دموع البلياتشو: مجموعة قصصية تنشر لأول مرة

عبد الغفار مكاوي ت. 1434 هجري
83

دموع البلياتشو: مجموعة قصصية تنشر لأول مرة

تصانيف

لو أعثر على الفم والابتسامة التي تلوح شمسها الصغيرة منه، لو تسلم لي عين واحدة بضحكتها أو حتى بدموعها. هكذا أخذ يكلم نفسه وهو يفحص بقايا التمثال الخزفي قطعة قطعة ويقلبها بين يديه، الشظايا المهشمة الأطراف والزوايا متناثرة أمامه، والأصفر والأزرق والأحمر الفاقع والبني المبرقش متداخلة في بعضها كبقايا حطام سفينة تختلج الأمواج الزرقاء والخضراء والداكنة من فوقها وتحتها، ما أقسى الخراب الذي يدمر في لحظة خاطفة حياة كاملة مفعمة بالذكريات والآلام والخيبات والأماني والأحلام! لم تكن البقايا المكونة أمامه مجرد شظايا تمثال عادي، مهما علت قيمته أو غلا ثمنه، كانت حطام ذكرى عزيزة وأمل متجدد ومنارة صغيرة تنفذ أشعتها في بحر الظلمات الذي يهدده كل يوم بالغرق والسقوط الأبدي أو بالخرس والجنون، هذه بقايا اليدين المفرودتين اللتين يلوح بهما البلياتشو لجمهوره ويدعوه للضحك أو التصفيق، والذراعان أيضا موجودتان وإن كان الكتفان المكشوفان اللذان لم تسترهما رقع الثوب المهلهل ما زالا متماسكين ويمكن لحمهما باليدين، وأطراف السروال المتدلي إلى أعلى الساقين تختلط فيها الأحمر بالأصفر بالأزرق ولا تلتئم بسهولة، أما السترة التي كانت تميته من الضحك بسبب ضيقها من أعلى الصدر وانتفاخها فوق الكرش المتورم وأزرارها اللامعة المثبتة بتفاخر وغرور في القماش الناسل المتهرئ فقد تفتت كأنما هرستها أقدام خيول تترية آشورية متوحشة. والأنف؟ هذا المتورم البارز وسط الوجه كإصبع حلاوة حمراء تميت من الضحك قد انفلق نصفين مثل تينة شوكية ذابلة وملقاة في التراب يستنكف النمل نفسه أن يلمسها، وآه للفم الواسع الملطخ بالبودرة والأسنان تلمع من ورائه والعينان الضيقتان المغموسة رموشهما في الدقيق اللامعتان بظلال التعاسة ووهج السعادة في آن واحد كيف يلمهما وأي ساحر يعيدها للضحك المنطلق من القلب؟ ولماذا تبقى صور الذكريات دون أن تنكسر أو تتهشم أو تهوى في آبار النسيان؟ لماذا تتداعى علي وتعلن عن حضورك يا أبي؟

