الإهداء
مقدمة
موقفنا الحضاري1
أولا: مقدمة
ثانيا: الموقف الحضاري وأبعاده الثلاثة
ثالثا: أزمة الموقف الحضاري
رابعا: الموقف من التراث القديم
خامسا: الموقف من التراث الغربي
سادسا: الموقف من الواقع
سابعا: خاتمة
التراث والنهضة الحضارية1
أولا: التراث الذاتي
ثانيا: تراث الغير
ثالثا: النهضة الحضارية
الفلسفة والتراث1
أولا: مقدمة: ماذا تعني الفلسفة والتراث؟1
ثانيا: أزمة «الفلسفة والتراث»
ثالثا: مظاهر الأزمة
رابعا: تغير ظروف العصر
خامسا: نشأة الفلسفة: قراءة الآخرين من خلال الذات
سادسا: تطور الفلسفة: من الشرح والتلخيص إلى العرض والتأليف
سابعا: البنية الثلاثية للفلسفة: غياب الإنسان والتاريخ
ثامنا: خاتمة: مسئولية من؟
التراث والتغير الاجتماعي1
أولا: أنواع المجتمعات البشرية بالنسبة إلى تراثها
ثانيا: النموذج التراثي
ثالثا: عيوب النموذج اللاتراثي
رابعا: نموذج إعادة بناء التراث
خامسا: مخاطر وشبهات
التراث والعمل السياسي1
أولا: ماذا يعني التراث والعمل السياسي؟
ثانيا: العلوم التراثية ومعوقات العمل السياسي
ثالثا: العقائد التراثية ومواقع العمل السياسي
رابعا: خاتمة: ضرورة إعادة بناء التراث
كبوة الإصلاح1
أولا: مقدمة: وصف الظاهرة
ثانيا: الموقف من القديم
ثالثا: الموقف من الغرب
رابعا: الموقف من الواقع
خامسا: خاتمة: الوعي التاريخي
الفكر الإسلامي والتخطيط لدوره الثقافي المستقبلي1
أولا: مقدمة: تحديد المصطلحات
ثانيا: مدى ما يمكن أن يستلهمه المجتمع العربي في قيمه المستقبلية ونظمه وتشريعاته من مبادئ الإسلام وروحه
ثالثا: مدى ما يمكن أن يسهم به الفكر الإسلامي المعاصر في مواجهة قضايا العصر ومشكلاته وتحدياته
رابعا: مدى قدرة الفكر الإسلامي على استشراف المستقبل الأفضل وارتياد آفاقه، وبيان الطرق لتحويل الأفكار إلى واقع تطبيقي
خامسا: خاتمة
هل يمكن تحليل «الشخصية العربية الإسلامية والمصير العربي» من منظور إقليمي وفي إطار نظري غربي استشراقي؟
أولا: مقدمة: المراجعة كقراءة1
ثانيا: الموضوع والمنهج
ثالثا: الأقسام الرئيسية
رابعا: مصر وتونس
خامسا: المشرق العربي والمغرب العربي
سادسا: العروبة وفلسطين
سابعا: التاريخ الأوروبي والثقافة الغربية
ثامنا: حضور الاستشراق وغياب التراث الإسلامي
الإهداء
مقدمة
موقفنا الحضاري1
أولا: مقدمة
ثانيا: الموقف الحضاري وأبعاده الثلاثة
ثالثا: أزمة الموقف الحضاري
رابعا: الموقف من التراث القديم
خامسا: الموقف من التراث الغربي
سادسا: الموقف من الواقع
سابعا: خاتمة
التراث والنهضة الحضارية1
أولا : التراث الذاتي
ثانيا: تراث الغير
ثالثا: النهضة الحضارية
الفلسفة والتراث1
أولا: مقدمة: ماذا تعني الفلسفة والتراث؟1
ثانيا: أزمة «الفلسفة والتراث»
ثالثا: مظاهر الأزمة
رابعا: تغير ظروف العصر
خامسا: نشأة الفلسفة: قراءة الآخرين من خلال الذات
سادسا: تطور الفلسفة: من الشرح والتلخيص إلى العرض والتأليف
سابعا: البنية الثلاثية للفلسفة: غياب الإنسان والتاريخ
ثامنا: خاتمة: مسئولية من؟
التراث والتغير الاجتماعي1
أولا: أنواع المجتمعات البشرية بالنسبة إلى تراثها
ثانيا: النموذج التراثي
ثالثا: عيوب النموذج اللاتراثي
رابعا: نموذج إعادة بناء التراث
خامسا: مخاطر وشبهات
التراث والعمل السياسي1
أولا: ماذا يعني التراث والعمل السياسي؟
ثانيا: العلوم التراثية ومعوقات العمل السياسي
ثالثا: العقائد التراثية ومواقع العمل السياسي
رابعا: خاتمة: ضرورة إعادة بناء التراث
كبوة الإصلاح1
أولا: مقدمة: وصف الظاهرة
ثانيا: الموقف من القديم
ثالثا: الموقف من الغرب
رابعا: الموقف من الواقع
خامسا: خاتمة: الوعي التاريخي
الفكر الإسلامي والتخطيط لدوره الثقافي المستقبلي1
أولا: مقدمة: تحديد المصطلحات
ثانيا: مدى ما يمكن أن يستلهمه المجتمع العربي في قيمه المستقبلية ونظمه وتشريعاته من مبادئ الإسلام وروحه
ثالثا: مدى ما يمكن أن يسهم به الفكر الإسلامي المعاصر في مواجهة قضايا العصر ومشكلاته وتحدياته
رابعا: مدى قدرة الفكر الإسلامي على استشراف المستقبل الأفضل وارتياد آفاقه، وبيان الطرق لتحويل الأفكار إلى واقع تطبيقي
خامسا: خاتمة
هل يمكن تحليل «الشخصية العربية الإسلامية والمصير العربي» من منظور إقليمي وفي إطار نظري غربي استشراقي؟
أولا: مقدمة: المراجعة كقراءة1
ثانيا: الموضوع والمنهج
ثالثا: الأقسام الرئيسية
رابعا: مصر وتونس
خامسا: المشرق العربي والمغرب العربي
سادسا: العروبة وفلسطين
سابعا: التاريخ الأوروبي والثقافة الغربية
ثامنا: حضور الاستشراق وغياب التراث الإسلامي
دراسات فلسفية (الجزء الأول)
دراسات فلسفية (الجزء الأول)
في الفكر الإسلامي المعاصر
تأليف
حسن حنفي
الإهداء
إلى كل من يفكر في جدل الأنا والآخر.
حسن حنفي
مقدمة
كتب هذا الجزء الأول «في فكرنا المعاصر» من «دراسات فلسفية» في وقت انقلاب الثورة المصرية على نفسها وتحولها إلى ثورة مضادة، وبداية ظهور الحركات الإسلامية المعاصرة بتشجيع من الثورة المضادة أولا منذ 1971م، ثم انقلابا عليها ثانيا بعد 1981م، ثم اشتداد الصراع بين الإخوة الأعداء، الإسلاميين والعلمانيين.
في هذا الإطار كتبت المقالات الثلاثة الأولى: «موقفنا الحضاري»، «التراث والنهضة الحضارية»، «الفلسفة والتراث»، من أجل تحديد ملامح المشروع الحضاري القومي في الثمانينيات: الموقف من التراث القديم من أجل تحرر الأنا من إسار الماضي، الموقف من التراث الغربي من أجل حمايتها من الوقوع في إسار بديل، الموقف من الواقع المعاصر من أجل مساعدتها على التنظير المباشر للواقع دون توسط النصوص القديمة أو الحديثة.
ويتعرض المقالان التاليان، الرابع والخامس «التراث والتغير الاجتماعي»، «التراث والعمل السياسي» لموضوع الربط بين تراث الأمة من ناحية والتغير الاجتماعي والعمل السياسي من ناحية أخرى، بعد أن توجهت الثورة المضادة مع بعض الجماعات الإسلامية للانقضاض على الإنجازات الثورية باسم التراث.
ثم كتب المقالان التاليان، السادس والسابع «كبوة الإصلاح»، «الفكر الإسلامي والتخطيط لدوره الثقافي المستقبلي»؛ من أجل رصد ظاهرة الكبوة في فكرنا الإسلامي المعاصر، منذ بداياته ومنطلقاته الأولى عند الأفغاني والطهطاوي وشبلي شميل، حتى نهاياته ونتائجه المعاصرة عند الجماعات الإسلامية، والوفد الجديد، والعلم والإيمان، ولبيان مسار الكبوة التدريجي من الجيل الأول حتى الجيل السادس، ومحاولة رفع الكبوة إلى مسار مستقبلي في خط صاعد جديد يلحق بالمنطلقات الأولى للرواد، ويطورها بطريقة أكثر علمية وجذرية.
والمقال الثامن والأخير: «الشخصية العربية» مراجعة لأحد رواد الفكر العربي المعاصر في تونس الشقيق، والتساؤل حول إمكانية دراستها من منظور استشراقي وبإطار مرجعي غربي.
حسن حنفي
القاهرة، مدينة نصر، يونيو 1995م
موقفنا الحضاري1
أولا: مقدمة
ليست الفلسفة مجرد فكر بلا زمان ولا مكان، بلا مجتمع وبلا حضارة. إنما هي نظام فكري ينشأ في عصر، ويقوم به جيل، ويخدم مجتمعا، ويعبر عن حضارة. هذا ما حاول أصحاب المنهج الاجتماعي في دراسة الأفكار إثباته، مع أنه قضية بديهية ليست في حاجة إلى إثبات. وهذا ما وضعت لأجله علوم إنسانية بأكملها مثل علم اجتماع المعرفة أو الأنثروبولوجيا الحضارية، وما حاولته عدة نماذج من التاريخ : تاريخ الفلسفة، وتاريخ الأفكار، وتاريخ المذاهب ... إلخ.
قد تكون أزمة الفلسفة في جامعاتنا ومعاهدنا اليوم هي عدم الوعي بهذه البديهية وعيا علميا كافيا، وإن كانت ترددها، فيما يبدو، أول كل محاضرة، وفي نهاية كل درس دون تنفيذها وتطبيقها وإيجاد البراهين والاستدلال منها على نتائج معينة لجيلنا. وغالبا ما تكون الفلسفة تبنيا لمذهب اجتماعي؛ تقليدا لما هو موجود في بعض المراجع الأجنبية التي ينقل عنها، أو عن اقتناع مذهبي يظهر في السياسة أكثر مما يظهر في العلم، أو ردا على سؤال محرج لطالب ملتزم متحمس لقضايا المجتمع بناء على مذهب سياسي أو بدونه؛ تهربا من الإجابة. فما أسهل اللجوء إلى ظروف العصر أو ادعاء التقدمية الاجتماعية، وما أسهل ترديد الشعارات والتشدق بالمناهج الاجتماعية!
هذا الوضع هو الذي دعانا، في حقيقة الأمر، إلى التفكير في علاقة الفلسفة بالموقف الحضاري لجيل محدد هو جيلنا. فنحن لا نتحدث عن أزمة كل العصور، فهذه لا وجود لها، أو عن الفلسفة العامة، فهذه أيضا لا وجود لها. هناك أبنية ذهنية ونفسية واجتماعية تظهر في كل عصر ولا يمكن تعميمها إلا بقدر عموم النفس الإنسانية وإطلاق العقل البشري. وهو في الحقيقة عموم لا يأتي إلا بعد خصوص، وعالم أذهان لا وجود له في الأعيان.
مما لا شك فيه أن الفلسفة في جامعاتنا وفي حياتنا العامة في أزمة. وجوهر هذه الأزمة أننا بعد أن أنشأنا جامعاتنا الحديثة منذ أكثر من نصف قرن - وجامعاتنا القديمة موجودة منذ أكثر من ألف عام - فإننا لا نستطيع القول بأن لدينا فلاسفة أو أننا أخرجنا فلسفة. وفي الحياة العامة بدأنا حركة الترجمة منذ أكثر من قرن ونصف منذ رجوع الطهطاوي، وتأسيس ديوان الحكمة الثاني؛ أعني مدرسة الألسن، ونحن حتى الآن ما زلنا نترجم، ونشكو من قلة الترجمات، بل إن مشروعنا القومي المتمثل حتى الآن في خطط دور النشر وبرامج وزارات الثقافة يتلخص في معظمه في مزيد من الترجمات. وحتى الآن لم تفعل هذه الترجمات فعلها، ولم تنتج عنها إبداعات، وكأن الترجمة غاية لا وسيلة، وكأن التحصيل هدف في ذاته. إننا ننتج، على أحسن تقدير، مؤلفات تعرض لمذاهب الآخرين اعتمادا على نصوص أصلية أو على دراسات ثانوية، فأصبحت الفلسفة لدينا تجميعا لأقوال، وعرضا لمذاهب، وشروحا على نصوص كما نفعل مع المتون القديمة، وكأننا استبدلنا متنا بمتن، والمحدثين بالقدماء، فإذا ما تحمس الكاتب والتزم فإنه يدافع عن المذهب المعروض ويهاجم خصومه في معركة ليس طرفا فيها، كاشفا بذلك عن موقفنا الحضاري الحالي الذي يتلخص في الخطابة والجدل، وليس في القياس والبرهان، في منطق الظن وليس في منطق اليقين. لقد تحول المفكرون لدينا إلى وكلاء حضاريين ممثلين لمذاهب غريبة في معظمها عن بيئتنا؛ نظرا لريادة الغرب وغزوه الثقافي وانتشاره خارج حدوده، على عكس الشرق الذي لم نجد له بيننا ممثلين لفلسفاته في الهند أو الصين كما كان الحال عند مفكرينا الأوائل مثل البيروني وغيره. وهذا واضح من وضع الفلسفة الشرقية في جامعاتنا وكيف أنها لا تعطى إلا في أضيق الحدود، واعتمادا على مؤلف شهير كتب استكمالا لتاريخ الفلسفة في الغرب.
1
وقد يبدو ما في هذا البحث مكررا لما هو موجود سلفا سواء في كتب أو بحوث، ولكن الإصرار على ضرورة المشروع الحضاري القومي هو رسالة لا بد من تبليغها في كل لقاء مع مفكرين يهمهم الأمر.
2
ثانيا: الموقف الحضاري وأبعاده الثلاثة
موقفنا الحضاري اليوم ذو أبعاد ثلاثة تعبر عن ضرورته، ولا حيلة لأحد فيها، ولا يمكن تغييرها ولا يمكن إغفالها، وإلا كانت الفلسفة بغير موضوع وبغير وطن؛ الأول: هو موقفنا من التراث القديم؛ وذلك لأننا مجتمع تراثي ما زال وعيه القومي مفتوحا على القدماء، وما زال القدماء يمثلون بالنسبة له سلطة يستشهد بها إذا ما نقصه الوعي النظري أو تحليل الظواهر. وما زالت تصوراتنا للعالم وموجهاتنا للسلوك مستمدة من التراث، لم تقم بيننا وبينه قطيعة، ولم تنشأ حركة نقد للتراث تضع تاريخنا الحديث في مرحلة جديدة. والثاني: موقفنا من التراث الغربي الذي بدأ يكون أحد الروافد الأساسية لوعينا القومي، وأحد مصادر المعرفة المباشرة لثقافتنا العلمية والوطنية . وقد كان الآخر باستمرار حاضرا في موقفنا الحضاري منذ قدماء اليونان حتى محدثي الغرب. لم تحدث بيننا وبينه قطيعة إلا في الحركة السلفية، ولم تقم حركة نقد له إلا في أقل الحدود وبمنهج الخطابة أو الجدل، دون منهج النقد ومنطق البرهان.
والثالث: موقفنا من الواقع الذي نعيش فيه والذي نحتويه في شعورنا عن وعي أو عن لا وعي. وقد يكون هو الباعث على المعرفة، والموجه للاختيار. وقد يكون أحيانا هو المصدر الوحيد للمعرفة بالإدراك الحسي المباشر أو التنظير العقلي المباشر؛ وذلك أن الموقفين الأولين موقفان حضاريان بالمعنى الحرفي للكلمة، أي إنهما يتعاملان مع ثقافات مدونة في الغالب، ويغلب عليهما منهج النقل بصرف النظر عن مصدره: النقل من القدماء أو النقل عن المحدثين. في حين أن الموقف الثالث وحده هو الذي يتعامل مع مادة المعرفة «الخام» دون إدراك مسبق أو تنظير جاهز سواء من القدماء أو من المحدثين. وعادة ما يكون هذا الموقف الحضاري المثلث الأبعاد غير متوازن، ويكون حضور أبعاده فيه غير متكافئ؛ فقد يتركز أساسا على الموقف من التراث القديم ومن هنا تنشأ ثقافتنا الدينية وحركاتنا السلفية وتعليمنا التقليدي ونظمنا المحافظة؛ اقتناعا وإيمانا، أو نفاقا وتعمية عما يدور في الواقع بالفعل. وقد يرتكز على الموقف من التراث الغربي، ومنه تنشأ ثقافتنا العلمية العلمانية وحركاتنا الإصلاحية والتحديثية وتعليمنا العصري ونظمنا الحديثة؛ اقتناعا وإيمانا، أو دفاعا عن مصالح الحكام. وقد يرتكز الموقف الحضاري على البعد الثالث، أي الواقع ذاته، ومنه تنشأ ثقافتنا الشعبية وحركات التغير الاجتماعي، ومنه خرجت ثوراتنا الأخيرة. هذا الاتزان المفقود في الموقف الحضاري هو الذي يسبب فقدان وحدة الشخصية ويجعلنا نعيش في «فصام نكد» فتتضارب الثقافات ومناهج التعليم والمذاهب السياسية، ويقضى على الوحدة الوطنية في الممارسة، وعلى الشخصية القومية في النظر. وقد تتداخل هذه الأبعاد الثلاثة فيما بينها دون هذا الفصل الافتراضي المجرد؛ فقد يكون للوعي الفردي موقف إيجابي من التراث القديم يسبب موقفا آخر سلبيا من التراث الغربي، وقد يكون هناك موقف إيجابي من التراث الغربي يسبب موقفا آخر سلبيا من التراث القديم. وعادة ما يكون هذان الموقفان المتعارضان سلبيين بالنسبة للواقع؛ لأن المدخل الحضاري يكون بديلا عن الواقع المعيش، وكأن المعركة في الكتب وليست بين الناس. أما الذي يأخذ موقفا إيجابيا واعيا من الواقع فإنه يكون في العادة إيجابيا في موقفيه الحضاريين الأولين منتقيا ما يفيده منهما، فالأولوية للمصلحة على الكتاب، وللناس على الثقافة، وللحياة على الحضارة.
ثالثا: أزمة الموقف الحضاري
تتجلى أزمة الموقف الحضاري في موقفنا من كل بعد فيه، سواء كان التراث القديم، أو التراث الغربي، أو الواقع المعيش للناس. (1)
فقد نظرنا إلى التراث القديم نظرة المستشرقين، وكأننا متفرجون عليه ولسنا أصحابه، نعيب عليه قصوره وكأننا لسنا مسئولين عنه، نكرر ما قيل ونجمع بين أجزائه، وأقصى ما نفعله نشر المخطوطات دون تغيير أو تطوير أو إعادة اختيار. في حين أن التراث القديم ليس منفصلا عنا، بل هو جزء منا، ونحن جزء منه، كوننا وأعطانا تصوراتنا للعالم، وأمدنا بموجهات للسلوك. نحن مسئولون عنه بقراءتنا له مثل مسئولية القدماء الذين أبدعوه. كما تركناه بلا موقف منا إزاءه في القراءة والتفسير والفهم والتأويل. نكرر الاختيارات القديمة، والمذاهب السالفة، ولا نعرف كيف نشأت وأي أغراض خدمت. وبالرغم من تغير الظروف القديمة ونشأة ظروف جديدة تتطلب اختيارات بديلة، فإننا نكرر الاختيارات النمطية القديمة التي تعارض في أهدافها ومنطلقاتها الظروف الجديدة التي نعيشها اليوم وكأن التراث جسم ميت، وجثة هامدة، ننقلها بلا واقع أو تاريخ أو حياة أو عصور، أو أصحاب أو أهل؛ ومن ثم يخرج الطلاب من جامعاتنا وهم منفصلون عنه نفسيا يتصورونه «كتبا صفراء»، و«قيل وقال»، لا أمل فيه، لا يثير قضية، ولا يقدم حلا، فيتوجهون إلى الثقافات المعاصرة حيث يجدون فيها أنفسهم فيزداد شعورهم بالقطيعة مع التراث القديم كلما ازداد «التغريب»، مما يجعل بعضهم يقوم برد فعل على ذلك، فيتمسك بالقديم كله، ويرفض المعاصرة كلها، فتنقسم الأمة إلى فريقين؛ فريق يرى صلته بالتراث صلة انقطاع ثم قطيعة، وفريق آخر يرى أن صلته بالتراث صلة اتصال ثم وصال. الأول يرى في التراث كل شيء، والثاني لا يرى في التراث أي شيء.
ثم نقلناه كله، الصالح منه والضار . عممنا الأشعرية، ودرسنا الفلسفة الإشراقية، واجتررنا فقه العبادات، وشرحنا المحبة والفناء، ودعونا إلى التخلي عن العالم في مجتمع مهزوم مطحون، مسلوب الإرادة، غيبي أسطوري، منهوب الثروات، أزمته الفقر، ومأساته الاحتلال. درسنا أن النقل أساس العقل، وأن العقل قاصر في حاجة إلى وحي، وأن هذا الوحي هو النبي،
1
وأن أقصى ما للإنسان من فعله هو الكسب، وهو في نهاية الأمر تعليق لحرية الإنسان وإرادته بإرادة الآخر، وجعلها مشروطة بها، وأن مستقبل الإنسان خارج العالم، وأن الشهادتين تكفيان، وأن السياسة كلها مركزة حول شروط الإمام وصفاته الحميدة. ولما كان ذلك هو الموروث السائد، بعد أن حيكت مؤامرات الصمت على كل تراث آخر مناهض، وهو ما يساعد السلطة القائمة في سندها الشرعي أو في اقتضائها طاعة الناس لها، فقد درسناه واعتبرناه هو الصواب دون ما سواه، وأصبح ذلك عاملا مكونا رئيسيا في ثقافة الطلاب، فاستمرت المحافظة، واستمر تراث السلطة، وقدمنا بأيدينا إلى السلطات رعية مطيعة له، مؤمنة به وبالله، وقضينا بأيدينا على كل احتمال للتغيير والمعارضة والثورة.
لقد درسنا العقول العشرة، وخصصنا العقل الفعال، وتحدثنا عن الأفلاك العشرة، وبينا أن الكواكب والأفلاك أرواح ونفوس وعقول على أساس حركتها، يتم كل شيء في الأرض، فوجد وعينا القومي علل ظواهره في السماء وليس على الأرض. أما المعرفة فبمدد من السماء وليس بإحصاء كمي لواقع الناس. وشرحنا نظريات المحبة والفناء والحلول، وعرضنا قيم الزهد والورع والصبر والرضا والتوكل والشكر، وبينا أحوال الخوف واليأس والسكر والغيبة. وتساءلنا في الفقه: ما حكم وصية يكتبها رجل بين أنياب الأسد؟ هل يجوز أكل بيضة ولدتها فرخة نكحها إنسان؟ ما حكم رجل أقسم أن امرأته طالق إن هو جامعها في هذا الثوب، وإن لم يجامعها في هذا الثوب؟ ما هي أحكام الاستنجاء والغائط؟ وما حجم الحجر وشكله واتجاه الغائط وكيفية الجلوس؟ وما هي أحكام حلق عانة الميت؟ وكأن مظاهر المجتمع المتخلف وموضوعاته هي التي فرضت اختيار ثقافته. أما فقه الثورة، وفقه العدالة الاجتماعية، وفقه التحرر من الظلم، وهو ما يعاني الناس منه، فليس أساسا للاختيار أو موضوعا للتساؤل.
ولم ندرس علم أصول الفقه بأكمله وهو ما يعبر عن إبداع المسلمين وإحساسهم بالعالم ووضع مناهج الاستدلال بعيدا عن الاستشراق، وأحكام منطق اللغة بعيدا عن الخطابة والجدل، ووضع شروط للتواتر والآحاد بعيدا عن الروايات الموضوعة التي تلهب الخيال وتتحول إلى جزء من الأساطير الشعبية، ووضع أحكام للفعل ووصف مناهج للسلوك بعيدا عن الكبت والحرمان والازدواجية والنفاق. لم ندرس إبداع المسلمين في وضع مناهج للرواية لضبط النقل أو وضع أصول المنطق الحسي الذي يقوم على المشاهدة ومجرى العادات أو المنطق الأرسطي ووضع منطق بديل يقوم على قياس الغائب على الشاهد، وقياس الأولى، وأن ما لا دليل عليه يجب نفيه. لم نعتن بكيفية نشأة العلوم الرياضية والطبيعية والإنسانية (اللغة والأدب والجغرافيا والتاريخ) التي أبدع فيها القدماء، ولم ندرسها إلا في إطار «تاريخ العلوم عند العرب» كجزء من تاريخ العلم كما يفعل الغرب، ولم نحاول نحن معرفة الصلة بين التوحيد والعقل، بين التوحيد والطبيعة، وكيف استطاع القدماء بعقلية التوحيد اكتشاف الرياضيات وقوانين الطبيعة. فوضع ابن رشد مع باقي الفلاسفة، وابن خلدون مع باقي المؤرخين دون إدراك للنوعية والاختيار. (2)
لقد فعلنا الشيء نفسه في التراث الغربي، فإذا درسنا الفلسفة الغربية فإننا ننتزعها من بيئتها وكأن ديكارت وكانط وهيجل وماركس ونيتشه وهوسرل وبرجسون وسارتر وميرلوبونتي وهيدجر نجوم لامعة نتأملها ونعجب بها، بل ونحكم عليها، على صدقها أو بطلانها، بحجج الذوق السليم أو العقل الصريح، وربما أيضا بالأخلاق الكريمة والقيم الفاضلة والنظم السياسية - وأحيانا الاجتماعية القائمة - والأعراف والتقاليد وكل الموروث القديم. ولما تشتتت المذاهب وتباينت الآراء وقعت الحيرة في الاختيار؛ هذا مثالي، وذاك واقعي، هذا عقلي، وذاك حسي؛ فالمحافظون يختارون المثالية، والتقدميون يختارون الواقعية، وينشأ الخلاف بيننا. والصراع على المذاهب في ظاهره غربي وفي حقيقته يكشف عن موقف حضاري خاص بنا، وهو أن المثالية وريث طبيعي للمحافظة والتقليد الديني ، والواقعية هي التطور الطبيعي للدين المثالي والأكثر قدرة على الدفاع عن حياة الناس ومصالح الشعوب.
