي هي لا تزال في طريقها تسعى نحو أن تنمو وترتقي وتسهم في البنيان الحضاري بنصيب. هنالك جوانب تميز البلد الأرقى، ليست موضعا لاختلاف الرأي، من أهمها أن البلد الذي حقق النمو، هو ذو «علم» وما يلحق العلم من تقنيات (تكنولوجيا)، وإن درجة العلم وتقنياته لتزيد مع كل بلد دقة وتقدما، أو تنقص، بحسب درجات «النمو» المتفاوتة، وبهذا المقياس يكون البلد المتخلف، أو الذي هو لا يزال في طريقه يسعى لينمو حتى يبلغ حدا يؤهله للدخول في عصره أخذا وعطاء، أقول إن أهم علامة تميز بلدا كهذا، هي فقره، فيما يقدمه من «إبداعه» إلى دنيا العلم والتقنيات، وأكرر «من إبداعه»؛ وذلك لأنه قد يكون في البلد المتخلف أو «النامي» علم وعلماء لكنه - في هذه الحالة - علم منقول وعلماؤه حفظة لما ينقلونه عن المبدعين؛ وكذلك قد تجد في مثل ذلك البلد المتخلف أو النامي عددا من أبنائه مهروا في استخدام التقنيات العصرية، لكن تلك التقنيات هي من إبداع الآخرين، بل ويحدث في حالات كثيرة، أن تكون تلك القدرة على تشغيل التقنيات، قد جاءت نتيجة للتدريب الذي تولاه أولئك الآخرون.
وكذلك لا اختلاف في الرأي على فارق آخر يميز بلدا نما، عن بلد في طريقه إلى بلوغ تلك الدرجة من النمو، وهو حالة «التعليم» كما وكيفا، ففي البلاد التي نمت بالفعل لا وجود للأمية في أبنائها، وأما الأخرى التي هي في طريقها تسعى، ترى الأمية جاثمة على عقول أبنائها بدرجات متفاوتة، تزيد هنا وتقل هناك، ذلك من حيث الكم، وأما من حيث الكيف، فيمكن إيجاز الفرق بين النوعين، بقولنا إن التعلم عند الأولين ينتهي بالمتعلمين إلى قدرة على الابتكار، وأما في النوع الثاني فيكاد يقف بالمتعلمين عند مجرد الحفظ الأصم والمحاكاة.
وفارق ثالث بين المجموعتين، وهو فارق ربما يكون ناتجا عن صفة الابتكار التي ذكرناها، هو أن بلاد النوع الأول، أسرع خطى في حركة التغير من بلاد النوع الثاني، فأبناء المجتمعات الأولى لا يترددون كثيرا في تغيير ما يرونه في حياتهم معوقا للسير نحو الهدف المقصود، في حين أن أبناء مجتمعات الصنف الثاني يوشكون أن يجعلوا لتلك المعوقات أولوية على تحقيق الأهداف، وقد يبدو هذا القول منطويا على مفارقة تشكك في صوابه، لكنه مع ذلك قول صحيح، وتظهر لنا صحته إذا ذكرنا أن تلك المعوقات، في كثير جدا من الحالات، هي نفسها الرواسب التي بقيت من ماض ذهب زمانه ولكن تلكأ منه في نفوس الناس شيء من قداسة وأريج، فإذا رأيت الناس يعارضون في تغييره، فاعلم أنهم لا يصنعون ذلك من حيث هو حائل يحول دون التقدم، بل يصفونه من حيث هو ماض له في نفوسهم سحر وتمجيد .
وهذا نفسه ينقلنا إلى فارق رابع، بين من تقدم من الشعوب ومن جمد، وأعني به نظرة كل منهما إلى تمجيد الماضي كيف يكون. أما الأولون فيرون أن ذلك التمجيد إنما يكون بالسير على منهج الأسلاف، في أن يغيروا ويتغيروا ليسيروا من حاضر استنفد أغراضه إلى مستقبل جديد، وأما الآخرون فيرون التمجيد في أن يبقى الماضي على حاله، ليكون الحاضر في نسخة ثانية من ذلك الماضي، ثم ليجيء المستقبل نسخة ثالثة، وهلم جرا، وبعبارة أخرى أقول: إن «الزمان» عند الصنف الأول من الجماعات لا بد أن يكون له معناه، ومعناه هو أن يجيء اللاحق مختلفا عن السابق، وأما جماعات الصنف الثاني، فالأغلب فيهم أن يسقطوا من حسابهم الزمان وفعله، فليس لديهم ما يمنع أن يظل كل شيء على صورته التي كان عليها إلى أبد الآبدين.
وهذا الفرق بين الجماعتين، هو نفسه الفرق الذي نشأ حين تنبهت جماعات الصنف الأول إلى فكرة «التقدم»، ولم تتنبه إليها جماعات الصنف الثاني، اللهم إلا أن تردد كلمة «تقدم» وكأنها تردد لفظا أفرغ من معناه، وما معناه إلا أن يكون الحاضر - حتما - أفضل من الماضي، وأن يكون المستقبل - حتما كذلك - أفضل من الحاضر. ولعله مما يثير دهشة من تفوته دقة المعاني أن يقال له إن فكرة «التقدم» هذه حديثة حداثة أوروبا في صورتها الجديدة، بعد النهضة، وأما قبل ذلك، فقد كان معيار الكمال عند الأوروبيين، كمعيار جماعات الصنف الثاني اليوم، وهو أن يبحث عن الكمال فيما «كان» لا فيما سوف يكون.
ثم نضيف فارقا خامسا إلى الفوارق التي ذكرناها بين النوعين من الجماعات، وهو هذه المرة فارق خاص بالفرد وموقفه من المجتمع الذي هو عضو فيه، وإنه لفارق تترتب عليه نتائج كثيرة بعيدة المدى في أثرها على صورة الحياة، ومن أهم تلك النتائج صورة الحكم، والعلاقة التي تصل الحاكم بالمحكوم، فبينما الرأي المأخوذ به في تسيير الحياة عند الصنف الأول من الجماعات هو - في الأعم الأغلب - حاصل جمع الآراء التي بيديها أفراد الشعب، ويتمثل ذلك الحاصل في عملية التصويت عند اتخاذ القرار، أو عند انتخاب من ينوبون عن الشعب في المجالس النيابية، يكون الرأي المأخوذ به في تسيير الحياة عند الصنف الثاني هو - في حقيقة الأمر - لرجل واحد، أو لعدد قليل من أصحاب النفوذ.
وبعد أن عرضنا طائفة من أوجه الاختلاف بين النوعين من الجماعات بين تلك التي تمت لها التنمية بالفعل (والأمر هنا نسبي) من جهة، وتلك التي لا تزال في طريقها تسعى، من جهة أخرى، فإن سؤالا يطرح نفسه علينا هو: أهي ضروب من الاختلاف، مستقل أحدها عن بقيتها، أم هي ضروب من الاختلاف، لو تعمقناها لوجدناها تلتقي كلها عند جذر مشترك، أنبتها جميعا كما تنبت فروع الشجرة من جذورها؟ والجواب عندي هو الترجيح بأن يكون البديل الثاني هو الأقرب إلى الصواب. وإذا كان الأمر كذلك، فإن سبيل الإسراع لعمليات التنمية في البلاد التي لم تقطع من طريق التنمية إلا شوطا قصيرا يكون أيسر منالا؛ إذ ما علينا في هذه الحالة إلا أن نبدل من شجرة الاختلافات الثقافية جذرها، فتتبدل على مر الأيام فروعها. والأرجح عندي أن يكون ذلك الجذر الذي منه انبثقت ضروب الاختلاف بين بلاد تقدمت وأخرى تخلفت، إنما هو منهج النظر، سواء أكان ذلك في مجال التفكير العلمي، أم كان ذلك في مجال الحياة على نطاقها الواسع والتبديل المطلوب إجراؤه في ذلك المنهج، ليلحق البلد المتخلف بالبلد المتقدم، هو أن تستمد المعرفة من قراءة الطبيعة قراءة مباشرة، بدل أن نقرأ ما كتبه السلف، فإذا وجدنا أنفسنا أمام مشكلة اجتماعية أو اقتصادية أو كائنا ما كان نوعها، فالمنهج الصحيح هو أن نقابل تلك المشكلة في واقعها الحي لننظر في طريقة حلها حتى إذا ما وصلنا إلى الحل، وسئلنا كيف عرفتم أن ذلك هو الحل الصحيح أشرنا إلى الواقع الفعلي الذي استندنا إليه، بدل أن نأخذ حلولنا من كتابات تركها لنا الآباء، وأن نشير إلى تلك الكتابات كلما أردنا إقامة الدليل على صحة ما نقدمه من حلول للمشكلات.
إلى هنا كان اهتمامنا فيما أسلفناه موجها نحو تحليل الخصائص الأساسية التي لا بد من زرعها في عقولنا ونفوسنا، لكي يتاح لنا أن ننمو نموا ينبع من الباطن، ولا يقتصر على كونه محاكاة آلية من الظاهر، وبقي علينا أن نسأل: وماذا عسانا أن نصنع لنتحول من الداخل، تحولا نستبدل به اتجاها باتجاه، ومزاجا بمزاج، ومنهجا بمنهج؟ والجواب على ذلك هو ضرورة أن يتغير كثير جدا من المضمون الثقافي والفكري الذي نحياه، وأن تكون وسيلتنا إلى ذلك التغيير التعليم من ناحية والإعلام من ناحية أخرى.
ولا يكفي في هذا الصدد أن يقال لمعاهد التعليم ولوسائل الإعلام عليكما بالثقافة والفكر الشائعين في حياتنا، فغيرا منهما لتجعلاهما وسيلتين للتنمية، ثم لتجعلاهما - بالتالي - وسيلتين للانتماء؛ لأن الإنسان - كما أسلفنا - إنما ينتمي إلى حيث يجد النماء، بل لا بد لنا أولا، أن نكون على بينة واضحة، ما الذي نعنيه بالثقافة وبالفكر، حين نطالب لهما بوجوب أن يتغير منهما شيء كثير، عن طريق التعليم، ووسائل الإعلام؛ وذلك لأن «الثقافة» و«الفكر» لفظتان من تلك الألفاظ، التي يستبيح كل إنسان لنفسه أن يخلع عليهما ما شاء له من معنى، فيحق لنا بدورنا أن نتناولهما بالتحديد والتوضيح، لتظهر لنا من تلقاء نفسها تلك العلاقة الوثيقة القائمة بين الثقافة والفكر من ناحية والتنمية بكل جوانبها، من ناحية أخرى، وإذا قلنا عن بلد إنه ينمو ويزدهر، فقد قلنا كذلك إن ثمت إمعانا من أبناء ذلك البلد في حب الانتماء إليه.
ولنبدأ ب «الثقافة» نحدد معناها في أوجز عبارة ممكنة، لنعقب عليها ب «الفكر» نحدد له معناه، فنقول: إن الإنسان يتحرك في حياته العملية والنظرية معا، على درجتين تتواليان صعودا، ويتوازى معهما طريق يأتي منه التوجيه الذي يهتدي به صاعد الدرجتين، وأما هاتان الدرجتان، فالسفلى منهما هي التي يحدث عندها تجميع المعلومات المتفرقة عن المجال الذي يقضي فيه الفرد المعين شئون حياته، وأما الدرجة العليا فهي التي يحاول عندها الإنسان أن يستخرج من تلك المعلومات المتفرقة تعميمات وتبلغ هذه التعميمات ذروتها على أيدي رجال العلوم عندما يستخرجون قوانين العلم التي على منوالها تحدث الأحداث.
لكن الإنسان بعد أن تجتمع لديه أكداس من المعلومات المتفرقة عن دنياه، ثم يجتمع لديه كذلك عدد كبير من قوانين العلم في المجالات المختلفة، تواجهه مشكلة الاختيار بين ما قد تجمع لديه من ذلك كله، فماذا يفعله وماذا يكف عن فعله، فهو - مثلا - قد عرف فيما عرف، كيف يفجر البارود، وكيف يستخرج الطاقة من الذرة لكنه بحاجة إلى مقاييس تبين له متى يجوز تفجير البارود، أو تفجير قنبلة ذرية، ومتى لا يجوز، فأين له بتلك المقاييس؟ ها هنا يأتي دور الطريق الذي يوازي الدرجتين المتصاعدتين، ففي ذلك الطريق يوجد ما نسميه بالقيم، وهي التي تحدد للإنسان ما يجوز له فعله بالمعلومات التي جمعها، وها هنا يكون ذلك الشيء الذي نطلق عليه اسم «الثقافة».
على أن للثقافة جانبا ثانيا غير مجموعة القيم الهادية للإنسان في اختياره لما يفعله، وأعني به جانب «الفكر»، الذي يقصد به طائفة من أفكار ذات طراز فريد، إذ هي أفكار لا تندرج تحت أي علم من العلوم، ثم هي في الوقت نفسه ليست من نوع «القيم» التي نستمدها من مصادرها الثلاثة الرئيسية، التي هي: الدين، والفن، والأدب، فهي أفكار من قبيل: الحرية، والعدالة، والمساواة، والديمقراطية، الوطنية، التذوق الفني، فهي كما ترى معان لها خطورتها البالغة في حياة الناس، ثم هي في الوقت نفسه مما يتعذر تحديده؛ ولذلك تعددت فيها التأويلات عند مختلف المفكرين.
وإذا ضممنا مجموعة القيم إلى مجموعة الأفكار التي من هذا القبيل الذي ذكرناه، تكونت من حصيلة الجمع بينهما ثقافة الفرد المعين، وفي هذه الحصيلة عند صاحبها، تكمن القوة الدافعة له بأن يفعل شيئا معينا ويحجم عن فعل شيء آخر.
وفي ضوء هذه التحليلات، أعود إلى السؤال الذي وجهته القارئة الجامعية تسأل به عن نوع المعلم الذي نحن بحاجة إليه، وماذا يكون دوره في التنمية؟ فأقول إن المعلم الذي يحقق لنا آمالنا هو الذي يستطيع أن ينفذ إلى «الثقافة» الكامنة في أفئدة تلاميذه، والتي هي مستقاة من حياتنا الجارية كما هي واقعة، أن ينفذ إلى تلك الثقافة الكامنة، فيغير منها، في جانبيها جانب القيم وجانب الأفكار التي لها قوة التوجيه، بحيث يصبح ما يضمره الناشئ في نفسه من تلك القيم والأفكار دافعا له نحو حياة عصرية في إطار هويته المصرية العربية، فإذا تحقق له ذلك التغيير وجدنا شبابنا يتجه إلى الابتكار والإنتاج وعلمية النظر وديمقراطية العلاقة بينه وبين مواطنيه - وذلك بحكم عصريته - ثم وجدنا ذلك الشباب في الوقت نفسه مشدودا إلى قوميته، منتميا إليها بدفعة طبيعية؛ إذ التنمية والانتماء صنوان، فهما بمثابة السبب ونتيجته.
إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، فنسأل: ومن الذي يغير ما بأنفسنا؟ وكيف؟ ونجيب: الذي يغيره هو التعليم والإعلام، وذلك بما يدخلانه من تعديلات في رؤيتنا الثقافية؛ إذ هي تعديلات تتجه بنا نحو أن ننمو - بأوسع معاني التنمية، كما تتجه بنا - بالتالي - نحو أن ننتمي.
مثقف يحاكم نفسه
لست أومن بالخوارق، اللهم إلا ما يدخل منها في نسج الدين، واسم الخوارق يطلق على ما يخرق قوانين الطبيعة كما رصدها الإنسان في علومه، أي إنني بعد أن أومن، أعمق إيمان يستطيعه بشر، بكل ما قد أوردته مصادر عقيدتي الدينية من تلك الخوارق؛ فإنني لا أتبرع من عندي بخارقة أخرى أضيفها، وأقول ذلك لأنني أعلم بأن التاريخ كله لم يعرف قوما اكتفوا بما جاءتهم به أصول ديانتهم من معجزات جاوز بها أصحاب الرسالات حدود ما ألفه الناس من ظواهر، فكانوا يضيفون من عندهم أشياء أبدعها لهم محض خيالهم، على وهم منهم بأنه كلما زادت خوارق الطبيعة في عقيدة دينية، ازداد البرهان قوة على صدق تلك العقيدة، ويفوتهم في هذا الصدد أن اطراد قوانين الطبيعة - لا خرقها - هو معجزة المعجزات، إلا ما شاء الله.
لا، لست أومن بالخوارق يتبرع بها الخيال البشري مما يبدعه هو، ثم يزعم لها صدق اليقين، لكن العقل وأحكامه - في ذلك وفي غير ذلك - شيء، ودفعة الوجدان للإنسان، وهو مضغوط بعوامل المواقف في واقع الحياة شيء آخر، فربما أيقنت مع العلم الحديث بأن أحلام الإنسان لا تنبئ بغيب لم يولد بعد، وإنما تعيد أصداء مما قد وقع بالفعل في حياة الحالم، لكنني برغم يقيني ذلك؛ قد أجدني أميل بمشاعري - كلما رأيت حلما ذا مغزى - نحو أن أقرأه قراءة مستقبلية، ولعلي بذلك لا أريد حرمان نفسي من قدرتها على اختراق حجب الغيب، حتى لا أكون أقل شفافية من أنفس الآخرين.
ومن هذا القبيل ما حدث لي ليلة أمس، فقد جاءني في الحلم طيف صديق عزيز، توفي منذ بضع سنوات، والحق أنه كان بيني وبينه تلك الرابطة التي يصفو معها إخلاص الأصدقاء، والفرق بين صداقة وصداقة في ذلك الصفاء، هو أبعد مما بين القطبين، جاءني طيف ذلك الصديق الذي عرفت في صداقته كيف يكون الصديق، فرأيته مكفهر الوجه، غاضبا عاتبا، وبادرني بسؤاله في نبرة حادة، قلما عهدتها فيه أيام أن كان، قال: أين ذهبت بأوراقي التي تركتها عندك وديعة؟ فسألته بدوري، والدهشة تملأ نفسي: أي أوراق؟ قال: ألا تذكر تلك الورقات القليلة التي أعطيتك إياها لتتولى عني نشرها في الناس؟ قلت له: صدقني، إنني لا أذكر من كل ذلك شيئا. قال: ألا تذكر حين زرتك في ساعة متأخرة من الليل، وأيقظتك من نعاسك؛ لأترك معك غلافا أصفر، طالبا منك - وأنا في لهفة العجلان - أن تنوب عني في نشره في لحظة مناسبة؟ لقد سألتني: وماذا به؟ فأجبتك بأني أحسست دنو الأجل، فأخذت أحاسب نفسي ماذا قدمت يداي في حياة أشرفت على السبعين، ثم عن لي أن أخط ملامح سريعة مما دارت به خواطري في ذلك، لعلها تنفع الغافلين.
سرحت بالذاكرة في الحلم، وطيف الصديق لم يزل هناك في غضبه وعتابه، ثم قلت: لعل ظلالا خافتة تعود إلي الآن، وإذا كان غلافك الأصفر ما يزال بين أوراقي، فأعترف لك بأني لم أقرأ ما فيه، ونسيته نسيانا تاما. فقال في صوت مرتفع: انهض الآن وابحث عنه. حاولت التخلص ، لكنه عاد إلى صياحه، وأخذ يهزني هزا شديدا: قم الآن، الآن، وابحث عن الغلاف واقرأ ما فيه، وانشره إذا توسمت فيه ما ينفع الناس. وبهذا القول ذهب عني خدر النعاس، واستيقظ وعيي دفعة واحدة، وها هنا شعرت وكأنني أمام قوة غيبية لا أملك ردها، ونهضت من فراشي وكان الوقت بعد منتصف الليل بقليل، وليس من عادتي أن أترك فراشي قبل فلق الفجر، مهما تكن الدواعي، أما هذه المرة، فقد أحسست بقوة دافعة، ولم يكن في وسعي إلا أن أستجيب.
انتقلت إلى غرفة مكتبي، ووقفت أنكت رأسي بأصابعي، لعلي أعين الذاكرة على هدايتي إلى مكان الغلاف الأصفر، ولبثت نحو ساعة، أنظر في ورقة هنا، وفي ورقة هناك، أقرأ واحدة وأمزق أخرى، وأتسلل ببصري بين الأضابير بحثا عن غلاف أصفر، وشاء لي الله أن أفتح ظرفا كبيرا منتفخا بما حوى، لأرى ماذا به، فإذا الغلاف الأصفر يلمع بين الأوراق. أخرجت من الغلاف محتواه، وهو تسع ورقات صغيرة، وبعد أن قرأتها - وهي بغير عنوان - لم أجد أمامي اختيارا إلا أن أحقق لصديقي بغيته بنشر ما كتبه، وربما كان آخر ما جرى به قلمه قبل أن يدهمه المرض فالموت، وأضفت العنوان من عندي، وهو العنوان الذي تراه على رأس مقالتي هذه: «مثقف يحاكم نفسه»، وهاك ما كتبه، أنقله كما وجدته، وقد لا أتفق معه في كل شيء، وحسبي أن أشاركه في الاتجاه العام، كتب يقول:
لقد سمعتني أخاطب نفسي ذات ليل طويل أعتم، شبيه بموج البحر كليل امرئ القيس، تغمرني منه موجة في أثر موجة، وكأنه موج لم تكن له بداية ولن تكون له نهاية، وكأن ذلك الليل - مرة أخرى كليل امرئ القيس - قد أرخى سدوله علي بأنواع الهموم ليبتلي، ولئن كنت لا أعرف شيئا عن هموم امرئ القيس ماذا كانت، فقد كنت أعرف همومي في ليلتي تلك، وما همومي ليلتئذ إلا ضمير يتأرق، ويلهبني بعذابات سوطه، جزاء وفاقا، على ما فرطت فيه أو أفرطت.
نعم، سمعتني أخاطب نفسي قائلا: ها قد دنوت من الأجل، فماذا صنعت - يا نفسي - بعمرك الطويل؟ أعطاك الوهاب عقلا وقلبا وبيانا وقلما، فماذا فعلت بكل هذه؟ انفتحت عيناك على حياة أكثرها نفاق وكذب، وستتركين الحياة وشيكا، وهي - كما وجدتها - مليئة بالنفاق والكذب، وعيت - يا نفس - إذ وعيت على حياة خاملة راكدة، وسترحلين والحياة كعهدك بها، خاملة راكدة، فماذا صنعت أنت بعمرك الطويل؟ رأيت - يا نفس - أرباب الفكر والقلم، أول ما رأيتهم، يقيمون الشهرة على حبة من الجد تجاورها حبات من الدجل، وستغمضين العين وأرباب الفكر والقلم كما وجدتهم أول مرة، يقيمون الشهرة على حبة من هناك وحبات من هنا، فماذا صنعت أنت - يا نفس - بعمرك الطويل؟ أعلم أنك تواضعت فتواريت، وكأنك لا تدركين أنك بين قوم لم يذكروا التواضع مادة في دستورهم، فكان أن حسبت الصغار كبارا. وأنفقت عمرك عابدة لأصنام وسترحلين - يا نفس - صغيرة تعبد الأصنام.
فأجابتني النفس قائلة: وماذا كنت تريدني أن أصنع؟ إنني كلما هممت ببذل الجهد ردتني خيبة الأمل؛ إن بضاعتي - كما تعلم - هي كلمات، وقد أصبحت أشك في أن يكون للكلمة تلك القوة التي زعمها من زعم، لقد قالها هاملت حين همس لنفسه مزدريا: كلمات، كلمات، كلمات؟ وكأنه أراد أن يضيف إلى ذلك قوله: وماذا تجدي الكلمات؟ فما أسهل علينا أن نتكلم، وكذلك ما أسهل على من نتجه إليه بكلامنا أن يضع إصبعين في أذنيه.
فقاطعت نفسي قائلا لها: لا، لا تلقي بالتهمة على الكلمات وعجزها، وما هي بعاجزة أن تصنع المعجزات، ليست الكلمات مدادا منثورا على ورق، بل الكلمات أفكار، وبالأفكار شق الإنسان أجواز السماء حتى جاوز موقع الشمس، الكلمة فكرة والفكرة وعي وإدراك وخلق، في البدء كانت الكلمة، رسالات السماء جاءت إلى الإنسان في كلمات، الكلمات هي التي تفجرت في حياة الإنسان ثورات نفضت عنه الغبار ليستقبل حياة جديدة، كانت الثورة الفرنسية هي كلمات فولتير وقد تفجر بارودها، وكانت كل ثورة - صغيرها وكبيرها - بمثابة انفجار للقوة الكامنة في كلمات، لقد كانت كلمات شهرزاد سحرا في مسمعي شهريار فأمسك عن سفك الدماء ليستمع ، الصلاة كلمات، والتسبيح كلمات، والشعر كلمات، والغناء كلمات، فبالكلمات عبد العابد، وبالكلمات أنشد المنشد فانتشى واشتعل وجدانه ... لا يا نفس، ليس العيب في الكلمات إذا جاءت من أفواه قائليها مشحونة بالصدق والعزيمة والنية الخالصة لوجه الحق، وإنما العيب هو في كلماتنا نحن التي قالها فينا أصحاب اللسان والقلم؛ لأنها في كثير من حالاتها جاءت باردة هامدة منافقة كاذبة.
ومضيت في حديثي إلى النفس، مجيبا لها عن سؤالها: وماذا كنت تريدني أن أصنع؟ كنت أريدك - يا نفس - أن تلتزمي ما تعاهدنا عليه منذ الصبا.
أتذكرين؟ أتذكرين ونحن معا في مطارح الغربة نتلفت حولنا، فنرى لكل فرد من ملايين الأفراد قدرته وكرامته وعزة نفسه؟ أتذكرين يوم رأينا معا ذلك الصف الطويل من الرجال والنساء، كل ممسك بصحنه في يده، يتقدمون خطوة بطيئة بعد خطوة بطيئة ليصلوا إلى حيث وجبة طعامهم وشرابهم، فلمحنا في الصف خادما ووزيرا، والخادم في دوره يسبق دور الوزير، فلا الوزير أقلقه أن يقف وراء الخادم، ولا الخادم أخافه أن يقف أمام الوزير، أتذكرين؟
أتذكرين ما قلته لك عندئذ: إنه حتى لو حدث في بلادنا أن رضي الوزير بموقفه من الصف، لما رضي له الخادم، وإذا نحن ترجمنا هذا الكلام بمقياس أوسع، لقلنا إنه حتى لو رضي صاحب السلطة في بلادنا بأن يلزم حدوده تجاه الشعب العامل، لما رضي ذلك الشعب العامل إلا أن يفسح له الطريق. أتذكرين يا نفسي كيف تعاهدنا عندئذ أن نحاول التغيير بكل ما في وسعنا من جهد وجهاد؟ فماذا صنعت، وها نحن قد بتنا قاب قوسين من الأجل؟ إن شيئا لم يتغير، لا على يديك ولا على يدي أحد سواك؟ فما تزال كتلة الشعب تعالج أمورها كما كانت تعالجها منذ أمد طويل.
ومرة أخرى أجابت النفس: وماذا كنت تريدني أن أصنع، فهل أزحزح الجبل؟ إنك تعلم، كما أعلم، أن الخطوة الأولى في سبيل التغيير، هي أن يشعر الناس بوجوب أن يتغيروا! فماذا أنت صانع إذا وجدت الناس قد ملئت صدورهم بفكرة قائلة إنه إذا كان لا بد من تغير، فإنما يكون التغير بالسير إلى الوراء؟
وهكذا ترى الناس في بلادنا أحد رجلين: فإما هو راض بما هو فيه، وإما يريد أن يغير ما هو فيه، بالسير إلى الوراء! فالكمال كان في أمس، ولن يكون في يومنا أو في غد! إنهم يسمون الرجوع تقدما، ويسمون اللاعقل اعتزازا بالتراث.
قلت لنفسي: يا نفسي لو كان الناس على صواب لما كان بنا حاجة إلى أصحاب فكر وأرباب قلم، ففيم يعمل الفكر، وبماذا يجري القلم، إذا كان كل شيء على ما يرام - كما يقول - وكانت الحالة «معدنا»، ولم يكن في الإمكان أبدع مما كان؟ إن «الفكر» - بحكم تعريفه - هو حل للمشكلات، وإذا لم تكن مشكلات فلا فكر، فأنت - يا نفسي - حين وصفت الناس بأنهم على ما هم عليه، كنت بمثابة من يضع أمامنا مشكلة تريدين لها حلا، وهذا هو ما أردت أن أقوله حين سألتك ماذا صنعنا، وماذا صنع المثقفون جميعا بكل ما قالوه وكتبوه، إذا بقيت مشكلتنا على حالها التي كانت عليها بالأمس وما قبل الأمس؟
قالت لي نفسي: إنك يا صاحبي تنحو علي وعلى نفسك باللائمة لهذا الجمود الراكد الذي يغشى حياتنا، وتنسى ظروف التربة التي بذرنا فيها بذورنا، فبذورنا وبذور سوانا من أصحاب البيان والقلم إنما تسقط على صوان أخرس وأصم، نعم إنه صوان صلب عنيد، ولكنه بسبب تلك الصلابة فيه وهذا العناد، بات لا ينبت الشجر الأخضر.
سألتها: وماذا تعنين بتلك التربة الصماء؟
أجابت: أعني ما قلته لك مرارا، وهو أن أمتنا قد أصبحت أمة من الدراويش؟ وأريد بالدروشة تلك الغيبوبة الثقافية التي تفقد صاحبها قدرته على دقة التوازن بين الأولى والآخرة؟ ولم تصب مصر بفقدان التوازن هذا إلا بعد الفتح التركي، وأما ما يزيد على ستين قرنا قبل ذلك التاريخ فلم تشهد من المصري إلا متدينا عاملا، أو عاملا متدينا، كان المصري طوال عمره الطويل يتدين كما يتنفس، فهو بناء للعمائر والهياكل متدين، وهو زارع لأرضه متدين، وهو نجار أو حداد متدين، وهو عالم أو فنان متدين، إنه كان أي شيء في حياته العملية المنتجة والدين بطانته، لم يكن الموقف في حياته موقف من يقول: إما عمل وإما دين، بل كان العمل والدين وجهين لعملة واحدة، ولبث الأمر كذلك خلال الحضارات المتعاقبة التي خاضها. كان كذلك - بالطبع - في عصره الفرعوني القديم، وكان كذلك يوم أن سقطت الشعلة من أيدي اليونان فالتقطتها مصر، لتكون هي الفيلسوفة المتدينة وهي العالمة المتدينة، وهكذا لبثت مصر تحمل كل حضارة تالية وفي قلب المصري إيمانه الديني، ولما نشأ الأزهر الشريف في القرن العاشر الميلادي، ظل ستة قرون يؤدي الرسالة المزدوجة: العلم والدين، وهو لا يفصل بين الحياتين: فهو عالم حين يتدين، وهو متدين حين يخدم العلم، حتى لا يكون العلم من علوم الدين.
وجاء الفتح التركي، فما أسرع ما انفجرت الشعبتان وكأنهما لم يكونا فرعين من جذع واحد، أو قل إن إحدى الشعبتين - شعبة العلم الأصيل - قد توارت، وبقيت شعبة الدين، وأصبح المتخرج في الأزهر رجل دين، أكثر منه رجل دين وعلم مندمجين في كيان واحد، فلما اقتحمت ديارنا حضارة الغرب وأطراف من ثقافته، منذ الحملة الفرنسية فصاعدا، أخذنا ما جاءنا من الغرب من علوم وفنون وأفكار ونظم للتعليم والحكم وغير ذلك، لكننا أخذناه حفظا وتسميعا، ومن هنا استقلت الشعبتان إحداهما عن الأخرى، ودخلت ساحتنا صيغة زائفة باطلة، وهي الصيغة التي كانت تصول بها: إما دين وتدين وإما علم حديث وحضارة حديثة، هذه صورة موجزة، يا صاحبي، كما حدث، وهي الصورة التي نتج عنها الموقف الراهن، الذي هو: كتلة الشعب من الناحية الثقافية في ناحية، ومعها رواد يسوسونها على ذلك الطريق، وقلة قليلة جدا تشربت ثقافة العصر وحضارته من ناحية أخرى، فإذا كتب أفراد من هذه القلة القليلة ما يكتبونه، فلن يجاوزوا بكتاباتهم حدود أنفسهم، إنهم لن يخترقوا بكتاباتهم حاجز الصوت ليصلوا إلى آذان جمهور الشعب، وتلك هي التربة الصماء التي عنيتها حين قلت - يا صاحبي - إننا نحن وأمثالنا نبذر بذورنا لتقع على صوان صلب أصم وأخرس، فهو أصم بالنسبة إلينا، ولكنه مفتوح الآذان لآخرين، وهو كذلك أخرس بالنسبة إلى اللغة التي تتكلمها تلك القلة القليلة التي أشرت إليها، لكنه ناطق بالنسبة إلى لغة الآخرين.
قلت لنفسي: حقا لقد ألقيت لي الضوء فوضح الغامض، ولكن أنترك الأمر على هذه الحالة؟ وإلى متى نتركه؟ وماذا نحن صانعون لو أردنا أن نغيره؟
فأجابتني النفس قائلة: الآن قد تبدلت أدوارنا فبعد أن كنت أنا التي أسألك ماذا كنت تريدني أن أصنع؟ ردا على لومك وتأنيبك أصبحت أنت الذي توجه إلي السؤال: ماذا نحن صانعون في موقف قوامه جمهور عريض ورواده في ناحية وقلة قليلة جدا تريد التغيير في ناحية أخرى؟ وها أنا ذا أحاول الجواب عن سؤالك، مكتفية هذه المرة بنقطة واحدة ولكنها نقطة أساسية وجوهرية.
إنه لمن المفارقات التي تستوقف النظر أن نقول عن مصر اليوم إنها تبحث عن ذاتها. فبحث الإنسان عن ذاته لا يكون إلا في فترة المراهقة حين يتأهب المراهق للدخول في دنيا النضج بعد طفولة وصبا. وفي مرحلة المراهقة تتعدد المسالك والبدائل أمام المراهق، ولذلك فهو يظل فترة مأخوذا بالتردد والحيرة ماذا يأخذ وماذا يدع، وهو إذا ما وقع باختياره على طريق معين دون سائر الطرق يكون بمثابة من رسم لنفسه الطريق لحياته المقبلة كلها؛ وشأن الأمم كشأن الأفراد حين يكتنفها موقف متعدد المسالك والبدائل، وعلى الأمة أن تختار لنفسها مسلكا بذاته يحقق لها ذاتها. ويقول مرة أخرى إنها لمفارقة تستوقف النظر أن نقول عن مصر العريقة إنها في موقف من لا يزال يختار لنفسه في الحياة مسلكا يتميز به.
لكن شيئا من تلك المفارقة الغريبة يزول إذا تذكرنا أن ما يشبه المراهقة قد يعاود الفرد الواحد ويعاود الأمة الواحدة كلما صادفته أو صادفتها صدمة قوية ارتجت لها جدرانها، فها هنا يكون الفرد أو تكون الأمة بمثابة مراهق لا يزال في أول الطريق، وعليه أن يختار أي طريق يسلك. وليس من شك في أن مصر حين اصطدمت بحضارة الغرب الحديث وبشيء من ثقافته اهتز بنيانها لأنها وجدت نفسها أمام حياة تختلف عن حياتها اختلافا شديدا، وكان أن ردة الفعل بموقف شاذ هو الموقف الذي نحياه اليوم، وأعني به أنها أخذت من الشجرة الجديدة ثمارها ورفضت جذعها وجذورها، أي إنها أخذت «نتائج» العلم و«نتائج» الصناعة و«نتائج» النشاط الفلسفي والفكري ومبدعات الأدب والفن والأشكال الخارجية للنظم كلها: سياسية وتعليمية واقتصادية، أقول إنها أخذت «نتائج» هذا كله ولكنها رفضت أن تحيا الحياة التي تعتمل فيها العوامل لتنتج لصاحبها تلك النتائج.
إننا نحن وأمثالنا يا صاحبي حين نفكر فإنما ندعو الناس إلى اصطناع شيء رفضوه وهو أن «يحيوا» الحياة التي من شأنها أن تنتج لهم علوما وصناعات وتقنيات وآدابا وفنونا ونظما كالتي ينقلونها من الغرب معلبة جاهزة، ولقد رفض جمهورنا وعلى رأسه رواده أن يحيا مثل تلك الحياة ومع ذلك فهو يقبل الثمرة منقولة إليه، فإذا سألتني بعد ذلك وماذا عسانا صانعين؟ أجبتك بقولي: أكشف للمصري المعاصر عن حقيقة ذاته التي امتدت معه أكثر من ستين قرنا ولم تغب عنه إلا إبان الفتح التركي وما بعده، ترتفع عن ذلك المصري الحديث حيرته وتردده، فيعرف طريقه وهي نفسها الطريق التي سار على منهاجها أكثر من ستين قرنا، وأعني طريق المتدين العالم العامل.
قلت لنفسي: الآن قد ازددت وضوحا؛ لماذا ينسد الطريق بيننا نحن وأمثالنا ممن يفكرون ويكتبون من جهة وبين جمهور الشعب ورواده من جهة أخرى، نعم لقد ازددت وضوحا لكني كذلك قد ازددت قلقا؛ إذ بات واجبا علينا أن نبحث فيما يساعدنا على كشف عناصر الذات المصرية الأصيلة لنضعها أمام أبصار الناس لعلهم يهتدون، فماذا ترين يا نفسي؟
قالت النفس متثائبة: لقد حان موعد النوم لنستريح، طاب مساؤك يا رفيقي.
كان ذلك ما حملته الورقات التسع الصغيرة التي تركها صديقي، ولقد وضعتها كما جاءت، وإذا حق لي أن أضيف إليه جملة واحدة من عندي قلت: إن هذا الذي كتبه صديقي، هو ما تمنى كثيرون أن يكتبوه.
رسالة في زجاجة
كنت يومها أعبر الأطلنطي في باخرة لها من الضخامة والفخامة ما يجعلها قصرا عائما على سطح الماء، بدأت رحلتها على موج هادئ، فكانت تبدو وكأنها من الرواسي الرواسخ، التي تهزأ من الرياح العاتية، وسارت منسابة على بساط الماء ملكة فيها وقار السلطان ورصانة الأصل الثابت العريق، وانتشر راكبوها في ثياب ملونة زاهية تدل على قدر من الثراء، ولكنها كذلك - ببساطتها - تشير إلى ذوق مهذب رفيع، انتشر هؤلاء في أبهاء السفينة وممراتها وعلى سطحها وفي غرفها، انتشروا في مرح مطمئن وسمر هامس.
وما هو إلا يوم يمضي، حتى تتبدل الحال غير الحال، فقد غضب محيط البحر غضبته التي لا تقاس إليها تلك الغضبة المضرية التي أشار إليها الشاعر العربي القديم، وأصبحت السفينة التي كانت بالأمس أرسخ من الجبال، لعبة خفيفة يتقاذفها الموج، فموجة ترمي وموجة تلقف، لقد روعت ملكة الأمس الرزينة الرصينة الوقور، فباتت طفلة خائفة راجفة تبحث لها عن صدر يحميها؟ وأين ذهب المسافرون؟ لم يعد منهم أحد يقف مستندا إلى السور ليرسل البصر إلى الأفق البعيد الراقد بين السماء والماء، أو أحد يجلس على كرسيه الطويل ينظر إلى لا شيء يتيح لفكره أن يتأمل؛ كلا ولا بقي في الأبهاء أو الممرات رفاق يلتقون في بشر ضاحك ويسمرون؛ لقد اختفى جميعهم في قمراتهم كأنهم الفئران التي أحست برعشة الزلزال فأسرعت إلى جحورها. أو قل إن ركاب السفينة جميعا، قد أصبحوا هم وسفينتهم الضخمة الفخمة، وكأنهم بالنسبة إلى المحيط الغاضب - كما قال قائل - دود على عود.
ولأمر ما تذكرت عندئذ كريستوفر كولمبس، أأقول «تذكرت؟» لا، بل إن صورة كولمبس لم تبرح خيالي لحظة إلا لتعود فتمثل ماردة نصب عيني وخيالي معا. إنني لم أعبر ذلك المحيط مرة رائحا أو غاديا، إلا وكولمبس رفيقي في السفر؛ وأظل مع كل لمعة ضوء أو نبرة صوت، أقول لنفسي: انظر كم صنع للدنيا رجل واحد بمغامرة جريئة واحدة، فلولاه لما كانت أمريكا بمعناها الذي نعرفه لها اليوم، وذلك يعني أنه لولاه لما نشأت هذه المرحلة الحضارية الجديدة، التي أصبحت هي «العصر» الذي يحياه الناس ، لقد سمعت أستاذا للتاريخ في محاضرة عامة يقول: «إن نتائج رحلة كريستوفر كولمبس عبر المحيط - وكان العرب يسمونه بحر الظلمات - لم تكتشف كلها بعد.» فلئن كانت هذه الحضارة الصناعية العالمية التكنولوجية التي تعج بها أرجاء الدنيا، هي النتيجة الأولى لتلك الرحلة، فإن نتائج هذه النتيجة لا يعلمها إلا علام الغيوب، فإذا تصورنا أن الصاروخ الذي أنزل أقدام البشر لأول مرة على سطح القمر، إنما قام برحلة خرقت الحجب، على نحو ما فعلت سفينة كولمبس حين عبرت المحيط، كان لنا أن نتساءل ذاهلين: إلى أين تنتهي بنا نتائج ما صنعه رجل واحدة بمغامرة جريئة واحدة؟
لا، إنني لم أعبر ذلك المحيط مرة إلا وذكرى تلك الرحلة الفريدة تملأ ما أمامي وما بين جوانحي، فلا أمل من تكرار السؤال على نفسي: هل ترى كم يمكن ل «الواحد» أن يساوي؟ إن الواحد ليس دائما هو الواحد الذي نعرفه، بل إنه - بنتائج فعله - قد يساوي ألفا، مائة ألف، مليونا، مائة مليون، أو أذهب في سلسلة الأعداد ما شئت؛ وإذا كان ذلك هو شأن كولمبس معي كلما عبرت المحيط، فقد كان شأنه معي في تلك الرحلة التي أروي لك نبأها أشد وأعمق؛ وذلك أنني هذه المرة حين هاجت هائجة البحر على النحو الذي ذكرت وثبت إلى ذاكرتي عن كولمبس حادثة معينة، وهي أنه - كما قرأنا - في إحدى رحلاته بين إسبانيا والأرض الجديدة التي كشف عنها الحجاب (وأظنها كانت ثلاث رحلات) ماج البحر بموجه الغاضب بسفينة كولمبس؛ كما فعل بسفينتنا؛ حتى أوشكت على الغرق، وكانت لدى كولمبس أسرار عن رحلته لا بد أن ينقلها إلى ملك إسبانيا فجاء بزجاجة كبيرة ووضع فيها تقريرا بما كان يريد أن يبوح به وختم على الزجاجة بسدادة قوية، وألقى بها في الماء، ويقال إن تلك الزجاجة قد عثر عليها بعد ذلك بنحو ثلاثمائة عام، في موضع ما من الشاطئ الغربي لأفريقيا، وأذكر في هذه المناسبة أن الرسائل التي ترسل في زجاجات يلقى بها في البحر لعلها تبلغ أصحابها، طريقة معروفة - كما يبدو - لا سيما عند البحارة، فإذا ما تعرضت سفينة للغرق، فقد يكون بين راكبيها من تشتد به الرغبة في أن يبعث بكلمة أخيرة إلى من يحب: زوج لزوجة، أو والد لولده، أو حبيب لحبيبته يفعل ذلك وهو على شفا الغرق، ويعلم أن احتمال وصول الكلمة إلى من أرسلت إليه أو إليها؛ احتمال بعيد التحقيق، لكن ماذا يصنع وليس أمامه إلا هذه الوسيلة، ولقد علمت أن زجاجات كثيرة من هذا النوع توجد عند الشواطئ، إنها ضرب من «الحمام الزاجل»، لولا أن الحمامة تعرف هدفها، وأما الزجاجة حاملة الرسالة فتظل تتأرجح مع الموج، والله أعلم أين يدفع بها ذلك الموج، ومتى تصل إلى يد بشرية، ثم كيف لها بعد ذلك أن تصل إلى غايتها المقصودة؟ لكن ما حيلة الإنسان ساعة الحرج؟
استرجعت ذاكرتي هذه الصور وأشباهها عندما لعب الموج بسفينتنا «لعب الصوالج بالأكر» (كما قال أحمد شوقي) فجاءت استجابتي أعجب مما توقعت لها؛ إذ مالت بي نفسي نحو أن أكتب بدوري رسالة ألتمس لها زجاجة، ولكن لمن أكتبها؟ أكتبها لأخ مصري، هو أي مصري، وهو كل مصري، وكان لهذا الاختيار ما يبرره، وهو أن كلمة حبيسة في صدري منذ سنين، لطالما أردت لها الخروج إلى العلن؛ ولكن لا هي انبثقت من تلقاء نفسها رغم أنفي، بدفعة انفعالية من تلك الدفعات التي عرفتها في نفسي طوال عمري، ولا أنا دبرت لها طريق الخروج، أو ربما كنت أقرب إلى الصواب؛ إذ قلت إني كثيرا ما أخرجتها محجبة في ثنايا الكلمات، والجمل، ومع ذلك فلتكن حقيقة الأمر ما تكون، وأهم من ذلك هو أني أخرجت ورقي وأمسكت بقلمي وأنا في غرفتي من المركب، أميل معه حيث يميل، وأخذت أكتب:
أخي المصري في هذه المرحلة من تاريخنا، إن هذه الرسالة أكتبها إليك في جوف سفينة يتربص بها الموت، فقد فغرت لها أواذي البحر أفواهها، وقد تبتلعها بمن فيها، بضربة واحدة، وكذلك قد يريد لها الله نجاة فتنجو، ودعائي هو أن أتم هذه الرسالة القصيرة إليك ، وسوف أستودعها زجاجة كما فعل كثيرون غيري، فإذا بلغتك كان خيرا، وإلا فقد شفيت نفسي من خاطرة تؤرقها منذ سنين، سأوجزها لك في كلمتين، ثم أفيض فيها القول ما استطعت، وما سمحت لي السفينة وهي في محنتها، وأما الخاطرة في إيجاز، فهي أن مصر لأول مرة في تاريخها الطويل قد عجزت عن الإبداع الأصيل حضارة وثقافة، كما عجزت كذلك عن تمثل ما يبدعه الآخرون، ولم يسبق لها قط أن أفلتت منها القدرتان معا في آن واحد، وتعليل ذلك قد يختلف باختلاف الأفراد، لكنه - عندي - هو أن زمام عقولنا قد أمسكت به أيد لا تعرف لها وجهة إلا الوراء، وليس لأصحابها من قوة الرئات ما يأذن لهم باستنشاق الهواء البارد يأتيها من ناحية البحر، فنحن - من ناحية الحضارة والثقافة - أشبه بنا نحن ركاب هذه السفينة، نترنح على حافة الموت، وطوق النجاة الوحيد هو أن يهدي الله تلك الأيدي الممسكة بزمامنا العقلي، فتدير وجهها إلى أمام وتفتح النوافذ والأبواب على مصاريعها ليدخل إلينا الهواء من جهة الشمال.
هل رأيت على طول التاريخ - يا أخي - إنسانا «تقدم» بخطوات إلى «الوراء»؟ هل رأيت بين الكائنات الحية جميعا كائنا واحدا وضع له الله عينيه في قفاه؟ إننا نريد مصر أن تتقدم، أليس كذلك؟ فتعال معي ننظر بنظرة فاحصة إلى هذه الفكرة الهامة والبسيطة، وأعني فكرة «التقدم»، ثم نقارن ما نجده في معناها، بما يقوله ويعمله كثيرون اليوم من أصحاب الصوت المسموع في دنيا الفكر والثقافة، إننا نقول عن طالب العلم - مثلا - إنه تقدم في دراسته، إذا كان هو اليوم أغزر علما منه بالأمس، ونقول عن مريض إنه تقدم في صحته، إذا كان في يومه أشد عافية منه عن أمسه، ونقول عن أوروبا إنها تقدمت في القرن العشرين عما كانت عليه في القرن العاشر، وهكذا تطرد معك جميع الأمثلة عن معنى «التقدم» لتلتقي كلها عند نقطة واحدة، وهي أن تكون الحال في يومنا أفضل منها في أمسنا، على أننا نتحوط فنقول: إنه قد يحدث أن يكون الإنسان في جانب من جوانب حياته على درجة معينة من الارتفاع، ثم تصيبه نكسة فيهبط هبوطا حادا، لكنه يأخذ بعد ذلك في التقدم، لكنه يظل رغم الخطوات التي تقدم بها، أقل مما كان عليه في أولى مراحله، ففي موقف كهذا يجب علينا - عند المقارنة - أن نوازن لا بين الحالة الراهنة والحالة التي سبقتها مباشرة، بل بينها وبين نقطة البداية التي نزعم لها ارتفاعا.
وعلى ضوء هذا الذي قدمناه، نسأل: إذا كنا نريد حقا لمصر أن «تتقدم» وجب أن نستهدف لها أن تكون اليوم أرفع درجة من أي مرحلة سابقة في تاريخها كله، وأن نرفض رفضا حاسما أن يكون الماضي هو معيارنا الذي نقيمه أمام أبصارنا مثلا أعلى لنحتذيه. فلا بد - لكي يتم للتقدم المنشود معناه - أن يكون علماؤنا اليوم أعلى من علمائنا القدماء، وفقهاؤنا أفقه من الفقهاء الأقدمين، وكذلك قل في شتى ضروب المعارف والفنون، فهل هذا هو ما يبثه فينا اليوم رواد الكلمة المسموعة ذات الأصداء المدوية بين الجماهير؟ وما أدراك ما يومنا؟ إنه يوم يستطيع فيه صاحب الكلمة أن يدخل على الناس جميعا بيوتهم، خلال قنوات جبارة حفرت في أجهزة الراديو والتليفزيون.