ما زلت أجري كالنملة الدائخة لألاحق خطواتك الواسعة، يدي كعصفورة صغيرة في يدك الخشنة الطويلة الأصابع، ورأسي المدور العنيد يصل بالكاد إلى ركبتك. من أين أتيت بكل هذه الحيوية والطلاقة في الخطوة واللسان، كأن كل خلية فيك تقرقر بالضحك الصافي بعد الصمت الطويل الطويل، ونحن في طريقنا من أرض مشروع الري الذي تعمل فيه إلى خيام السيرك المنصوبة في الخلاء المجاور؟ لقد بتنا الليلة في عيد متواصل بعد أن سمعنا دقات طبول الموكب المعتاد الذي لف البلد وغمر الشوارع والحواري بدق الطبول وزعيق الأبواق وشقلبات البلياتشو وألعاب الحاوي والبهلوانات ورقصات الفيلة والكلاب والخيول المكسوة بالحرير المذهب والشراشيب التي تسلسل منها الأجراس النحاسية المجلوة كأنها العرائس في ليلة الزفاف، وأسألك يا أبي وأنظر في عينيك المتسعتين من الدهشة والفرحة والانبهار أتحب سيرك الحلو إلى هذا الحد يا أبي؟ وتجيب وأنت تتابع الألعاب وتصفق وتضحك كطفل عجوز: لأنني أحب أن تتعلم منهم يا عبد الرحيم. وأسألك مندفعا: وأصبح مثلهم يا أبي؟ فتقول مسرعا لتسكتني: المهم أن تتعلم الضحك من القلب وتصبح حرا وسعيدا مثلهم. وألح في السؤال: وهل هم سعداء يا أبي؟ ويسحب عينيه من الوجوه الضامرة التي يطحنها الشقاء لأجل لقمة العيش: ربك وحده هو الذي يعلم السعيد من الشقي، المهم أنهم أحرار. وأقول كأني أكلم نفسي لانشغالك بمتابعة العروض والتصفيق والهتاف: ليتني أصبح مثلهم أدرب الأسد والنمر وأركب ظهر الفيل والحصان! فتقول وأنت تشدني إلى جانبك: كان أبوك أشطر يا بني! المهم أن تتعلم منهم كما قلت. تطلعت إلى وجهك الذي يتحول في ليالي السيرك إلى مصباح يشع بألوان البهجة والرضا والتعجب التي تتقلب عليه أسرع من ألوان الطيف، وسمعتك تقول: الحياة لعبة يا ولدي، والحر هو الذي يختار لعبته ويسعد بها، طبعا لا يكفي أن يسعد نفسه، الأهم أن يسعد ويسعد غيره، انظر لهذا اللاعب في سقف الخيمة، لقد اختار اللعبة الخطرة وهو يعلم أنه لو سقط انكسرت رقبته، لكنه سعيد لأنه يسعد جمهوره من الأطفال والنساء والعواجيز والشبان. قلت لك بعد أن هدأت أنفاسي المتلاحقة من متابعة اللعبة الخطرة: البلياتشو يعجبني أكثر، أحس يا أبي أنه أسعد الجميع. وتضحك قائلا: ربما لأنه أتعسهم يا ولدي! هل ترى حماقاته المتكررة التي تجلب عليه الصفعات من كل ناحية؟ إنه أحكم الموجودين في هذه الخيمة، وربما كان هو وأمثاله أكثر أبناء الأرض حرية على مر العصور.

لم يكن عمري يسمح بإدراك معاني كلماتك يا أبي، خيل إلي أنك تكلم نفسك وتنفض مواجع قلبك، لكنني على الأقل أخذت عنك حب البلياتشو والانبهار بحركاته وسقطاته وآلامه وآهاته وضحكاته الدامعة كأنين القرد المحزون، وعندما خرجنا في الاستراحة إلى الساحة المكشوفة أمام الخيمة ورحنا نتفرج على سوق الهدايا والتحف والأواني والأقمشة والملابس والأدوات المعروضة للبيع تهت بينها حتى عثرت علي متسمرا أمام تمثال خزفي صغير، وقفت بجانبي وأحطت كتفي بيدك وسألتني: يعجبك هذا التمثال؟ قلت متضرعا: وأتمنى أن يبيت معي الليلة يا أبي! تردد بصرك بين عيني المبهورتين وبين إشارات البهلوان المضحك الذي يصيح على يانصيب البضائع المعروضة ويهول في أصلها وفصلها ووصولها خصيصا باسم الحلو الكبير من أوروبا والهند والصين والبلاد التي تركب الأفيال. رأيتك تذهب إلى البهلوان المرتفع الصوت وتأخذه على جنب وتشتبك معه في معركة طويلة بالكلمات والإشارات، ورجعت بوجه غاضب وعلى حدبة ظهرك المنحني ثقل الدنيا كلها، وأخذتني من يدي وأنت تدمدم لاعنا الكفر والكفرة والقلوب التي خلت من الرحمة. لم أفهم لماذا غضبت كل هذا الغضب وانصرفت عن البهلوان الذي جرى ليلحق بك وراح يحلف الأيمان على صدقه وبراءته ، مؤكدا أن كل شيء بأمر الكبير، ولن يدخل جيبه مليم، كنت تشدني من ذراعي ورأسي وقلبي مع البلياتشو العجيب الذي بدا إلي أنه يواصل حركاته وحركاته ولا يعلم شيئا عما فعله بي، كذلك لم أعلم شيئا عما ستفعله حتى يبيت البلياتشو في حضني بعد ليلتين لم ينقطع فيهما بكائي وإلحاحي عليك، أجل لم يعرف ابنك الغبي كم تعذبت وقاسيت حتى كشفت لي أمي السر وهي في مرضها الأخير بعد ذلك بسنين وسنين.