وفي حقيقة الأمر فإن المذاهب الغربية وليدة بيئتها، بل إن فكرة المذهب إنما نشأت بعد أن تمت تعرية الواقع الأوروبي تماما من أغطيته النظرية القديمة الموروثة من العصر الوسيط المسيحي الكنسي. وجاء عصر النهضة، فأزاح كل الغطاءات النظرية الممكنة، رافضا الموروث باعتباره مصدرا للعلم الذي تحول إلى العقل والطبيعة. العقل والوحي شيء واحد، والطبيعة والدين شيء واحد (وحي العقل، دين الطبيعة).
2
نشطت المذاهب في القرن السابع عشر في محاولة لإيجاد نسق كلي شامل يقوم بدور الموروث القديم في تفسير العالم وإيجاد علاقة بين الله والطبيعة والإنسان. فنشأت العقلانية، ومنها المثالية النقدية، تعطي الأولوية للعقل وحقه في فهم الطبيعة. كما نشأت الحسية ومنها الوضعية؛ لتعطي الأولوية للحس وحقه في رؤية الطبيعة. وظل المذهبان يتصارعان مرة، ويتركبان في مذهب ثالث مرة أخرى؛ إما على نحو آلي خارجي ثابت (كانط) أو على نحو حيوي داخلي متحرك (هيجل). ثم أتت المذاهب الإنسانية الحيوية والإرادية والوجودية لتعطي الأولوية للإنسان على العقل والطبيعة، ولتحول العلوم الرياضية والطبيعية على السواء إلى علوم إنسانية، ففي سقراط الجديد يجتمع أفلاطون وأرسطو. وقد حكم تطور المذاهب قانون الفعل ورد الفعل، أو جدل الموضوع ونقيضه ومركبه، ثم طبع هذا الجدل الوعي الأوروبي في بنيته بقسمة ثلاثية ظاهرة؛ صورية، أو مادية، أو حيوية، وعادة ما يتم الخلط بين هذه المستويات دون تمييز بينها.
للوعي الأوروبي إذن تطور وبناء. له بداية وتطور ونهاية، له ظروف تاريخية واجتماعية خاصة ممثلة في الرومانية القديمة، ومعطى ديني خاص هو المسيحية، ونظام ديني خاص هو الكنيسة، وبناء ذهني خاص يقوم على التقسيم، وأحادية الطرف والتعارض بين عوامل الظاهرة الواحدة. وإن الحديث عن عقليات بدائية، أفريقية أو آسيوية، هو في حقيقة الأمر إسقاط من العقلية الأوروبية على غيرها. فأين نحن من هذا كله؟ ديكارت محاولة لإثبات عقائد الدين بحجج العقل والبرهنة على صدق الايمان، وهو تقليد شائع في حضارتنا القديمة كلها عند المتكلمين والفلاسفة. والفلسفة النقدية كأول محاولة للتعرف على إمكانية المعرفة في مقابل الدجماطيقية. والشكية هو ما كان يفعله الفقهاء، من نقد نظريات الحكماء ولاأدرية الشكاك والمذاهب الحسية التي كانت تدافع عن المعارف الحسية، والمشاهدة والتجربة. دعامة العلم الجديد هو ما كان يفعله المتكلمون والأصوليون من اعتبار شهادة الحس ومجرى العادات مصدرا للعلم. والفلسفات الإنسانية والحيوية هي أشبه بمحاولات الصوفية عندنا من تركيز على التجارب البشرية والوجود الإنساني والانفعالات النفسية مثل المقامات والأحوال، وما الفرق بين كيركجارد الصوفي والوجودي؟ لا يعني ذلك أننا أسبق من غيرنا في شيء، أو أن لدينا ما لدى غيرنا، فنثق بالنفس، ونفخر بالأجداد، بل يعني أن المذاهب الفلسفية لا تزرع خارج بيئاتها الأولى، فإذا ما تشابهت المذاهب واختلفت البيئات فذلك لأن الأبنية الذهنية والنفسية والمواقف الحضارية والمراحل التاريخية قد تكون أيضا واحدة. وما دام المذهب الفلسفي قد اجتث من جذوره فلا يمكن فهمه أو الحكم عليه أو التعرف على نشأته. ومن ثم لا يتعلم الطالب أو يفهم شيئا باستثناء مجموعة من المعلومات المتراصة المتراكمة، يحفظها للامتحان وينساها بعده، لا تؤثر فيه ولا يؤثر هو فيها، فقد تم الفصل بين المذهب والموقف، بين العلم والنشأة، بين الفكرة والتكوين؛ ومن ثم لم ينشأ عندنا فكر تكويني يدل على موقف، بل أصبحت ثقافتنا أكواما متراصة من المعلومات، سرعان ما تتساقط جميعا في أول مواجهة لموقف ثقافي أو موضوع علمي. (3)
وقد تعثرت الفلسفة لدينا لأن البعد الثالث في موقفنا الحضاري، وهو الموقف من الواقع، أزيح جانبا وأسقط من الحساب. فتحولت الفلسفة لدينا إلى نقل؛ نقل عن القدماء، أو نقل عن المحدثين، وغاب التنظير المباشر للواقع. أصبحت الثقافة في جانب، والواقع في جانب آخر، ثقافة غريبة، وواقع غير مفهوم، مجرد وعي صوري بلا مادة. وقد يكون السبب في هذا الموقف هو وجود الغطاء النظري التقليدي للواقع، وهو الغطاء الذي يفسر كل شيء، وبالتالي لم تنشأ الحاجة إلى التساؤل عنه أو البحث عن نظرية له. هناك نوع من الوئام بين الأنا والنحن، وبين النحن والعالم بلا قطيعة أو شرخ، باستثناء الفقر كأزمة وضنك. وهما مفهومان في إطار التصور النظري القديم، ومقبولان في إطار الإيمان الشائع والعقائد الموروثة، أو في إطار عدم الالتزام بقضايا الواقع نظرا للتعايش أو القهر السياسي أو لعدم الوعي به والارتباط بقضايا العصر؛ فالفكر ليس بضاعة، والمفكر ليس موظفا. الفكر رسالة، والمفكر صاحب قضية.
3
وكادت صورة الأستاذ الذي يعيش من الفكر أن تصير صورة نمطية من خلال الإعارات أو الوظائف أو الكتب المقررة، وكادت تختفي صورة الأستاذ المفكر الذي يعيش بالفكر، صاحب القضية، والقادر على اتخاذ الموقف. إن عدم التعود على المنهج الاجتماعي في دراسة الأفكار أو نشأتها وتكوينها من الوضع الاجتماعي قد يجعل الباحثين يستسهلون عرض الأفكار، أو التحدث عن الظروف والبيئات في الفصول الأولى، وعن الأفكار والنظريات في الفصول التالية، دون أن يكون هناك رابط بين هذه وتلك. وربما يكون السبب نقصا في التكوين الذهني بالرغم من وجود كم من المعلومات ونقص في الممارسة؛ فالذهن لم يمارس العلم، ولم يتعود على المنهج، ولم يعرف كيف نشأ، فاقتطف الثمرة دون الجذور، وحصل على النتيجة دون المقدمة. وقد يكون غياب معاهد البحث العلمي والعمل الجماعي في إطار مشروع قومي لدراسة الثقافة والفكر والعلم والفلسفة؛ أحد العوامل في إسقاط الواقع من الحساب بعد أن اقتصرت مهام الأساتذة على تخريج مدرسين أو موظفين أو رجال إعلام. كما تحولت الرسائل العلمية الجامعية إلى دراسات للماضي - لشخصية أو مذهب أو عصر - يقل فيها عنصر الإبداع، أي بناء المشكلة الفلسفية ابتداء من الواقع، فلم يعد الطالب يبدع نصا فلسفيا، بل صار مجرد شارح للنصوص. هذا بالإضافة إلى الجو العام لإجهاض العقول، والخطط العامة المعدة لذلك سواء من الداخل أو من الخارج. فليس في صالح الأنظمة القائمة أو المصالح الكبرى أن يبدع العقل الذي هو بطبيعته تمسك بالحريات ودفاع عن المصالح العامة. وقد يتحول الإجهاض إلى إعدام إذا ما حاول أحد الأساتذة أو الطلاب الخروج على المألوف والتمسك بحقه الطبيعي في البحث الحر. فإذا لم يقبل شيئا على أنه حق إن لم يكن مؤيدا بالدليل اتهم بالإلحاد أو الشيوعية، ويصبح شريدا متهما مطاردا لا وطن له ، فلا يبقى له إلا الهجرة إلى الخارج ليتحول إلى مهني صرف، يضع همه في العلم والإبداع العلمي، أو ليواصل المعارضة في الخارج والدفاع عن حقوق الأوطان والشعوب، أو الهجرة إلى الداخل هما وكمدا حتى يصاب بالجنون، أو يعمل عن وعي تاريخي طويل، من خلال الحركات السرية التي سرعان ما يتم انكشافها فيصبح نزيل سجون. إن عدم الالتزام بالواقع له أسباب كثيرة، منها ما يكمن في التراث - أولوية النص - ومنها ما يكمن في النقل عن الغرب - اجتثاث المعرفة عن بيئتها - ومنها ما يكمن في ظرف العصر، وضرورة العيش في ظروف القهر.
إن حل أزمة الموقف الحضاري إنما يكون بإعادة النظر في هذه الأبعاد الثلاثة وأحكامها، وإعادة الاتزان إلى الوعي الحضاري القومي، وفرض الواقع نفسه، أي البعد الثالث، على البعدين الحضاريين الأولين. فالواقع يفرض - وبعد مائتي عام من نهضة حديثة سرعان ما كبت - أن يكون موقفنا من التراث القديم لا موقف المهاجم أو المدافع، بل موقف الناقد والمطور؛ النقد عن طريق وصف نشأة التراث في الظروف القديمة، والتطور طبقا لحاجات العصر والظروف الجديدة. والموقف من التراث الغربي ليس أيضا موقف المدافع أو المهاجم، بل موقف الناقد والراد لهذا التراث إلى حدوده الطبيعية: النقد؛ بوصف نشأته المحلية والقضاء على أسطورة عالميته، والرد؛ لتحجيم هذا التراث لإفساح المجال للإبداع الذاتي للشعوب. والموقف من الواقع ليس بالعزلة عنه أو بالتمرد عليه؛ فالعزلة إلى الداخل تتبدى في النفس إحباطا وفي الخلية السرية نشاطا، والعزلة إلى الخارج هجرة مهنية أو معارضة سياسية في العواصم الأوروبية أو تمردا عن طريق الانقلابات العسكرية، أو غضب الجماعات الدينية، أو تشكيل أحزاب تقدمية علمانية لأخذ السلطة. الموقف من الواقع هو فهمه أولا، ومعرفة متطلباته، وسبر مكوناته (الثقافة الوطنية، الجماهير الشعبية) حتى يمكن الالتحام به وتفجير طاقاته القادرة على الوقوف أمام الأبنية الاجتماعية والنظم السياسية التي تقوم على التصورات السلطوية الموروثة. حل أزمة الموقف الحضاري إذن في نقل الموقف من مستواه الخطابي إلى مستواه العلمي، وتحويل المواقف الإيمانية بالقديم أو الانبهارية بالغرب أو الخيالية بالنسبة إلى الواقع، إلى مواقف علمية حضارية تاريخية محكمة؛ حتى ينشأ الفكر في مواقف اجتماعية وحضارية وتاريخية محددة، تكون بالتالي أرضا للفلسفة وتربة للفيلسوف.
رابعا: الموقف من التراث القديم
التراث القديم كله استجابات ذهنية لأجيال سابقة إزاء أحداث عصر مضى، ويكشف عن صراع القوى. ولما كان الصراع يحسم لفريق دون فريق، فقد ساد تراث القوة الغالبة على تراث القوة المغلوبة. وتم تدوين كل شيء في التاريخ والأصول والعقائد، أي في «أيديولوجيات» الشعوب من وجهة نظر الغالب، وحيكت مؤامرات الصمت والتشويه حول تراث المعارضة، فتحول هذا التراث إلى تراث سري كما هو الحال عند الشيعة، أو تراث علني لفته مؤامرات الصمت حتى تهدد بالاندثار مثل تراث الخوارج (المعارضة العلنية من الخارج) وتراث المعتزلة (المعارضة العلنية من الداخل).
لذلك كانت الحلول التي اختارها تراث القدماء، وبقيت محفوظة ومدونة في الكتب القديمة هي حلول ومواقف السلطة من حلول المعارضة. وما نقرؤه في التراث، في حقيقة الأمر، هو نتيجة معركة تم حسمها لصالح الغالب ضد المغلوب.
فلو أخذنا مثلا علم العقائد، لوجدنا أن عقائد الفرقة الناجية قد انتصرت، وهي عقائد السلطة، على عقائد الفرق الهالكة وهي فرق المعارضة كما يعبر عن ذلك حديث الفرقة الناجية.
1
فالله الواحد الذي ليس كمثله شيء والذي لا يرى ويرى كل شيء، ليس هو بالضرورة التصور الوحيد لله كما نعلم من تاريخ العقائد؛ هناك الله الحسي المجسم، محل الحوادث، عند الكرامية والمشبهة على اختلاف فرقهم. وليس بالضرورة أن يكون التصور الأول صحيحا والثاني باطلا؛ إذ يعكس التصوران صراع قوى؛ قوة السلطان الذي ليس كمثله شيء، وقوة المعارضة التي تجعل حركة التاريخ جزءا من الألوهية. أما الصفات التي تجعل الله يسمع ويرى ويبصر كل شيء فقد تمت صياغتها من أجل استخدام سياسي خالص للسلطة التي هي بدورها ترى وتسمع وتبصر كل شيء. والقول بأن العقل الذي لا يستقل بنفسه في المعرفة بها يحتاج إلى النقل، إنما هو دعوى طرحت حتى يمكن عبرها تأويل النقل لصالح السلطة القائمة دون مقياس عقلي واحد شامل ومطرد. وتصوير الإنسان ككائن ليست لديه القدرة على الفعل، وتعليق مصيره بإرادة أخرى إنما هو من أجل نفي قدرته واستقلاله، وجعله باستمرار تابعا لغيره معتمدا عليه. وجعل النبي هو الوصي على العقل ليحال دون استقلال الشعور عقلا وإرادة، والقول بأن النبوة تثبت بالمعجزات، هو من أجل عدم الالتفات إلى بنية الوحي الداخلية كنظام للعلم، أو رؤية مبادئه الاجتماعية والسياسية التي تقوم على رعاية الصالح العام. كما أن القول بأن المعاد خارج العالم هو من أجل أن يؤسس الإنسان ملكوته خارج العالم، ويعد له بعد الموت. أما داخل العالم وقبل الموت فهو حق السلطة القائمة لا ينازعها فيه أحد. والقول بأن الفعل ليس شرطا للإيمان إذ يكفي القول بل والتمتمة بالشفتين، إنما طرح حتى لا يكون الفعل موجها ضد السلطة القائمة فتصفي المعارضة، وحتى لا يحاسب الحكام على أعمالهم ما داموا يتشهدون. والإمامة التي وإن كانت بالاختيار إلا أنها تظل محصورة في قريش إنما هي كذلك حتى يقتصر الحكم والسلطة على فئة معينة من الأشراف أو من الضباط، من الملوك أو الأمراء. علم العقائد إذن اختيارات سياسية محضة وليس علما مقدسا. وكل ظروف تفرض اختياراتها. وقد تتم تحت ظروفنا الحالية اختيارات أخرى. قد يكون من صالح الأمة الآن الدفاع عن الله وتصوره باعتباره أرضا درءا للاحتلال وتحريرا للأرض، بل وتأصيلا للوحي في «إله السموات والأرض»،
رب السموات والأرض [الإسراء: 102]،
وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله [الزخرف: 84]. كان الخطر قديما على التوحيد كتصور في عصر الفتوح، وأصبح الخطر الآن على الأرض في عصر الهزائم. دافع القدماء عن الواحد الحق ضد مخاطر الواحد الرياضي عند فيثاغورث، والواحد الميتافيزيقي عند بارمنيدس، والواحد الأنطولوجي الكوني عند أفلوطين، أما الآن فالواحد يتجلى في الدفاع عن وحدة الأمة ضد تجزئتها، ويتجلى في الوقت نفسه في إثبات التعددية ضد أحادية الطرف التي تعتمد على الواحد القديم دفاعا عن الحرية والديموقراطية وحق الاجتهاد. ربما يكون «الأصلح» الآن هو حرية الاختيار وخلق الأفعال عند المعتزلة وليس الكسب الأشعري، وإثبات استقلال العقل والإرادة، وليس تبعيتهما أو قصورهما. وربما يكون الأصلح اختيار الخوارج في أن العمل جزء لا يتجزأ من الإيمان، وليس اختيار المرجئة أو اختيار الشيعة بل رأي أحمد بن حابط في أن النعيم والعذاب في هذه الدنيا وليس خارجها. أيهما أفضل؛ الصلاح والأصلح والغائية في الأفعال أم اللامعقول والعشوائية؟ ربما يكون اختيار المعتزلة والخوارج رفض القرشية أصلح لنا من اختيار الأشاعرة حتى لا تحتكر السلطة فئة معينة. إذا كان القدماء قد استعملوا حديث الفرقة الناجية ضد الخصوم السياسيين؛ فإن جيلنا ينقده - كما فعل ابن حزم من قبل - من أجل الانتقال من الفرقة المذهبية إلى الوحدة الوطنية، وللحفاظ على حق كل فرقة في الاجتهاد، وأن للمخطئ أجرا وللمصيب أجرين، وأن الصواب متعدد في النظر، واحد في العمل كما قرر الأصوليون، أو في لغة عصرنا: السماح باختلاف الأطر النظرية والاتفاق على حد أدنى من برنامج موحد للعمل الوطني.
وإذا كانت علوم الحكمة القديمة قد تسرب إليها الإشراق الصوفي بحيث تركزت نظرية المعرفة والسعادة فيها على الاتصال بالعقل الفعال والقرب منه والاتحاد به، صارت الطبيعيات مقدمة للإلهيات أو هي «إلهيات مقلوبة»، والمنطق صوري لا حياة فيه ولا جدل ولا صراع ولا واقع ولا بشر، والفضائل النظرية فيها أفضل من الفضائل العملية، فقد تكون مهمة الحكيم اليوم التخلص من الإشراقيات القديمة دفاعا عن العقل، مع النظر إلى الطبيعة نظرة علمية خالصة، مميزا بين الفكر العلمي وبين الفكر الديني، واختيار منطق حسي طبيعي تجريبي مادي كاختيار الأصوليين، وإعطاء الأولوية للقيم العملية على القيم النظرية، وللشعوب والمؤسسات على خصال الرئيس وصفات الإمام.
لقد نشأت علوم التصوف عند القدماء كرد فعل على حياة البذخ والترف وتكالب الناس على الدنيا، وحرصهم على الثروة والجاه، وبعد اليأس من تغيير العالم عقب استشهاد الأئمة من آل البيت، وانتهاء المقاومة الخارجية. وهنا لم يتبق إلا النفس، فليعمل المرء على خلاص النفس إن صعب خلاص العالم، وعلى التغيير من الداخل إن استحال تغيير الخارج، وإنقاذ الفرد إن استعصى إنقاذ المجتمع، وإقامة ملكوت السموات خارج العالم إن استحالت إقامته في هذا العالم، وتصوره بالخيال إن استحال تحليل الواقع بالعقل. لقد تحول جدل الطبيعة والمجتمع والتاريخ إلى جدل عواطف وانفعالات كما هو واضح في حالات الصوفية؛ الصحو والسكر، والغيبة والحضور، الخوف والرجاء، الفقد والوجد. وظهرت القيم السلبية باعتبارها الطريق إلى الخلاص القريب كما هو واضح في مقامات الصوفية مثل الصبر، والورع، والرضا، والتوكل، والشكر، والقناعة والزهد.
والآن تغيرت الظروف، فلم يعد الأمر ميئوسا منه، ولم تنته المقاومة الفعلية من الداخل أو من الخارج، ولم يستشهد منا آلاف الأئمة دفاعا عن الشرعية. هناك إمكانية لتغيير العالم وإقامة ملكوت الله على الأرض، وتحويل الوحي إلى نظام مثالي للعالم. الجماهير حاضرة، والطلائع الجديدة متشوقة، والغضب والمداراة والحسرة، والإحساس بالظلم والهوان يعم الجميع.
وإذا كان علم أصول الفقه القديم هو الوحيد الذي استطاع أن يحكم استعمال العقل وأن يضع منطق اللغة وأن يقنن السلوك العملي وأن يلتزم بقضايا الناس والمصالح العامة، فإنه اليوم أقل العلوم تأثيرا في حياتنا، ولا يدرس في جامعاتنا باستثناء كليات الحقوق كفرع للشريعة بالرغم من تنبيه رواد الفلسفة الأول عليه.
2
ومع ذلك فقد أعطى القدماء الأولوية للنص على الواقع كما هو الحال في ترتيب الأدلة الشرعية الأربعة دفاعا عن النص الجديد في مجتمع قديم. وقد تكون مهمتنا اليوم إعطاء الأولوية للواقع على النص دفاعا عن الواقع في عصر لا يعتمد إلا على علوم الواقع ويعاني من النص.
3
فإعطاء الأولوية للاجتهاد ولإجماع الأمة على المصدرين النصيين يعطي العلماء والباحثين جرأة على الواقع وقدرة على التشريع؛ رعاية لمصالح الناس مطورين لمفهوم «المقاصد» عند الشاطبي ومعتمدين عليه.
وقد تركت العلوم النقلية لمعاهدنا الدينية تدرسها كما تركها القدماء دون أن تساهم كليات الآداب والعلوم الإنسانية في تطويرها وتحويلها إلى علوم نقلية عقلية مثل العلوم الأربعة الأولى، أو تحويل الجميع إلى علوم عقلية خالصة مثل العلوم الرياضية والطبيعية والإنسانية. وتركت في أقسام اللغة العربية وآدابها وفي أقسام الدراسات الإسلامية كما هي، دون تحوير أو تبديل، تدعمها أنظمة الحكم، وتعممها القوى المحافظة على كل الأقسام - بما في ذلك أقسام اللغات الأجنبية - حماية للطالب من المذاهب الهدامة ومن الإيغال في الفكر، كما كانت الأنظمة الثورية تفرض الاشتراكية العربية والمقررات القومية من قبل. ومع أن هذه العلوم نشأت لغايات معينة حفاظا على نصوص الوحي بعد التدوين ونجحت في ذلك عن طريق النقد الخارجي للروايات، فإنها بالنسبة لجيلنا علوم في حاجة إلى تطوير عن طريق النقد الداخلي للمتون؛ إما بتحليل الأشكال الأدبية أو بتحليل المضمون.
4
وبالتالي يمكن تحديد غايات جديدة لها لتطويرها.
فعلوم القرآن قد وضعت موضوعات السور المكية والمدنية، أسباب النزول، الناسخ والمنسوخ ... إلى آخر ما هو معروف من أبواب علوم القرآن في «الإتقان» للسيوطي مثلا، ولكن هناك بعض المسائل التي فقدت دلالتها؛ مثل: هل البسملة جزء من السورة أم لا؟ هل الفاتحة أم الكتاب أم لا؟ هل
قل
جزء من الآية أم لا؟ وهي كلها مسائل مرتبطة بعصر التدوين قبل التقنين. وقد تم تقنين القرآن الآن قراءة وحفظا وكتابة وتلاوة. هذه إذن موضوعات أدت دورها وانتهت كمادة للعلم، ولن يكتشف الآن أحد قراءة جديدة منسية، أو آية أو سورة جديدة سقطت سهوا. وهناك مسائل أخرى كانت لها غاية في عصرها عند إثارتها مثل معرفة المكي والمدني، وأسباب النزول، والناسخ والمنسوخ، وأصبح لها الآن بالنسبة لنا دلالات مغايرة وربما أعمق وأدل. فإذا كانت الغاية من التمييز بين المكي والمدني ترتيب السور فإن المكي بالنسبة لنا يحتوي على تصور للعالم، بينما يحتوي المدني على النظام، والتصور سابق على النظام، والنظام تال للتصور. وإذا كانت أسباب النزول عند القدماء تعني معرفة الأصل حتى يتم عليه قياس الفرع، فإنها تعني عندنا أولوية الواقع على الفكر.
5
وإذا كانت معرفة الناسخ والمنسوخ عند القدماء تهدف إلى معرفة الأحكام، فإنها تعني بالنسبة لنا التطور في الزمان، وإعادة صياغة أحكام الأفعال طبقا لقدرات الإنسان وطاقاته.
أما علوم التفسير فقد خضعت في حقيقة الأمر لباقي العلوم الأخرى؛ علوم اللغة أو التاريخ أو الحكمة أو الكلام أو التصوف أو الفقه. فخرجت تفسيرات لغوية وتاريخية وفلسفية وكلامية وفقهية. ولم يظهر التفسير الاجتماعي إلا مؤخرا في حركات الإصلاح. كما لم يظهر التفسير النفسي-الاجتماعي أيضا إلا مؤخرا، عندما دعت الحاجة إلى إعادة الوحي إلى قلوب الناس وشعور الأمة.
6
لقد جمعت كل هذه التفسيرات معلومات تاريخية صرفة، فحولت التفسير إلى تاريخ، أو جعلت المعلومات موجهة نحو علم معين من العلوم العقلية أو النقلية، وغلب عليها جميعا التفسير الطولي، سورة بسورة، وآية بآية، فتتقطع الموضوعات وتتبعثر، ولا يكون لها إطار نظري واحد. إن مهمتنا اليوم هي استئناف التفسير النفسي الاجتماعي؛ النفسي من أجل التأثير على الناس وإحياء العقيدة في القلوب، والاجتماعي من أجل وضع مصالح الأمة في قلب النص وقراءة احتياجاتها فيه، وقد كانت من قبل أساس الوحي على ما هو معروف من مقاصد الشريعة عند القدماء. بل إن علينا إضافة التفسير السياسي للمساهمة في حل إشكال العصر وتمزقه بين المحافظة الدينية وبين التقدمية العلمانية، وبعد أن برز «الإسلام السياسي» كبديل مطروح - نظري وعملي - بعد الصحوة الإسلامية الحالية التي فجرتها الثورة الإسلامية في إيران.