ولست أريد للأقدمين وأعلامهم - إذا أردت ذلك - أن تصم عنهم الآذان وتدار لهم الأكتاف، كلا، كلا، فلا أحياني الله ولا أنجاني من هذه العواصف التي ترج علينا السفينة رجا وتدفعها إلى مهاوي الهلاك، بل الأقدمون هم الأجداد والآباء الذين نحرص أشد الحرص على أن تكون سلسلة التاريخ موصولة بيننا وبينهم، وهي لا تكون موصولة إلا إذا وقفنا في كل ميدان من ميادين الحياة موقفا يمكن تعقب خطواته التي تطور بها من ذلك الماضي إلى هذا الحاضر، والفرق بعيد بين هذا القول وبين قول آخر ينادي بأن يكون الأقدمون مثلنا الأعلى.
إن علة العلل في حياتنا العلمية والثقافية، وهي العلة التي أقعدتنا عاجزين عن امتصاص حضارة عصرنا وثقافته، وذلك لأول مرة في تاريخنا الطويل، فما من حضارة نشأت وارتفع بنيانها، إلا ونحن إما أن نكون المنشئين لها والرافعين لأركانها، وإما أن يكون غيرنا قد أنشأها فتولينا نحن الارتفاع بها في إبداع مصري أصيل، أقول إن العلة التي أعجزتنا هذه المرة، وأقعدتنا عن الاضطلاع بدورنا التاريخي العظيم، هي أننا لبثنا في الفكر على منهج قديم، في حين أن حضارة العصر تتطلب منهجا جديدا، وما أكثر ما ننخدع بالظواهر الحضارية الحديثة إذ نراها منتشرة في أرجاء أرضنا، فنقول: انظر! ها نحن أولاء قد عاصرنا عصرنا إلى آخر صيحة فيه، ويفوتنا الفرق الهائل الهائل الهائل بين أن تنشر الظواهر الحضارية على أرضنا من حيث الكم، ثم لا تتبدل في كياننا العضوي خلية واحدة من حيث الكيف، فعندنا من العلماء بدل العالم الواحد ما قد يبلغ عشرات الآلاف، في علوم الطبيعة والكيمياء والرياضة وغيرها وغيرها، وعندنا المهنيون بعشرات الآلاف كذلك، أطباء ومهندسون وغيرهم، وعندنا وعندنا، ولكن كل ما عندنا يتلخص (تقريبا) في الحفظ والتسميع، وأبرع رجالنا هو من يتابع الجديد حفظا وتسميعا، فما الذي أدى بنا إلى ذلك الموقف العجيب؟ الجواب عندي هو أن حضارة الغرب حين دقت علينا أبوابنا، وفتحت علينا تلك الأبواب غير مستأذنة في الدخول، وفتحت لها المدارس والجامعات، وأرسلت في سبيل تحصيلها البعثات في سيل لم ينقطع، أخذنا «نحفظ» هذا الوافد الجديد حفظا؛ لأننا حافظنا على «المنهج» كما كان قائما في القرون الثلاثة السابقة على هجمة الزائر الأوروبي الحديث، وتلك القرون الثلاثة السابقة هي على وجه الدقة أظلم ما شهدته مصر في تاريخها العلمي، وكان السائد فيها هو ألا يزيد «العلماء» شيئا على أن يحفظوا ما في بطون الكتب القديمة، والنابهون من هؤلاء العلماء كانوا يضيفون إلى «الحفظ» شرحا لما حفظوه، مرة أخرى أقول: جاء العلم الجديد إلينا عبر البحر، فقبلناه - أو اضطررنا إلى قبوله - لكننا ظللنا على المنهج نفسه الذي كنا عليه قبل مجيء ذلك العلم الجديد، وأعني منهج الحفظ والتسميع.
إنه لا رجاء لنا في تقدم مصر تقدما حقيقيا - يا أخي المصري - إلا أن نستبدل بالمنهج القديم منهجا جديدا، خلاصته أن نواجه مشكلاتنا كما هي ماثلة على أرض الواقع أو في سمائه، نواجهها لنقرأ تفصيلاتها على الطبيعة - كما يقولون - حتى إذا ما شاهدنا ما شاهدناه وأجرينا في معاملنا من التجارب ما أجريناه، تحددت طرق الحل لتلك المشكلات من وسائل الواقع ذاته، فالمشكلة كائنة في الواقع الحي، وكذلك حلها يستمد من الواقع الحي، وأما إذا جعلنا ارتكازنا على حفظ ما في الكتب وتسميعه، ثم اعترضتنا المشكلات على اختلاف أنواعها - علمية واقتصادية واجتماعية وغيرها - لم نجد أمامنا من سبيل إلا أن نبحث عن الحل فيما حفظناه وما نحن مستعدون لتسميعه.
أليس يلفت نظرك - يا أخي - أنه كلما اشتد حماسنا لإحياء ديننا الحنيف وشريعته، كان أول ما يطالب به المطالبون - وربما كان هو كذلك آخر ما يطالبون به - هو «الحدود» التي منها قطع يد السارق ورجم الزاني ... إلخ، فهل سمعت منهم أحدا أراد أن يحيي الدين وشريعته، من ناحية أن ندرس ظواهر الطبيعة، والطبيعة هي «خلق السموات والأرض» التي يأمرنا الكتاب الكريم أن نجعلها مدار التفكير، أي مدار البحث العلمي المحقق الدقيق، لتبنى على نتائجه حياة جديدة، وهل العصر الحاضر شيء غير هذا؟
القرآن الكريم هو كتاب الله عند المسلم، والطبيعة بكل ظواهرها هي خلق الله، فهل يكمل ديني إذا قرأت الكتاب الكريم، ولم أقرأ معه الكتاب الآخر، وهو هذا الكون الفسيح بما فيه - ما استطعت إلى ذلك سبيلا - إنك قد تجد من علماء المسلمين المجددين من يدعو الناس إلى هذا، وكأن المسألة منحصرة في دعوات ينادى بها من المنابر، وإلا فلماذا لم يبدأ هؤلاء العلماء بأنفسهم، فيخرطون أنفسهم في سلك الدارسين لجانب أو آخر من كائنات هذا العالم، في جماده ونباته وحيوانه؟ لقد كنت سمعت من صديق لي، هو أحد هؤلاء العلماء المجددين، أن الإسلام يرحب بصعود الإنسان إلى القمر (وكان ذلك الحديث عندما نزل أول رجل على سطح القمر) ثم أنبأني صديقي ذاك أن فضيلة الشيخ ... الذي كان - رحمه الله - في طليعة الطليعة من علماء الدين، قد قال في مسألة الصعود إلى القمر: أعطوني تذكرة أسافر بها في صاروخ إلى القمر، تجدوني أول المسافرين، وهذا جميل منه بغير شك، لكني أقولها مرة أخرى: إننا لا نريد للأمر أن يقف عند حد الكلام، فلو كنا جادين فيما نقوله، لوجدت منا اليوم من يشتغلون بتلك العلوم وتطبيقاتها، جنبا إلى جنب مع من يفعلون ذلك من بناة هذا العصر.
عندما أهل علينا القرن الخامس عشر الهجري، سألني سائل: كيف تريد للمسلم الجديد أن يكون؟ فأجبته إجابة مستفيضة بما معناه أريد للمسلم الجديد في القرن الخامس عشر الهجري أن يكون على غرار المسلم القديم في مستهل القرن الهجري الأول، فإذا كان المسلمون الأولون قد انكبوا على كتاب الله الكريم قراءة ودراسة - فلنأخذ عنهم في ذلك على الأغلب - بل ولنضف إليه ما وسعنا، ثم إلى جانب ذلك فلنتجه - بمعظم جهدنا - لقراءة «خلق السموات والأرض»، كما أمرنا ربنا أن نفعل؛ لأنه إذا كان الأولون قد صنعوا الكثير بالنسبة للكتاب الكريم فهم لم يصنعوا إلا القليل بالنسبة إلى دراسة السموات والأرض، وإنني لأشعر بأنني عابد لله جل وعلا، إذا قرأت كتابه، وعابد له سبحانه، إذا قرأت خلقه في الأرض وفي السماء، فعظمة الخالق مسطورة بمداد خفي على صفحات الكون جميعا، وعلى العابد أن يفك الرموز ليزداد بالله إيمانا على إيمان.
إن لكل امرئ ما نوى، والله أعلم بنيتي، ولست أجد ختاما لهذه الرسالة يا أخي المصري، بل ويا أخي العربي، ويا أخي المسلم، أفضل من إعادة صرخة كنت صرختها قبل هذا بقلمي، فقلت فيها:
هذه كلمة من القلب، أوجهها إلى أي مصري يصادفها، لأقول له: إنك أنت - يا أخي - وأنا، وجارك، وجاري، ومن شئت من سائر عباد الله، هو آية من آيات الخالق - جل وعلا - خلقه، وعدله، وسواه إنسانا، ليكون قبسا من نوره في هذه الدنيا، وليكون مسئولا أمامه - سبحانه - يوم الحساب، فمهما يكن مقدارك بمقاييس الناس، هنا، على هذه الأرض، فمقدارك عند الله، هو نفسه المقدار العظيم، الذي قسمه لمن يحمل الأمانة بعد أن عرضت على السموات والأرض والجبال، «فأبين أن يحملنها وأشفقن منها» فلو أدركت في نفسك هذه المنزلة السامية، عند من خلقك كما خلق سواك ، أدركت الأعماق البعيدة البعيدة، التي تنطوي عليها تكبيرتك عند إقامة الصلاة، وعند كل ركوع وسجود، الله أكبر، فليس غيره في هذا الكون الفسيح من هو أكبر منك إلا هو، لقد قال المسيح - عليه السلام - لمن توارى استصغارا لنفسه، ما معناه: لماذا تخفي سراجك تحت الغطاء؟ نعم، يا أخي، لقد أراد لك الله أن تكون للنور، فلماذا تحجب عن الدنيا ما قد ألقى به ربك في قلبك من نور؟ إنه إذا خطرت في رأسك فكرة صالحة، فأعلنها في الناس شعاعا شجاعا، لينضاف إليه شعاع وشعاع وألف شعاع، ليصبح ذلك كله في حياتنا سراجا وهاجا يفيض بالنور، وإذا كان في وسعك عمل تؤديه؛ فيصلحك ويصلحنا معك، فقم لساعتك وأنجزه، لينضم إليه عمل، وعمل، وألف عمل، وإذا بأرضنا قد تبدلت غير الأرض، وإذا حياتنا قد تغيرت غير الحياة، لا، لا تقل: ومن أكون أنا في هذا البحر، الزاخر من البشر، لا، لا تقل: إنني عابر سبيل مع الغمار مغمور، لا تقلها، فأنت أنت خليفة الله في الأرض، حملت رسالته لتؤديها، وليس هناك من هو أكبر، إلا ربك وربي، ورب العالمين!
تلك كانت رسالتي، كتبتها إلى أخي المصري، وخطر الموت محدق بالسفينة وراكبيها، والتمست لها زجاجة استودعتها إياها، وأحكمت إغلاقها، وألقيت بها في المحيط، ترى هل تلقاها من تلقاها؟ أو هي لا تزال تتأرجح مع الأمواج صاعدة هابطة في دنيا العدم؟
ثقافة السكون ... وثقافة الحركة
المصادفات فعلها عجيب، فكأنما الأحداث التي نطلق عليها اسم المصادفات نعني بهذه التسمية أنها أحداث جاءتنا عمياء، فلم تكن تدري هي نفسها هل تقع أو لا تقع، وإذا هي وقعت فأين تقع ومتى ولا على من من الناس تقع؛ أقول: كأنما تلك الأحداث التي نزعم لها الحيرة والعمى، إنما هي في حقيقة أمرها مدبرة ومرسوم لها الطريق، ومحددة لها الأهداف وكل ما في الأمر، هو أننا نحن البشر لا نعلم عن حقيقتها شيئا، ولو علمنا، لعرفنا مصادرها ومساراتها وأهدافها.
ومن تلك المصادفات، أنني ذات يوم قريب، شغلت نفسي بسؤال ثم أخذت أبحث له عن جواب، وكان السؤال هو: ما سر هذا الجمود الذي أمسك بأطرافنا، وكأنه سمر أقدامنا في مواضعها من الأرض فلا تخطو إلى أمام؟ وما كنت لأسأل سؤالا كهذا، لولا أنني - في مثل هذا الأمر - لا تخدعني ظواهر الأشياء عن بواطنها، إنك تنظر فترى ما حولك يعج بالحركة، فشوارع المدينة غاصة بالمشاة والراكبين، ولا بد أن يكون لكل من هؤلاء غرض يسعى إليه، إذن فهو في حركة نشيطة لا جمود فيها ولا ركود كما تظن أنت وتدعي؛ حتى ما جاء المساء، وجلست أمام التليفزيون لتشهد الدنيا وأهلها وأحداثها، صدمتك ندوة يشارك فيها نخبة من علمائنا ومن شبابنا، وإذا الموضوع الذي يحتد حوله الحوار ويحتدم هو الشوارب واللحى، هل نحفها أو نتركها لتنمو على طبائعها، فعندئذ تدرك من هذا الذي يثقل صدور علمائنا وشبابنا بالهموم كم يشل الجمود أطرافنا فلا نتحرك خطوة إلى أمام، برغم ما ملأ شوارع المدينة من ظواهر النشاط والحركة.
وتنظر إلى الصحف والكتب التي تخرجها المطابع كل يوم فترى كلمات الكاتبين متدفقة أمام عينيك أنهرا وبحورا، وليس هؤلاء الكاتبون بالمجانين الذي يدفقون المداد على الورق بسنان أقلامهم كما اتفق، ثم يقولون للناس هاكم مقالة أو كتابا، بل لا بد أن يكون لكل منهم ما يتدبره ويعنيه، لا، بل لا بد أن يكون كل منهم قد تأرق بما يزحم رأسه من معان يريد تبليغها إلى الناس، حتى إذا ما قرأت أو سمعت وجدت بعض ما يشغلهم هو تعليم البنات، أحلال هو أم حرام؟ وعمل المرأة أيجوز أم لا يجوز؟ نعم، إنك تنظر حولك فترى حركة ونشاطا، ولكن شيئا ما يضربك آنا بعد آن ليوقظك من غفوتك، فلا تملك عندئذ إلا أن تحس بأننا - بكل مقاييس التقدم في العالم الناهض - جامدون مسمرون عند مواضع أقدامنا حتى ليتعذر عليك أن ترى فارقا حقيقيا بين عامة جمهورنا اليوم وعامة الجمهور كما كانت منذ مائة عام، أيام محمد عبده، ومحمود سامي البارودي، وعبد الله النديم، وقاسم أمين، وإذا كان ذلك كذلك فمن حقنا أن نسأل: لماذا؟
هكذا كنت أسأل نفسي ذات يوم قريب، عندما زارني صديق عرفت فيه نموذجا نادرا، من حيث قدرته البارعة على مزجه جد الأمور بهزلها.
قلت: من زمن لم نرك، فأين كنت؟
قال ضاحكا: كنت أصعد الجبل.
قلت: جبل؟ أي جبل هذا الذي كنت تصعده، وقد أصبحت مثلي قعيدا أو كالقعيد؟
قال: إنه جبل مرسوم على ورق.
قلت: قص علي قصتك، فهزلك يمتع مثل جدك.
قال: أخذني الملل حينا، فاهتديت في مكتبتي إلى خريطة مكبرة لجزء من جبال الألب في الشمال الإيطالي، وهو جزء من الجبل يجذب إليه هواة الصعود، فنشرت الخريطة أمامي، وأمسكت بقلم، وأمعنت النظر فيما هو منشور أمامي، فما أنا إلا وكأني، بالخيال الناصع، أمام الجبل الحقيقي بصخوره، ووديانه وأشجاره وثلوجه، فأخذت أصعد السفح كما يفعل الهواة، وكل عدتي خيال وقلم يشير إلى مواضع قدمي صخرة صخرة، كان يمكن أن أتعجل الأمر فأقول: ها أنت ذا قد بلغت القمة، لكنني تريثت ممعنا في كل خطوة أخطوها أحس الصعاب كما يحسها صاعد في الحقيقة، وإذا بلغت شقا في صخور الجبل، أخذني خوف من يخشى السقوط إلى القاع السحيق، وهكذا قضيت ساعات طوالا، وعلى أيام متواليات، حتى أتممت الصعود، ولقد ساعدني على تلك الرحلة الخيالية العجيبة دقة الخريطة في رسم تفصيلات الجبل، فلم يعد فرق بين الصورة والجبل المصور إلا في الحجم.
قلت: ألا إنه لفتح من الله؛ هات لي يدك أصافحها مصافحة الشكور.
قال: ما هذا الذي تقوله؟ فتح من الله، لمن؟ وشكر، على ماذا؟
قلت: لقد حللت لي بحديثك هذا لغزا كنت أشغل نفسي بحله، عندما جئت.
قال: إذن جاء دورك في الحديث، إنني منصت لما تقول.
قلت: شغلت بسؤال عن حياتنا، ما الذي جمدها فلم تعد تخطو خطوة إلى الأمام، برغم ما قد يخدع عين الرائي من حركة ونشاط، كنت أبحث عن السر، وكنت لأمر ما ، أحوم حول اللغة التي نكتب بها ما نكتبه، ونذيع بها ما نذيعه؛ إذ كنت أشعر شعورا غامضا أن علة فقرنا الفكري تكمن في اللغة كما نستخدمها وكما نفهمها، لكنني لم أضع أصابعي على موضع الداء، إلا بإيحاء من روايتك التي رويتها عن صعودك للجبل فوق الورق.
قال: كيف كان ذلك؟ وضح.
قلت: لو كانت اللغة كما نستخدمها، وكما نفهمها، محكومة بالواقع في تفصيلاته، لكانت كل عبارة منها بمثابة خريطة يسير على هداها السائرون، كان سؤالي الذي طرحته على نفسي هو: لماذا نكتب لنغير وجه حياتنا، فلا يتغير منها شيء؟ والآن قد وجدت الجواب، وهو أننا نكتب على نحو يؤكد السكون ولا يبعث على الحركة، وحتى إذا وجدنا بين أيدينا ما كتب ليحرك، قرأناه قراءة السكون.
قال صاحبي ساخرا: وضح يا أخانا وضح!
قلت: أنت تعلم أن اللغة التي يستخدمها الإنسان - منطوقة أو مكتوبة - هي بمثابة عقله ووجدانه قد ظهرا في عالم الأشياء بعد أن كانا كامنين، فاللغة هي حقيقة ذلك الإنسان وقد أصبحت مجسدة ظاهرة، في صوت يتموج مع الهواء، أو في كتابة مرقومة على ورق، وأذن المتلقي في الحالة الأولى هي التي تسمع، وعينه في الحالة الثانية هي التي ترى، ومعنى ذلك هو أنك إذا وجدت في لغة المتكلم أو الكاتب خصائص تميزه، كانت تلك الخصائص هي نفسها ما يميز حقيقته الباطنية من عقل ووجدان.
ولو أمعنت النظر فيما يقوله الإنسان أو يكتبه، لرأيت صنفين مختلفين من العبارة اللغوية: فصنف منهما يتمثل في العبارة التي تصل إلى المتلقي، فتمده بمعرفة معينة، لكنها لا تحمله على أن ينشط بعمل ما، كأن تقول لصديق لك ساعة لقائه: إنني سعد بلقائك، فيسمع صديقك منك هذا التقرير الذي تصف به نشوتك الباطنية في لحظة اللقاء، لكنه موقف إدراكي لا يترتب عليه أن يؤدي صديقك عملا، وأما الصنف الثاني من عبارات اللغة، فهو صنف من شأنه أن يحرض المتلقي على فعل يؤديه، كأن تقول لصديقك ذاك الذي التقيت به إن غبارا علق بردائه، فلا يكاد يسمع منك ذلك حتى يسرع بحركة يزيل بها ذلك الغبار.
وليست كل المواقف بهذه الدرجة من البساطة والوضوح، إذ قد تكون حقيقة الموقف اللغوي بين المتكلم وسامع، أو بين كاتب وقارئ، على درجة من الخفاء والإضمار، ثم يأتي صاحب التحليل فيصب فاعليته التحليلية على المركب اللغوي الذي يتناوله بالدراسة، فيكشف له تحليله ذاك إن كان ذلك المركب اللغوي من الصنف الذي يتلقاه من يتلقاه، فلا يجد نفسه مدفوعا إلى فعل يؤديه، أو كان من الصنف الثاني الذي من شأنه أن يحرك المتلقي إلى عمل ما. على أن الأمر في هذه التفرقة لا ينحصر في المقارنة بين جملة من هذا النوع وجملة أخرى من ذلك النوع، ولو كان الأمر كذلك لما اهتممنا به لكن هذه التفرقة قد يتسع مداها ويتسع حتى يشمل كاتبا وكاتبا آخر في جملة ما يكتبانه، بل إنه ليتسع حتى يشمل ثقافة بأسرها لشعب معين، مقارنة بثقافة أخرى لشعب آخر، وها هنا بيت القصيد.
فإذا قارنت مجمل القول الذي قيل أو كتب في مصر خلال الثلث الأول من هذا القرن، بمجمل القول الذي نذيعه اليوم نطقا أو نثبته كتابة، وجدتني أحس بأن ذلك المجمل في الحالة الأولى كان من شأنه أن يحفز المتلقي إلى حركة يؤديها بينما المجمل في الحالة الثانية يقف بالمتلقي حيث هو؛ لأنه لا يرى نفسه مدفوعا إلى عمل يؤديه، ونضرب مثلا آخر على نطاق أوسع مرحلتين من التاريخ الفكري في الأمة العربية، إحداهما أربعة قرون امتدت من ظهور الإسلام إلى نهاية القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي) والأخرى أربعة قرون امتدت من القرن العاشر الهجري إلى الرابع عشر (السادس عشر الميلادي إلى العشرين)، فهنا كذلك نرى الفرق واضحا بين حياة ثقافية كانت في مجملها تحرك أصحابها إلى ضروب من النشاط مختلفة، في الحالة الأولى، وحياة ثقافية في الحالة الثانية، قد تعج بحركة الأجساد وبالصراخ والضجيج، لكنها من الوجهة الفكرية تترك أصحابها في مواضعهم لا يتقدمون، إذا لم نقل إنهم في أحيان كثيرة يدوسون أرضا زلقة فينكفئون إلى وراء. وأستأذن القارئ في ذكر حقيقة عن شخصي وما أشعر به، عندما أقارن حالتي المحصلة من جملة ما أقرؤه مما يكتبه أعلام الفكر في أوروبا وأمريكا، بحالتي المحصلة من جملة ما أقرؤه لأعلام القلم في الأمة العربية بصفة عامة؛ إذ أجدني في الحالة الأولى وكأنني أستيقظ من سبات، أو أنتبه بعد غفوة، وأما في الحالة الثانية فأحس بأنني أقرب إلى وقدة تنطفئ، واندفاعة تخمد، ورجاء يخيب.
ولنعد إلى مصر بين مرحلتين: الثلث الأول من هذا القرن والمرحلة التي نجتازها اليوم، ففي الفترة الأولى، من ذا يقرأ للشيخ محمد عبده ولا يجد في نفسه بعد ذلك ميلا نحو أن يضع عقيدته تحت ضوء يظهر ما بينها وبين العلم الحديث من وشائج القربى، ومن ذا يقرأ لقاسم أمين ولا يجد نفسه بعد ذلك وقد ازداد إيمانا بحق المرأة في التعليم وفي العمل، ومن ذا يقرأ لأحمد لطفي السيد، ولا يكتسب بعد ذلك إيثارا للعقل على العاطفة والهوى، عندما يكون مجال النظر مشكلة تمس السياسة أو التعليم أو ما إلى ذلك من شئون الحياة، ومن ذا يقرأ لطه حسين ولا تشتد به الرغبة في أن تتحقق للإنسان العربي صيغة للحياة جديدة، تندمج فيها الهوية العربية بمقومات الرؤية العصرية، ومن ذا يقرأ للعقاد ولا يجد نفسه مدفوعا إلى هدف يحقق له فرديته الحرة المستقلة التي لا تنطمس معالمها أمام جبروت خارجي، لكن انظر إلى ما نقرؤه اليوم، ماذا يفعل بك سوى أن تحمد الله على لقمة العيش إذا وجدتها.
أريد للقارئ أن يفرق ين ضربين من النشاط والحركة، فهناك ذلك الضرب المألوف المعتاد المكرر كل يوم على طريق ممهد مدقوق بأقدام السائرين، وأعني به تلك الحركة التي ينشط بها الإنسان في أدائه لواجباته اليومية، والتي هي حركة قوامها عادات تكررت مع صاحبها حتى صيرته كالآلة، يؤدي ما يؤديه وهو سارح الفكر مغمض العينين، كالزارع يحرث أرضه ويرويها، وكالصانع يسوي الخشب ويقطعه ليجعل منه بابا أو نافذة، وكربة البيت تنظف البيت وترتبه وتطهو الطعام، وكسائر العاملين حيث تكون الحياة رتيبة تجيء في يومها كما جاءت في أمسها ، فمثل هذه الحياة لا فضل فيها لإنسان على حيوان، بل إن العكس يجوز أن يكون هو الصحيح؛ إذ أين تجد الإنسان الذي تبلغ حياته العملية الرتيبة المكررة، في دقتها دقة النحل في خلاياه ودقة النمل في بيوته، ودقة الطير في أعشاشه، في مثل هذه الحياة العملية الحيوية قد يخطئ الإنسان سبيله، لكن الحيوان لا يخطئ.
ذلك - إذن - ضرب من الحركة التي ينشط بها الإنسان في أدائه لواجباته يوما بعد يوم، لكنه ليس هو الضرب الذي نعنيه حين نأخذ على حياتنا الحاضرة ركودها وخمودها وعمقها ومواتها، وأما الضرب الآخر، فهو ذلك الذي تراه حين يكون المجتمع فائرا بقوة الشباب وفتوته، يلقي بنفسه في المجهول مغامرا حتى يرفع عن ذلك المجهول غطاءه الذي يخفي حقيقته وطبيعته. إن روح المغامرة حين تشيع في جماعة ناهضة طامحة، إنما تعلن عن وجودها في شتى الميادين؛ فهي بادية في طموح العلماء والباحثين، وهم يسعون - كل في مجاله - نحو إضافة جديدة يضيفونها إلى العلم، وعندئذ لا تجد ذلك النوع من الرجال الذين نطلق عليهم صفة العلماء، حين يكونون في حقيقتهم تلاميذ كبارا حفظوا الدروس ليلقوها على الدارسين محاضرات أو مذكرات، أقول إن روح المغامرة حين تشيع في جماعة طامحة تراها بادية في ألف صورة وصورة، فهي بادية في شباب يركب الصعاب ليحقق المحال، فهو يجوب البحر ويرتاد الصحراء ويصعد الجبال؛ وإني لأعجب وتأخذني الحسرة، كلما تابعت شباب الغرب في طموحهم الجريء، فمنهم من يغوص في البحر أياما بعد أيام ليرسم بدقة بالغة آثارا غارقة في البحر منذ آلاف السنين، ومنهم من يعبر المحيط وحيدا في مركب صغير يعده لنفسه بنفسه، ومنهم من يلف كوكب الأرض ماشيا على قدميه، ومنهم من ينفق أعواما في غابة استوائية ليرقب صنفا معينا من الحشرات أو الزواحف أو الطيور إلى آخر تلك المغامرات إذا كان لها عند هؤلاء الطامحين آخر، والأمثلة التي سقتها ليست من خيالي، ولكنها جزء مما تابعت حدوثه في صيف واحد، بل وأضيف إليها مثلا آخر كان فريدا في نوعه، وهو أن القائمين على التعليم في بريطانيا أخذوا في اختيار عدد من الدارسين الممتازين من طلاب المدارس الثانوية، ليرسلوهم في رحلة تدريبية إلى منطقة القطب الشمالي مكلفين بالقيام ببحوث استكشافية محددة، يجرون فيها على نهج المستكشفين الكبار، أقول إني لأعجب وتأخذني الحسرة كلما تابعت مغامرات الشباب في الجماعات الطامحة لأني لا أملك في كل حالة إلا أن أرتد بعين خيالي إلى شبابنا في معظمه، لأراه في ضعف ومسكنة منكمشا باهتماماته في تفاهات، كأن يشغل نفسه بشوارب الرجال ولحاهم، متى تقص ومتى ترسل، وإذا قصت فكم مليمترا يبقى منها، وإذا أرسلت فإلى أي الحدود. هما ضربان مختلفان من الثقافة والتثقيف، ضرب منهما يميل بالناس إلى السكون والقعود والركود، والضرب الآخر يحث الناس على الحركة والمغامرة والكشف عن الجديد، الضرب الأول ينتهي بأصحابه إلى مواقع التبعية الذليلة الضعيفة الفقيرة المريضة، والضرب الثاني لا يدع أصحابه إلا وهم يشقون جلاميد الصخر صعودا إلى الذرا: علما وأدبا وفنا وريادة وسيادة وثراء. وهل نعجب بعد هذا إذا رأينا أولئك الطامحين المجاهدين المغامرين الكاشفين المنتجين، أحرارا في أوطانهم فلا انقلاب من أجل الحكم، ولا اغتصاب، ولا اعتقال لمن يعارض ولا تعذيب ولا اختفاء للمتمردين في قبور تجمع بقاياهم ألوفا ألوفا، وذلك لأنهم مشغولون بالبناء والكشف والإنتاج، وأما الهدم والتخريب والجهل والرجوع إلى الوراء لياذا بالماضي ليحميهم من قسوة الحاضر، فأمور متروكة لمن دب في أرواحهم هزال اليأس والضعف والمرض.
وبين أيدينا قرآن كريم لو عشناه لكانت الحرية لنا، والريادة لنا، والعدل فينا، وكل مقومات الكرامة والرفعة والطموح البناء في نفوسنا. ولكن السؤال هو: كيف نعيشه؟ إننا نقرؤه، نعم، ولكن هل نحياه؟ سأضرب لك مثلا واحدا أوضح به ما أريده.
وقفت طويلا طويلا عند الآيات الكريمة التي تقول: ... ألم نجعل له عينين * ولسانا وشفتين * وهديناه النجدين * فلا اقتحم العقبة * وما أدراك ما العقبة * فك رقبة * أو إطعام في يوم ذي مسغبة * يتيما ذا مقربة * أو مسكينا ذا متربة ...
فارتسمت في ذهني صورة مؤداها أن الحرية والعدل واجبان على المسلم بحكم الكتاب، فالمعنى كما استخلصته هو هذا: إننا جعلنا للإنسان وسيلة يدرك بها الحق ووسيلة يعبر بها للآخرين عن الحق الذي رآه، وهديناه ليرى صعوبتين تقفان في طريقه لكي يذللهما ويقهرهما، لكنه وقف أمام تلك العقبة لا يحاول اقتحامها، وما هي العقبة التي نشير إليها، هي أن تحرر من قيدت حريته وأن تطعم من حالت الظروف دون إطعام نفسه وأن ترعى من فقد الوالد الذي يرعاه.
فالمحوران الرئيسيان هنا اللذان يحققان الحياة الكريمة، هما: أن يكون الناس أحرارا، وأن تقوم بينهم عدالة اجتماعية تقضي بالتعاون بين أفراد الجماعة تعاونا لا يهمل معوزا ولا ضعيفا عاجزا، لكن تحقيق ذينك المحورين ليس بالأمر اليسير؛ لأن في الإنسان من غرائز الحيوان ما يميل به نحو التملك الذي يسلب من الآخرين حرياتهم، ونحو النهم الذي لا يشبع حتى ولو حرم الآخرون، فتلك عقبة كامنة في غرائز الإنسان، ولا بد من تذليلها بالتربية التي تجعل الرجحان في طبيعة الإنسان، للحرية له وللآخرين، وللعدالة الاجتماعية، تقام بينه وبين الآخرين.
فهل يمكن لمسلم أن يعيش هذه الأسس ويحياها، ثم يسكت عن طغيان يسلب الناس حرياتهم، ويغض بصره عن تفاوت بين الأفراد، تفاوتا يبيح أن يكون إلى جوار الجائع من يملك الملايين؟ ليست المسألة هنا متروكة لاختيارنا، فإما جاهدنا نحو تحقيق الحريات وإما سكتنا. كما أنه ليس متروكا لاختيارنا، فإما أقمنا عدالة بيننا وإما صرفنا عنها النظر. بل الأمر هنا أمر عقيدة دينية تأمر وعلينا التنفيذ. تلك هي الصورة التي خرجت بها من تلك الآيات الكريمة، لكنني أردت الرجوع إلى المفسرين لأرى ماذا يقولون، وإذا بي أجد تفسيرا يصعب على عقلي قبوله، فأولا هو تفسير لا يستند إلى معاني الألفاظ التي أمامنا، وثانيا - وهو المهم - هو تفسير ينتهي بنا إلى حياة السكون الخامد، لا إلى حياة الحركة الطامحة إلى رفعة الإنسان وكرامته، فقيل في النجدين إنهما طريق الخير وطريق الشر ، فمن أين تأتي هذه التفرقة وكلاهما نجد، أي أن كلا منهما بمثابة المرتفع من الأرض الذي يقف حائلا في طريق السائر، وكيف يتسق المعنى مع قوله تعالى بعد ذلك مباشرة «فلا اقتحم العقبة» على أن الذي نريد لفت النظر إليه هنا بصفة خاصة، هو السؤال: وما أدراك ما العقبة، ثم التعقيب على السؤال بما يجيب عنه، وهو أن العقبة التي لا بد من تذليلها هي أن الإنسان الذي يتحكم في الرقاب يجب أن يفك تلك الرقاب، والإنسان الذي يملك الثراء يجب أن يؤخذ من ثرائه لأجل الآخرين، لكن ماذا يفيدنا أن يقول لنا المفسرون إن العقبة هي جبل في جهنم، ومن أين يأتي هذا المعنى، والذي أمامنا هو كلمة عقبة ثم توضيحها الذي ورد بعدها، وهو أن العقبة هي أن نطلق للناس حرياتهم، وأن نقيم بيننا وبينهم تعاونا.
بين أيدينا كتاب كريم، إذا عشناه كنا نحن الأحرار، وكنا نحن العادلين، وكانت حياتنا آخر الأمر هي الحياة القوية الوثابة الطموح.
جاهل بالسياسة يتحدث عنها
أما الجاهل بالسياسة الذي - رغم ذلك الجهل - يجعلها موضوعا للحديث، فهو أنا فلست من دنيا السياسة في كثير أو قليل، إنني - بالطبع - أعيشها كما يعيشها الملايين، لكنني لا أملك القدرة على «تنظيرها»، فأنا أعيشها بمعنى أنني كسائر الناس، أنعم، أو أشقى بالحوادث كما تجري، لكن ذلك لا يعني أنني أستشف تلك الحوادث لأرى وراءها كيف تجمعت أو تفرقت لتنتج ما أنتجته، نعيما للناس في حياتهم العملية أو شقاء، وهل كان يمكن - مثلا - ألا يشقى مصري بنتائج حرب 1967م، وألا ينعم بنتائج حرب 1973م. هكذا تتجمع الحوادث أو تتفرق أمامي، كما يتجمع السحاب فجأة أو ينقشع فجأة، لكن رجال الأرصاد الجوية هم الذين يعرفون لماذا حدث ما حدث، وماذا كانت مقدماته وماذا سوف تكون نتائجه، أما أنا وأمثالي من سائر الملايين فيفاجئه المطر إذا نزل، وينعم بالشمس إذا أشعرته بالدفء في فصل الشتاء.
الفرق بعيد بين أن يعيش الإنسان العادي ظاهرة ما، وبين العالم حين يستخرج من تلك الظاهرة ما يكمن فيها من نظرية وقانون، فكلنا يعيش «الماء» يشربه، ويطهو به طعامه، ويغسل به ثيابه ، لكن العلماء وحدهم هم الذين يعرفون مم يتركب الماء، وكلنا يتنفس الهواء برئتيه، ويمشي على رجليه، ويهضم الطعام بجهازه الهضمي، لكن عالم وظائف الأعضاء وحده هو الذي يعرف ماذا يحدث للرئتين إذ هما تتنفسان، وكيف تعمل عضلات الرجلين وما هنالك من عظام ومفاصل، وعلى أي نحو تعمل المعدة والأمعاء حين يتم للإنسان هضم طعامه ... ومثل هذه الفوارق، بين أن يعيش الإنسان إحدى حالاته البدنية أو العقلية، وبين أن يتناول العلم تلك الحالات نفسها بالتحليل العلمي والتنظير.
وهذا الذي قلناه لنفرق به بين ممارسة الإنسان لحياته العملية في شتى أوضاعها من جهة، وأن يستخرج العلماء منها «علما بنظرياته وقوانينه من جهة أخرى» أمر معروف، أو قل إن معرفته لا تزيد عن معرفة الحروف الأبجدية إلا قليلا، ومع ذلك فقد صادفت موقفين منذ عهد قريب، وجدت فيهما أعلاما في الدراسة العلمية، وأعلاما في الإبداع الفني، يتحدثون كما لو كانوا يجهلون كل شيء عن تلك التفرقة بين الموقفين، فمنذ عهد قريب امتلأت أعمدة الصحافة الأدبية بما أسموه الفلسفة ورجل الشارع، وأسهم في الحديث من يجوز له أن يسهم فيه ومن لا يجوز له ذلك الإسهام لأنه لم يؤهل له، وكان مما لفت النظر حقا أن نقرأ لبعض الأعلام في ميدان الدراسة الفلسفية، ما يفيد بأنهم يرون ضرورة أن يشارك رجل الشارع في الفلسفة لسبب عندهم بسيط، وهو أن رجل الشارع «يعيش» فلسفته! ومنذ عهد قريب كذلك، سمعت بعض الأعلام في مجال الإبداع الفني، يقولون ما معناه إن انعكاس البيئة المحلية في عمل الفنان، أمر ليس بذي بال؛ لأنه أمر مفروغ منه، ولماذا هو عندهم مفروغ منه؟ الجواب عندهم هو أن الفنان ورجل الشارع على حد سواء، «يعيشان» تلك البيئة، فالذي يجب أن يمتاز به الفنان، هو أن يجاوز تلك البيئة لكي يصبح «عالميا»، وهكذا فات هؤلاء الأعلام في الحالتين ذلك الفرق البعيد بين أن «يعيش» الإنسان حالة معينة، أو ظاهرة بذاتها، وبين أن يخرج العالم ما يخرجه من تلك الحالات والظواهر «علوما»، أو أن يخرج الفنان منها ضروب الفن جميعا.
لقد استطرد بنا الحديث، وكان موضوعنا الذي بدأنا به، هو ذلك الفرق بين أن «أعيش» الحوادث الجارية، وأن أنعم بها وأن أشقى، وبين أن يكون لي القدرة على «التنظير» السياسي الذي يخرج من تلك الحوادث نفسها ما قد أدى إلى حدوثها، وما لا بد أن ينتج عنها، ولقد قررت عن نفسي في فاتحة هذا الحديث، أنني وإن كنت أعيش مع الناس أحداث حياتنا الجارية، بنعيمها وشقائها، فلست بذي قدرة على عملية التنظير العلمي في مجال السياسة.
ولقد مررت في حياتي بخبرات مسست فيها مجال السياسة مسا رقيقا، جعلني أحمد الله حمدا كثيرا على أنني نجوت من الخوض في تلك اللجج الرهيبة، وأقل ما أقوله في هذا الصدد، هو أن رجال السياسة ينهجون في عملهم - وربما في حياتهم العملية كذلك - نهجا لم يخلق له عقلي، فقد حدث في أوائل سنة 1946م أن اجتمعت هيئة الأمم المتحدة في أول اجتماع لها بعد إنشائها، عقب الحرب العالمية الثانية مباشرة، بمدينة لندن؛ لأن مبناها في نيويورك لم يكن قد تم إعداده، ثم حدث لإحدى الدول العربية ألا يكون لها من أبنائها من سمحت الظروف بإرساله إلى لندن لحضور ذلك الاجتماع، إلا ثلاثة أعضاء، ممن يصلحون لتمثيل بلدهم في اللجان المختلفة، وكان عدد تلك اللجان ستا، فأرسلت سفارة تلك الدولة إلى السفارة المصرية بلندن، تطلب منها - إذا أمكن - اختيار ثلاثة مصريين من الموجودين في إنجلترا، ليكونوا أعضاء في وفد تلك الدولة في أول اجتماع لهيئة الأمم المتحدة، وكان أن اختارتني سفارتنا مع زميلين آخرين، ولبث انعقاد الهيئة الدولية ستة أسابيع، رأيت خلالها مكنة السياسة كيف تعمل وهي في أعلى مستوياتها، وذلك أن ألمع النجوم في دنيا السياسة من أرجاء الأرض جميعا، كانوا حاضرين، فكانت تلك هي المناسبة الأولى - وربما كانت الأخيرة كذلك - التي «تفرجت» فيها على «السياسة» وهي على مقربة من بصري وسمعي.
فماذا رأيت؟ إني لأطلب المعذرة والمغفرة ممن جعلوا السياسة عملا يرتزقون منه، أو يسعون إلى المجد عن طريقه؛ لأن تلك «السياسة» كما رأيتها في ألمع نجومها يومئذ، لم تزد في رأيي عن براءة الحواة، لأنه إذا أشكل على الحاضرين أمر، بحيث اختلفت في شأنه الدول - وخصوصا القوية منها - فإن السعي كله إنما ينصب على إيجاد «صيغة» يرضى عنها الجميع، فليس الذي حلوه بسعيهم هو المشكلة نفسها كما هي قائمة على أرض الواقع، بل هو الصيغة اللفظية التي يرضى عنها جميع الأطراف، وجميع الأطراف إنما رضيت لأن الصيغة التي انتهى إليها التفكير السياسي، لا تلزم أحدا بشيء!
وقد استمعت ذات يوم منذ أعوام قلائل، وبمحض المصادفة، إلى حديث في الإذاعة البريطانية، أجراه مذيع مع لورد كارادن، وهو الذي صاغ لمجلس الأمن سنة 1967م، بعد حرب العرب وإسرائيل، القرار رقم 242 الذي رضي به العرب - أو معظمهم - وإسرائيل معا، ومع ذلك فنحن نعلم أنه هو نفسه القرار الذي لم يحل من المشكلة العربية الإسرائيلية شيئا إلى اليوم، أقول إني استمعت إلى ذلك الحديث، وفيه سأل المذيع لورد كارادن: كيف وصلت إلى صياغة ذلك القرار؟ فأجاب اللورد بما معناه: كان الأمر يسيرا، فقد سألت الجانب العربي: ماذا تريدون؟ فقالوا: نريد الأرض، وسألت الجانب الإسرائيلي: ماذا تريدون؟ فقالوا: نريد تأمين حدودنا، وبهاتين الإجابتين صنعت القرار، فأحد بنوده يطالب بعودة الأرض المحتلة إلى أهلها، وبند آخر من بنوده يطالب بضرورة أن تكون حدود إسرائيل آمنة، لكننا نسأل: أين هي - إذن - براعة السياسي البارع في هذا؟ والجواب هو أنه عرف كيف يصوغ ألفاظ القرار صياغة يوافق عليها الطرفان، لكن هل حلت تلك الصيغة «البارعة» شيئا من مشكلتنا كما هي قائمة على أرض الواقع؟ لا، لم تستطع ذلك، فقد وجدت فيها إسرائيل من ثقوب متعمدة، يمكن أن تقول على أساسها إن المنصوص عليه هو أن تعيد «أرضا» حتى ولو كانت مساحتها شبرا مربعا، وكان الظن عند الجانب العربي هو أن إعادة الأرض المحتلة إلى أهلها، لا تحتمل إلا معنى واحدا، هو أن تعاد «كل» الأرض المحتلة.
ومن العجيب أن رئيس وزراء بريطانيا السابق، هارولد ولسن ، وقد كان زعيما لحزب العمال، زار إسرائيل ولم يكن حينئذ في الحكم، فسئل هناك - ولعل ذلك السؤال قد جاء بعد اتفاق سابق - سئل: هل تعني عبارة إعادة الأرض الواردة في القرار رقم 242، كل الأرض أو بعض الأرض؟ فأجاب بقوله: لو كنا نعني كل الأرض لقلنا ذلك في القرار.
وتلك هي براعة السياسة كما يراها أصحابها، فتبقى المشكلات على حالها، وتنجح السياسة! على غرار أن يقال في المجال الطبي: نجحت العملية الجراحية، ومات المريض. إنني خلال الأسبوعين الماضيين، تابعت في الإذاعة البريطانية حلقات من مسلسل فكاهي، اسمه «نعم يا وزير» (ولاحظ أن «الوزير» في هذا العنوان لم تسبقه كلمة للسيادة، فلم يجعلوا الاسم نعم يا سيادة الوزير)، وهذا الاسم مشتق من أن الأمين في مكتب الوزير لا يجيب على شيء يقترحه الوزير إلا بهذه العبارة «نعم يا وزير»، والمسلسل كله نقد حاد للوزارة، والحق أني لا أعرف كيف كان مثل هذا النقد الجارح جائزا في الإذاعة، لكن هذا هو ما سمعته، والمهم الذي أردت ذكره هنا، هو أنني سمعت في الحديث شخصين يتجادلان، ووردت فكرة «الدبلوماسية البريطانية» التي عرفت بالبراعة، ما هي؟ فقال قائل منهما: هي أن نحطم ما هو سليم، فجادله زميله في ذلك، مطالبا إياه بضرب المثل، فأجابه بأن ضرب له مثلا دخول بريطانيا في الجماعة الأوروبية لتخريبها وإثارة العداوة بين أعضائها، فاعترضه زميله قائلا: إذا كانت بريطانيا قد أرادت تخريب المجموعة، فلماذا دخلتها بادئ ذي بدء، فأجابه: دخلتها لتخربها، فأنت لا تستطيع تخريب شيء وأنت بعيد عنه؟ فأعاد زميله السؤال مصطنعا الدهشة: ولكن لماذا؟ فأجابه: لكي تكون هناك لبريطانيا تلك الدبلوماسية البارعة التي عرفت بها خلال فترة طويلة من تاريخها.
إنني لأعترف بكل صدق أنني كثيرا ما حاولت مع نفسي، أن أحدد المعنى المقصود بكلمة «سياسة» فلم أجد لنفسي جوابا مقنعا، وابدأ معي بما يسمونه بالسياسة الداخلية، فابحث الأمر ما شئت، وافحص ما شئت، فلن تجد أمامك إلا مشكلات معينة مطروحة أمامنا تريد لها حلولا، لكن تلك الحلول لن تكون أبدا عند «السياسي» إنما هي دائما عند رجل العلم في كل ميدان على حدة، فإذا كانت المشكلة اقتصادية فحلها عند علماء الاقتصاد، وإذا كانت مشكلة في التعليم، فحلها عند علماء التربية، وإذا كانت مشكلة تتعلق بالحالة الصحية، فحلها عند علماء الطب بجانبيه الوقائي والعلاجي، وهكذا وهكذا، فإذا تولى العلماء في ميادين اختصاصاتهم حل المشكلات التي تعرض لهم في تلك الميادين، فماذا يبقى ل «السياسي»؟ ذلك عن السياسة الداخلية، وأما ما يسمونه بالسياسة الخارجية، فقرارات يتخذها «الكبار» أو لا يتخذونها، وفي عباءة هؤلاء، يدور «الصغار» حول صياغات لفظية، تنزع منها الأشواك التي تخز الجلود، ليبقى السطح الأملس الناعم، الذي لا يؤذي أحدا، فتوافق عليها الأطراف المتنازعة، وكان الله يحب المحسنين.
