الجزء الأول
بسم الله الرحمن الرحيم
الباب الأول: الحياة الاجتماعية في العصر العباسي الأول
مقدمة
1 - سكان المملكة الإسلامية في هذا العصر
2 - الصراع بين العرب والموالي
3 - الشعوبية
4 - الرقيق وأثره في الثقافة
5 - حياة اللهو وحياة الجد
6 - حياة الزندقة وحياة الإيمان
صفحة غير معروفة
الباب الثاني: الثقافات في ذلك العصر
تمهيد
7 - الثقافة الفارسية
8 - الثقافه الهندية
9 - الثقافه اليونانية الرومانية
10 - الثقافة العربية
11 - الثقافات الدينية
12 - امتزاج الثقافات
أهم الأحداث في ذلك العصر
الجزء الثاني
صفحة غير معروفة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحركة العلمية في العصر العباسي الأول
1 - وصف الحركة العلمية إجمالا
2 - معاهد العلم في العصر العباسي
3 - مراكز الحياة العقلية
4 - الحديث والتفسير1
5 - التشريع
6 - اللغة والأدب والنحو
7 - التاريخ والمؤرخون
الخلاصة
صفحة غير معروفة
الجزء الثالث
ضحى الإسلام
الجزء الثالث
بسم الله الرحمن الرحيم
في العقائد والمذاهب الدينية في العصر العباسي الأول
تمهيد في نشأة علم الكلام
1 - المعتزلة
2 - الشيعة
3 - المرجئة1
4 - الخوارج1
صفحة غير معروفة
خاتمة
الجزء الأول
بسم الله الرحمن الرحيم
الباب الأول: الحياة الاجتماعية في العصر العباسي الأول
مقدمة
1 - سكان المملكة الإسلامية في هذا العصر
2 - الصراع بين العرب والموالي
3 - الشعوبية
4 - الرقيق وأثره في الثقافة
5 - حياة اللهو وحياة الجد
صفحة غير معروفة
6 - حياة الزندقة وحياة الإيمان
الباب الثاني: الثقافات في ذلك العصر
تمهيد
7 - الثقافة الفارسية
8 - الثقافه الهندية
9 - الثقافه اليونانية الرومانية
10 - الثقافة العربية
11 - الثقافات الدينية
12 - امتزاج الثقافات
أهم الأحداث في ذلك العصر
صفحة غير معروفة
الجزء الثاني
بسم الله الرحمن الرحيم
الحركة العلمية في العصر العباسي الأول
1 - وصف الحركة العلمية إجمالا
2 - معاهد العلم في العصر العباسي
3 - مراكز الحياة العقلية
4 - الحديث والتفسير1
5 - التشريع
6 - اللغة والأدب والنحو
7 - التاريخ والمؤرخون
صفحة غير معروفة
الخلاصة
الجزء الثالث
ضحى الإسلام
الجزء الثالث
بسم الله الرحمن الرحيم
في العقائد والمذاهب الدينية في العصر العباسي الأول
تمهيد في نشأة علم الكلام
1 - المعتزلة
2 - الشيعة
3 - المرجئة1
صفحة غير معروفة
4 - الخوارج1
خاتمة
ضحى الإسلام
ضحى الإسلام
تأليف
أحمد أمين
الجزء الأول
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
لعل أصعب ما يواجه الباحث في تاريخ أمة هو تاريخ عقلها في نشوئه وارتقائه، وتاريخ دينها وما دخله من آراء ومذاهب. ذلك أن مدار البحث في المسائل المادية وما يشبهها واضح محدود ، وما يطرأ عليها من تغير ظاهر جلي. أما الفكرة فإذا حاولت أن تعرف كيف نبتت، وكيف نمت، وما العوامل في إيجادها، وما العناصر التي غذتها، وما الطوارئ التي طرأت عليها فعدلتها أو صقلتها؛ أعياك ذلك، وبلغ منك في استخراجه الجهد؛ لأن الفكرة أول أمرها لا مظهر لها نستدل به عليها، وقد تتكون من عناصر قد لا تخطر ببال، ويعمل في تغييرها وتعديلها عوامل في منتهى الغموض. والمذاهب الدينية قد يكون الباعث عليها غير ما ظهر من تعاليمها؛ قد يكون الباعث عليها سياسيا، وهي في مظهرها الخارجي مجردة من كل سياسة، وقد يكون الباعث لها إفساد الدين، فتتشكل بشكل المتحمس للدين، وقد يكون المذهب صالحا كل الصلاح، ولكن يحكيه أعداؤه فيشوهونه ويلغون فيه فيفسدونه، فيقف الباحث حائرا ضالا، يتطلب بصيصا من نور يهديه، أو أثرا في الطريق سلكه من قبله فيحتذيه.
