وعلى ضوء هذا الذي ذكرناه عن قصيدة الشعر الجيدة الصادقة، نقول كذلك عن المجتمع السوي القوي النابض بالحياة، كما نتمنى لمصر اليوم أن تكون، وكما كانت في عصور عزها ومجدها، فأولا نريد لمجموعة المواطنين أن يكون بينهم من الروابط والصلات، ما يجعل منهم جميعا وحدة حيوية واحدة، وكأنهم أجزاء من شجرة واحدة، تختلف أجزاؤها بعضها عن بعض، لكن ليس لجزء منها غنى عن سائر الأجزاء، فليست جذور الشجرة هي أوراق وفروعها، ولكن لا حياة لتلك الأوراق والفروع لو لم تكن هنالك الجذور التي تمدها بالبقاء وبالحياة، وثانيا لا بد أن تكون صلة المواطن بالمواطن الآخر كصلة الشاعر بموضوعاته، أي أن ينظر إليه على أنه «إنسان» وليس أداة صماء يستغلها لقضاء مصالحه، وثالثا يجب أن يكون المواطن صادقا في التعبير عما يشعر به إزاء الآخرين كصدق الشاعر الجيد، حين يقر وجود موضوعه كما هو على حقيقته، ثم يضفي عليه مشاعر من عنده كما يحسها، ولو توافرت لنا هذه الخصلة، لضمنا ألا ينافق بعضنا بعضا في العلانية، ثم نتستر وراء جدراننا لنصب على الآخرين سيلا من اللعنات.
قلنا إن المصري في مرحلته الحاضرة قد شطر نفسه شطرين: فرد جيد في ناحية، ومواطن سيئ في ناحية أخرى، وقصدنا بالسوء تلك الصفات نفسها التي تجعل من الشاعر إزاء موضوعاته شاعرا رديئا، ينظر إليها على غير حقيقتها أولا، ثم يكذب في التعبير عن مشاعره نحوها، وذلك تماما هو بعض ما أصابنا إذ ننظر إلى من بأيديهم السلطان والجاه والمال على غير حقائقهم أولا، ثم نكذب في التعبير عن مشاعرنا نحوهم، ولا نقول عنهم الحق كما نراه، إلا ونحن بمعزل عنهم نتبادل الأحاديث مع ذوينا وخلصائنا.
ولو اقتصر هذا الانقسام الخطير في شخصية المصري وهو يجتاز المرحلة الراهنة من تاريخه على ميدان السياسة، لقلنا إنه راسب من رواسب ذلك التاريخ، حين كان المصري ينطوي على حياته الخاصة التماسا للأمان؛ إذ كان على يقين بأن رأيه في الشئون العامة، لا يعود عليه إلا بالوبال إذا هو أغضب السلطان، لكن ذلك الانقسام الخطير الذي أشرنا إليه، قد يكون له أصداء قوية الرنين في شتى المجالات الحيوية، كالتعليم والاقتصاد، بل والحياة الدينية نفسها، بمعنى أن يحتفظ الفرد برأيه الحقيقي، لا يفصح عنه إلا في مجالسه الخاصة - ذلك إن فعل - وأما في دنيا العلانية فهو إما يمسك لسانه ويزم شفتيه (وذلك أهون الشرور) وإما ينطق بما يعلم أنه كذب اكتسابا للقبول والرضا، فكانت النتيجة أن بسط ذلك الانقسام جناحيه العريضين على رقعة فسيحة من حياتنا، ففي دنيا العلم - مثلا - هنالك زاوية منفرجة في شخص المتعلم، بين ما نقول عنه إنه تعلمه، وبين ما نعرفه أن يعلمه حقا، وهنالك زاوية أشد انفراجا في حياتنا الاقتصادية والعملية، بين ما نقول إننا قد أنجزناه، وبين ما نعرف أنه حقا قد تم إنجازه، وهكذا إذا أنت تعقبت أوجه حياتنا من زواياها المختلفة، صدمتك تلك الزاوية التي هي منفرجة في أكثر حالاتها، بين ما نقول عنه إنه حقيقة واقعة، وما نعرف حقا عنه أنه بالفعل لم يقع، وفي التحليل الأخير لجميع تلك الحالات ستجد المصري الفرد لا يزال على أصالته الرصينة في حياته الخاصة، وأما في الحياة العامة، فليس هو ذلك المواطن الذي ينظر إلى الوطن نظرته إلى بيته، وينظر إلى سائر المواطنين نظرته إلى أبنائه وإخوته، هو في الحالة الخاصة مليء بمضمونه الإنساني، وهو في الحالة العامة خاو أجوف وكأنه مع مجموعته أعجاز نخل خاوية.
وإذا كنت في هذا التحليل قد وقعت على الصواب، كان الطريق إلى العلاج مفتوحا أمامنا، ومن أهم مداخل ذلك الطريق تهيئة الفرص الكثيرة التي تجمع مجموعات من المواطنين في عمل واحد مشترك، فذلك من أقوى الوسائل التي تذكر الفرد بأنه - إلى جانب فرديته - مواطن لآخرين، وهي فكرة كان الفقيه النافذ البصيرة «ابن تيمية» قد تنبه لها، مما جعله يؤكد أن «الأمة» الواحدة إنما تصير كذلك بالمشاركة بين أبنائها في فعل واحد، وكان حديث ابن تيمية هذا في سياق كلامه عن «الأمة الإسلامية» وما يمكن أن يوثق الروابط بين أفرادها.