إنني مؤمن بالعلم، أولا وآخرا، وتأسيسا على هذا الإيمان أعتقد أن ما لا تحله العلوم من المشكلات بكافة أنواعها، لا تحله التعاويذ، وما يسمونه حلولا سياسية إنما هو ضروب من التعاويذ، ولست أتمنى للمجتمع الإنساني شيئا إلا ما تمناه له فرنسيس بيكون في كتابه الصغير، لكنه الكتاب العظيم الذي جعل عنوانه «أطلنطس الجديدة»، وهو ضرب من «المدينة الفاضلة»، غير أنه تصور الدولة المثلى أن تكون قائمة على العلم من ألفها إلى يائها، فبدل أن تكون حكومتها مؤلفة من وزارات كالتي ألفناها: وزارة الخارجية، ووزارة الداخلية، ووزارة النقل، ووزارة التعليم ... إلخ، تكون وزارتها كالآتي: وزارة الكيمياء، ووزارة الفيزياء، وهكذا يكون لكل فرع من فروع العلم وزارة تقيم الأبحاث العلمية التي تحل بها المشكلات، وينتج عن ذلك فيما ينتج، أنه بدل أن تصب الحكومة سلطانها على البشر، تصبه على الطبيعة وظواهرها، فتلجمها بالعلم، ويصبح الإنسان سيدا عليها بدل محاولته أن يكون سيدا على أخيه الإنسان، وفيما يلي خلاصة شديدة الإيجاز للطريقة التي صور بها «بيكون» دولته المثلى، دولة العلم:
بعد أن وصف الرحلة التي اتجهت بركابها نحو جزيرة أطلنطس نزل هؤلاء الركاب على الجزيرة ليجدوا قوما غاية في البساطة والنظافة، وعرفوا من أهلها أن أروع ما في جزيرتهم هو ما يسمونه «بيت سليمان» فما «بيت سليمان» هذا؟ إنه هو مقر الحكومة، لكنها حكومة ليس فيها «سياسيون»؛ وذلك لأن مقاليد الأمور كلها في أيدي رجال العلوم، ولست ترى في «بيت سليمان» على أرض «أطلنطس الجديدة» إلا مراكز للبحوث العلمية، وتلك هي الحكومة، وأبواب تلك المراكز مفتوحة أمام أي فرد من أبناء الجزيرة، إذا كان لديه ما يبرر مشاركته في البحوث العلمية، على أن مناصب الدولة، علياها ودنياها، موقوفة على من أثبت جدارة في البحث العلمي على اختلاف ميادينه؛ إن حكومة الجزيرة هي بحق حكومة الشعب للشعب، تديرها الصفوة الممتازة من العلماء: علماء الهندسة، والفلك، والجيولوجيا، والنبات والحيوان، والكيمياء، والفيزياء، والطب، والاقتصاد، والاجتماع، والنفس ... إلى آخر قائمة العلوم، ويعرض «بيكون» في كتابه صورة مفصلة لما شهده الزائرون للجزيرة من بحوث علمية قائمة في كل ميدان من ميادين العلم، والهدف البعيد الذي تتجه إليه تلك البحوث، لا يقف عند حدود المشكلات العارضة في حياة الناس، كما هي واقعة، بل إنها لتفعل ذلك ثم تجاوزه نحو ما يكشف للإنسان عن سر الكون العظيم، وإنه لمما يلفت النظر أن أشياء كثيرة جدا مما شغل به الباحثون في «أطلنطس الجديدة» بغية الوصول إلى الكشف عن أسرار الطبيعة، هو مما ظهرت له نتائج فعلية تطبيقية في عصر الناس هذا، مما يشهد لفرنسيس بيكون بالبصيرة النافذة والخيال الخارق، ولقد كتب ذلك الكتاب الصغير العظيم سنة 1624م، أي قبل موته بسنتين، وكان آخر ما كتب.
أردت بهذا كله أن أقول إن الكشف عن الحقائق، وحلول ما يعرض لنا من مشكلات، هو من شأن العلم لا من شأن السياسة، ولم يكن بيكون في كتابه «أطلنطس الجديدة» شاطحا بخياله في عالم المستحيل، ولا كانت فكرته عن قيام حكومة العلماء حلما بعيد المنال، ففي حالات كثيرة، حدث بالفعل عندنا وعند غيرنا، أن عين وزير هو من «العلماء» في المجال الذي نيطت به وزارته، وأظن أن ما أسموه بالمعجزة الألمانية، والتي قصدوا بها إحياء ألمانيا الغربية بعد أن خربتها الحرب العالمية الثانية تخريبا، ظن أن لن يكون لها قيام بعده، إنما ترجع إلى جماعة «العلماء» الذين تولوا الحكم في ألمانيا الغربية بعد الحرب، فكان كل منهم أعلم الناس بما يعيد الحياة إلى المجال الذي تولى شئونه.
وهنا أعود بحديثي مرة أخرى إلى السياسة والسياسيين، محاولا أن أعيد رسم الخريطة كما يمكن أن أتصورها، لعلي أفهم ما لم أستطع فهمه من قبل، فليس الأمر كله - في الواقع الفعلي - هو أمر وزراء يتولون بعلومهم رسم الطريق نحو ما هو أرقى وأفضل، إذ يبقى السؤال: ومن الذي يحدد ذلك الذي عددناه أرقى وأفضل؟ بعبارة أخرى: إذا كانت حكومة العلماء من شأنها شق الطريق المؤدي إلى تحقيق الأهداف، فمن الذي يضع للأمة أهدافها؟ وما كدت أضع السؤال أمامي في هذه الصورة، حتى ازددت وضوحا لحقيقة الموقف، فالذي يضع الأهداف هو - جمهور الشعب - في مجموعه. إن صدور الناس - عامة الناس - تنطوي على أمنيات ورغبات يود الناس لو وجدوها محققة، والأمنيات والرغبات ليست تحتاج من أصحابها إلى «علم»؛ إذ هي شعور مباشر بما ينقص حياتهم، فالجائع لا يحتاج إلى علم يبين له أنه جائع، والمقيدة حريته لا ينتظر علوم الفلك والكيمياء لتشعره بأن حريته مغلولة بقيودها، وهكذا تجيء الأمنيات والرغبات لتضطرب بها صدور الناس، علماء وغير علماء على السواء.
لكن القدرة على صياغة تلك الأمنيات والرغبات صياغة محددة تتخذ شكل «المبادئ» التي يمكن قراءتها وتصورها بالعقل، قدرة لا تستطيعها إلا قلة قليلة، فلنا أن نقول عن هؤلاء إنهم هم رجال السياسة، أو هم الأعلام من هؤلاء الرجال، لأن الكثرة الغالبة من المشتغلين بالسياسة، لم يكونوا هم الذين استقطبوا ما يدور في أفئدة الناس من أمنيات ورغبات، وصاغوها في مبادئ ونظريات، بل إن هذه الكثرة منهم تتبع ما صاغه لهم أعلام المفكرين في ميادين الفكر السياسي. وعلى أية حال، فالنتيجة العملية هي أن من تميزوا بتصورهم النظري الواضح للأمنيات والرغبات التي تموج في نفوس جمهور الناس غائمة غامضة، هم أنفسهم الذين تصدق عليهم صفات «السياسي»، وهم بالتالي الذين يتقدمون لينوبوا عن الشعب في المجالس النيابية. ولما كانت تلك الأمنيات والرغبات، التي يحسها أفراد الشعب ويعبر عنها نوابه من السياسة، قد لا تكون على صورة واحدة عند الجميع، فمن الناس من هو أسرع من الآخرين طيرانا إلى مستقبل جديد، ومنهم من هو أشد استمساكا من غيره بما هو قائم، أو حتى بما قد كان قائما في الماضي، أقول إنه لما كان جمهور الناس ليسوا على صورة واحدة فيما يتمنونه لحياتهم، نشأت «الأحزاب» ليعبر السياسيون في كل حزب منها، عن الصورة كما يريدونها هم، أصالة عن أنفسهم، ونيابة عن جمهور الشعب الذي يشاركونه ذلك التصور، وكل الفرق بين الجمهور ونوابه - نظريا - هو أن الجمهور يحس الرغبة إحساسا لا يستطيع ترجمته إلى مبادئ وأفكار، وأما ساسته فذلك التعبير عما يحسونه هو في مستطاعهم.
بهذا الفهم رسمت الخريطة - كما تجلت - أمامي، وخلاصتها إطار قائم على دعامتين: دعامة تحس الأهداف المنشودة وتعبر عنها، وذلك هو الجانب النيابي من الدولة، والدعامة الأخرى هي أولئك الذين يناط بهم رسم الطريق إلى تلك الأهداف حتى تتحقق وتصبح حقيقة واقعة، وتلك هي الحكومة التي أتمنى لها، كما تمنى بيكون في أطلنطس الجديدة، أن تكون كلها من «العلماء» بأدق معنى لهذه الكلمة، أي إنني لا أعني بالعلماء من حفظوا مادة علمية معينة، بل أعني بتلك الكلمة أولئك القادرين على البحث العلمي، بمناهج ذلك البحث التي يعرفها العلماء المبدعون، وذلك لأن عضو الحكومة مطالب بما تطالب به مراكز البحث العلمي، بالنسبة إلى ما سوف يجده في ميدان وزارته من مشكلات تريد الحل.
الشعب هو الذي يضع الأهداف التي يريد تحقيقها في حياته، وذلك عن طريق نوابه وسائر القادرين على التفكير والتعبير من أعضاء الحزب المعين؛ إذ أهداف الشعب - كما قلنا - قد تتعدد صورها، وبالتالي تتعدد الأحزاب، على أن نتذكر هنا أن اختلاف الناس إنما يقع على الأهداف القريبة، التي هي بدورها وسائل تؤدي إلى هدف قومي بعيد وفي هذا الهدف القومي ينبغي أن تلتقي آمال الأمة بكل أحزابها.
إنه كثيرا ما يقال إن الوزير رجل سياسي في المقام الأول، وله أن يستعين بمن يستطيعون العون من «العلماء»، لكنني بهذا التصور الذي عرضته أقلب الترتيب، فالوزير «عالم» في ميدان وزارته، ولكنه لا بد أن يستعين بالسياسي - من المجلس النيابي أو من خارجه - في معرفة الأهداف التي يتمناها أفراد الشعب، فالأهداف - كما ذكرت - هي من حق الشعب، وأما خطط تحقيقها فهي واجب العلماء، أو هي - في هذه الحالة - واجب الوزراء العلماء.
إنه ليلفت نظري فرق لغوي، أراه ذا دلالة مفيدة، بين الكلمة الإفرنجية، إنجليزية وفرنسية، وقد يكون في لغات أوروبية أخرى كذلك، التي تقابل كلمتنا العربية «سياسة»، فذلك الاسم عندهم يبدأ بمقطع معناه المدينة، ثم تمتد الإشارة طبعا إلى من يسكنون المدينة، وهم الجمهور، وبهذا يكون معنى اللفظة عندهم هو: ما يتصل بحياة الناس، وأما الاسم العربي «سياسة» فيثير عندي أسئلة كثيرة، أولها (وأنا هنا أسأل عما لست أعرفه) هل استعملت كلمة سياسة أو سياسي في العصور العربية الأولى، وإذا لم تكن، فمتى دخلت باستعمالها المعروف الآن؟ والسؤال الثاني - وهو أهم - هل يراد بالسياسي أن يقوم بما يقوم به من يسوس الجياد، وبهذا المعنى يكون المراد بالسياسي «ترويض» الشعب على سلوك معين؟ أخشى أن يكون هذا المعنى كامنا في نفوسنا، عندما استخدمنا هذه اللفظة فيما نستخدمها لتؤديه؛ لأنه لو كان الأمر كذلك، لكان للسياسة عندنا عكس ما للسياسة عند شعوب أوروبا، فبينما هي هناك تعني النظر فيما يتصل بحياة الناس، جعلناها نحن ترويضا للناس على ما ليس يرغبون فيه، ومن يدري ربما كان من أجل هذا المعنى ل «السياسة» قال الشيخ محمد عبده - فيما روي عنه - لعن الله السياسة وساس ويسوس وسائسا ومسوسا.
وللكاتب الناقد الفني «هربرت ريد» مقال عنوانه «سياسة بغير سياسيين» يرحب فيه بالسياسة إذا جاءت راعية للشعب في أمور حياته، لكنه يرفض رجال السياسة الذين يحولون المسألة إلى حرفة يكسبون منها المال والمجد، ويحيطونها بكهنوت يوهمون به الناس، أنهم مستطيعون ما لا يستطيعه كثيرون.
وخلاصة الخلاصة، هي أني لو سئلت في دنيا السياسة: أي المذاهب تختار؟ لأجبت بأني أختار كل اتجاه يجعل من رغبات الشعب أهدافا، ومن الحكومة علماء يحققون بمنهجهم العلمي تلك الأهداف.
«يانوس» بين عامين
«يانوس» اسم لشخصية أسطورية عند اليونان القدماء، ومن اسمه جاءت تسميتنا للشهر الأول من السنة باسم «يناير»، كانوا يصورونه على هيئة رأس له وجهان: وجه منهما يلتفت إلى اتجاه، والوجه الآخر يلتفت إلى الاتجاه المضاد! أما الوجه الأول فهو لشيخ تقدمت به السن، فابيض شعره وطالت لحيته، وتغضن جلده، وشاخت النظرات في عينيه، وأما الوجه الثاني فهو لشاب تسري في قسماته نضارة الزهر يتفتح من أكمامه، كله حيوية، نظراته تمتد إلى حيث الأفق البعيد، وشفتاه تنفرجان قليلا عن ابتسامة المطمئن الفرح المستبشر، الوجه الأول المكتهل المترهل المكدود هو الماضي، أدى رسالته وذهب، والوجه الثاني هو المستقبل المأمول، إنه لم يولد بعد، فكيفما شكلناه يتشكل، فبينما الماضي قد خرج من أيدينا، وبات أمرا مقررا يستحيل على أي سلطان أن يغير منه قلامة ظفر، إذ وقع ما وقع وانتهى الأمر، ترى المستقبل ينتظر عند الباب لتأذن له بالدخول، فيجيئك كما تريد له أن أن يجيء.
دق أبناء الماضي لأنفسهم الطريق، ومهدوه، ومشوا على هدى مما دقوا مختارين أحرارا مبدعين، ولا علينا - نحن أبناء الحاضر - أن نصنع مثل ما صنعوا، فندق لأنفسنا طريقنا كما فعلوا، ونختار أحرارا كما اختاروا، ونبدع الجديد المبتكر كما أبدعوا، فليس ولاء الحاضر للماضي هو أن يجعل من نفسه عبدا له، يتحرك كما تحرك وكلما، وينطق بما نطق وحيثما، ويعيش كما عاش وكيفما، بل الولاء هو أن يلقف الحاضر من ماضيه الشعلة، ليضيء بها طريقا جديدا لم تطأه قبل اليوم قدمان. برع الأسلاف في «س»، فلأكن مثلهم بارعا، ولكن في «ص»، وبمثل هذه الإضافة تنضم «ص» التي أبدعناها إلى «س» التي أبدعوها، فيتاح لنا عندئذ أن نقول للدنيا: انظري! إننا أمة تسير متواصلة الأجيال على درب الحضارة، ولها في كل عصر نتاج بديع.
على أن هذا التقسيم إلى ماض وحاضر ومستقبل، إنما هو حيلة منطقية ابتكرها العقل ليسهل عليه التفكير، أما من حيث الواقع الحي، فالثلاثة جميعا تلتقي عند الإنسان في لحظة واحدة، هي اللحظة التي نسميها ب «الحاضرة»، وما هي في حقيقة الأمر بحاضرة كل الحضور، ولا هي بغائبة كل الغياب، فهي أبدا تجر في أطرافها ذيولا من اللحظة التي سبقت، وتتأهب متوترة مشدودة إلى اللحظة التي سوف تكون. إن ماضيك هو ما تراه ماثلا «الآن» في ذاكرتك، ومستقبلك هو ما تتوقع حدوثه «الآن» كلما توقعت الغد وما بعد الغد، ولو كان في ماضيك ما ليس يمثل قط أمام ذاكرتك «الآن»، إذن فليس هو بذي وجود بالنسبة إليك، وكذلك لو كان المستقبل المزعوم لا نجد له أثرا قط فيما نتوقع له «الآن» أن يحدث فليس هو بذي شأن في حياتك، فالقشة التي تدفعها الريح هنا وهناك، أو تتركها لتسكن حيث هي، ليس لها - في ذاتها - ماض ومستقبل بالمعنى المعروف لهاتين الكلمتين في حياة الإنسان، فأنا هو من أنا بكل الأبعاد الثلاثة مجتمعة في وعيي «الآن»: فلي من الماضي ما تستدعيه ذاكرتي منه، لا أكثر ولا أقل، ولي من المستقبل ما أستطيع تصور حدوثه، ثم أعمل على ذلك الحدوث، وقد أنجح في ذلك وقد أفشل بتأثير العوامل التي لا أملك زمامها، فالماضي والمستقبل مجتمعان في رأسي معا، وهما مجتمعان الآن ما استطعت لهما جمعا، ومن هذه الناحية يكون الخيال عند اليونان الأقدمين قد وفق في تصوره لشخصية «يانوس» بوجهين في رأس واحد.
إنه لا سلطان للماضي علينا، والعكس هو الصحيح؛ إذ نحن أصحاب سلطان عليه، نأخذ منه ما نشاء، ونضيف إليه ما نشاء، ونعد له كما نشاء، هو ماضينا نحن، فهو لنا كالإرث يتركه الآباء للأبناء، فيكون لهؤلاء الأبناء أن يستثمروه كيفما أرادوا، وليس في هذا القول شيء جديد، فتأملوا الحياة وطباعها في كل شيء حي، تأملوها جيدا وعلى مهل، تأملوها في الشجرة، في السمكة، في العصفور، فإذا بذرت الآباء بذرتها لشجرة الزيتون، تحتم أن تخرج الشجرة الوليدة زيتونا، ولكنها إلى جانب هذا الحتم المحتوم، يترك لها أن تتصرف بما يتلاءم مع الظروف الطارئة عليها، إذا هبت الريح، وإذا شح المطر، وإذا غابت عنها الشمس، فهنالك في الكائنات الحية جميعا طبيعة لا أمل من تكرارها، ذكرتها في مناسبات كثيرة، وأذكرها الآن، وسوف أذكرها كلما دعت إليها الدواعي، وهي أن كل كائن حي هو كائن فريد متفرد، لا يشبه كل الشبه كائنا آخر حتى من أفراد نوعه، فالشجرتان من أشجار الزيتون بينهما اختلاف في عدد الفروع واتجاهاتها، واختلاف في عدد الأوراق وتعريقاتها، فلماذا كان بينهما ذلك الاختلاف؟ إنهما معا منخرطتان في الطابع العام، الذي هو «الإرث» الذي ورثناه بحكم البذرة التي تركها الأسلاف - أسلاف الزيتون - لكن ترك لكل شجرة بعد ذلك أن تكون لها حرية النمو داخل ذلك الإطار؛ إذ قد تصادفها عوامل لا بد أن تستجيب لها لتصون بقاءها، غير العوامل التي صادفت أخواتها. وتأملوا جيدا وعلى مهل، كيف يحيا العصفور، إنه عصفور بحكم «الإرث» الذي فرض عليه ولا حيلة له فيه، لكنه كذلك لا بد أن تكون له التلقائية الحرة التي يستجيب بها للعوامل المفاجئة، وقد تقول: إنه أمام تلك العوامل إنما يتصرف وفق ما تحتمه عليه غريزته، والغريزة هي الأخرى مفروضة عليه، لكن ذلك ليس صوابا على إطلاقه، لأن غريزة الحيوان لا تلم بجميع التفصيلات التي قد تنشأ في عرض الطريق. لقد روى لنا أحد العلماء الذين رصدوا سلوك الحيوان، أنه شهد أرنبا يطارده ثعلب في حقل، وكان الثعلب يضيق على الأرنب مسالك الهرب، لكن الأرنب في جريه المذعور، رأى «مسورة» فخارية في طريقه، تسعه ولا تسع الثعلب، فانحشر فيها وكمن في وسطها، فهل كان في غريزة الأرنب «تعليمات» بأن يحتمي بمثل الطريقة التي لجأ إليها؟ إنها طريقة جاءته من وحي اللحظة وما هو متاح فيها من وسائل.
وما هو في فطرة النبات والحيوان من تلقائية حرة - إلى جانب الفطرة الموروثة - متاح مثله للإنسان مضاعفا ألف ألف مرة، فلا تناقض في أن يعيش الإنسان حياته في «إطار» ورثه من السلف، على أن تكون له تلك التلقائية الحرة التي يبدع بها ما استطاعت قدراته أن تبدعه، أما إذا أراد لنا ناصح، بأن نعيش حياتنا كما عاش السالفون حياتهم - بإطارها وتفصيلاتها - كنا بهذه النصيحة نعيش حياتنا لغيرنا لا لأنفسنا، أو كالذي يشاهد الرواية للمرة الألف، يعرف حوادثها معرفة لا تترك له مجالا لتوقع الجديد فضلا عن خلقه وابتكاره.
كان الفكر القديم، بدءا من اليونان فصاعدا حتى نهضت أوروبا نهضتها الحديثة، يبني علومه على أساس تقسيم الكائنات أجناسا وأنواعا، ويحدد لكل جنس ولكل نوع «تعريفا» جامعا مانعا - إذا أمكن ذلك - بمعنى أنه تعريف يجمع للجنس أو للنوع كل خصائصه الجوهرية، كما يمنع في الوقت نفسه دخول أجناس أو أنواع أخرى في دائرته فيصبح الأمر خليطا، وكان ذلك الأساس الذي بني عليه الفكر القديم كافيا لخدمة العلم المطلوب والممكن، لكن ذلك الأساس يتضمن أن تظل أجناس الكائنات وأنواعها على حالاتها أبد الآبدين، فما دام «التفاح» - مثلا - هو بحكم التعريف كذا وكذا، فسيظل على طبيعته تلك أبد الدهر وكأنه محال على العلم فيما بعد، أن يبتكر على تلك الطبيعة حذوفا وإضافات تحولها إلى طبيعة من نوع آخر، كما حدث بالفعل، وعلى نطاق واسع، في دنيا النبات وفي دنيا الحيوان كذلك، فهل كانت حكمة الحياة تقتضي أن نقول لعلماء النبات وعلماء الحيوان: كفوا عن جهودكم، وخذوا علومكم هذه على نحو ما ورثتموها من أسلافكم؟
ولست بغافل عما يعترض به في مثل هذا السياق من الحديث؛ إذ يسرع المجادلون بقولهم: لا، يا أخي، فما لنا نحن وللعلوم، فالعلوم تتغير مع الزمن ما أراد أصحابها أن يغيروها، أما «الإنسان» وحياته فأمر آخر، وها هنا يكون الدوام، ولدا عن والد، وحاضرا عن ماض، لكن انظر إلى هذا الإنسان متمثلا في فنونه وآدابه! فهل زرت متحفا للفن، من تلك المتاحف الكبرى، التي تصنف معروضاتها وفق عصورها ومصادرها، ففي هذه الغرفة - مثلا - روائع التصوير من القرن السادس عشر، وفي تلك روائعه في القرن السابع عشر، وهلم جرا! إذا كنت قد فعلت، فلا بد أن تكون قد لاحظت في أجلى جلاء، وأنت تعبر الغرف واحدة بعد أخرى، أنك في الحقيقة إنما تعبر عصورا متعاقبة، كل عصر منها متصل مع سابقه بأواصر القربى، لكنه كذلك مختلف عنه اختلافات تساير ما كان قد طرأ على حياة الناس من ظروف جديدة، ويكفيك في هذا الصدد مثل واحد، فلقد كان التصوير قبل عصر النهضة الأوروبية ذا بعدين، أي إنه لم يكن يجسم الشيء المصور بأبعاده الثلاثة، ولم يكن ذلك من الفنان عن قصور فيه أو عجز، بل إنه فعل ذلك لأنه لم يكن ثمة ما يدعوه إلى مجاوزة البعدين اللذين في حدودهما تنطبع المرئيات على عين الرائي، فلما جاءت النهضة الأوروبية، وجاء معها ذلك الزخم الزاخر من مغامرات في البحر والبر، إذ طفق المغامرون يطوحون بسفنهم في البحار المجهولة، كما أخذ الرحالة المغامرون يذهبون إلى أقاصي الدنيا، ويصعدون الجبال الوعرة، فعندئذ أضيف إلى خيال الإنسان في تصوره للأشياء بعد جديد، هو العمق، فانعكس ذلك في فن التصوير، بحيث أصبح المنظور مجسما بأبعاده الثلاثة، ولا عجب أن يعود فن التصوير اليوم إلى قديم عهده في الاكتفاء بالبعدين؛ لأنه عصر أصبحت فيه المغامرة جزءا لا ينفصل عن مألوف الحياة الجارية، وهكذا ترى الفن - كالعلم - لا يجمد في أحد عصوره على موروث هبط إليه من عصر مضى، وإن يكن للفن «إطار» عام من أسس وقواعد يمتد به خلال العصور جميعا.
وما قلناه عن الفن نقول مثله عن الأدب، وهو بدوره مساير لحياة الإنسان، يختلف معها كلما اختلفت، وأظنه أمرا معروفا مألوفا للمشتغلين بدراسة الشعر العربي - مثلا - أن لتاريخ ذلك الشعر «عصورا» لكل عصر منها مميزاته، فليس الشعر الأموي كالشعر الجاهلي، ولا العباسي منه كالأموي، وكل ذلك معا مختلف عن الشعر الحديث في عصرنا الراهن، ولكن الذي يلفت النظر حقا عند نقاد الشعر الأقدمين أنهم، على الرغم من مسايرتهم للظروف الجديدة التي اقتضت تحولات في الشعر عصرا بعد عصر، ظلوا يطالبون الشعراء بالتزام «إطار» موحد، هو ذلك الإطار الذي أقامه الشعر الجاهلي ، فإذا كانت «الجاهلية» مذمومة في نواح كثيرة، فإنها لبثت في فن الشعر «نموذجا» تقاس إليه العصور التالية، والذي يهمنا في سياق حدثينا هذا هو أن الشعر كذلك - مثل العلم - يتغير في تفصيلاته مع تغير العصور، حتى وإن ظل ملتزما بإطار عام يضبط له أسس الفن وقواعده.
لا، لا، يا أخي - هكذا يعود المعترض إلى اعتراضه - ما لنا نحن وما للفن والأدب في تغيراتهما مع تغير الحياة وظروفها؟ إننا نعني «الأخلاق» ولا يهمنا سوى «الأخلاق»، فقد ترك لنا السلف من قواعد الأخلاق ما لا سبيل إلى الخروج عليه، وإني لأكرر هنا شيئا كالذي قدمته في مجال العلم، وفي مجال الفن، وفي مجال الأدب، وهو أن متابعة الخلف للسلف في الأخلاق، إنما تكون هي أيضا في «الإطار» لا في تفصيلات التطبيق؛ لأن هذه التفصيلات متروكة للتلقائية الحرة التي قد تستلزمها الظروف الطارئة، وتحضرني هنا قصة كنت قرأتها عن فقيه مصري عاش في القرن الثامن عشر بالقاهرة (ذهب النسيان باسمه)، وخلاصة القصة أن تاجرا غنيا لم يكن له إلا ولد واحد صغير السن رأى أن يودع أمواله، عندما مرض وشعر بدنو الأجل، عند ذلك الفقيه، طالبا منه أن يعطيه لابنه حين يبلغ الرشد، فلما بلغ الولد تلك السن، كان قد أحاط به صحبة السوء، فرفض الفقيه أن يسلمه الوديعة، وشكا الولد إلى الوالي، فجاء الوالي بالفقيه وأمره بأن يقدم المال لصاحبه، فأنكر الفقيه أن تكون لديه وديعة، ومضت أعوام، ظل الفقيه فيها يراقب الوارث في سلوكه، حتى أيقن أنه قد أخذ بالنصح واستقام، أسلمه وديعته، وسمع الوالي بالأمر، فاستدعى الفقيه ليسأله فيما كذب به عليه، فقال له الفقيه: إنه إذا كان الوالي ظالما، حل الكذب عليه من أجل النجاة، وأنت ظالم ... انتهت خلاصة القصة، فها هنا ناحيتان في الأخلاق، يخيل للسامع أن الفقيه قد تجاوزهما، فهو أولا لم يؤد الأمانة في موعدها، وهو ثانيا قد استباح لنفسه الكذب والإنكار أمام الوالي، لكننا إذا نظرنا إلى الموقف من وجهة نظر الفقيه، وهي وجهة النظر التي لا يرفضها عاقل، رأينا أن الفقيه التزم «الإطار» في مراعاته لمبادئ الأخلاق، ثم ترك لنفسه حرية التصرف داخل ذلك الإطار، تبعا للظروف المحيطة به.
وعلى منوال هذا الموقف الخلقي من ذلك الفقيه، نستطيع تعميم القول، فالأخلاق ملزمة في إطارها، يجب علينا أن نراعيها بمثل ما صنع الأسلاف، لكن تفصيلات التطبيق هي التي لا مناص من تغيرها تبعا لظروف الحياة الجديدة، ففي حياتنا العصرية قد اختلف معنى «الشجاعة» في التطبيق عن معناها عند الفرسان الأولين، وقد اختلف معنى «الكرم» واختلف معنى «العدالة»، عند النظر إليها من الناحية الاجتماعية، واختلف معنى «الطاعة» لولي الأمر، واختلفت معان كثيرة أخرى، فما تزال القيم الأخلاقية هي هي كما كانت، لكن تطبيقها في عصرنا اتخذ صورة جديدة، أو ينبغي لو أن يفعل.
اتجهت نحو «يانوس» صاحب الوجهين، ووجهت حديثي أولا، إلى الوجه الشامخ المكدود، وهو الوجه الذي يمد البصر نحو العام الذي انقضى، وسألته قائلا: هلا حدثتني يا شيخ عما أضناك من حياتنا في عامها الذاهب؟ فأجابني بقوله: هو كثير، كثير جدا يا رفيقي، لقد كان قلبي يتحطم كل يوم لما أراه وأسمعه عن الازدواجية الرهيبة التي يعيشها أهلي، ولعلها هي أس البلاء، لقد كنت أخبط كفا بكف كل يوم مائة مرة، كلما رأيت أو سمعت مصريا رشيدا عاقلا، يعلن من الرأي من أحوال بلده غير ما يكتم، فهذا الذي يكتمه يظل في نفسه حبيسا إلى أن يجد من يأمن لهم فيبوح بالسر، كيف - إذن - يعرف المسئول ماذا يريد الشعب وبأي المشاعر يحس؟ إنه يا رفيقي بلدك وبلدي، وبلد ولدك وولدي، فلماذا نعامله وكأنه غاز قاهر جاءنا من بعيد، فأخذنا نراوغه ونداوره لنقتص منه دون أن يدري بما نصنعه وراء ظهره؟ وكان رجاؤنا في شبابنا؛ لأن الشباب هو المستقبل القريب، وإذا بكثرة غالبة من هذا الشباب قد ألهاهم الهم والضعف عما يجري حولهم، فوضعوا على عواتقهم أجنحة ليطيروا بها إلى عالم الغيب.
لقد كنت أتابع حينا بعد حين، تلك الحلقات المذاعة لشباب من هؤلاء، وكنت أستمع إلى عروضهم، فأحس في ثنايا ما يقولونه حدة الذكاء، وسلامة النية، ولكن - وا ضيعتاه - كنت أجد في مشكلاتهم المعروضة تهويمات هي أشبه شيء بتخاليط المحموم وهو في غيبوبته، وأسأل نفسي: ألم يكن الأجدر بهؤلاء الشباب الأذكياء الأقوياء، ذوي القلوب الطيبة والنوايا المخلصة، أن يجعلوا همهم الأول ضرب الصحراء لتخضر وتثمر، ودق الأرض لتخرج لنا كنوزها؟ أما كان الأجدر بهؤلاء أن يجعلوا في مقدمة همومهم تلك الأمية البشعة المهينة التي تشل الفكر والطموح في ثلاثة أرباع أمتنا؟ أما كان الأجدر بهم أن يصبوا قدراتهم تلك في دراسة ظواهر الكون، فيكون منهم عالم الكيمياء، وعالم الفيزياء، وعالم النبات والحيوان؟ إنها يا رفيقي قدرات مهدرة، أضل سبيلها من أضلها، حتى بات خيرة شبابنا مغلولا أشل، يستهلك ولا ينتج لنا إلا حفنة من كلام! خذ يا رفيقي هذه الورقة واقرأ فيها ما يتوجع به شاب مخلص لنفسه ولبلده، يقول عن نفسه إنه على وشك التخرج من كلية الطب في إحدى جامعاتنا، اقرأ لتعلم كم تأخذ الحيرة بأعناق شبابنا، فإما تراه تائها في سمادير أوهامه وتهويماته، يخلق منها المشكلات الفارغة، وتطاوعه وسائل الإعلام والنشر، فتذيع في الناس - نيابة عنه - تلك الأباطيل، فإما أن تراه مشلولا بحيرته لا يدري ماذا يصنع بنفسه ولنفسه، خذ واقرأ ما كتبه واحد من هؤلاء، إنه كتب يقول:
أنا شاب - مثلي في مصر ملايين - أقترب من الخامسة والعشرين من عمري، ومع ذلك تراني أحس وكأنني في بلدي طفل يحبو، ولست أنا المسئول عن ذلك، إنني لا أشارك في مناقشة قضايا بلدي، فمن المسئول عن عزلي وحرماني أن أشارك في حمل الهموم وحلها؟ أستحلفك بالله أن تصارحني الرأي كما عودتنا: أأنا صادق الحس إذ أحس بتلك العزلة، أم هي أوهام أعيشها وأتعلل بها؟ وسواء كانت هذه أم تلك، فها أنا ذا أقرر صادقا رغبتي الشديدة في أن أجدني مشاركا، غير أني لا أجد لتلك المشاركة سبيلا، فمن الذي يسد أمامنا الطريق؟ إنني أقرأ وأسمع عن جيلكم الكثير، عندما كنتم في مثل شبابنا، فما الفرق بينكم وبيننا، لماذا نرى فيكم أبطالا مغاوير، ونرى في أنفسنا أقزاما، أطفالا، عاجزين عن أن نصنع مثل الذي صنعتموه لبلدنا ولأنفسنا؟ إنني يا سيدي لم أفقد الثقة في نفسي وفي أترابي من الشباب، لو وجدنا السبيل، لكن ماذا نصنع وحالنا هي كما وصفت لك واقعها الذي أحسه في نفسي وأكاد ألمسه بأصابعي، أريد أن أقرأ لك ما يصرف عني غمتي.
قرأت رسالة الشاب، التي أعطانيها الشيخ الذي هدته الحسرة للكثرة من شبابنا، التي رآها خلال العام المنقضي، تهيم في التيه، فتحولت ببصري إلى الوجه الآخر من «يانوس»، إلى الوجه الناضر بشبابه، الناظر إلى مقبل أيامه في العام الجديد، وسألته في لهجة الجاد وجهامة المهموم: لقد سمعتنا أيها الشاب نلحظ ما نلحظه عن أندادك من شباب العام المنقضي، فقل لي: ماذا أنت صانع بنفسك خلال العام المقبل، الذي نقف الآن على عتباته؟ فابتسم الشاب ابتسامة المستبشر الواثق، وقال: ادع لي الله يا سيدي أن يوفقني فيما اعتزمت أداءه، سأنفض عن نفسي ذلك الخمول العاجز، وسأحاول أن أصنع ما خلق الشباب لصنعه؛ لقد سمعت منك رسالة الشاب الذي أرسل إلى شيخنا هذا الذي ترى وجهه ملصقا بقفاي، يسأله: دلني ماذا أصنع لأشارك في حمل الأثقال التي أثقلت كاهل بلدي، لكنني لا أرى الحكمة في أن تهتدي فترة الشباب بذكريات شيخ مهدود مكدود مضنى، ولن أقول لك الآن ماذا أنا فاعل، لكنني بإذن الله سأصنع لبلدي ما يشبه المعجزات.
القسم الثالث
إشراقة الضحى
بينات من الهدى
كنت كمن وقع على كنز نفيس، حين وقعت على كتاب صغير للإمام الغزالي، عن أسماء الله الحسنى، عنوانه «المقصد الأسنى في أسماء الله الحسنى»؛ ولم تكن فرحتي بذلك الكتاب عند قراءته - وكان ذلك سنة 1968م على وجه التحديد - مقصورة على قراءة الشروح المضيئة التي قدمها الغزالي لتلك الأسماء، فكثير مما قدمه في هذا السبيل كان يمكن تصوره قبل قراءته، لكن الفرحة الكبرى التي أحسستها، قد كانت عندما عرفت منه لأول مرة أن أسماء الله الحسنى ، فضلا عن كونها «صفات» باستثناء اسم الجلالة «الله» (وكنت أعلم عن ابن عربي أنه استثنى اسمين، هما: الله والرحمن) فإن مجموعة الصفات المتمثلة في تلك الأسماء، هي صفات لله عزل وجل، حين تؤخذ بمعانيها المطلقة؛ ثم هي في الوقت نفسه التي ينبغي للإنسان أن يتحلى بها، وذلك حين تؤخذ بمعانيها النسبية المحدودة؛ فعندئذ هتفت لنفسي: إنه إذا كان الأمر كذلك، كنا أمام بينات من الهدى، تقام عليها صورة كاملة متكاملة للأخلاق كيف ينبغي لها أن تكون.
كانت فرحتي بذلك الكشف الجديد (جديد بالنسبة إلي) فرحة من ذلك النوع الذي لا ينقضي بانقضاء لحظته، بل هي فرحة ما فتئت تعاودني كلما نشأ في حياتي موقف انبعث لي فيه من فكرة الغزالي شعاع يضيء الطريق؛ وما أكثر ما ينشأ لنا السؤال، في حياتنا الراهنة هذه: ماذا نريد للإنسان المصري، أو العربي، أو الإنسان أينما كان، ماذا نريد له من خصائص: في فكره، وفي وجدانه، وفي سلوكه؟ ينشأ لنا هذا السؤال، كلما أردنا أن نخطط للتعليم، وللإعلام، وللثقافة، وللتربية بصفة عامة، فتتخبط في الجواب؛ ولو أننا رسمنا هدفنا من مجموعة الصفات التي أرادها الله - جل وعلا - للإنسان، متمثلة في الأسماء الحسنى (تطبيقا لفكرة الغزالي) لأقمنا لأنفسنا الهدف المنشود. على أن ذلك الهدف لا تظهر لنا صورته واضحة، إلا إذا استطاع ذوو العلم أن يستخرجوا من مجموعة الصفات «نسقا» يدرج الأخص منها تحت الأعم، ليكون لنا بذلك تصور منهجي موصول الأجزاء بعضها ببعض! فيصبح الطريق واضحا أمامنا، يسير على جادته السائرون؛ و«النسق» الذي أعنيه، هو ذلك الضرب من ترتيب الأجزاء، الذي يشترطه، ويسعى إلى تحقيقه، منهج التفكير العلمي، وأظهر ما يظهر فيه ذلك المنهج، هو علوم الرياضة، حيث يجب وجوبا أن تجيء كل خطوة من البناء الرياضي، نتيجة لأزمة عما سبقها، ومقدمة ضرورية لما سيأتي بعدها، فإذا تم لنا بناء كهذا، عرفنا لكل جزء من أجزائه موضعه الصحيح بالنسبة إلى الأجزاء الأخرى؛ وليكن معلوما أن مثل هذا البناء النسقي للأجزاء. في منطق التفكير العلمي، قائم كذلك في كل كائن حي، من النبات فصاعدا إلى الإنسان، فأعضاء الإنسان مرتبة بعضها مع بعض على هذه الصورة النسقية، إذ يمكن استدلال وظيفة كل منها اتساقا مع الوظائف التي تؤديها سائر الأعضاء؛ وإذا جاز لي هنا أن أستطرد قليلا، قلت إن تلك الرابطة النسقية، هي نفسها التي نطالب لها بأن تكون أساسا للإبداع في الأدب والفن جميعا، إذ لا بد أن تتوافر في المعزوفة الموسيقية، وفي قصيدة الشعر، وفي لوحة التصوير، وفي المسرحية، وفي الرواية، وفي العمارة، وهي هي نفسها التي تسمى في ميدان النقد باسم «الوحدة العضوية».
ونعود بحديثنا إلى موضوعنا، وهو مجموعة الصفات المتمثلة في أسماء الله الحسنى؛ والتي قلنا إنها خير ما يرسم لنا هدف الإنسان الكامل؛ على أنها إنما تكون أقرب إلى أداء هذا الدور في حياتنا، إذا استطاع أصحاب العلم أن يرتبوها في بنيان نسقي بالمعنى الذي شرحناه؛ نعم، إن الصفات وهي فرادى، يمكن الاهتداء بكل منها في مجالها، لكنها إذا توحدت كلها في بناء نسقي واحد، فإنها تضيف إلى هدايتها لنا في مجالاتها المتعددة، شعورا بالتكامل في شخصية الإنسان الذي يتلقى تربيته على هداها.
ولست أعرف أحدا من الأقدمين، أو من المحدثين، حاول مثل هذه المحاولة، ولكنني أعلم عن نفسي - وقد يعلم عني القارئ كذلك - أنني محدود المعرفة جدا في هذا المجال؛ فقد يكون هنالك من حاول ترتيب الأسماء على النحو الذي أسلفته، ولم يحدث لي أن صادفته في مطالعاتي القليلة والمتقطعة؛ ومع ذلك فلا بد لي أن أشير إلى استثناء واحد وجدته عرضا؛ وهو أن «الزبيدي» في شرحه لكتاب «إحياء علوم الدين» الذي هو الصرح الشامخ للغزالي، ذكر في سياق شرحه أن بين صفات الله - عزل وجل - سبع صفات يمكن النظر إليها على أنها أصل تفرعت منه سائر الصفات، وتلك الصفات السبع هي: القدرة، والإرادة، والعلم، والحياة، والسمع، والبصر ، والكلام، على أنه يعود فيرى بين هذه الصفات السبع نفسها، ما هو شرط لغيره، فيقول إن صفة «الحياة» لا بد أن يكون لها في الذهن أسبقية على القدرة والإرادة؛ إذ لا قدرة ولا إرادة إلا لحي، ومع ذلك فهو يستدرك استدراكا واجبا، وهو أن قولنا إن صفة ما من صفات الله - عزل وجل - إذا ما قلنا عنها إن وجودها «متوقف» على وجود غيرها، فلا بد أن يكون مفهوما أن «التوقف» هنا هو «توقف معية» (هذه هي عبارة الزبيدي) وليس توقفا بمعنى أن صفة منها تقدمت على صفة؛ وذلك لأن صفات البارئ سبحانه وتعالى، كلها أزلية يستحيل أن يقال عن إحداها إنها تقدمت بالوجود على أخرى.
وعلى ضوء هذا كله، أحسب أننا لا نجاوز الحدود المشروعة إذا نحن سئلنا: نحو أي هدف نتجه بناشئتنا وشبابنا، إذ نتولاهم بالتربية والتعليم والتثقيف؟ فأجبنا بأن ذلك الهدف - في بعض جوانبه - هو أن نصوغ مواطنا «حيا» «عليما» «قادرا» «مريدا» فلننظر - إذن - إلى هذه الصفات عن كثب، مهتدين بشرح الغزالي لمعانيها؛ ولقد أسلفنا القول بأن تلك المعاني تكون مطلقة حين تصف الله - عزل وجل - وتكون نسبية محدودة حين تصف الإنسان المتحلى بها.
ونبدأ بصفة «الحياة»، التي - كما أشار إليها الزبيدي - لها أسبقية منطقية (لا أسبقية وجودية) على سواها؛ فماذا تعني صفة «الحياة»؟ إنها - بداهة - لا تعني الجوانب التي تلحق بالكائن الحي من طعام وشراب وتكاثر وما يدور مدارها؛ بل إن المعنى المقصود بها - كما يحدده الغزالي - هو: الفعل، والإدراك؛ أما بالنسبة إلى الله سبحانه وتعالى، فالفعل والإدراك يكونان مطلقين شاملين، لا تحدهما حدود، ولا يخرج عن نطاقهما شيء؛ وبعبارة الغزالي: الحي المطلق هو الذي تندرج جميع الإدراكات تحت إدراكه، وجميع الموجودات تحت فعله؛ حتى لا يشذ عن إدراكه مدرك، ولا عن فعله مفعول، وكل حي سواه تكون حياته قدر إدراكه وفعله.
فماذا - إذن - عن الإنسان إذا أردنا له «الحياة» بهذا المعنى؟ إنه لا بد أن يكون المحور هو أن نجعل منه إنسانا «مدركا» فعالا، ثم يكون التفاوت بين إنسان وإنسان بمقدار ما بينهما من تفاضل فيما أدركه كل منهما، وفيما فعله كل منهما، وأقل درجات الإدراك (والقول للغزالي) أن يشعر المدرك بنفسه، وبالطبع (والقول لكاتب هذه السطور) يكون أقل درجات الفعل هو أن يوجه الإنسان فعله في الاتجاه الذي عرفه في نفسه حين أدركها، فانظر أي نوع من الإنسان يتحقق لنا إذا نحن ربينا النشء والشباب على «حياة» بهذا المعنى؟ حياة لا يخون فيها إنسان نفسه، حياة لا يخذل فيها إنسان طبيعة شعوره، حياة يظل الإنسان يزيد فيها من مدركاته، ويزيد، ثم يزيد ما وسعته الزيادة، لا ليقف من مدركاته موقف الأشل، بل ليحولها إلى فعل.
إن حياة الحي في دنيا البشر، لا تستحق اسمها إذا هي لم تكن في يومها أوسع إدراكا، وأقوى فعلا، منها في أمسها، ثم لا تكون في غدها كذلك بالنسبة إلى يومها، فالحي المطلق - سبحانه وتعالى - تحقق فيه منذ الأزل الإدراك كله والفعل كله، ولا كذلك تكون الحياة في الإنسان، لأنها نسبية ومحدودة، ومن ثم كان حتما محتوما عليها أن تظل تنمو إدراكا وفعلا، عصرا بعد عصر، إلى أن يشاء الله لها أمرا.
وإنه لمما يزيدنا فهما، في هذا الموضع من سياق الحديث، أن نذكر اسمين من الأسماء الحسنى، يتصلان بما نحن الآن بصدده، وهما «النور» و«البديع»؛ ففي معنى «النور» كتب الغزالي مؤلفا كاملا، هو كتابه «مشكاة الأنوار»، خصصه لشرح آية النور؛ فأقام ذلك الشرح على أساس أن يكون النور هو المعرفة أو الإدراك، ثم جعل الإدراك يتدرج من الإدراك بالبصر والسمع (وذلك هو المقصود بالمشكاة فيها مصباح)، فالإدراك بالعقل (وذلك هو المصباح في زجاجة)، فالإدراك بالقلب (وذلك هو الكوكب الدري)، (يوقد من شجرة مباركة؛ زيتونة، لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار، نور على نور)، وعلى هذه البينة من الهدى يكون السير في كسب الإدراك بالنسبة إلى الإنسان: إدراكا للعالم المحيط به، بالحواس، فاستخراجا للمعرفة العقلية في المبادئ العامة وقوانين العلم، ثم بلوغ الحق في أسمى درجاته بالرؤية القلبية المباشرة، وتلك هي رؤية المتصوفة.
وفي هذا التدرج الإدراكي بالنسبة للإنسان يتاح لهذا الإنسان في كل درجة تالية أن يدرك ما لم يدركه في الدرجة السابقة؛ وهنا يجيء المعنى المتمثل في اسم «البديع» - أي المبدع - الذي يقول الغزالي في شرحه، بالنسبة للإنسان، إنه هو أن يختص ذلك الإنسان بخاصية لم تعهد فيمن سبقه، ولا فيمن عاصره من الناس.
وإذا نحن ضممنا ما يتضمنه الاسمان «النور» و«البديع» فيما يختص بحياة الإنسان، من حيث هو فرد، وكذلك من حيث هو نوع تمتد به مراحل التاريخ، رأينا كم هو مطالب بتوسيع مجاله الإدراكي، ثم بأن يتحول إدراكه ذاك إلى فعل، ولن يكون ذلك التوسع في الإدراك كاملا في معناه، إلا إذا «أبدع» الإنسان جديدا في كل مرحلة من حياته لتضاف إلى حصيلته في ماضيه، وإلا إذا كان في كل مرحلة لاحقة أكثر نورا منه في المرحلة السابقة، وذلك كله لأنه «حي».
ومن صفة «الحياة» ننتقل بحديثنا إلى صفة «العلم»، فهي - كالحياة وكسائر الصفات المتضمنة في الأسماء الحسنى - تكون لله سبحانه وتعالى مطلقة لا تحدها حدود، وتكون للإنسان نسبية محدودة، فكمال الله - عزل وجل - أنه محيط علما بكل شيء، ظاهره وباطنه على السواء، وعلمه أزلي، ولا يغيب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، وأما نصيب الإنسان من العلم فهو محدود بحدود قدرات الإنسان على الإدراك، سواء أكان ذلك الإدراك إدراكا بالحواس، أم كان إدراكا بالعقل؛ ولذلك فبينما علم الله كامل منذ الأزل، فإن علم الإنسان يزداد مع الزمن؛ إذ يترتب على نقص علمه قابليته للزيادة النسبية، متجها به نحو الكمال دون أن يبلغه، ونتج عن الفرق بين ما هو مطلق كامل، وما هو نسبي ناقص، أن كان علم الله - سبحانه - منزها عن أن يكون إما كذا وإما كيت؛ لأن قيام الاحتمالات لا يكون إلا فيما يشوبه نقص في الإحاطة الكاملة، على حين أن علم الإنسان كله خاضع لدرجات من الاحتمال تزيد أو تنقص، ونتج كذلك من كون العلم الإلهي أزليا وكاملا، وعلم الإنسان ناقصا وحادثا في مجرى الزمن، أن علم الله - سبحانه - لا يستفاد من الأشياء المعلومة، بل الأشياء المعلومة هي المستفادة منه، على خلاف العلم البشري، فهو مستمد من الأشياء. هذه كلها فروق واضحة بين علم الله وعلم الإنسان، لكنها فروق لا تمنع أن يكون الإنسان مطالبا بحكم إيمانه الديني نفسه أن يزيد من علمه بالكائنات، وعلما بنفسه، ما وسعت قدراته تلك الزيادة، ومهم جدا لنا في هذه المناسبة أن علم الإنسان هذا الذي نشير إليه لا يقتصر على أن يظل الإنسان قابعا يكرر لنفسه هذه الحقيقة، مقروءة أو محفوظة، ألف ألف مرة كل صباح من كل يوم، وإنما هو علم لا يتوافر له إلا وهو في المعامل أو في معاهد العلم، أو في مراكز البحث أيا كان نوعها؛ يتفحص الأشياء التي تقع في مجال تخصصه العلمي، ويدرسها ويستخرج قوانينها، فيسهم في زيادة الحصيلة العلمية في الحدود المتاحة لطاقة البشر.