طرقت زوجته الباب قبل أن تدخل وعلى وجهها ابتسامة خائفة وفي يدها صينية عليها فنجان القهوة وزجاجة الصمغ. رفع وجهه من فوق الكومة التي انشقت عنها أكوام أصغر متراصة بجوار بعضها مثل أكوام حصاد الهشيم، ولمحت عينيه المحمرتين، فأغلقت فمها الذي انفتح قليلا قبل أن تتوقف الكلمات على بابه الصغير. قال لها في هدوء وبنغمة لم تخل من الدعابة: عمرك أطول من عمري تغديت مع العيال؟ هزت رأسها لتطمئنه وعجزت عن تحريك الأصوات المتكسرة على شفتيها كبقايا البلياتشو المطروحة أمام عينيها، ثم استدارت خارجة ومعها الصينية وأمارات الأسى والأسف تغطي وجهها الصغير المستدير، بينما كان هو يقلب الشقفات المبعثرة وهو يقول: لو أعثر على الفم والابتسامة التي تشع منه! لو تسلم لي عين واحدة بضحكتها أو حتى بدموعها!

6

يرحمك الله يا أمي رحمة واسعة! لولاك - وأنت في مرضك الأخير - ما عرفت كم تعذب أبي وشقي وتعب وأراق ماء وجهه أمام القريب والبعيد ومد يده للصغير والكبير. لا، لا، لم يكن كل هذا العناء من أجل تمثال صغير يمكن أن ينكسر في أي لحظة، فها أنا أدرك الآن أمام حطامك المبعثر أنها كانت وصية الأب الذي لا يملك من حطام الدنيا شيئا يوصي به: حاول أن تضحك يا ولدي في بلد كتب عليه النكد والغم.

كنت يا أمي الحبيبة قد صارعت الروماتيزم طويلا حتى صرعك، ألزمك السرير المعدني الصغير في الحجرة الخشبية الضيقة التي أعددتها حسب طلبك في ركن مكنون من الصالة، أنت التي لا تهمدين من العمل في المطبخ والغسيل وحمل الأولاد ، رغم إلحاح زينب عليك أن تستريحي، قد هزمك المرض واستقر وحشه الجليدي في أعضائك وأطرافك وعروقك حتى ورم رجليك وأسر الطبيب إلي: هي أيام وينتهي كل شيء ورم القدمين من القلب، تشجع يا أخي واستعد.

وفي ليلة وأنا أقرأ كعادتي وأتطلع من حين إلى حين إلى وجه البلياتشو الذي يلمع خلف زجاج البوفيه سمعتك تنادين، أسرعت زينب إليك حاملة عشاءك الخفيف مع الدواء فطلبت منها أن تناديني، وحين حضرت وعلى فمي الابتسامة، وخيرا إن شاء الله وجدتك تربتين بيدك المتورمة الأصابع على كتف زينب وتهمسين لحظة في أذنها فتتركنا وحدنا.

كنت أجلس على سريرك محاولا أن أحافظ على الابتسامة المذنبة العاجزة أمام القدمين المتورمتين والأنفاس المتحشرجة وزجاجات الدواء وأقراصه وعلبه عندما سمعتك تقولين فات الكثير ولم يبق إلا القليل.

قلت موسعا دائرة الابتسامة بقدر ما أستطيع: يعطيك طول العمر يا أمي، أنت بخير وكلنا، أشرت بيدك إشارة قاطعة: قلت لم يبق إلا القليل يا بني، والعاقل من يترك وصيته.

صفحة غير معروفة