صفحة غير معروفة
وفوق هذا، فالأفكار متنوعة، والآراء متعددة، وقضايا كل عصر تخالف ما قبلها، ويراها الباحث فيظنها أول وهلة جديدة، لم ترتبط بما قبلها برباط، ولم تتصل به أي صلة، فيعمل فكره فيما عسى أن يكون بينهما من قرابة أو نسب، وما قد يصل بينهما من سبب.
ففي سبيل الله ما يلاقي مؤرخ الفكر من عناء لا يتناسب وما يحصله من نتاج! •••
سرت في «ضحى الإسلام» سيري في «فجر الإسلام»، رائدي الصدق والإخلاص للحق، فإن أصبت فحمدا لله على توفيقه، وإن أخطأت فالحق أردت، ولكل امرئ ما نوى.
عنيت بضحى الإسلام المائة سنة الأولى للعصر العباسي (132-232ه)؛ أعني إلى خلافة الواثق بالله؛ فهو عصر له لون علمي خاص، كما أن له لونا في السياسة والأدب خاصا، امتاز بغلبة العنصر الفارسي، وبحرية الفكر إلى حد ما، وبدولة المعتزلة وسلطانهم، وبتلوين الأدب من شعر ونثر لونا احتذي على كر الدهور، واختلاف العصور. كما امتاز بتحويل ما باللسان العربي إلى قيد في الدفاتر وتسجيل في الكتب، وما باللسان الأجنبي إلى لغة العرب. وهو في كل هذا يخالف العصور قبله والعصور بعده، مخالفة تجعله حلقة قائمة بنفسها، يصح أن تسمى، وأن تدرس، وأن تميز. على أني أحيانا يدعوني إيضاح الفكرة إلى أن أربطها بما كان منها في العصر الذي قبله، كما قد يدعوني تسلسلها إلى أن أتجاوزه إلى العصر الذي بعده.
وقد رتبته أبوابا أربعة:
الباب الأول:
في الحياة الاجتماعية في ذلك العصر، واجتزأت منها بما له أثر قوي في العلم والفن.
والباب الثاني:
في الثقافات المختلفة؛ دينية، وغير دينية.
والباب الثالث:
صفحة غير معروفة
في الحركات العلمية، ومعاهد العلم، وحرية الفكر، ومزايا البلدان في تلك الحركات.
والباب الرابع:
في المذاهب الدينية، وتاريخ حياتها، وأشهر رجالها، وأهم أحداثها.
وكنت أحزر أنه سيكون حجمه حجم «فجر الإسلام»، فلما شرعت في تأليفه اتسع علي موضوعه، وغرمتني مناحيه، وواجهت مسائل لم تكن خطرت لي، فتركت البحث على سجيته، والقول على طبيعته، فإذا هو ضعف فجر الإسلام أو يزيد، فاضطررت أن أجعله جزأين، في كل قسم بابان.
وأتقدم إلى القراء اليوم بقسمه الأول، راجيا ألا يفرغوا من قراءته حتى أقدم إليهم قسمه الثاني.
