والحق إن الجواري كن أكبر عامل في نشر الشعور بالجمال، وما يتبعه من فنون جميلة، وأن الناس في العصر الذي نؤرخه لم يكتفوا بالجواري من ناحية جمالهن الخلقي، بل شغفوا بهن من ناحية الجمال الفني أيضا، ليجمعوا بين الجمالين. كانوا يميلون إلى الغناء وإلى الرقص، وإلى التفنن في الملبس، وإلى غير ذلك من ضروب الفن، فأخذوا يعلمون الجواري هذه الفنون، وسرعان ما تحول النبوغ فيها من الرجال إلى الجواري، وأخذ نوابغ المغنيين يلقنون جواريهم ألحانهم وأصواتهم وطريقة غنائهم؛ فإبراهيم الموصلي يعلم جواريه فنه حتى يحسنه، وعبد الله بن طاهر كان يعلم الغناء علما تاما؛ فيصنع الأصوات يلقنها لجواريه، والمغنون ينقسمون إلى حزبين: حزب القديم، وحزب الجديد، فينقسم الجواري إلى قسمين تبعا لمن أخذن الفن عنهم، وامتلأ كتاب الأغاني بتراجم الجواري المغنيات؛ أمثال عريب ومتيم وبذل وذات الخال وفريدة وأمثالهن، وعقد الفصول الطوال في نوادرهن، وميزة كل منهن، ونوع تفوقهن.
والآن نذكر طرفا من أنواع الفنون التي نشرنها:
فأول ذلك الغناء، وقد غمرن العراق بالغناء الجيد، وما يتبعه من لهو ومجون، وقد كان هؤلاء الجواري في هذا على نوعين؛ جوار مغنيات للخاصة، فالخليفة له جوار يغنينه، والأمراء والأغنياء كذلك، ثم هم يتهادون هذه الجواري حبا في التجدد، وفرارا من الاقتصار على صوت واحد.
وهناك نوع آخر، وهو قيان عامة، وأكثر ما يكون أن نخاسا يملكهن، فيعرضهن للغناء في محال يأوي إليها الفتيان لسماعهن، والإنفاق عليهن، ومن نماذج ذلك ما حكاه لنا صاحب الأغاني عن ابن رامين؛ فقد كان له منزل بالكوفة، وله جوار مغنيات أشهرهن اسمها «سلامة الزرقاء»، وكان أجل مقين بالكوفة، يجتمع في بيته الفتيان للسماع والشراب، ويقولون فيه وفي قيناته الشعر. وممن كان يختلف إليه روح بن حاتم المهلبي، ومحمد بن الأشعث، ومعن بن زائدة، وابن المقفع، وأمثالهم يسمعون وينفقون عن سعة، وينشدون أشعار الغزل. ولما خرج ابن رامين حاجا بجواريه بكى الشعراء لخروجه، ووصفوا لوعتهم من فرقة مجلسه، كما وصفوا كثرة الناس الذين كانوا يغشون بيته؛ من ذلك قول أحدهم:
أية حال يا ابن رامين
حال المحبين المساكين
تركتهم موتى ولم يتلفوا
قد جرعوا منك الأمرين
وسرت في ركب على طية
ركب تهام ويمانين
صفحة غير معروفة