7
أما علوم الحديث فقد كان الهدف منها عند القدماء ضبط الرواية من خلال السند والعلوم المخصصة والموضوعة لذلك؛ مثل علم ميزان الرجال أو علم الجرح والتعديل. وكان هذا طبيعيا في عصر العلم فيه رواية ونقل، والضبط فيه من خلال شعور الرواة. ولكن مهمتنا اليوم إعادة ضبط الرواية من خلال المتن والأشكال الأدبية للنص ومقارنته بالأمثال العربية القديمة، ومعرفة مقدار ما فيه من خصوص بالنسبة إلى عموم القرآن، وتطبيق شروط التواتر الأربعة، وفي مقدمتها الإخبار عن حس حتى يمكن تخليصه مما علق به من آثار شعبية ما زالت تؤثر في خيال العامة.
أما علوم السيرة فقد نشأت بدافع جمع المعلومات التاريخية عن الشخصيات وأولها بطبيعة الحال شخصية الرسول؛ اعتمادا على بعض الأحاديث الضعيفة خاصة فيما يتعلق بالفترة السابقة على حياته وما بعد موته، وربما تحت تأثير أنماط دينية سابقة تتعلق بحياة الأنبياء قبل البعثة وفي مرحلة الطفولة وبعد البعث والصعود إلى السماء. لقد درجت علوم السيرة على أن تقرأ الحاضر في الماضي، وتخلع على النبي ضروب البطولة ونسج الخيال. وأصبحت المعجزة عملا رئيسيا بعد أن كانت جزءا من تاريخ النبوة وإحدى وسائل الإقناع السابقة. تحولت الرسالة إلى شخص، وتركزت النبوة في شخص النبي مع أنه مجرد وسيلة لتبليغ الوحي. وقد يكون هذا أحد أسباب التشخيص في حياتنا القومية وأحد أسباب عبادة الأشخاص. إن مهمة دارس السيرة اليوم وكاتبها هي العودة من الرسول إلى الرسالة، ومن النبي إلى النبوة، ومن الشخص إلى المبدأ، فليس النظام هو الزعيم ولا الدولة هي رئيسها.
8
وإذا كان علم الفقه القديم قد ركز على العبادات دون المعاملات في عصر كانت العبادات فيه هي الجديد والمعاملات هي القديم، كما ركز على المسائل الافتراضية النظرية، وليس على المسائل الواقعية العملية وذلك تركا منه للعالم إلى السلطان، وتركا للعلاقات الاجتماعية للنظام، وإشغالا منه للناس بما لا يفيد، وبمسائل لا ينتج عنها عمل؛ تفريغا للطاقة، وإبعادا للنشاط؛ فإن مهمة الفقيه اليوم إعادة الاختيار من أجل تأسيس فقه المعاملات كما تأسس فقه العبادات من قبل، ومن أجل إعطاء الأولوية للمسائل العملية الواقعية على المسائل الافتراضية النظرية، ومن أجل تأسيس فقه الطبيعة والوجود الإنساني كما أسس القدماء فقه الأحكام.
أما العلوم العقلية الخالصة؛ سواء العلوم الرياضية (الحساب، الهندسة، الجبر، الموسيقى، الفلك)، أو العلوم الطبيعية (الطبيعة، الكيمياء، النبات، الحيوان، الطب، الصيدلة)، أو العلوم الإنسانية (اللغة، الأدب، الجغرافيا، التاريخ)؛ فإنها لم تترسب في وجداننا القومي ترسب العلوم العقلية النقلية الأربعة، أو العلوم النقلية الخمسة؛ لذلك توقفت العلوم الإنسانية وحلت محلها العلوم الشرعية، وتوقفت العلوم الرياضية والطبيعية، وحل محلها النقل من الغرب. لم نعد نساهم في تاريخ العلم، وتحول العلم عند القدماء إلى موضوع جامعي «تاريخ العلوم عند العرب» كنوع من الاعتزاز بالماضي؛ تعويضا عن مآسي العصر في النقل عن الآخرين ، واستهلاكنا للمعرفة دون إبداع لها، ونقلنا للتقنية دون اكتشاف لها. وكررنا صورتنا في كتب الاستشراق كحلقة اتصال بين علم اليونان وبين علم الغرب الحديث، وكنقلة لا نحسن فهم ما ننقل، بل نخلط ما ننقل ونزيد عليه من موضوعات الإيمان. قد تكون مهمتنا اليوم هي البحث عن الصلة بين التوحيد وبين حساب اللامتناهي أو الفن العربي، والصلة بين واقعية الإسلام ونظرته الحسية المادية، وبين نشأة علوم الطب والكيمياء والصيدلة والحيوان والنبات، والصلة بين الإنسان سيدا للكون سخرت قوانين الطبيعة لصالحه وبين التقنيات الإسلامية واختراع الآلات.
وبالإضافة إلى هذا الوصف التفصيلي للعلوم ودورنا في إعادة بنائها وتطويرها من واقع المسئولية، فإن القدماء «هم رجال ونحن رجال، نتعلم منهم ولا نقتدي بهم».
9
رسالتنا هي التبليغ والتعبير وإيصال الحقيقة للناس، وتقديم التراث لهم يقرءون فيه حياتهم، ويجدون فيه هويتهم؛ لذلك يجد الباحث نفسه اليوم في مواجهة قضية اللغة والمصطلحات، ومستويات التحليل، والمحاور والبؤر الحضارية وإعادة الاختيار بين البدائل القديمة.
إن التحدي الذي يواجه الباحث اليوم هو القدرة على تجاوز اللغة القديمة ومحاولة إعادة بنائها، والتخلي عن أشكالها القديمة ووضع معانيها في ألفاظ جديدة أكثر إغراء للناس، وأكثر قبولا لدى الشباب والطلاب؛ فغالبا ما تستهوي المفكرين اليوم ألفاظ الحرية والعدالة، والمساواة والتقدم، والشعب والمجتمع والتاريخ، ولا تستهويهم الألفاظ القانونية القديمة التي توحي بالغرض؛ مثل الواجب، والحلال، والحرام، أو ألفاظ العبادات؛ مثل الصلاة، والصيام. وما أسهل التعبير عن المضمون القديم بلفظ جديد! فالصلاة تكشف عن الفعل في الزمان، عن الفتور والتراخي، وعن الحال والقضاء، والزكاة مشاركة في الأموال، والصيام إحساس بالآخر. الواجب هو الفعل الملتزم، والحرام هو الفعل الذي ينتج عنه ضرر وسلب، وعدم وفناء، والمندوب هو الفعل التطوعي، والمكروه هو الإرادي، والمباح هو الطبيعي. ليس الأمر مجرد تغيير لفظ بلفظ، بل تجديد الفكر وتطوير الحضارة، وهو ما مارسه القدماء من قبل خاصة الحكماء حين تمثلوا الغرباء، وأحالوا الثقافات القديمة روافد أصلية لحضارتهم. إن اللغة الجديدة وحدها هي القادرة على مخاطبة الناس وعقد حوار بينهم؛ فهي لغة التفاهم والخطاب المشترك.
إن مهمة الباحث حاليا هي إعادة النظر أيضا في مستويات التحليل. هل يريد الإبقاء على المستويات القانونية والإلهية والطبيعية، أو يريد تغيير هذه المستويات التي لم تعد قائمة في شعور الجماعة ليقوم بالتحليل على مستويات أخرى؛ مثل المستوى النفسي والاجتماعي. هذا إذا أردنا اكتشاف التراث كمخزون نفسي لدى الجماهير على المستويين؛ المستوى الحضاري والتاريخي، وإذا أردنا أن نعرف مع أي نمط حضاري نحن نتعامل، وفي أية مرحلة من التاريخ نحن نعيش؛ فبهذا يتم وضع التراث القديم في منظور تاريخي داخل الوعي الحضاري كمرحلة إبداع أولي (القرون السبعة الأولى)، تلتها مرحلة تدوين ثانية (القرون السبعة التالية)، وبالتالي فإننا على مشارف دورة ثالثة تتمثل في إعادة بناء القديم بضرب من التأويل والقراءة؛ من أجل إبداع جديد.
إن مهمة الباحث أيضا هي إعادة النظر في المحاور والبؤر الحضارية القديمة. كان الله محورا أساسيا عند القدماء، وكان الوحي بؤرة الحضارة، منه تخرج العلوم في دوائر متداخلة حوله. وكان ذلك طبيعيا وسط الحضارات والديانات القديمة التي كادت تفقد «التعالي» و«الوحي». ولكن هذا المحور وهذه البؤرة قد تم اكتسابهما الآن، بل أصبح حضورهما على حساب محاور وبؤر أخرى. ضاع الإنسان أمام حضور الله، وضاع التاريخ أمام حضور الوحي. قد تكون مهمة الباحث اليوم هي إعادة ترتيب المحاور والبؤر، واكتشاف الإنسان والتاريخ؛ إذ يضرب بنا المثل للمجتمعات اللاإنسانية التي لا تعرف الزمان. وترسل إلينا لجان الأمم المتحدة لدراسة أوضاعنا بالنسبة إلى حقوق الإنسان. كما أننا خارج التاريخ، ولا نعلم في أية مرحلة من التاريخ نحن نعيش، وليس لدينا تراكم تاريخي. يبدأ كل جيل وينتهي، ثم يبدأ الجيل الثاني كما بدأ الأول من الصفر. ولا يكاد يمر جيلان أو ثلاثة حتى يبدأ القرص في السقوط؛ نهبط بمجرد أن نعلو، لقد عمرت نهضتنا الأخيرة أربعة أجيال فحسب قبل أن نشاهد تعثر النهضة وكبوة الإصلاح.
10
ومهمة الباحث أيضا هي إعادة الاختيار بين البدائل. فقد تم اختيار البدائل القديمة لحسم الصراع لصالح السلطة. يستطيع الباحث اليوم أن يعيد الاختيار بينها لصالح الجماهير، فكلها على مستوى واحد من الاجتهاد والنظر، دون تكفير لأحدها وتصويب للآخر. وربما يمكنه أن يجد بدائل جديدة تماما لم يطرحها القدماء بدافع المسئولية التاريخية، وبروح الدقة العلمية، مع مزيد من الثقة بالنفس والوعي بالواقع والجرأة في التشريع.
11
بهذا الموقف من التراث القديم يمكن تحقيق عدة منافع؛ منها: (1)
وضع الأستاذ والطالب وسط أحداث العصر، فيتحول الفكر بالتالي إلى واقع، والتراث إلى حياة، والفلسفة إلى رسالة، والعلم إلى قضية، وتمحي الثنائية في الشخصية بين الباحث والمواطن، فلا يجد الطالب نفسه مضطرا إلى الاختيار بين أن يسمع أستاذا مكتسبا بالعلم يبيع الكتاب المقرر ويفرضه، فيقبل الطالب هذا الأمر من أجل لقمة العيش المتمثلة في حصوله على الشهادة، وبين قلبه وحسه وعقله المحاصر والمهموم بقضايا الوطن؛ سواء في الجماعة الدينية أو في الحزب السري، أو في الغضب والتمرد، فينتهي بهجرة إلى الخارج أو هجرة إلى الداخل، أو إجهاض نهائي يؤدي إلى الانهيار النفسي والانتحار الفعلي، كما هو الحال عند بعض المفكرين والأدباء. (2)
نزع سلاح التراث من أيدي الخصوم في الداخل وفي الخارج، ومن ثم القضاء على أهم معوقات التقدم، وذلك ببيان نشأة تراث السلطة، وإجهاض تراث المعارضة؛ أعني مؤامرة التشويه لتراث المعارضة والصمت عنه، فتدخل معارك التراث بالتالي المعارك من قميص الأشعري: الواحد الذي يسمع ويرى ويبصر ويفعل كل شيء، ومن جبة الغزالي: الواحد الذي منه يفيض كل شيء، ومن جلباب ابن سينا: الواحد الذي إليه يرجع كل شيء، ومتاهات أجهزة الإعلام ودورها في تزييف الوعي القومي كما هو الحال في متاهات الفقه الافتراضي، وتأويل النصوص. فما معارك التأويل في حقيقة الأمر إلا صراع اجتماعي مقنع بثقافة الجماهير، وبثقل التراث في وجدان العصر. (3)
إبراز تراث الشعب، تراث المصلحة، وهو أكبر دافع على التقدم؛ حتى لا تحدث انتكاسات للثورة أو يقع نكوص في التقدم: خطوة إلى الأمام وخطوتان إلى الخلف، وبالتالي يمكن تقوية روح الشعب، ونضال الجماهير، بإعطائهما تراثا ثوريا يكون هو البديل المؤقت عن أيديولوجيتها الثورية، يعطيها نظرية تنقصها؛ وذلك من خلال تثوير ثقافتها الوطنية. (4)
وقف التغريب الذي حدث للخاصة التي انفصلت عن التراث؛ لأنها لم تجد نفسها من خلاله، ولم تستطع تجاوز لغته القديمة أو اعتبار نفسها مسئولة عنه فلم تغير مستوياته، أو تعدل محاوره وبؤره، أو تعيد الاختيار بين البدائل. بل قبلت كضرورة لا مفر منها مزاحمة الفكر الغربي لتراث الأمة ومكونها الرئيسي حتى نشب العداء بين أنصار القديم وأنصار الجديد. يمكن إذن عن طريق هذا الموقف من التراث القديم القضاء على الازدواجية في الشخصية القومية، وهذا «الفصام النكد» في ثقافتها الوطنية. (5)
محو التفرقة بين الخاصة وبين العامة، بين ثقافة الخاصة وبين ثقافة الجماهير، وبالتالي تنتهي عزلة المثقفين وركود الثقافة الشعبية. فتتوحد اللغة، ويعاد بناء الثقافة الوطنية، أي ثقافة الأمة - خاصة وعامة - بروح العصر ولغته، فيستحيل بالتالي على أية سلطة الاستحواذ على الخاصة ووضعهم في تناقض مع العامة، وتجنيد المثقفين ضد مصالح الشعوب، ومحاصرة العامة بالخاصة، وتزييف وعي الجماهير من خلال وضع أجهزة الإعلام في أيدي مثقفي السلطان. (6)
تجنيد الجماهير، فتنزل بثقلها إلى الساحة، وتأخذ مصائرها بأيديها. فما الفائدة من تدريس فلاسفة التنوير ودورهم في إشعال الثورة الفرنسية وتحرير الأذهان بأفكار الحرية والعدالة والمساواة، حتى استولت جماهير باريس على سجن الباستيل؟ وما الفائدة من تدريس أفكار الأفغاني دون ذكر لثورة عرابي، أو أفكار الطهطاوي ولطفي السيد، دون إشارة إلى ثورة 1919م؟ ماذا أعددنا نحن للأجيال القادمة؟ كان الضباط الأحرار بلا مفكرين أحرار، ثم صاروا ضد المفكرين الأحرار من الجيل السابق ومن هذا الجيل، حتى اختفى المفكرون الأحرار من جيلنا، وأصبحنا كلنا موظفين لدى الثورة، نقف خلفها بدل أن نكون في مقدمتها، مبررين لقراراتها بدل أن نكون ناقدين لها.
12
وعلى هذا النحو يمكن حل قضايا التغيير الاجتماعي؛ ففي الشعوب التراثية لا يمكن أن يتغير شيء في الواقع ما لم يتغير في الوعي أولا. وإن أبنيتنا الاجتماعية والاقتصادية والسياسية كلها لتقوم بالأساس على أبنيتنا النفسية وقوالبنا الذهنية وتصوراتنا للعالم. وقد تكون نظمنا التسلطية القائمة على الحاكم الواحد والرأي الواحد ترسبا تراثيا عند القادة، ونفسيا عند الجماهير؛ من «آراء أهل المدينة الفاضلة»، وصفات الإمام. وقد تكون الدعامة النفسية للنظم البيروقراطية هي ما ترسب في وعينا القومي من نظرية الفيض أو الصدور، وأنه كلما صعدنا إلى أعلى وصلنا إلى أعلى مراتب الشرف، وكلما نزلنا إلى أسفل صرنا إلى أدنى مراتب الشرف. وقد يكون ما يحدث بيننا في سلوكنا القومي من أفضلية للجامعات على المعاهد التطبيقية العليا والمدارس الفنية المتخصصة قائما على بناء ذهني ونفسي موروث من أولوية القيم النظرية على القيم العملية في التراث.
لا شيء أسهل من تغيير الأبنية التحتية بانقلابات عسكرية وإجراءات ثورية وقرارات إدارية، ولكن لا شيء أصعب من الحفاظ على هذه الإنجازات والإبقاء على الثورة الدائمة. إن التغيير الاجتماعي بلا تغيير مواز في الثقافة، والعمل السياسي دون منظور تاريخي مجرد ضرب في الهواء. لقد سادت الأشعرية الكلام، والإشراقية التصوف والحكمة، والصورية الفقه أكثر من ألف عام، من القرن الخامس حتى اليوم، وعاش الاعتزال الكلامي والرشدية الفلسفية ونضال الصوفية والواقعية الفقهية أربعمائة عام؛ من القرن الثاني حتى القرن الخامس، قبل القضاء على العلوم العقلية لحساب التصوف في محنة القرن الخامس. وأصبح وعينا القومي منذ ذلك الوقت غير متعادل الكفتين، ألف عام من المحافظة الدينية، وأربعمائة عام من العقلانية. وما لم تتعادل الكفتان، بضغط الألف عام إلى سبعمائة أو أقل، وإطالة الأربعمائة عام أو أكثر فسيكون من الصعب أن تقوم ثورة أو أن يعقد حوار. في هذه اللحظة فقط تبدو إمكانية الثورة، أعني حين تضغط المحافظة إلى أدنى ترسب ممكن، وتمتد العقلانية والطبيعية إلى أقصى حد ممكن. هنا فقط سيتحرك التاريخ من جديد، وتبدأ مرحلة ثالثة بعد الأولى التي اكتملت فيها من القرن الأول حتى السابع، وبعد الثانية التي حافظت فيها على نفسها من السابع حتى الرابع عشر. فيكون جيلنا معاصرا لمرحلة ثالثة وممهدا لها؛ إذ يجمع فيها بين تأويل القديم وبين إبداع الجديد.
خامسا: الموقف من التراث الغربي
لا تعني الدعوة إلى تحجيم الغرب ورده إلى حدوده الطبيعية،والقضاء على أسطورة عالميته وبيان محليته مثل أي تراث آخر، وأن عصر الهيمنة الأوروبية هو الذي أفرز هذه الهيمنة الثقافية؛ لا يعني كل ذلك أي دعوة إلى الانغلاق أو العودة إلى جنون الذات أو رفض التعرف على الغير والانفتاح على الآخر؛ فتلك لم تكن سنة القدماء الذين تفتحوا على الثقافة المجاورة، وفي مقدمتها اليونانية، وتمثلوها وعرفوها واحتووها داخل الإطار الحضاري الخاص، بل يعني أن فترة التعلم قد طالت، وأن فترة التتلمذ قد امتدت، فنحن نتعلم منذ قرنين وما زالت مرحلة الإبداع بعيدة في الأفق. إن التعلم من الغير وسيلة لا غاية، ومرحلة وليس تاريخا، ومجرد باعث ومحرك وليس بديلا عن الشيء ذاته. لقد تعلم القدماء قرنا واحدا هو القرن الثاني، وما إن أتى القرن الثالث حتى ظهر الكندي أول الحكماء بادئا علوم الحكمة. لقد كانت الدعوة إلى الانفتاح على الغرب لها ما يبررها في أوائل القرن الماضي نظرا إلى التحدي الحضاري الذي كان يمثله الغرب علما وصناعة وحرية وديموقراطية، ودستورا ونظما برلمانية، ونهضة وتقدما وعمرانا. ولكن نظرا إلى طول المدة انقلب الانفتاح إلى الضد وهو التقليد، والتعلم إلى تبعية. فنشأت ظاهرة «التغريب» في حياتنا الثقافية وفي وعينا القومي، والتي تبدو في الآتي: (1)
اعتبار الغرب النمط الأوحد لكل تقدم حضاري، ولا نمط سواه، وعلى كل شعب تقليده والسير على منواله، وقد أدى هذا بالتالي إلى إلغاء خصوصيات الشعوب وتجاربها المستقلة، واحتكار الغرب حق إبداع تجارب جديدة، وأنماط أخرى للتقدم. (2)
اعتبار الغرب ممثل الإنسانية جمعاء، وأوروبا مركز الثقل فيه. تاريخ العالم هو تاريخ الغرب، وتاريخ الإنسانية هو تاريخ الغرب، وتاريخ الفلسفة هو تاريخ الفلسفة الغربية، الغرب فيه يصب كل شيء. ما قبله بدايات التاريخ البشري كما يقول هردر، وما بعده عصر الفضاء الذي يمتلكه الغرب. عصور الغرب هي عصور الكل، فالعصر الوسيط هو العصر الوسيط لكل العالم، والعصر الحديث هو العصر الحديث لكل الشعوب، مع أن وسيطنا هو نهضتنا، وحديثنا هو تخلفنا، ومستقبل الغرب هو نهضتنا. (3)
اعتبار الغرب المعلم الأبدي و«اللاغرب» هو التلميذ الأبدي، وأن العلاقة بينهما أحادية الطرف؛ أخذ مستمر من الثاني، وعطاء مستمر من الأول، استهلاك مستمر من الثاني، وإبداع مستمر من الأول. ومهما تعلم التلميذ فإنه يكبر تلميذا، ومهما شاخ الأستاذ فإنه يظل معلما. ولن يلحق التلميذ بالأستاذ لأن معدل الإبداع أسرع بكثير من معدل الاستهلاك، فيجري التلميذ لاهثا وراء المعلم ولن يلحق به، وكلما جرى ازدادت المسافة اتساعا، حتى يدرك الصدمة الحضارية فيقع، ويدرك قدره، ويرى مصيره. (4)
رد كل إبداع ذاتي لدى الشعوب غير الأوروبية إلى الغرب؛ فكل دعوة إلى العقل ديكارتية أو كانطية، وكل دعوة إلى الحرية ليبرالية غربية، وكل نضال من أجل العدالة الاجتماعية ماركسية، وكل اتجاه نحو العلم وضعية، حتى أصبح الغرب هو الإطار المرجعي الأول والأخير لكل إبداع ذاتي غير أوروبي، كما كان الحال مع الحكماء الأولين بالنسبة لليونان، فخرج ابن رشد أرسطيا. (5)
أثر العقلية الأوروبية على أنماط التفكير عامة، وعلى كل عقلية ناهضة. فالعقلية الأوروبية هي العقلية التي تضع كل طرفي معادلة في علاقة تضاد مثل: مثالية أو واقعية؟ صورية أو مادية؟ ذاتية أو موضوعية؟ فردية أو اجتماعية؟ عقلانية أو حسية؟ كلاسيكية أو رومانسية؟ وقد أثرت فينا العقلية الأوروبية حتى نقلنا أنصاف الحقائق هذه إلى ثقافتنا وتراثنا وتحزبنا لها حيث لا أحزاب، واخترنا بينها حيث لا اختيار، وجعلنا أنفسنا أطرافا في معركة لم نخضها. (6)
تحول ثقافتنا إلى وكالات حضارية وامتداد لمذاهب غربية، اشتراكية، ماركسية، وجودية، وضعية، شخصانية، بنيوية، حتى لم يعد أحد قادرا على أن يكون مفكرا أو عالما أو حتى مثقفا إن لم يكن له مذهب ينتسب إليه، وتفرقنا شيعا وأحزابا، وضاعت الثقافة الوطنية. الكل يبحث عن الأصالة الضائعة فيهرع إلى الفنون الشعبية. (7)
إحساس الآخرين بالنقص أمام الغرب، لغة وثقافة وعلما، مذاهب ونظريات وآراء، مما يخلق فيهم إحساسا بالدونية قد ينقلب إلى إحساس وهمي بالعظمة، كما هو الحال في الجماعات الإسلامية المعاصرة، وفي الثورة الإسلامية في إيران. وليس هذا إلا ردا على مركب العظمة الدفين في الثقافة الغربية والذي لا يخلو من عنصرية ثقافية، صريحة أو ضمنية. (8)
خلق بؤر وفئات ثقافية معزولة لدى الشعوب غير الأوروبية بحيث تكون مناصرة للغرب وجسرا لانتقاله. وتنتهي هذه الفئة - إذا ما تولت الحكم - بموالاة الغرب، فيتحول التغريب الثقافي إلى عمالة سياسية مما يسبب ثورات الشعوب الوطنية على الفئة كلها؛ تأكيدا للهوية والثقافة الوطنية في جدلية تاريخية بين الأنا والآخر.
إن التراث الأوروبي في حقيقة الأمر إنما يعبر عن الوعي الأوروبي، وهو موضوع فلسفي واحد ظهر في الفلسفة المعاصرة، خاصة في الظاهريات، فلا توجد فلسفات غربية، بل فلسفة أوروبية، تعبر عن وعي أوروبي: تطورا وبناء، تكوينا ورؤية.
ويشمل تطور الوعي الأوروبي نشأته ثم بداية تطوره ثم نهايته. فمن حيث النشأة يجد الوعي الأوروبي أصوله في ثلاثة: الأصل اليوناني الروماني، والأصل اليهودي المسيحي، والبيئة الأوروبية نفسها. ولا يذكر الأصل الشرقي القديم على الإطلاق قبل الأصلين الأولين، ولا يذكر الأصل الإسلامي قبل النهضة الحديثة؛ وذلك لأن الغرب قد اعتبر اليونان أصلا عبقريا على غير مثال؛ إذ لم يسبقهم أحد، وكأن الهند لم تؤسس المنطق الصوري في البوذية، ولم تسهم في نشأة علم الحساب. وكأن فيثاغورس وطاليس لم يكونا على اتصال بالنحلات الشرقية، وكأن أفلاطون لم يدرس الرياضيات في مصر، ولما كان الغرب وريث اليونان فقد ظل نسيجا عبقريا مثله، على غير منوال.