على أني لم أقل في كل موضوع إلا كلمته الأولى، ولم أنظر إليه إلا نظرة الطائر، ولو حاولت أن أستوفي الكلام في كل فصل لكان من كل فصل كتاب. فإن نجحت في إثارة الباحثين لنقده، وتصحيح خطئه، وتوسيع مباحثه، فذلك حسبي، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
23 رمضان سنة 1351
19 يناير سنة 1933
أحمد أمين
الباب الأول
صفحة غير معروفة
الحياة الاجتماعية في العصر العباسي الأول
مقدمة
يصور بعض المؤرخين الحالة (وقد سقطت الدولة الأموية، وقامت الدولة العباسية) تصويرا يخيل إليك معه؛ أن هناك حدودا فاصلة بين الدولتين، وأن صفحة للتاريخ قد ختمت بانتهاء الدولة الأموية، وأن صفحة أخرى بدئت بقيام الدولة العباسية، وأنه ليس هناك كبير علاقة بين الأمة الإسلامية في عهدها الأول، والأمة في عهدها الثاني. وهذا التصوير أبعد ما يكون عن الصحة! وعلى الأخص من الناحيتين؛ الاجتماعية، والعقلية.
فقد حدثت حوادث في صدر الإسلام، وفي عهد الدولة الأموية، أخذت تعمل عملها منذ وجودها، واستمر تأثيرها مع سقوط الأمويين، وقيام العباسيين. خذ لذلك مثلا: تعاليم الإسلام؛ فقد ظلت تعمل وتنتشر، مؤثرة في البلاد المفتوحة ومتأثرة بها، وكذلك الشأن في انتشار لغة العرب؛ فلم يكن قيام الدولة العباسية صفحة جديدة لهذين العاملين، وإنما كانت مهدا لامتدادهما. ومن أوضح المثل على ذلك: عملية الامتزاج بين الأمم الفاتحة والمفتوحة؛ فقد بدأت من عهد عمر بن الخطاب، ووقفت وقفة صغيرة لما أصاب الأمم المغلوبة من الدهش. ثم بدأت تخضع للنظم الاجتماعية؛ من تزاوج، ودخول في الإسلام، وتعلم للعربية، ثم ظهور جيل جديد يحمل الدم العربي والأجنبي معا، بل يحمل مع ذلك خصائص الأمم المختلفة التي يتكون منها دمه، سواء كانت خصائص جسمية، أو عقلية، أو خلقية، أو روحية. وأخذ هذا الجيل في الظهور في عهد الدولة الأموية، وظل ينمو ويتعاقب في الدولة العباسية، وكان من نتائج هذا الامتزاج: أن كل جنس بدأ يتعلم من الأجناس الأخرى ما يشعر بأنها آخذة منه بحظ أوفر، فالعربي يأخذ من الفرس والرومان حضارتهم، والفرس تأخذ من العرب الدين، واللغة، وهكذا.. وهذه العمليات ظلت سائرة في العهد العباسي، كما كانت سائرة في العهد الأموي.
بل أستطيع أن أقول إن الدولة الأموية لو قدر لها أن تستمر في الحكم الزمن الذي حكمته الدولة العباسية؛ لظهر على يديها من الحركات العلمية والإصلاحات الاجتماعية؛ قريب مما ظهر على يد العباسيين. ودليلنا على ما نقول: (1)
أن الدولة الأموية نفسها، وهي هي. كانت الحركة العلمية، والمذاهب الدينية، والنظم الاجتماعية؛ في آخرها أرقى منها في أولها، فانتظمت تعاليم الخوارج، ونشأ الاعتزال، واعتنقه بعض الخلفاء الأمويين، ونظمت حلقات الدروس في المساجد، وأخذ العلماء يبحثون مسائل في القدر، وغير القدر، وتناقشوا مع اليهود والنصارى، وبدأت نواة التأليف، والترجمة، وظهرت الكتابة الفنية، إلى كثير من أمثال ذلك. ولو كان اتساع الحركة العلمية من عمل العباسيين وحدهم؛ لكان آخر الدولة الأموية يشبه أولها. (2)
أن الأمويين أنفسهم لما انتقلوا إلى الأندلس، وكونوا فيها مملكة عاصرت العصر العباسي الأول؛ لم يكن تشجيعهم للعلم ولحركة الترجمة والتأليف أقل كثيرا من عمل العباسيين، وكذلك مدنيتهم وحضارتهم، وأكبر فرق بينهما: نشأ مما أحاط بالعباسيين من مدنيات العراق القديمة، والفرس، واليونان، وما أحاط بالأمويين بالأندلس من مدنية لاتينية. فأما الميل إلى التوسع في الحضارة، ومنه العلم، والأخذ بأوفر حظ من النظم الاجتماعية التي تليق بهم؛ فكان حظ الدولتين معا.
