دموع البلياتشو: مجموعة قصصية تنشر لأول مرة

عبد الغفار مكاوي ت. 1434 هجري
82

دموع البلياتشو: مجموعة قصصية تنشر لأول مرة

تصانيف

وقف أمام الباب وهو يحس بالدوار والإرهاق والسأم، وأصداء حديثه مع زميله وحيد وصور الحلم الذي رأى فيه أباه وكلمة لا تزال تتخبط في دماغه وعروقه كالوطاويط في غرفة مظلمة، أو الأسماك المرتعشة التي تهرب من شبكة الصياد لترجع إلى البحر، والتقط أنفاسه وهو يلعن الضغط وسنينه ويعد نفسه بالنور الطالع من وجه البلياتشو بدر ومن وجه ابنه وكأنه البلسم الذي سيداوي قروح الجلد المحترق أو جرعة الماء الزلال التي ستطفئ نيران العطش. ودق الجرس ففتح الباب وكأن زينب كانت في انتظاره بالقرب منه. وضع القرطاسين على صدرها وهو يتنفس الصعداء ويربت على كتفها بحنان كما اعتاد كل يوم، وحانت منه التفاتة إليها فهاله اصفرار وجهها الأبيض المستدير وغياب الدم عنه، ولم يغب عنه كذلك أن يلاحظ ارتباكها وارتجاف يديها فسألها منزعجا: خير يا زينب، خير إن شاء الله.

وقبل أن يتجه إلى الصالة ويفتح باب البوفيه الزجاجي ليملأ عينيه من وجه البلياتشو، ثم يسأل عن بدر وشقاوته طول اليوم كما اعتاد أن يفعل طوال سنوات تعلمت فيها الصبر على تصرفاته ومواجهتها بحلم الزوجة التي فجرت فيها العشرة ينابيع الأمومة نحو زوجها وطفلها الكبير، قبل أن يفعل ذلك أمسكت بيده وأخذته على جنب وهي تحاول أن تتكلم فتسبقها النهنهة والدموع المتساقطة كزخات المطر: امسك أعصابك يا عبد الرحيم.

هتف منزعجا: ما لك؟ ماذا حدث؟

جففت خديها وقالت: بدر، ابنك بدر.

زاد انزعاجه حتى كاد البركان يفجر حممه: ما له بدر؟ كفى الله الشر. أمسكت يده بعد أن وضعت القرطاسين على مائدة المطبخ ومسحت صدره باليد الأخرى قائلة: اطمئن، اهدأ واطمئن، بدر بخير. قفل على نفسه الباب مع أخته خوفا منك.

استصرخها نافد الصبر: يا شيخة تكلمي، ولماذا يخاف هو أو أخته مني؟

ضغطت على يده وسحبته من ذراعه في اتجاه الصالة وهي تتمتم بشظايا كلمات مهشمة: قلت لك اهدأ أولا، اهدأ حتى أحكي لك. صاح غاضبا: تحكي لي، هل هو مسلسل من إياهم أم عرض في السيرك؟ وقالت وهي تغتصب ضحكة خافتة كالغصة من شفتيها: السيرك، برافو عليك ومضت في ذهنه فكرة كالبرق فهتف: بدر هل حدث له شيء؟

وضعت في صوتها كل الحنان الذي تعوده منها، وقالت: العوض على الله، أصبح خمسين حتة. وقبل أن يجد فرصة لإطلاق صرخاته وتفجير بركانه الذي كانت تعرف دائما كيف تقابله بالصمت والتسامح. شعر بها تخلص يدها من يده وتشير إلى الأرض حيث تجمعت كومة شظايا ملونة وشقف خزفية متناثرة على فوطة مفروشة بعناية على بلاط الصالة. قلب عينيه بين وجهها وبين الكومة الملقاة على الأرض كبقايا عصر قديم أو آثار حضارة دمرها البرابرة، ويبدو أنه بذل جهد وحش داهمته السهام والحراب وطلقات الرصاص وهو في زنزانته، فأخذ يحتمي بقضبانها ويسند جسده المثخن بالجراح على جدرانها، ولا بد أنه نجح في محاصرة عذابه أو نجح عذابه في إسكات غيظه فانحنى على الكومة الصغيرة وراح يقلب شظاياها في صمت كما يقلب الأب أشلاء ولده الذي دهسه قطار حديدي أو انفجرت فيه قنبلة طائشة. كل ما فعله أنه مد يده المرتجفة فأشاح كفها التي راحت ترتب عظام حدبته البارزة، ولعله لم يسمع كلماتها المتدفقة في غير نظام: عوضك وعوضنا على الله، كنت في المطبخ ولم أشعر بعبثهما في البوفيه، تصور أنهما رصا كرسيين فوق بعضهما ليطولا التمثال ؟ وأفقت على صوت الارتطام بالبلاط، كأنها قنبلة دوت في بيتنا صرخت وجريت وطلعت العفاريت من عيني، وأخذت ألم الكسر والقطع المبعثرة وألعن الشقيين في كل كتاب، وقفا ورائي مذعورين ثم انطلقا كالفأرين المذنبين إلى حجرة نومهما.

نصب طوله كشيخ مهدود وهو يحتضن الشظايا المكومة في الفوطة على صدره ومشى في صمت إلى حجرته والغريب، وهذا شيء لن تنساه أنه ثبت عينيه في وجهها الطيب وهمس: اطلعي للأولاد لا بد أنهما ميتان من الجوع، سأدخل حجرتي وأحاول أن ألحمه، لا تنسي زجاجة الصمغ معك. وفتح باب الحجرة وأغلقها عليه دون أن يرى إشراقة وجهها بعد البرق والرعد والعاصفة.

5

صفحة غير معروفة