وبالرغم من التباين والخلاف في جوهر كل من اليهودية والمسيحية - كما لاحظ سلسوس من قبل - إلا أن الأصل اليهودي المسيحي قد جمع بينهما ابتداء من الكتاب المقدس، حيث ضم العهد الجديد كخاتمة للعهد القديم، وكنهاية للنبوة واكتمال لها بالرغم من رفض اليهود. ونظرا للتآلف الطائفي العنصري بين الحضارتين اليهودية والمسيحية ضد الحضارات الأخرى، إسلامية كانت أو «بدائية»، فقد أصبحتا مصدرا واحدا. وكأن الإسلام لم يكن تحققا لصدق اليهودية والمسيحية في التاريخ، سواء من حيث الصحة التاريخية للكتب المقدسة أو من حيث التصديق بالعقائد، أو من حيث أحكام السلوك العملي لأهل الكتاب. وكأن الحضارة الإسلامية بعد ترجمتها إلى اللاتينية لم تكن أحد روافد النهضة الأوروبية الحديثة والفلسفات العقلية، وكأن الرشدية اللاتينية لم تساهم في نشأة العلم الحديث في الغرب.
1
ولا يكاد أحد يذكر البيئة الأوروبية نفسها ، كأنما الحضارة الأوروبية حضارة بلا بيئة، نشأت بلا عوامل ودوافع، بلا ظروف وملابسات، سواء فيما يتعلق بطبيعة المعطى الديني الذي كان لديها، مثل عقيدة الاختيار التي كانت موجودة وراء العنصرية والاستعمار، أو الروحانية الغالية والقائلة إن ملكوت السموات ليس في هذا العالم، وإن للداخل الأولوية المطلقة على الخارج، مما سبب رد فعل جذريا تبدى في المادية الفظة، واعتبار ملكوت السموات في هذه الأرض مقررا أولوية الخارج على الداخل. ولا يكاد أحد يذكر أيضا طبيعة السلطة الدينية التي نشأت في الغرب واعتبار أن للوحي مصدرين؛ الكتاب والتراث، الوحي والكنيسة؛ مما تسبب في نشأة السلطة الدينية واحتكارها للتفسير وللعلم، وسيطرتها على السلطة السياسية. وقد أحدث هذا رد فعل مضادا لصالح العلم والعقل والسلطة المدنية، فنشأ الوعي الأوروبي معاديا للسلطة الدينية، داعيا للعلمانية، معاديا للدين باسم العلم والعقل والمدنية. هذه هي الظروف التي نسج الغرب حولها مؤامرة الصمت ليجعل الحضارة الأوروبية نموذجا للحضارة العالمية التي يتعين على كل حضارة أخرى الاقتداء بها. عصرها كل العصور، ومذاهبها كل المذاهب، وتاريخها كل التاريخ، إبداعاتها للتقليد، وتقنياتها للنقل، وكأن علم اجتماع المعرفة لا يطبق إلا على ثقافات الآخرين.
أما من حيث التطور فقد مر الوعي الأوروبي بخمس مراحل: عصر آباء الكنيسة، الفلسفة المدرسية، عصر الإحياء والنهضة، عصر العقلانية والتنوير، ثم عصر العلم والتقنية.
ففي مرحلة آباء الكنيسة تشكل الوعي الأوروبي باعتباره وعيا دينيا أفلاطونيا إشراقيا، تحولت فيه آلهة اليونان إلى آلهة الدين الجديد وملائكته، ونظريات الدين اليونانية إلى نظريات للدين الجديد، وتمت ظاهرة التشكل الكاذب المضاد أي إن المضمون اليوناني الروماني أخذ شكلا مسيحيا، حدث التشكل الكاذب في الجوهر لا في العرض، وفي المضمون لا في الصورة، وفي المعنى لا في اللفظ، وفي الشيء لا في التصور. وقد استغرق ذلك القرون السبعة الأولى التي تشكلت فيها العقائد المسيحية والتي أتى الإسلام بعدها ليتحقق من صدقها .
وفي الفلسفة المدرسية تحولت التعاليم الدينية من الكنائس إلى المدارس، ومن المعابد إلى الجامعات. كما تحول فيها الوعي الديني الأوروبي من الأفلاطونية الإشراقية إلى الأرسطية الطبيعية. وعاد التشكل الكاذب المضاد مرة ثانية، أي أخذ النسق الأرسطي في الحقيقة واستعمل الدين الجديد في الظاهر. وقد ظهر في هذه المرحلة أثر الفكر الإسلامي وامتداده سواء من المتكلمين أو الحكماء؛ تدعيما للتيار العقلاني المدرسي حتى اتحدت الفلسفة بالدين؛ أسوة بالنموذج الإسلامي، وأصبح المسلم نموذجا للفيلسوف في مقابل اليهودي والمسيحي.
وفي عصر الإحياء في القرن الرابع عشر بدأت العودة إلى الأصول، وهو اتجاه إسلامي، بالبحث عن النصوص والتعامل معها مباشرة دون وساطة أحد. وكانت الأصول في الآداب القديمة. وظهر المصدر اليوناني الروماني مخلصا للوعي الأوروبي من الأصل اليهودي المسيحي. وفي عصر الإصلاح الديني في القرن الخامس عشر قامت نفس الحركة للعودة إلى الأصول ولكن في الدين من أجل الإصلاح، والقضاء على سلطة الكنيسة واحتكارها للتفسير والعلم، وتأكيد حرية الإنسان في الفهم والتفسير، ورفض الوساطة بين الإنسان والله، وإعطاء الأولوية للداخل على الخارج، وللأخلاق على العقائد، ولم يكن النموذج الإسلامي بعيدا عن غايات الإصلاح.
وفي عصر النهضة بدأ تأسيس الوعي الأوروبي على أسس جديدة بنقد الموروث حتى يمكن التحرر منه كمصدر للعلم وكقيمة في السلوك، والتحول إلى العقل والطبيعة كبديل عن الوحي والسلطة. ووضع الإنسان مركزا للكون على أنه بدن قبل أن يكون نفسا. فنشأت علوم الأحياء والتشريح والطب الحديثة، ثم أتت العقلانية في القرن السابع عشر تتويجا للعقل الذي أصبح له سلطان على كل شيء: الدين، والفلسفة، والعلم، والسياسة، والاجتماع، والأخلاق، والقانون. وبلغ الوعي الأوروبي أعلى درجة من الشمول والاتساع. ثم أتى عصر التنوير في القرن الثامن عشر بعد تفجير العقل في المجتمع، فاندلعت الثورات، واهتزت الأنظمة، وسقطت العروش والتيجان، وتأسس كل شيء في العقل والطبيعة، وخرجت أفكار الحرية والعدالة والمساواة والتقدم والإنسان والطبيعة والتاريخ، وتحولت الفلسفة إلى ثورة، والفيلسوف إلى كاتب للجماهير وقائد لهم.
ثم أتى عصر الثورة الصناعية عندما تراكم العلم، وظهرت الاكتشافات العلمية والاختراعات الحديثة، وحلت الآلة محل الإنسان في الإنتاج، وظهرت الطبقة العمالية، وقامت الثورات الاشتراكية. ثم أتى القرن العشرون لإحداث ثورة صناعية ثانية: عصر التقنية، وفي الوقت نفسه بداية أزمة العلم، وأزمة الوعي الأوروبي، وبداية النهاية منذ ديكارت حتى هوسرل، منذ الأنا أفكر حتى الأنا موجود، وبالتالي تكون الملحمة قد شارفت على النهاية.
بعد هذا التطور الكمي التراكمي للوعي الأوروبي اخترع بناء خاص اكتمل أيضا في النهاية. فالوعي الأوروبي ذو بناء ثلاثي أشبه بالبواعث أو المقاصد أو الاتجاهات؛ الأول هو الاتجاه العقلاني الذي بدأ في الأنا أفكر في القرن السابع عشر عند ديكارت، واستمر فيه الديكارتيون: اسبينوزا وليبنتز ومالبرانش، ثم تم تأكيده من جديد في الفلسفة النقدية عند كانط. لقد أصبح العقل مشرعا للواقع، والأنا، من جديد، مركزا للعالم كالشمس وسط الكون. ثم تطور العقل عند تلاميذ كانط حتى ابتلع كل شيء: الروح والطبيعة، الحس والذهن، الحضارة والتاريخ حتى بلغ أكبر قدر من الصورية والشمول، وهو بمثابة اتجاه يبدأ من الأنا ويعرج إلى أعلى. والثاني هو الاتجاه التجريبي الذي بدأ من بيكون في المنطق الجديد من أجل تأسيس المعرفة الحسية وصدقها في التطابق مع الواقع، وليس في تطابق الذهن مع نفسه فقط. واستمر التيار نفسه في المدرسة الأنجلو سكسونية: لوك وهوبز وهيوم، الذين طبقوا المذهب الحسي في الدين والأخلاق والاجتماع والسياسة، فيكون هذا بمثابة اتجاه يبدأ من الأنا هابطا إلى أسفل.
ثم نشأت محاولات عديدة للجمع بين التيارين في الفلسفة النقدية عند كانط في ألمانيا، فتصور العقل على أنه حس أولا فذهن ثانيا فعقل ثالثا. التحليل الترنسندنتالي أولا ثم الجدل الترنسندنتالي ثانيا. وقد وضع مشروعا للتوحيد بين القبلي والبعدي صائغا عبارته المشهورة «التصورات بلا حدوس فارغة، والحدوس بلا تصورات عمياء». ولكن التوحيد بينهما قد تم بصورة آلية تركيبية خارجية سكونية مما دعا تلاميذه إلى التوحيد بينهما بصورة حركية جدلية. الحس ونقيضه الذهن، ثم يأتي العقل ليجمع بينهما (هيجل)، أو بطريقة صورية في فلسفة الهوية والتوحيد بين الروح والطبيعة (شلنج )، أو في فلسفة الذاتية والتوحيد بين الأنا واللاأنا من أجل تكوين الأنا المطلق (فشته)، أو في فلسفة الإرادة تعبيرا عن العقل والطبيعة (شوبنهور) ... كما حاولت فلسفة التنوير في فرنسا الجمع بينهما عن طريق النظرة العقلية الحسية للعالم كما هو واضح في دائرة المعارف الفلسفية.
وما إن أتى القرن التاسع عشر حتى بدأ الخصام من جديد بين التيارين المتباعدين، كل واحد يحاول أن يجعل نفسه نمطا لعلوم الإنسان. وظلت الظاهرة الإنسانية متأرجحة بين نمط العلوم الرياضية العقلية تارة، وبين نمط العلوم الطبيعية الحسية تارة أخرى. فنشأت أزمة العلوم الإنسانية، وضرورة صياغة مناهج مستقلة لها؛ حلا لأزمة الصورية والوضعية، وحلا للخلط بين المستويات كما ظهر في السيكوفيزيقا. وهنا ظهر الطريق الثالث، طريق فلسفات الحياة: برجسون، وهوسرل، وشيلر، ودلتاي وغيرهم. كما ظهر فلاسفة الوجود رافضين رفع الوجود الإنساني إلى ما هو أكبر منه وهو العقل، أو حتى رده إلى ما هو أقل منه وهو المادة. أصبح العقل الأوروبي منقسما إلى ثلاثة اتجاهات: فلسفة روح، وفلسفة طبيعة، وفلسفة وجود. وضاعت وحدته الداخلية. وتصارعت فيه المذاهب كلها، كل منها يدعي أنه الحقيقة الكاملة. وحكمها قانون الفعل ورد الفعل، وأخذت العقلية الأوروبية هذا الطابع التقسيمي التجريبي، وصدرته خارجها فقضت على وحدة العقل، خارج الوعي الأوروبي، لدى الشعوب غير الأوروبية.
2
فإذا ما أخذنا هذا الموقف من التراث الأوروبي، ووصفنا الوعي بناء وتطورا على هذا النحو حدث التالي: (1)
السيطرة على الوعي الأوروبي، واحتواؤه بداية ونهاية، نشأة وتكوينا، وبالتالي يقل إرهابه؛ لأنه ليس بالوعي الذي لا يقهر. ويتحول الدارس إلى مدروس، والذات إلى موضوع، وبالتالي لا نصبح ضائعين فيه؛ إذ يمكن للإنسان أن يراه مرة واحدة، وأن ينظر إليه من أعلى بدلا من أن يقبع أسفل منه ويكون السؤال: من الذي سيأخذ الريادة الآن؟ (2)
دراسة الوعي الأوروبي على أنه تاريخ وليس خارج التاريخ. صحيح أنه تاريخ تحرر على مراحل لا يمكن القفز عليها أو تجاوز مراحلها المتوسطة، لكنه مع ذلك تجربة بشرية ومسار حضاري مثل غيره من التجارب. إنه ليس التجربة الوحيدة أو المسار الحضاري الأوحد. بل هو أحد مراحل تاريخ الوعي الإنساني الطويل ابتداء من مصر والصين وحضارات الشرق القديم. (3)
رد الغرب إلى حدوده الطبيعية وإنهاء الغزو الثقافي، وإيقاف هذا المد الذي لا حدود له، وإرجاع الفلسفة الأوروبية إلى بيئتها المحلية التي منها نشأت حتى تظهر خصوصيتها التي أمكن تعميمها من خلال الاستعمار والسيطرة وأجهزة الإعلام، في لحظة ضعف الأنا، وتقليده للأجنبي، واقتصار تحرره على الأرض دون الثقافة. (4)
القضاء على أسطورة الثقافة العالمية واكتشاف خصوصيات الشعوب، وأن لكل شعب نمطه الحضاري الخاص ووعيه المتميز، بل وعلومه الطبيعية وتقنيته الخاصة كما هو الحال في الهند والصين وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، وتطبيق مناهج علم اجتماع المعرفة والأنثروبولوجيا الحضارية على الوعي الأوروبي ذاته. (5)
إفساح المجال للإبداع الذاتي للشعوب غير الأوروبية، وتحريرها من هذا الغطاء الذهني، وهذه البنية العقلية؛ حتى تفكر الشعوب بعقلياتها الخاصة وأطرها المحلية، فتتعدد الأنماط، وتتنوع النماذج. فليس هناك نموذج واحد لكل الشعوب، وتصير العلاقات بين الحضارات علاقات متبادلة وليست علاقات ذات اتجاه واحد. (6)
القضاء على عقدة النقص لدى الشعوب غير الأوروبية بالنسبة للغرب، وقيامها بإبداعها الخلاق بدلا من أن تكون مستهلكة للثقافة والعلم والفن، فتصير قادرة على التفوق على غيرها. وقد يتحول مركب النقص إلى مركب عظمة صحي يساعد على الخلق والإبداع. (7)
إعادة كتابة التاريخ بما يحقق أكبر قدر ممكن من المساواة في حق الشعوب بدلا من النهب الأوروبي لثقافات العالم، واكتشاف دور الحضارات التي ساهمت في تكوين حضارة الغرب وضرب الغرب حولها مؤامرة الصمت، ولكن دون أن يكون الغرب هذه المرة، وبموضوعية تاريخية، مركز الثقل في العالم فيه تصب كل الحضارات؛ إذ سيعطى لكل حضارة دورها في الريادة. (8)
بداية فلسفة جديدة للتاريخ تبدأ من ريح الشرق، واكتشاف الدوائر الحضارية وقانون لتطورها أشمل من البيئة الأوروبية، وإعادة النظر في وضع الشعوب الشرقية كبدايات للتاريخ (هردر، كانط). وكما بدأت الحضارات من الشرق وانتقلت إلى الغرب، فقد تعود إلى الشرق من جديد. (9)
إنشاء «الاستغراب» وتحويل الحضارة الأوروبية إلى موضوع للدراسة. وسيكون هذا العلم الجديد لدراسة هذه الحضارة: بداية ونهاية، نشأة وتطورا، بناء ومسارا كما فعلت الحضارة الأوروبية مع غيرها عندما حولتها إلى مواضيع للدراسة ولم تسلم من التحيز والمحاباة. (10)
انتهاء الاستشراق، وتحول حضارات الشرق من موضوع إلى ذات، وتصحيح الأحكام التي ألقاها الوعي الأوروبي وهو في عنفوانه على حضارات الشرق. فالاستشراق يكشف عن طبيعة العقلية الأوروبية ونظرتها إلى الآخر أكثر مما يكشف عن الموضوع المدروس، فهو موضوع دراسة وليس دراسة موضوع. (11)
تكوين الباحثين الوطنيين الذين يدرسون حضاراتهم الخاصة من منظور وطني، وحضارات الغير بطريقة أكثر حيادا وإنصافا مما فعل الغرب مع غيره. فتنشأ بالتالي العلوم الوطنية وتتكون الثقافة الوطنية، ويتأسس التاريخ الوطني، وينتهي الفصام في الثقافة والسياسة بين العلم والوطن، بين الباحث والمواطن.
3
سادسا: الموقف من الواقع
إن الموقف من التراث القديم والموقف من التراث الغربي كليهما مدخلان حضاريان يعبران عن موقفنا الحضاري اليوم الذي هو مصب لتراثين قديم ومعاصر. إنهما في حقيقة الأمر مصدر واحد من مصادر المعرفة وهو النقل، بصرف النظر عن مصدره: النقل من الماضي أو من الحاضر، من الأنا أو من الغير. والحقيقة أن الواقع لم يكن غائبا في الموقفين الحضاريين السابقين؛ فالموقف من التراث القديم، في أحد جوانبه، هو رد التراث إلى الواقع الأول الذي منه نشأ والذي له صيغ خاصة به، ثم عرض التراث على الواقع الحالي. فما اتفق مع مصالحه بقي وتطور، وما نافى هذه المصالح تم إسقاطه ونقده وتلاشيه. والموقف من الغرب أيضا هو في أحد معانيه رد التراث الغربي إلى بيئته المحلية وظروفه التاريخية التي نشأ منها، ومعرفة أي مرحلة أكثر اتفاقا وأجلب نفعا لنا في المرحلة الحالية التي نمر بها، وأيها أبعد عنا وأكثر ضررا. فالواقع حاضر في قلب الحضارة: منه تنشأ فكرا، وإليه تعود أثرا.
ولا يمكن فهم التراثين المحلي والغربي إلا بفهم الواقع الحالي أولا والذي على أساسه سيتم إعادة بناء الأول واختيار الثاني. ولطالما كثر الحديث عن ربط الجامعة بالواقع، والثقافة بالواقع، والعلم بالواقع، دون أن يتجاوز الحديث ألفاظ العبارات إلى معانيها، ودون أن يتجاوز الحديث المعاني إلى تحقيقها كمشاريع فعلية للأبحاث والدراسات. وبدون هذا البعد الثالث يظل الموقفان الأولان مجرد معلومات من كتب صفراء أو بيضاء لا صلة لها بواقع قديم أو جديد، ولا تثير شيئا في ذهن المستمع أو القارئ المشدود إلى قضايا الواقع والمتأزم بأوضاعه. فيظل العلم في جانب وحياة الناس في جانب آخر. لا بد إذن من إحصاء دقيق لمشاكل الواقع ومتطلباته وحاجاته التي يمكن أن تكون مقياسا يعاد وفقه بناء التراث القديم واختيار التراث الغربي أو تنظير مباشر له ما دام التراثان السابقان: تراث الأنا وتراث الآخر مجرد وسائل للخلق، وتعلم للإبداع. ولا يكفي في هذا الحماس لها أو الخطابة فيها، بل لا بد من عرضها عرضا دقيقا وتحليلها تحليلا كميا بالاعتماد على مناهج الإحصاء وبلغة الأرقام حتى يمكن للفكر بعد ذلك أن يصف كيفياتها. وقد تبدو هذه العملية خارج نطاق الفلسفة وهي في حقيقة الأمر أس الفلسفة وبواعثها ومقاصدها إذا ما حاولنا الذهاب إلى ما وراء النظريات، ويمكن عد هذه المكونات للواقع وإحصاء متطلباته على النحو الآتي: (1)
تحرير الأرض من الاحتلال والغزو. وهي القضية الأولى في واقعنا القومي نفكر فيها ليل نهار، ونحاول الوقوف أمام هذا التيار الجارف المتجه لاحتلال مزيد من الأرض وغزو عديد من الأوطان. هذه هي القضية التي تتناولها أجهزة الأعلام وتدافع أنظمة الحكم من أجلها عن كراسي الحكم، وتقاوم في سبيلها أحزاب المعارضة. وهذه القضية هي التي تملأ نفوس الجماهير مرارة وحسرة وغما. وتدفع البعض إلى الانتحار أو الانهيار أو الموت كمدا، وهي ليست غريبة على الفلسفة سواء في تراثنا القديم أو في التراث الغربي المعاصر. فالله في القرآن «إله السموات والأرض»، والطبيعيات عند الحكماء سابقة على الإلهيات، والحق والخلق شيء واحد عند الصوفية، وإقامة الشريعة للامتثال وللتكليف من مقاصد الشريعة. لقد قامت حركاتنا الإصلاحية الحديثة دفاعا عن الأرض ضد المحتل الأجنبي أو الإقطاعي الداخلي.
1
وقد احتلت الصهيونية الأرض بعقيدة أرض الميعاد والاختيار وأرضنة الله
Enlandisement of God . وتظهر الأرض في شعرنا المعاصر.
2
وتقام «فرقة الأرض»، ويهزنا «يوم الأرض». وفي التراث الغربي يتحول «فشته» من فيلسوف مثالي كانطي، فيضع نظرية في الجدل بين الأنا واللاأنا من أجل خلق الأنا المطلق؛ تحريرا للأرض من الاحتلال وغزو نابليون لألمانيا. ويصوغ كل فلسفته في نظرية السعادة من أجل تحرير الأرض، ومقاومة المحتل؛ فالخير الأقصى تحقيق للذات، وفي رسالة الإنسان تحقيق للمثل الأعلى، وفي الاقتصاد الموجه من الدولة توجيه لموارد الدولة للحرب ضد سياسات الانفتاح والاقتصاد الحر. إن دراسة قضية «الله والأرض» وجعلها محور التراث القديم، وأن الله محل للحوادث كما تقول الكرامية؛ تجعل التراث مرآة للواقع، وإن تدريس فشته لطلابنا يجعل قلوبهم مع الأستاذ، وكلاهما مع حاضر الأمة وواقعها.
3 (2)
إعادة توزيع الثروة في مواجهة التفاوت الطبقي. وهي قضية رئيسية نتناولها في محافلنا العامة ونراها واضحة للعيان؛ فقد اجتمعت في الأمة أعلى درجة من درجات الغنى وأدنى درجة من درجات الفقر. منا من يترهل بطنة، ومنا من يموت جوعا، منا من يعيش في القصور كالأحياء، ومنا من يعيش في مقابر الأموات، وهذه قضية يتناولها الشعر والمفكرون، وبسببها قامت الثورات العربية المعاصرة لإعادة توزيع الثروات، والإصلاح الزراعي وبرامج التأميم والتصنيع وحقوق العمال. ولأجلها قامت الأحزاب الاشتراكية والماركسية، ودخل الآلاف في السجون والمعتقلات واستشهد العشرات. وهي قضية مثارة في أصل الوحي في نظرية الاستخلاف، ونقد تكديس الثروة في يد حفنة من الأغنياء، وضرورة المشاركة في الأموال، وسار على أثرها الخلفاء. ومن أجلها نفي أبو ذر. وفي التراث الغربي ندرس ديكارت وكانط ونترك روسو ومونتسكيو وسان سيمون وبرودون وأوين وماركس في أقسام الاجتماع أو اللغة أو الأدب، وكأن موضوعات العدالة الاجتماعية والمساواة ليست من الميتافيزيقا، أو الفلسفة العامة في شيء. وقد قام الرهبان الشباب في أمريكا اللاتينية بالاشتراك في حرب العصابات دفاعا عن الفلاحين وضد الإقطاع.
4 (3)
تحقيق الحرية والديموقراطية في مواجهة القهر والطغيان. وهذه قضية نعاني منها جميعا بما في ذلك الأستاذ والطالب، والمفكر والمواطن، والباحث والعالم، والإعلامي والسياسي، فقد عرفت مجتمعاتنا بأنها مجتمعات القهر والتسلط والطغيان. سجوننا ملأى، وأفواهنا مكممة، وأجهزة إعلامنا في يد الحكومات، وصحفنا ومجلاتنا مراقبة، وأجهزة الأمن تتحكم في كل شيء، تسمع وتراقب، حتى أصبح الخوف والترقب البناء النفسي للجميع، ويفشل درس الفلسفة بسبب الخوف: خوف الأستاذ الذي يتحول إلى جبن، وخوف الطالب الذي يتحول إلى خشية. الكل يبغي التعايش وعدم فقد الوظيفة لتربية الأطفال ورعاية الأسرة، وهكذا نشأت الازدواجية في حياتنا القومية، وظهر الفرق بين الحديث الخاص وبين الحديث العام، بين لغة حلقات الأصدقاء وبين لغة الاجتماعات الرسمية، بين همسات حجرات النوم وبين صراخ الأحزاب وصخب أجهزة الإعلام حتى أصبحت السلطة كالجنس والدين محرمات لا يجوز الاقتراب منها، وهي موجودة في أصل الوحي وفي أول إعلان له في الشهادتين. فالشهادة إعلان وبيان، إعلان رؤية، وبيان موقف يبدأ بالرفض والنفي، بالتمرد والثورة على كل آلهة العصر المزيفة في «لا إله»، ثم يأتي بعد ذلك فعل الإيجاب ووضع مبدأ واحد يتساوى أمامه الجميع في «إلا الله». وقد استن الخلفاء بعقيدة الحرية كما سار عليها الأشهاد.