ذلك بأن المملكة الإسلامية، كانت من أول عهدها تسير متنقلة في أطوارها الطبيعية. ويسلمها طور إلى طور، فتنتقل من طور تغلب فيه البداوة، إلى طور من الحضارة، ثم إلى طور آخر، وهكذا.. وجاءت الدولة العباسية، والأمة سائرة إلى الحضارة بطبيعة ما يحيط بها من ظروف، فسارت في هذا الاتجاه، والخطأ كل الخطأ أن يفهم أنها أوجدته من عدم!
نعم! إن هناك عوامل ظهرت مع العباسيين، وبعضها من عملهم؛ كغلبة النفوذ الفارسي، ونقل العاصمة من الشام إلى العراق. وكان لهذه العوامل أثر غير قليل في نمو الحركة العلمية والاجتماعية، ولكن هذه الحركات كانت حركات مساعدة فقط، ولو لم توجد لاستمرت الأمة في سيرها إلى الحضارة، وإن كان يكون سيرها أبطأ. فسلطة العنصر الفارسي كانت تنمو في الحكم الأموي، وعلى الأخص في آخره، ولو لم يتح لها فرصة الدولة العباسية، لأتيحت لها فرص أخرى مختلفة الأشكال. والعراقيون كان يصح أن يستخدموا في الحركة العلمية (والعاصمة في الشام)؛ بل نحن نرى بالفعل حركة الحسن البصري وتلاميذه الدينية بالبصرة تنمو وتقوى، والحركة اللغوية تنمو وتقوى؛ بمثل أبي عمرو بن العلاء، وقرينه عيسى بن عمر الثقفي بالبصرة أيضا في عهد الدولة الأموية. ولم يكن اتساع هاتين الحركتين في العهد العباسي إلا أثرا لهؤلاء وأمثالهم، وتقدما طبيعيا نتج من نشاط تلاميذهم.
ولكن مما لا شك فيه أن الحياة الاجتماعية التي كانت تحياها الدولة العباسية لونت العلوم والآداب بلون خاص، وجعلت لها صفات خاصة، ما كانت تكون لو استمرت الدولة الأموية في حكمها.
صفحة غير معروفة
وهذا ما سنحاول وصفه في الباب الآتي. وسنقتصر من وصف الحياة الاجتماعية، على ما له أثر كبير في العلم والفن.
الفصل الأول
سكان المملكة الإسلامية في هذا العصر
واضح أن الأمم تختلف في ميزاتها اختلافا كالذي بين أفرادها؛ فهي تختلف في عاداتها ، وتجاربها، وفي منهج تفكيرها، وكفايتها، ودرجة عقليتها، ومقدار ثقافتها، وحدة عواطفها، أو هدوئها.
وفوق ذلك؛ نرى أن لكل أمة «أدبا» يختلف عن أدب الأمم الأخرى، وأدب كل أمة منتزع من طبيعة إقليمها، وتاريخها، وخيالاتها، وملوكها وسوقتها، وعقلائها وسخفائها، وصلحائها ومجرميها، ومن نظامها السياسي، وعلى الجملة من كل شيء يتصل بحياتها.