ومن صفتي الحياة والعلم، ننتقل إلى صفتي «القدرة» و«الإرادة»، فأما عن «القدرة» فنحب أن نلفت النظر إلى أن المعنى يتضمن جانب التقدير الكمي؛ فالقادر ليس هو فقط الذي يستطيع الفعل، بل هو الذي يستطيعه في إحكام وضبط لتفصيلاته، من حيث توقيت وقوعه في الزمان، وتحديد مكان وقوعه، وبأي قوة يقع، وإلى أي النتائج يؤدي، وكل هذه تفصيلات تنضبط بأحكام التقدير، وفي هذه المناسبة أود أن ألاحظ للقارئ ذلك الفرق في المعنى بين «القضاء» و«القدر»، فلقد تعودنا أن نربطهما معا في عبارة واحدة، فنقول إن الحادث الفلاني قد وقع قضاء وقدرا، لكن الفرق بين اللفظتين يلقي لنا ضوءا على معنى الضبط الكمي المتضمن في صفة «القدرة»؛ وأقرب ما أوضح به الفرق بين «القضاء» و«القدر» هو أن أشير إلى الفرق بين حكم يصدره القاضي، وبين تفصيلات التنفيذ التي يضطلع بها المكلفون بالتنفيذ؛ فحكم القاضي «قضاء» بأمر، يأتي بعده تحديد لموعد التنفيذ ومكانه ووسائله، فالقول بأن الله سبحانه وتعالى «قادر» يشمل ضمنا أنه إذ يقضي بأمر ، فإنما يقضي وهو عالم بكل ما يحيط بذلك الأمر من تفصيلات ونتائج.
وهذه «القدرة» المحكمة في حساب دقائقها ونتائجها، تكون كذلك صفة للإنسان، ولكن بدرجات متفاوتة في ضبط الحساب، وليست هذه عند الإنسان كما هي عند الله سبحانه، من إحاطة لا تغيب عنها صغيرة أو كبيرة؛ ومع ذلك فالإنسان مطالب بحكم عقيدته الدينية وإيمانه بالله «القادر» مطالب بأن يكون قادرا ما استطاع أن يكون.
وهنا يأتي الحديث عن صفة «الإرادة» فالله - جل وعلا - مريد بإرادة مطلقة لا تقيدها قيود، وأما الإنسان فهو كذلك مريد، ولكن إرادته تحدها حدود وتقيدها قيود.
والموصوف بالإرادة يكون مختارا فيما يفعله، غير مضطر إليه؛ إذ من لا اختيار له في فعله فهو مضطر؛ ونحن إذا قلنا «إرادة» فكأننا قلنا في الوقت نفسه إن للمريد «قصدا» يريد أن يتحقق؛ ومن هنا كانت إرادة المريد دائما اختيارا لقصد معين وحذفا لنقيضه أو لضده، وهنا يأتي الفرق بين القدرة والإرادة؛ فالقدرة مستطيعة فعل هذا الضد أو ذاك، ومستطيعة في هذه اللحظة من الزمان أو في تلك، وأما الإرادة فهي التي تختار بين الممكنات المتاحة أحدها، وتختار بين الأوقات لحظة بعينها، هذا يكون بصورة مطلقة عند الله سبحانه، ويكون بصورة منقوصة ونسبية عند الإنسان.
إننا في حدود الصفات الأربع التي عرضناها لو سئلنا: بأي هدف نربي الناشئ ونعلمه ونثقفه؟ لكان الجواب: الهدف هو أن نخرج من ذلك الناشئ إنسانا تسري في عروقه حياة، بمعنى أن يكون «فعالا دراكا» (بلغة الغزالي) ويكون ذا علم بما يحيط به ما أسعفته في ذلك ملكاته، وذا قدرة بما تتضمنه القدرة من حسن التقدير، وصاحب إرادة تعرف كيف تختار من الممكنات المتاحة لتتجه إليه بعزيمتها ... وكنا نستطيع أن نمضي بحديثنا حتى آخر الصفات المتمثلة في أسماء الله الحسنى.
لكننا لا بد أن نذكر في ختام الحديث أن من أسماء الله - سبحانه وتعالى - أنه «واحد» بمعنى أنه لا يتعدد، و«أحد» بمعنى أنه لا يتجزأ ولا ينقسم على نفسه، فإذا انعكست هاتان الصفتان على الإنسان ، محدودتين منقوصتين، كان الإنسان مطالبا بأن يكون موحد الشخصية: عقلا، ووجدانا، وسلوكا. إن رسالة الإسلام هي التوحيد، وإذن فبالنسبة للإنسان يكون التوحيد في بنيان كيانه أساسا وهدفا، فما يتجه إليه بقلبه ومشاعره يجب أن يكون مسايرا لما يراه بعقله كذلك، ومنسئلا في فعله، وأحسب أننا لو أمعنا النظر في واقع أفرادنا، لوجدنا شيئا آخر غير ذلك الكيان الموحد المنشود؛ إذ ما أيسر علينا أن نلبس عدة وجوه، لنقابل كل موقف من مواقف الحياة بوجه يناسبه، ثم نسمي هذا الضعف والتمزق لباقة وكياسة و«دردحة».
ألا إن الأخذ من هذا المعين الغني الغزير الفياض، ليطول بنا ما اتسع أمامنا الوقت والجهد، على أننا مهما اغترفنا منه هداية لحياتنا، فسوف نكون على يقين من الصواب، بفضل تلك البينات من الهدى.
من خصائص الفكر العربي
1
إذا تحدثنا عن الفكر العربي وخصائصه، فينبغي أن يكون واضحا منذ البداية أن تمايز الأمم في اتجاهاتها الفكرية لا يتضمن إنكارا للتجانس بين أفراد البشر جميعا في فطرة العقل، فالعقل لا اختلاف في طبيعته بين إنسان وإنسان، لكن هذا التجانس إنما هو في بنية العقل وإطار فاعليته، ولا شأن له بالمضمون الفكري الذي يملأ تلك البنية وهذا الإطار، ونقصد ببنية العقل وإطاره تلك القوانين الفطرية التي يعمل العقل على أسسها، وهي القوانين التي حددها أرسطو في ثلاثة: أولها قانون الهوية، الذي بواسطته يستطيع العقل أن يدرك بأن شيئا معينا يراه الإنسان الآن، هو نفسه الشيء الذي رآه بالأمس؛ وعلى قانون الهوية هذا يقوم علم الرياضة وتقوم علوم أخرى ومعارف لا حصر لها في حصيلة الإنسان، والقانون الثاني هو أن النقيضين ليس بينهما وسط، فالشيء المعين إما أن يكون هذا النقيض أو ذاك؛ لأنه لا ثالث بين هذين البديلين، كأن نقول عن اللون إنه إما أن يكون أبيض، وإما أن يكون لا أبيض، وهنا نلفت النظر إلى الفرق بين التناقض والتضاد، فأبيض ولا أبيض نقيضان ليس بينهما وسط، وأما أبيض وأسود فضدان، وقد يكون بينهما وسط هو اللون الرمادي ، والقانون الثالث هو عدم التناقض، بمعنى استحالة أن يجتمع نقيضان معا في شيء واحد وفي لحظة واحدة.
تلك هي القوانين الثلاثة التي على أساسها يعمل العقل البشري، وهو متضمنة في العمليات الفكرية التي ينشط بها العقل على تنوعها واختلافها، وهي التي لا ينفرد بها عقل بشري دون سائر العقول، وأما المضمونات التي هي من تلك العمليات الفكرية بمثابة اللحمة والسدى من قطعة النسيج، فهي التي تختلف من فرد إلى فرد، وتختلف بالتالي باختلاف الشعوب؛ والأمر في هذا شبيه بقولنا إن أنوال الغزل والنسج واحدة عند البشر جميعا، لكن المادة المغزولة المنسوجة هي التي تختلف من شعب إلى شعب، فواحد يغزل الصوف وينسجه، والآخر يغزل القطن وينسجه، وأما الأنوال فهي واحدة في الحالتين، وهكذا الحال في تجانس العقل بين الناس، ثم في اختلاف المضمون الفكري وتنوعه، ولولا ذلك الاختلاف والتنوع في المضمون الفكري، لما استطعنا أن نميز الخطوط الفكرية عند أمة كالأمة العربية، من تلك الخطوط عند أمة أخرى، كالفرنسية أو الهندية.
2
وأول ما يرد إلى الخاطر عند الحديث عن الفكر العربي وخصائصه هو طبيعة المكان الذي يحيا فيه العربي، والذي يمارس العربي فاعليته ونشاطه بين جنباته، وذلك المكان هو الصحراء الممتدة من الخليج العربي إلى المحيط الأطلسي، تتخللها واحات خضراء، تصغر حينا، وتكبر حينا آخر لتكون هي الأنهار ووديانها؛ فإذا عرفنا طبيعة ذلك الموطن الصحراوي الذي هو مسرح الحياة والنشاط للأمة العربية جمعاء، استطعنا أن نضع أصابعها على المعالم البارزة التي لا بد أن تكون هناك، مميزة للفكر العربي؛ وذلك لأن فاعلية العقل لا تتحرك في فراغ، بل إنها محصلة التفاعل بين المكان وساكنيه.
وحسبنا في هذا المقام جانبان من طبيعة الصحراء في تفاعلها مع الإنسان، وهما جانبان استخلصتهما ذات يوم، عندما كنت أقرأ وصفا لرحلة قام بها رحالة أوروبي عبر الصحراء، فكان مما قاله أنه صادف في طريقه كومة كبيرة من علب الصفيح، كانت في الأصل علبا حفظ بها الطعام لجيش أوروبي في معارك قتاله، وكان ذلك منذ عدة أعوام قبل اليوم الذي شهدها فيه الرحالة، وهو يقول إن الذي استوقف نظره منها أنها كانت تلمع تحت أشعة الشمس، وليس على صفيحها شائبة من صدأ كأنها خرجت من مصانعها لتوها. وأما النقطة الثانية التي وقفت عندها حين قرأت وصف الرحالة لرحلته الصحراوية، فهي أنه لم يكن في مستطاعه إذا ما أرسل بصره إلى الأفق البعيد، أن يميز بين المرئيات أيها أقرب إليه من أيها، أي إن الامتداد الصحراوي من شأنه أن يمحو المسافة الفاصلة بين شيء وشيء كالذي تراه العين عندما تنظر إلى نجوم السماء، فلا يكون في وسعها - بغير استعانة بأجهزة العلم - أن تعرف بين نجمين أيهما أقرب إليها من الآخر.
وقفت عند هاتين الخاصتين من خواص الصحراء بالنسبة لساكنيها، فلم يكن عسيرا أن أستدل منهما نتيجتين تظهران في تشكيل الفكر على مدى الزمن، عند أولئك السكان، أما النتيجة الأولى فهي صفة الثبات والدوام، وأما النتيجة الثانية فهي صفة الإطلاق الذي يتخلص من التغيرات النسبية في الأشياء، وبعبارة أخرى أقول إن ساكن الصحراء لا بد له أن يخرج من خبرته في تفاعله مع بيئته بميل يميل به نحو ما هو دائم وثابت، لا يتغير بتغير الأحداث الطارئة من لحظة في مجرى الزمن إلى اللحظة التي تليها؛ كما لا بد له كذلك أن يخرج من خبرة حياته، بميل يميل به نحو مجاوزة الأحداث النسبية العرضية إلى ما هو وراءها من وجود مطلق، لا فرق فيه بين بعيد وقريب؛ ومن هاتين النتيجتين نقول عن الفكر العربي إنه نزاع نحو الفكرة الثابتة وراء المتغيرات، ونحو المبدأ المطلق الذي منه تنبثق الكثرة النسبية في القواعد والتفصيلات؛ وعلى هاتين الخاصتين من الفكر العربي سنقيم رؤيتنا إلى واقع الفكر العربي، كما وقع بالفعل إبان تاريخه، لنرى في وضوح كيف تمثلت تانك الخاصتان في تشكيل الرؤية العربية.
ولعل الشاعر العربي القديم قد أجاد التعبير عن رغبة العربي العميقة مجاوزة العوابر الزوائل، التماسا لما هو ثابت وصامد وأبدي وخالد، حين قال:
ما أطيب العيش لو أن الفتى حجر
تنبو الحوادث عنه وهو ملموم
3
وتذكرنا هذه الوقفة العربية من التغير والثبات بوقفة اليونان الأقدمين، فهم كذلك قد بدءوا تاريخهم الفلسفي بهذه القضية الفكرية ذاتها وهي البحث وراء الظواهر المتغيرة عن الجوهر الثابت الذي لا يتغير، والذي يتجلى في تلك الظواهر المتغيرة، لكن بين العربي واليوناني فرقا شاسعا من ذلك البحث عن الثبات والدوام وراء ما هو ظاهر وعابر؛ وذلك أنه بينما اليوناني كان يجعل ذلك الثبات في مبدأ عقلي يفرضه هو لنفسه، ليفسر على مقتضاه كل ما تشاهده حواسه من متغيرات، كان الثبات والدوام عند العربي، هو الله - سبحانه وتعالى - الأحد الصمد الحي القيوم.
ومن هذا الاختلاف في نقطة البدء بين العربي واليوناني في الموقف الفكري لكل منهما، فبينما اليوناني - ومن بعده الفكر الغربي كله - يتصور العلاقة بين المبدأ الأول والمفردات التي تندرج تحته، على غرار ما يتصور النموذج الذي يضعه الصانع ليخرج مصنوعاته على غرارها، وبالتالي تكون درجة الكمال في كل فرد وفي كل كائن مفرد، متوقفة على الدرجة التي يقترب بها ذلك الفرد أو ذلك الكائن المفرد من النموذج الذي كان ماثلا أمام الصانع، أقول إنه بينما كانت هذه هي الصورة التي تصور بها الفكر اليوناني العلاقة بين المبدأ الأول ومفرداته، كان التصور عند العربي على خلاف ذلك؛ إذ جاء تصوره هذا من حقيقة كون الله سبحانه وتعالى خالقا، وسائر الكائنات مخلوقات له، ولقد ترتب على هذا الاختلاف أن جاز للفلاسفة في الغرب أن يغيروا ويبدلوا من المبادئ الأولى التي يفترضونها أسسا تتولد عنها النتائج، في حين أن العربي ثابت على تصوره؛ لأنه حقيقة أوحي بها إليه، وليست اختيارا من حقه أن يغير فيه، لكنه إلى جانب هذا الاختلاف الجوهري بين الوقفتين كان هنالك بينهما من التشابه ما لا يمكن إهماله، لأهمية ما ترتب عليه في التاريخ الفكري عند العرب والمسلمين، وهو أن الإطار العام الذي يجعل الحقيقة العامة تأتي أولا، وتأتي بعدها مفردات الكائنات، هو إطار مشترك بين الجماعتين، ومن هنا سهل على العقل العربي أيام الخليفة المأمون أن يترجموا إلى العربية أهم جوانب الفلسفة اليونانية، وأن يتقبلوها، وأن يجروها في شرايين الثقافة العربية بعد ذلك، وحسبنا أن نحلل الناتج الفكري عند عباقرة الفكر العربي كالجاحظ، وأبي حيان التوحيدي، وأبي العلاء المعري، لنرى كم جاء ذلك الناتج الفكري الجديد وليدا للعبقرية والعربية مطعمة بغذاء من الفلسفة اليونانية بعد ترجمتها إلى اللغة العربية؛ ولو كان هناك تنافر في الإطار الفكري بين الفريقين لما تقبل الذهن العربي تلك المادة الفكرية المنقولة إليه، كما لم تتقبلها ثقافات قديمة أخرى، كالهندية والصينية مثلا، ولعل الشاعر الإنجليزي ردياردكبلنج، حين قال عبارته المشهورة: «الشرق شرق، والغرب غرب، ولن يلتقيا.» كانت الهند ماثلة له أمام ذهنه، بحكم حياته فيها؛ أما الشرق العربي فقد كان في كيانه العقلي ما يجعله قادرا على تمثل الثقافة الغربية عندما نقلها هو بنفسه إلى نفسه من القرن الثالث الهجري.
4
وإنه لمما يلفت النظر في التشابه بين اليوناني والعربي، نتيجة للتشابه القائم بينهما في تركيبة الإطار الفكري، من حيث البدء بما هو حقيقة شاملة ومطلقة، ثم النزول منها إلى الحقائق المفردة والجزئية، وذلك برغم اختلاف العربي عن اليوناني في طبيعة نقطة البدء تلك، أقول إنه لمما يلفت النظر في التشابه بين الجماعتين أنهما معا قد برعا في الفكر الرياضي براعة بلغت الغاية القصوى في ذلك الميدان، على خلاف ما أبدياه من قدرة محدودة في العلم الطبيعي، وتعليل ذلك هو أن الفكر الرياضي ينصب في الإطار المنهجي الذي رأيناه قائما عند اليوناني والعربي كليهما، وأعني الإطار الذي يبدأ بما هو عام وشامل، نزولا إلى ما ينتج عنه من مفردات جزئية، فكذلك يكون طريق السير في الفكر الرياضي، سواء أكان ذلك الفكر الرياضي في علوم الرياضة ذاتها كالحساب والجبر والهندسة، أم كان في مجالات ثقافية وعلمية أخرى، تختلف موضوعا، لكنها تتفق منهجا مع ذلك الإطار، كالفقه الإسلامي، وعلوم اللغة، وعلم الكلام، فكلها يبدأ الفكر فيها مما هو عام، ليستخرج منه ما هو جزئي وخاص.
ولا غرابة - إذن - أن نجد المنهج العلمي، كما صاغه أرسطو في نظرية القياس، ملائما للفكرين اليوناني والعربي على السواء؛ إذ تقتضي نظرية القياس الأرسطية، التي نقلها العرب فيما نقلوه عن اليونان، بحيث أصبح علم المنطق شرطا أساسيا فيمن يوصف بأنه مثقف أو فقيه أو عالم في أي ميدان من ميادين العلم، أقول إن نظرية القياس الأرسطية تلك تقتضي أن يبدأ العقل بمقدمات مفروض فيها الصدق، ثم منها تولد النتائج الصحيحة وفق قواعد معلومة ومحددة، يعرفها المناطقة ودارسو المنطق.
كانت السيادة المطلقة معقودة للمنهج القياسي، في الحياة الفكرية عند اليونان وعند العرب على السواء، ومن ثم كانت لكليهما معا براعة الفكر الرياضي، وما يجري مع الفكر الرياضي في فلك واحد، بل إنه عندما حدث لرجل ينبغ في العلم الطبيعي، عند أولئك وهؤلاء معا، مثل أرشميدس عند اليونان، وجابر بن حيان عند العرب، فقد كان ذلك الرجل لا يجد أمامه من سبيل إلا أن يصوغ علمه الطبيعي في قالب العلم الرياضي، بمعنى أن يبدأ فيه بمقدمات عامة مسلم بصحتها بادئ ذي بدء، مع أن العلم الطبيعي محال له أن يزدهر وينتج إلا إذا سار على منهج آخر، يبدأ فيه الباحث بما هو مفرد وجزئي، لينتهي آخر الأمر إلى ما هو عام وشامل من قوانين العلوم، وذلك ما تنبهت إليه النهضة الأوروبية في القرن السادس عشر الميلادي، فأنشأت إلى جانب المنهج الأرسطي القياسي منهجا جديدا يصلح للبحث في ظواهر الطبيعة واستخراج قوانينها العلمية.
5
من حقنا أن نخلص مما أوردناه من أوجه التشابه ومواضع الاختلاف بين العربي واليوناني إلى النتيجة الآتية، وهي أنهما إذا كانا متشابهين في إطار فكري تتجه فيه حركة العقل من الكلي إلى الجزئي، ومن العام إلى الخاص، ومن المقدمات إلى النتائج، فموضع الاختلاف الرئيسي بينهما هو أنه بينما الأولوية الأولى إنما تكون لمبدأ من وضع العقل، فالأولوية الأولى عند العربي هي لحقيقة يتقبلها الوجدان، ثم يبدأ العقل بعد ذلك في توليد النتائج منها.
وتتفق هذه الأسبقية الوجدانية عند العربي مع جذور فطرته، وما تلك الجذور إلا أن العربي شاعر، إنه شاعر بالسليقة، ثم هو بحكم تلك السليقة الشاعرة يتميز في مقومات شخصيته بما يتميز به كل شاعر عرفته الدنيا أو سوف تعرفه، ولعل أهم صفة تميز الشاعر عن سائر عباد الله هي أنه بدل أن يعد نفسه ظاهرة من ظواهر الطبيعة، تراه يؤنسن الطبيعة ليجعلها مندرجة مع الإنسان في وجدان واحد، إن الشاعر لا يرى غرابة في التحدث إلى النجم والبحر والجبل، ولا يرى غضاضة في أن يجد أنسه مع شجرة وجدول وعصفور، فالشاعر يخلع على الطبيعة الخارجية طابعه الداخلي، فينظر إلى كل شيء بمنظار ذاته هو، ويقيس كل شيء بمعياره هو، فنتج عن هذه الوقفة الشاعرة نتيجتان خطيرتان في حياة الفكر عند العربي؛ أولاهما: أنه إذا كانت عبقرية العربي هي في شعره، ثم إذا كان محالا على الشعر أن ينقل إلى لغة غير لغته، ويظل محتفظا بكل قيمته، كان العربي بهذا القدر نفسه مجهولا من الآخرين، فإذا عرفه الآخرون، لم يعرفوه على حقيقته كاملة، ولقد ذكر الجاحظ هذه النقطة في المجلد الأول من كتابه «الحيوان» وأفاض فيها القول، مشيرا إلى أننا قد يسهل علينا أن ننقل عن اليونان فلسفتهم وعلومهم، وأن ننقل عن الفرس كذا وعن الهند كيت، لكنه محال على تلك البلاد أن تنقل عنا أروع ما يمثلنا، وهو الشعر، وأما النتيجة الثانية فهي أن العربي بسبب رؤيته الشاعرة يرى في الأشياء كيفها أكثر مما يسأل عن كمها، ولما كان إدراك الجانب الكمي هو في الصميم من العلم الطبيعي، فالأرجح بناء على ذلك ألا يبرع العربي في علوم الطبيعة، كما كان قد برع في علوم الرياضة، لا بل إنه - بحكم تلك الرؤية الشاعرة - قد جبل على أن ينظر إلى كل ما يتصل بالطبيعة نظرة ازدراء؛ لأنها «مادة» من جهة وهو مع الروح قبل أن يكون مع المادة، ولأنها «واقع» من جهة أخرى، والواقع كما توحي هذه اللفظة نفسها، شيء وقع، أي هبط وسقط، ولم تعد له رفعة الحقائق الروحانية وسموها.
وعلى ذكر الوقفة الشاعرة عند العربي، وأهمية الشعر في حياته الثقافية، لا بد لنا من الإشارة إلى فروع تفرعت عن ذلك الأصل، منها أنه لما كان الشعر بطبيعته يتميز بالعناية باللفظ وطريق سبكه، حتى ليمكن القول بأن الشعر جوهره في شكله لا في مضمونه، أي إن المهم فيه ليس هو ماذا تقول، بقدر ما هو كيف تقول ما أردت أن تقوله، وقد أشار الجاحظ أيضا إلى هذه الحقيقة عن الشعر، حين قال إنها ليست في المعاني؛ لأن المعاني ملقاة على قارعة الطريق لمن شاء أن يلتقطها، أما سبك تلك المعاني في الألفاظ المنتقاة لها، وفي الصياغة التي تنخرط فيها تلك الألفاظ، فذلك ما لا يستطيعه إلا شاعر، أقول إنه لما كان الشعر ذلك هو جوهره، فقد وجد العربي نفسه محكوما بفطرته الشاعرة، في شدة اهتمامه باللفظ، اهتماما كثيرا ما يصرفه عن ضرورة أن تكون لذلك اللفظ دلالة تهدي الناس في دنيا الأشياء.
وكان مما تفرع أيضا عن اتجاه العربي بقوته نحو الشعر، أنه ازداد تمسكا بأن يأخذ نماذجه العليا من التقليد، فالحكم على الشعر بالجودة مرهون بأن يجيء ذلك الشعر على غرار ما نظمه فحول الشعر في الماضي، وإنه لمما يستوقف النظر حقا أنه بينما اتجه المسلمون إلى الحط من شأن الجاهلية في كل جوانب الحياة، استثنوا الشعر، وجعلوا مقياس الفحولة في الشعر ما نظمه نوابغ الشعراء في العصر الجاهلي، ولقد رأينا الأصمعي حين أراد أن يحدد مقاييس الفحولة في الشعر، يتخذ شعراء الجاهلية سنده ومرجعه، حتى غدا شاعر عظيم مثل ذي الرمة، مقصرا دون مرتبة الفحولة؛ لأنه لم ينظم في كل أغراض الشعر التي نظم فيها كبار السابقين، فللشعر العربي عمود، وعلى الشاعر أيا ما كان عصره، أن يعتصم بعموده.
6
قلنا إن نقطة البدء الأولى عند العربي، في شوطه الفكري، هي تلك الحقيقة الكبرى، المطلقة من كل نسبية، الثابتة التي لا تتغير، الدائمة التي لا تزول، وقلنا إنه لا يفرضها هو من عنده كما هو الشأن عند فلاسفة اليونان وهم يفرضون لأنفسهم مبادئهم الأولى، بل إن العربي يتلقى تلك الحقيقة الكبرى وحيا، ثم يتقبلها بوجدانه إيمانا وعقيدة، وقد ترتبت على هذا الموقف عدة نتائج من حياته الفكرية.
فالأحكام الخلقية عنده تهبط إليه من السماء أوامر تطاع، وليست هي - كما هي الحال عند معظم فلاسفة الغرب - مأخوذة لنتائجها النافعة، أو لكونها تعمل على إسعاد الناس، أو لأن الخبرة البشرية قد دلت على صلاحيتها، بل هي أوامر ونواه نزلت مع ما أنزل على الأنبياء وحيا، يلتزم بها المؤمنون، حتى قبل أن يفحصوها من زوايا المنفعة والسعادة وما ذهب هذا المذهب، وبهذه النظرة تكون القيم الأخلاقية عند العربي أمورا مطلقة لا يقال عنها إنها نسبية بالقياس إلى مكان معين وعصر معين، حيث يجوز أن تتغير كلما تغير المكان أو تغير العصر، وكذلك هي عند العربي حقائق موضوعية، وليست مرهونة بميول ذاتية، وهي في موضوعيتها تلك أقوى رسوخا من الحقائق العلمية ذاتها؛ لأن هذه الحقائق العلمية لا ضير علينا من تغييرها كلما ثبت بطلانها، وأما الحقائق الأخلاقية فيتكيف لها الإنسان وهي لا تتكيف له ولظروف حياته.
ولسنا نشعر في ذلك كله بما يدعونا إلى تساؤل، لكن الذي قد يدعو إلى التساؤل حقا، هو أن العربي لشدة تعلقه بموضوعية المثل العليا وإطلاقها من قيود النسبية؛ يمد هذا الموقف حتى يشمل به الشعر، فهو في شعره لا يتغنى بامرأة بعينها في غزله، حتى وإن وجه الخطاب إلى اسم معين، ولكنه في الحقيقة يخاطب المثل الأعلى للمرأة، وهو إذ يصف جواده أو ناقته فهو لا يقف عند تفصيلات هذا الجواد المعين الذي هو جواده ولا هذه الناقة المعينة التي هي ناقته؛ بل يصف المثل الأعلى للجواد أو للناقة، حتى ولو لجأ إلى الكائن الفرد الذي بين يديه، وسيلة يتوسل بها للوصول إلى صورة المثل الأعلى.
وكما تبدو منه تلك النزعة المشرئبة نحو الكمال في موضوعيته وفي تجريده وفي مطلقيته، في ميدان الأخلاق، وفي مجال الشعر، فتلك النزعة أكثر ظهورا وأشد جلاء في ميدان الفن، كالتصوير، إنه هنا لا يرسم «أفرادا» بتفصيلات الأفراد، سواء أكان الكائن الذي يصوره إنسانا أم حيوانا أم نباتا؛ بل هو يصور «الفكرة المجردة» بمعنى أنه يكتفي من الكائن الذي يصوره بالخطوط الخارجية لطريقة بنائه، وكأنه بذلك يحاول أن يرسم، لا الجسد المجسد بحذافيره، بل «المعنى الذهني» لذلك الكائن، فانظر إلى الرسوم على سجادة، أو فيما وردت فيه رسوم توضيحية من الكتب، تر شخوص الناس أو الحيوان أو النبات أقرب إلى الأشخاص التخطيطية التي ذكرتها، لتوحي إلى المشاهد ب «الفكرة».
وقد نزداد وضوحا بالنسبة لهذه النزعة عند العربي في تفكيره إذا تأملنا اتجاهه في الفن نحو الزخارف الهندسية، كالتي نراها - مثلا - على جدران المساجد وغيرها، أو كالذي نراه من نقوش في الأواني وعلى الأبواب وغيرها، فها هنا نرى الفنان العربي تجريدا في فنه قبل أن يسمع عصرنا الحالي بالفن التجريدي، وهل هنالك ما هو أمعن في التجريد من أشكال هندسية؟ وهنا نلاحظ حقيقة بالغة الأهمية، وهي أن ميل العربي في فنه إلى تكرار الوحدات، ويقابل ذلك من الشعر تكرار القافية، إنما يشير إلى ما نتوقعه عند المشاهد، من أنه سيظل يتابع بعينه تلك الوحدات إلى نهاية الجدار، وها هنا ينتقل من الواقع المحسوس أمامه، إلى دنيا الخيال فيظل يكرر الوحدة إلى ما لا نهاية، إلى المطلق الذي لا تحده حدود ولا نهايات.
إن إدراك العربي للقيم الأخلاقية والفنية يختلف اختلافا بينا عن إدراك الغربي لتلك القيم؛ وذلك أنه بينما يميز الفكر الغربي بين ما هو واقع مما هو مثل أعلى ينبغي له أن يتحقق، تميزا يصل به إلى حد القول بأنه من طبائع الأمور أن يكون محالا على ما هو واقع بالفعل مطابقا للمثل الأعلى، وإلا فقد المثل الأعلى معناه، وكل ما يطلب مما هو واقع فعلي أن يجعل اتجاه تطوره وتقدمه نحو ما هو مثل أعلى، حتى ولو لم يكن له قط أن يبلغه، أقول إنه بينما يفرق الفكر الغربي هذه التفرقة بين ما هو كائن وما كان يجب أن يكون نرى الفكر العربي في مسألة القيم، قائما على أساس أن ما هو واقع لا بد أن يجسد الكمال الأمثل؛ وأن ذلك الكمال لم يخلق لكي يظل أملا معلقا في الهواء، بل خلق ليتحقق على أرض الواقع في الحياة الدنيا، ربما كان هذا الاختلاف في الرؤية بين الفريقين، هو الذي مال بالعربي نحو شيء من الزهد في ملاذ الحياة العابرة، وأغرى أبناء الثقافة الغربية بأن يعترفوا بما هو محتوم على البشر من أوجه النقص، فعاشوا حياتهم على هذا الأساس.
وقد تتضح لنا هذه النقطة في المقارنة بين الرؤيتين إذا أمعنا النظر في بعض الأسماء المتصلة بما نحن بصدد البحث فيه، في اللغة العربية وما يقابلها في اللغات الأوروبية، فالأوروبي يستخدم لفظة «إيديال» للمثل الأعلى، وهي مأخوذة من الكلمة التي معناها «فكرة»، أي إن المثل الأعلى لا يكون إلا في عالم الأفكار فحسب، كما يستخدم كلمة «ريال» لتعني الواقع، وهي مأخوذة من كلمة لاتينية معناها «شيء» أي إن ما هو واقع إنما يقتصر على الأشياء؛ ومعنى ذلك هو أن المقارنة بين ما هو واقع وبين ما هو مثل أعلى هي مقارنة بين «الأشياء» من جهة و«الأفكار» من جهة أخرى، ولن تكون الأشياء أفكارا، كما يستحيل على الأفكار المجردة أن تطابق واقعها تطابقا تاما.
وأما في اللغة العربية فالأمر مختلف كل الاختلاف؛ إذ إن كلمة «مثل» أو «مثال» تتضمن لغويا أن يكون المثل أو المثال أشياء في دنيا الواقع، وكل ما في الأمر هو أن الشيء يكون «مثالا» لغيره من مفردات جنسه، إذا كان الكمال قد تحقق فيه، فالجواد «المثالي» ليس مجرد فكرة ذهنية عن ذلك الجواد، بل هو جواد حقيقي فعلي مجسد بين الجياد، إلا أنه أكمل من سواه، ولهذا فقد أصبح معيارا يقاس إليه سائر الجياد؛ وكذلك كلمة «واقع» في العربية تتضمن معنى الهبوط أو الانحطاط إلى الأسفل، وإذن تكون المقارنة - في العربية - بين «المثال» و«الواقع» مقارنة بين شيئين في عالم الحس، أحدهما أكمل من الآخر، على خلاف ما رأيناه في الأسماء باللغات الأوروبية، إذ تدل المقارنة هناك بين «الإيديال» و«الريال» على مقارنة بين أذهان وأعيان، أي بين فكرة ذهنية من جهة وشيء من دنيا الحس من جهة أخرى.
وأظن أن الفرق اللغوي بين الحالتين يبين لنا ما قلناه عن الفرق بين رؤية العربي ورؤية الغربي إلى «القيم»، فالعربي يرى أن القيم بكل سموها يجب أن تتجسد في الأشياء والأفعال، في حين يرى الغربي أن ذلك مناف لطبائع الأمور؛ إذ من طبيعة الفكرة الذهنية النموذجية أن تظل أمام الناس هدفا منشودا يقترب منه شيئا فشيئا، وأما أن نتوقع للفكرة أن تتجسد بكل كمالها في أشياء وأفعال فذلك بمثابة أن نكلف الأمور ضد طباعها.
7
وما دمنا نسوق الشواهد من المفردات اللغوية؛ لنستدل الفوارق المميزة للفكر العربي، فذلك يستوجب منا وقفة قصيرة عند اللغة العربية وخصائصها؛ فما من شك في أن لغة القوم هي المرآة العاكسة لما جبلوا عليه من لفتات الفكر والعاطفة وغيرهما من ظواهر الحياة الشعورية واللاشعورية على السواء؛ فإذا رأينا اختلافات جذرية في خصائص اللغة العربية عن خصائص لغة أخرى كالإنجليزية مثلا، تحتم أن تكون تلك الاختلافات دالة على اختلافات تقابلها في التكوين الفكري والشعوري بصفة عامة عند الأمتين.
وفي مستطاعنا أن نقع على مئات المواضع التي تشير إلى ضروب من الاختلاف بين اللغة العربية واللغة الإنجليزية مثلا؛ فلماذا تحتم الإنجليزية أن تكون الجملة فعلية دائما، في حين تجيز العربية الجملة الاسمية التي لا فعل فيها؟ ولماذا تضع الإنجليزية الصفة قبل موصوفها، في حين نرى عكس ذلك من اللغة العربية؟ ولماذا يجيء الفاعل قبل الفعل في الإنجليزية، في حين يكون الفعل سابقا للفاعل (غالبا) في العربية؟ ولماذا يكون التقسيم في العربية إلى مفرد ومثنى وجمع، في حين تستغني الإنجليزية عن المثنى؟ ولماذا؟ ولماذا؟ إلى آخر هذه المواضع التي تختلف فيها اللغتان، وبالتالي يختلف الفكران في هذه الأمة عنه في تلك. وحسبنا هذه الإشارة إلى اللغة ودلالتها على الفكر، فليس هذا المقام مقام القول الفصل في هذا الموضوع.
8
وفكرة أخرى وأخيرة، نشير إليها إشارة قصيرة عابرة، وهي ما قد تميز به الفكر العربي من توسط يجمع الطرفين المتباعدين في نقطة التقاء واحدة؛ فمن ينظر إلى التراث الفكري عند أبناء الغرب في جملته، لا يخطئ أن يرى النزعة المنطقية العلمية غالبة، ومن هنا ازدهر الفكر المجرد في مجال العلم ومجال الفلسفة معا؛ وأما من ينظر في التراث الفكري عند أبناء الشرق الأقصى - كالهند والصين - فكذلك لا يخطئ أن يرى النزعة الصوفية واضحة، ونعني بالنزعة الصوفية ضربا من الإدراك للحقيقة، لا ينبني على المنطق العقلي واستدلالاته، بل ينبني على الإدراك الحدسي المباشر، أو قل على إدراك البصيرة، أو إدراك القلب، أو الإدراك الوجداني، أو ما شئت من هذه الأسماء.
لكن انظر إلى الفكر العربي في جملته أيضا، تدرك في وضوح قدرته الفريدة على جمع الفكر المنطقي والرؤية الصوفية معا في كيان واحد، ولقد كانت الثقافة العربية هي الوحيدة بين سائر الثقافات، وخصوصا بعد الإسلام، التي جمعت بين دفتيها في تمثل كامل: فلسفة أفلاطون وأرسطو مضافا إليها علوم اليونان، وتصوف الهند وفارس، حتى بات مألوفا لنا أن نطالع في تراثنا العربي الفارابي وابن سينا وابن رشد، جنبا إلى جنب مع الحلاج وابن عربي وجلال الدين الرومي.
ولقد أعانتنا اللغة العربية على هضم الغذاءين معا، على ما بينهما من شقة واسعة من التباين، ففي اللغة العربية طاقة وجدانية جعلتها مهيأة للشعر والتصوف؛ كما أن فيها قدرة على بيان الفواصل الدقيقة بين مختلف المعاني، ساعدتها على التفكير العلمي في أعلى درجاته وأدقها.
حسبك من بستان زهرة
قال الغلام إذ بلغنا حافة بستان، كان الربيع قد فرشه ببساط من الزهر، الذي يخطف الفؤاد ويخطف معه البصر، فألوان الزهور متسقة في اختلافها، هادئة الحركة برءوسها، بدفعة خفيفة من الهواء اللطيف، وتحت شمس حانية، قال الغلام بشهقة المأخوذ: الله! ما أجمل الزهور! فقلت له: نعم يا ولدي ما أجملها وأحلاها، لكنك لن تبلغ من حلاوتها وجمالها مرادك، إلا إذا حصرت انتباهك في زهرة واحدة، تتأمل فيها صنعة الذي خلقها وبرأها ولونها وسواها! إن معرفة الإنسان لحقائق الأشياء وأسرارها لن تأتيك إذا أنت رأيتها ب «الجملة»، وإنما تأتيك طائعة إذا أفردت لها عنايتك واحدة واحدة، فلكل كائن على وجه الأرض، صغيرا كان أو كبيرا، نباتا أو حيوانا أو إنسانا، شخصيته الفريدة المنفردة، التي يختلف بها عن سائر أفراد نوعه، فكيف به اختلافا عن سائر الأنواع، حتى ليخيل إلي يا ولدي، أن هذه الحقيقة المذهلة عن خلق الله، هي التي كان ينبغي أن تكون الدرس الأول، منذ أول يوم يلتحق به طفل بمدرسة، ليتحقق ذلك الطفل فيما بعد، ماذا تكون «الديمقراطية» بين أفراد الناس في الأمة الواحدة، حتى لا يطمس أحد أحدا، ولا يتعالى أحد على أحد، لأن كل أحد من الناس، والزهور، والطيور، وحتى ديدان الأرض وخنافسها - إذا تأملته - وجدته فردا فريدا، يختلف ولو قليلا عن سائر أفراد نوعه، ودع عنك اختلافه عن سائر الأنواع.
وأما بعد، فهيا بنا، أنت وأنا، نوجه أنظارنا إلى زهرة واحدة، ولنغض البصر مؤقتا عن بقية البستان، فرؤية المجموع دفعة واحدة تضيع معها حقائق الأفراد، انظر أولا إلى هذه الزهرة التي أمامنا، في درجات لونها وأطيافه، فلو سألتك: ما لون هذه الزهرة؟ فقد تجيبني متسرعا: إنها حمراء، لكن دقق النظر يا ولدي، تجد احمرارها هذا الذي أجملته أنت في كلمة واحدة، إنما هو عدة درجات، وإنك لتظلم الزهرة إذا جردتها من تراثها اللوني الغزير، ولست أدري إن كنت وأنت من أنت في سنك الصغيرة، تستطيع أن تفهم عني ما أقوله، إذا قلت لك إنه ربما كان السر في تخلفنا بالنسبة إلى من تقدموا من شعوب عصرنا، هو أننا نعلم أبناءنا حقائق الأشياء ب «الجملة» ولا نعنى بتربية العين والأذن وسائر الحواس، قف مع نظيرك من شباب تلك الشعوب الناهضة في بستان كهذا، وانظر كم ترى عيناه منه وكم ترى عيناك، كم تسمع أذناه من أصواته وكم تسمع أذناك، سيأخذك العجب يا ولدي، حين تخرجان معا، فإذا بزميلك قد عرف الكثير، وأنت لم تعرف إلا أقل من القليل، وذلك لأن أهله عرفوا كيف يربون منه العين والأذن، ليرى وليسمع، ما لا تراه أنت وما لا تسمعه، وأريد لك أن تتنبه - قبل أن نترك لون الزهرة في غناه - إلى أن ذلك النسق اللوني بكل روعته وكثرته إنما هو مأخوذ من هذا التراب الذي تحت قدميك، وأن أريج الزهر الذي تشمه فيها هو عطاء هذا التراب الذي تطؤه بقدميك.
ولننتقل بأبصارنا إلى ورقات الزهرة وكيف رصت صفوفها، وكيف تدرجت أحجامها مع تتابع تلك الصفوف، من الأكبر إلى الأصغر، ولكي أطلعك على بعض سرها العجيب، أروي لك حقيقة عرفتها عن الأسس الرياضية الكامنة في ذلك الترتيب، فلقد وقفت مرة على نبأ يروي عن رجل إيطالي من رجال الدين في العصور الوسطى، وكان الرجل ذا موهبة رياضية، واسمه فيبوناتشي (في أوائل القرن الثالث عشر الميلادي) فدفعته موهبته الرياضية إلى النظر في أوراق وردة، ليرى إن كان التدرج في مساحة الورقات، يجري على نسبة رياضية معينة، وما أشد فرحته إذ وجد تلك النسبة، وضبط مقدارها، وإذا لم تكن الذاكرة قد خانتني، فقد وجد فيبوناتشي أن النسبة بين الورقة في أي صف، وأي ورقة في الصف الذي يليه، هي (1: 1,618) أي أن اتساع الورقة في الصف الأكبر يساوي اتساع الورقة في الصف الأصغر والتالي له مباشرة، أكثر قليلا مرة ونصف المرة، ثم يأتي بعد ذلك ما هو أعجب، فقد فكر الرجل في أن يتعقب ظواهر أخرى في النبات والحيوان، ليرى إن كان في تتابع أجزائها مثل تلك النسبة، فوجد النسبة نفسها قائمة في القشور الخارجية لثمرة الأناناس، وفي خلايا النحل، وفي تناسل الأرانب، ثم اسمع ما هو أعجب وأعجب، فقد اشتدت الرغبة عند الرجل في أن يتوسع في مجال التطبيق، فبحث في فن العمارة الروماني متمثلا في روائعه، وإذا تلك النسبة قائمة كلما وجد وحدات معمارية متدرجة الأحجام، ونظر في بحور الشعر الروماني، فوجد أن التفعيلات في بعض تلك البحور، تتدرج أطوالها بالنسبة ذاتها، ولنا أن نضيف إلى تلك الحقائق حقيقة أخرى، وهي أن أرسطو فيلسوف اليونان قد ذكر بأن هنالك نسبة رياضية معينة إذا توافرت بين أضلاع المستطيل، كان ذلك المستطيل أحب إلى عين الإنسان من أي مستطيل آخر فيه نسب أخرى بين أضلاعه، ولذلك أطلق عليه أرسطو اسم المستطيل الذهبي، وكانت تلك النسبة الذهبية هي نفسها التي وجدها فيبوناتشي في طائفة كبيرة بحثها، من ظواهر الطبيعة نباتا وحيوانا، ومن آثار الفن عمارة وشعرا.
والآن فانظر يا ولدي كم وجد رجل واحد في وردة واحدة، وقف عندها فاحصا باحثا مدققا، ولو كان قد اكتفى بنظرة إلى البستان في جملته، بكل ما فيه من أشجار وأزهار وحشائش وأعشاب، وشهق من الدهشة قائلا: الله! ما أجمله من بستان! كما فعلت أنت عند قدومنا إلى هذا المكان، لما فرح بشيء مما رأى.
قف - يا ولدي - عند جزئية واحدة، من المجموعة التي أنت بصددها، وتعقب دقائقها وأسرارها، تزدد علما أكثر ألف ألف مرة مما تزداده الآن بتلك النظرات السريعة الشاملة، فسألني الغلام عند هذا الموضع من حديثي إليه قائلا: وهل كنت تفعل ذلك منذ طفولتك وصباك؟ أجبته بقوله: لا، لقد كنت مثلك عندما كنت في مثل سنك، أنظر النظرات الخاطفة، وأطلق الأحكام السريعة الشاملة، بل ظللت كذلك حتى أوغلت في مرحلة الشباب، وإني لأذكر جيدا كيف كنت أزور متاحف الفن، إذ كنت أهرول في أبهاء المتحف وغرفه، أنظر هنا، أنظر هناك، بل وأمشي أحيانا وكأن العينين مغمضتان عما حولي، ثم أزعم أني زرت المتحف الفلاني، أما بعد أن تعلمت كيف أنظر، فقد أصبحت أزور المتحف من متاحف الفن، لأقضي النهار كله في غرفة واحدة، وأذكر مرة رأيت لوحة من الفن الحديث، موضوعها شاطئ البحر في الصيف، أغرتني بالجلوس أمامها متأملا دقائقها مدة ساعتين، ولو طاوعت نفسي لواصلت الجلوس والتأمل، وذلك لأن اللوحة تكاد تشيع حولها برودة البحر ومرح المصطافين، على نحو يدفعك دفعا إلى الشعور بأنك بالفعل في ذلك المكان، فأردت أن أتتبع مكونات اللوحة واحدا واحدا، ومجموعة مجموعة، لعلي أقع على سر ذلك الإشعاع والنشوة.
إن الفرد من عامة الناس - يا ولدي - يعرف الماء والهواء والخضر والحديد والنحاس، يعرف القطن والقمح والفول والعدس، يعرف ذلك كله، ويستخدمه في حياته العملية، لكن قارن معرفته تلك بمعرفة العلماء في مجالاتهم المختلفة، تجد العالم يطيل الوقوف عند جزئية واحدة من مجال بحثه، قطرة واحدة من الماء - مثلا - أو جزئية من جزئيات النحاس، ويظل يحلل ويحلل، حتى يخرج للناس من ذلك التحليل بالعناصر التي يتركب منها الماء، أو بخصائص النحاس حتى يصل فيها إلى عدد الكهارب المكونة لكل ذرة من ذراته، وإنك يا ولدي ترى الضوء كما يراه العالم، وتسمع الصوت كما يسمعه، لكن انظر إلى العالم كيف يرى ويسمع، إنه يبحث ويبحث حتى يصل إلى الأطوال المختلفة لموجات الضوء وموجات الصوت، ويقيس سرعة الضوء وسرعة الصوت، أتدري ما نتيجة مثل هذه الرؤية الباحثة الفاحصة؟ إن العلماء وقد عرفوا من قطرة الماء كيف تتركب، بأن في مستطاعهم أن يصنعوا الماء، وأن العلماء وقد عرفوا تفصيلات الموجة الصوتية والموجة الضوئية، استطاعوا أن ينقلوا الصوت بالراديو، وأن ينقلوا الضوء (اللون) بالتليفزيون.
قف طويلا عند الجزئية الواحدة من أي شيء تريد معرفته، حتى لو كان الأمر يتطلب منك في النهاية أن تلقي النظرة الشاملة على الكيان في مجموعه، فإن علمك بالجزئيات التي دخلت في إقامة ذلك الكيان، يجعلك فيما يشبه النور، انظر إلى الفرق بين رؤيتك لجسم الإنسان من ظاهره، ورؤية العالم بتشريح ذلك الجسم تشريحا يعرف به المكونات الداخلية من أجهزة مختلفة وكيف تعمل، وتفصيلات كل جهاز منها على حدة، وتفصيلات علاقاته بسائر الأجهزة. كنت فيما مضى أقرأ كتاب الله مرة كل شهر - أقرأ جزءا كل يوم - ثم تعلمت كيف أقرؤه سورة سورة، وآية آية، ويدهشك - يا ولدي - إذا بينت لك الفرق بين الحالتين، إن استطلاع السطح لا يغنيك شيئا عن ارتياد الأعماق. وبمناسبة حديثي إليك عن المقومات الداخلية في الجزئية الواحدة، أذكر لك يوما وقفت فيه طويلا طويلا عند سورة التين، وقصة ذلك بشيء من التفصيل، هي أني صادفت في أحد أسفاري باحثة بريطانية مستشرقة، أو قل على وجه التحديد إنها مستعربة، تدرس ما أمكنها أن تدرسه من اللغة العربية والفكر العربي ، والأدب العربي، فلما عرفت أني مسلم، سألتني: أرجوك أن ترشدني إلى أي الأنبياء تشير كلمة «التين» في سورة: والتين والزيتون، وطور سينين وهذا البلد الأمين؟ فقلت لها: إنني لا أعرف أنها تشير إلى نبي. قالت: ولكن الأسماء الثلاثة التالية لها في القسم تشير كل منها إلى نبي. فالزيتون إشارة إلى عيسى، وطور سينين إشارة إلى موسى، والبلد الأمين إشارة إلى محمد (عليهم جميعا الصلاة والسلام)، قلت لها: إن الذي أعرفه هو أن مثل هذه الإشارة إنما يقتصر على طور سينين؛ لأنه جبل موسى، والبلد الأمين؛ لأن المقصود به هو مكة المكرمة، أما التين والزيتون فلا أعلم عنها ذلك.