5
والفلسفة ليس لها موضوع إلا الحرية، ولا غاية إلا التحرر. وقد شغل الموضوع مفكرينا القدماء، متكلمين وفقهاء، فدافع المعتزلة عن خلق الأفعال، وأثبتوا حرية الاختيار، وأكد الفقهاء ضرورة كلمة الحق في وجه السلطان الجائر. وفي الفلسفة الغربية لا يوجد نسق فلسفي إلا والحرية أحد مظاهره. إن التاريخ كله هو قصة الحرية (كروتشه). إن ثوراتنا الحديثة قد قامت دفاعا عن الحرية كما قامت حركات استقلالنا الوطني تحقيقا للحرية وما زال للكلمة رنين في قلوب الناس جميعا؛ فأشعارنا تصور مدى القهر، وقصصنا مدى الطغيان، ورواياتنا صور الطغيان. (4)
تحقيق الوحدة في مواجهة التجزئة، وهذه قضية أخرى نفكر فيها ليل نهار، تقام من أجلها الدول، وتنهار الأنظمة، وتندلع الثورات ثم تقام الثورات المضادة. كل الأحزاب وحدوية، والأحزاب المخالفة انعزالية طائفية. أمة موحدة تاريخا ولغة وحضارة، ومصلحة وهدفا ومصيرا. جزأها الاستعمار، واحتلت الصهيونية قلبها، عزلت كبراها، وتفردت بصغراها واحدة تلو الأخرى. وقضية الوحدة معروضة في أصل الوحي:
أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار [يوسف : 39]،
إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون [الأنبياء: 92]. وأفاض الحكماء والصوفية في الحديث عن الواحد والوحدة، والاتحاد والحلول والفناء، وفضح المتكلمون الثنوية والتعدد والشرك، وعشقوا أفلوطين. وقامت أحزابنا كلها باسم الوحدة، واندلعت ثوراتنا من أجل الوحدة، وفتحت السجون أبوابها لدعاة الوحدة. وما زلنا نعاني من التجزئة، وقد احتلت الأراضي، وتوالت الهزائم بسبب التجزئة، ومع ذلك لم تطرح في مناهجنا فلسفات الوحدة وتجاربها، ولا جعلناها مادة أساسية في التكوين. وقد غزانا هيجل لأن فلسفته تقوم على الوحدة. وحتى الآن لم تصغ الوحدة حتى كسؤال ميتافيزيقي، مع أن القدماء قد وضعوا هذا السؤال في مباحث الوحدة والكثرة عند المتكلمين، ومباحث التوحيد عند الحكماء، ونظريات الاتحاد والحلول ووحدة الوجود عند الصوفية، ووحدة الأمة عند الفقهاء. (5)
تحقيق الهوية في مواجهة التغريب. وهذه قضية أساسية تطرق إليها المثقفون، وانقسمت الأمة بسببها إلى قسمين: دعاة المحافظة على الهوية بأي ثمن مما أدى إلى ظهور الجماعات الدينية المحافظة كرد فعل على ظاهرة التغريب والارتماء في أحضان الآخر. فالتحدي الأعظم بالنسبة لكل فرق الأمة حاليا هو كيف يمكن المحافظة على الهوية دون الوقوع في مخاطر الانغلاق على الذات ورفض كل مساهمة للغير، وكيف يمكن مواجهة ثقافات العصر دون الوقوع في مخاطر التقليد والتبعية؟ إن هذه هي القضية التي نثيرها جميعا باسم الأصالة والمعاصرة، وهي موجودة في أصل الوحي عندما أبقى الإسلام على الهوية العربية وبعض قيم الجاهلية وأعرافها وطورها في منظوره الجديد، وهي قضية عرض لها الحكماء فظلوا مفكرين إسلاميين متمثلين لثقافات الغير، وفي مقدمتها ثقافة اليونان، وهي القضية الأساسية التي تعالجها العلوم الاجتماعية الغربية الآن لدراسة تطور المجتمعات النامية. (6)
تحقيق التقدم في مواجهة التخلف. وهذه قضية يتناولها الجميع ويتناقل الفاظها، حتى أصبحت من أكثر القضايا شيوعا وشهرة؛ هذا متقدم، وهذا متخلف، وهذا تقدمي، وهذا رجعي. وما زال اللفظان يثيران الشباب. وقد تعرض أصل الوحي للمفهومين:
لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر [المدثر: 37]. بل إن تطور النبوة ذاتها يمثل تقدما للوعي الإنساني من اليهودية إلى المسيحية إلى الإسلام. ورسالات الأنبياء إنما كانت علامات مميزة لمراحل التاريخ. وقد أسس التراث الغربي لمفهوم التقدم علما بأكمله هو فلسفة التاريخ ، محاولا وضع قانون لتطور المجتمعات، ومراحل تاريخها ابتداء من المرحلة الدينية إلى مرحلة الميتافيزيقا إلى مرحلة العلم، ومن مرحلة الآلهة إلى مرحلة الأبطال إلى مرحلة الإنسان، أو من الصيد والقنص إلى الرعي إلى الإقطاع إلى الرأسمالية وأخيرا إلى الاشتراكية. ولم ندرس فلسفة التاريخ في جامعاتنا إلا كمادة إضافية دون أن نصوغ قانونا لها، ودون أن نراجع أحكام الغرب على الشرق أو نراجع ابن خلدون في تصوره للدورة والسقوط ونحن في عصر النهضة.
6 (7)
تجنيد الجماهير ضد السلبية واللامبالاة. وهذه قضية قد لا تبدو فلسفية في ظاهرها، إلا أنها في حقيقة الأمر قضية فلسفية بالأصالة. فالفكرة ليست تصورا فارغا، بل قدرة على تحريك الناس، وإلا فلماذا انضم الشباب إلى الماركسية ووجدوا فيها وحدة النظر والعمل. ليس المفكر فكره فقط بل جمهوره، وليس نظرياته فقط بل أمته التي يتحدث إليها ويعمل من أجلها. ولطالما اشتكينا في واقعنا المعاصر من سلبية الجماهير، وعدم تحريكها، وعزلة المثقفين عنها. لقد قاد موسى أمته إلى الخارج، وقاد محمد أمته إلى الداخل، وكان المفكرون في الغرب وراء التاريخ والسياسة: أرسطو والإسكندر، غاريبالدي وماتزيني، هيجل وبسمارك، فولتير والثورة الفرنسية، وابن خلدون وتيمورلنك، ولطالما تحدث الفلاسفة عن «ثورة الجماهير» (أورتيجا أي جاسيه).
سابعا: خاتمة
لا يعني الفيلسوف عندنا إذن صاحب المنصب الشامخ بمعنى كانط وهيجل؛ فهذه المذاهب قد نشأت في ظروف خاصة، وبعد تعرية العالم من أغطيته النظرية الموروثة. إننا لم نمر بعد في هذه الظروف، ولم تحدث عندنا بعد عملية التعرية المشار إليها. ولا يعني الفيلسوف عندنا، مرة أخرى، من يتساءل عن معاني الحياة والوجود الإنساني كما هو الحال في الفلسفة المعاصرة. فقد نشأ ذلك في الغرب بعد أن احتوت المذاهب حياة الإنسان واعتبرته جزءا من كل، ترسا في آلة كبيرة، وليست هذه قضية الإنسان عندنا، قضيتنا غياب الإنسان كله، وما زلنا ندرس «الله» عند الكندي والفارابي وابن سينا. ليس الفيلسوف كل من ادعى رأيا أو من صاغ نظرية من إبداعه أو تقليدا للآخرين: قدماء أو محدثين؛ فالآراء الأصيلة لا يمكن أن توجد لأن الغطاء النظري الموروث ما زال واردا، والغطاء النظري الحديث مزاحم له. ولا يوجد الرأي الأصلي إلا عند بعض الفئات القليلة خاصة في المجال العلمي والتقني والفني. ولكن النملة لا تزاحم فيلا، والفأر لا يزحزح أسدا. وعادة ما يكون أصحاب الموقف دعاة ظهور، وأصحاب بطولات فردية، وليس في الموقف نزال، لكنه يتجاوز مبارزة الشجعان.
الفيلسوف هو صاحب الموقف الحضاري الذي يأخذ موقفا من التراث القديم ويأخذ موقفا نقديا من الموروث حتى يزحزح الغطاء النظري القديم من أجل تنظير آخر، آخذا العقل والطبيعة كمحورين في العلم الجديد. الفيلسوف كل من يأخذ موقفا من التراث الغربي رادا إياه إلى داخل حدوده الطبيعية، محجما إياه بعد أن ظهر على امتداد مائتي عام خطورة وضع نقل جديد فوق نقل قديم، إذ ازداد العقل المعاصر ثقلا فوق ثقل، وأصبح لا فرق هناك بين من يقول: قال ابن تيمية وبين من يقول: قال كارل ماركس، أو بين من يقول: قال الله والرسول وبين من يقول: قال ديكارت وكانط. الفيلسوف كل من يحاول التنظير المباشر للواقع محاولا التعرف على مكوناته، مبدعا، دارسا الأشياء، محللا للظواهر قدر الإمكان، قاصدا إلى الأشياء ذاتها، متخليا عن المنقول إلى المعقول، وواصلا إلى المعقول من المشاهدة والحس والتجربة. إنه كل من يحاول سبر غور الواقع محصيا إياه، عدا عدا، فلا فكر إلا من واقع، ولا ثقافة إلا من شعب. الفيلسوف إذن هو صاحب الموقف الحضاري في أحد أبعاده الثلاثة أو فيها كلها، فهي مترابطة فيما بينها. والموقف من التراث القديم محاولة للمساهمة في حل أزمة العصر كما يفرضها الواقع مع التقليل من مخاطر الغزو الثقافي الغربي. والموقف من التراث الغربي هو في الوقت نفسه تحرير للذهن من النقل وإفساح المجال للإبداع الذاتي التزاما بقضايا الواقع، واكتشافا للتواصل التاريخي بين الماضي والحاضر، وعودة للتراث القديم بعد أن تمت إزاحته جانبا في منافسة غير متكافئة الأطراف. والموقف من الواقع هو في حقيقة الأمر موقف من التراثين: القديم والجديد، واللذين ما زالا يفعلان فيه، ويفرضان معلوماتهما عليه.
بدون هذا الموقف الحضاري ستظل الفلسفة في جامعاتنا ومعاهدنا نباتا بلا غرس، هواء بلا طير، كتابة بلا مداد، وسنظل نعاني ما نعاني منه اليوم من ضياع وتشتيت وبكاء على غياب الفلاسفة وتحسر على الطلاب. الفلسفة مشروع قومي حضاري وليست مجرد مادة علمية مقررة، لها كتاب محفوظ، وأستاذ ملقن، وطالب يستذكر، وشهادة تعطى، ووظيفة تؤخذ لحل قضية المعاش وكسب القوت. وهي ليست مصطلحات مهنية ومذاهب مستغلقة يشعر الأستاذ أمامها بالزهو والطالب بالرهبة والقراء بالعظمة. الفلسفة تنبع من موقف حضاري محدد، وتساهم في صنع وتحديد معالم مرحلة تاريخية يمر بها مجتمع ما، هي القدرة على التعرف على اللحظة الحالية، وقراءة روح العصر، والإحساس بالموقف الحضاري، وإلا كانت لا زمان لها ولا مكان، أسطورة وغيب، ولظلت الماركسية كتحليل للتاريخ ولحركات الشعوب نقطة جذب لوعي الأمة، وبالتالي الوقوع في مزيد من التغريب.
هذا ليس بحثا في السياسة بل هو بحث في الفلسفة، لا يعطي توجيهات عملية بل يعطي تأصيلات نظرية من خلال الموقف الحضاري لجيلنا، لا يهدف إلى معارضة نظم قائمة أو إحداث تغيير أو انقلاب، إنما يبحث في أزمة الفلسفة في عالمنا العربي اليوم: لماذا هي في واد وواقعنا في واد؟ ولماذا ظلت أحوالنا الثقافية، بالرغم من عشرات أقسام الفلسفة في جامعاتنا، على ما هي عليه؟ لماذا لم تؤثر كتاباتنا الفكرية بعد في حياتنا القومية؟ قد يكون هذا البحث أشبه بالصراخ أو الخطابة، ولكن الفلسفة ليست مفاهيم أو ألفاظا يعاب عليها التجريد وأنها فلسفة، أي لا طائل تحتها ولا نفع منها. قد لا يحتوي هذا البحث إلا على عموميات يعرفها الجميع، وكررناها منذ عدة أجيال. وقد يكون فيه نوع من اتهام الذات، وتعذيب النفس، ولكنه يبقى على أية حال صراخ يوحنا المعمدان على تلال عمان.
التراث والنهضة الحضارية1
إذا كان الغرب قد أعطى نموذج النهضة على أنقاض التراث فإن المجتمعات غير الأوروبية تعطي النموذج الآخر للنهضة على أكتاف التراث. وتكون البشرية أمام نموذجين: الانقطاع أو التواصل. وإذا كان الغرب قد حقق إبداعه الفكري الذاتي ابتداء من هدم التراث فإن الشعوب غير الأوروبية تحقق إبداعها الفكري الذاتي ابتداء من تجديد التراث.
وقد يرجع التباين بين النموذجين إلى رصيد الشعوب التاريخي؛ إذ بدأت النهضة الأوروبية بقبائل الجرمان والقوط ولم يكن لها عمق تاريخي. وبدأت بهدم التراث اليوناني الروماني أو التراث اليهودي المسيحي وهي تشعر أنها لا تجد هويتها فيه، فعادت إلى بيئتها الأوروبية الطبيعية للتحرر من سيادة القدماء. لم يجد الفرنسيون والجرمان والبريطانيون أنفسهم في حضارة اليونان والرومان التي ابتلعت المسيحية والتي كانت اليهودية قد ابتلعتها من قبل، فخرجوا عنها إلى طبائعهم الخاصة. أما الشعوب غير الأوروبية في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية فإنها شعوب تاريخية، لها رصيد في العمل التاريخي بالرغم من مؤامرة الصمت التي لحقت به في الدارسات الاجتماعية والتاريخية في الغرب. فهي صاحبة تراث تجد فيه هويتها، وتتحدد به وتتمثله، يحدد تصوراتها للعالم، ويعطيها موجهات للسلوك. إذا ما أراد الغرب السيطرة عليها إبان المد الاستعماري الحديث بدأ بالسيطرة عليه. وإذا أرادت هي نفسها أن تتحرر من سيطرة الاستعمار بدأت بتحرير تراثها أولا؛ حتى تحقق شروط التحرر، بتخليص روحها قبل أرضها.
كان من الطبيعي إذن أن يظهر هذان النموذجان للتراث والنهضة الحضارية: النموذج الغربي في الانقطاع، والنموذج اللاغربي في التواصل؛ نظرا للتباين بين الشعوب اللاتاريخية والشعوب التاريخية، بالرغم من ادعاء الغرب بأنه وحده الذي اكتشف الزمان والتاريخ في فلسفة التاريخ، ويضع غيره من الشعوب في مرحلة ما قبل التاريخ!
أولا: التراث الذاتي
التراث الذاتي هو ما يصل إلى شعب ما مما خلفه القدماء، وتتوارثه الأجيال، ويحدث لتيارات عامة واتجاهات ومدارس فكرية، ويؤثر في سلوك الناس. وهي مسئولية تاريخية تتحملها الأجيال فتواصل تاريخها، أو تتركها فتنقطع جذورها فتذوب في ثقافات مغايرة، والفعل اللاتيني
Tradere
يفيد كلا المعنيين: يحمل أو يخون.
ونعني بالتراث هنا التراث «الإسلامي»؛ فهو الأعم والأشمل من التراث «العربي» أبدعه العرب وغير العرب، ومكتوب باللغة العربية وباللغات الإسلامية. والقرآن مكتوب بلغة العرب ولكن الإسلام لكافة الشعوب، والحضارة إسلامية، والعلوم إسلامية. (1) الأصالة والخصوصية
وأهم ما يميز التراث الذاتي الأصالة والخصوصية؛ فالأصالة تعني الأنا في مقابل الآخر، والمألوف ضد الغريب، والقريب في مواجهة البعيد، والمحلي كمانع للمستورد. تعني الأصالة الذاتي في مقابل العرضي، والطبيعي في مواجهة المصطنع، و«الجواني» ضد «البراني». أما الخصوصية فتعني نوعية التراث وسماته المميزة ونموذجه الأوحد وقانونه الخاص ليس في مقابل الشمول والعمومية، ولكن في مقابل فقدان النوعية والذوبان في خصوصية أخرى تدعي أنها الخصوصية الشاملة. وهو التقابل الذي وضعه كانط في وصفه للإرادة بين الذاتي
Autonomous
والغيري
Heteronomous . (أ) جذور التراث
وللتراث جذور في وجدان الشعب. فهو تأكيد للأنا ضد الآخر وإثبات للذات في مقابل الغير. ولما كان التراث معاشا في وجدان الناس، فإن جذوره تعطيهم عمقا تاريخيا قد يصل أحيانا إلى بدء الخليقة ونهايتها، وقد يتجاوزها إلى ما قبل العالم وما بعده. يعطي التراث للشعب رؤية تاريخية تجعله يضع نصب عينيه الزمان كله في لحظة واحدة، ويصل فيها بعد النظر إلى رؤية العالم كنقطة هندسية مجردة بلا زمان ولا مكان. يمتد التراث بجذوره في وجدان الشعب ويعطيه الآتي: (1)
الأصالة ضد التذويب والتميع والاغتراب، خاصة إذا ما تمت محاصرة الذات بالآخر، كما حدث في إيران قبل الثورة. التراث هو الحارس للذات، وسبب وجودها وبقائها، والضامن لأمنها ضد أخطار الغير. والذات بلا تراث تتحول إلى الغير المجرد. (2)
العمق التاريخي ضد نقل الحضارات واستيرادها، وملء الشعور القومي بحيث لا يكون فارغا تصب فيه حضارات الغير، والرد المستمر على الغزو الثقافي الخارجي باعتبارها (حضارات الغير) جسما غريبا على التراث القومي كما هو الحال في السلفية. (3)
كما تمتد جذور التراث في الماضي فإنها أيضا تورق في الحاضر، فما الحاضر إلا تراكم للماضي وظهور له. ومن ثم فلا حل لمشاكل الحاضر حلا جذريا إلا بالرجوع إلى جذورها في الماضي، ولا سبيل للقضاء على عقبات التنمية (عدم اشتراك الجماهير مثلا) إلا باجتثاث جذورها في التراث. (4)
دفعات أكثر نحو التقدم في مسيرة الشعوب وإطلاق طاقاتها، وترسيخ مكتسبات الثورات الوطنية مثلا: الإصلاح الزراعي، الملكية الجماعية للأرض ، العمل وحده كأساس للقيمة، النضال ... إلخ. (5)
الاستمرارية التاريخية والتجانس في الزمان ووحدة الشخصية الوطنية، وعدم وجود مستويات متجاورة منفصلة في الشعور الوطني كما هو الحال في تركيا (إسلام في العمق وتحديث في السطح)، أو في بولندا (كاثوليكية في العمق وماركسية في السطح). (6)
الحفاظ على خصوصية الشعوب ونوعيتها، والقضاء على نمطية التنمية وأحادية النموذج الأوروبي، التنمية الاقتصادية أساسا والتنمية البشرية فرعا، وغياب التنمية الحضارية كلية. (7)
تباين الشعوب، وتعدد النماذج، ووضعها كلها على قدم المساواة التاريخية من حيث إسهاماتها في تطور البشرية دون الوقوع في نظرية المركز والأطراف (الغرب بالنسبة للشعوب غير الأوروبية). وهنا يتم الإثراء المتبادل، ونهاية الأثر الغربي من المركز إلى الأطراف ذي الاتجاه الواحد. (ب) مادة التراث
والتراث هو الإبداع الفكري الذاتي للشعوب، ابتداء من معطيات تكون في الغالب دينية ثم تتحول بالتدريج إلى حضارية، بعد عمليات تمثل الحضارات المجاورة، وتفسير هذه المعطيات وإعمال العقل فيها بحيث تتم إعادة صياغتها في منظور إنساني طبيعي. وبالتالي كانت مادة التراث على النحو الآتي: (1)
الكتب المقدسة في ديانات التوحيد الثلاث التي خرجت من إبراهيم: العهد القديم، والعهد الجديد، والقرآن خاصة بالنسبة للشعوب العربية والأوروبية؛ أو الفدنتا والأوبانيشاد وكتاب «التغيرات» وغيرها في الديانات الآسيوية. وهي تراث حي في قلوب الناس وليست فقط تراثا مكتوبا، بل إنها كانت في البداية تراثا شفاهيا يتناقلها الناس وتتوارثه الأجيال، أضافت عليها من خبراتها سواء داخل النصوص الأولى بتفسيرها أو بإضافة نصوص جديدة من خارجها. وما زال الناس يستشهدون بها ويتخذون أوامرها ونواهيها كمعايير مطلقة للسلوك. (2)
العلوم الدينية أو كما يسميها القدماء العلوم النقلية التي بدأت حول هذه الكتب المقدسة لضبطها وقراءتها وتفسيرها، وتقنينها وتمثلها، مثل علوم القرآن والحديث والتفسير، والفقه والسيرة. ففي هذه العلوم تعلمت الشعوب مناهج البحث، ووضعت طرقها الخاصة للتعليم وتصورها للعلم. فقد نشأ «النقد التاريخي» عند القدماء بدافع من الحرص على صحة النصوص، وتم وضع «مناهج الرواية» لتحويل التراث الشفاهي إلى تراث مكتوب. وهي علوم أقرب إلى التقديس والاحترام وأقرب إلى الإيمان الديني منها إلى البحث الأكاديمي الصرف. فكتب الحديث مثل «البخاري» تقرأ عبادة للتبرك ولدرء الأخطار وجلب المنافع. وكتب التفسير مثل «الطبري» تحظى من الاحترام قدرا لا يسمح بالمناقشة والحوار. وكتاب «الأم» للشافعي أو «موطأ» الإمام مالك أو «مسند» الإمام ابن حنبل مواطن للتصديق، ومصادر للمعرفة. وسيرة «ابن هشام» تتحد بشخص النبي ولا يجوز المساس بها. مقولة «المقدس» إذن هي لب التراث، وأي تنمية لا تأخذ في الاعتبار هذا المركز وأي نهضة تحاول تجاوز هذه المقولة؛ لا تحدث أي تغيير في العمق.
والعلوم الفلسفية كما يسميها القدماء العلوم النقلية العقلية التي تجمع بين التقديس والتعقيل مثل علم أصول الدين، وعلوم أصول الفقه، وعلم الحكمة من منطق وطبيعيات وإلهيات، وعلوم التصوف وتهذيب الأخلاق ما زالت علوما تعيش في قلوب الناس. يستشهدون بها، ويقرءون أعمالها. تسري مقولاتها وتوجيهاتها في حياتهم الخاصة والعامة، ويحتفظون بها في بيوتهم، بركة ورحمة. فالعقائد الإسلامية وعلى رأسها التوحيد، والقدر والنبوة والإيمان والآخرة، تقوم في قلوب الناس بوظيفة الأيديولوجية السياسية التي تحدد تصورهم للعلم، وتعطيهم موجهات للسلوك. وعلم أصول الفقه هو الذي يحدد لهم كيفية العبادات وطرق المعاملات، ومقاييس السلوك من حلال وحرام. وعلوم الحكمة هي التي أمدتهم بأن الفضائل النظرية أعلى من الفضائل العملية، وبأن المعرفة تتم إشراقا من الله في النفس وأن العلم هو العلم اللدني، وبأن الطبيعة مخلوقة من الله يفعل فيها ما يشاء، وبأن الله والنبي والفيلسوف والرئيس والأمير والإمام شخص واحد، كامل الأوصاف، تجب له الطاعة المطلقة. وعلوم التصوف هي التي وجهتهم نحو الخلاص من العالم والفرار منه إلى الله، وإلى تمثل القيم السلبية مثل التوكل والصبر والرضا والقناعة، وحالات النفس مثل الخوف والخشية والرهبة.
ومنها العلوم العقلية الخالصة سواء منها الرياضية مثل الحساب والجبر والهندسة والفلك والموسيقى والضوء، أو الطبيعية مثل الكيمياء والطبيعة والطب والأدوية وهي التي لم تؤثر في حياة الناس أو في ثقافتهم ولم يرثها أحد من علمائنا المحدثين بل ورثها الغرب وأصبحت رصيده العلمي قبل عصر النهضة، طورها وأكملها ودخلت في علمه الحديث وتطبيقاته التي تنقلها الشعوب غير الأوروبية الآن ومنها الشعوب العربية والإسلامية التي بدأتها أولا. ومنها العلوم الإنسانية مثل علوم اللغة والأدب التي انتشر البعض منها في الأدب العربي الحديث، وعلوم الجغرافيا والتاريخ التي تركت لحضارة الغرب يطورها ويكملها علماء الغرب المحدثون. (3)
الأمثال العامية، والأدب الشعبي، وكتب السير والملاحم التي ما زالت الشعوب تستشهد بها وتأخذ منها معايير للسلوك ونماذج لحياة البطولة والوفاء يسمعها الناس سماعهم للقرآن، ويهتزون للاثنين إعجابا وطربا.
مادة التراث إذن، مادة سمعية أكثر منها مادة مرئية، تعتمد على الأذن وليس على العين. ومن هنا أتت خبرة الأجيال والتواصل مع الماضي، والعيش مع «تجارب الأمم». (ج) تجارب الشعوب
لما كان التراث حيا في قلوب الناس فإنه اختلط بتجاربهم الفردية والاجتماعية، وخبراتهم التاريخية في السلم والحرب، في المجاعة والثراء، وفي الهزيمة والانتصار. وأصبح من الصعب التمييز بين ما يأتي من التراث المكتوب والتراث الحي للشعوب. حدث ذلك في «العهد القديم» خاصة، ثم في «العهد الجديد» بصورة أقل، وحدث أيضا في الحديث وفي العلوم الدينية، وإن لم يحدث في القرآن نظرا لعدم مروره بفترة شفاهية، وتدوينه مباشرة في لحظة الإعلان.