نستطيع بعد ذلك أن نقول إن المملكة الإسلامية في هذا العصر كانت مكونة من أمم مختلفة؛ فقد كان من أجزائها المغرب حينا، ومصر والشام وجزيرة العرب، والعراق، وفارس، وما وراء النهر. وكانت هذه الأمم تختلف فيما بينها كل الاختلافات التي أبناها. وكلها خضعت للحكم الإسلامي، وتكون منها جميعا مملكة واحدة، وكان لكل أمة من هذه الأمم مزايا وصفات عرفت بها؛ فشهر العرب مثلا بالقدرة على الشعر؛ حتى قال أحمد بن أبي داود: «ليس أحد من العرب إلا وهو يقدر على قول الشعر، طبعا ركب فيهم، قل أو كثر
1 ». واشتهر أهل السند بالصيرفة، والعلم بالعقاقير. يقول الجاحظ: «إن السند لهم طبيعة في الصرف، لا ترى بالبصرة صيرفيا إلا وصاحب كيسه سندي، واشترى محمد بن السكن أبا رواح السندي، فكسب له المال العظيم، وقل صيدلاني عندنا، إلا وله غلام سندي، فبلغوا أيضا في الخبرة، والمعرفة بالعقاقير، وفي صحة المعاملة، واجتلاب الحرفاء مبلغا حسنا»،
2
واشتهر أهل مرو، وخراسان بالبخل؛ حتى قال في العقد الفريد: «أجمع الناس على بخل أهل مرو، ثم أهل خراسان؛ قال ثمامة بن أشرس: ما رأيت الديك قط في بلدة إلا وهو يدعو الدجاج، ويثير الحب إليها، ويلطف بها. إلا في مرو، فإني رأيته يأكل وحده! فعلمت أن لؤمهم في المأكل. ورأيت في مرو طفلا صغيرا في يده بيضة، فقلت له: أعطني هذه البيضة! فقال: ليس تسع يدك؛ فعلمت. أن اللؤم والمنع فيهم بالطبع المركب، والجبلة المفطورة.»
3
صفحة غير معروفة
واشتهر اليمانون بالعشق، والحجازيون بالدل،
4
كما اشتهر العراقيون بالظرف. قال إسحاق بن إبراهيم الموصلي:
إن قلبي بالتل تل عزاز
5
مع ظبي من الظباء الجوازي
شادن، لم ير العراق، وفيه
مع ظرف العراق دل الحجاز
وعدد الجاحظ مزايا كل أمة في عصره، فقال: «ميزة سكان الصين الصناعة، فهم أصحاب السبك، والصياغة، والإفراغ، والإذابة، والأصباغ العجيبة، وأصحاب الخرط، والنحت، والتصاوير، والنسج. واليونانيون يعرفون العلل، ولا يباشرون العمل، وميزتهم الحكم والآداب. والعرب لم يكونوا تجارا ولا صناعا، ولا أطباء، ولا حسابا، ولا أصحاب فلاحة، فيكونوا مهنة. ولا أصحاب زرع لخوفهم من صغار الجزية ... ولا طلبوا المعاش من ألسنة المكاييل، ورءوس الموازين، ولا عرفوا الدوانيق، والقراريط. فحين حملوا حدهم، ووجهوا قواهم إلى قول الشعر، وبلاغة المنطق، وتشقيق اللغة، وتصاريف الكلام وقيافة البشر، بعد قيافة الأثر، وحفظ النسب والاهتداء بالنجوم، والاستدلال بالآثار، وتعرف الأنواء، والبصر بالخيل، والسلاح، وآلة الحرب، والحفظ لكل مسموع، والاعتبار بكل محسوس، وإحكام شأن المناقب، والمثالب - بلغوا في ذلك الغاية. وميزة آل ساسان في الملك والسياسة، والأتراك في الحروب ... وليس في الأرض كل تركي كما وصفنا. كما أنه ليس كل يوناني حكيما، ولا كل صيني في غاية من الحذق. ولا كل أعرابي شاعرا، قائفا. ولكن هذه الأمور في هؤلاء أعم وأتم. وفيهم أظهر وأكثر.»
6
صفحة غير معروفة
وقال في موضع آخر في الكلام على الزنج: «وهم أطبع الخلق على الرقص، والضرب بالطبل؛ على الإيقاع الموزون، من غير تأديب، ولا تعليم. وليس في الأرض أحسن حلوقا منهم.»
7 «واشتهر الهند بالحساب، وعلم النجوم، وأسرار الطب، والخرط، والنجر، والتصاوير، والصناعات الكثيرة العجيبة.»
