بل إن التغريب لديه يتحول إلى نوع من الاغتراب، اغتراب الأنا في الآخر، مع أن من مكونات الشخصية العربية الإسلامية كما فهمها القدماء فهم الآخر من خلال الأنا، وإعادة بناء حضارات الآخر يونانية ورومانية وفارسية وعبرانية ابتداء من حضارة الأنا. بل لقد استمر ذلك عند رواد النهضة العربية الحديثة وفي مقدمتهم الطهطاوي سواء في «مناهج الألباب» أو في «تخليص الإبريز»، وهم الرواد الذين أسقطهم المؤلف من الحساب كما أسقط التراث القديم، بعد أن اختار التاريخ الأوروبي والثقافة الغربية كأساس نظري لفهم الشخصية العربية الإسلامية والمصير العربي وكإطار مرجعي تتم الإحالة إليه باستمرار.
والأمثلة على ذلك كثيرة. والنصوص تشهد على أن القارئ العربي لا يفهم شخصيته العربية الإسلامية بالإحالة إلى مكونات الشخصية القومية في الغرب. ألا يمكن فهم الشخصية العربية الإسلامية دون الإحالة إلى الجرمان والإسبان والسلاف والمجر والبلغار؟ هل لا بد لفهم الشخصية العربية الإسلامية من المرور عبر الإمبراطورية الرومانية والغاليين في بلاد غاليا والبروطون في مقاطعة بريطانيا والسلتيبار في أسبانيا، والظاهرة الجرمانية والعصر النيوليتي ومملكة شرلمان والحرب بين ورثة لويس الزاهد؟ هل لا بد من تحليل العناصر المكونة لظهور الشخصية القومية الأوروبية لفهم الشخصية الإسلامية العربية دون التحقق من صدق المفهوم أولا ثم البحث عن مكوناته الداخلية في التراث القديم بدلا من الإحالة إلى تاريخ الغرب وثقافته، النزعة الكسمبوليتية للأسر الأميرية في أوروبا والملك أصيل بلاد هانوفر وأسرة هابسبورغ وأسرة بوربون وعرش اسبانيا وعرش إنكلترا؟
2
وتتجاوز الإحالة من مجرد منطق للتقريب والفهم إلى منطق للحكم. فتكوين الشخصية القومية في الغرب يصبح هو المعيار الذي يقاس عليه تكوين الشخصية العربية الإسلامية، وكأن هناك نمطا واحدا فريدا هو النمط الأوروبي عليه تقاس كل النماذج لدى الشعوب الأخرى. فهو النموذج العالمي الذي انتشر في أوروبا الغربية والشرقية والوسطى منذ القرن الماضي، عصر القوميات حتى هذا القرن مرتبطا بزوال الاستعمار وكأنه لم يستمر في الصهيونية باعتبارها من بقايا عصر القوميات في القرن الماضي.
3
وتأخذ فرنسا مكانا مرموقا في التاريخ الأوروبي كما أخذت تونس المكانة نفسها في العالم العربي. فالثورة الفرنسية نموذج الشخصية القومية بعلمها المثلث الألوان وعيدها ونشيدها الوطني لفترة طويلة بشهادة بيجي وميرلو بونتي! وهي كذلك بما أعطت لها من تضامن قومي وولاء وطني للأمة وليس لشخص الملك وبطابعها الديمقراطي وسيادة الأمة. بل إن الأمر تجاوز حد الهوامش الشارحة للتاريخ الفرنسي، شرح فرنسا بفرنسا والمستشارين البروتستانت لآخر ملوك الغالوا وتعاليم ريشيليو وعدله وتسامح لويس الرابع عشر، كل ذلك لفهم الشخصية العربية الإسلامية والمصير العربي!
4
ثم يأتي النموذج الألماني والأنجلوسكسوني والسوفياتي والأمريكي إلا النموذج الإسلامي العربي. فالنموذج الألماني يعتمد على التراب والعرق بجانب اللغة والدين. ويعتمد النموذج الأنجلوسكسوني الأمريكي على المجال الاقتصادي الواسع المنفتح على كل الطاقات البناءة. ويقوم النموذج السوفياتي على قوة الأيديولوجية الماركسية كرسالة كونية توحيدية قادرة على التجنيد القومي للشعوب.
5
فالمؤلف يعرف تاريخ نشأة القوميات وتطورها في الغرب والشرق ويحيل الشخصية الإسلامية العربية إليها دون تعميق لجذور هذه الشخصية في التوحيد الذي قام بالدور نفسه الذي قامت به الأيديولوجية الماركسية بالنسبة لانصهار القوميات.
صفحة غير معروفة