وهذا التقابل بين التراث المكتوب وتجارب الشعوب طبيعي. فالمعطى الديني ذاته كان نتيجة لتجارب الأمم وحصيلة رسالات الأنبياء. والإسلام بالنسبة للأمة العربية يمثل دين الطبيعة والفطرة. ومن ثم صعب التمييز بين ما يأتي من القرآن وما يأتي من الطبيعة والفطرة. لذلك اختلفت الأحكام على شعوب المنطقة العربية بين أكثر الشعوب تدينا وأقل الشعوب تدينا. الأول يخرج من الدين والثاني يخرج من الطبيعة. وهما في واقع الأمر شيء واحد لدى الأمة. وتؤيد ذلك النصوص الدينية مثل
صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة [البقرة: 138] أو
فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله [الروم: 30]. كما تثبتها الأمثال العامية مثل «اللي عاوزه البيت يحرم على الجامع». (2) تفسير التراث
ومن هنا كان تفسير التراث شرط النهضة الحضارية. فكل تراث يحتوي على اشتباه يفيد الضدين، ويحتوي على المعنيين المتناقضين سواء في التراث الديني المكتوب أو في التراث الشعبي أو في تجارب الأمم والشعوب. ونظرية التفسير لدى شعوب المنطقة تعادل نظرية المعرفة في الحضارة الغربية. (أ) مناهج التفسير
يحدث التفسير بعدة مناهج هي في حقيقة الأمر طرق لا شعورية أولا عند الناس، ثم تصبح مناهج شعورية عند المفكرين، وأهمها: (1)
قراءة الحاضر في الماضي. وليس للتراث معان موضوعية في نصوصه أو في تجاربه بل مجرد حامل تسقط عليه الاحتياجات الحالية. وحقيقة المعنى هو مقدار ما يثيره الحاضر في الماضي. فإذا كانت احتياجات العصر ومطالبه الحرية والعدالة فإننا لا نفهم من نصوص التراث إلا ما سد هذه الاحتياجات مثل قول عمر: «لماذا استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا» أو القول المأثور: «العدل أساس الحكم». ويحدث الانقطاع عن الماضي إذا ما ظن الناس والمفكرون أن التراث يحتوي على معان في ذاته يتم إخراجها بصرف النظر عن الاحتياجات، فيظل التراث هائما في الأذهان لا يجد له مستقرا، ولا يحقق مطلبا. وهذا هو إشكال الذاتية والموضوعية. (2)
الانتقاء من التراث ما يحقق مصالح الأغلبية. فالتراث فيه كل شيء، ويحتوي على الشيء ونقيضه. ومن ثم فرضت احتياجات العصر نفسها كمقياس للانتقاء. فإذا احتاج العصر للعقلانية ظهر التراث العقلاني، وإذا احتاج العصر للعلمية ظهر التراث العلمي، وإذا احتاج العصر للأيديولوجية السياسية ظهر التراث السياسي. (3)
الاختيار بين البدائل، وإعادة الاختيار طبقا لاحتياجات العصر. فقد قدم التراث بدائل كثيرة: العقل والذوق، العبادة والمعاملة، العقل والنقل، النظر والعمل، التنزيه والتشبيه، الجبر والاختيار، التنزيل والتأويل. كما قدم التراث اتجاهات مختلفة: سنة وشيعة، أشاعرة ومعتزلة، مرجئة وخوارج، وكل اتجاه يمثل اختيارا سياسيا. ولما كانت ظروف العصر قد تغيرت فإن إعادة الاختيار بين البدائل، وعرضها كلها من جديد أمام الوعي القومي؛ يقضي على أحادية الطرف، وسيادة تيار وتكفير التيارات الأخرى. (ب) سلبيات التراث
لما كانت احتياجات العصر محددة تعبر عن حركة التاريخ وكانت في الوقت نفسه مقياسا للانتقاء واختيارا بين البدائل؛ فإن كل ما تختاره يكون إيجابيا وكل ما تتركه يكون سلبيا. فإيجابيات التراث وسلبياته ليست مطلقة، بل تحددها اختيارات كل عصر، وتتغير طبقا لمتطلبات الأجيال. وبالنسبة لجيلنا فإنه يمكن تحديد بعض هذه السلبيات كالآتي: (1)
سيادة التصور التسلطي للعالم المتمركز حول الواحد، الذي يعلم كل شيء ويقدر على كل شيء. ويظهر ذلك بوجه خاص في العقائد «الأشعرية» التي ورثتها الأجيال أكثر من ألف عام، وأصبحت جزءا من روح الأمة والذي أصبح عنوانا «للطغيان الشرقي». ويظهر ذلك أيضا في الواحد الحر، والمسيطر على كل ما سواه وما ينتج عنه من قدرية. ويتمثل ذلك أيضا في احتياج العالم إليه في صورة نبوة تهدي العقل وتكمله وتعصمه من الخطأ، وإيمان به يجعل العمل في المرتبة الثانية، وإنكار لغائية الطبيعة وقوانينها، وتجاوز هذا العالم إلى ما وراءه. هذا التصور المركزي الواحد للعالم ليس سلبيا «في ذاته»؛ فقد استخدمته الصين لصالح الثورة، ولكنه حتى الآن يمثل عنصرا سلبيا في التراث بالنسبة للأمة العربية، ويمثل بالنسبة لنا إشكال الحرية.
1 (2)
سيادة المعرفة النصية وهو ما يسمى بأولوية النقل على العقل أو بالقول بالمأثور دون المعقول أو بأهل الأثر في مقابل أهل الرأي حتى غابت المعرفة العقلية، أو المستمدة من الواقع المباشر أو من استقراء حوادث التاريخ، حتى قال أحد الشعراء المعاصرين: «واحتمي أبوك بالنصوص، فجاء اللصوص»، وهو ما يسمى أيضا بسيادة الفقه الافتراضي، وتحكيم النص في الواقع وليس تفسير النص طبقا للواقع. وهو ما يسمى «الحرفية» التي تقتل «الروح» والشكل الذي يقضي على المضمون. وبالنسبة للتراث الشكل هو اللغة، والمضمون هو حياة الناس وواقعهم. (3)
المنطق الصوري الذي تغلب عليه أشكال القياس وصور الفكر كما هو الحال في منطق القضايا، وغياب منطق الواقع، واستبعاد أحوال التاريخ وقوانين الصراع. صحيح أن علماء الأصول من متكلمين وفقهاء قد نقدوا المنطق الأرسطي ووضعوا منطقا تجريبيا حسيا ومنطقا عمليا للسلوك، كما نقد حكماء الإشراق المنطق الصوري ووضعوا قواعد للمنطق الإشراقي، ومع ذلك غاب منطق التاريخ باستثناء ابن خلدون. (4)
التصور الثنائي للعلم الذي ظهر في علوم الحكمة، وقسمة العالم إلى أول وآخر، صورة ومادة، عقل وحس، مطلق ونسبي، باق وفان ... إلخ. وظهور هذه الثنائية في الطبيعيات: تخلخل وتكاثف، زمان ومكان، جوهر وعرض، كيف وكم ... إلخ. وظهورها أيضا في الأخلاق: خير وشر، ملاك وشيطان، جنة ونار، إيمان وكفر، ثواب وعقاب، رجل وامرأة. وقد أعطت هذه الثنائيات الطرف الأول كل شيء وسلبت من الطرف الثاني كل شيء. فعاشت الأمة في عالم سلبي بلا قيمة، غير موجود بذاته، يستمد وجوده من غيره. (5)
سيادة الفضائل النظرية على الفضائل العملية، وجعل التأمل أعلى قيمة من العمل، والحكيم أفضل من العامل. وقد ورث الناس هذا الاختيار فنشأت أفضلية الجامعات على المعاهد العليا والمدارس الفنية، وقيمة الأعمال المكتبية على الأعمال اليدوية، وقيمة التنظير والتخطيط وإعطاء الأوامر على الإنتاج والتنفيذ. وقد ظهر ذلك أيضا في «المدينة الفاضلة» التي يقبع الملك الفيلسوف على قمتها. (6)
سيادة القيم السلبية التي ظهرت في علوم التصوف كما هو الحال في المقامات مثل التوكل والرضا والقناعة والصبر والزهد، أو في الأحوال مثل الخوف والخشية والرهبة، حتى أصبحت قيما اجتماعية توجه سلوك الناس. مع أنها نشأت في البداية كرد فعل على قيم اجتماعية مضادة مثل التكالب على الدنيا، والتمتع بمباهج الحياة، والتنافس والتقاتل على السلطة. كما ظهرت قيم الفناء والفقر والمحو والمحق، ولكنه فناء صوري بلا مضمون ودون نتيجة من أجل إحداث تغيير في واقع الناس الفعلي. (ج) إيجابيات التراث
تتمثل شروط النهضة الحضارية إذن في الخلاص من السلبيات التي استمرت في وجداننا القومي أكثر من ألف عام، وإظهار الإيجابيات من كوامن الشعور والتي توقفت منذ حسم الصراع في القرن الخامس الهجري لحساب السلبيات التي تجسدت في الأشعرية، فكر الدولة السنية، والذي ازدوج فيما بعد بالتصوف خاصة في فترة الحكم العثماني، وأهم هذه الإيجابيات هي: (1)
بالرغم من سيادة الإشراق إلا أن العقل استطاع في أصول الدين، خاصة عند المعتزلة، أن يكون أساسا للنقل، فإذا تعارض النقل والعقل يؤول النقل لحساب العقل، وكما قال الفقهاء: «اتفاق العقل الصريح مع النقل الصحيح»، ومن يقدح في العقل يقدح في النقل؛ لأن العقل أساس النقل. ظهر ذلك بوضوح عند المعتزلة، فانتهوا إلى التنزيه أي تصور الله كمبدأ عقلي خالص وليس كإله مشخص يقبع في وجداننا القومي كأساس «لعبادة الأشخاص» في حياتنا. كما ظهر ذلك في الفلسفة وتحويل العالم كله إلى تصور عقلي خاصة عند ابن رشد، فالحكمة هي الأخت الرضيعة للشريعة المتحدتان بالطبع المتحابتان بالجوهر والغريزة على ما يقول القدماء. ونحن في نهضتنا الحالية نصارع من أجل العقل وندعو إلى العقلانية وكأنها تراث الغير وليس التراث الذاتي. (2)
بالرغم من جعل الطبيعة مخلوقة من الله إلا أن العلم نشأ للسيطرة على قوانين الطبيعة التي سخرها الله لخدمة الإنسان، فكان الفلاسفة القدماء علماء طبيعة وكيمياء وفلك ورياضة وطب وصيدلة، وفي الوقت نفسه متكلمين وفقهاء وفلاسفة وأدباء. وظهر أصحاب الطبائع من المتكلمين يحللون الكمون والطفرة والذرات في الطبيعة. ونحن الآن في نهضتنا الحديثة خاصة عند أنصار الغرب نحاول من جديد الدعوة إلى العلم وإلى الفكر الطبيعي. (3)
إثبات حرية الإنسان وخلق أفعاله خاصة عند المعتزلة، وأن له قدرة واستطاعة، وأنه قادر على الاختيار بما له من عقل وتمييز، وبما يتمتع به من تدبر وروية، والتأكيد على الغائية والبواعث في الحياة، وإثبات الصلاح والأصلح وأن الله لا يفعل إلا ما فيه مصلحة العباد، بدلا من العشوائية والتشتت والتضارب في الاتجاهات. (4)
بالرغم من أولوية النظر على العمل إلا أن قيمة العمل ظهرت أيضا في أصول الدين، خاصة عند المعتزلة والخوارج، فالعمل هو مقياس الإيمان، ومن لا عمل له لا إيمان له، والعمل هو العمل الصادق الكامل الذي لا يقبل أنصاف الحلول أو المساومة. كما ظهر في أصول الفقه على أنه غاية الشريعة، يتم في الوقت على الفور وإلا كان متراخيا وقضاء. كما ظهر في التصوف على أنه الطريق إلى المعرفة، فالأحوال ثمرات الأعمال. والدعوة إلى العمل منتشرة في الأمثال العامية والأدب الشعبي انتشارها في نصوص التراث. (5)
بالرغم من سيادة بعض القيم السلبية في التصوف إلا أنه ظهرت به أيضا موضوعات الطاقة والحركة والنشاط ومفاهيم الارتقاء والنكوص، والتقدم والتأخر. وقد استطاع بعض الصوفية تحريك الجماهير وحشد قوى المعارضة وتفجير طاقات الناس وتوجيههم في ثورات شعبية عامة. كما استطاع «إقبال» تحويل التصوف إلى طاقة حيوية وحركة في التاريخ توقظ الأمة وتبعث نهضتنا. المهم هو تغيير محوره من الأعلى والأدنى إلى الأمام والخلف حتى تتحقق الوحدة الشاملة بالفعل بين الواقع والمثال، وليس فقط عن طريق الخيال. (6)
اعتبار المصلحة هي أساس الشرع كما وضح في علم أصول الفقه وأن «ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن» وأن «لا ضرر ولا ضرار»، وهي المبادئ المقررة عند القدماء. فقد قام الشرع على الحفاظ على مصالح الناس، وهي الضرورات الخمس: الدين، والعقل، والحياة، والنسل، والمال. وكل ما حافظ عليها فهو شرعي وكل ما هددها فهو غير شرعي. والاجتهاد هو إعمال الجهد للاستدلال، وإبداع حلول جديدة فيها الحفاظ على المصالح العامة.
فإذا ما استطاعت الأمة إيقاف سلبيات التراث والاستمرار في إيجابياته تحققت شروط النهضة الحضارية من الداخل دون ما حاجة إلى «التغريب». (3) سلطة التراث
والتراث ليس مكتوبا فقط، وليس حيا في شعور الناس فقط، بل يمثل سلطة قد تكون أقوى من السلطة السياسية القائمة. دخل التراث في معارك تدعيم السلطة السياسية كما دخل لتأليب حركات المعارضة. وتمثلته أيضا مختلف القوى الاجتماعية. (أ) التراث وحركات المعارضة
لما استتب الأمر للدولة الأموية أفرزت فكر السلطة أو تراث الأمر الواقع، فظهرت سلطوية التصور، وعقائد القضاء والقدر، والإيمان بالقول؛ حتى تستكين الناس وترضى بالأمر الواقع، فالمفضول أولى من الأفضل، وكل شيء في هذا الكون يتم بمشيئته، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن. ولما كانت الدولة الأموية قد اغتصبت السلطة اغتصابا ظهرت حركات المعارضة؛ كل منها يفرز فكرها وعقائدها لتغير الأمر الواقع وكان أبرزها: (1)
الشيعة: التي ترى السلطة الأموية مغتصبة للخلافة التي تم اغتصابها قبل ذلك منذ وفاة الرسول. وصاغت عقائدها في الإمام من أجل فعالية المعارضة ونجاحها: الألوهية (الكاريسمية)، العلم الباطني ، الغيبة، التقية، العصمة ... إلخ. وبهذه العقائد يمكن تجنيد الجماهير وطاعة الإمام ونائبه كما حدث في الثورة الإيرانية. (2)
الخوارج: التي ترى أن الإمامة تكون بالاختيار والبيعة لا بالقهر والسيف والترغيب والترهيب كما حدث في الدولة الأموية، وصاغت عقائد تساعدها على المعارضة مثل العمل الذي لا ينفصل عن الإيمان، الإسلام الذي لا يتجزأ، التنزيه الخالص، وجوب الخروج على الدولة، الاستشهاد في سبيل الله كما يحدث أحيانا في الجماعات الإسلامية المعاصرة. (3)
المعتزلة: التي وجدت في الأصول الخمسة بناء عقائديا للمعارضة: التنزيه في مقابل التشخيص، والعقل، والحرية، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكان الهدف من (المنزلة بين المنزلتين) إيجاد نوع من الوحدة الوطنية تضم جميع فئات المعارضة، ولكنها معارضة فكرية من خلال الوضع القائم وليس خروجا بالسيف.
وقد ظهرت معارضة نشطة دون أن تنتج فكرا للمعارضة مثل معارضة بعض الصوفية عن طريق النصح والإرشاد، ومعارضة بعض الفقهاء قياما بمهمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وممارسة لوظيفة الحسبة. (ب) التراث والقوى الاجتماعية
وقد وجدت القوى الاجتماعية في نظريات التراث واتجاهاته خير سند لها، وتدعيما لمركزها الاجتماعي. كما أنها ساعدت على إفرازها وصياغتها وتحويلها إلى فكر رسمي للدولة. ويمكن وصفها كالآتي: (1)
طبقة الأمراء والحكام أرادت لتزيين مجالسها الشعراء والأدباء والفلاسفة والعلماء. فنشأت الفلسفة والأدب من داخل قصور الأمراء. ومنهم من تقلد الوزارة مثل ابن سينا أو تقلد المناصب العليا مثل تقلد ابن رشد قضاء قرطبة، ومنهم من كان نجم سيف الدولة الحمداني مثل الفارابي. ومن هنا خرج فكر الصفوة، فكرا فلسفيا نظريا، وجد في الفلسفة اليونانية، فلسفة الصفوة أيضا، ما يريد. (2)
طبقة العلماء والفقهاء والمحدثين، وهم في غالبهم ينتسبون إلى الطريقة المتوسطة، لا يهتمون بتغيير الأوضاع الاجتماعية، بل العمل من خلال الأوضاع الموجودة، وهو الفكر الرسمي لأهل السنة الذي أصبح فكر الدولة والذي منه تمت صياغة كل علوم التراث والتي استمرت حتى الآن. يغلب عليه الاتزان والهدوء، ويرفض الدخيل، على عكس الفلاسفة الذين تمثلوا الحضارات المجاورة ودافعوا عنها. (3)
عامة الناس التي انتشر فيها التصوف والذي تحول فيما بعد إلى طرق منظمة قادرة على حشد الآلاف. ولما كان التصوف حركة استبطان ورجوع إلى الذات وترك العالم فقد أيدته الدولة وغذته بالفكر الرسمي الأشعري، فكر السلطة القائم على سلطوية التصور.
وحتى الآن ما زالت إلى الآن اتجاهات التراث المختلفة تستخدم لتدعيم القوى الاجتماعية مثل استخدام الإسلام «الشعائري» لتدعيم الوضع القائم نظرا لعدم مساسه بالأوضاع الاجتماعية والسياسية والاقتصادية. وكذلك استخدم الإسلام «الباطن» للتأكيد على دور الإلهام في حياة الناس وأن العقل قاصر عن التحليل والفهم، وأن كل مشاكل العالم الخارجي إنما تجد حلها في «التحول إلى الداخل» وفي مقولات الإيمان والطاعة والرضى. (ج) التراث والثورة
التراث نعلمه جميعا، والثورة تعيشها أجيالنا بصرف النظر عن مراحلها: الإصلاح الديني أو النهضة أو الثورة في النهاية. فقد قدمت الشعوب غير الأوربية موضوع الثورة والتحرر إلى الوعي الإنساني على أساس أنه تجربة عمرها. ولما كانت شعوبا تراثية ثار في ذهنها إشكال التراث والنهضة كمقدمة للثورة.
وقد حاول المصلحون والمفكرون إعداد التراث كي يكون ركيزة للنهضة، ويمكن إجمال هذا الإعداد في ثلاث: (1)
تغيير المراكز من الواحد إلى الكثير، أو بتعبير ديني شائع: من الله إلى الإنسان؛
2
حتى يتم تفجير القوى من خلال الفرد. فلا يوجد عصر نهضة بلا نزعة إنسانية، يسترد فيها الإنسان العلم والقدرة والحياة والسمع والبصر والكلام والإرادة من الله؛ لأن الله
غني عن العالمين [آل عمران: 97]، جل شأنه، وتعالى عما نصف. وكل نهضة في حقيقة الأمر إنما تعني الانتقال من «التمركز حول الله» إلى «التمركز حول الإنسان». (2)
تغيير المحاور، من الأعلى والأدنى إلى الأمام والخلف؛ وذلك أن الارتقاء والنكوص في التراث يتمان صعودا وهبوطا كما هو واضح في نظرية الفيض عند الفلاسفة وفي المقامات عند الصوفية. والشعوب في نهضتها إنما تنتقل من التخلف إلى التقدم، فالأعلى في التراث هو التقدم في النهضة، والأسفل في التراث هو التأخر في النهضة. وعلى هذا يتحول الخلود إلى زمان، والزمان إلى تاريخ. (3)
تغيير المستويات اللاهوتية والفقهية والصورية إلى مستويات شعورية واجتماعية؛ حتى يتم تحليل الظواهر تحليلا إنسانيا خالصا. فالعقائد ليست أبنية إلهية، والأحكام ليست أوامر أو نواهي إلهية، والشرائع ليست مجرد قوانين صورية، بل كل ذلك له وجود طبيعي في شعور الفرد وفي علاقاته الاجتماعية. وبالتالي كان الانتقال من العلوم الدينية إلى العلوم الإنسانية انتقالا ضروريا حتى تتم الحركة من التراث إلى النهضة.
ثانيا: تراث الغير
ولما كان الوعي الحضاري الذي أنتج التراث الذاتي وعيا متفتحا على الحضارات الأخرى فإنه سرعان ما تمثل تراث الغير واحتواه واستعمل لغته، واستعمل أساليبه، واستخدم طرقه، وأكمل نقائصه. ثم أبدع بمناسبته خلقه الذاتي. استطاع القدماء احتواء حضارة العقل عند اليونان والديانات الشرقية في فارس، وعلوم الهند.