8
كذلك كانوا يختلفون في الأهواء، والميول السياسية، يوضح ذلك ما رواه ابن قتيبة: «قال محمد بن علي بن عبد الله بن عباس لرجال الدعوة حين اختارهم للدعوة، وأراد توجيههم: أما الكوفة وسوادها، فهناك شيعة علي بن أبي طالب. وأما البصرة فعثمانية تدين بالكف، وتقول: كن عبد الله المقتول، ولا تكن عبد الله القاتل. وأما الجزيرة فحرورية مارقة، وأعراب كأعلاج، ومسلمون في أخلاق النصارى. وأما أهل الشام؛ فليس يعرفون إلا آل أبي سفيان، وطاعة بني مروان؛ عداوة لنا راسخة وجهلا متراكما. وأما أهل مكة والمدينة؛ فقد غلب عليهما أبو بكر وعمر. ولكن عليكم بخراسان فإن هناك العدد الكثير، والجلد الظاهر ، وصدورا سليمة، وقلوبا فارغة، لم تتقسمها الأهواء، ولم تتوزعها النحل، ولم تشغلها ديانة، ولم يتقدم فيها فساد، وليست لهم اليوم همم العرب، ولا فيهم كتحازب الأتباع بالسادات، وكتحالف القبائل، وعصبية العشائر. ولم يزالوا يذلون، ويمتهنون، ويظلمون ويكظمون، ويؤملون الدول، وهم جند لهم أجسام وأبدان، ومناكب وكواهل، وهامات ولحى وشوارب، وأصوات هائلة، ولغات فخمة تخرج من أفواه منكرة.»
9
كذلك كان في كل أمة من هذه الأمم طوائف مختلفة لها شعائر، وعادات خاصة؛ فمنهم يهود حافظوا على تقاليدهم، وحرموا التزاوج إلا منهم، ونصارى تمسكوا بشعائرهم وعاداتهم، ومجوس يقيمون هياكلهم، ويوقدون نيرانهم.
كما نجد خلافات في الآداب، ففرس لهم أدب هو نتيجة تاريخهم، وحياتهم الاجتماعية، وعراقيون لهم آداب قديمة ورثوها مما اعتورهم من الدول، ومصريون لهم أدب كذلك، وأدب هندي، وأدب شامي، وأدب يوناني روماني.
دع عنك الاختلافات الإقليمية؛ فأمة تعيش في جبل، وأخرى في سهل، وجو بارد شديد البرودة، وحار شديد الحرارة، وأمة ساحلية، وأمة صحراوية. وما يستتبع ذلك من خلاف بين الأمم في العادات، والطبيعة، والمزاج.
كل هذه الاختلافات التي لم نذكر منها إلا أمثلة قليلة؛ كانت تكون المملكة الإسلامية في العصر العباسي الأول، وكانت ساحتها وعاء تصهر فيه هذه المواد المختلفة، وتتفاعل فيه كما تتفاعل الأجسام المختلفة كيماويا. وقد كانت هناك عوامل قوية ساعدت على هذا الامتزاج ألممنا بها في الجزء الأول من كتابنا.
10
صفحة غير معروفة
ولكن لابد أن نزيد هنا كلمة عن شيء كان ظاهر الأثر في هذا العصر؛ وهو «عملية التوليد».
ونعني بالتوليد؛ أن يتزاوج رجل من أمة وامرأة من أمة أخرى؛ فينشأ بينهما نسل يجري في عروقه دم الأمتين. وقد امتاز العصر العباسي الأول بكثرة هذا الجيل من الناس. وكان هذا التوليد ظاهرة قوية؛ نتجت عن اختلاط الأجناس، ومن نظام الرق والولاء الذي طبق عقب الفتح الإسلامي. فقد أصبح البيت الإسلامي - وخصوصا بيوت الخلفاء والأمراء والأغنياء - «عصبة أمم»، ينتج من النسل ما يحمل خصائص الأمم المختلفة. خذ لذلك مثلا: بيت أبي جعفر المنصور؛ فقد كان في بيته أروى بنت منصور الحميري، أولدها المهدي، وجعفرا الأكبر. وأمة كردية كان المنصور اشتراها فتسراها؛ فولدت له جعفرا الأصغر. وأمة رومية يقال لها «قالي» أولدها «صالحا المسكين»، وامرأة من بني أمية أولدها بنتا تسمى «العالية.»