وانتهزت أول فرصة مواتية، ورجعت إلى تفسير الطبري، فوجدته - كما توقعت - يقول عن التين إنه التين الذي يؤكل، وعن الزيتون إنه الزيتون الذي يعصر، إذن فليس هو جبل الزيتون الذي هو ذو شأن في حياة المسيح - عليه السلام - ولم أقف في تفسير الطبري عند هذا الحد، بل أكملت قراءته إلى نهاية السورة، وهي سورة كنت قد عشت معها ساعات، أستبطن معانيها وأعماقها قدر استطاعتي، فوجدت بين تفسير الطبري لها، ورؤيتي لها، اختلافا أبعد ما يكون الاختلاف، وبالطبع حين يكون اختلاف في مجال كهذا، بين عابر سبيل مثلي، وبين إمام كالطبري، تكون الأولوية لرأيه، ولكن تلك الأولوية لا تلغي وجودي، فما زلت أدهش لما قاله الطبري عن معانيها، ولا أملك إلا أن أجعل الرجحان لرؤيتي، وإني إذ أستعين بالله وأستغفره، سأعرض وجهتي النظر في إيجاز.
بعد أن أقسم الله سبحانه وتعالى، بالتين والزيتون، وطور سينين وهذا البلد الأمين، قال جل شأنه:
لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم * ثم رددناه أسفل سافلين * إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم أجر غير ممنون .
يرى الإمام الطبري أن «أحسن تقويم» معناه أعدل خلق وأحسن صورة، وأن «أسفل سافلين» هو أرذل العمر، أي مرحلة الهرم التي تذهب فيها العقول ويحدث الخرف، أي إن مجمل المعنى هو: لقد خلقنا الإنسان في أجمل صورة، ثم رددناه إلى قبح الشيخوخة إذا صحبتها حالة الضعف العقلي، ويمضي الطبري في هذا الخط في تفسيره، فيكون معنى
إلا الذين آمنوا ...
أن الذين آمنوا وعملوا الصالحات تصان لهم صحتهم وقوة شبابهم، وهؤلاء المؤمنون «لهم أجر غير ممنون»، أي إنهم ينالون أجرا غير منقوص؛ إذ هم يظلون أقوياء على العمل.
وأستعين الله وأستغفره مرة أخرى، إذا قلت إن تفسيرا كهذا لا يصادف عندي قبولا، ولا ما يقترب من القبول؛ لأنه يضيع علينا قوة المعنى الصحيح وعمقه واتساع آفاقه؛ وأول الاختلاف بين الرؤيتين، هو في معنى «أحسن تقويم»، فلا أظن أن التقويم هنا يشير فقط إلى الشكل الخارجي والصورة الظاهرة في جسم الإنسان، وإنما الإشارة هنا إلى ذلك الجهاز الإدراكي القادر، الذي وضعه الله جلت قدرته، في الإنسان، فهنالك في باطن الإنسان قدرة عاقلة أولا، تعرف كيف تستدل استدلالا صحيحا عما يعرض لها من أحداث ومواقف، ومع تلك القدرة العقلية هنالك العواطف والمشاعر والمواهب المختلفة ثم الغرائز الحيوية، ذلك هو «التقويم»، وبالطبع تعد الحواس الظاهرة والحواس الباطنة جزءا من ذلك التقويم، فليس التقويم الذي خلق الله الإنسان عليه، والذي قدم له بقسم يشير إلى الأنبياء هو شكل الجسم وصورته، بل هو «حشو» الجسم - إذا صح هذا التعبير - حشوه بكل ما فيه من قدرات. ولنلحظ أننا حين نقول عن شيء ما إن «قوامه» هو كذا وكذا، فإنما نعني بذلك عناصره و«مقوماته» فضلا عن أن «القيم» مشتق لفظها من الأصل اللغوي الذي تفرعت عنه كلمة «التقويم».
وأهم ما نلفت النظر إليه هنا هو أن ذلك الجهاز الإدراكي والمحرك للإنسان وهو على فطرته، يكون «محايدا» ويستطيع صاحبه أن يستخدمه في أعمال صالحات، كما يستطيع أن يستخدمه في السوء، وإرادته ساعة اختيار هذا الطريق أو ذاك هي التي تجعله إما بين الذين آمنوا، الذين يؤجرون أجرا لا يمن عليهم به؛ لأنهم يستحقونه (وإني لأعجب من تفسير الطبري للأجر غير الممنون بأنه الأجر غير المنقوص). وإما تجعله بين الذين يردون أسفل سافلين يوم الحساب.
استرسلت في حديثي ذاك، وكأنني نسيت الغلام الذي كان هدف الخطاب، وكنا عندئذ نجلس في الحديقة على مقعد خشبي، فنظرت إليه لأجده قد أثنى عنقه إلى الوراء قليلا، ليسدد بصره إلى شفتي، ليرى كيف يتحركان بعبارات، ربما فهم بعضها وغاب عنه المعنى في بعضها الآخر، فلما لمحت ذلك في عينيه، قلت: لقد كنت أحدثك يا ولدي في ضرورة الوقوف عند جزئية واحدة مما نريد أن نفكر فيه، لكي نحسن التصور والفهم؛ لأن أخذ الموضوع ب «الجملة» من شأنه أن يضيع علينا رؤية الدقائق، فافرض - مثلا - أنك تريد أن تعرف بدقة ووضوح موقف الأمة العربية في حالتها الراهنة، فلا يجديك كل الجدوى أن تسمع عن آلاف الملايين من الدراهم أو الدنانير أو الدولارات أو الجنيهات، التي أصبحت تجري كالأنهار تحت أقدامنا، لكن الصورة تكون أشد وضوحا، إذا أنت وقفت طويلا عند نبأ يقول إن شابا عربيا من الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية، قد أرغم تحت تهديد السلاح من جندي إسرائيلي أن يسير على أربع - على اليدين والقدمين - نابحا كما تنبح الكلاب، فهل تصدقني يا بني، إذا قلت لك إن عيني قد دمعتا حين قرأت النبأ؟ نعم، ولقد قرأت كذلك بعدئذ أن الحكومة الإسرائيلية قدمت جنديها إلى المحاكمة؟ لكن ما حدث قد حدث، وإنه لمن أركان المنهج العلمي أن واقعة واحدة تنفي زعما مزعوما، تكفي لرفض ذلك الزعم، حتى لو أيدته آلاف الوقائع الأخرى، فانظر ماذا تجد، إذا سمعت منا ادعاءنا، عن الأمة العربية أنها - في يومنا هذا - بخير، بدليل الملايين التي تجري كالأنهار تحت أقدامها، ثم سمعت عن هذه الواقعة الواحدة، تحدث لشاب عربي واحد، فماذا أنت قائل؟
إنه لسوء طوالعنا نحن البشر ألا يكون لنا ذلك الخيال القوي، الذي نتصور به حقائق الناس في يأسهم وفي بؤسهم، ونحن على مبعدة منهم، وهل كان يمكن - لو كان للبشر مثل هذا الخيال الناصع، الذي يرى الأحداث وبشاعتها، حين تحدث على غير مرأى من العين - هل كان يمكن لإنسان أن يقدم على إقامة عمارة فوق أسس من الغش والخديعة، لتنقض على رءوس ساكنيها؟ قف يا ولدي عند جزئية واحدة لتتصور وتفهم؛ لأنك إذا اكتفيت بالحقائق في تعميمها وتجريدها، كنت كمن يسمع معادلة رياضية لا يعلم من رموزها إلى أي شيء تشير، قف من قصة العمارات المنهارة عند ذلك الرجل الذي ترك زوجته وأولاده في المسكن «الجديد»، وذهب ليؤدي صلاة الجمعة ثم عاد ليجد العمارة أنقاضا مكومة على جثث زوجته وأولاده.
نعم إن «العلم» لا يكون إلا بالتجريد والتعميم واستخلاص الأحكام العامة من المعطيات الجزئية المحسوسة، فعلم النبات - مثلا - يدرس هذه الزهرة التي بدأنا بها حديثنا هذا، لا يدرسها ليقف عندها، بل ليستخرج منها القوانين العامة التي تصدق عليها وعلى جميع أفراد نوعها، فإذا ما تحققت له تلك القوانين، نسي الزهرة وأهمل شأنها، لكن الإنسان - يا ولدي - بقدر ما يريد «العلم» في تعميماته وتجريداته تلك، فهو كذلك مضطر أن يحيا حياته اليومية العملية مع أفراد الناس ومفردات الأشياء، فأنت لا تتعامل مع «الإنسانية» أو مع «الأمة»، وإنما تتعامل مع إسماعيل وأحمد وفاطمة وزينب، وأنت لا تتعامل مع «الدولة» أو مع «الحكومة»، بل تتعامل مع هذا الموظف الواحد المعين الجالس إلى مكتبه يقرأ الصحيفة ويقضم الساندوتش ويرفض إنجاز شئونك في مواعيدها.
أريد لك أن تفتح عينيك وأذنيك وقلبك وعقلك، حتى لا تفلت منك الأفراد والمفردات في ضجة العبارات العامة المبهمة الغامضة، فإذا قيل لك - مثلا - إن «الهدف» الأسمى الذي يجب أن نضعه نصب أعيننا جميعا هو قوة الوطن وازدهار الشعب، فانظر بدقة إلى «الوسائل» التي تخطط لتحقيق ذلك «الهدف» النبيل، فإذا وجدت من الوسائل أن تكم الأفواه وتجوع المعدات وتذل النفوس، فارفض أن يكون سمو الهدف مبررا لسفالة الوسيلة؛ لأن هذه الوسيلة هي فلان الفلاني الذي خلقت له معدة لتأكل، ولسان ليتكلم، وعقل ليفكر وهو حر.
لعلك قد سمعتني أوجه تهمة «السطحية» إلى كثرة غالبة من شباب هذا الجيل، حتى لقد سألتني مرة قائلا: ماذا تعني بهذه الكلمة؟ لم أجبك ساعتها، لأني ظننتك عندئذ - وكان هذا منذ عامين - أصغر من أن تستوعب الجواب، وها أنا ذا الآن أذكر لك أطرافا مما كنت أعنيه، فلقد رأيت شبابا بالألوف - وأنت تعلم أن تعليم الشباب هو مهنتي - رأيتهم يقرءون ما يقرءونه وكأنهم مسافرون في طائرة لا يرون من نوافذها تفصيلات الطريق، فالرحلة تنتهي وهم لا يعرفون هل مروا على صحراء أو على أرض مزروعة؟ إنهم لم يدربوا على الوقوف عند التفصيلات، فأصبحت تصنعهم العبارات المجوفة والألفاظ المفرغة من معانيها.
أما أنت يا ولدي فأريد لك أن تفتح عينيك وأذنيك وقلبك وعقلك، فمن كل بستان يصادفك في حياتك وفي دراستك، حسبك منه زهرة واحدة تمعن فيها وتجيد فحصها، ولك بعد ذلك، أو عليك بعد ذلك، أن تقيم الصورة الكلية الشاملة للبستان، على أسس ثابتة من دراستك للمحتوى زهرة زهرة، فإذا كان بستانك كتابا، فادرسه كلمة كلمة، ومعنى معنى.
صورتان من القرن الرابع الهجري
والصورتان من دنيا الفكر والثقافة، أردت عرضهما على قارئ اليوم، لتأخذه معي حسرة على زماننا وما أصابنا فيه، أو ما أصبناه نحن به، من تفاهة وضحالة وصغار. ومعياري في هذا الحكم ليس هو الموضوعات التي تشغلنا في حياتنا الثقافية بقدر ما هو اهتمامنا، إلى أين تتجه؟ وكيف؟ وبأي درجة من الشدة والشيوع؟ وليعذرني القارئ إذا أحس في صوتي نبرة التشاؤم وخيبة الرجاء؛ إذ الحق - كما أراه - هو أني كلما قارنت اهتماماتنا الفكرية إبان ما بعد منتصف هذا القرن، بما قد كان في حياتنا إما في الأعوام المائة والخمسين السابقة مباشرة على هذه الفترة الأخيرة، وإما على أي فترة أخرى تختارها منذ القرن السابع الميلادي إلى الخامس عشر، لما وجدتها - أي هذه المرحلة التي جاءت بعد منتصف القرن - تقوى على المنافسة، وإذا صدقت هذه الرؤية، كان الأمر أخطر من أن نلهو به ونتبادل النكات.
قد يكون بعض التعليل لهذه النكسة العقلية التي غمرتنا بموجتها، إنها في الحقيقة جزء من نكسة شملت العالم كله اليوم، وذلك بالرغم من تقدم العلوم والتقنيات - في هذه الفترة نفسها - تقدما نقف ذاهلين أمام قفزاته الواسعة، السريعة، الجبارة؛ وذلك لأن العلم وتقنياته شيء، وما نسميه بالفكر والثقافة شيء آخر، فالعلم وملحقاته موضوعه الطبيعة، يعرف سرها، ويستخرج قوانينها، ويلجمها لتصبح ملك يمينه، وأما الفكر والثقافة ففيهما يكون الموضوع هو الإنسان، ولا تناقض بين أن يكون الرجل أكبر عالم شهدته الدنيا في علوم الذرة - مثلا - وأن يكون في الوقت نفسه أسفل سافلين من حيث قيمه وأهدافه في حياته وحياة سائر البشر، أقول إن النكسة أو النكبة في الفكر والثقافة موجة شاملة للعصر كله، وما نحن فيها إلا جزء من كل.
وحسبنا أن نقول عن عصرنا، من ناحية فكره وثقافته، إنه في واقع الأمر لم يبدع شيئا ذا بال، وإن كل جهوده في هذا الصدد، إنما هي تطوير لأفكار رئيسية أبدعها القرن الماضي، وقد نضيف بضعة أعوام في هذا القرن، وهي أفكار كبار تمثلت في ثلاثة رجال ظهروا في منتصف القرن الماضي، ورابع ظهر في أواخره، وأما الثلاثة فهم: دارون وفكرة التطور، وماركس وفلسفة التاريخ، وفرويد وتحليله للإنسان، وأما الرابع فهو أينشتين وفكرة النسبية، هذا صحيح بالنسبة إلى العالم كله، لكنه أكثر انطباقا علينا نحن؛ لأن العالم المتقدم إذا كان قد فاته الإبداع الأصيل، واكتفى بتطوير ما أبدعه له رجال القرن الماضي، فنحن قد فاتنا الإبداع الأصيل، وفاتنا معه مشاركة العالم المتقدم في ذلك التطوير.
ولم نكن بهذه الخيبة كلها خلال المائة والخمسين عاما، لا لأننا قد أبدعنا شيئا قدمناه للعالم، كلا؛ إذ يبدو أن مثل هذه الريادة قد هجرتنا ولو إلى حين، بل لأننا كنا ذوي اهتمام شديد بما يجري في سائر أنحاء العالم المتقدم، نتابعه خطوة خطوة، وأما في مرحلتنا الراهنة فبيننا وبين هذه المتابعة أميال وفراسخ، وذلك بسبب واضح وبسيط، وهو أن الممسكين - في دنيا الفكر والثقافة - ببوصلة الاتجاه وبدقة التوجيه، قد اختاروا لأنفسهم ولنا، وجهة غير الغرب والشمال، فأخذوا يوجهون السفينة نحو ما اختاروه.
ومع ذلك فحتى لو سايرناهم في الوجهة والاتجاه معا، ثم جعلنا معيارنا في الحكم على ما نحن فيه قائما على درجة الاهتمام - بغض النظر عن الموضوع - لوجدنا حياتنا الفكرية والثقافية أدعى إلى اليأس. نعم لقد شهدنا في هذه الفترة الزمنية التي نتحدث عنها، من مؤسسات لنشر الفكر والثقافة، ما لم نشهد مثله في الفترات السابقة، فهناك وزارة بأسرها للثقافة، وهناك وزارة أخرى بأسرها للإعلام - وهو متصل بعملية التثقيف بسبب وثيق، ولدينا مجالس للثقافة وما يدور حولها - كالمجلس الأعلى للثقافة، والمجلس القومي للثقافة، ولكنني - كما أسفلت - إذا جعلت معيار الحكم جدية الاهتمام بما هو جاد، ثم إثارة ذلك الاهتمام الجاد نفسه في مجموعة كبرى من الناس، لا مجرد تسديد خانات وتملق الجماهير، لما ترددنا في صحوة نستيقظ بها من سباتنا قبل أن تتسع رقعة الخطورة والخطر.
ولقد أردت بهذه المقالة التي بين يديك أن أعرض لك صورتين أخذتهما من الحياة الفكرية والثقافية لأسلافنا في القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي) لأبين لك كيف كانت الحال عند هؤلاء الأسلاف. أما الصورة الأولى فتصور نوعا من التعاون الفكري بين عملاقين من نوابغ الفكر والثقافة في تلك الفترة المختارة، قل أن تجد له نظيرا. والرجلان هما أبو حيان التوحيدي وأبو علي مسكويه، أولهما جمع عددا كبيرا من الأسئلة التي يبحث لها عن إجابات، ثم وجه أسئلته إلى زميله مسكويه ليجيب له عنها، وسنعود بعد قليل إلى التفصيل. وأما الصورة الثانية فهي مناظرات قد لا نجد ما هو أقوى منها دلالة، على ما شهده ذلك العصر - وهو يشبه ما يشهده عصرنا الراهن - من صراع فكري بين من يناصر فكرا منقولا عن أوروبا (وأوروبا كانت في تلك الحالة هي اليونان) ومن يرفض ذلك الفكر المنقول اكتفاء بما هو أصيل في الثقافة العربية.
ولنبدأ بعرض الصورة الأولى في شيء من التفصيل، وهي مأخوذة من كتاب «الهوامل والشوامل» وعنوان الكتاب دال على موضوعه، فقد كان أبو حيان التوحيدي جمع عددا كبيرا من الأسئلة التي أثارتها في رأسه مشاهداته وخبراته، وأطلق على تلك المجموعة اسم «الهوامل»، ومعنى الهوامل الإبل التي يهملها صاحبها ويتركها لترعى منتشرة ومتفرقة، فلما وجه تلك الأسئلة إلى مسكويه ليجيب عنها، جمع مسكويه أجوبته وأطلق عليها اسم «الشوامل»، ومعناها حيوانات يوكل إليها ضبط الهوامل حتى لا تضل طريقها.
ولا بد لنا من أسطر قليلة نصور بها شخصية أبي حيان وشخصية مسكويه، فذلك - عندي - يعين كثيرا على الفهم، بل إني كثيرا جدا ما أحاول أن أجسد من أقرأ عنهم وما أقرؤ لهم، في أشخاص من حياتي الخاصة؛ لأزداد فهما ووضوحا.
فأبو حيان التوحيدي «مثقف» من أعلى طراز نعرفه اليوم من «المثقفين»، وأعني بهم هؤلاء الذين يجمعون في أنفسهم جانبين: أولهما تلك «الحالة» من التهذيب ورهافة الحس، وهي حالة يستمدها صاحبها من ثلاثة مصادر رئيسية، هي الدين والفن والأدب، ولو اكتفى الرجل بتلك الصفة وحدها، لحق له أن يعد مثقفا بدرجة تعلو وتهبط بمقدار ما قد اكتسب من قيم روحية وذوقية، لكن هنالك صفوة من الرجال (ولاحظ هنا أنني لست ممن يخشون استعمال كلمة «الصفوة» وكأنها رجس). أقول إن هنالك صفوة من الرجال، تراهم يجمعون إلى اكتسابهم لتلك الحالة الروحية الذوقية التي أشرت إليها صفات أخرى تتصل بالجانب العقلي، ومن أهمها حب الاستطلاع، والدأب على السؤال ومحاولة استكشاف المجهول، وتوضيح الغامض وتحليل الموقف المركب إلى عناصره، ورد تلك العناصر إلى أصولها وتعليل الظواهر النفسية والاجتماعية أو محاولة تعليلها، ومن هؤلاء الصفوة من المثقفين كان أبو حيان التوحيدي، وسأبين لك بعد قليل كم جاءت أسئلته التي استجوب عنها مسكويه - وكان عددها مائة وخمسة وسبعين سؤالا - شديدة التنوع، مما يدل على سعة الأفق الذي كان يتحرك فيه أبو حيان بذهنه وحواسه وانتباهه واهتمامه.
وأما مسكويه فقد كان من ذلك الصنف من الدارسين الذين يركزون أنفسهم في اتجاه واحد، وحتى في هذا الاتجاه الواحد تجدهم على كثير من ضيق الأفق، ومحدودية المجال والرؤية، فبينما كان أبو حيان عريض الثقافة مع لمسة قوية من الفلسفة، وحس مرهب للعبارة الأدبية، كان مسكويه متخصصا في الفلسفة - إذا جازت صفة التخصص هذه على القدماء - بل إنه في ميدان الفلسفة قد ضيق على نفسه المجال واختص بفلسفة «الأخلاق» دون سواها، ولم يدل أسلوبه في الكتابة على درجة ملحوظة من الحس الأدبي.
فلماذا اختاره أبو حيان ليوجه أسئلته إليه؟ أغلب الظن عندي أنها لم تكن غزارة العلم هي التي قصد إليها أبو حيان عند مسكويه، بل هي مكانة مسكويه العليا، وجاهه العريض، وثراؤه، فضلا عما كان عند الرجل من علم، إن لم يكن غزيرا فهو علم يضعه في مكانة لها جلالها ووقارها واحترامها، فقد كان مسكويه وزيرا بالإضافة إلى اشتغاله بالفلسفة؛ وأما أبو حيان فكان ذا عوز، يلتمس العطاء عند من يستطيع عطاء، ودليل ذلك هو أنه - فيما يبدو - لم يجد عند مسكويه بغيته من المال، وكان كل ما جاءه من مسكويه هو «الشوامل»، وأعني الأجوبة على الأسئلة التي وجهها إليه. فنعته بالجهل وحصر اللسان، إذ قال عنه عبارة اشتهرت بعد ذلك، فقال عنه إنه «فقير بين أغنياء، وعيي بين أبيناء» (ولاحظ هذه الكلمة العجيبة «أبيناء» أي أصحاب البيان)، كان مسكويه أوسع شهرة، وأعز جاها، وأوفر مالا. لكن أبا حيان التوحيدي كان أبعد نظرا، وأرحب فكرا وأنصع بيانا، جاءت كلها على فقر وحاجة، ولقد كان الرجلان متقاربين في العمر، وإن يكن مسكويه يكبر أبا حيان ببضع سنين، وعمر كلاهما إلى التسعين وما بعدها بقليل.
وأسوق لك بضعة أسئلة من «هوامل» أبي حيان، نقلتها كما اتفق لترى كم تنوعت اتساعا وارتفاعا، فتجد فيها ما هو مسألة عويصة في التفكير الفلسفي أو اللغوي أو العلمي بصفة عامة، كما تجد فيها أسئلة عن مشاهدات استوقفت أبا حيان من ظواهر الطبيعة أو من صور الحياة الجارية.
كان السؤال الأول عن الفرق في اللغة بين «العجلة» و«السرعة»، وكان السؤال الثاني عن مسألة نفسية خلقية معا، فهو يسأل لماذا حرص الناس على كتمان السر؟ أخذت أقلب النظر في الصفحات فرأيت سؤالا عن الرعد والبرق، لماذا نرى البرق قبل أن نسمع صوت الرعد؟ ما الدليل على وجود الملائكة ؟ لم صارت مياه البحر ملحا؟ لم صارت الأنفس ثلاثا؟ ما العدم؟ ما سبب من يدعي العلم وهو يعلم بأنه لا علم عنده؟ سؤال عن ذات الله وصفاته. لماذا تكره النفس الاستماع إلى حديث معاد؟ سؤال عن النثر والنظم. لم يضيق الإنسان بالراحة إذا توالت عليه؟ وهكذا.
وأما أجوبة مسكويه فنكتفي بذكر أجزاء من إجابته على سؤال طريف، يسأل فيه أبو حيان عن العلة في أن البيت المهجور يتداعى أسرع من البيت المعمور بساكنيه، مع أن العكس كان أولى؟
قال مسكويه: «إن معظم آفات البنيان، يكون من تشعيث الأمطار، وانسداد مجاري المياه، بما تحصله الرياح في وجه المآزيب ومسالك المياه التي ترد المياه إلى أصول الحيطان من خارج البناء وداخله، وبما ينثلم من وجوه البنيان الكريمة، بالآفات التي تعرضها لحركات الهواء والأمطار والبرد والثلوج. وربما كان سبب ذلك قصبة أو هشيما من بين الطين الذي تطيره الأرواح (= الرياح) إلى مسالك الماء، فتعطف الماء إلى غير جهته، فيكون به خراب البنيان كله.
فأما ظهور الهوام في أصول الحيطان، والعناكب في سقوفه وأخذها من الجميع ما يتبين أثره على الأيام فشيء ظاهر، وذلك أن هذا الضرب من الخراب قبيح الأثر جدا، ينبو الطرف عنه، ويسمج به البناء الشريف، وربما أغفل السكان بيتا من عرض البناء، إما بقصد أو بغير قصد، فإذا فتح عنه، يوجد فيه من آثار الدبيب: من الفأر، والحيات، وضروب الحشرات، التي تتخذ لها أكنة، بالثقب والبناء، كالأرضة والنمل، وما تجمعه من أقواتها، ومن نسج العنكبوت وتراكم الغبرة على النقوش ما يمنع من دخوله ... إلخ.»
أما الصورة الثانية التي أردت تقديمها، فهي ليست كالصورة السابقة: الأسئلة كلها تجيء من طرف، والأجوبة كلها تجيء من الطرف الآخر، وكان الحوار يجري مكتوبا على الورق، لا بل لم يكن في الحقيقة حوار، وإنما كان استجوابا من أبي حيان إلى مسكويه، جمعت الأسئلة كلها في كتاب هو «الهوامل»، وجاءت الأجوبة كلها في كتاب هو «الشوامل» دون أن يلتقي السائل بالمجيب. وأما الصورة الأخرى التي أردت تقديمها فهي مناظرة بين رجلين، كلاهما فذ في ميدانه، أمام جمهور من علية القوم في بغداد إبان القرن الرابع الهجري وأعلى رجال الفكر والفلسفة واللغة فيه، وفرق آخر بين الصوتين: فالأولى التي أسلفناها، كان قوامها شتيتا من موضوعات كلها مسائل عرضت لرجل واحد، هو أبو حيان التوحيدي، وأما الصورة الثانية التي أنتقل الآن إلى عرضها فمناظرة حول موضوع واحد.
قامت المناظرة بين أبي سعيد السيرافي من جهة وأبي بشر متى بن يونس، من جهة أخرى. وأما الموضوع فهو عن المنطق اليوناني الذي برع فيه أبو بشر متى، فهل يصلح ذلك المنطق، الذي أقيم أساسا على طرائق البناء اللغوي عند اليونان، أقول هل يصلح ذلك المنطق إذا ما نقل إلى قوم آخرين - ثقافة أخرى - ولغة أخرى، هي في هذه الحالة اللغة العربية؟ أو أن ما يصلح للغة العربية من ضوابط، إنما هو النحو العربي لا المنطق اليوناني؟ إنه موضوع - كما ترى - قد لا يثير اهتماما إلا عند الفئة القليلة المشتغلة بالفلسفة وعلوم اللغة، لكني برغم ذلك أردت عرضه موجزا لسببين: أولهما أن الذي دعا إلى إقامة هذه المناظرة، هو الوزير الفضل بن جعفر بن الفرات، وجعلها تقام في قصره ببغداد، ودعا إليها أصحاب المكانة في دوائر الحكم وفي دوائر العلم جميعا، وإني لأسأل كم وزيرا في عصرنا هذا يضيف إلى حبه للسلطة والحكم حبا آخر لمثل هذه المسائل العلمية الدقيقة العميقة الجادة؟ وإنما أسأل هذا السؤال لألفت الأنظار إلى اتجاه «الاهتمام» ودلالته؟ فإذا رأيت الوزير في عصر ما حريصا على أن يضع نفسه في قلب الحركة الثقافية عرفت أن الدنيا بخير، وأما إذا رأيت الوزير في عصر آخر مستعليا على العلم والعلماء، والثقافة والمثقفين، أيقنت أن الدنيا صائرة بأصحابها إلى دمار وموت.
تلك إحدى اثنتين، مما جعلني أقدم صورة مصغرة لما جرى في تلك المناظرة - كما أراه - نموذج نادر لصور التصادم بين ثقافتين: أصيلة ووافدة، فقد نقل العرب فلسفة اليونان يومئذ، ومنها علم المنطق كما صاغه أرسطو اليوناني، وكان لتلك الفلسفة المنقولة أثر عميق في الفكر العربي، بل وفي الشعر العربي ذاته، لكن القلق أخذ يساور نفرا من علماء العرب، خشية منهم أن يكون ذلك «الغزو الثقافي» (بلغة يومنا) موديا بثقافة العرب إلى الضعف ثم الفناء، إن ذلك النفر لم ينظر إلى نقل الثقافة اليونانية إلى العربية على أنه عامل قوة، بل رآه عامل تدمير، على نحو ما يرى بعضنا اليوم بالنسبة لما ننقله من ثقافة الغرب وفكره وفنه، لكن بينما نحن اليوم نهاجم الناقلين بالتكفير والخيانة، ها نحن أولاء نرى أسلافنا يلجئون إلى «مناظرات» علمية تقام في قصور الأمراء والوزراء ليكون القبول أو الرفض قائما على معرفة لا على الشتم والتشهير والعدوان.
وبعد ذلك فلننظر إلى لب المشكلة بإيجاز، كلنا يعلم أن «النحو» هو مجموعة القواعد التي تضبط سلامة التركيب اللغوي، وشكل المفردات الداخلة في ذلك التركيب، فإذا كنا نريد جملة تشير إلى ورقة بيضاء، وقلنا هذه ورقة بيضاء، كان ترتيب المفردات هنا متفقا مع قواعد النحو في وضع الصفة والموصوف، ويخرج على القواعد من يقول هذه بيضاء ورقة، وكذلك تقتضي قواعد النحو - عند النطق بهذه الجملة - أن تكون كلمة «ورقة» مرفوعة بالضم، وأما المنطق فكل من درسه منا يعلم أنه يستهدف الاستدلال الصحيح - إذا ما أردنا استخراج جملة من جملة - أو معنى من معنى، وهو يمهد لعمليات الاستدلال الصحيحة بدراسات لضبط القضايا (أو الجمل ذوات المعنى) والحدود التي تتركب منها تلك القضايا.
وكان العرب قبل أن ينقلوا إلى لغتهم فلسفة اليونان - وتتضمن المنطق - يعرفون لغتهم ونحوها، ويعرفون كيف يستدلون استدلالات صحيحة، دون أن يقوموا بتنظير القواعد التي يضبط بها استدلال نتيجة من مقدماتها (وهذا هو عمل المنطق). فلما درس الدارسون منطق اليونان وأخذوا يعلمونه لمن أراد أن يتعلم، وكان من بين هؤلاء الفيلسوف أبو نصر الفارابي، ومنهم صاحبنا أبو بشر متى بن يونس، الذي لم يكف في دروسه لتلاميذه عن قوله: «النحو مع اللفظ، لا مع المعنى.» فكان مثل هذا القول يثير الغيظ في علماء اللغة والنحو، ومن هنا تصدى له اللغوي النحوي أبو سعيد السيرافي، الذي كان بدوره يهاجم أبا بشر متى بن يونس، متهما إياه بأنه لا يحق له الكلام في موضوع النحو العربي أو المنطق اليوناني؛ لأن أولهما قائم على معرفة اللغة العربية، وثانيهما قائم على معرفة اللغة اليونانية، وأبو بشر جاهل باللغتين جميعا.
أقيمت بين الرجلين تلك المناظرة التي أشرنا إليها، والتي حضرها عدد كبير من العلماء وأصحاب الشأن. وساد شعور بين الحاضرين بأن الأمر ليس مجرد مقابلة بين نحو ومنطق، بل الأمر في حقيقته مقابلة بين ثقافتين، ولأيهما تكون السيادة على الأخرى. والظاهر أن حكم الجمهور كان قد أبرم قبل أن يبدأ المتناظران في الكلام، وكان ذلك الحكم المسبق في صالح أبي سعيد السيرافي اللغوي، وضد متى بن يونس المنطقي، لماذا؟ لأن شخصية الأول تلقى القبول منذ اللحظة الأولى، بقدر ما تثير شخصية الثاني نفورا، فالأول في الأربعين من عمره، وأما الثاني فكان قد جاوز الخامسة والسبعين من عمره - وكان مخمورا دائما - وأحيانا كان لا يعي ما يقول، فضلا عن الخسة التي كانت تبدو في سلوكه مع تلاميذه، إذ كان لا يعطي ورقة إلى أحدهم إلا إذا دفع درهما، ولم يكن فوق ذلك كله حسن الهندام ولا نظيف الثياب.
أما وجه الحق بينهما فهو - في رأي كاتب هذه السطور - مع أبي بشر متى بن يونس بلا ريب، في أن نحو اللغة شيء، ومنطق العقل شيء آخر، وأقل ما يقال في هذا أن النحو خاص بلغة بعينها، وأما المنطق فللفكر، للناس جميعا؛ ويستطيع المنطق أن يستغني عن ألفاظ اللغة كلها - عربية وغير عربية - وأن يستخدم الرموز الخالية من المعاني، كما هو الشأن فيما يسمونه اليوم بالمنطق الرمزي، أو بالمنطق الرياضي.
ومع ذلك فقد وقع الرجلان معا في خلط - كما يرى كاتب هذه السطور أيضا - ولو كانا معا قد تنبها إلى موضع ذلك الخلط لما دارت بينهما المناظرة أساسا، وذلك أنهما لم يفرقا بين المستوى «العلمي» والمستوى «الفلسفي» في الموضوع الواحد، فإذا كان موضوع البحث هو «اللغة» كما هو الشأن في هذه الحالة التي بين أيدينا، كانت القواعد - نحوية وغير نحوية - هي عند المستوى «العلمي»؛ لأنها بمثابة القوانين المستخلصة من الظاهرة المبحوثة (والظاهرة المبحوثة هنا هي «اللغة»)، وذلك هو شأن «العلم» في أي ميدان من ميادينه. وأما إذا جاوزنا تلك القواعد ذاتها للنظر فيما تنطوي عليه من «مبادئ» أي ما تنطوي عليه من «صور أولية» وجدنا أنفسنا عندئذ في مجال «المنطق». فلو فرضنا - مثلا - أن هنالك عند مختلف الشعوب مائة لغة. كان هنالك بالتالي مائة مجموعة من قواعد النحو؛ لأن لكل لغة نحوها الخاص، ولكننا إذ نجاوز تلك المائة من مجموعات القواعد النحوية إلى ما يكمن وراءها من أصول، أو مبادئ أو صور أولية، وجدناها جميعا تلتقي عند جذور مشتركة واحدة من مبادئ الفكر، وتلك المبادئ المشتركة بينها هي بعينها علم المنطق.
فلو تنبه الرجلان - أبو سعيد السيرافي اللغوي وأبو بشر متى بن يونس المنطقي - إلى هذه التفرقة بين ما هو «علم» للغة يختلف بين عرب ويونان، وما هو «فلسفة» - أي ما هو مبادئ أولية - لما وجد الرجلان وجها للتناظر، فأبو سعيد يقف بنحوه عند «قواعد» اللغة العربية، وأبو بشر يتحرك في المجال الأعمق، وهو المنطق الذي يضم قواعد اللغة العربية وقواعد اللغة اليونانية وقواعد أي لغة في الدنيا، وإذا كان هذا هكذا، ففيم يتناظر الرجلان، وكل منهما يتحرك في مجال غير الذي يتحرك فيه زميله؟
أما بعد، فهاتان صورتان من الحياة الثقافية كما كانت بين العرب الأقدمين في القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي)، وأود لو سأل القارئ نفسه: أين من تلك الحياة، في عمقها، وجديتها، حياتنا نحن الثقافية في اكتفائها بخلاصات مخطوفة، لا هي تغني من فقر، ولا تسمن من هزال؟
والنقط كذلك تحت الحروف
في الأبجدية الإنجليزية حرفان فقط هما المنقوطان، والنقطة في كلتا الحالتين توضع فوق الحرف، وهي تختفي كلما جاء ذلك الحرف «رأسا» (كما يصفونه) ويكون ذلك إما وحرف الرأس قد جاء موضعه أول الكلام، وإما أن يكون هو الحرف الأول في أسماء الأعلام، والمهم عندي الآن، في سياق هذا الحديث، هو أن حرفين اثنين فقط هما المنقوطان في تلك الأبجدية، وأن النقطة في جميع حالاتها فوق حرفها، ومن هنا دأب أصحاب اللغة الإنجليزية على استخدام العبارة التي ابتكروها لأنفسهم ولحروفهم وهي عبارة «وضع النقط فوق الحروف» إشارة منهم إلى وجوب أن يكون الكلام واضحا وخاليا من اللبس، كما يكون الحرف المنقوط منقوطا، خشية أن يلتبس أمره على القارئ إذا غابت عنه نقطته.
وجئنا نحن فنقلنا عبارتهم المجازية تلك، نقل مسطرة، حتى شاعت العبارة بين المتحدثين والكتاب؛ فيقولون لك إنهم يضعون النقط فوق الحروف، ولكن ماذا لو كانت أبجديتنا العربية تشتمل على ثلاثة حروف منقوطة تحتها لا فوقها، وهي الباء والجيم والياء؟ (واعلم أيضا أن في أبجديتنا اثني عشر حرفا تجيء النقط فوقها) فلو أن الكاتب أو المتكلم الذي نقل تلك العبارة المجازية عن الإنجليز، قد تنبه إلى أن موقف الحروف عندهم يختلف بعض الشيء عن موقفها عندنا، لتحوط للأمر، والتمس طريقا يتيح له أن ينتفع بما عند الآخرين، وذلك بأن يعدله تعديلا يتناسب مع ما عندنا، فبدل أن يقول أضع النقط فوق الحروف، يكتفي بالقول أضع نقط الحروف؛ لتشمل ما فوقها وما تحتها جميعا.
قد ترى - وربما رأيت معك - أن المسألة هنا أتفه من أن تثير الاهتمام، لكنني لم أردها لذاتها؛ بل أردت أن أتخذ منها رمزا أشير به إلى مواقف حضارية وثقافية لها أهميتها وخطورتها، ومع تلك الأهمية وهذه الخطورة ترانا قد فعلنا بها ما فعلناه في نقط الحروف، وأعني أننا نقلنا ما عند الآخرين إلى حياتنا نقل مسطرة وتجاهلنا ما كانت تقتضيه ظروف حياتنا من وجوب التعديل، بمعنى أن ننتفع بما عندهم بعد أن نعيد صياغته قليلا أو كثيرا بحيث يصبح شاملا لما هو عندنا أيضا.
ففي المناخ الفكري القائم في عصرنا هذا، سؤال مضمر كثيرا ما يحفز على التفكير، وقد تختلف عنه الإجابات، وإن يكن معظم من تعرضوا للإجابة متفقين على رأي، هو نقيض الرأي الذي كانت له السيادة المطلقة حتى نهاية الحرب العالمية الأولى، والسؤال المضمر الذي أشرت إليه خاص بالثقافة، ومعاييرها؛ فهل لكل عصر معين ثقافة «رفيعة » واحدة، وهي - عادة - ثقافة الأقوى؟ أو أن الثقافة ليست كالعلم، فبينما العلم واحد للجميع، فلا فرق بين علم الكيمياء أو الفيزياء عند الإنجليز وبينه عند الياباني أو المصري، ترى الثقافة تتعدد صورها ومعاييرها بتعدد الشعوب، فالموسيقى أو التصوير أو الشعر عند الإنجليز ليست كمقابلاتها عند الياباني أو المصري، وإذا كان ذلك كذلك فلا ينبغي بشعب أن ينقل «الثقافة» في أي صورة من صورها، عن شعب آخر؛ فلكل شعب حياته بما يملأ ذلك؛ الحياة من خبرات أسعدته أو أشقته؛ ولكل شعب رؤاه التي نظر بها إلى الكون وإلى الإنسان، وإلى عالم الغيب، وغير ذلك وما «الثقافة» عند أي شعب إلا التعبير عن تلك الخبرات وهذه الرؤى.
غير أن المعارضين لهذا التعدد الثقافي عند مختلف الشعوب؛ إذ يعترفون بوجود التعدد من حيث هو حقيقة واقعة لا سبيل إلى إنكارها، تراهم يصرون على أن ذلك لا يمنع التفاوت - ارتفاعا وانخفاضا - بين الثقافات المختلفة، فلئن كان لكل شعب موسيقاه - مثلا - إلا أنه ليست كل موسيقى مساوية لموسيقى بيتهوفن وباخ وبرامز وشوبان؛ وليس السؤال المطروح أساسا هو: هل تتعدد الثقافات في الواقع أو لا تتعدد؟ لأن تعددها أمر قائم يراه كل ذي بصر، ويسمعه كل ذي سمع؛ بل السؤال المطروح هو: هل «تتساوى» تلك الكثرة الثقافية، أو أنها تتفاوت بين الارتقاء والتخلف؟ وأهمية السؤال في صورته الثانية هي أنه إذا ثبت ذلك التفاوت بين مختلف الثقافات، أصبح محتوما على كل شعب يريد التقدم، أن يأخذ الثقافة الأرفع، وهو مغمض العينين.
أقول إنه حتى نهاية الحرب العالمية الأولى لم يكن أحد ليأخذه شيء من الارتياب، بأن هناك بين الثقافات ما هو أعلى وما هو أدنى، وأن الأعلى هو ما يأخذ به الإنسان الأبيض ساكن الغرب، فمن شاء من سائر الشعوب الملونة: الأسود منها والأسمر والأصفر، بكل درجات الطيف التي تتراوح بها تلك الألوان، أقول: إن من شاء من تلك الشعوب الملونة أن يتقدم فلا مندوحة له - في عرف الرجل الأبيض من أهل الغرب - عن الأخذ بمعاييره ، وإنه ليتقدم أو يتخلف بقدر ما يكون في وسعه أن يتمثل ما يأخذه.
كان ذلك أيام أن كان هنالك اتفاق على قسمة الناس إلى سيد ومسود، والسيد هو الإنسان الأبيض، والمسود هم سائر الناس من مختلف الألوان، لكن الموقف تغير تغيرا جزئيا بعد الحرب العالمية الأولى، ثم صار التغير كاملا بعد الحرب العالمية الثانية؛ إذ فكت معظم القيود الاستعمارية عن الكثرة الغالبة من الشعوب، وكان أول ما عنيت به الشعوب المتحررة هو أن تتشبث بهويتها الخاصة، ولا تصان تلك الهوية الخاصة إلا بأن يتمسك الشعب بثقافته هو التي ورثها عن أسلافه: في العقيدة وفي اللغة، وفي الفن، وفي الأدب، وفي كثير من النظم الاجتماعية.
وكانت مصر - ومعها سائر أجزاء الوطن العربي - واحدة من مجموعة الشعوب التي فكت عن نفسها الأغلال التي قيدها بها الاستعمار، ثم عملت على أن تسترد ما ضاع من معالم شخصيتها، وما دام ذلك هو هدفها، فقد كان حتما عليها أن تحيي كل سمة من سماتها، كما تبرزها الثقافة الموروثة عن السلف، على اختلاف بين رجال الفكر في مصر، اختلافا لم يطل بينهم أكثر من عشرين عاما أو نحو ذلك، على حدود ذلك «السلف» ما هي؟ أنرجع بالسلفية إلى العهد الفرعوني، أم نقف بها عند الفتح العربي؟ لكننا سرعان ما وعينا بأنه لا تناقض بين الحالتين: فالأمر في هذا كالأمر في بناء من عدة طوابق، بني كل طابق منها في عصر من العصور الحضارية التي توالت على مصر؛ فإذا سئلنا في أي طابق تسكنون؟ لما ترددنا في الإجابة الصحيحة: وهي أننا نسكن في «العمارة» كلها بجميع طوابقها؛ لأننا نحن بناتها ومالكوها من أدناها إلى أعلاها، فإذا أخذنا من غيرنا شيئا نراه نافعا لنا، كان لا بد أن نراجع فيه ظروف «عمارتنا» التي نقيم فيها، بحيث يأتي الشيء المأخوذ متسقا وملائما. وتوضيح ذلك سهل وميسور، إذا عدنا إلى المثل الذي بدأت به هذا الحديث، وهو مثل «وضع النقط على الحروف» وكيف كان يجب تعديل هذه الصورة المجازية عند أخذها لتصبح «وضع نقط الحرف» حتى تتناسب مع أبجديتنا العربية.
وتذكرني مسألة «النقط فوق الحروف» التي أخذناها عن أصحابها أخذ الأعمى، دون أن ننتبه إلى الفوارق بين ظروفهم وظروفنا، تذكرني بمعان كثيرة جدا، أخذنا عنهم «أسماءها» على ظن منا بأن تلك الأسماء التي نقلناها، ما دامت تعني عند أصحابها كذا وكذا، فلا بد أنها ظلت على ألسنتنا نحن تعني نفس المعنى، مع أن ظروف حياتنا، وتسلسل تاريخنا، تختلفان اختلافا بعيدا عن ظروف حياتهم وتسلسل تاريخهم، فيما هو ذو صلة بتلك الأسماء ومعانيها، خذ مثلا لذلك مصطلح «القرون الوسطى» فهذا عندهم اسم يشير إلى فترة تاريخية امتدت نحو عشرة قرون - من القرن الخامس بعد الميلاد إلى القرن الخامس عشر - وهي فترة جاءت في تاريخهم «وسطى» بين تاريخهم القديم وتاريخهم الحديث؛ لأن تلك الفترة قد اتسمت في بعض مراحلها بكثير من الجمود الفكري الذي يحبس أصحابه في أفق ضيق من نصوص قديمة؛ فقد أصبح مصطلح «العصور الوسطى» هذا كثيرا جدا ما يطلق ليعني التخلف الحضاري والظلام الثقافي معا، سواء أكان هذا الحكم على تلك العصور عادلا أو ظالما، فالمهم - في حديثنا هذا - هو أنه إنما تدور به الألسنة في كثير جدا من الحالات لتشير به إلى ما يوحي بالتخلف والظلام، فجئنا نحن لننقل عنهم هذا المصطلح، ونطلقه على تاريخنا، وكأن تاريخنا وتاريخهم يتوازيان تقدما وتخلفا، مع أن تلك الفترة نفسها إذا كانت عندهم هي فترة الظلام الفكري والتخلف الحضاري، فقد كانت في تاريخنا نحن هي فترة الإبداع الفكري والتقدم الحضاري، وأشير هنا إلى الحضارة الإسلامية وهي في عز قوتها؛ إنك إذا ذكرت القرن العاشر الميلادي - مثلا - فقد كدت بذلك تشير إلى زمن شهد الثقافة الإسلامية وهي في أعلى ذراها، كما شهد في الوقت نفسه الثقافة الأوروبية وهي في حضيضها، فكيف - إذن - يتأتى لقلم عربي أن يكتب عن «القرون الوسطى» وكأن الدنيا بأسرها شرقها وغربها سواء؟ لا، إن ما يسمى بالعصور الوسطى عندهم، بالمعنى الذي ذكرناه، إنما هي وسطى عندهم، وهي ذروة عندنا .
وعكس ذلك صحيح كذلك - إذا أردنا دقة التعبير عن المعنى الصحيح - أي إن القرون الثلاثة التي امتدت من القرن الخامس عشر إلى القرن الثامن عشر كانت عندهم هي قوام تاريخهم الحديث، بمعنى التقدم العلمي والازدهار الحضاري، ولكنها هي بذاتها التي جاءت في تاريخنا نحن قرونا وسطى بمعنى التخلف والذبول.
وهكذا نستطيع أن نقع على معان أساسية في حياتنا الفكرية نقلنا عن الغرب «أسماءها» ولم نستطع أن ننقل مع الأسماء معانيها الحقيقية عند أصحابها، وقد خطر لي الآن أن أضرب مثلا ب «الديمقراطية» حين نقلنا عنهم لفظها، ثم أبت علينا نفوسنا أن ننقل مع اللفظ مدلوله، لكني آثرت ألا يكون ذلك هو المثل الذي أسوقه هنا، اتقاء لوجع الدماغ، ولأضرب مثلا آخر من ميدان الدراسة الفلسفية، فلماذا حدث أن استطاع الفلاسفة المسلمون الأوائل أن يقدموا أعمالا كان لها قيمتها العظيمة، لا في العالم الإسلامي وحده، بل كذلك في أوروبا، إلى الحد الذي جعلهم موضع دراسة في جامعاتهم هناك، كما كانوا هناك أيضا بين الطلائع الفكرية التي انتهت بأوروبا إلى «النهضة»، ثم إلى الدخول في تاريخها الحديث؛ ولماذا - في مقابل أسلافنا الأولين - لم يستطع دارسو الفلسفة منا، في عصرنا هذا أن يقدموا عملا واحدا يسمع به ذوو الشأن في هذا الميدان، وأعني عملا يسهم به صاحبه إسهاما إيجابيا ملحوظا في حركة الفكر الفلسفي المعاصر؛ ذلك لأنه قد يكون لنا أعمال في إحياء الفلسفة الإسلامية القديمة يحب أن يطلع عليها المستشرقون.