أما المحدثون فإنهم في انفتاح وعيهم الحضاري الجديد على تراث الغير، التراث الغربي، حدثت لديهم «صدمة الحداثة» وخلطوا بين التحديث والتغريب، فكان من الضروري «تحجيم» تراث الغير، ورده إلى حدوده الطبيعية داخل بيئته المحلية. (1) الحداثة والتحديث
تعني الحداثة هنا الانتقال من التراث الذاتي إلى تراث الغير ليس على مستوى الثقافة، بل على مستوى السلوك اليومي والعادات والتقاليد. وهنا يتم الخلط بين الحداثة في السلوك وتحديث المجتمعات أي تغيير نظمها الاجتماعية، وكأن «العصرية» تعني فقط السلوك المهذب للأفراد دون تنمية اجتماعية شاملة. (أ) مظاهر الحداثة
وقد بدت عند أجيالنا المعاصرة مظاهر الحداثة لدى الطبقات العليا من المجتمع كي تلحق بالعصر، وكما حدث في تركيا بعد الثورة الكمالية، وكما حدث في مصر في القرن الماضي حتى قبيل الثورة المصرية في 1952م. وقد بدت مظاهر الحداثة كالآتي: (1)
العيش على مستوى الإنتاج الآلي في الغرب، والتمتع بالخدمات الحديثة واستيراد أحدث الاختراعات لتسهيل رغد العيش. وكما تحدث في مجتمعاتنا الصحراوية الحالية من وجود أحدث أنواع الاختراعات الحديثة في الغرب. (2)
الحداثة في مظاهر الحياة الخارجية في العمارة والهندسة وفي العمران بوجه عام من شق الطرق، وتشييد الجسور العلوية، وإقامة الميادين والحدائق العامة، والانتقال من عصر «الجمال» إلى عصر «الصواريخ»، ونقل إنجازات الغير دون اختراعها. (3)
الحداثة في الثقافة، والاطلاع على آخر صيحات العصر في الفكر والفن والأدب، دون وعي داخلي ، لتزيين القصور ولحديث الأندية والمجتمعات. فالثقافة ترف، والفن سلعة، والأدب من المستلزمات العصرية. وهنا تنشأ أقلية من العصريين، امتدادا لثقافة الغير وعاداته وتقاليده ، تكون نواة النخبة السياسية فيما بعد. (ب) مخاطر الحداثة
والحداثة بهذا المعنى لها مخاطر عدة منها: (1)
ترويج التقدم على السطح، وترك التخلف في العمق وفي تصور الناس للعالم، وكما قال أحد شعرائنا المعاصرين: «لبسنا قشرة الحضارة، والروح جاهلية.» (2)
انقطاع الماضي عن الحاضر، وغياب أي تطور طبيعي بينهما؛ مما يسبب في الحياة العامة تجاورهما المكاني دون أي اتصال زماني. فتشيد الأبنية الحديثة في مقابل الأبنية القديمة دون تطوير للقديم ودون ربط للجديد به. (3)
توليد المحافظة من أجل الدفاع عن القديم، وإحداث تيار عكسي للحداثة ورفض ما هو قائم. فما دام القديم قد توقف نموه بسبب موانع الجديد فإنه لا يبقى أمامه إلا التطور إلى الوراء. (4)
القضاء على خصوصية القديم ونوعيته، والتنكر لها أو الجهل بها تماما وإحلال الشمول محلها. وعادة ما يكون الشمول الغربي الذي هو في حقيقة الأمر خصوصية غربية انتشرت خارج حدودها بسبب تقدم الغرب السابق لنهضة الشعوب غير الأوروبية بحوالي خمسمائة عام، منذ عصر النهضة الأوروبي. (5)
عدم اللحاق بالغرب وإنتاجه السريع، واللهث وراءه. فإن معدل إنتاج الغرب أسرع بكثير من معدل تمثل الشعوب غير الأوروبية له. وهنا تحدث «الصدمة الحضارية». مع أن هذا التجديد المستمر يهدف إلى إيجاد البديل النظري في الوعي الأوروبي بعد إسقاط الغطاء النظري القديم منذ عصر النهضة، في حين أن الشعوب غير الأوروبية ما زالت تحت غطائها النظري الموروث. (6)
تكوين طبقة من «المستغربين» أو ما سماهم فكرنا المعاصر «المتأوربين» منعزلة عن جموع الشعب لا أرض لهم، يعيشون في العواصم الأوروبية ويتنقلون بينها، وقد يولدون فيها ويموتون بها مثل ملاك الأرض الغائبين على مستوى الدولة. (7)
الولاء للغرب، إذ إنها تدور في فلك الأجنبي، وتمثل مراكز الاستعمار الثقافي في البلاد، هم النخبة السياسية والثقافية والاجتماعية، أجانب ومصريون متأوربون، وأول من يجرفهم التيار في الثورة الوطنية كما حدث في مصر في ثورة 1952م. فقد كان «طرد الأجانب» باستمرار أحد المطالب الوطنية كما حدث في ثورة عرابي. (ج) دور الحداثة
بالرغم من سلبيات الحداثة في مظاهرها ومخاطرها، فقد كان لها بعض الدور مثل: (1)
تعليم جيل في التخصصات الدقيقة كان له فاعلية وأثر على حياة البلاد في العمران بوجه عام والحياة الثقافية بوجه خاص، فأنشئت المدن الجديدة، وأقيمت البنايات الحديثة، ومهدت الطرق، وشيدت الجسور والسدود، إما لبقايا من وطنية أو لخدمة الاقتصاد الغربي أو للسيطرة على ثروات البلاد. (2)
تعليم أجيال لاحقة من الوطنيين أصبح ولاء معظمهم للبلاد، فاتسعت قاعدة الفنيين والمتخصصين مما ساعد على إعداد «البناء التحتي» للبلاد، وظلت البلاد في هذا الصراع بين المتخصص غير الوطني والمتخصص الوطني أولا، ثم بين الوطني غير المتخصص بعد الثورة المصرية وغير الوطني وغير المتخصص في جيلنا هذا ثانيا بعد احتجاب مصر وظهور طبقة من غير الوطنيين وغير المتخصصين، لا أهل خبرة ولا أهل ثقة. (3)
كان المتأوربون نافذة لمصر خاصة وللأمة العربية عامة على العالم الخارجي. فمن خلالها اطلع الوطنيون على مظاهر التقدم الأوروبي؛ مما أوحى لبعض الحكام جعل مصر «قطعة من أوروبا»، وكما حاول الغرب الشيء نفسه مع إيران قبل الثورة، فقد كانوا صحفيين ومفكرين وساسة ورحالة، ولكن كان معظمهم علماء ومهندسين وفنيين. (4)
كانوا نافذة للغرب على العالم العربي. فاستطاع الغرب أن يرى من خلالهم الشعوب غير الأوروبية سواء من خلال كتاباتهم عن شعوبهم؛ مصر والشام خاصة، أو من سلوكهم وتقاليدهم وأحاديثهم عن بلادهم في الخارج. فقد رأى الغربيون صورة الشعوب غير الأوروبية مجسدة في أشخاصهم. (2) التحديث والتغريب
والحقيقة أن هذه الحداثة في سلوك الأفراد لم تنتج أثرا في تحديث المجتمعات تحديثا شاملا؛ نظرا لقيامها على «التغريب» في الوعي القومي، فالتحديث هو محاولة تغيير المجتمعات على يد «المحدثين» الذين هم في واقع الأمر ضحية التغريب في وعيهم الثقافي والوطني. (أ) النقل والاستيعاب
يفترض التغريب أن وظيفة الشعوب غير الأوروبية هي النقل والاستيعاب لإبداعات الغرب، وكلما أبدع الغرب لحق غير الأوروبي بالنقل دون التمثل أو الفهم أو حتى مجرد التفكير فيما ينقل. وقد أدى ذلك في الشعوب غير الأوروبية إلى الآتي: (1)
الخلط بين العلم والمعرفة؛ وذلك أن العلم شيء والمعارف العلمية شيء آخر . العلم هو نشأة العلم بناء على تصور علمي للعالم وليس مجموعة من المعارف يحملها جاهل بنشأتها. ولكننا لم نع هذا الخلط لأن وجداننا القومي يرى أنه «رب سامع أوعى من مبلغ» مع أن ذلك في الاستفادة والاستعمال وليس في الإبداع. فلا مانع لدى العالم أن يكون ناقلا لآخر النظريات في علوم الذرة ثم يتبرك بآل البيت، ويغير واقعه بالدعاء. (2)
تصور أن التقدم هو استيراد آخر الاختراعات وإنجازات التكنولوجيا الحديثة وليس إبداع وسائل للسيطرة على الطبيعة حتى اضطرت الشعوب غير الأوروبية إلى انتظار «قطع الغيار» لوسائل لم تبدعها. ولما كان معدل الاختراع أكبر من معدل النقل تحولت مجتمعاتنا إلى مجتمعات استهلاكية صرفة لما ينتجه الغرب. ويصدر الغرب اختراعاته السابقة التي ما زالت بالنسبة لنا تمثل لحاقا بالتقدم العلمي والتكنولوجي. (3)
القفز إلى النتائج دون المقدمات، وقطف الثمار بلا غرس، وجني الأوراق بلا جذور بالرغم من قراءتنا
أصلها ثابت وفرعها في السماء [إبراهيم: 24]. فالإنجازات العلمية إنما أتت بعد تطور طويل للمنظور العلمي منذ عصر النهضة في القرن السادس عشر حتى عصر الاكتشافات العلمية في القرن الماضي، وتكنولوجيا هذا القرن. ولكن مجتمعاتنا تحاول أن تعيش في عصر النهضة وأن تقفز إلى عصر التكنولوجيا دون أن يحدث تطور طبيعي في منظورها العلمي أو في تصورها للعالم؛ لأن التاريخ ومراحله ليس بعدا في وجداننا القومي. (ب) مخاطر التغريب
وقد أدى التغريب إلى عدة مخاطر أهمها: (1)
التعلم المستمر والتتلمذ على أيدي الغير إلى ما لا نهاية، والتهميش والترجمة لما نتعلم حتى يرهق الذهن ويضيع الوقت في الاستيعاب ويتحول الذهن إلى «متلقي العلم» وليس إلى «مبدع العلم»، ويصبح العلم كما هائلا بلا كيف، ويغلب على إنتاجنا طابع التجميع والعرض باسم العلم، ويصبح العالم هو صاحب العلم الغزير، ويكون أفضل عالم هو العالم الموسوعي. (2)
لما كان معدل الإنتاج الغربي أسرع بكثير من معدل الترجمة، طالت فترة الترجمة والتجميع ولم نتحول بعد إلى التأليف والإبداع، مع أن فترة الترجمة الأولى لم تستغرق أكثر من مائة عام وهو القرن الثاني الهجري جاء بعدها التأليف في القرن الثالث عند الكندي مثلا. ونحن قد بدأنا الترجمة في القرن الماضي منذ بعثات محمد علي وتحت إشراف الطهطاوي وما زلنا نشكو من نقص التراجم. (3)
تكوين مركب العظمة الحضاري لدى الشعوب الغربية وفي مقابلها مركب النقص الحضاري لدى الشعوب غير الأوروبية ما دامت العلاقة أحادية الطرف، طرف يعطي وطرف يأخذ، طرف يبدع وطرف ينقل، وبمرور الأجيال، تتحول العادة إلى طبع، ويتحول الطبع إلى سلوك طبيعي. (4)
ضياع قدرة العقل على التفكير وتحويله إلى وظيفة الذاكرة، أي التذكر والاستيعاب. وبالتالي تقل قدرات الذكاء، وتختفي محاولات الإبداع، وينتقل ذلك الموقف الحضاري العام إلى نمط في الحياة الثقافية في التعليم في المدارس والجامعات حتى في معاهد البحث العلمي. (5)
خلق طبقة من المتخصصين لنشر العلم والقيام بأعمال الترجمة لمراكز الثقافة الممثلة للدول الغربية، وتوجيه الرأي العام لدى الشعوب بنوع المعلومات المترجمة، ومعظمها عن مآثر النهضة الأوروبية ومميزات المدنية الحديثة حتى يتحول الوعي القومي من الذات إلى الغير فتتكسب هذه الطبقة، وتحول العلم من رسالة إلى منفعة شخصية أو إلى وجاهة اجتماعية وسط شعوب في حاجة إلى التعلم والمعرفة. (6)
ويزيد ولاء هذه الطبقة للغير إلى حد يقرب من الخيانة الوطنية إذا ما أصبحوا أدوات للغزو الثقافي الأجنبي، ورسلا للاستعمار الثقافي وهم على وعي بدورهم، فيجرفهم في النهاية أقرب تيار للثقافة الوطنية. (ج) طغيان طابع العقلية الغربية
نظرا للكم الهائل من المنقول من تراث الغير ولانتشار عادة الترجمة والتجميع في صورة تأليف، فإن «طابع» العقلية الغربية سرعان ما ينتشر في أذهان الشعوب. فالكم المنقول يولد معه كيف الفكر، فيفكر المثقفون بمقولات الغرب، وتطبع أذهانهم بطابع العقلية الغربية التي يمكن توصيفها على النحو الآتي: (1)
التجزئة والتقسيم والتفتيت بدعوى التحليل والدقة العلمية لرؤية المتناهي في الصغر، حتى استحالت رؤية الكل الشامل. فأصبح المثقفون لدينا بدعوى «المنهج التحليلي» قصيري النظر لا يتجاوزون التخصص الدقيق في حياتهم العامة، وفقدوا المنظور التاريخي، والبعد الحضاري للعلم. وقد حدث ذلك في الغرب خاصة كرد فعل على الشمول الكنسي الأرسطي ومذاهب الفلسفة في العصر الوسيط والفكر الموسوعي.
1 (2)
الوقوع في المتعارضات المفتعلة والتناقضات الوهمية والاتجاهات المتضاربة التي ينفي أحدهما الآخر؛ مثل العقل والحس، المثالية والواقعية، الصورية والمادية، العقل والعاطفة، الفردية والاجتماعية، الرأسمالية والاشتراكية، وكأن الحقيقة في طرف دون الطرف الآخر. وقد حدث ذلك خاصة في العقل الأوروبي نتيجة لسيطرة طرف ورفض الطرف الآخر لذلك. فقد دفع المعطى الديني الغربي العقل إلى الروح فآثر المادة، وإلى الآخرة فآثر الدنيا، وإلى التسامح فأخذ العنف. (3)
وكان نتيجة لذلك أن انتقل العقل الأوروبي من الفعل إلى رد الفعل، ومن رد الفعل إلى الفعل من جديد، يرفض اليوم ما قبله بالأمس، ويرفض بالأمس ما يقبله اليوم، وأصبح من الممكن دراسة الحضارة الأوروبية كلها طبقا لهذا القانون من الكلاسيكية إلى الرومانسية، إلى الكلاسيكية الجديدة، إلى الرومانسية الجديدة في الفن، ومن المثالية إلى الواقعية إلى المثالية الجديدة إلى الواقعية الجديدة في الفلسفة ... إلخ. (4)
ونتج التغير المستمر، وعدم الاستقرار، والقلق، والبحث؛ عن بؤرة للأشياء لا يمكن العثور عليها؛ إذ يمتد الذهن باستمرار إلى أطراف البؤرة وليس إلى البؤرة ذاتها، وكأنه غير قادر تاريخيا على حسن التصويب لفقد البواعث الموجهة أو الهدف الأقصى. هذا الإيقاع السريع في البحث عن شيء هو الدافع وراء الإبداع المستمر من أجل الاستقرار على شيء. وهو ما لم يحدث قبل ذلك في الشعوب غير الأوروبية المستقرة نظريا في تصورها للعالم. (5)
التحيز المسبق للمادي والعياني والمحسوس والاعتماد على المعرفة الحسية والتجريبية؛ نظرا للعقدة من المسلمات والمصادرات والمعطيات المسبقة التي مثلتها الكنيسة وأرسطو، وهو ما أصبح يسمى «بالمادية الأوروبية» وقد انتقلت من مجال المعرفة إلى مجال الأخلاق وكأن الوعي الأوروبي قد ارتكن إلى الرومان دون اليونان، وإلى اليهودية دون المسيحية. (6)
كل المذاهب المثالية التي حاولت إعادة صياغة المسيحية على نحو عقلاني طبيعي اجتماعي، وتلك التي كانت رد فعل على المذاهب المادية؛ لا تخرج على حدود الوعي الأوروبي، بل تنطبق عليه وحده. فمبادئ العقل والحرية والديموقراطية والعدالة الاجتماعية وكل ما أعلنه ميثاق «حقوق الإنسان» إنما يصدق داخل أوروبا وحدها . أما خارجها فتنقلب هذه المبادئ إلى ضدها؛ فخارجها لا توجد شعوب بل أشباه شعوب، ولا توجد حقوق بل واجبات، ولا توجد حضارات إنسانية حاضرة بل حضارات تاريخية موضوعا للأنثروبولوجيا في متاحف الغرب. (7)
أصبحت الحضارة الغربية هي النموذج الأوحد لكل الحضارات، وتاريخها، وعصورها، وحروبها تاريخ كل الشعوب، وعصور كل الحضارات، وحروب كل الأمم. فيها تنصب جميع الروافد الحضارية اليونانية والرومانية، واليهودية والمسيحية، وكل ما سواها مقدمات لها مثل حضارات الشرق القديم. وكل ما يتلوها خارج عنها مثل الإسلام والنهضة الحديثة للشعوب غير الأوروبية. (8)
كانت صورة الشعوب غير الأوروبية من صنع الاستشراق والتبشير والأنثربولوجيا والعلوم التاريخية: قبائل وطوائف، وشعوب بدائية، وحضارات فجر التاريخ، سكون، وحركة، وتخلف. وبعد البعثات التعليمية في الغرب قامت نهضتنا الحديثة في «الدول المتحررة حديثا» تحاول إيجاد صياغات للدولة ومذاهب للمجتمع. هي شعوب هلامية ودول لم تتشكل بعد في صياغاتها النهائية، تفتقد إلى الاستقرار، وتدور عليها الانقلابات العسكرية. (9)
الانتشار خارج الحدود من أجل تحويل حضارة الغرب إلى حضارة الإنسانية جمعاء، والانتقال من الخصوصية إلى الشمول. وقد حقق التبشير والاستعمار والغزو الثقافي هذا الهدف حتى قامت النهضات الحديثة للشعوب غير الأوروبية للتحرر من الاستعمار ولصياغة الثقافات الوطنية. (3) التحرر من الغير
ومنذ فجر النهضة العربية الحديثة وقد بدأت محاولات التحرر من الغير وبعث التراث الذاتي في مواجهة تراث الغير، وبصرف النظر عن درجة هذا التحرر وأسلوبه من رفض شامل إلى رفض جزئي، وبصرف النظر أيضا عن نجاحه التام أو نجاحه النسبي، أو فشله التام أو فشله النسبي. (أ) مرآة الغير
ومنذ اتصال التراث الذاتي بتراث الغير استطاعت الأنا رؤية ذاتها في الآخر، وأصبحت وظيفة الغير مرآة ترى فيها الذات نفسها وحدودها وقد تم ذلك على النحو الآتي: (1)
الاطلاع على الجديد، والإقدام على حضارة الغير، كما حدث أولا مع اليونان، دون تهيب أو رهبة، ومحاولة معرفة كل شيء سواء في العلوم الطبيعية أو في العلوم الإنسانية، وكأن الدعوة إلى التعلم تحولت من مجرد نص مكتوب إلى باعث حضاري. (2)
حدوث الصدمة الحضارية التي وقعت للمشايخ والعلماء أمام تجارب نابليون والتي عبر عنها الكتاب والأدباء في وصفهم للآخر مثل «تخليص الإبريز» للطهطاوي، و«حديث عيسى بن هشام» للمويلحي. وتم اكتشاف الذات بالمقارنة مع الغير، مع إحساس قوي بالتغاير. (3)
تمثل حضارة الغير والنهل منها، وانتقاء لحظات تجد فيها الذات نفسها مثل «الثورة الفرنسية» وأفكار الحرية والعدالة والمساواة والوطن والدستور والتي كان لها أبلغ الأثر في نهضتنا الحديثة (الطهطاوي، أديب إسحاق ... إلخ). (4)
بدايات النقد الذاتي لتراث الذات بمناسبة تراث الغير، ثم اكتشاف أن هذا النقد الذاتي يتفق مع بواعث التراث الذاتي في نشأته الأولى مثل تعليم البنات كما هو الحال عند الطهطاوي في «المرشد الأمين».
فما سماه الغرب خطأ بدايات الامتداد الثقافي الغربي في الشرق، هو في حقيقة الأمر بدايات رؤية الشرق لنفسه في مرآة الغرب. فكان الغرب مجرد عاكس للشرق لأصوله وتراثه وقيمه وحضارته. (ب) تأصيل الغير
وبالرغم من صدق الذات في اختيار اللحظة التاريخية عند الغير، الثورة الفرنسية، فقد حاولت تأصيل فلسفة «التنوير» التي عليها قامت الثورة بعد أن وجدت فيها شروط نهضتنا. فقد مثل لها «التنوير» احتياجاتها العقلية وما زال على النحو الآتي: (1)
العقل ضد الخرافة والوهم، وإعمال النظر والروية والتفكير في الأمور والتخطيط لها. وقد دفع ذلك رواد النهضة إلى اكتشاف دور العقل عند القدماء والاجتهاد في مقابل التقليد. وما زلنا حتى الآن نحاول إرساء دعائم العقلانية وجعل العقل أساسا للنهضة الحديثة، سواء عند المصلحين أو الليبراليين. (2)
أثبت العقل جدارته في النقد وجرأته على القديم في الرفض حتى تحول فيما بعد إلى نقد مجتمعاتنا المعاصرة وخفت حدة «المقدسات» وأعيد النظر في المسلمات، وبدأت الاستفسارات، وعمت التساؤلات، وأعيد النظر في الاختيارات الأولى، وطرحت البدائل من جديد. وبدأت معركة القدماء والمحدثين، وإحياء التيار الاعتزالي كما هو واضح عند محمد عبده. (3)
العلم الطبيعي وإنجازاته في فهم ظواهر الكون والسيطرة على قوى الطبيعة وتسخيرها لصالح الإنسان، وامتداده إلى الحياة الإنسانية. فنشأ الفكر الطبيعي العلمي (شبلي شميل، فرح أنطون، نقولا حداد، يعقوب صروف ... إلخ) ودراسة المجتمعات على نحو علمي. وظل هذا المطلب إلى الآن عند دعاة الفكر العلمي من الليبراليين أو الماركسيين واكتشاف ذلك عند القدماء كما فعل الأفغاني مع نظرية التطور. (4)
ظهور النزعة الإنسانية والاهتمام بحياة الإنسان الفردية والاجتماعية والإقلال من الموضوعات المتعالية الني كثرت عند القدماء، واكتشاف ذلك في أسس الشرع وفي مقاصد الوحي الذي أتى من أجل مصلحة الإنسان ومنفعته في الدنيا. (5)
التركيز على الحرية والديموقراطية والدستور والحياة النيابية، وتأصيل ذلك في الشورى والبيعة عند القدماء، واحترام تعدد الآراء والآراء المعارضة، واكتشاف ذلك عن القدماء في اختلاف الأئمة كرحمة بينهم. (6)
الإعجاب بالعلوم الاجتماعية وبفلسفات التاريخ، وبتقدم المجتمعات ونهضتها، والثناء على الحركات الاشتراكية وثورات الشعوب ونضال العمال، وثورة المضطهدين، وتأصيل ذلك عند القدماء في العدالة ضد الظلم وسنن الله في الكون، والخروج على الحكام. (ج) تحجيم الغير
وإثر رواد النهضة الأولى في القرن الماضي بدأت الأجيال التالية، نظرا لمخاطر الحداثة والتغريب وإفساحا لإبداع الذات، مشروعا آخر بعد مرآة الغرب وهو تحجيم الغرب؛ وذلك على النحو التالي:
2 (1)
إدراك «محلية» الثقافة الغربية وأنها خاضعة لظروفها الخاصة وقد تكونت بفعل روافدها اليوناني الروماني أو اليهودي المسيحي أو البيئة الأوروبية نفسها. وكشف القناع عن دعواها في الشمولية التي تخفي وراءها الرغبة في الانتشار خارج حدودها؛ تحقيقا للهيمنة على غيرها من الثقافات كمقدمة للسيطرة على الشعوب. (2)
تحجيم الغرب داخل حدوده الطبيعية، ودراسة ثقافته ككل واحد لا يتجزأ، له بداية ونهاية، له بناء وتطور، له روافد وآثار، وله سمات مميزة خلقت عقلية ذات طابع معين، وتطبيق مبادئ علم اجتماع الثقافة على ثقافته، وتحويلها أيضا إلى موضوع للأنثربولوجيا الثقافية. (3)
التخلص من إشعاعاته وآثاره الثقافية لدى الشعوب غير الأوروبية التي بدأت نهضتها واكتشاف تراثها الذاتي؛ وذلك عن طريق إرجاعه إلى مصادره في بيئته الخاصة بعد أن أصبح لها مستقرا ومستودعا، وبداية عملية رفض الجسم الغريب، ويسهل ذلك بعد رؤيته كآخر مغاير للذات، ورؤيته له عن بعد كموضوع مستقل مغاير. (4)
المساهمة في كتابة تاريخ له، ورؤيته من منظور غير أوروبي، أي إعادة كتابة تاريخ الثقافة الغربية من باحثين ومفكرين غير أوروبيين كما فعل الباحثون الأوروبيون في الماضي مع الثقافات غير الأوروبية. وبالتالي ينشأ علم «الاستغراب» في مقابل «الاستشراق»، وقد يكون هذه المرة أسعد حظا، خاليا من الإسقاطات والبواعث غير العلمية. (5)
نقد الثقافة الغربية، باتجاهاتها، ومذاهبها، وتياراتها وبيان حدودها من منظور غير غربي وإقامة «علم نقد الثقافة» خارج قانون الفعل ورد الفعل الذي يقوم عليه نقد الاتجاهات المتباينة بعضها للبعض، وقد يكون نقد «الشاهد العدل» أكثر قبولا من نقد الخصوم. (6)
إفادة الغرب ذاته بإعطاء نماذج أخرى من الثقافات؛ حتى يتعرف عليها، فيأخذ موقف المتعلم، ويصبح معلم الأمس تلميذ اليوم فيخف من لديه مركب العظمة كما خف لدى الشعوب غير الأوروبية مركب النقص، وتصبح الثقافات الإنسانية على قدم المساواة في الإسهام في الحضارة البشرية؛ طبقا لمثل
وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا [الحجرات: 13]. (7)
القضاء على تمركز الحضارة البشرية على الحضارة الغربية، وعلى تمركز الحضارة الغربية حول ذاتها؛ فقد وقع ظلم تاريخي على الشعوب غير الأوروبية عندما استبعدت من تاريخ العالم المحوري بعد أن أزاحها الغرب إلى هامش التاريخ أو بداياته الأولى، ونهاية أسطورة أن تاريخ الغرب هو تاريخ العالم، وأن عصور الغرب القديمة والوسطى والحديثة هي عصور العالم، وأن عصور الظلام والانحطاط الغربي هي عصور الظلام والانحطاط للعالم. (8)
تساوي جميع الحضارات الإنسانية في المساهمة في الحضارة البشرية، وبالتالي تتعدد الحضارات وتتفاعل فيما بينها، وتكون علاقات التفاعل بالتبادل وليست أحادية الطرف من الحضارة الغربية إلى الحضارات غير الأوروبية. فما أعطته الحضارات الصينية والهندية والفارسية والمصرية للعالم القديم قد لا يقل عما أعطته الحضارة الغربية للعالم الحديث. (9)
حصر «فائض القيمة التاريخي» الذي دخل ضمن مكونات الحضارة الغربية ورده إلى أصحابه تاريخيا. فقد حدث أكبر تراكم تاريخي وأكبر رصيد للإبداع البشري في الحضارة الغربية. إذ جمعت من الشرق القديم عبر اليونان والعبرانيين، كما جمعت من الشرق الإسلامي عبر إسبانيا وجنوب إيطاليا والبلقان وتركيا حضارات الشعوب غير الأوروبية. فكان تعيينها مجرد حملة العلم ونقلته إلى الغرب حيث يتم الإبداع. (10)
تحجيم الغرب ثقافيا - كما تم تحجيمه قبل ذلك سياسيا بعد ثورات الشعوب وحركات التحرر الوطني ضد الاستعمار - هو مشروع الشعوب غير الأوروبية ومن ضمنها الأمة العربية والإسلامية. وهي مهمة عدة أجيال قادمة بعد أن مهدت الأجيال السابقة لنا فرصة اكتشاف تراثنا الذاتي في مرآة الغير وتأصيل ثقافته في تاريخنا الثقافي.
3
ثالثا: النهضة الحضارية
بعدما يتم بناء التراث الذاتي وتحجيم تراث الغير تبدأ النهضة الحضارية بتفاعل الموقف التراثي مع التجارب الوطنية التي تمر بها الشعوب. فالتراث هو ما يمد الشعوب بأبنيتها الفوقية، والتجارب الوطنية تمدها بأبنيتها التحتية وبتفاعل البناءين تبدأ مسيرتها في التاريخ. (1) الثقافة الوطنية
وتمثل الثقافة الوطنية نتيجة هذا التفاعل بين الموقف التراثي والتجارب الوطنية أو أنها حلقة الاتصال بين الثقافة الذاتية والتجربة الوطنية، خاصة وأن كليهما يشترك في مواجهة هيمنة الغير الثقافية والسياسية. (أ) حركات التحرر الوطني
لقد استطاعت الشعوب غير الأوروبية أن تقدم تجربة فريدة في تاريخ البشرية وهي تجربة التحرر الوطني من الاستعمار التي هزت موازين القوى في العالم، وظهرت الشعوب المتحررة حديثا كمركز الثقل في العالم تحفظ العالم من ويلات الحروب، وتدعو لإقامة إنسانية جديدة وقواعد للتعاون الدولي أكثر عدالة وإنصافا للشعوب غير الأوروبية. وكانت حصيلة تجربتها على النحو التالي: (1)
انتهاء عصر الهيمنة الأوروبية على الشعوب غير الأوروبية، وبداية تاريخ جديد للبشرية يبدأ بعصر التحرر الذي يواكب أزمة القرن العشرين في الغرب، وبداية الانكماش الأوروبي داخل حدود الغرب الطبيعية، وانحسار ثقافته وآثاره على الغير. (2)
ظهور ثقافات التحرر الوطني لدى الشعوب التي تخوض تجارب التحرر مواكبة لها أو سابقة عليها. فظهرت أيديولوجيات التحرر الوطني عند الأفغاني والكواكبي وعبد القادر المغربي وعبد الحميد بن باديس والسنوسي والمهدي وعرابي وعبد الناصر، تضع فيها الشعوب خلاصة تجاربها الوطنية وإبداعها وهي تتخلص من نير الاستعمار. (3)
تفجير القوى الوطنية الخلاقة بإسهامات في موضوع كتب فيه من الجميع في تجارب التحرر وتباين المنطلقات الثورية نحو الأهداف الوطنية المشتركة وبداية أفكار الجبهة الوطنية والجبهة المتحدة، فالوطن للجميع تجاه عدو واحد مشترك وهو الاستعمار. (4)
ظهور الإبداع في الحياة القومية في صورة مشروعات قومية لمناهضة الاستعمار والعنصرية في الخارج والتسلط والتخلف في الداخل، وكأن النضال السياسي من أجل الاستقلال هو شرط الإبداع القومي. (ب) ثقافات التحرر الوطني
ولقد أعطت حركات التحرر الوطني نماذج عدة لثقافاتها التي تمت أثناء قيام الشعوب غير الأوروبية بنضالها ضد الاستعمار ومنها: (1)
الثورة الثقافية في الصين وضرورة مواكبة الثقافة للثورة المستمرة بعد أن أدت «الكونفوشيوسية الثورية» دورها الشعبي في إيقاظ الوعي القومي وتجنيد الجماهير، والقيام بالمسيرة الطويلة ووضع قوانين للصراع ظنها الغرب قوانين الجدل المستمدة من الماركسية اللينينية، والاعتماد على الفلاحين كرصيد شعبي للثورة في الدول الزراعية وعلى مفاهيم الدولة والزعيم وعلى الأخلاق السياسية المعروفة في التراث الصيني القديم. (2)
المقاومة الفيتنامية لأكبر قوة عسكرية في التاريخ، والإبداع التكنولوجي المحلي (السراديب) في مواجهة آخر منتجات مصانع الأسلحة الأمريكية، وإقامة جبهة التحرر الوطني يكون للحزب الشيوعي فيها دور المحرك والعصب، كما حدث في كوبا أيضا، ومشاركة «البوذيين» في مقاومة الغزو الأجنبي، فالدين ليس فقط أفيون الشعوب، بل قد يكون أيضا ثورة في مواجهة الاحتلال وجعل الاستقلال الوطني أعز ما تملكه الشعوب بالرغم من مساندة الأصدقاء وتأييد جيرانها الأقوياء. (3)
الثورة الكوبية وكيف أنها أيضا بدأت كحركة تحرر وطني ضد الاستعمار، ثم تحولت تدريجيا حتى أصبحت ثورة اشتراكية تزيد من رصيد الثورات الاشتراكية في العالم وقضائها على الأمية في أقل من عام، وتجنيد الفلاحين بعد الغزو الأجنبي على السواحل، وإدراج آلاف «البغايا» من مخلفات النظام الرأسمالي قبل الثورة في أعمال منتجة، ووقوفها كنموذج ثوري لوحدة الثورة في أمريكا اللاتينية. (4)
ثورات الفلاحين في أمريكا اللاتينية ودخول آباء الكنيسة الشبان في معارك النضال المسلح مع الفلاحين ضد ملاك الأرض والعسكريين والشركات الاحتكارية الكبرى، وبداية حرب العصابات في المدن، وإقامة أول تجربة اشتراكية ديموقراطية في شيلي. (5)
الثورة الأفريقية وقيام حركات التحرر فيها على التراث المحلي للشعوب في مواجهة حضارة الرجل الأبيض وغزوه، مثل حركة «ماو ماو» وأنبياء «البانتو» وغيرها من الحركات الثورية المحلية، ووضعها أسس الاشتراكية الأفريقية التي تقوم على الملكية المشتركة للأرض كجزء من التراث الأفريقي وتراث الأسود، والثقافة السوداء، والفن الأسود، وتحويل بعض الثقافات إلى أيديولوجيات متكاملة مثل «الوجدانية» أو «الأفريقانية». (6)
الثورة الإيرانية العظمى بقيادة الأئمة وبأيديولوجية الإسلام وتجنيد الجماهير في الشوارع لعدة أشهر في مواجهة أعتى قوى الطغيان في الداخل وأقوى الدول الاستعمارية في الخارج بعد محاولات «التغريب» والقضاء على الهوية، وإدخال إيران في أقوى الأحلاف العسكرية، وجعل جيشها أقوى ثالث جيش في العالم.