11
هذا مع أن أبا جعفر المنصور لم يسرف في التسري إسراف من أتى بعده. «وكان للرشيد زهاء ألفي جارية من المغنيات والخدمة في الشراب؛ في أحسن زي من كل نوع من أنواع الثياب والجوهر.»
12 «ويقال: إنه كان للمتوكل أربعة آلاف سرية.»
13
وسيأتي من ذلك الشيء الكثير عند الكلام في الجواري.
كانت هذه الجواري المختلفة الأنواع توزع على الفاتحين، وتباع في أسواق النخاسين، وتهدى كما تهدى الطرف اللطيفة، وتمنح كما يمنح المال. وكانت الحرائر من الأمم المختلفة تتزوج من غير جنسها، وكان هؤلاء وهؤلاء ينسلن نسلا عديدا، وكان نسلهن أكثر من نسل العربيات الخالصات؛ لقلة عدد العربيات إذا نسب لغيرهن. بل كان ولوع الناس بالاختلاط بغير العرب أقوى وأشد، وميلهم إلى الإماء أكثر منه إلى الحرائر. ولذلك سببان:
الأول:
أن الجمال في كثير من نساء هذه الأمم المفتوحة أوفر، والحسن أتم؛ قد صقلتهن الحضارة، وجلاهن النعيم. هذا إلى ما حبتهن به طبيعة الإقليم؛ من بياض البشرة، وصفرة الشعر، وزرقة العيون، ونحو ذلك.
صفحة غير معروفة
الثاني:
ما أشار إليه الجاحظ؛ من أن عادة التزوج بالحرائر كانت في عهده كعادتنا الآن! لا ينظر الرجل إلى من يريد أن يتزوج، ولكن تتوسط «الخاطبة»، فتروي له من محاسنها ما تشاء، وقد لا يتفق ذوقها وذوقه.. هذا إن صدقته! وليس ذلك هو الشأن في الأمة، فهو يراها قبل أن يقدم على تملكها. قال الجاحظ: «قال بعض من احتج للعلة التي من أجلها صار أكثر الإماء أحظى عند الرجل من أكثر المهيرات:
14
إن الرجل قبل أن يملك الأمة قد تأمل كل شيء منها، وعرف ما خلا حظوة الخلوة، فأقدم على ابتياعها بعد وقوعها بالموافقة. والحرة إنما يستشار في جمالها النساء، والنساء لا يبصرن من جمال النساء وحاجات الرجال، وموافقتهن قليلا ولا كثيرا! والرجال بالنساء أبصر.. وقد تحسن المرأة أن تقول: كأن أنفها السيف! وكأن عينها عين غزال! وكأن عنقها إبريق فضة ...! وكأن شعرها العناقيد ...! وهناك أسباب أخر، بها يكون الحب والبغض.»
15
ومن أقوال العرب المشهورة: «الأمة تشترى بالعين وترد بالعيب، والحرة غل في عنق من صارت إليه!» وقالوا: «عجبت لمن لبس القصير؛ كيف يلبس الطويل! ولمن أحفى شعره؛ كيف أعفاه! وعجبا لمن عرف الإماء؛ كيف يقدم على الحرائر!»
16
وقد اشتهرت الأصقاع المختلفة بميلهم إلى أجناس مختلفة من النساء، بحكم الجوار، وبحكم ما كانوا يأسرون ويسترقون «من ذلك: أن أهل البصرة أشهى النساء عندهم؛ الهنديات وبنات الهنديات، والأغوار،
17
واليمن أشهى النساء عندهم؛ الحبشيات وبنات الحبشيات، وأهل الشام أشهى النساء عندهم؛ الروميات وبنات الروميات. وكل قوم فإنما يشتهون جلبهم وسبيهم إلا الشاذ، وليس على الشاذ قياس.»