السؤال مرة أخرى: لماذا أفلح الفلاسفة المسلمون القدماء في أن تكون لهم رسالة في بلادهم وخارج بلادهم، ولم يفلح في ذلك خلفاؤهم اليوم؟ والجواب عندي هو أن الأولين عندما نقلت لهم الفلسفة اليونانية، وجدوا فيها ما يمكن قراءته قراءة إسلامية؛ فيخرج لهم - وللدنيا معهم - بهذه القراءة الجديدة شيء جديد؛ ولنشرح هذا القول شرحا موجزا، فنقول: إنه إذا كان أفلاطون قد جعل «الخير» في بنائه الفلسفي هو الذروة التي يتجه إليها البناء العقلي كله، ثم إذا كان أرسطو قد جعل «الصورة» المطلقة التي لا تشوبها أدنى شائبة من المادة هي تلك الذروة التي تنجذب إليها جميع الكائنات في تطورها وسيرها نحو الكمال، فمن الممكن للفيلسوف الإسلامي أن «يستبدل بفكرة» الخير عند أفلاطون وبفكرة «الصورة الخالصة» عند أرسطو «الله سبحانه وتعالى في عقيدة الإسلام»، وما على الفيلسوف المسلم بعد ذلك إلا أن يعدل ويبدل في البناء الفلسفي؛ تبديلات وتعديلات كبيرة أحيانا وصغيرة أحيانا، فتصبح أمام فلسفة إسلامية تشيع فيها روح الإسلام، وبعبارة قصيرة نقول إن أسلافنا قد زرعوا الفلسفة اليونانية في ثقافتهم فانزرعت، وتفرعت ونمت ثم أثمرت.
ولا كذلك موقفنا نحن المعاصرين لماذا؟
لأن فلسفة الغرب منذ نهضته وإلى يومنا الحاضرة، قائمة على أساس آخر انبثق من الوجهة الجديدة التي اتجه إليها الغرب في نهضته وبعدها، وأعني وجهة «العلم» والمعرفة العلمية، فأصبح لزاما على الفلسفة أن تتجه بنشاطها الاتجاه نفسه، ولكن فيما يعنيها، فكان الذي يعنيها هو: ما منهج الفكر إذا أراد ذلك الفكر أن ينتج معرفة علمية مضمونة الصدق؟ لهذا لم تكن مصادفة أن رأينا عند بوابة العصر الأوروبي الحديث فيلسوفين جعلا شغلهما الأساسي ضبط قواعد ذلك المنهج، وهما ديكارت في فرنسا، وفرانسيس بيكون في إنجلترا، الأول فيما يختص بالمعرفة إذا كانت نابعة أساسا من داخل الإنسان، والثاني فيما يختص بالمعرفة إذا كانت آتية إلى الإنسان من الأشياء الخارجة عنه حين يدركها بحواسه، ثم جاء التابعون وراء ذينك الإمامين.
وجئنا نحن، ونقلنا ما كتبه فلاسفة الغرب في التاريخ الحديث والمعاصر، لكن ماذا عسانا أن نصنع به إذا كانت الفلسفة عندهم دائرة - في الأعم الأغلب - على محور رئيسي هو «العلم» وكيف نضبط حقيقة بنيته وخطوات منهجه؟ إننا لا نشارك في العطاء العلمي لا بكبيرة ولا بصغيرة، فكل العلم الذي بين أيدينا هو علم الغرب، وليست جهود علمائنا في ميادينهما المختلفة إلا تفريعات على فروع من البحوث العلمية، لقد زرع أسلافنا المسلمون فلسفة الغرب في تربتهم الثقافية فانزرعت؛ لأن في تلك التربة ما يصلح لازدهار البذرة المنقولة، وأما نحن اليوم فقد أردنا أن نزرع الفلسفة الحديثة في أرضنا فلم تنزرع؛ لأن أرضنا تخلو من المشاركة في الإبداع العلمي، فإذا كانت فلسفة العصر قائمة على جذور المعرفة العلمية، فلن تجد لها مناخا تنمو فيه على أرضنا.
ولعل هذا الموقف القلق هو الذي أوحى إلى المغفور له الشيخ مصطفى عبد الرازق، في كتابه «تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية»، أن يقول ما قاله، وخلاصته أن نزن الفكر الفلسفي بموازين الدين، ومعنى ذلك أن تتحول الفلسفة بين أيدينا إلى فقه الشريعة الإسلامية، على أن نجعل الاجتهاد بالرأي أساسا لمنهاجنا. يقول في ذلك: «هذا الاجتهاد بالرأي في الأحكام الشرعية هو أول ما نبت من النظر العقلي عند المسلمين، وقد نما وترعرع في رعاية القرآن وبسبب الدين، ونشأت منه المذاهب الفقهية، وأينع في جنباته علم فلسفي هو علم «أصول الفقه» ... إلخ.» (راجع صفحة 123 من الكتاب المذكور) وتعقيب كاتب هذه السطور على وقفة الشيخ مصطفى عبد الرازق هذه هو أنها وقفة من يئس من أن تكون لنا مشاركة حقيقية في فلسفة العصر التي هي - كما قلنا - فلسفة قائمة أساسا على العلم في صورته الحديثة والمعاصرة من حيث البنية والمنهج؛ لأنه إذا كانت فلسفتنا نحن لا تكون إلا شيئا كعلم أصول الفقه، فلماذا لا تسمى الأشياء بأسمائها الصحيحة؟ لماذا نريد تسميتها باسم «فلسفة» (وهي كلمة أخذناها عن الغرب) ولا نسميها «علم أصول الدين»؟
ونعود إلى ما بدأنا به من حديث عن عبارة «النقط فوق الحروف» التي رأينا فيها رمزا يدل على نقلنا عن الغرب كلامه نقلا أعمى، والصحيح هو أن ننقل ما ننقله (ولا بد لنا أن ننقل العصر إلينا من كلام أصحابه) لنجعله يتكيف لظروفنا، فإن كانت لنا أيضا نقط تحت الحروف، وجب أن نغير في الصيغة المنقولة لتتسق مع ما هو قائم عندنا، وما دام المثل الذي طرحناه أخيرا هو الدراسة الفلسفية، فإننا حين ننقل عن القوم فلسفتهم ينبغي أن نحاول نقل الشجرة كلها: العلم، ثم الفلسفة، أما إذا رفضنا النقل من الأساس فلنرفض العنوان أيضا، حتى لا نقول عن بحث نقيمه في أصول الفقه إنه فلسفة.
كثيرة جدا هي مواقفنا التي يشوبها كثير أو قليل من الخلط الفكري، فأحيانا نأخذ عن الغرب أسماء لننزع عنها مضمونها، ثم نطلقها على شيء عندنا مما قد يشبه ذلك المضمون لكنه ليس إياه، وذلك خلط في التفكير، أو أن ننقل مضمونا فكريا ثم نعطيه من عندنا اسما يوهمنا بأن المضمون المنقول هو من غرسنا؛ وذلك نفاق فكري، وثالثة الأثافي أن ننقل شيئا ما نقلا أعمى، لا نراعي فيه ما يوجب تعديله عندنا، كما فعلنا في «وضع النقط فوق الحروف».
إننا إذ ننادي بمبدأ «الأصالة والمعاصرة» ليكون محورا لنشاطنا الفكري بكل اتجاهاته وفروعه؛ ابتغاء أن ننتهي بأنفسنا إلى مجتمع يحقق ذاته التاريخية وليساير عصره في وقت واحد، فلسنا نعني بذلك أن نظل نردد هذا الكلام بغير تطبيق، بل إن تطبيقه ليتسع مداه حتى يشمل الكبيرة والصغيرة من تفصيلات حياتنا، بادئين من الصورة المجازية الواحدة، إذا وجدناها عند غيرنا، فأعجبتنا فنقلناها إلى العربية وعندئذ لا بد أن نحور فيها حتى تطابق ظروفنا، إذا نحن وجدناها مختلفة عن تلك الظروف، كالمثل الذي سقناه وجعلناه محور هذا الحديث، وهو قولهم: «نضع النقط فوق الحروف»، أقول إن مبدأ الأصالة والمعاصرة يبدأ تطبيقه من تفصيلة جزئية كهذه ثم يصعد بنا ونصعد به إلى كبريات القضايا الفكرية، فإذا نقلنا مذهبا سياسيا معينا؛ وجب تحويره حتى يطابق ظروفنا، وكذلك إذا نقلنا أشكالا أدبية كالرواية والقصة والمسرحية والشعر المرسل، وأيضا إذا أردنا أن نسهم بقسط في الفكر الفلسفي لعصرنا فلنأخذ إطاره العام - وإطاره العام في عصرنا هو الدوران حول «العلوم» منطقيا وبنية وأسلوبا وهدفا - ثم نملأ ذلك الإطار العام بحشو من حياتنا نحن، على نحو ما صنع الفلاسفة المسلمون الأولون، حين استغلوا الأفلاطونية والأرسطية في النظر إلى العقيدة الإسلامية، إنهم لم يرفضوا فلسفة اليونان، ليقولوا شيئا كالذي قاله المغفور له الشيخ مصطفى عبد الرازق، حين قال ما خلاصته: إن الفلسفة عند المسلمين ينبغي أن تكون فقها للشريعة الإسلامية. لا، إنهم لم يقولوا ذلك، بل جعلوا الفلسفة الإسلامية «فلسفة» لا «فقها» لأصول الشريعة؛ وكل ما في الأمر أنهم عرفوا كيف يخلصون إلى صيغة جديدة تجمع لهم ولسائر الدنيا معهم فلسفة اليونان وأصول الدين الإسلامي.
إن فكر العصر، وأدبه وفنه، ونظمه، وعلومه، وصناعاته وكل شيء عنده، ليس محرما علينا، بل هو حلال بلال على أن نملأ أطره بمضمون من حياتنا، بل وأن نحور تلك الأطر ذاتها إذا احتاجت منا إلى تحوير، وكل ذلك يتم على غرار النموذج البسيط الذي عرضناه، وهو أنه إذا كان أبناء الغرب قد قالوا عن عملية توضيح الكلام إنها كوضع النقط فوق الحروف، إذ ليس في أبجديتهم من الحروف المنقوطة إلا حروف نقطتها تجيء في أعلاها، فواجبنا - ما دامت هذه الصورة المجازية قد أعجبتنا - أن ننقلها ثم نحورها تحويرا يتناسب مع حالة حروفنا، التي تجعل الحروف المنقوطة بالنقطة فوق الحروف أحيانا، وتحت الحروف أحيانا أخرى، إنه مثل بسيط وتافه، لكنه يصلح لتوضيح المبدأ العام والمهم معا.
العقل الحر ما هو؟
أستطيع أن أتصور الزاهد كيف يقنع من الزاد بما يطعمه من جوع، ومن الثياب بما يستره ويرد عنه البرد، ومن المال بما يوفر له ذلك القليل من الزاد والثياب، لكنني لا أستطيع أن أتصور زاهدا يقنع بقليل من حرية عقله إذا كان الكثير متاحا، وحتى حرية الأجساد تأتي في درجات الضرورة، في منزلة دون حرية العقول، بمعنى أنه إذا تهددت الإنسان قوة غاشمة، مطالبة إياه إما بالكف عن التفكير الحر، وإما بالزج بجسده في غيابة سجن، فإنه لا يتردد في أن يصون لنفسه حرية عقله، حتى لو كان حرمان البدن من حرية الحركة ثمنا لذلك، فالإنسان إنسان بفكره قبل أن يكون إنسانا بجسده، فإذا كنت أفكر كنت موجودا - كما قال ديكارت - لكن قيام الجسد وحده، بكل أجزائه وجوارحه، لا يضمن لصاحبه وجودا إنسانيا، إذا لم يكن مصحوبا بعقل يفكر. إن فاقد عقله لا يحسب ذا وجود إنساني، لا في شريعة السماء ولا في شرائع الناس، ففي حرمانه من عقله المفكر حرمان من آدميته؛ إذ لا يبقى فيه إلا مقومات الحيوان والنبات، وليس ثمة من فارق كبير بين عقل مفقود، وعقل موجود ولكنه معطل عن أداء وظيفته بما يفرضه على نفسه من معوقات التفكير، وذلك أن تضيف إلى كلمة «التفكير» صفة كونه حرا أو ألا تضيفها، لأن الحرية متضمنة في معنى عملية التفكير، كما تتضمن الزيتونة زيتها، والوردة أريجها.
قال رفيقي الذي يتسقط لي الأخطاء وعثرات القلم: ولكن هل يكون العقل عقلا إلا وهو مقيد بقيوده؟ فأجبته قائلا: تمهل يا صديقي فذلك هو نفسه ما أردت أن أضع له الضوابط والحدود، وانظر إلى عبقرية اللغة العربية حين أطلقت عليه اسم «العقل» التي هي كلمة معناها في اللغة «قيد»، وأظن أن جميعنا قد سمع بكلمة «اعتقال» أو «معتقل» وما يعنيان من تقييد، فالعقل عقل بما يفرضه على نفسه من قيود تضبط له حركة سيره، لكن تلك القيود إنما تنبثق من طبيعته، ولا تفرض عليه من سواه؛ لا، بل إن تلك القيود التي يفرضها العقل على نفسه، بحكم فطرته إذ هو يؤدي عملية التفكير، إنما هي نفسها شرط لقيام الحرية العقلية التي تقول إن الإنسان لا يكون إنسانا إلا بها، وماذا يكون اختلال العقل عند المجنون إلا أن يكون تخلخلا في «الصواميل» المقيدة لخطوات التفكير عنده، تقييدا يجعل كل خطوة لاحقة مرتبطة بالخطوة السابقة ارتباط النتيجة بالسبب، لكن هذا القول يريد منا شرحا وتفصيلا، حتى نتبين آخر الأمر في جلاء، بماذا نطالب حين نطالب للإنسان بحرية عقله حرية يذهب بها إلى آخر حدودها.
وقبل أن أخط حرفا واحدا فيما أنوي القيام به، أريد أن يكون واضحا للقارئ، وضوح الشمس في سماء لا سحابة فيها، بأن «العقل» ليس وسيلة الإدراك الوحيدة عند الإنسان، فهناك وسائل غير العقل، لكل وسيلة منها ميدانها الخاص، وحديثي هنا مقصور فقط على «العقل» وهو يعمل في ميدانه، غير متعرض لغيره من الوسائل، ولا لغير ميدان التفكير العقلي من سائر الميادين، ولقد وضعت هذا التحذير هنا، لعلي أنجو من اعتراضات تثار عن غير فهم، نحن في غنى عن إثارتها، بل إني لم أهم بالكتابة عن العقل وتفكيره، إلا لأصل إلى النتيجة التي أريدها، وهي الدعوة إلى حرية التفكير، حرية يكون لها معناها الصحيح، وذلك لأني على يقين من أننا، عامدين متعمدين، نعمل على حرمان أنفسنا من جانب كبير جدا من تلك الحرية العقلية التي هي لب الآدمية وصميمها، ونحن في ذلك الحرمان المتعمد، لا نصدر عن نية سيئة، بل نصدر عن فهم منقوص والله أعلم.
وبعد هذا، أبدأ شرحي بالقول: إن للعقل طريقين اثنين، لا ثالث لهما، يلتزم منهما هذا الطريق أو ذلك، بحسب الموضوع الذي يريد أن يفكر فيه، أما أحدهما فهو الطريق الذي يجعل نقطة ابتدائه كلمات بعينها، وأما الآخر فهو الطريق الذي يجعل نقطة ابتدائه معطيات تعطاها حواسنا الظاهرة أو حواسنا الباطنة. وعندما تقول عن الطريق الأول إن نقطة الابتداء فيه «كلمات» بعينها، فإننا نعني كذلك شتى صنوف الرمز، مثل الأرقام أو الحروف التي نستخدمها في علم الرياضة مثلا، وكذلك عندما نقول عن الطريق الثاني إن نقطة الابتداء فيه هي معطيات الحواس - ظاهرة وباطنة - فإنما نعني كذلك تلك المعطيات التي تستخدم لتحصيلها أجهزة مختلفة تساعد حواسنا المجردة كالمناظير بالنسبة لحاسة البصر، ومكبرات الصوت بالنسبة لحاسة السمع، وهكذا.
في الحالة الأولى حين يجد العقل أمامه عبارة مركبة من كلمات أو من رموز الرياضة، ويريد أن يصب عليها عمله الفكري، فليس أمامه إلا أن يستخرج من تلك العبارة مضامينها التي تكمن في مفهومات رموزها. إن العقل في هذه الحالة لا يتبرع بفكرة من عنده، بل مهمته هي أن يفض الأغلفة التي تستر المعاني داخل رموزها، فكما أنك إذا وضعت في طاحونة الغلال قمحا، لم يخرج لك إلا دقيق القمح، وإذا وضعت في عصارة الخضر والفاكهة عنبا لم يخرج لك منه إلا عصير العنب، كان الدقيق كامنا في حبات القمح، فظهر بعد كمون. وكان العصير مختفيا في حبات العنب فخرج بعد اختفاء، وكذلك الحال في تركيبات اللفظ أو الرمز، يكمن فيها ما يكمن من معان، والتفكير العقلي هنا معناه هو إخراج تلك الكوامن لنأخذ منها ما نريد ونرفض ما لا حاجة لنا به، والتفكير الرياضي كله هو من هذا القبيل؛ لأننا نقدم له بعبارات نفرض فيها أنها مأخوذة منا مأخذ التسليم، ومنها يبدأ العمل العقلي، وهو أن يستخرج من ذلك الذي وضعناه في موضع الصدارة، ما يمكن اعتصاره منه، وهكذا قل في كل طريق فكري أوله كلمات أو رموز، على أن تظل واضعا نصب عينيك حقيقة مهمة، وهي أننا نستطيع - إذا أردنا - أن نغير ونبدل في تلك المقدمات الافتراضية كما نشاء، ولكن إذا فرضنا ما فرضناه، وجب علينا بعد ذلك التزامه إلى آخر ما نجريه عليه من استدلالات تستولده مضامينه المستترة في رموزه.
ذلك أحد الطريقين، وأما الطريق الثاني فهو حين يكون ما بين أيدينا، لا مركبات من ألفاظ ورموز، بل «معطيات» تلقتها حواسنا من مصادرها، وفي هذه الحالة يكون طريق العقل مختلفا عن طريقه في الحالة الأولى؛ إذ إن عمله في هذه الحالة الثانية، هو محاولة الكشف عن الروابط التي عساها أن تكون قائمة بين مجموعة الأشياء التي رأيناها أو سمعناها، أو أدركناها بأية حاسة أخرى من حواسنا؛ لأننا إذا عرفنا تلك الروابط، كنا بمثابة من وجد تفسيرا يفهم به ما كان قد شاهده من ظواهر وأحداث، فافرض - مثلا - أن الذي شهدناه وأخذنا نبحث عما يفسره لنا، هو أن السماء تمطر، فكل الذي نراه رؤية مباشرة في هذه الحالة، هو قطرات ماء، فها هنا نبدأ في الكشف عن بقية المحسوسات التي بينها وبين تلك القطرات صلة، كأن نرى العلاقة بينها وبين درجة الحرارة، وبينها وبين درجة الرطوبة، وبينها وبين درجة ضغط الهواء، وبينها وبين اتجاه الريح، فإذا ما كشفنا عن تلك الروابط جميعا، وجدنا أمامنا مجموعة من العوامل المتشابكة بعضها مع بعض، بدرجات معينة لكل منها، وإذا نحن - بالتالي - أمام ما يفسر المطر تفسيرا عقليا، وأهمية مثل هذا التفسير العقلي، هي أننا كلما وجدنا دلائل تدل على قيام تلك العوامل، تنبأنا بما يشبه اليقين أن مطرا سينزل بالدرجة الفلانية من شدة ومدة.
هما - إذن - طريقان للعقل في فاعليته، كل طريق منهما يعتصر من المركبات اللفظية أو المكونة من رموز - أيا كانت تلك الرموز - ما هو متضمن فيها من محتوى، كأن تحلل جملة لغوية فتقول إنها تشتمل على كذا وكذا من المعاني، أو أن تحلل فكرة رياضية معينة، فتقول إنها تنتج لنا كذا وكذا من الأفكار الرياضية، والطريق الثاني هو أن نشاهد بأية حاسة من حواسنا ظاهرة ما، فنحاول تفسيرها بربطها مع ما قد يكون على صلة بها من ظواهر أخرى.
وعلى ضوء هذا الذي أسلفت ذكره، عن سير العقل في أدائه لعمله، أنتقل بك الآن إلى الخطوة التالية، وهي الخطوة التي تهمني وتهمك، والتي من أجلها كتبت هذه السطور، ألا وهي: ماذا نعني حين نقول إن العقل لا بد فيه من قيد يضبط له اتساق الخطى؟ ثم - وهذا هو عندي بيت القصيد - ماذا نعني حين نقول إن حياة العقل مرهونة بحريته؟
أما عن سؤالنا الأول، الذي نسأل به عن معنى ضرورة أن يكون العقل مقيدا لكي ينتج، فالجواب ظاهر مما أسلفناه عن الطريقين اللذين يسلكهما العقل في سره، وهو يختار هذا الطريق أو ذاك بحسب طبيعة الموضوع المطروح، فإذا كان الموضوع المطروح يقتضي السير في الطريق الأول، كان الذي بين أيدينا مركبا من ألفاظ اللغة أو من رموز الرياضة، أو ما يجري هذا المجرى، فالعقل حين يحاول استخراج المضمونات المضمرة فيما هو بسبيل تحليله وفهمه، لا بد أن «يقيد» نفسه بالنص الذي أمامه، لا يضيف إليه من عنده حرفا، فإذا كانت العبارة التي بين أيدينا - مثلا - عبارة «سيادة القانون» وأراد «العقل» أن يستخرج منها مضموناتها، لكي نفرق على هداها بين ما يجوز فعله وما لا يجوز، كان علينا أن نحلل معنى «السيادة» هنا تحليلا تفصيليا ودقيقا، وبهذا التحليل التفصيلي الدقيق يكون في مستطاعنا أن نعرف مجالات التطبيق، وطرائق ذلك التطبيق، وكثيرا جدا ما يكون أمر ذلك كله غامضا علينا، ولا يزيل لنا ذلك الغموض إلا «العقل» وقدرته على التحليل بالصورة التي ذكرناها، ففي هذا المثل الذي ضربناه، وأعني عبارة «سيادة القانون» قد نجده يسيرا علينا أن نقول إنه بناء على هذا المبدأ ينبغي أن يطبق القانون على جميع أفراد الشعب على حد سواء، ولكن الأمر لا يظل بهذه السهولة كلها إذا نحن رأينا أن يكون رئيس الجمهورية رأسا للأسرة المصرية في الوقت نفسه، فالتحليل العقلي للعبارة المذكورة يجعل للقانون سيادة على رئيس الجمهورية مثل سيادته على سائر المواطنين، لكن هذا القول لا يصدق على الأسرة ورأسها، وذلك لأن المبدأ المذكور ليس هو المبدأ الذي يقوم عليه النظام الأسري؛ إذ إن لرأس الأسرة سلطة الإملاء على سائر الأعضاء، دون أن يكون هذا الحق نفسه مسموحا به لأي فرد من أفراد الأسرة على من هو رأسها، أي إن النظام الأسري مختلف من حيث المبدأ عن النظام القومي، وعضو الأسرة له وضع معين طالما هو داخل الأسرة، ووضع آخر حين ينظر إليه مواطنا بين سائر المواطنين في الأمة، فهو داخل الأسرة لا ينتخب رأس الأسرة، لكنه خارج الأسرة ينتخب رئيس الجمهورية، وهذا التحليل يؤدي بنا إلى نتيجة «عقلية» وهي أننا نقع في تناقض إذا عددنا رئيس الجمهورية رأسا للأسرة المصرية في الوقت نفسه؛ إذ هو بحكم الصفة الثانية من حقه أن يملي على الأفراد ما يراه صالحا، في حين أنه بحكم الصفة الأولى لا يحق له ذلك.
إننا في كل هذا الذي قدمناه من تحليل، إنما أردنا أن نقدم إلى القارئ مثلا لفاعلية العقل، حين تكون تلك الفاعلية منصبة على مركب لفظي نريد استخراج مضموناته، وهو تحليل يبين في الوقت نفسه ما نعنيه حين نقول بضرورة أن يكون العقل «مقيدا» بالنص الذي يخضعه للتحليل وتوليد النتائج، وأما القيد الذي يقيد العقل في طريقه الثاني، الذي تكون نقطة البدء فيه هي معطيات الحواس - لا مركبات لفظية - فهو أن يتقيد العقل بتلك المعطيات ذاتها، بحيث يلتزم أمرين: أولهما أن يجيء تعليله الذي يفسر به ظاهرة ما ، شاملا للظاهرة بكل تفصيلاتها فلا يعلل جزءا منها ويترك جزءا بغير تعليل، وثانيهما ألا يتبرع من عنده بإضافة يضيفها إلى التعليل ما دام كافيا. ولقد ضربنا لك مثل المطر ومحاولة تعليله بعدة عوامل مجتمعة، كدرجات الحرارة والرطوبة والضغط الجوي واتجاه الريح، فإذا كان في ذلك ما يفسر وقوع الظاهرة تفسيرا كافيا، لم يعد من حق العقل أن يضيف إليه شيئا آخر.
بهذا نكون قد أوضحنا ضرورة أن يكون العقل «مقيدا» لكي ينتج، فهو في طريقه الأول مقيد بالنص الذي يحلله، وهو في طريقه الثاني مقيد بمعطيات حواسه (ومعها الأجهزة المعينة للإدراك الحسي) فيما يختص بالظاهرة المطروحة أمام العقل لفحصها، ويبقى أمامنا ما هو أهم، وأعني به «الحرية» العقلية ماذا تكون؟ لب هذه الحرية العقلية، الذي بغيره لا يكون العقل عقلا، وبالتالي تهدر آدمية الإنسان، هو أن يستبدل بالمفروض مفروضا آخر؛ إذ تبين له أن المفروض الأول لا يؤدي به إلى نتيجة تنفعه في حلول مشكلاته. لقد أسلفنا القول بأن العقل يسير بفاعليته في أحد طريقين، أولهما هو أن يكون هنالك مركب لفظي يراد تحليله واستخراج مضموناته، وطالما ذلك النص هو المفروض القائم، فالعقل مقيد به، ولكن ماذا لو وجد العقل أنه نص لا ينطوي على شيء يقيد الإنسان؟ إنه لا مفر عندئذ من فرض نص آخر، أعني اختيار مركب لفظي آخر غير الذي تصدى له العقل أول مرة، وفي هذا الاختيار واستبدالنا بما لا يجدي فكرة أخرى نتوقع منها خيرا أكثر ولبابا أغنى، أقول إنه في ذلك تكمن حرية العقل في أول الطريقين.
وليس استبدال الإنسان بمركب لفظي استنفد أغراضه، مركبا لفظيا آخر يتعلق به الرجاء في حياة أفضل، أقول إن ذلك ليس بالأمر السهل ولا هو بالأمر التافه، بل قد يدهشك أن تعلم أن جزءا ضخما من تطور الإنسان وتقدمه، خلال مراحل تاريخه، كان سره هو هذا التبديل والتغيير في مركبات لفظية مسطورة للناس في صحائف قوانينهم ودساتيرهم وتراثهم، ثم أدرك المصلحون أنه لا يرجى للناس خيرا إلا إذا بدلوا ذلك المسطور بمسطور آخر، فلئن كان العقل مقيدا بالنص الذي يحلله، فما جدواه وجدوانا أن يظل يعيد ويبدي في نصوص استنفدت أغراضها تبعا لتبدل الظروف مع مراحل الزمن؟ في حالة كهذه يتحتم على العقل الحبيس في مركبات لفظية ذهب زمانها، أن يكسر الأغلال، لينتقل إلى بنيان جديد.
هكذا فعلت أوروبا أيام نهضتها، فلو أمعنت النظر في تلك النهضة التي غيرت وجه الحياة بأسرها، لوجدت سرها يكمن في هذه العبارة الموجزة البسيطة: استبدال صحائف جيدة بصحائف قديمة، فيظل للعقل منهجه وفاعليته، لكن المجال الذي يصب عليه هذه الفاعلية وذلك المنهج هو الذي يتغير. إننا لو جمعنا جبابرة العقول التي شهدها التاريخ كله، منذ عرف التاريخ إنسانا يستحق أن يؤرخ له، ثم حصرنا جهودهم العقلية في نصوص مستهلكة، لما أغنت تلك العقول الجبابرة جميعا الإنسان المتخلف شيئا يتقدم به، فإذا سمعت عن شعب أنه ارتقى درجة أو درجات، في نظامه الاجتماعي، في نظامه التعليمي، في نظامه الاقتصادي، في نظامه السياسي، وفي أي نظام من نظم حياته، فاعلم أن ذلك الارتقاء إنما تحقق له بفضل عقل حر، أباحت له حريته أن يستبدل بالقديم الذي أصابه عقم وجمود، جديدا يبشر بالرجاء.
ولقد حدث في تاريخ الرياضة حدث عظيم من هذا القبيل، وكان ذلك في القرن الماضي، فكانت له نتائج يصعب جدا أن نقيس مداها، وذلك أن العقل البشري لبث قرونا وهو على ظن بأن النسق الهندسي الذي أقامه إقليدس في العصر القديم، هو شيء يفرض نفسه على العقل فرضا ولا خيار للعقل دونه، فجاء علماء الرياضة في القرن الماضي، وقالوا لأنفسهم: لماذا لا نجرب فروضا أخرى غير المسلمات التي وضعها إقليدس واستنتج منها نتائجه؟ وكان ذلك ما فعلوه، فكان أن فتح الله عليهم بعدة أنساق هندسية جديدة، ولم يعد الأمر حكرا لإقليدس إلا في المجال الذي تصلح فيه هندسته، وأما الهندسات الجديدة لقد كان شأنها ما كان بالنسبة للأبعاد الكونية البعيدة، وكذلك بالنسبة للأبعاد البالغة في الصغر داخل الذرة الواحدة، وكان فتح الله على الناس عظيما يوم أن مارس العقل الإنساني حريته في أن يستبدل فروضا بفروض.
ومن هذا القبيل نفسه في حرية العقل، أن يبيح ذلك العقل الحر لنفسه أن يستبدل بمبادئ ثبت بوارها، مبادئ أخرى قد تكون أهدى للإنسان في حياته، إن كلمة «مبدأ» أو «مبادئ» لها في القلوب رهبة وفي الآذان سحر، حتى ليفاخر الإنسان إنسانا آخر بكونه رجل «مبادئ» وبأنه ثابت على مبادئه لا يغير منها شيئا، وهذا بالطبع شيء جميل وحميد، طالما كانت تلك المبادئ مؤدية إلى نتائج تنفع الناس في حياتهم العملية، وإلا فلا مناص عندئذ من تحرر العقل منها، ليستبدل بها ما هو أهدى سبيلا، إذ ما هو «المبدأ»؟ هو - بحرفية اللفظ - نقطة نبدأ منها، ثم نسير وفق الخطوات التي تستخلص من ذلك المبدأ، ولكن ماذا إذا وجدنا أنها خطوات مؤدية بنا إلى هلاك؟ إنه لا بديل أمامنا إلا أن نترك لعقولنا حرية الانتقال إلى مبدأ جديد، فالمبادئ صنعها الإنسان لنفسه، وهو حر في أن يصنع سواها، وفقا لما تقتضيه الحياة وازدهارها.
ذلك كله خاص بحرية العقل في طريقه الأول، الذي هو طريق نقطة الابتداء فيه «جملة» أو عدة جمل، مسطورة في صحائف أو محفوظة في صدور الناس يتناقلونها بالتواتر.
وأما حرية العقل في طريقه الثاني، وهو الطريق الذي يسلكه عندما تكون نقطة الابتداء معطيات تقدمها له حواسه الظاهرة أو الباطنة، فالأمر فيها شبيه بالأمر في حرية العقل وهو في طريقه الأول، يستبدل - إذا لزم الأمر - مسطورا بمسطور، وذلك لأنه وهو بصدد معطيات حسية جاءته عن ظواهر الطبيعة، ويريد قراءتها، لا بد له أن يلجأ إلى التجريب، فيقرؤها على صورة معينة، فإذا أفلحت كان بها، وإلا فهو «حر» في أن يجرب قراءة أخرى، وأما إذا ظل العقل حبيس قراءة واحدة لظواهر الكون ومشكلات الحياة، فاللهم أنت أعلم إلى أي هاوية يسير.
قال رفيقي الذي يتسقط لي الأخطاء وعثرات القلم: لست أرى إلى أي شيء تهدف بكلامك هذا، فقلت له: إن الذي أهدف إليه يا أيها العبد ، هو أن تكون حرا.
الكاتب ومستويات القراء
جاءتني رسالة من الزميل الكريم الأستاذ الدكتور عبد الفتاح عثمان، يعلق فيها على ما أكتبه، بدأها بقوله إن الأفكار التي أعرضها وبالطريقة التي أعرض بها، تثير اهتماما شديدا بين أساتذة الجامعات وصفوة المثقفين، فهؤلاء هم الذين يستطيعون التفاعل مع تلك الأفكار، وكثيرا ما جعلوا منها - كما شهد سيادته - موضوعا للمناقشة والجدل وتبادل الرأي، وذلك لأنها أفكار، كما يقول هو عنها في رسالته، «تمس الجذور العميقة لمشكلات إنسان هذا العصر، وخاصة في مجتمعاتنا النامية.» لكنه يستدرك فيضيف إلى ذلك قوله بأن فيما أكتبه «تجريدا» يراه «عقبة أمام القارئ العادي»، وعلى ذلك تكون الفئة القادرة على متابعة ما أكتبه قلة قليلة من الصفوة المثقفة، ممن قد يكونون أقل حاجة إلى الأفكار المعروضة، من الكثرة غير القادرة على المتابعة، ويسألني سيادته - بناء على هذا - لماذا لا أمزج المنهج العقلاني الديكارتي الذي أستخدمه، بالمنهج البراجماتي والمنهج الحسي (هذه كلها كلماته) مما يجتذب «القارئ العادي»؟
ولقد أتاحت لي رسالة الزميل الفاضل فرصة الكتابة في موضوع طالما فكرت في معاودة عرضه، لأنني وإن كنت كثيرا ما تعرضت له في سياق ما أتناوله من موضوعات، إلا أنه لم يظفر بحديث مستفيض خاص به، وأعني به علاقة الكاتب بفئات القراء، التي لا بد - بحكم ضرورة الأمر الواقع - أن تكون فئات متدرجة في مستوياتها الثقافية، تدرجا يبدأ مما يقرب من درجة الصفر، صعودا إلى ذروة «الصفوة الثقافية» التي أشار إليها الزميل في رسالته، فإذا كتب الكاتب وجمهور القارئين على تفاوت درجاته هو الماثل أمامه، كان معنى ذلك أنه يتحتم عليه الوقوف من الفكرة التي يريد عرضها، عند «المضاعف المشترك البسيط» (مستخدمين في هذه العبارة لغة الحساب) فلا يبقى من الفكرة إلا أقلها، وبذلك يضيع علينا موضع الإشكال الذي من أجله كتب الكاتب ما كتب، ولكنه في الوقت نفسه، إذا حرص على أن يعرض من الفكرة مواضع الإشكال التي تستحق العرض، أفلتت منه الكثرة الغالبة من جمهور القراء، الذين هم على تفاوت ثقافي واسع المسافة بين سكان الذروة وسكان السفح الأدنى، بعبارة أخرى موجزة، إن الكاتب في مثل مجتمعاتنا، يتعرض للحيرة بين هدفين: فإما أن يخدم الفكرة المعينة وما تقتضيه، وإما أن يخدم جمهور القراء بكل درجاته المتفاوتة، ولا سبيل إلى الجمع بين الجانبين.
لأن الجمهور العريض إنما تكفيه من الفكرة قشورها الخارجية، بحكم قدرته المتواضعة التي لا يستطيع بها مجاوزة تلك القشور، ذلك من جهة، ومن جهة أخرى فإن الفكرة المعينة لا تبدأ في قوة فعلها من حيث التأثير في الناس لكي يغيروا من أنفسهم، ويحلوا رؤية جديدة محل رؤية قديمة، إلا إذا عرضت بكل لبابها؛ فيصبح حتما محتوما على الكاتب أن يختار لنفسه ما يتفق مع طبيعته وقدراته، فإما أن يختار جانب الفكرة فينحصر في القلة التي هي الصفوة المثقفة - على حد تعبير الزميل صاحب الرسالة - وإما الجمهور العريض، فيعفي نفسه من الأعماق ليسبح مع ذلك الجمهور على سطح الأحداث الجارية. وتحضرني الآن إجابة أجاب بها كاتب في شئون الاقتصاد على مستوى رفيع، كان يكتب في صحيفة التايمز البريطانية (قبل أن يعين سفيرا لبريطانيا في الولايات المتحدة الأمريكية، وكان ذلك منذ بضع سنوات)، وذلك أن رئيس التحرير سأله مرة على سبيل النقد لصعوبة ما يكتبه ذلك الكاتب: كم تظنهم أولئك الذين يستطيعون قراءتك؟ فأجاب الكاتب في استعلاء: إنهم ثلاثة، لست أنت أحدهم! لكن ما كان يكتبه ذلك الكاتب ولا يقرؤه قراءة الفهم إلا ثلاثة - على حد قوله الساخر - هو الذي كان له الأثر في تغيير المسار الاقتصادي في بلاده.
وعند هذه النقطة - نقطة تغيير الاتجاه القائم بين أفراد الشعب - أنتقل مع الزميل الفاضل صاحب الرسالة إلى صميم الموضوع، فأسأل ابتداء: لماذا يكتب كاتب؟ ولست ب «الكاتب» هنا أعني ذلك النوع من الكاتبين، الذي لا بد أن قد كان ماثلا في ذهن الزميل، حين اقترح علي في رسالته أن أقسم المقالة إلى أجزاء، بحيث يقع كل جزء منها تحت عنوان فرعي كما هي العادة المألوفة في مذكرات التلاميذ؛ لأن مثل هذه الصورة مرغوب فيها عندما يراد لدارس المذكرات أن «يحفظ» المادة المعروضة عليه ليدخل بها الامتحان؟ وأما «الكاتب» الذي أعنيه (والذي قد لا أكون موفقا بحيث أكون مثلا له) فهو الذي تشبع كتابته في قارئها نزوعا نحو أن يفكر وأن يسلك على غير ما ألف من قبل أن يفكر وأن يسلك، فليس الأمر هنا أمر «نقاط» في الموضوع، بقدر ما هو «إيحاء» للقارئ باتجاه جديد؛ ولذلك ترى «الكاتب» في كثير من الحالات، لا يبسط فكرته بسطا مباشرا، كما هي الحال حتما ودائما في الكتابة العلمية، لا، بل إنه يبحث لفكرته عن إطار يعلقها عليه، كأن يلجأ إلى حكاية من التاريخ، أو أسطورة، أو حلم، أو خيال قصصي، أو حوار بين شخصين أو عدة أشخاص، أملا في أن يكون ذلك الإطار المختار معينا على إشاعة الانطباع المراد إشاعته في نفس القارئ، فيكون له بمثابة الإيحاء الموجه إلى نمو فكر جديد وسلوك جديد، وما كذلك الكتابة العلمية، فهذه تنقل إلى الملتقى «معلومات» محددة، يراد لها أن تعرف لذاتها، ولا يراد بها أن «توحي» بشيء، ولذلك لا نقول عمن يكتب كتابة علمية، أيا ما كانت المادة العلمية التي يكتب فيها، إنه «كاتب».
ونعيد سؤالنا مرة أخرى: لماذا يكتب «الكاتب»؟ جوابنا هو: إنه يكتب ليغير الاتجاه السائد في فكر أو سلوك؛ ويندر جدا أن يعد كاتبا ذلك الذي يكتب ليؤيد ما هو قائم؛ لأن ما هو قائم، قائم سواء كتب كاتب يؤيده أو لم يكتب، فإذا اتفقنا على هذه النقطة المبدئية، التي هي أن معيار الارتفاع أو الهبوط في منزلة الكاتب، هو قدرة ما يكتبه على إحداث التغيير في تفكير الناس، وميولهم، وسلوكهم، نتج لنا عن ذلك نتيجة مهمة في موضوع حديثنا هذا، وهي أن معيار الجودة في الكتابة لا صلة له على الإطلاق بعدد من يقرءونها، بل إني لأوشك أن أقول إن النسبة عكسية دائما بين مقدار الجودة في الكاتب، وعدد قرائه؛ فقراء الجاحظ وأبي العلاء المعري وسرفانتيز وشكسبير، أقل بكثير من قراء الحكايات البوليسية ، أو الجنسية، أو غير ذلك مما يغوص في تفصيلات من الحياة، دون أن يمس جوهر «الإنسان» وراء تلك التفصيلات.
يكتب الكاتب ليغير، وهذا هو أهم المعايير التي تقاس بها الكتابة، شريطة ألا تكون وسيلته إلى التغيير «وعظا»، فالوعظ لا يغير من واقع الأمر مثقال حبة خردل، ومن هنا كان لأعلام الكاتبين على طول التاريخ أثرهم البالغ في نقل الناس من حال إلى حال، دون أن تجد في شعر الشعراء منهم، أو في نثر الناثرين، جملة واحدة فيها نبرة الوعظ بما هو مطلوب، اللهم إلا في حالة واحدة، هي حالة تكثيف المعنى إلى الحد الذي يجعل الجملة المحتوية على ذلك المعنى حكمة يسهل حفظها ودورانها على الألسن. وفي هذه المناسبة أقول إنه حدث سنة 1946م أن أقامت جامعة لندن لقاءات فكرية على نطاق واسع، كان الهدف منها أن تلقى فيها سلسلة محاضرات عن الشرق الأوسط، خدمة لمن هم في سبيلهم من البريطانيين إلى السفر إلى الشرق الأوسط، استئنافا للنشاط بمختلف صوره، بعد أن انتهت الحرب العالمية الثانية. وقد اختير اثنان ليحاضرا في الأدب العربي، أحدهما يختص بالأدب العربي القديم، وكان هو المرحوم محمد النويهي، والثاني يختص بالأدب العربي المعاصر، متمثلا في شاعر معين أو كاتب، وكان ذلك الثاني هو كاتب هذه السطور، وقد اخترت لمحاضرتي «العقاد الشاعر» لأنني كنت - ما أزال - أعتقد أن شعر العقاد يصور أهم اتجاه في حياة الأمة العربية في ذلك العصر، ألا وهو الاتجاه نحو «الحرية»، لكن شعر العقاد كما رأيته وأراه، لا يمثل اتجاهنا الجديد نحو الحرية، بمعنى أنه يدير حديثه عن «الحرية» صراحة ومباشرة، بل يفعل ذلك بمعنى قوة «الإيحاء»، فقارئ ذلك الشعر لا بد له أن يخرج من قراءته مزودا بدفعة نحو أن يسعى إلى تحقيق الحرية لشخصه وللآخرين معه، وذلك هو الأدب الرفيع وكيف يفعل فعله في النفوس.
قلنا إن الشعب درجات متفاوتة في الغزارة الثقافية، وتبدأ تلك الدرجات مما هو شبيه بدرجة الصفر، ثم تصعد إلى حيث يقدر لها أن تصعد، وقد تكون لكل درجة من تلك الدرجات كتابة هي الأصلح لها؛ فإذا خاطبت الكتابة أصحاب الدرجات الدنيا من السلم؛ فهي تخاطب «الشعب» متمثلا في هؤلاء؛ وكذلك إذا خاطب الكاتب بما يكتبه تلك القلة القليلة ذات الغزارة النسبية من الثقافة، فهو إنما يخاطب «الشعب» أيضا ممثلا في تلك الفئة القليلة.
إن كل ابن من أبناء الشعب، هو هو «الشعب» ممثلا في شخصه، وليس لأحد من الأفراد حق يزيد على حق الآخر في كونه ممثلا لشعبه؛ وكل ما في الأمر هو أن أبناء الشعب يمثلونه من جوانب مختلفة؛ تماما كما نقول عن اللوحة الفنية إنها متمثلة في ألوانها وخطوطها وطريقة بنائها، فاللون هو اللوحة، والخط هو اللوحة، والتكوين هو اللوحة، وكل مقوم من مقوماتها هو كسائر المقومات في كونه هو اللوحة عند النظر إلى مكانتها من الفن؛ وأذكر في هذا الصدد إجابة أجاب بها العقاد على الوزير الذي كان يرأس المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية، وكان العقاد عضوا فيه، فلقد قال الوزير، ونظراته موجهة إلى العقاد: إننا نريد ثقافة للشعب، لا ثقافة تنفرد بها الفئة القليلة، فأجاب العقاد قائلا: إنني أنا الشعب بمقدار ما يكون أي مواطن آخر هو الشعب، على اختلاف ما بين أبناء الشعب من الدرجة الثقافية لكل منهم، فأنا لست قادما من فرساي.
لكننا إذ ننفي أن يكون الانتساب إلى «الشعب» مقصورا على من قلت حظوظهم من الثقافة، ونصر على أن تكون كل شريحة من المواطنين، من الذروة إلى السفح، هي «الشعب» لا بد لنا أن نضيف إلى ذلك إضافة بالغة الأهمية في موضوع هذا الحديث، وهي أن الذي يستطيع أن يغير اتجاه الشعب من هدف لم يعد صالحا، إلى هدف آخر استحدثته الظروف، هم تلك الفئة القليلة التي تسكن الذروة من الهرم الثقافي؛ لأنهم هم وحدهم القادرون على استخدام أدوات التغيير، من العلم والفن والأدب، وأما سائر الدرجات فهي تتلقى وقد تتغير بما تلقته أو لا تتغير، وذلك متوقف على انفراج الزاوية بين مضمون ما تلقاه من جهة ، ووجدانها العميق من جهة أخرى، على أن هذا كله لا يمنع من أن تكون الفئات التي منها تتألف أكثرية الشعب، هي مصدر الوحي لتلك الفئة القليلة التي تعود بإنتاجها الفكري والأدبي والفني، فتحدث في كثرة الشعب ما قد تحدثه من تغيير.
ماذا نعني عندما نقول إن لطفي السيد، وطه حسين، والعقاد، وأحمد أمين، ومن سار سيرتهم من رجال التنوير في الجيل الماضي، كانوا عوامل قوية في إحداث بعض التغير في الاتجاه الثقافي للشعب المصري، بل وللأمة العربية كلها؟ إننا لا نعني بذلك أن فلاح الحقل، وعامل المصنع - وهم أغلبية الشعب - كانوا يقرءون لهؤلاء ما يكتبونه، وحتى لو كان في مستطاع بعضهم أن يقرءوا لهم في موضوعات السياسة؛ لأن تلك الموضوعات كانت قد شغلت الناس إلى حد كبير، فهل كانوا يقرءون لهم في الجانب الثقافي الذي كان بحق مناط التغير الاجتماعي الذي حدث؟ هل كان أفراد الشعب بالمعنى الشائع لهذه العبارة، يقرءون للطفي السيد نزعته الليبرالية، واتجاهاته الفلسفية؟ هل يقرءون لطه حسين ما كتبه عن أبي العلاء، والمتنبي، وغيرهما من شعراء تناولهم طه حسين بالعرض والنقد على طراز جديد من التناول؟ هل كانوا يقرءون العقاد في شعره وفي تراجمه وفي نقده الأدبي، وهل كانوا يقرءون أحمد أمين في التاريخ العلمي الذي حلل به الحياة الثقافية عند العرب الأقدمين؟ كلا، إنهم بالطبع لم يكونوا يقرءون شيئا من ذلك، ومع هذا فذلك هو نفسه الذي أحدث ما قد حدث في رؤية الشعب من تغيير، فالقليل من عملية «التحديث» الذي تحقق لهم في حياتهم الفعلية قد جاءهم عن طريق هؤلاء، فكيف حدث هذا التأثر بما لم يطالعوه؟ إنه حدث - كما يحدث مثله في كل الأمم وفي كل العصور - على درجات، فهؤلاء الأعلام أثروا تأثيرا مباشرا في قلة قليلة قرأت لهم، لكن أفراد هذه الفئة القليلة كثيرا ما يكونون أصحاب قلم، فتنعكس قراءاتهم فيما يكتبونه، وهكذا تأخذ الدائرة في الاتساع كلما هبطنا من قمة الهرم الثقافي إلى قاعدته.
فالكاتب الذي يكتب للفئة القليلة التي هي «صفوة المثقفين» (بتعبير الزميل الفاضل صاحب الرسالة) عندما يعرض لفكرة يريد عرضها، سواء اختار لها طريقة الأدب الخالص في التصوير، أعني أن يكون قد اختار لها أن تبث في قصة، أو أن تتوازى مع أسطورة أو حلم أو حوار، أم اختار لها طريقة العرض المباشر الذي هو أقرب إلى الدراسات العلمية، فإنه - على أي الحالتين - لا بد أن يمعن في تحليل الفكرة المعروضة، تحليلا يتعقب ما استطاعت قدرته أن تتعقب من جزئيات صغيرة فرعية، هي التي منها تتألف الفكرة المعروضة، وأما تلك الفكرة نفسها حين نأخذ في النزول من القمة إلى القاعدة، على أيدي كتاب أقصر قامة، فإنها تفقد مع كل خطوة إلى أسفل بعض عناصرها وتفصيلاتها، حتى تنتهي آخر الأمر إلى رجل الشارع، بعد أن تكون قد تجردت من كل تفصيلاتها وأصبحت أقرب شبها بالمحارة الجوفاء التي ذهب عنها اللباب الحي.