ولفت نظري خبر عابر قرأته منذ قريب، وهو أن تمثال الحرية المقام عند مدخل نيويورك قد أصابه تلف، استدعى أن يعلن عن البدء في إصلاحه، وبالتالي عن منع زيارة الزائرين له، وكانوا يعدون كل يوم بعشرات الألوف، يصعدونه بسلم داخلي من قدميه إلى تجويف الرأس، والمهم هنا هو أنه تقرر أن ينفق على إصلاحه من تبرعات «الأطفال» الذين هم دون سن العاشرة أو نحو ذلك، وكان يمكن للدولة أن تدفع من مالها، لكن أولي الأمر يتصيدون كل مناسبة سانحة، فيتيحون الفرصة أمام مجموعات من أبنائها للمشاركة في فعل واحد؛ لأن ذلك هو الطريق إلى تماسك أفراد الشعب في كتلة متجانسة متعاونة، وقد نقول: إن أمريكا حديثة العهد، ومواطنوها جاءوا إليها من أركان الأرض جميعا، فهم بحاجة إلى مشروعات كهذه تقوي بينهم الروابط، وأما نحن فما عذرنا؟ والجواب هو أننا - لأمر ما - قد أصابتنا العلة التي لا بد أن تكون مؤقتة وعابرة، ولكن ما ضرنا لو استطعنا أن نسرع بأعجاز النخل الخاوية إلى العودة لتمتلئ باللباب والثمر؟
هنالك آخرون!
اختلط في مكتبتي الفقيرة قمحها بشعيرها، ولم أعد أدري أين أمد أصابعي لأتحسس بها كتابا أريده أو ورقة أبحث عنها، وما أكثر ما تكون الأصابع أيقن إدراكا من العين، فالعينان - حتى وهما سليمتان - قد تخدعان الرائي فتوهمانه بوجود شيء ليس له وجود ، وأما الأصابع فإذا أنبأت صاحبها بأنها لمست شيئا، فلا بد أن يكون ثمة شيء يلمس، انظر إلى «مكبث» (في مسرحية شكسبير) حين أخذه الفزع بعد أن قتل الملك، ليجلس هو على العرش مكانه، فأوهمه فزعه أنه يرى في الهواء خنجره الذي اغتال به ضحيته، فازداد فزعا على فزع، ونظر إلى يديه وهو يمدهما نحن شبح الخنجر في الهواء، وقال مخاطبا أصابعه ما معناه: في وسعك أنت أيتها الأصابع أن تقطعي الشك باليقين، فعيناي تريان شبحا لخنجري الملعون معلقا في الهواء، ليذكرني بجريمتي المنكرة، فتحسسي أنت يا أصابعي وأنبئيني هل تلمسين خنجرا، فلمستك هي التي لا تخطئ اليقين ... وأعود إلى ذكر مكتبتي التي اختلط غثها بثمينها، لأقول إنه لا العينان تسعفان فيما أريد إخراجه من الرفوف، ولا الأصابع تهدي، فإذا تأزمت نفسي وضاقت، أخذت أجذب من الخزائن مكنونها كيفما اتفق، لعل مصادفة عمياء تهديني إلى الضالة المنشودة.
وذلك ما وقع لي منذ قريب، فقد أرقتني رغبة حامية في أن أعثر على بضعة أسطر كنت كتبتها في دفتر من دفاتر المذكرات، وكانت الفكرة المعروضة في تلك السطور، هي أن العلم يتقدم في عصرنا بسرعة تفوق الخيال أحيانا، ثم سيق مثل لذلك، العالم ج. ج. تومسن وولده، فقد كان الوالد قد ترك حقيقة علمية معينة وهي على صورة يعلمها ويحفظها، فلما حدث أن التقى بابنه - وهو كذلك عالم في الميدان نفسه الذي كان يعمل فيه أبوه - أقول إنه حين حدث أن التقى الوالد بالولد وورد في حديث بينهما ذكر تلك الحقيقة العلمية المعينة، تبين أن الصورة التي كان الوالد قد عرفها عنها أيام أن كان عاملا في ميدانه العلمي، قد تغيرت مع الزمن القصير - وهو الفارق بين والد وولده - حتى لأوشكت أن تنقلب رأسا على عقب.
كان ذلك هو مدى ما حفظته لي الذاكرة من أمر تلك الحقيقة، لكن الرغبة اشتدت بي حتى أرقتني، الرغبة في أن أراجع الحادثة في دقة أصلها، فأين أجدها؟ في أي دفتر يا ترى بين دفاتر المذكرات؟ ها هنا دفعني اليأس إلى أن أبقر أكداس الخزائن لأخرج أمعاءها في ضوء النهار. معى معى، وكالطفل الذي يبكي على شيء مفقود، فيلهيه عن ضالته وعن بكائه أن يعثر على شيء آخر لم تدر به خواطره، كذلك كنت.
وذلك أن وقعت عيني على كراسة مكتبية (أجندة) لسنة 1967، جميلة التغليف إلى درجة تخطف البصر، ملئت صفحاتها بفقرات مرقمة، فهمست لنفسي: ماذا تحمل هذه الكراسة في صفحاتها؟ وهنا تركت أكداس الكتب والأوراق مكومة على أرض الغرفة، واستدرت لأستوي إلى مكتبي، وأعددت عدساتي، وأضأت المصباح، وأخذت أقرأ، بادئا بالفقرة الأولى، فقرأت من أسطرها الأولى ما يلي:
صفحة غير معروفة