صفحة غير معروفة
18
من هذا الاختلاط الذي أبنا طرفا منه؛ نشأ جيل جديد يحمل ميزات خاصة، حتى بعض الخلفاء أنفسهم كانوا من هذا الصنف؛ «فالخيزران سبية هي من خرشنة،
19
ولدت موسى الهادي، وهارون الرشيد، ابني محمد المهدي.. وشاهسفرم
20
بنت فيروز بن يزدجرد بن شهريار بن كسرى أبرويز ولدت للوليد بن عبد الملك يزيد بن الوليد الناقص، وإبراهيم بن الوليد المخلوع.»
21
ومروان بن محمد؛ ابن أمة كردية
22
وأبو جعفر المنصور، أمه بربرية اسمها سلامة. والمأمون؛ أمه أمة تسمى مراجل. والمعتصم، أمه أمة تسمى ماردة. والواثق؛ أمه أمة تسمى قراطيس، والمتوكل؛ أمه أمة تسمى شجاع.
صفحة غير معروفة
23
ومثل ذلك في العلماء، والشعراء. قال الأصمعي: «كان أكثر أهل المدينة يكرهون الإماء، حتى نشأ منهم علي بن الحسين، والقاسم بن محمد، وسالم بن عبد الله، ففاقوا أهل المدينة فقها، وعلما، وورعا، فرغب الناس في السراري.»
24
خضع هذا الصنف من المولدين لقوانين «الوراثة»، فكسب من آبائه وأمهاته صفات خاصة، وكان صنفا ممتازا. والعرب من قديم آمنوا بأن الزواج بالأباعد خير من الزواج بالأقارب. وروي في الخبر: «اغتربوا لا تضووا.»
25
وقال الشاعر:
فتى لم تلده بنت عم قريبة
فيضوى، وقد يضوى رديد القرائب
وقال آخر:
أنذر من كان بعيد الهم،
صفحة غير معروفة
تزويج أولاد بنات العم
فليس بناج من ضوى وسقم!
ورووا: «إن عمر نظر إلى قوم من قريش؛ صغار الأجسام. فقال: مالكم صغرتم؟ قالوا: قرب أمهاتنا من آبائنا. قال: صدقتم؛ اغتربوا. فتزوجوا في البعداء فأنجبوا!»
والواقع أيد هذه النظرية؛ فالمولدون في العصر العباسي كانوا من أظهر العناصر، ولهم ميزات مختلفة في أجسامهم، وعقولهم، وصناعاتهم؛ وذلك باختلاف أمهاتهم. يقول أحد القواد: «ما في الدنيا أحد أشجع من أبناء خراسان المولدين، ولا أفتك منهم!»
26
ويقول الأصمعي: «بنات العم أصبر، والغرائب أنجب، وما ضرب رءوس الأبطال كابن الأعجمية!» «وسئل بعضهم عن ولد الرومية. فقال: صلف، معجب، بخيل. قيل: فولد الصقلبية؟ قال: طفس، زنيم. قيل: فولد السوداء؟ قال: شجاع، سخي. قيل: فولد الصفراء؟ قال: هم أنجب أولادا، وألين أجسادا، وأطيب أفواها. قيل: فولد العربية؟ قال: أنف، حسود
27 ... إلخ. ويقول الجاحظ: «رأينا الخلاسي من الناس؛ وهو الذي يتخلق بين الحبشي، والبيضاء، والعادة من هذا التركيب أنه يخرج أعظم من أبويه، وأقوى من أصليه ومثمريه. ورأينا اليسري من الناس؛ وهو الذي يخلق من بين البيض، والهند، لا يخرج ذلك النتاج على مقدار ضخم الأبوين، وقوتهما، ولكنه يجيء أحسن وأملح»
28
ويقول في العلة في ميزة النصارى على اليهود في الشكل والعقل: «إن الإسرائيلي لا يزوج إلا الإسرائيلي، فكانت الغرائب لا تشوبهم، وفحولة الأجناس لا تضرب فيهم.»
29
صفحة غير معروفة