ذلك فارق جوهري، أرجو أن أشد إليه الانتباه؛ لأنه هو الذي يبين وجه الاختلاف الرئيسي، بين الكاتب الذي يخاطب صفوة المثقفين، والكاتب الذي يخاطب الجماهير العريضة عند قاعدة الهرم؛ وهو أن درجة التحليل للفكرة المعروضة، تزداد كلما صعدنا في درجات الهرم الثقافي، وتقل كلما هبطنا، فافرض - مثلا - أن الفكرة المراد عرضها، هي فكرة «المساواة» ففي هذه الحالة سترى الفرق بعيدا، بين ما تقرؤه لكاتب الصفوة الثقافية عن «المساواة» وما تقرؤه عنها لكاتب الجماهير، فهذا الثاني يكفيه أن يورد كلمة «المساواة» في سياق حديثه، ويتركها هكذا كما هي، وكأنها محددة المعنى وواضحة لجميع قرائه، بل إن هؤلاء القراء من جماهير القاعدة العريضة في الهرم الثقافي لا يتوقعون عن فكرة «المساواة» أكثر من اسمها، على وهم منهم أنهم يفهمون معناها فهما واضحا، وأما كاتب الصفوة فيعلم علم اليقين أن فكرة «المساواة» مركبة ذات تفصيلات كثيرة، ولا بد لفهمها من ضوابط تحدد المعنى المقصود.
لأنك إذا أردت لفكرة «المساواة » دقة في التحديد نشأت لك مشكلات كثيرة تتطلب التفكير وإمعان النظر، فإذا بدأت بالسؤال: مساواة بين من؟ وفي أي الجوانب؟ فقد يأتيك جواب متسرع يقول: مساواة بين أفراد الناس جميعا، وفي كل جوانب الحياة، وهنا يكون من حقك أن تسأل أسئلة كهذه: هل نكلف المريض بمثل ما نكلف به السليم؟ هل يكون للأطفال الصغار حق التصويت النيابي؟ هل يكون للإناث ما للذكور في الميراث؟ هل؟ وهل؟ وأسئلة كثيرة كهذه لا تقع تحت الحصر، وعند كل سؤال منها، يجد السامع نفسه مضطرا إلى وضع الضوابط التي تحدد المجال الذي في حدوده تكون المساواة، وشيئا فشيئا يزداد ذلك السامع إدراكا بأن لكل فرد، وفي كل مجال، ظروفا معينة تجيز له، أو لا تجيز له، أن يتساوى مع هذا أو ذلك من سائر الأفراد؛ فمن هو دون الثامنة عشرة - مثلا - لا يتساوى مع بقية الناس في التصويت النيابي؟ والمرأة لا تتساوى مع الرجل في المواريث، ومن لم يحصل من التعليم على درجة معينة لا يتساوى مع من حصلوا على تلك الدرجة في دخول الجامعات، وهكذا وهكذا.
لكننا إذا وجدنا أنه - في كل مجال - لا بد من وضع الحدود التي تجيز أو لا تجيز المساواة بين الناس جميعا، فسرعان ما يتبين لنا أن مثل هذه الاستثناءات ليست دائما محل اتفاق عام وشامل، فإذا سألنا - مثلا - هل إذا تساوت كل الظروف بين شخصين، إلا في اختلاف بينهما في اللون يتساويان؟ هنالك من الشعوب من يقول: لا؛ فاللون يؤخذ في الاعتبار؛ وكذلك إذا سألنا؟ هل إذا تساوت كل الظروف بين رجل وامرأة، يتساويان بعد ذلك في كل شيء؟ هنالك من يقول: نعم، وهنالك من يقول: لا، وهكذا تنفتح أبواب الخلاف في الرأي أمام الناس، فما يراه بعضهم واجب المساواة، يراه آخرون غير ذلك.
إنني لم أقصد بهذه اللمحة التحليلية السريعة أن ألقي شيئا من الظلال على فكرة المساواة بين الناس، بل أردت أن أوضح كيف أن ما يقبله القارئ العادي على علاته، يقف منه المثقف من الصفوة وقفة تتطلب مزيدا من الدقة في وضع الضوابط التي تضبط المعنى المقصود، وأحب هنا أن أوجه الأنظار إلى حقيقة هامة، هي أن الطغاة إنما يستندون في طغيانهم على الألفاظ التي من قبيل: الحرية، المساواة، العدالة، الديمقراطية، يلقونها في الجماهير، وهم يعلمون أن أحدا من تلك الجماهير لن يقف مع نفسه أو من غيره لحظة ليسأل عن تلك المعاني في دقة تحديدها، ليعلم بناء على ذلك إن كان ما يعطيه له الطاغية فعلا مطابقا لتلك المعاني، أو كان مجرد أسماء قذف بها في الهواء كيفما اتفق. وسؤالنا الآن هو هذا: إذا كانت هذه المعاني وأمثالها في حاجة إلى من يحللها ويوضحها ليكون مع الناس معيار التفرقة بين الصواب منها والخطأ؛ فمن الذي يضطلع بهذا التحليل والتوضيح؟ إنهم صفوة المثقفين - الكاتبون منهم والقارئون - ومنهم تتسلل المعاني قطرة قطرة، حتى تصل إلى جمهور الناس فتحركهم إلى التغيير المنشود، إذا اقتضاهم الأمر أن يغيروا من حياتهم شيئا، وعلى هذه الصورة تحدث ثورات الشعوب.
وهنالك من ضروب الإنتاج الفكري والفني والأدبي ما قد يخيل إلى الرائي أنه في مستطاع الجماهير، برغم كونه إنتاجا أبدعته الصفوة المثقفة كالموسيقى والشعر والرواية والمسرحية والتصوير مما يغري السائل أن يسأل كل منتج لفكر أو فن أو أدب: لماذا لا تجعل نفسك مفهوما للناس كهؤلاء؟ والذي يفوت السائل، هو أن القارئ العادي يتعذر عليه فهم الرواية والمسرحية ومعزوفة الموسيقى واللوحة الفنية بغير ناقد يقوم له بعملية التحليل واستخراج المضمونات الكامنة في العمل الأدبي أو الفني، وإذا لم تصل تلك المضمونات الكامنة إلى عقل المتلقي وقلبه، لما وجد ما يحفزه على تغيير أو ثورة.
وكل منا ميسر لما خلق له، فمنا من خلق ليحلق في علياء السماء تارة، وليغوص إلى غور الأعماق طورا، محللا ومعللا وباحثا وكاشفا، ومنا من خلق ليسبح في تيار الحياة كما هي واقعة، لا يجاوز تفصيلاتها ومشكلاتها ساعة بعد ساعة ويوما بعد يوم، وبين أولئك وهؤلاء من القنوات والدهاليز، ما يربطهما معا وجهين لحياة واحدة.
ندوة في خطاب
جاءني خطاب مثقل بالأسئلة، وكأنه قد شارك في كتابته مجموعة كبرى من السائلين، لكنني حين قرأت ما قدم به كاتبه نفسه، أحسست بأن الإجابة عن أسئلته واجبة؛ لأنه طالب علم والتعليم مهنتي ومهمتي، فهو يقدم نفسه بقوله: «أنا شاب أبلغ من العمر تسعة وعشرين عاما، لم تسعفني ظروفي الخاصة في إتمام مرحلة الدراسة الثانوية، ولكنني رغم ذلك أهوى القراءة وأحبها ... وهي عندي أحب إلي من كل ما عداها في هذه الحياة، وحبي للقراءة، وهوايتي لها، نابعان من اقتناعي بأثرها العميق في تكوين الشخصية وتقويم السلوك، ولو لم يكن للقراءة هذا الأثر، لما كان هناك أمر بالقراءة في قول الله تعالى:
اقرأ باسم ربك الذي خلق ، والمشكلة التي تحظى بكل اهتمامي وتشغل كل فكري الآن هي أنني لا أعرف ماذا أقرأ؟ ولمن أقرأ؟ وكيف أقرأ؟ ولقد تفضلتم مشكورين بالإجابة على السؤالين الأخيرين من أسئلتي الثلاثة (في مقالكم المنشور بالأهرام بتاريخ 15 / 5 / 1983م)، أما سؤالي الأول، فما زلت أتطلع إلى الإجابة عليه، فهل أقرأ ما يتفق مع ميولي واهتماماتي؟ أو أن هنالك ما يجب علي قراءته بغض النظر عن تلك الميول والاهتمامات.»
وبعد هذه المقدمة خصص صاحب الخطاب طلبه، فكتب سبعة أسئلة، تقع موضوعاتها في ميادين مختلفة، راجيا أن أجيب له عنها، وسألبي رجاءه له ما أستطيع، لكنني أقول له: إن أسئلتك هذه هي التي تحدد لك ما تقرؤه، فابحث عن المصادر التي تحدثك عنها، تكن قد أجبت لنفسك على سؤالك السابق: ماذا أقرأ؟ وبعد، فها هي ذي أسئلته السبعة، سؤالا سؤالا، والجواب الموجز عن كل منها. يقول في سؤاله الأول: «هاجم بعض علماء المسلمين القدامى، كالغزالي، الفلسفة والفلاسفة، واتهم علماء آخرون الفلاسفة بالزندقة والإلحاد، فأرجو التوضيح: هل هناك تناقض بين الدين والفلسفة؟ وما هي أوجه الاتفاق وأوجه الاختلاف بينهما؟»
الجواب: لا، ليس هناك تناقض بين الدين والفلسفة، وبيان ذلك في إيجاز هو أن الفكر يكون فلسفيا، كلما أراد أن يرد فكرة معينة، أو علما معينا، أو نظما اجتماعية معينة، أن يردها إلى جذورها الأولى التي نبتت منها؛ مثال ذلك، أنه إذا كان «التاريخ» يصف الأحداث كما وقعت، بل وربما يرجع بتلك الأحداث إلى أسبابها المباشرة، فإن «فلسفة التاريخ» هي التي تحاول أن ترد الأحداث وأسبابها إلى ما يكمن وراءها من قوى دافعة، فإذا قال ابن خلدون في «المقدمة» المعروفة له ما معناه أن الحضارة الإنسانية تولد وتنمو وتشتد قوتها ثم تهرم وتشيخ وتذبل وتموت، كما هي الحال مع سائر الكائنات الحية؛ فذلك منه يعد فلسفة للتاريخ؛ مثال آخر: إذا كانت «اللغة» هي هذا الذي نتكلمه ونكتبه، ثم تجيء «علوم اللغة» كعلم النحو مثلا، وهو عبارة عن استخراج القواعد العامة التي على أساسها تتركب المركبات اللغوية، فإن «فلسفة اللغة» هي ما يغوص إلى أعمق من ذلك، لنرى ماذا في الإنسان وفطرته، مما يجعله ذا لغة؟ مثال ثالث: إذا كانت «الأخلاق» هي تلك المعايير التي يراعيها الإنسان في سلوكه، بحيث يجيء ذلك السلوك مما يعده الناس فضيلة، فإن «فلسفة الأخلاق» هي الغوص وراء تلك المعايير ذاتها لنرى كيف كان منشؤها، أو بعبارة أخرى: نسأل من الذي أمر الإنسان بأن يفعل هذا وبألا يفعل ذلك؟ وهنا قد تتعدد الإجابات، لكنها جميعا - على تعددها - تكون مذاهب مختلفة في «فلسفة الأخلاق»، وعلى ضوء هذه الأمثلة التي أوضحت لك بها العمل الفلسفي في بحثه عن الجذور الأولى في أي ميدان يختاره، أنتقل بك إلى الدين والفلسفة وهل بينهما تناقض، فبناء على ما قدمناه، إذا كانت الفلسفة قد اختارت لفاعليتها الفكرية ميدان «التاريخ» أو «اللغة» أو «الأخلاق» أو «الجمال» أو ما شئت من ميادين العلم والحياة، فعندئذ لا يكون لها مساس بالدين، وأما إذا اختارت ميدان الدين نفسه ليكون موضوعها، فمهمتها إنما هي أن تحلل مفاهيم ذلك الدين وعقائده، بالطريقة التي ذكرناها، إلى أن ينتهي بها التحليل إلى الكشف عن الجذور الكامنة وراء تلك المفاهيم والعقائد، وها هنا قد يوفق القائم بالتحليل توفيقا يضعه في أعلى مراتب المؤمنين بذلك الدين، وقد لا يوفق، فيصل إلى نتائج يعدها المؤمنون خارجة على روح دينهم.
الفلسفة أشبه شيء بعدسة مكبرة يستخدمها الفيلسوف ليرى ما هنالك في الميدان الفكري الذي يختاره لرؤيته، وبالطبع لا يكون ما بين العدسة والشيء المرئي بها «تناقضا» حتى إذا كانت لعيب في زجاجها قد أضلت صاحبها عن طريق الصواب، فالذي حدث في حالة كهذه هو خطأ في الرؤية وليس تناقضا.
ولقد ذكر السائل في سؤاله «الغزالي» في هجومه على الفلسفة والفلاسفة، وأود أن أقول هنا إن الغزالي حين أطلق على كتابه الذي هاجم به الفلاسفة اسم «تهافت الفلاسفة» فإنما كان يرمي إلى فيلسوف واحد بالذات، هو أرسطو كما يتمثل في فلسفة ابن سينا، وأما «الفلسفة» من حيث هي فلا أظنه قد شملها، وحتى لو زعم لنا أنه إنما هاجمها، فنحن لا نصدقه في زعمه هذا؛ لأن الطريقة التي هاجم بها فلسفة أرسطو في ذلك الكتاب، هي هي نفسها فلسفة تنهج نهج الفلسفة أينما ظهرت.
وأما الجزء الأخير من السؤال، وهو الجزء الذي يسأل عن الدين والفلسفة، أين يتفقان وأين يختلفان؟ فجوابه في إيجاز هو ما يلي: إنما يتفقان، أو يتلاقيان، عندما تبحث الفلسفة فيما وراء الطبيعة. فعندئذ تكون مسألة الألوهية واردة بالنسبة إلى الدين والفلسفة كليهما، ويختلفان أو قل يستقلان أحدهما عن الآخر، أو لا، حينما ينصب البحث الفلسفي على ميادين أخرى، كالذي تؤديه فلسفة العلم، وفلسفة الجمال، وفلسفة اللغة ... إلخ.
وثانيا هما يختلفان في أن المبادئ التي تبنى عليها البناءات الفلسفية بشرية وتختلف من فيلسوف إلى فيلسوف، ومن عصر إلى عصر، وأما الوحي الذي ينزل بالدين فهو - عند المؤمنين بذلك الدين - ثابت لا يتغير من فقيه إلى فقيه، ولا من عصر إلى عصر آخر.
السؤال الثاني: ما هي القيمة التي تمثلها الفلسفة في حياتنا العلمية؟ وهل مصر - من حيث هي دولة نامية - في حاجة إلى تدريس الفلسفة لأبنائها، كحاجتها إلى تدريس الطب، مثلا، أو العلوم العسكرية؟
الجواب: راجع إجابتنا عن السؤال الأول؛ لتزداد تبيانا للفلسفة ماذا تعمل، فقد أوضحنا أن الفلسفة تحفر تحت الأساس الذي يقام عليه بنيان العلم، التماسا للجذور التي منها انبثقت شجرة العلم، وذلك الأساس الذي تحفر تحته الفلسفة بحثا عن الجذور الأولية، يؤخذ في المجال العلمي مأخذ التسليم، فمثلا يقوم علم الرياضة على أساس «العدد»، أي إن علم الحساب مثلا يأخذ فكرة العدد مأخذ التسليم، ثم يبني فوقها عملياته من جمع وطرح وضرب وقسمة وغير ذلك من العمليات الرياضية، فتأتي الفلسفة لتسأل: وكيف جاء العدد إلى عقل الإنسان بادئ ذي بدء؟ ثم تأخذ الفلسفة في تحليلاتها إلى أن تصل بنا إلى الأوليات العقلية الأولى التي أنبتت آخر الأمر فكرة العدد، وهنا قد تسأل: وما فائدة ذلك؟ ويكفيني في الإجابة أن أذكرك بما يسمونه اليوم بالرياضيات الحديثة، فبعد أن مضى ما مضى من قرون، وكان تعليم الرياضة على نحو ما ألفناه، أنت وأنا، تنبه علماء الرياضة إلى أن تعليم الرياضة لا يجدي في عقل المتعلم كل جدواه، إلا إذا تعلمه عن طريق الأوليات المنطقية الأولى، التي كانت هي الجذور العقلية التي أخرجت فكرة العدد وغيرها من الأفكار الرياضية الأساسية؛ لأننا لو بدأنا تعليم الرياضة من وسط الطريق لم يستطع الدارس أن يعرف الحقيقة كاملة ليفهمها؛ إن الأمر عنده يكون شبيها بمن يدخل المسرح والرواية قد انقضى نصفها. ومن الذي نبه علماء الرياضة إلى أم الأسس التي كانوا يجعلونها نقط ابتداء في خطوط السير، ليست في حقيقتها نقط ابتداء، بل هي محطة في وسط الطريق. كانت فلسفة الرياضة على أيدي أعلامها في القرن الماضي هي التي كشفت لهم عن المخبوء الذي لم تكن أعينهم تراه، أو قل إن أعينهم لم تكن بها يومئذ حاجة إلى أن تراه.
فالعمل الفلسفي يا أخي ليس لهوا تلهو به جماعة الصبيان، ولكنه تبيين للأصول التي منها تفرعت ثقافة الناس التي يحيون في مناخها. خذ - مثلا - الحياة الدينية في صدر الإسلام، فلم يلبث المسلمون - أعني رجال الفكر منهم - أن أخذهم حب المعرفة لتنكشف لهم مضمونات المفاهيم الدينية الأساسية، فالمسلم «موحد لله» والإنسان العادي «يشهد ألا إله إلا الله »، لكن الفيلسوف المسلم هو الذي يأخذه القلق العقلي حتى يتبين حقيقة المعنى في مفهوم «التوحيد»، فيمضي في تحليلات فكرية، يلتمس بها الجذور والأصول الدفينة في جوف الفكرة، ولك أن تجيب لنفسك عن سؤال يسأل: ما هو الفرق بين الدين الإسلامي حين يكتفى منه بأفكاره عند أسطحها، والدين الإسلامي بعد أن يكشف فلاسفته عن تلك الخصوبة الغنية، وذلك الثراء الغزير من الأبعاد الفكرية الكامنة في بطون كلماته، فيكون ذلك الفرق هو الفلسفة وجدواها، وهي جدوى تكون الدولة «النامية» أحوج إليها، لتسرع في خطوات نمائها العقلي، ثم تسألني: وهل حاجتنا إلى تدريس الفلسفة لأبنائنا هي كحاجتنا إلى تدريس الطب والعلوم العسكرية؟ وفي هذا السؤال (وأمثاله كثيرة الورود في حياة الناس) مغالطة شديدة الخطر على أصحابها؛ لأن «الحاجات» التي يحتاج إليها الإنسان في حياته ليست «طابورا» نأخذ من مفرداته الأول فالأول، وإلا سألتك: هل حاجتك إلى عينيك أولى أو حاجتك إلى أذنيك؟ هل ثمار الشجرة أحق بالعناية أو جذورها؟ يا أخي إذا كانت حياتنا العلمية شبيهة بشجرة ذات جذور وجذع وغصون وأوراق وثمر، فليس في وسعك، ولا هو من حقك، كلا ولا هو في صالحك، أن تبحث عن الأجدى من هذه الأجزاء والأجدر بالعناية، فالجذور في باطن الأرض والأوراق والثمر فوق الفروع، كلها أجزاء، لولاها لما كانت الشجرة، وكلها حقيق بالعناية والرعاية في وقت واحد، وهل تدهش إذا زعمت لك أن مصر إنما تخلفت عن مكانها في مواضع الزعامة الحضارية للعالم، «ولقد استمر لها هذا الامتياز إلى القرن الخامس عشر»، أقول إن مصر تخلفت عن مكانها ومكانتها، بحيث أصبحت - كما تقول في سؤالك - دولة «نامية» (أو «نايمة» أو «متخلفة») حين ضاعت منها تلك الروح الفاحصة التي تشمل شجرة الحياة بأسرها، جذورا وفروعا وثمارا.
السؤال الثالث: اللغة العربية - لغة القرآن الكريم - تمر بمحنة خطيرة، تتمثل في تدهور مستواها بين المتكلمين بها من الشعوب العربية، فالعامية تتفشى بصورة خطيرة، حتى بين أساتذة المعاهد والجامعات. فماذا ترى من سبل للنهوض بها؟
الجواب: ليس عندي ما أجيب به أكثر مما عند أي عابر سبيل من أبناء اللغة العربية، فماذا تكون سبل النهوض باللغة غير التعلم ثم الاستعمال كلاما وقراءة وكتابة ؟ لكن الذي قد أضيفه، هو «طريقة» تعليم اللغة العربية؛ إذ لا بد أن تدخل في ذلك ثلاثة عوامل لا أراها اليوم قائمة بالقدر الكافي: أولها أن يكون كل درس، في أية مادة من مواد الدراسة، بغير استثناء، درسا في اللغة العربية كذلك، فدرس التاريخ - مثلا - درس في التاريخ ولغته، ودرس الكيمياء هو درس في الكيمياء ولغتها، وهلم جرا، فيخرج الدارس في نهاية الشوط، ولا فرق عنده بين أية فكرة علمية أو أدبية ولغتها الصحيحة التي يجب أن تجري فيها، والعامل الثاني هو «تذوق» اللغة، وتلك مهمة تقع على دروس اللغة العربية أكثر مما تقع على سواها، فليس اللغة هي مجرد مجموعة من رموز صماء جرداء تقضي للناس شئونهم في دنيا التبادل والتعامل، بل هي كذلك، وفي الوقت نفسه، «فن» فيه تعبير، والتعبير هو «عبور» ما هو في نفس المتكلم لكي يظهر للآخرين نطقا مسموعا، أو لفظا مكتوبا، بعبارة أخرى، فإن المتكلم أو الكاتب، إنما ينقل روحه من حالة الخفاء إلى حالة العلن، فيما يقوله أو يكتبه، وذلك هو المقصود حين يقال إن الإنسان هو أسلوبه: فبمقدار ما يوحي مدرس اللغة العربية إلى تلاميذه بهذا التوحد الذاتي بين الإنسان ولغته، يكون حرص هؤلاء التلاميذ في حياتهم المقبلة على أن يصونوا لغتهم من التفاهة والركاكة والضعف. وأما العامل الثالث، فهو مكانة اللغة في انتماء المواطن إلى وطنه، فالعجيب الذي يلفت النظر أن الإنسان العادي، الذي لا يرتفع إلى قراءة الأدب الرفيع وتذوقه، يأخذه الغضب إذا قيل له مثلا إن المتنبي أو أبا العلاء المعري ليس من أسلافنا الذين نعتز بالانتساب إليهم، فذلك الإنسان العادي يشعر بالعزة كلما قوي السلف الذي ينتمي إليه، وعلى رأس ذلك السلف هم سادة الكلمة. ومرة أخرى أقول إن مدرس اللغة العربية إذا استطاع أن يبث هذه الروح في تلاميذه، فإن هؤلاء التلاميذ سيكونون بعد ذلك ومن تلقاء أنفسهم، حريصين على ما بين أيديهم من كنوز.
السؤال الرابع: لماذا لا تكتب في قضايا الوطن، ومشاكله السياسية والاقتصادية والاجتماعية ؟
الجواب: لو جاز لي أن أكون ذا رأي فيما أكتبه، لقلت إنني بذلت جهدا لا يعرف قدره ومقداره إلا ربي وأنا، وكان ذلك الجهد متجها نحو خلق إنسان جديد، وأحسب أن لو تحقق لنا شيء من صورة ذلك الإنسان العصري الذي يحتفظ مع عصريته بهويته، تحقق لنا بالتالي من يحسنون معالجة القضايا السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وعلى هذا الأساس أعتذر عن عدم الإجابة عن السؤالين الخامس والسادس؛ لأنهما يتناولان قضايا من تلك التي يجب أن يترك الحديث فيها لأربابها العالمين بشئونها.
السؤال السابع: كتبت في مقالك المعنون «سؤال عن الثقافة وجوابه» تقول: إن الثقافة هي مجموعة من القيم السلوكية والفنية والذوقية، وهي التي توجه الإنسان في اتجاه سيره، وفي ردود أفعاله، فليست الثقافة محصولا معينا من المعارف والمعلومات، بدليل أن ما يعرفه مثقف هنا قد لا يعرفه مثقف هناك، بل هي الزهرة التي تخرجها تلك المعلومات والمعارف، ثم ذكرت أن للثقافة مصادر ثلاثة، هي الدين والأدب والفن.
ولقد أفهم أن للدين أثرا في تشكيل وجهات النظر عند الناس، ولكني لا أفهم كيف يكون للأدب، شعره ونثره، وللفن بمختلف فروعه، أثر في تشكيل وجهات النظر، فهل تتكرمون بمزيد من الإيضاح؟
الجواب: تسألني عن الفن والأدب كيف يشكلان سلوك المتلقي، فأقول: أما الفن بمختلف أنواعه، الموسيقى، والتصوير، والنحت، والعمارة، فمهما اختلفت المذاهب في تحديد الصفة المشتركة بين تلك الأنواع، والتي أتاحت للعقل أن يجمعها جميعا تحت اسم واحد، هو «الفن»، فلا بد أن تتفق تلك المذاهب على أن الإبداع في الفن - كائنا ما كان نوعه - يخرج في القطعة المبدعة تركيبا تترابط أجزاؤه بنسب معينة، يمكن تقنينها، ويكون الأساس فيها هو أنها نسب من شأنها أن تحدث في نفس المتلقي حالة نفسية مقصودة، أراد الفنان أن يحدثها، فضلا عن أن تلك النسب بين أجزاء القطعة المبدعة، هي نفسها التي نطلق عليها اسم «الشكل» (أي الفورم) الذي بغيره لا يكون الفن فنا، فمثلا: هل يمكن أن تستمع إلى موسيقى حربية دون أن تشعر بانفعال الحماسة التي تدفعك إلى الرغبة في المشاركة في القتال؟ هل يمكن أن تتأمل صورة جرونيكا للمصور بيكاسو دون أن يأخذك الهلع من ويلات الحروب؟ هل يمكن أن تمعن في تمثال نهضة مصر للمثال محمود مختار دون أن تأخذك العزة بالانتساب إلى مصر، التي حاضرها يتمثل في الريفية التي اعتدلت قامتها وشمخت بأنفها وألقت بنظرها إلى الأفق البعيد، وماضيها الذي يتمثل في أسد رابض؛ ينتظر من تلك الريفية أن تمسه بأصابعها ليأخذ في النهوض، مستعيدا كل ما يرمز له من مجد مصر على مر العصور؟ هل يمكن أن تنظر إلى فن العمارة فيما بقي لنا من معبد الكرنك، دون أن تحس وكأنك تنتفخ من كبرياء لتتكافأ حجما وعظمة مع تلك العمد الرواسخ الشوامخ؟ إنه لمحال على إنسان يتأمل قطعة فنية، دون أن تسري في عروقه تلك الروح التي أراد لها الفنان أن تسري، ومن توالي النظر إلى مبدعات الفن تتكون عند الناظر رؤية معينة ينظر بها فيما بعد إلى مواقف الحياة العملية. لقد كان أفلاطون في «الجمهورية» قد حرم الفنون، على اعتبار أنها محاكاة لكائنات هي نفسها محاكاة بدورها للنماذج العقلية الأزلية، فلماذا نشغل الناس بمحاكاة لمحاكاة؟ لكنه استثنى الموسيقى، واشترط أن تدخل في مقررات الدراسة كلها؛ لأنها بما فيها من نسب متناغمة، لا بد أن تخلق في المتلقي ذوقا فيه ذلك التهذيب والاتساق والتناغم؛ وما قد ظنه أفلاطون بالموسيقى وأثرها في سلوك الإنسان، يمكن أن يمد ليشمل كل ضروب الفن؛ لأنها ليست في جوهرها «محاكاة» كما توهم عنها أفلاطون، بل هي في جوهرها بناءات تتسم بالتناغم الموسيقي.
وأما عن الأدب، فالأمر فيه بالنسبة إلى تشكيله لسلوك الإنسان المتلقي، واضح؛ إذ ماذا يكون الأدب بصنوفه كافة: الشعر، والرواية، والمسرحية، والمقالة الأدبية، إلا أن يكون انعكاسات للتفاعلات البشرية؟ إنك تقرأ ديوان المتنبي - مثلا - فتنظر إلى الدنيا نظرة ذلك الشاعر في كبريائه واعتداده بنفسه، وتقرأ شعر أبي العلاء المعري، فتنظر إلى الحياة من أعلى لترى تفاهتها وعظمتها معا، كما فعل أبو العلاء؛ وتقرأ رواية نجيب محفوظ في الثلاثية - مثلا - فترى مصر أمامك وهي في إحدى مراحل تاريخها، وترى «المصري» في أخص خصائصه السلوكية والوجدانية، وحين ترى ذلك فأنت لا تراه وصفا مجردا، بل تراه تفاعلا حيا بين مجموعة مصرية برجالها ونسائها وأطفالها وهمومها وأفراحها وأحزانها وشواغلها، فيكاد يستحيل ألا تخرج من ذلك كله بحالة شعورية معينة فيها الرضا وفيها السخط معا، الرضا عن بعض جوانب حياتنا والسخط على بعضها الآخر، فهل يمكن أن تعايش تلك الحالة الشعورية الراضية الساخطة دون أن تتكيف لها ولو إلى حد محدود؟ لقد رأيت أنا في أكثر من مناسبة، زوجات يرين وكأن أزواجهن لا يزالون يحيون على غرار النمط «الرجالي» الذي رأينا صورته في شخصية «السيد عبد الجواد» وهو يتطلب من زوجته ما يتطلبه السيد من أمة اشتراها بماله، والزوجة قد ربيت على أن تسعد بحياة الرقيق تلك، أقول إني رأيت في أكثر من مناسبة زوجات يرين في أزواجهن بوادر تلك النزعة فيكتفين بقولهن ساخرات: «حاضر يا س السيد»، على نحو ما كانت تقول زوجة السيد عبد الجواد في رواية نجيب محفوظ، وكان الزوج في كل حالة من الحالات التي شهدتها يستحيي من نفسه ويخجل من سلوكه، فماذا يعني هذا التحول إلا أنه من تأثير الأدب وتصويره للتفاعل البشري ولأنماط رد الفعل كما هي واقعة، فنرضى نحن أو نسخط، فينتج التعديل الاجتماعي نتيجة قريبة أو بعيدة لذلك الشعور بالسخط على أنفسنا أو الرضا؟
القسم الرابع
مصر تبحث عن نفسها
قضية تستحق النظر
إنني لا أتقدم هنا بفكرة نظرية، من تلك الأفكار التي هي أقرب إلى الرياضة الذهنية منها إلى المشكلات العملية، بل أتقدم بفكرة تعاودني كلما عاودتني مسألة تحيرت في حلها حلا حاسما، يزيل القلق من نفسي إزاءها؛ وهي مسألة لا تكتفي بأن تمس ظواهر الحياة وقشورها ثم تمضي، وإنما هي مسألة ضاربة في حياتنا عند جذورها؛ وماذا تقول في مسألة تدير سؤالها حول الذات المصرية في صميمها؟ إنه لا يكفينا أن تفض مشكلة كهذه، لها ما لها من عمق التأثير في وجدان المصري، بعبارة عجلى نلقي بها لنستريح، وإلا فما كان أهون من أن نقول عن المصري - وهو قول أكرره مرارا لنفسي عن نفسي - أقول ما أهون أن نقول عن المصري، إنه يمتد بماضيه إلى العصر الفرعوني، ثم هو عربي، وهو بمصريته تلك وعروبته هذه، جزء من الأمة الإسلامية، هذا قول سهل ومريح، وهو فوق ذلك قول نؤمن به، أو - على الأقل - يؤمن به كاتب هذه السطور، إذ هو مقتنع من عمق قلبه وفؤاده أنه مصري عربي مسلم، ثم لا يهمه بعد ذلك أن تضاف إلى هذه الأبعاد أبعاد أخرى، كالانتماء الأفريقي مثلا. نعم، هذا قول سهل ومريح، ولكن ماذا لو حللنا هذه الصفات الثلاث - المصرية والعربية الإسلامية - فوجدنا بعض العسر في أن نجعلها متطابقة كل التطابق بعضها مع بعض؟ إن كرامة عقولنا تقتضينا ألا نقذف بشفاهنا كلمات لها من الخطورة ما لهذه الكلمات الثلاث، دون أن نكون على وعي كامل بما هو مضمر فيها من معان، وإذن فهي قضية جديرة بالنظر المتأمل الدقيق، لكي تطمئن قلوبنا، بأننا إذ نصف أنفسنا بهذه الصفات الثلاث، فنحن نعني ما نقوله ونعيه.
إنه لمما يبعثنا حقا على ابتسامة الساخر، أن نجد أنفسنا بصدد سؤال نسأل به عن حقيقة الهوية المصرية؛ لأن السؤال عن حقيقة الهوية، إذا جاز طرحه بالنسبة إلى شعوب قصيرة التاريخ، فهو - فيما يبدو - لا يجوز طرحه على أقدم أمة في التاريخ، فمصر حين اجتازت سبعين قرنا من الزمن، وخاضت خلالها حضارات تعاقبت عليها، لم يكن لها في كل مرحلة هوية خاصة، اختلفت عن هويتها قبل ذلك وبعد ذلك، بل كانت هي هي مصر، مع زيادة في عمق الخبرة، وفي رهافة الحس الحضاري عند أبنائها. إنها لم تكن في كل مرحلة جديدة يجيئها بها التاريخ، تغسل عن جسدها غبار المرحلة السابقة، بل كانت كالذي يرتدي ثوبا جديدا يضيفه إلى ثيابه، أو كانت مثل كرة الثلج التي شرح بها هنري برجسون فعل الزمن في الكائن الحي، في أن تلك الكرة كلما تدحرجت على سفح الجبل، ازدادت كثافة الثلج في كيانها. إن اللحظة الجديدة في حياة الإنسان، لا تمحو فعل اللحظات السابقات، بل تضيف إليها جديدا، فإذا نحن أجرينا على المصري بحثا تحليليا بالمنهج «البنيوي» الجديد (الذي يروجونه هذه الأيام، في النقد الأدبي وفي غيره مما يتصل بالإنسان وحياته وتاريخه) لخرجنا من البحث ببنية مركبة، بقدر ما يتسع لذلك المحصول الحيوي الخبري الغزير، الذي امتصته مصر على امتداد القرون، والذي كونت به هوية «المصري».
نعم، إنه ليبعث فينا ابتسامة الساخر، أن نجد مجال السؤال لا يزال مفتوحا أمامنا: من هو المصري؟ أيدخل في عناصر هويته أنه عربي وأنه مسلم؟ وإذا كان ذلك كذلك فكيف كان؟ لكن ما حيلتنا وفي الموقف الحاضر شيء من الخلط وتداخل العناصر بعضها في بعض حتى لتتعذر علينا الرؤية الواضحة في كثير من الأحيان؟
فمن حيث أنا مصري أراني معتزا بميراث أسلافي، منذ أول يوم شهدت فيه الأرض مصريا يترك على تربتها آثار قدميه، وكيف لا أعتز بذلك الميراث ولم يكن المصري بما شيده لا لاهيا ولا عابثا؟ إنه حكم، وديانة، وعمارة، وفن، وزراعة، ونصر في القتال، فلو كان قد تسلل إلى دمائي من كل جانب من جوانب ذلك المجد أقل من خردلة، لكان فيما ورثته عن هؤلاء الأسلاف ما يملأ نفسي اعتزازا بآبائي الأولين ... إلى هنا والقول منساب في سلاسة وسهولة واقتناع، لكنني مسلم يتلو كتاب الله ويؤمن بكل ما جاء فيه، ومن بين ما جاء فيه أربعة وسبعون آية عن فرعون، وفي كل آية منها إشارة إلى ضلالة من ضلالاته.
تلك إذن إحدى النقاط التي قد تثير القلق في نفس من أراد وهو مصري مسلم أن يظل فخورا بإسلامه في تاريخه القديم، فهل يكفي لزوال ذلك القلق أن نقول إن الآيات الكريمة إنما تعني فرعونا واحدا، هو فرعون موسى، (وأظن أنه هو رمسيس الثاني) جاءه موسى - عليه السلام - بآيات الله فأبى وظلم،
وقال موسى يا فرعون إني رسول من رب العالمين ،
قال الملأ من قوم فرعون إن هذا لساحر عليم ،
ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه وما كانوا يعرشون ،
وإذ أنجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب ،
كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كفروا ،
فأهلكناهم بذنوبهم وأغرقنا آل فرعون ، أقول: هل يزيل القلق من نفوسنا أن تكون آيات الكتاب الكريم، التي ورد فيها ذكر فرعون، إنما قصدت إلى فرعون واحد، وأن سيئات هذا الفرعون الواحد، في مناصبته العداء لبني إسرائيل وللرسالة الموسوية، لا تمحو حسنات الفراعين وما أقاموه من ركائز الحضارة الإنسانية ودعائمها، على مدى أربعة آلاف عام؟ اللهم نعم، وبهذا أقنعت نفسي، وحللت هذه المشكلة وأزحتها من الطريق.
لكن المشكلة الأعوص، هي ذلك التداخل المربك بين «العروبة» من جهة و«الإسلام» من جهة أخرى، فواقع الأمر هو أن هذين المفهومين لا يتطابقان أحدهما مع الآخر تطابقا كاملا، بل هما متداخلان، بمعنى أن العروبة والإسلام يتلاقيان معا في العرب المسلمين، وليس العرب المسلمون هم كل المسلمين، ولا هم كل العرب، فمن العرب من هم غير مسلمين، ومن المسلمين من هم غير عرب، وبعبارة أوضح نقول: إن هناك ثلاث فئات: فهنالك فئة العرب المسلمين، وهنالك ثانيا فئة المسلمين الذين ليسوا عربا، كأبناء تركيا وإيران وباكستان وإندونيسيا وغيرهم، وهنالك ثالثا فئة العرب من غير المسلمين، معظمهم يدين بالمسيحية، كما في لبنان ومصر وغيرهما، فإذا قال المصري - مثلا - إنني أنتمي إلى العروبة وإلى الإسلام معا، وجب أن يكون مفهوما أن الانتماء هنا له معنيان، وليس معناه في الحالة الأولى مطابقا لمعناه في الحالة الثانية، فالمصري عربي بمعنى أنه يتجانس مع سائر العرب في نمط ثقافي واحد متعدد الجوانب والفروع، وأما المصري المسلم فهو ينتمي إلى الأمة الإسلامية بجانب واحد، هو جانب العقيدة الدينية، وليس من الضروري بعد ذلك أن تكون بقية جوانب الحياة الثقافية مشتركة بين المصري والباكستاني أو الإندونيسي أو غيرهما من المسلمين غير العرب.
إن درجات الانتماء لا تتدرج درجة درجة من درجات «الأهمية»، بل قد يكون أشد ما أنتمي إليه التصاقا ليس هو أهم جانب من جوانب حياتي، فربما كانت عقيدتي الإسلامية - من حيث الأهمية - أهم جوانب حياتي، لكن انتمائي لأسرتي، ولقريتي، ولوطني، وللعروبة، وللإنسانية جمعاء، يجيء فيه ترتيب الدرجات على أساس آخر غير «الأهمية»، وقد يكون هذا الأساس هو المشاركة الوجدانية، فهذه المشاركة الوجدانية بيني وبين أفراد أسرتي أقوى - بالطبع - من المشاركة الوجدانية التي بيني وبين مسلم في الصين أو روسيا، دون أن يغير هذا الموقف الوجداني من حقيقة كون إسلامي أهم جانب من جوانب حياتي.
فالمعاني كما ترى متداخل بعضها في بعض، ومن هنا كانت صعوبة التفرقة بينها، لكنها صعوبة يجب أن تذلل، ليصبح تفكيرنا محددا وواضحا من حيث الانتماء، فنحن - من حيث الانتماء - مصريون قبل أن نكون جزءا من الوطن العربي، ثم نحن عرب قبل أن نكون جزءا من الأمة الإسلامية، وأكرر القول مرة أخرى، حتى لا يسوء الفهم، فأقول إن درجات الانتماء هذه شيء، و«أهمية» الإسلام للمسلم شيء آخر، ولماذا يكون انتمائي للعروبة سابقا على انتمائي للأمة الإسلامية؟ الجواب هو أن بيني وبين العرب نمطا ثقافيا كاملا بكل جوانبه، في حين أن ما بيني وبين سائر الأمة الإسلامية هو جانب واحد من تلك الجوانب المكونة للنمط الثقافي، ألا وهو جانب العقيدة الدينية.
وقد يكون الأمر بحاجة إلى مزيد من الشرح، لنتبين في وضوح ماذا نعني بالنمط الثقافي الكامل، الذي يحتم أن أكون - أنا المصري - جزءا لا يتجزأ من الوطن العربي، فأقول:
العروبة نمط ثقافي، من عاش حياته منخرطا فيه كان عربيا، بغض النظر عن عرقه، ومن أهم المقومات التي يتألف منها ذلك النمط الثقافي، اللغة والدين وفلسفة القيم الأخلاقية والجمالية، والأعراف والتقاليد، والدعائم الأساسية التي يقام عليها النظام الاجتماعي من الأسرة وما يضبط العلاقات بين أفرادها من قواعد، إلى المجتمع القومي من حيث هو بناء موحد، تسري في أنحائه ضروب من الروابط بين الأفراد، وهنالك في التاريخ العربي رجال، لم يكن انتماؤهم العرقي عربيا، إذا جعلنا العروبة مقيدة بحدود جغرافية معينة، هي شبه الجزيرة العربية، لكن أحدا منا لا يتردد في ضمهم إلى «العروبة» من زاوية الإطار الثقافي الذي قضوا فيه حياتهم ونشاطهم وفكرهم وعقائدهم، وإلا فمن الذي يريد منا أن يخرج من العروبة رجالا من أمثال البخاري والترمذي، وابن سينا، والغزالي، لكونهم ينتمون إلى فارس من الناحية العرقية؟ وليست العروبة بدعا وحدها في كونها قائمة على نمط ثقافي معين لا على انتماء عرقي، فها هي ذي الولايات المتحدة الأمريكية - مثلا - قد ضمت كل أجناس الأرض من ناحية العروق، لكنها قومية واحدة برغم ذلك التنوع، بسبب الوحدة الثقافية التي يحيون في إطارها، أو هم يحاولون جهدهم أن يحيوا في إطارها، لتتحقق لهم الروح القومية في أقوى صورها.
العروبة - إذن - نمط ثقافي، تجيء اللغة في مقدمة عناصره، ونحن إذا قلنا إن العرب يتكلمون اللغة العربية، فلسنا نعني أن اللغة العربية من حيث هي طريقة خاصة للتفكير واستثارة المشاعر، وقد يوجد من يدرس اللغة العربية من غير أبنائها، دراسة تجعله ملما بمعاني مفرداتها وطرائق تركيبها - كالمستشرق مثلا - فلا نعده منخرطا في «العروبة»؛ لأن اللغة في هذه الحالة قد درست من الظاهر، كما تدرس الرموز الرياضية في معادلات الجبر والحساب، لكنها تنغرس في دارسها على نحو يجعلها مدار فكره وشعوره.
قارن اللغة العربية باللغة الإنجليزية - مثلا - تجد بينهما ضروبا من الاختلاف يستحيل ألا تكون انعكاسا لاختلاف أبناء هذه عن أبناء تلك في طريقة التفكير ووجهات النظر واتجاهات الوجدان، خذ بعض الأمثلة، لماذا تقسم مفردات اللغة العربية أسرا أسرا، كل أسرة منها ترتد إلى «الثلاثي» الذي انبثقت منه (وهنالك قلة من أصول رباعية) بحيث يكفي العربي أن يلم بالثلاثي - مثل «ضرب» أو «كتب» - وأن يلم بطريقة استخراج الفروع التي تنبثق من ذلك الينبوع، ليكون على علم باستخراج المشتقات التي يريدها في المناسبات المختلفة، فما دام يحمل في جعبته الفعل «كتب»، أصبح يسيرا عليه أن يستخرج منه أفراد الأسرة جميعا كاتب، مكتوب ، كتابة، كتاب ... إلخ، وما كذلك اللغة الإنجليزية، فالإنجليزي إذا عرف الفعل الدال على «كتب» لم يستطع استخراج الاسم «كتاب» لأن هذا الاسم في لغته قائم بنفسه، وليس مشتقا من فعل «كتب»، ولذلك كان عليه أن يحفظه كما ورد، فهل من شك في أن تجميع المفردات اللغوية تحت رءوسها الثلاثية، انعكاس للروابط الأسرية أو القبلية، أو العشائرية في نظامنا الاجتماعي؟ فالمتكلم باللغة العربية من أبنائها يعيش لغته في نظامه الأسري، ويعيش نظامه الأسري في لغته، فإذا وجدت جماعة من الناس، اختلفت عروقها، لكنها التقت في لغة كهذه بكل دلالاتها، كانت تلك الجماعة منتسبة إلى قومية واحدة.
ولماذا اكتفت اللغة الإنجليزية في التقسيم الكمي بأن جعلت الأسماء إما «مفردا» وإما «جمعا» في حين جعلته اللغة العربية تقسيما ثلاثيا: المفرد، والمثنى، والجمع، لماذا أفرد العربي للمثنى خانة، ودمجه الإنجليزي في خانة الجمع؟ فالكتابان عند العربي «مثنى» وعند الإنجليزي «جمع»؟ هل يمكن لاختلاف كهذا ألا يعكس اختلافا بين الجماعتين في رؤية الأشياء؟ فبينما العربي يساير تقسيمه الثلاثي والأبعاد الثلاثية الكائنة في المجسمات كلها، وهي: الخط، والسطح، والكتلة، أو قل الطول، والعرض، والارتفاع، فاحتفظ بهذه الحقيقة الثلاثية، ليظهرها في لغته تفرقة بين ما هو مفرد، وما هو مثنى، وما هو جمع. والتقابل بين الأشياء وأبعادها، واللغة وأقسامها، تقابل له ما يبرره؛ لأن السطح ما هو إلا خطوط تجاورت، والحجم ما هو إلا سطوح تتابعت، أقول إنه بينما للعربي هذه الرؤية، فللإنجليزي رؤية أخرى.
ولماذا حرصت اللغة العربية على التفرقة الكاملة بين المذكر والمؤنث في كل لفتة من لفتاتها، على حين اكتفت اللغة الإنجليزية في تلك التفرقة بمواضع دون أخرى، ففي العربية إذا خاطبت رجلا بقولك «أنت» فتحت التاء، وإذا خاطبت امرأة كسرت التاء، أما في الإنجليزية فضمير المخاطب مشترك ومعظم الأسماء في اللغة الإنجليزية لا تفرقة فيها بين رجل وامرأة، فقولك «مدرس» و«كاتب» و«ممرض» وآلاف أخرى من هذا القبيل، وتنصرف إلى الرجل والمرأة على حد سواء، فإذا كنت تقرأ صحيفة أو كتابا، ووجدت جملة إنجليزية معناها «قال الطفل إن المدرس أعطاه كتابا»، لما عرفت أهو طفل أو طفلة، ولا عرفت أهو مدرس أو مدرسة، لأن الأسماء وحدها في اللغة الإنجليزية لا تفرق، لكننا نعرف أن اللغة العربية تتعقب تلك التفرقة بين المذكر والمؤنث في جميع أوضاعها، وفي المفرد والمثنى والجمع، فلكل من القسمين طريقته الخاصة التي تذكره بها اللغة العربية، فهل يمكن ألا يكون هذا صدى للتفرقة الحادة في حياة العربي بين الذكر والأنثى؟ وهكذا، وهكذا، تستطيع أن تجد عشرات الجوانب الرئيسية في البناء اللغوي، الدالة على حقائق معاشة في حياة الإنسان العملية أو الفكرية، مما يبرر لنا القول بأن جماعة الناس الذين يتكلمون اللغة العربية، هي جماعة تحيا بدماء ثقافية واحدة، ولها رؤية مشتركة ترى بها العالم وما فيه، ويترتب على هذه المشاركة أن تكون تلك الجماعة مكونة لقومية واحدة.
وما قلناه عن اللغة ودلالاتها، نقول مثله عن موقف الناس من فلسفة القيم أخلاقية وجمالية واجتماعية، فإذا وجدنا جماعة تتميز دون سائر الجماعات بوقفة خاصة بها في وجهة نظرها بالنسبة إلى مبعث القيم، كان لنا ما يبرر اعتبار تلك الجماعة مندرجة في نموذج بشري واحد، ولنحصر حديثنا الآن في القيم الأخلاقية من وجهة النظر العربية، فلا بد لنا بادئ ذي بدء من لفت الأنظار إلى حقيقة هامة، وهي أن الفوارق بين شعب وشعب في هذا المجال، ليس هو أن شعبا يجعل فعلا ما فضيلة من الفضائل، في حين يجعله الشعب الآخر رذيلة، كلا، فالإنسانية كلها تكاد تتفق على الرءوس الكبرى لما هو فضيلة وما هو رذيلة، ولعل «الوصايا العشر» هي خير ما يلخص لنا أهم ما يلتقي عنده شعوب الأرض جميعا، فيما يجب على الإنسان فعله أو عدم فعله في حياته الخلقية، فليس بين شعوب الأرض شعب يجيز القتل بغير ذنب، ويجيز السرقة، ويجيز الكذب والغدر والخيانة وعدم الوفاء بالعهد ... كل شعوب الأرض متفقة في هذا المجال، ولا يمنع هذا الاتفاق بينها أن يزل الأفراد هنا أو هناك فيخطئوا.
أقول إن موضع الاختلاف الأساسي بين الشعوب في المسألة الخلقية، ليس هو في يقين الفضائل الواجبة، والرذائل المنهي عنها، بل موضع الاختلاف بينها هو في «تعليل » ذلك الوجوب أو هذا النهي، نعم كلنا متفقون على ضرورة الوفاء بالعهد، ولكن لماذا كان الوفاء بالعهد واجبا خلقيا مفروضا على الإنسان؟ هنا نجد الإجابات عن هذا السؤال تختلف باختلاف الثقافات التي تتميز بها الشعوب بعضها عن بعض، والذي يبرز ضروب الاختلاف هذه، هم فلاسفة الأخلاق، فهؤلاء هم الذين يتعقبون الثقافات المختلفة إلى جذورها الأولى. فقد نجد بعد البحث أن الشعب الإنجليزي يرى أن الوفاء بالعهد فضيلة؛ لأن خبرة الإنسان الطويلة بالحياة قد دلت على أن وفاء الناس بعهودهم أضمن لقيام المجتمع وعلاقات أفراده بعضهم مع بعض على أساس مكين ثابت، لكنك إذا أجريت مثل هذا البحث على جماعة العرب، لترى وجهة نظرها في تعليل هذا الوجوب نفسه الذي يقضي على الناس بالوفاء بعهودهم، فربما وجدت أن التعليل عندها هو أن ذلك من فروض الدين، وهكذا ترى تعديلات مختلفة عند الشعوب المختلفة للظاهرة الخلقية الواحدة، ولست أريد أن أترك الحديث في هذه النقطة قبل أن أعيد التوكيد بأن اختلاف الشعوب في المسائل الأخلاقية، ليس هو أن هنالك شعوبا متمسكة بالأخلاق، وشعوبا أخرى متهاونة فيها، بل الاختلاف - كما قلت - هو في التعليل، وهو اختلاف قلما يطرأ للإنسان العادي في حياته اليومية، لكنه يظهر على يدي من دأبه تعقب الحقائق إلى أصولها الأولى.
فكما وجدنا المشاركة في لغة عربية واحدة، تتضمن أن يكون المشاركون ذوي رؤية واحدة في موقفهم من العالم ومن الحياة، مما يبرر أن يعدوا أمة واحدة، فكذلك نقول إن المشاركة في تعليل واحد للظاهرة الخلقية، مبرر آخر لاعتبار المشتركين أعضاء في جماعة واحدة، فإذا اجتمع المبرر الأول والمبرر الثاني معا في جماعة بعينها، ازدادت الفكرة قوة، بأن تلك الجماعة منتمية إلى قومية واحدة.
وليست اللغة العربية، ووجهة النظر الأخلاقية، هما وحدهما ما يربط أبناء الأمة العربية في حقيقة واحدة، بل تضاف إليهما عوامل أخرى كثيرة، منها طريقتهم في قياس درجات الكمال للأشياء، فما الذي يجعل حيوانا أكمل من حيوان، وشجرة أكمل من شجرة، وإنسانا أكمل من إنسان؟ إذا بحثنا عن الجواب عند الفكر العربي، وجدنا هناك مقابلة بين «الفكرة» و«الشيء» بمعنى أن الذهن البشري يتصور صورة معينة، أو تعريفا معينا، للشيء، ثم تقاس مفردات الكائنات من حيث درجات كمالها، إلى تلك التعريفات العقلية لها، ليحكم على درجة كمالها بدرجة اقترابها من النموذج النظري، تلك هي خلاصة الوقفة الأوروبية، أو قل الوقفة في الغرب، وأما في الأمية العربية، فالوقفة مختلفة؛ لأن العربي - أيا كان موقعه من الوطن العربي الكبير - لا يقيس الشيء المراد الحكم عليه إلى «فكرة» عقلية، بل يقيسه إلى شيء آخر من جنسه، فالجواد يقاس إلى جواد أمثل، وقصيدة الشعر تقاس إلى قصيدة أخرى، الإنسان إلى إنسان آخر اتفق الرأي على كماله، وهكذا.
ليست غايتنا مما أسلفناه، دفاعا عن وجهة لنظر وتجريحا لأخرى، بل أردنا ضرب الأمثلة التي توضح ما زعمناه، وهو أن العروبة إن هي إلا انتماء إلى نمط ثقافي معين، وكان علينا أن نوضح ما أردناه بهذه العبارة، ومصر في هذا النمط الثقافي الذي تتميز به العروبة، قد تميزت به، وامتازت فيه، إذا كانت أقدر من سواها على تمثل تلك الرؤية بكل تفصيلاتها، وعبرت عن ذلك بسلوكها وبما أبدعته من فكر وفن.
فلئن كانت الهوية المصرية أقدم وأرسخ وأوضح من أن تكون موضعا لسؤال، إلا أن هنالك أمورا تثير شيئا من القلق عند من يريد لنفسه التيقن والدقة، وهي أمور تنشأ من تحليل المفاهيم الثلاثة المقترنة وأعني المصرية، والعروبة، والإسلام، فالمصري المسلم الصادق مع نفسه، يريد أن يطمئن على أنه ليس فيما ورد عن فرعون وقومه في الكتاب الكريم، ما يستلزم انتقاصا لشعور المصري بالاعتزاز بأسلافه، ثم يريد المصري المخلص لنفسه كذلك، أن يطمئن بأن المصرية والعروبة لا يتناقضان، بل إن الأولى تحتم الثانية، وأخيرا يريد العربي أن يكون واضح الرؤية فيما يختص بانتسابه إلى العروبة والإسلام معا، ولهذا كله عرضت ما عرضته هذا، لأن القضية تستحق النظر.
نحو فكر أوضح
كنا في لجنة ثقافية، جماعة من المشتغلين بالفكر والفن والأدب، وحملتنا موجات هادئة من حوار كان ينتقل بنا من موضوع إلى موضوع، لنجد أنفسنا أمام سؤال مطروح وأحسسنا جميعا بأهميته وخطورته، فهو وإن يكن قد ألقى بنفسه أمامنا مدفوعا بتلك الموجات الهادئة في تيار الحوار، كما ترى قطعة من الخشب أو من الورق، عائمة تتأرجح مع حركة الموج؛ إلى أن تجد لنفسها مستقرا على رمال الشاطئ، إلا أنه - وأعني ذلك السؤال الذي جاء ليطرح نفسه أمامنا - لم يكد يعلن عن وجوده حتى أدركنا جميعا مدى أهميته وخطورته، ومع ذلك فلست أذكر أنه قد ظفر منا بأكثر من دقائق ملأناها بعبارات غامضة، ثم حان موعد انصراف اللجنة فانصرفنا إلى بيوتنا؛ ولعل السؤال قد أخذ يلح علينا بعد ذلك ونحن فرادى؛ لأن اللجنة لم تعد إلى طرحه أمامها مجتمعة.
فلقد حدث في ذلك الاجتماع أن ألقي على مائدة البحث بالكرة لتتقاذفها أيدي الحاضرين في رفق ولين، وكان الموضوع الذي حملته الكرة الملقاة هو العلاقة القائمة بين ميادين الفكر والفن والأدب في حياتنا الراهنة ما طبيعتها؟ وما نصيبها من القوة والضعف، أم تكون تلك العلاقة مبتورة معدومة؟ فنحن ننتج موسيقى وننتج شعرا وننتج أدبا روائيا ومسرحيا، وننتج فنونا تشكيلية وننتج فكرا، والسؤال هو: بأي الروابط والصلات تتوحد تلك الثمرات في كيان ثقافي واحد؟ وذلك أنه لا بد في الحياة الثقافية السليمة السوية لشعب من الشعوب في كل عصر معين من عصور تاريخه، أن تكون للحياة الثقافية وحدة عضوية تربط أطرافها، ولا تخدعنك الفوارق البعيدة الظاهرة بين تلك الأطراف؛ إذ قد تتساءل: وماذا عساه أن يربط بين الموسيقى والرواية؟ وبين الرواية والنحت والعمارة وبين هذا كله وبين لوحات المصورين وأفكار المفكرين في شتى المجالات؟ لا، لا تخدعنك تلك الفوارق التي هي في ظاهرها مختلفة بعضها عن بعض اختلافات بعيدة الآماد، وذلك لأن الشعب الواحد في العصر الواحد، يستحيل ألا تجيء حياته مستقطبة حول مشكلاته الكبرى ، وعندئذ نرى جوانب تلك الحياة وكأنها كواكب المجموعة الشمسية تختلف فيما بينها لكنها جميعا تدور حول الشمس بجاذبية واحدة، وإلا فهل يمكن لشعب يعاني من وطأة مستعمر خارجي أو من طغيان مستبد داخلي - مثلا - ولا يكون ذلك الهم المشترك ضاغطا على منشئ الموسيقى وعلى الشاعر والفنان والروائي والمسرحي ورجل الفكر؟ كل ما في الأمر من ضروب التباين بين هؤلاء جميعا هو اختلافهم في الوسائل وما تقتضيه تلك الوسائل من ضرورات التعبير، كل وسيلة منها في مجالها، وأما اللباب الكامن في عمق العمل الفني أو الأدبي أو العقلي فلا بد أن يكون متشابها أو متقاربا عند الجميع، ذلك - بالطبع - لو كانت حياة الشعب المعين في العصر المعين سليمة سوية وكانت المواهب عند أصحابها صادقة مع نفسها، مخلصة لوسائلها وأهدافها.
تلك - إذن - هي الكرة التي ألقى بها من ألقاها وأخذ الأعضاء المجتمعون ينظرون بلمحات سريعة إلى ضروب الإنتاج في مجالات الفن والأدب والفكر لعلهم يقعون بينها على وشيجة القربى التي تضمها جميعا في أسرة واحدة يدور أفرادها في أفلاك مختلفة بالطبع، لكنها مع ذلك تدور حول محور واحد فلما أن غامت الرؤية أمام أبصارهم وخيل إليهم أنهم في الحقيقة إنما ينظرون إلى مفردات لا تربطها صلة الرحم، قال منهم قائل: ولماذا لا يكون هذا التفكك الذي نراه بين المنوعات مما ينتجه رجال الفن والأدب والفكر في حياتنا أمرا طبيعيا يشير إلى حقيقة قائمة بالفعل، وهي أن مصر تجتاز الآن مرحلة البحث عن ذاتها الضائعة، ويوم أن تستردها يتحقق لنا من تلقاء نفسه ذلك الكيان الواحد الموحد الذي نلتمسه في أعمالنا اليوم فلا نراه.
وعند هذه الوقفة انفضت اللجنة وانصرف الأعضاء، ولست أدري إن كان الموضوع ما زال عالقا في وعيهم يناقشه ويحلله كل على انفراد، لكنني أعلم عن نفسي أنني منذ ذلك اليوم شغلت نفسي - آنا بعد آن - بمشكلة فرعية هي فكرة «الذات» بالنسبة للفرد الواحد وبالنسبة للأمة كلها ماذا تعني؟ إنه حتى ذروة الذروة من رجال الثقافة في حياتنا قد قذفوا بالفكرة قذفا وكأنهم وصلوا بها إلى حل يستريحون إليه حين قالوا عن مصر إنها تبحث اليوم عن «ذاتها»، فما هي في الحقيقة تلك «الذات» التي نبحث أو لا نبحث عنها؟ أم يا ترى يجمل بنا أن نلف الغموض فيما هو أغمض منه ثم نأوي إلى مخادعنا لنستريح؟ إن فكرة البحث عن ذواتنا هي بغير شك عالقة في مناخنا، وربما كان ذلك في ذاته دليلا على وجود نوع من القلق في صدورنا نتأزم به، وتضطرب له نفوسنا باحثة له عن حل يزيحه عنا، لكن كان ينبغي أن نتناول الفكرة - فكرة البحث عن الذات - بجدية واهتمام طالما هي كالسحابة المتجهمة في سمائنا ولا نكتفي بمجرد ذكرها ذكرا عابرا في حديث مذاع أو في مقال مكتوب.
ولست أدعي أن ما سوف أعرضه هنا من رأي ورؤية في شأن ذلك الركن الغائب في حياتنا الثقافية كلها، هو الصواب الذي لا يأتيه باطل، بل إنه مجرد رأي ومجرد رؤية نتجت عن مداومة التفكير فيما قد زعمناه لأنفسنا في اجتماع اللجنة التي أسلفت ذكرها من أن العلة في تفكك الأوصال في كياننا الثقافي اليوم إنما ترجع إلى أن مصر تجتاز مرحلة البحث عن ذاتها، فقبل أن تحكم على قول كهذا بالصواب أو بالخطأ يجب أن نقف عند كلمة «ذات» لنعلم ما قوامها؟ وإلا فكيف يتاح لنا الزعم بأن مصر تبحث أو لا تبحث عن «ذاتها» إذا لم نكن على علم كاف بطبيعة تلك «الذات» التي هي موضوع البحث؟
كانت الصورة التي وردت إلى خاطري واستعنت بها في الإجابة عن هذا السؤال هي أنني تصورت دائرة من حبات القمح، أي إن محيط الدائرة هو من تلك الحبات موضوعة في تجاور وقلت لنفسي إنه في حالة كهذه لو سئلنا: أين في هذا التكوين الدائري ما هو «ذات» وأين ما هو أعراض لحقت بتلك الذات دون أن تكون جوهرها؟ فإن الجواب عن سؤال كهذا يكون أن الشكل الدائري في هذه الحالة هو بمثابة «الذات»، أما كون محيط الدائرة حبات من القمح فهو حقيقة فرعية لأننا نستطيع أن نستبدل بحبات القمح حبات أخرى من أرز أو ذرة أو شعير، بل أن نستبدل بها خرزات أو صخرات أو أن نرسم مكانها محيطا بالطباشير أو ما شئنا فيبقى لنا «الكيان» قائما كما هو ولا يتغير منه إلا ملحقاته وحواشيه، كما يغير إنسان معين ثيابه ويظل هو هو الإنسان الذي كان قبل أن تتغير الثياب. وإذا كان ذلك كذلك خلصنا منه إلى نتيجة هامة وهي أن «ذات» الشيء هي «الإطار» أو «الشكل» أو «طريقة ترتيب العناصر» وليس المضمون الذي يجيء ليملأ ذلك الإطار ثم يذهب مع الزمن ليجيء مضمون آخر فيحل محله حشو لذلك الإطار.
ويحسن بنا قبل أن ننتقل بحديثنا من هذه النقطة إلى التي تليها أن نزيد ما قلناه وضوحا؛ إذ ربما يصدم القارئ أن يقال له إن «ذات» مصر التي نبحث عنها إنما هي مجرد صورة مفرغة من محتواها الحضاري والثقافي؛ فلنضرب أمثلة توضح ما نريده: إذا طلب منا أن نميز بين ما هو جوهري في المسرحية اليونانية القديمة ومسرحية شكسبير ومسرحية العصر الحاضر، فهل نجيب على ذلك بأن نعرض مضمونات مسرحيات سوفوكليز ويوربيد ثم مضمونات المسرحيات التي كتبها شكسبير ثم مضمونات عدد نختاره من مسرحيات عصرنا؟ أو أن نجيب بمثل قولنا إن البطل في المسرحية اليونانية ترسم الأقدار مصيره والبطل في مسرحية شكسبير يرسم مصيره تركيبه النفسي وطريقة سلوكه والبطل في المسرحية الحديثة ترسم الظروف المحيطة به مصيره؟ إننا إذا رأينا أن الإجابة إنما تكون بمثل هذه الخصائص في التكوين لا بسرد الحوادث الداخلية في مضمون المسرحيات ذاتها، كنا بمثابة من يقول إن المميز هو في «الإطار» لا في المضمون الذي يملؤه.
وإذا طلب منا أن نوضح الفرق في نظام الحكومة بين بريطانيا والولايات المتحدة فهل تكون الإجابة بأن نعين الأشخاص الذين يؤلفون الحكومة في كل من البلدين أو يكون بأن نشير إلى الفوارق في «الشكل»، كأن نقول: إن بريطانيا ملكية والولايات المتحدة الأمريكية جمهورية، ثم نأخذ في ذكر تفصيلات الشكل في الحكومة الملكية في الأولى وتفصيلات الشكل الجمهوري في الثانية؟ إننا إذا أجبنا على هذه الصورة الثانية كانت إجابتنا دالة على أن موضع السمة المميزة هو في الإطار لا في المضمون.
وإذا طلب منا أن نفرق بين الدولة الأموية من جهة والدولة العباسية من جهة أخرى، فقلنا إن أهم فارق بينهما هو أن الدولة الأموية جعلت مبدأها «العروبة» بمعنى أن يكون الحكم في أيدي عرب خلص، في حين جعلت الدولة العباسية مبدأها - ظاهريا على الأقل - هو الإسلام بمعنى أن يشرك في الحكومة مسلمون من غير العرب كالفرس وغيرهم. وإذا كان هذا الفارق أساسيا في التمييز بين الدولتين من حيث المبدأ كان المعول هو على «الشكل» أكثر منه على ما يملأ ذلك الشكل من أشخاص معينين أو من أحداث معينة.
وإذا طلب منا أن نفرق بين «التصوير» في الفن المعاصر والتصوير في الفن كما عرفته العصور السابقة، فقلنا إن المميز الأساسي هو أن الفنان المعاصر لا يلتزم بشيء بالنسبة إلى ما هو واقع في الطبيعة الخارجية، بينما الفنان في العصور السابقة برغم رؤيته الذاتية لما يصوره إلا أنه كان على درجة كبيرة من الالتزام بالأشكال كما هي في الواقع الخارجي. وإذا نحن أقمنا التفرقة على هذا الأساس كنا بمثابة من يعول على الإطار أكثر مما يعول على مضمونه؛ واختر لنفسك شخصين من أقربائك أو أصدقائك وحاول أن تلتمس الفوارق بين الشخصية في أحدهما والشخصية عند الآخر، تجد أنك قد انتهيت إلى اختلاف بينهما في الإطار أو في ترتيب الأولويات عند هذا وعند ذاك، كأن تقول - مثلا - إن أحدهما لا يهتم بكسب المال اهتمامه بالراحة والمتعة، بينما الآخر يهلك نفسه في سبيل كسب المال - مهما يصبه من عناء، وأنت في هذه الحالة تفرق بينهما على أساس الشكل لا على أساس الحوادث الجزئية الفعلية في حياة كل منهما.
وأظنه قد بات واضحا ما أردته حين قلت إننا إذ نبحث عن «الذات» المصرية فالذي نبحث عنه هو: كيف يكون ترتيب الأولويات بين مختلف القيم أكثر مما يكون القيم نفسها. لماذا؟ لأننا إذا عولنا على «القيم» في ذاتها فالأغلب أن تجد التشابه شديدا بين شعوب الأرض جميعا، وبهذا تضيع منا المعالم المميزة لشخصية هذا الشعب أو ذاك، فكل شعوب الأرض تعتز بعقائدها الدينية، وكل شعوب الأرض تلتزم الانتماء إلى الأسرة وإلى الوطن، وفضلا عن ذلك فإننا إذا أخذنا في اعتبارنا تاثير البيئة في أهلها وجدنا تشابها بين الشعوب التي تسكن بيئات متشابهة وبين الشعوب التي تؤدي عملا متشابها كالمزارع أينما كان والصانع أينما كان.
لكن الموقف يتغير إذا جعلنا البحث عن شخصية شعب معين منصبا على الإطار، كما قلت، لا على ما يملأ الإطار من تفصيلات الحياة الفعلية، بمعنى أن ننظر كيف يرتب الشعب الذي جعلناه موضع البحث، كيف يرتب أولوياته.
وهنا تبرز الفروق بين الشعوب واضحة، كما تبرز التطورات التي تطرأ على شخصية الشعب الواحد في مراحل تاريخه، والمثل الذي نسوقه لذلك هو مثل مصر في التغيرات التي طرأت على ملامحها في مرحلتها التاريخية الحاضرة، وهي نفسها التغيرات التي نعنيها حين نقول عن مصر إن رؤيتها لذاتها قد اكتنفها ضباب ولهذا فهي في حالة البحث عن ذاتها، ومن ثم فقد كثرت بيننا الأحاديث والمناقشات والدراسات حول ما أسميناه بإعادة بناء الإنسان المصري.
فما الذي حدث للمصري بحيث دارت حوله الأحاديث بيننا وكثرت المناقشات والدراسات وقلنا عنه إنه قد انبهمت أمامه معالم الطريق؟ الإجابة عندي بناء على التحليل الذي قدمته هي أن تغيرا حدث في ترتيب الأولويات بين مختلف القيم التي أقام عليها ولا يزال يقيم عليها المصري بنيان حياته، وأعني أن المصري لم يكفر اليوم بقيمة آمن بها بالأمس، بل القيم في نسيج حياته هي هي، وأما التغير الطارئ فهو في «الإطار» الذي رتبت فيه تلك القيم، فبعض القيم التي كانت لها المكانة العليا هبطت درجتها في سلم التقويم وبعضها التي كانت لها مكانة أقل من أخواتها ارتفعت منزلتها وصعدت في سلم التقويم.
فمن أهم الخصائص المميزة للذات المصرية - ولقد سبقت لي الكتابة عنها في مناسبات كثيرة - عمق الشعور الديني، وكان أن تبعه عند المصري اتساع النطاق الذي يتعامل فيه مع «الغيب» إما بالإيمان الرشيد أحيانا، وإما بتهاويم الخرافة أحيانا أخرى؛ ثم يجيء بعد ذلك في خصائص المصري قوة انتمائه الأسري وهو انتماء لا يقف معه عند حدود «الأسرة النواة» كما يصفها كثيرون من كتاب الغرب اليوم، بمعنى الوالدين والإخوة، بل يوسع المصري من حدود الأسرة التي يشتد به الانتماء إليها لتشمل كذلك أبناء العمومة والخئولة ومن يتصل بهم، ثم يتميز المصري بحبه لأرضه ليس فقط من حيث هي أرض يزرعها، بل من حيث هي كذلك أرض يتصل بها ولادة ونشأة وذوي قربى. ولقد تفرع عند المصري من عمق إيمانه الديني وقوة انتمائه لأرضه وأهله حب يشبه الحب الصوفي للعمل الذي يؤديه، زراعة كانت أو صناعة أو غير الزراعة والصناعة. وأعني بالحب الصوفي هنا حبا للشيء في ذاته ولذاته لا للأجر الذي يترتب عليه، اللهم إلا إذا أريد بالأجر أجر من الخالق جل وعلا يوم يكون الحساب؛ فلم يكن زارع الأرض في مصر يشقى وكل ما يملأ رأسه هو كسب الرزق آخر الأمر، بل كان يضاف إلى ذلك في نفسه شيء من «العشق» للأرض والفخر بها إذا كثرت خيراتها، ولا بد لنا ونحن نذكر خصائص المصري كما عرف بها من النظر إلى علاقته بالحاكم كيف كانت، فسواء استطاع المصري أو لم يستطع منذ انتهى به عهد الفراعنة حتى هذا القرن العشرين أن يترجم الحاكم الأجنبي ليصنع منه ابنا من أبناء مصر فهي حقيقة تاريخية تبقى قائمة، وهي أنه طوال تلك العصور تعاقبت على مصر حكومات لم يكن الحكام فيها من أصلاب مصرية خالصة، ولذلك كان من الطبيعي أن ينظر الشعب إلى حكامه أولئك مستخدمين العبارة الجميلة التي قالها في هذا الصدد سعد زغلول «نظرة الطير للصائد، لا نظرة الجند للقائد»، ومن ثم كان الشعور الغالب على المصري بإزاء حاكمه هو شعور الحذر المشوب بالخوف، ونتج عن ذلك الشعور انعدام المصارحة بين الطرفين ، فكل طرف منهما يحاور الآخر ويداوره ويراوغه ويمالئه، وإذا لزم الأمر وجاءت الفرصة غدر به.
تلك هي بعض السمات البارزة في «الذات» المصرية كما عرفت خلال تاريخها الذي تلا عهد الفراعنة، والذي حدث في عصرنا الحاضر وأسميناه انحرافا عن الذات المصرية الأصيلة ليس هو أن زالت تلك الخصائص أو زال بعضها وبقي بعضها الآخر، بل هو أن تغير ترتيب الأولويات بينها، فقلت أهمية ما كان له أهمية كبرى، وزادت أهمية ما لم يكن له في ترتيب الأهمية إلا قدر قليل، وإذا نحن وفقنا إلى تحليل صحيح لما قد حدث من ارتفاع وانخفاض في سلم القيم الذي عشنا على أساسه دهرا طويلا، كانت لنا بذلك صورة دقيقة للانحراف الذي وقع.
وفي هذا أقول على سبيل الاجتهاد الذي لا أضمن له الصواب: إن من القيم التي هبطت درجة أو درجات صفة حب المصري لأرضه، فقد زال جزء كبير من ذلك العشق الصوفي بين الزارع وأرضه، وهل كان يمكن فيما مضى أن يرضى صاحب أرض في مصر أن «تجرف» أرضه لتتحول تربتها إلى طوب للبناء؟ لقد كانت تلك التربة في إحساس المصري كأنها قطعة من جسده الحي. وهل كان يمكن كذلك لزارع أن يهمل أرضه؟ تلك كانت تعد من الغرائب التي يتندر بها الرواة إن حدثت، لكنها لم تكن تحدث لأن ما بين المصري وأرضه كان كالذي بين العاشق الصوفي وما يتعلق به.
وضعف إيمان المصري بالعمل الذي يؤديه، فبعد أن كان الشعور السائد أثناء العمل هو إشباع العامل ل «مزاجه الفني»، أصبح السائد شعورا بالملل. كان العامل أثناء أدائه لما يؤديه يحس بكبرياء السيادة على المادة التي يخضعها لصنعته، فأصبح العامل أثناء أدائه للعمل الذي يؤديه يحس بذلة من أكره على عمل يمقته. وأما صفة الانتماء الأسري فربما يكون ما أصابها هو شيء من ضيق مجالها حتى كادت أن تنحصر بصاحبها في حدود «الأسرة النواة». وفي مقابل القيم التي نزل قدرها على سلم الدرجات هنالك جوانب صعد قدرها واتسع مداها، منها ذلك الجانب الذي قلنا عنه إنه قد يتبع الشعور الديني وهو يتبعه بصورة سوية أحيانا وبصورة فيها انحراف أحيانا أخرى، وأعني به التعامل مع الغيب في شئون الحياة الجارية، وعندما يتخذ ذلك التعامل صورته المنحرفة يجيء مشوبا بالخرافة، فتعلل الأمور بغير أسبابها وتبث قوة فيما ليس بذي قوة، أو تنزع القوة مما هو قوي الفعل والأثر؛ ومثل هذه الوقفة الشعورية المنحرفة قد ارتفعت في حياتنا عدة درجات لتأخذ لها مكانا في الصدارة.
كذلك طرأ تحول في صلة الشعب بالحكومة، فلم تعد العلاقة بينهما علاقة الحذر المشوب بالخوف، وهي العلاقة التي كانت فيما مضى تنتج في الناس رياء ونفاقا ومراوغة، فقد زال كثير جدا من دواعي الحذر الخائف لا ليزول تبعا لذلك الرياء والنفاق والمراوغة تجاه الحكومة، بل بقيت هذه الصفات كلها مع تغير في هدفها؛ إذ أصبحت وسيلة ناجحة في كسب المنافع بعد أن كانت فيما مضى وسيلة لدرء الخطر.
وبهذه التغيرات في ترتيب القيم داخل إطارها طرأ على المصري ما طرأ من اختلاف. وهنا ينشأ سؤال جديد ذو أهمية بالغة ولم أسمع به مثارا في حلقات البحث بين طائفة المثقفين، وهو: أيكون علاجنا للتغير الذي طرأ على «الذات» المصرية هو بالضرورة «إعادة» لتلك الذات إلى ما كانت عليه من قبل؟ بعبارة أخرى: أهو حتم محتوم أن يبقى الفرد الواحد أو الأمة الواحدة على «الذات» بعينها وبعناصرها ومقوماتها مهما اختلفت الظروف فذهبت عن الناس حال وجاءت إليهم حال جديدة؟ ألا يجوز أن نرى عند النظر الفاحص أن المصري إذ هو بحاجة يقينا إلى أن تبث فيه روح غير الروح التي تسوده الآن، والتي لخصها لي أحسن تلخيص الأستاذ الدكتور أنور عبد الملك ونحن نسمر بالحديث معا ذات يوم، إذ قال: إن مجمل ما طرأ على المصري من تغير هو أنه بعد أن كانت تحركه عوامل من داخل بلده، أصبحت تحركه عوامل تمسك بخيوطها قوى من خارج بلده. أقول إن المصري اليوم إذ هو بحاجة إلى روح جديدة تبث فيه، فلا أظنها ضرورة محتومة أن يجيء ذلك عن طريق العودة به إلى ما قد كان لأن بعض ما قد كان ربما لم يعد صالحا للحياة الجديدة التي نبتغيها.
مفتاح الشخصية المصرية
كثيرا ما ألمح الفكرة بسرعة اللمح بالبصر، ألمحها وكأنها لمعة من الضوء، ثم أمعن النظر في تلك الفكرة التي كنت لمحتها بتلك السرعة الخاطفة، أمعن فيها النظر لأستوثق من صدقها، ومن عناصرها وأبعادها، وإذا بها تفلت من قبضتي كلما ازددت فيها إمعانا، فذلك الوضوح الناصع الذي رأيته فيها عند اللمحة الأولى، يغشاه غموض الضباب شيئا فشيئا، بنسبة مطردة مع إمعان النظر، فقد يكون هنالك من الحقائق ما خلق للبداهة وحدها، تدركه بلمعة من البصيرة، حتى إذا ما أردت بعد ذلك تحليله وتوضيحه وتعليله، راوغك واختفى، فأمثال تلك الحقائق ترفع عن وجهها الحجاب لمن أراد رؤيتها بوجدان قلبه، لكنها تتمرد وتعصي وتحتجب لمن يصر على تشريحها لتوضيحها، فكأنما هي الرقائق التي توضع على القنوات لعبورها، فهي تسمح بالمرور لمن يخفف عليها وطء قدميه، ويسير عليها وكأنه ريشة طائرة في الهواء، وأما إذا ما دب عليها عابر بثقله الثقيل كله، انكسرت، فلا هو أتم عبوره، ولا هي احتفظت بوجودها وكيانها.
فلقد سألني سائل منذ عدة أشهر هل تستطيع أن تحدد لي مفتاحا للشخصية المصرية؟ فما كدت أقرأ السؤال في خطاب السائل، حتى لمع الجواب في ذهني بسرعة الضوء، وهمست به لنفسي قائلا: المصري صانع مؤمن بالغيب، أو قل إنه صانع عابد. ثم أكملت قراءة الرسالة التي بها ذلك السؤال، ونويت أن أجيب على السؤال ذات يوم، ولست أدعي بأنني خلال الشهور الأربعة أو الخمسة التي انقضت، كنت لا أنقطع عن التفكير في الإجابة، بل هي لحظات كانت تطفو بالفكرة على السطح، ثم تذهب اللحظة وتختفي الفكرة في زحمة الحياة، لكنني مع تلك الوقفات المتقطعة كنت أحاول تركيز النظر على الإجابة الأولى، التي كانت قد لمعت في ذهني فور قراءتي للسؤال، وهي أن مفتاح شخصية المصري، هو أن المصري صانع عابد، فكنت كلما أمعنت في تركيز النظر في تلك الإجابة، أرى فكرتها تفقد نصوعها الأول، عندما أدركتها بالبديهة الفطرية إدراكا مباشرا.
وأردت هذا الصباح ألا أترك الأمر للخواطر الخاطفة في اللحظات العابرة، فألقيت السؤال على نفسي من جديد، وكأنه ورد إلي في بريد الأمس، وإذا بالجواب ذاته تعيده بديهتي: المصري في صميمه هو صانع عابد، لكنني هذه المرة ألححت على الفكرة بالنظرة والتحليل، فماذا تريد بقولك هذا عن شخصية المصري؟ وكانت الخطوة القصيرة الأولى على طريق التحليل هي أن أستخرج ما هو مكنون في وصف للمصري بأنه «صانع» ووصفي له بأنه «عابد»، فالصفتان مختلفتان إحداهما عن الأخرى، اختلاف رجلين يتجه أحدهما نحو الشمال، ويتجه الآخر نحو الجنوب، وذلك لأن الصانع هو بحكم الضرورة يتعامل مع «الأشياء»، إذ ماذا هو صانع بصناعته إذا لم يكن بين يديه «شيء» يصب عليه الفعل؟ كالأرض يزرعها، وقطعة الحديد يطرقها ويشكلها مفتاحا للباب، أو رمحا للقتال، والحجر ينحته ويسويه ليقيم به بناء داره أو معبده، فلكي يكون الصانع صانعا، لا مندوحة له عن الاتصال الحسي بشيء مادي يجعل منه موضوعا لصناعته.
ولا كذلك «العابد» لأن جوهر العبادة - كالصلاة مثلا - هو تركيز الذهن في باطن النفس؛ تركيزه في الحضرة الإلهية التي للعابد أن يستغرق انتباهه كله فيها، فبينما «الصانع» ينظر إلى خارج نفسه، ينظر العابد إلى دخيلة نفسه، وبعبارة أخرى نتناول بها المعنى نفسه من زاوية ثانية، نقول إن الصانع يمارس صناعته في عالم الشهادة، وأما العابد فيتأمل في عبادته عالم الغيب، والإنسان في حالته الأولى - حالة كونه صانعا - يستخدم حواسه من بصر وسمع ولمس وغير ذلك، كما يستخدم أجزاء بدنه كالذراعين والرجلين، بينما هو في حالته الثانية - حالة كونه عابدا - يستحب منه أن يطمس على حواسه ما استطاع حتى لا ينشغل بالأشياء المرئية بالعين والأصوات المسموعة بالأذن، كما يستحب منه كذلك ألا يحرك من بدنه إلا الحد الأدنى الذي تتطلبه ضرورة الأداء، ولم يكن مصادفة أن يراعى في أماكن العبادة خفوت الضوء والهمس بالصوت، والمشي على أطراف الأصابع من القدمين (ونحن هنا لا نتفق مع من حرموا الذوق المرهف، فأخذوا يضيئون المساجد بمصابيح «النيون» بدلا من إضاءتها بالشموع الحالمة).
فإذا قلنا عن المصري إن مفتاح شخصيته هو أنه «صانع عابد» كنا بمثابة من يقول عنه «بلغة التحليل النفسي الحديث» إنه منبسط الشخصية ومنطويها في حياة واحدة، وفي اتزان يعادل بين الكفتين، فمن حيث هو صانع يتعامل مع الأشياء، لا بد بالضرورة أن يكون من الطراز البشري المنبسط الذي يخرج عن حدود ذاته، ليصل إلى الأشياء التي هي موضوع صناعته، ومن حيث هو مؤمن بالغيب، متعبد لله، لا بد له بالضرورة كذلك، أن ينسحب من دنيا الأشياء وصناعاتها، إلى حيث تقوم الصلة بينه وبين ربه؛ والتاريخ المصري الطويل، يمكن تلخيصه في كلمتين: عبادة وصناعة، وفي كثير جدا من الأحيان، كانت الصناعة من أجل العبادة. فبناء المعابد مثلا وما يلحق بها من صناعات وفنون إنما هي صناعة من أجل العبادة، ولما كانت مصر، من ناحية الأديان، قد مارست عبادتها في العهد الفرعوني، وفي العصر المسيحي، وفي عصرها الإسلامي، فقد اختلفت فيها صورة الشعائر الدينية من مرحلة إلى مرحلة، لكن الذي بقي معها عميقا وراسخا، منذ أول تاريخها إلى اليوم، هو الإيمان الديني بجوهر معناه، وأعني الإيمان بالله والغيب واليوم الآخر، وفي خدمة ذلك الإيمان قامت صناعات وفنون. على أن الذي أعنيه بصفة خاصة من التقاء الصناعة بالعبادة في شخصية المصري، هو مجموعة الصفات الخلقية التي تسري من عقيدته الدينية لتتحكم فيه وهو صانع. إننا لم نخطئ كثيرا في دعوتنا الأخيرة إلى وجوب العمل على «إعادة» المصري إلى مصريته التي غاب عنها اليوم شيء من جوهرها الأصيل، لا، لم نخطئ كثيرا في تلك الدعوة؛ لأن مصر اليوم بما قد أصابها من شروخ في جدرانها، لم تعد مصر التي كانت، كلا، ولا هي مصر التي نرجو لها أن تكون بعد حين، مصر اليوم هي مصر بين مصرين: إحداهما كانت وكانت أمجادها وأخلاقها، ومصر التي سوف تكون بإذن الله، بأمجادها وأخلاقها، وأما مرحلتها الراهنة ، فهي تشارك فيها الزعزعة الانتقالية التي تسود العالم كله في انتقاله من حضارة ذهبت، وأسدلت عليها الستار حربان عالميتان «1914-1918م» و«1939-1945م»، وفي مصر التي كانت، كان المصري وهو في دنيا الصناعة - أعني دنيا العمل بشتى صوره - يتخلق بالصفات التي تمليها عليه عبادته لربه، وليس هو من القليل النادر، حتى في يومنا هذا بكل ما أصابنا فيه، أن تسمع المصري يقول للمصري إنه إنما يتعامل مع ربه أولا، قبل أن يتعامل مع المصري المخلوق، وربما يكون هذا القول على لسان المصري اليوم مجرد ألفاظ أفرغت من معانيها، لكنها كانت مليئة بمعانيها عندما كان المصري فيما مضى يقولها لمواطنيه وغير مواطنيه، إنه حقا وصدقا كان يتعامل مع ربه بما يرضي ربه عنه، وبهذه الصلة الوثيقة بين العمل والعبادة كان المصري يحيا حياته.
لقد شهدت طرفا من ذلك العهد الذي انقضى، والذي كان فيه العمل والعبادة في حياة المصري يرتبطان بعروة وثقى، فكان المصري العامل - أيا ما كان نوع العمل - يجيد العمل لوجه الله، وليكن ما يكون بعد ذلك مقدار أجره، وكلنا يعرف تلك العلاقة الصوفية بين الفلاح وأرضه، إنه «يحب» أرضه كما يحب والديه وإخوته وأبناءه، إنه حين يحاول بجهده كله وفنه كله أن يهيئ لأرضه أن تنتج كذا إردبا من القمح، أو كذا قنطارا من القطن، فالروح التي تسري في كيانه عندئذ، ليست روح من «يبتز» من خصمه أكبر كسب مستطاع، بل هي روح الوالد الذي تزداد فرحته بنجاح ولده في الدراسة بدرجات التفوق.
خرجت من مسكني ذات يوم منذ سنين، ففوجئت برجل يقف على بعد خطوتين من بابي، متكئا بمرفقيه على حاجز السلم، ومتجها ببصره نحو الباب، فسألته ما الخبر؟ قال: إنني أنا الذي دهنت هذا الباب بطلائه، وكأنني أنظر نحو صناعتي نظرة عاشق لمن يحب، مثل هذه العلاقة الروحية بين الصانع وصناعته كانت مألوفة في الصانع المصري (ومرة أخرى أقول إنني قصدت ب «الصانع» كل عامل أيا ما كانت صورة عمله) كان العامل يتقن العمل لذات الإتقان، كثر أجره أو قل؛ وذلك لأن الإتقان من واجبات الدين، إنني أعلم عن بعض الكتب القديمة التي قامت بطبعها مطبعة بولاق منذ أكثر من مائة وخمسين عاما، أعلم عنها خلوها من الأخطاء المطبعية خلوا يكاد يكون تاما، فلما أن أعيد طباعة بعضها في أيامنا الراهنة هذه، جاء فيها من الأخطاء المطبعية ما استوجب أن يلحق بها ملحق بقوائم التصحيح، ولا تسلني كم كان يتقاضى مصحح التجارب الذي لم يخطئ في عمله. منذ ما يزيد على مائة وخمسين عاما، لا، لا تسلني هذا السؤال، لأن الذي أعلمه عنه هو أنه كان «مصريا» ومعنى المصرية هو أن يعمل وأن يتقن العمل، بغض النظر عن العائد؛ لأنه مصري مؤمن بالله، والإتقان لذات الإتقان هو جزء من العبادة.
المصري صانع عابد، وعبادته تسري في صناعته - ذلك وهو في حالته السوية - وبالصناعة ترتبط الأواصر بينه وبين دنياه، وبالعبادة تقوم الصلة بينه وبين السماء، إنه أقدم إنسان على وجه الأرض أدرك أن يوم الحساب آت، ولقد رسم على جدران مقابره «ميزان» يوم القيامة، ومن وعيه هذا بالرابطة بين العمل في هذه الدنيا، وبين التبعات التي تترتب عليه أمام الله، ارتبط العمل عنده بأخلاقياته، إن المصري وهو على سجيته وفطرته، يخجله أن تعطيه أجر عمله بطريقة مكشوفة، ولذلك ترى المعطي يضع الأجر في غلاف أو يضمه في قبضة يده ليخفيه، وترى المتلقي يأخذ ما يأخذه مسرعا به إلى حيث يخفيه، مرجئا عملية العد والمراجعة إلى مكان يتوارى فيه، والسر وراء ذلك كله هو أن أخلاقيات العمل في ضمير المصري هي أن يكون العمل لذاته، وإتقان العمل من فروض الدين، وأن الأجر الحقيقي هو عند الله، ولا دخل للجنيهات والقروش في هذا كله، وليس حديثي هذا عن مصر كما نحياها اليوم، والتي هي - كما قلت - مصر بين مصرين، مصر كانت، ومصر سوف تكون بعون الله.
إن من رجال الفكر من يفرق في الناس بين نوعين: فنوع منهما يكون ذا عقل صلب، ونوع آخر في عقله لين، بمعنى أن أصحاب العقل الصلب هم أولئك الذين يتقيدون بالواقع كما هو واقع، بكل خشونته وغلظته وقسوته وصرامته، ومن هؤلاء يكون أصحاب المزاج العلمي، لأن العلم يأخذ الواقع على علاته - كما نقول - فلا هو يحط من شأنه، قائلا عنه إنه «مادة» ملعونة خسيسة، ولا هو يزخرفه ويزينه من أوهام الخيال؛ وأما أصحاب العقل «اللين»، فهم أولئك الذين يرفضون الواقع كما يقع، ولذلك تراهم - مثلا - يجعلونه غير جدير بالعناية كلها؛ إذ هو في حقيقته ليس أكثر من جسر نعبره لنصل به إلى الشاطئ الآخر، أو هو مجرد مجموعة من رموز وعلينا أن نقرأ تلك الرموز على هوانا نحن، لا على هواه، وإلى هذا الفريق ينتمي المتصوفة والشعراء، على أن هذين الضربين من «العقل»: ما هو «صلب» منها وما هو «لين» لا ينفصلان أحدهما عن الآخر انفصالا تاما، بمعنى أن يكون هنالك فريق من الناس لا يملك إلا «صلابة» العقل، وفريق آخر لا يملك إلا ليونة العقل، بل الصفتان تجتمعان في كل فرد من الناس، بنسب متفاوتة، فلكل إنسان لحظاته الواقعية بكل ما في الواقعية من صلابة وعناد، ولحظاته العاطفية، بكل ما في العاطفة من تلوينات وتحسينات أو تعديلات للواقع، حتى يكون في صورة جديرة بأن تعاش، والأمر بعد ذلك هو أمر «نسبة» فأصحاب العقول الصلبة «العلمية» هم من ترجح عندهم كفة الواقعية، وأصحاب العقول اللينة هم كذلك من ترجح عندهم كفة الرؤية العاطفية.
وإذ نقول عن المصري إنه صانع عابد، فإنما نريد بذلك أنه - في مراحله التي يكون فيها مصريا سويا غير منحرف عن تاريخه - ذو وقفة تتوازن فيها الصلابة واللين عند النظر إلى الواقع، فآنا هو «الصانع» الذي لا بد أن يعالج الأشياء على واقعيتها، فللأرض عند الزراعة طبيعتها، وللنحاس عند سبكه طبيعته، وهكذا، وآنا آخر هو المتدين العابد، الذي يستقبل الدنيا بقلبه وعاطفته، لا بلسمة أصابعه.
المصري صانع عابد، يتعامل مع هذه الدنيا وكائناتها بحواسه وجوارحه، ويتعامل مع الغيب بقلبه وإيمانه، هو واقعي في الحالة الأولى، صوفي في الحالة الثانية، هو مادي في أحد جانبيه، روحاني في الجانب الآخر، ولقد ساعده على الجمع بين الجانبين في شخصية واحدة متكاملة أنه نموذج بشري فريد، يجمع في صيغة حضارية واحدة خصائص فلاحة الأرض، وبداوة الصحراء، ومجتمع المدينة، ولذلك جاءت تركيبة القيم الأخلاقية والجمالية في حياته، أبعد ما تكون عن بساطة التكوين، فلو كان زارعا للأرض وكفى لكانت له خصائص الريف وحدها، ولو كان يحيا حياة البدو وحدها لكانت له خصائص أهل الصحراء بلا شريك، ولو كان ساكن مدينة فقط لكانت له في حياته قيم الحضر، ولكنه تلك الجوانب مجتمعة، وهي جوانب يمكن اختصارها في اثنين؛ لأن الفلاحة والبداوة معا تلتقيان في الرؤية الرومانسية في بساطتها وعاطفيتها، وأما حياة الحضر في المدينة فتغلب عليها النظرة الكلاسيكية بعقلانيتها وترفها، والمصري صوفي عابد بالجانب الريفي البدوي من تكوينه، وهو عامل صانع فنان بناء، بالجانب المدني من ذلك التكوين. وإذا استعرضت معظم شعوب الأرض، لما رأيت بينها هذا الطراز الذي يضم بين جنبيه في آن واحد، التعامل مع الغيب وكأن الغيب هو وجوده كله، ثم يتعامل مع أشياء الدنيا وكأنه ليس في وجوده إلا الدنيا وأشياؤها، فشعوب الغرب بصفة عامة، يلهيها عالم الشهادة عن عالم الغيب، وفي شعوب الصحراء والسهول والمراعي والجبال، ترجح عندها نظرة الشاعر على نظرة الصانع، وقليلة هي الشعوب التي تميزت - بحكم تكوينها الحضاري نفسه - برومانسية الريف وكلاسيكية الحضر؛ إنه ليصعب علينا أن نباعد بين العناصر المكونة للرؤية المصرية، بحيث نتصور المصري متميزا بعنصر منها فقط دون سائر العناصر، فالفلاح وهو على أرضه يحرثها ويبذر لها البذور، ويرعاها ويرتقب حصادها، يتصف بكل ما يتصف به الريفي من صفاء وصبر وأمل، حتى إذا ما أمسى عليه المساء، وجدته في القرية مستمعا إلى حكايات عنترة وأبي زيد الهلالي، التي هي حكايات تصور المثل العليا في حياة البداوة، وهو بين هذه وتلك يطوي بين جوانحه نظرة المتحضر في انخراطه مع سائر مواطنيه، تحت حكومة مركزية موحدة، تظل بأجنحتها شعبا موحدا، له صناعته وعمارته وسياسته وحروبه.
وأين تجد ذلك المصري الذي هو صانع وعابد معا؟ إنك تراه فيما صنعت يداه، تراه في كل مسلة قدت من الصخر العتي بإزميل قوي عبقري جبار، وارتفعت برأسها نحو السماء وكأنها كلمة دعاء في صلاة، إنك تراه في إخناتون يشهد أن الله واحد وراء كثرة الظواهر على الأرض وفي السماء، إنك تراه في راهب الدير يزرع ويعبد الله في حياة واحدة، إنك تراه في المساجد ومآذنها، التي لا تدري وأنت تشخص ببصرك إليها في روعة بنائها، أهي صلاة تجسدت في عمارة، أم هي عمارة ذابت في صلاة، إنك تراه في ذلك الشيخ الذي قرأت عنه، من شيوخ القاهرة منذ ثلاثة قرون، كان يؤذن للصلاة في مسجد ببولاق، ويقرأ القرآن بصوته الخاشع الجميل، ويؤم المصلين، ويقضي بعض نهاره وليله في العبادة، وبعضها الآخر في خدمة العاجزين من أهل الحي، وخصوصا المكفوفين منهم، يحمل عنهم العجين إلى المخبز، ثم يعود إليهم بالخبز، ويشتري لهم حوائجهم من السوق، إنك ترى ذلك المصري الصانع العابد في كل فلاح، في كل نجار وحداد وبناء، إنك تراه في نفسك أنت إذا استبطنتها وعرفت حقيقتها، لكن إذا تلفت حولك اليوم فلم تجده، فلا تقل إن المصري ليس كما وصفت، بل قل إننا لا بد أن نكون اليوم في مصر المؤقتة التي جاءت حلقة وصل بين مصرين: مصر التي كانت، ومصر التي سوف تكون بإذن الله.
ولقد تعلم المصري من تركيبة كيانه بجانبيها الصانع والعابد، تعلم منها الشيء الكثير، وحسبي أن يكون قد تعلم الدأب والصبر ورهافة الحس وروح السخرية ممن يتعلقون بالعابر الزائل؛ لأن المصري بأعمق أعماقه متعلق بالخلود.
لرسول الله - عليه الصلاة والسلام - حديث شريف، خلاصة معناه أن الناس أربعة أصناف في موقفهم من الغضب وسرعة إثارته وسرعة زواله، فهنالك نوع سريع الغضب سريع الفيء (أي زوال الغضب)، ونوع ثان سريع الغضب بطيء الفيء، ونوع ثالث بطيء الغضب سريع الفيء، ونوع رابع بطيء الغضب بطيء الفيء، وخير هؤلاء جميعا هو النوع الثالث، الذي هو بطيء الغضب سريع الفيء. انتهى معنى الحديث الشريف. ولقد نظرت إلى المصري على ضوء هذا التقييم، فوجدت أنه قد تعلم من حياته الصانعة المبدعة العابدة الطامحة إلى الخلود، تعلم من هذا كله أن يملك زمام نفسه فيبطئ في الغضب، ثم تدفعه روح التسامح أن يسرع في الخروج من ثورة غضبه، فهو - إذن - إنما يندرج في الفئة التي قال عنها رسول الله إنهم من خيرة البشر.
صفحة غير معروفة