لقد أعطت ثقافات التحرر الوطني نماذج فريدة لثورة الفلاحين في مقابل ثورة العمال، وفي الجبهة الوطنية المتحدة في مقابل الحزب البروليتاري، وفي الاستقلال الوطني في مقابل الأحلاف المناصرة للثورة، وفي دور الدين في إطلاق طاقات الجماهير الثورية، وفي صياغة أيديولوجيات مستقبلة للتحرر الوطني، وما زال رصيدها يزخر بالإبداعات السياسية. (ج) إبداع الثقافة الوطنية
وقد أعطت الثورة العربية نموذجا فريدا لإبداع الثقافة الوطنية بالرغم من تأصيله في جذور التراث، وبالرغم مما عرض لهذه الثورة من انتكاسات أخيرة وذلك في الاتجاهات الرئيسية الآتية: (1)
دور الجيوش الوطنية في قيادة الثورة في مقابل النظريات القديمة التي تجعل الجيش أداة قمع في يد الدولة، أو تخرجه عن القضية الوطنية بدعوى عدم تدخله في السياسة، أو أن دوره في الدفاع عن العدو الخارجي ولا شأن له بالعدو «الداخلي» (أنور عبد الملك)، وإذكاء الوعي القومي عند الجماهير. (2)
دور الدولة في التنمية؛ إذ تقبع الدولة في مصر والعراق منذ آلاف السنين وهو ما يميز حضارة النهر (جمال حمدان) نظرا لتنظيم المياه، ودورات الري وجباية الضرائب والتسويق. ومن ثم قامت الدولة بمهام التأميم والتصنيع والإصلاح الزراعي، وأقامت القطاع العام وقررت مجانية التعليم باسم الدولة الممثلة لمجموع الشعب والمجسدة لحركة التاريخ. (3)
تحالف قوى الشعب العامل كصياغة لإقامة تنظيم سياسي، وتعبير ذلك عن التراث الذاتي خاصة بوحدة الأمة والعروة الوثقى، وبتعبير شعبي «اللحمة» و«المصطبة» و«المولد». (4)
صياغة «الاشتراكية العربية» التي تقوم بتحقيق مطالب الأمة في العدالة الاجتماعية والمساواة وتكافؤ الفرص، وتذويب الفوارق بين الطبقات بالحلول السلمية وفي إطار الوحدة الوطنية عن طريق سيطرة الشعب على وسائل الإنتاج، والتخطيط لصالح الأغلبية وسياسة الأجور، وحقوق العمال، والقوانين الزراعية لحماية الفلاح ... إلخ. (5)
بروز القومية العربية كحركة تحرر وطني في الخارج في مواجهة الاستعمار والصهيونية، وفي الداخل في مواجهة الرجعية والتخلف، وتوحيد المنطقة والدفاع عن إرادتها الوطنية المستقلة، وظهور القومية في مضمونها الثوري على خلاف المذاهب الثورية السياسية التي تجعل وحدة المذهب السياسي تجب القوميات وخصوصيات الشعوب. (6)
تكوين حركة عدم الانحياز منذ مؤتمر باندونج وبالاشتراك فيها مع الهند ويوغسلافيا، وتكوين منظمة تضامن شعوب آسيا وأفريقيا، ومؤتمر القارات الثلاث، والدفاع عن دول العالم الثالث وحقها في السيطرة على ثرواتها. (2) اتجاهات النخبة
وتتمثل اتجاهات النخبة السياسية في الاتجاهات الفكرية التي سادت فكرنا المعاصر منذ فجر النهضة العربية، وهي اتجاهات ثلاثة:
1 (أ) الإصلاح الديني أو الإسلام السياسي
وهو التيار الذي بدأ منذ آخر الفقهاء القدماء، ابن تيمية حتى أول المصلحين المحدثين محمد بن عبد الوهاب، وسار في أثره الأفغاني ومحمد عبده ورشيد رضا والكواكبي وعبد الحميد بن باديس والسنوسي وعبد القادر المغربي والألوسيان والمهدي، وأخيرا حسن البنا وسيد قطب، وهو يبدأ من التراث الذاتي للأمة من أجل إصلاح ديني يكون مقدمة لحكم إسلامي دون وضع شروط نهضة أو مقومات ثورة. وقد أظهر هذا الاتجاه: (1)
الثورة ضد الاستعمار، وقد مثل ذلك الأفغاني في «العروة الوثقى» والسنوسي والمهدي وعبد القادر المغربي. (2)
الدفاع عن الحرية والديمقراطية، والدعوة إلى النظم البرلمانية، وإلى إقامة الدستور وتغيير سلطة الحكام. (3)
الدعوة إلى الاشتراكية والعدالة الاجتماعية، وأخذ حقوق الفقراء في أموال الأغنياء وامتلاك الفلاحين للأرض، وثورة المحرومين العاطلين كما هو الحال عند الأفغاني. (4)
الإسهام في حركة التقدم، وذلك بالدعوة إلى العلم والقوة والصناعات الحربية من أجل إنشاء الدولة الحديثة. (5)
الدعوة إلى وحدة الأمة الإسلامية أو الجامعة الشرقية في مواجهة الاستعمار الغربي.
ومع ذلك فقد كانت حدود هذا الاتجاه: (1)
احتياجه إلى صياغات فكرية وبرامج وطنية أكثر إحكاما وتفصيلا، فالوجدان الثوري في حاجة إلى برنامج الثوري؛ حتى لا تستمر اليقظة الثورية إلى ما لا نهاية كما هو حادث في إيران. (2)
عدم رفض الفكر الطبيعي المادي باعتباره فكرا ينكر الروح واستقلال المبادئ، وقد كان الفكر الطبيعي جزءا من التراث الذاتي عند أصحاب الطبائع من المعتزلة. (3)
نقص التمييز بين الإصلاح والنهضة والثورة وعدم استمرار الحركة الأولى وتطورها في الحركات التالية. (4)
انتهت حركة الإصلاح إلى سلفية؛ نظرا لأنها لم تحكم ولم تقم بجبهة وطنية ولم تجند الجماهير وراءها إلا في إيران. (ب) العلمية أو الماركسية
وهو الاتجاه الذي بدأ ابتداء من تراث الغير سواء عن طريق التحديث من الخارج بالترويج للفكر العلمي الغربي أو التحديث من الداخل بتأصيل بعض التيارات الغربية في تراثنا الذاتي. ولم يحكم هذا التيار أيضا إلا في جبهات وطنية عريضة (سوريا والعراق) أو في أطراف العالم العربي (اليمن الديموقراطي). وقد كانت له المميزات الآتية: (1)
الثورة على الواقع ومناهضة الاستعمار، وتغيير البناء الاجتماعي، وإحراز مظاهر التقدم والبدء في التنمية. (2)
الحماس والنشاط والفاعلية والحيوية والصفوة المختارة والنخبة الثورية وهي عصب الحكم وقوام الدولة.
ومع ذلك كانت حدودها: (1)
عدم التخلص من تراث الغير، وسيادة الماركسية «الغريبة» دون انبثاق الأيديولوجية الثورية من التراث الذاتي والتجربة الوطنية. (2)
الدجماطيقية، وتطبيق النظريات الجاهزة على واقع قد يتحملها ولكن يظل ساكنا بالنسبة لها، وقد لا يتحملها فيثور عليها إذا ما تهيأت ظروف الثورة. (3)
الصعوبة الفكرية وغرابة القوالب الذهنية، وعدم فهم قوانين الجدل أو تحول الكم إلى كيف، أو نفي النفي لدى شعوب أمية تستشهد بآيات الله وأقوال الرسول وبالأمثال العامية والحكم والأمثال والشواهد الشعرية. (4)
الانعزال عن الواقع الإحصائي المحلي، وعدم إعطاء الأولوية للواقع على النظرية، وبالتالي تقع النظرة العلمية في تصور لا علمي بإنكارها مادة العلم. (5)
عدم قيام وحدة وطنية بين التيارات السياسية المختلفة، والاستئثار بالسلطة، ثم تفكك التيار السياسي الواحد إلى مجموعات وفئات وطوائف وأجنحة، كل منها يبغي تصفية الآخر، فتفرض عشائرية التخلف ذاتها على شمولية المذهب السياسي. (6)
الولاء للآخر الممثل في الثورة الاشتراكية الكبرى، وتجسيدها في إحدى الدول العظمى، وبالتالي فقدان الإرادة الوطنية المستقلة. (7)
إعطاء الأولوية للمذهب على الوطن، وللشمول على الخصوصية، فيظل الحاكم هائما في الهواء لا مستقر له يخشى الانقلاب أو ينعم بالسكينة في بحر من اللامبالاة. (ج) الليبرالية أو الرأسمالية
وهو التيار الذي بدأ في فجر النهضة العربية الحديثة، والذي لم يبدأ من الموقف التراثي الذاتي أو الغيري، بل بدأ من واقع الأمة ذاتها ونهضتها، والذي بدأه الطهطاوي وخير الدين التونسي ولطفي السيد. وقد قدر له أن يحكم بالفعل في مصر، وكانت من مآثره: (1)
بناء الدولة الحديثة، دولة محمد علي، وتكوين أول محاولة في المنطقة للنهضة الحضارية، وما زالت آثارها في الترع والسدود ووسائل النقل والموانئ ودور الثقافة والطباعة. (2)
نشأة الفكر الليبرالي وما يحمله من مفاهيم الحرية والدستور والعدالة. وقد كان مشبعا بفكر الثورة الفرنسية، وبمفاهيم العدالة والمساواة، وارتباطه بالتاريخ وبمفاهيم التقدم والثورة. (3)
اتحاده بالحركة الوطنية وتفجير الثورات الوطنية مثل ثورة عرابي وثورة 1919م، وبالأحزاب الوطنية حتى تحول إلى حركة مناهضة للاستعمار على يد الجماهير قبيل الثورات العربية الأخيرة. (4)
ارتباطه بالاتجاه الإسلامي سواء من حيث تأصيل الليبرالية في التراث الذاتي أو من حيث إعادة فهم التنوير على أساس إسلامي وبناء الدولة الإسلامية الشرعية، وتمثله أيضا القيم التي نادى بها دعاة العلمية والعلمانية.
ولكن كانت حدوده كالآتي: (1)
نشأة الرأسمالية كنتيجة طبيعية لليبرالية السياسية، خاصة وأنها في بلاد محدودة الدخل تصبح أقرب إلى الإقطاع. (2)
سيادة النظم الملكية الوراثية وهي نظم تتعارض مع الليبرالية السياسية، ويفرضها التخلف المتوارث. (3)
التلاعب بالحرية والدستور، والدخول في لعبة الأحزاب البرلمانية والأغلبية والأقلية وتغيير الوزارات. (4)
الفساد العام وسيادة الرشوة، والتهرب من الضرائب، وذلك في نطاق الأقلية الحاكمة في مقابل الأغلبية التي يسودها الثالوث الشهير: الفقر والجهل والمرض.
ولهذه الأسباب قامت الثورة المصرية، ولكنها لسوء الحظ اصطدمت بالاتجاهات الثلاثة الرئيسية في وجداننا القومي، فاصطدمت بالإخوان الذين كانوا يمثلون آخر خيط في الإصلاح الديني، كما اصطدمت بالماركسية ممثلة في الأحزاب الشيوعية، واصطدمت بالليبرالية الممثلة في حزب الوفد، وكل ذلك من أجل الصراع على السلطة، ولم تستطع، لسوء الحظ، أن تقيم جبهة وطنية تنصهر فيها هذه التيارات الثلاثة، خاصة وأنها كانت متقاربة في أهدافها ومتشابهة فيما تنادي به. كما أنها لم تنشئ تنظيما سياسيا شعبيا لديها يحمي مكتسبات الثورة. وبالإضافة إلى طابع الحكم الفردي الذي ساعد على سلبية الجماهير نشأت طبقات جديدة أثرت على حساب الثورة وورثتها في النهاية.
2 (3) الزمان والتاريخ
ويبدو أن نهضتنا الحضارية قد تعثرت في هذا القرن بالرغم من بداياتها الطيبة في القرن الماضي؛ نظرا لعدم وجود تصور جدلي للعلاقة بين الزمان والتاريخ، بين مرحلة التجربة الوطنية ومراحل التاريخ. (أ) الرجوع إلى الماضي واستباق المستقبل
لما تطور الإصلاح الديني وتحول إلى السلفية على يد رشيد رضا ثم الاخوان المسلمين فقدت مفهوم التقدم والتاريخ، وعادت إلى الوراء إلى أيام الإسلام الأول. فالسلفية إذن نقل للحظة الحاضرة إلى الماضي لنقص في القدرة على تحليل الواقع وعلى حصر عوامله واستقصاء محركاته. وما أسهل الرجوع إلى الماضي وعيش الواقع بالخيال، وتمني التحقيق بالأحلام، فذاك يعطي عزاء وحمية، وصدقا في القول، فلا أحد يقدر على أن يعارض المبدأ. فيتقدمون إلى الوراء مع تشنج وتعصب أو تكوين جماعات مغلقة منفصلة عن المجتمع فوق الأرض أو في الصحراء أو تحت الأرض. وسرعان ما يتم اصطدامها مع سلطة الدولة.
وفي الماركسية يتم تجاوز الحاضر أيضا إلى المستقبل، فالسلفية والماركسية بالرغم مما يبدو بينهما من تعارض ظاهري إلا أنهما في حقيقة الأمر يشاركان في خطأ واحد وهو التنكر للحظة الحاضرة، والمرحلة التاريخية المحددة التي تمر بها الشعوب. فلا يمكن الانتقال من الإقطاع إلى الشيوعية دون المرور بمراحل متوسطة من الليبرالية والعدالة الاجتماعية والاشتراكية الدينية أو الخلقية ثم الاشتراكية العلمية. ولا يمكن الانتقال من الخرافة إلى العلم دون المرور بالمراحل المتوسطة من عقلانية وتنوير. إن معرفة دور الأجيال وتقسيم المراحل بينها يمنع من أن يقوم جيل بدور أجيال قادمة وينسى دوره الخاص. ودور جيلنا هو الانتقال من الإصلاح إلى النهضة، وقد تأتي أجيال قادمة للانتقال من النهضة إلى الثورة. ومن ثم كانت النهضة الحلقة المتوسطة بين الإصلاح والثورة. فاستباق المستقبل ينسي ثقل الماضي وما فيه من عقبات للتقدم لم يتم التغلب عليها ودفعات عليه لم يتم استخدامها. كما أنه ينسي اللحظة التاريخية الحاضرة التي قد ترفض أية مزايدات تاريخية عليها. وغالبا ما يكون مصير هذه الحركات أيضا تكوين جماعات منعزلة فوف الأرض للثقافة والفن، أو تحت الأرض سرعان ما تصطدم بالسلطة وتقضي بقية نشاطها السياسي في السجون. (ب) اللحظة التاريخية الحاضرة
إن شرط النهضة الحضارية الأول هو التعرف على اللحظة التاريخية الراهنة التي تعيشها المجتمعات الناهضة، وابتداء من هذه اللحظة تحدد مسارها وخططها ومراحل تحولها وأهدافها القريبة والبعيدة. ومن هنا أتت ضرورة وضع الأمة في منظور تاريخي يعطيها إياه إحساسها بالتاريخ وبقانون حركته.
واللحظة الراهنة التي تمر بها الأمة يمكن وصفها على النحو التالي: (1)
أزمة الغرب، أزمته المعنوية في المذاهب السياسية والأيديولوجيات والقيم، وأزمته المادية الاقتصادية، أزمة الطاقة، والإنتاج، والتسويق، والتضخم، وسباق التسلح والخطر النووي. ويعبر مفكرو الغرب عن هذه الأزمة بعبارات: انهيار الغرب، سقوط الغرب، انتحار الغرب، نهاية الغرب ... إلخ. وكأن الغرب قد قام بدورته منذ الإصلاح الديني إلى النهضة إلى العقلانية إلى التنوير إلى الثورة، ثم إلى الأزمة في النهاية (شبنجلر، هوسرل، برجسون، نيتشه). (2)
اكتشاف الشرق والبعد الآسيوي للحضارة البشرية بعد أن حاك الغرب حوله مؤامرة الصمت (جارودي، نيدهام)، وأن آسيا تمثل الرصيد البشري والمعنوي للشعوب المتحررة حديثا. وبداية الانفتاح على الشرق ليس فقط من حيث تأييد الثورة الاشتراكية للثورة العربية كما حدث في العقدين الماضيين، ولكن الانفتاح الثقافي واكتشاف الهند والصين وإيران وآسيا الوسطى وجنوب شرقي آسيا، وأول ما انتشر العرب ذهبوا إلى الشرق وأول ما انتشر الإسلام انتشر شرقا.
3 (3)
اكتشاف القدرات الذاتية للأمة العربية والإسلامية بعد ثوراتها الأخيرة فيما تمثله من إبداع في مشروعها القومي، وتكوين تجمعات جديدة: باندونج، دول عدم الانحياز، شعوب آسيا وأفريقيا، القارات الثلاث، العالم الثالث، واكتشاف إمكانياتها المعنوية والمادية؛ فهي الشعوب التاريخية التي وضعت البشرية في بداياتها على طريق النهضة والتقدم في الماضي، وهي الشعوب التي استطاعت إبداع ثقافات التحرر الوطني في الحاضر، وهي الشعوب التي تمثل على المسرح الدولي النظام العالمي الجديد، بالإضافة إلى إمكانياتها البشرية والمادية وما لديها من مواد أولية وأسواق وأيد عاملة ورءوس أموال وقدرات هائلة على الإبداع لما وصل إليه مثقفوها وعلماؤها من درجة قصوى في الإتقان والأداء. (ج) حصار الإبداع وإجهاض العقول
لذلك كان المشروع المضاد لمشروع النهضة العربية هو حصار الإبداع وإجهاض العقول، وذلك على النحو الآتي:
4 (1)
احتكار النظم السياسية للعمل الوطني وعزل المثقفين الوطنيين عنه؛ خشية من تعدد الآراء، وإيثارا للرأي الواحد ليس فقط في الأهداف الوطنية، بل أيضا في الوسائل لتحقيق هذه الأهداف. (2)
عدم تجنيد طاقات الشعب كلها لخدمة القضية الوطنية، وبالتالي انعدم من المواطنين الولاء القومي، باستثناء اللحظات الحاسمة في تاريخ البلاد مثل 9-10 يونيو 1967م، وحرب أكتوبر 1973م، ويومي 18، 19 يناير 1977م. (3)
العزلة عن الواقع وعدم وجود خبرات محلية تبدأ منها التجربة الوطنية حتى يحدث الإبداع، وكأن الناس تعيش في أوطانها بأجسادها دون أرواحها؛ لأنها أسيرة الضنك أو الاحتكار. (4)
الهجرة إلى الخارج أو ما سمي «استنزاف العقول» ثم امتصاص الخبرات الوطنية في الثقافات الغربية وترك البلاد بلا «كادر» قادر على التنمية. (5)
الهجرة إلى الداخل والانزواء والتقوقع على الذات، والحزن والبكاء على ما فات، والحسرة والندم، وحالات الاكتئاب النفسي، وتحويل الوطنيين إلى مرضى نفسيين. (6)
التخصص العلمي الدقيق دون وعي سياسي يمكنه توظيف هذا العلم؛ نظرا لما ينشأ عن العلم من نجاح مهني وما ينشأ عن السياسة من مخاطر وأضرار للمهنة وللقمة العيش. (7)
التعايشية والارتزاق والرغبة في إيثار السلامة، وتوظيف العلم لمن يدفع أكثر داخل البلاد أو خارجها، فالعلم لا وطن له إلا الدخل الفردي! (8)
محاصرة المبدعين وإجهاض العقول حتى يحدث الإحباط العام ليس فقط في الخارج ولكن أيضا في الروح؛ حتى يتم القضاء على آخر حصون المقاومة ويعلن الجيل الفشل التام، وأنه «الإفلاس التاريخي» فتندثر حضارة الأمة وتتحول إلى متاحف التاريخ.
5
الفلسفة والتراث1
أولا: مقدمة: ماذا تعني الفلسفة والتراث؟1
أصبح لفظ الفلسفة شائعا في فكرنا المعاصر وإن كان أقل شيوعا في تراثنا القديم الذي فضل لفظ الحكمة، وأسس لها علوما بأكملها هي علوم الحكمة.
2
وإن كان بعض القدماء قد استعمل أيضا لفظ الفلسفة ويعني بها الفلسفة اليونانية خاصة،
3
بينما آثر البعض الآخر استعمال تعبير «الفلسفة الأولى» على العموم.
4
أما لفظ «التراث» فإنه من استعمال المعاصرين تحت أثر الفكر الغربي وكترجمة لا شعورية وغير مباشرة لكلمات مثل
Heritage, Legacy, Uberlieferung
مما يدل على نهاية مرحلة وبداية أخرى.
5
ففي الوقت الذي يتحول فيه الماضي إلى تاريخ ينشأ الوعي التاريخي فاصلا بين القدماء والمحدثين. حدث ذلك عندما أصبح أرسطو مؤرخا معلنا اكتمال الفلسفة اليونانية، وفي معركة القدماء والمحدثين في القرن السادس عشر إبان عصر النهضة الأوروبي وعند ديكارت في القرن السابع عشر مميزا نفسه عن القدماء ومعلنا نهاية العصر الوسيط حتى انتصر الجديد كلية في العصور الحديثة وبدأت المرحلة الثانية في الوعي الأوروبي. وقد حدث ذلك أيضا عند ابن رشد في الفلسفة الإسلامية عندما أرخ للسابقين عليه، وعند ابن خلدون عندما أرخ للحضارة كلها وحاول وضع قانون لقيام الحضارات وسقوطها. ومنذ الإصلاح الديني الحديث والسؤال قائم بصياغات مختلفة: ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟
6
وأما ما يسمى عند الباحثين من جيلنا - العقل العربي - في «تحديث العقل العربي» أو «نقد العقل العربي» أو «تكوين العقل العربي» فإنه مفهوم غريب على التراث. فالعقل لا قومية له. هناك العقل الخالص الذي يوجد في كل إنسان، الفاعل أو المستقل، بالقوة أو بالفعل، بالملكة أو المستفاد، وهو إحدى قوى النفس ولا يدل على حضارة أو تراث. نشأ في أمة إسلامية، العرب أحد شعوبها، يتحدثون اللسان العربي. وقد نشأ المفهوم في الغرب إبان المد القومي في القرن التاسع عشر الأوروبي مثل «العقل الألماني» و«العقل الفرنسي» و«العقل البريطاني» أو «العقل الأوروبي» و«العقل اليهودي»، ومن نفس البيئة خرج «العقل العربي» تروجه الأوساط القومية والعنصرية في الغرب، ويعطي خصائص ثابتة للشعوب وطرق تفكيرها؛ استئنافا لمفهوم «العقل البدائي» في علم الأنثروبولوجيا إبان نشأته الأولى.
7
وماذا يعني التراث؟ هل المقصود هو التراث الفلسفي، خاصة أي ما يسمى بعلوم الحكمة عند الكندي وأبي بكر الرازي والفارابي وابن سينا وابن باجة وابن طفيل وابن رشد وأبي البركات البغدادي وفخر الدين الرازي، وكأن لفظ الفلسفة الأول يأتي كمخصص قبل المخصص وليس بعده أم أن المقصود التراث الفكري كله الذي يشتمل على الفلسفة والكلام والتصوف وأصول الفقه، أو التراث كله الذي يشمل العلوم العقلية النقلية الأربعة والعلوم النقلية الخمسة والعلوم العقلية الخالصة الرياضية أو الطبيعية؟
أما حرف العطف «الواو» فهو أصعب تحديدا وأدق معنى. فمنطق العلاقات أصعب وأكثر تشابكا من منطق الجواهر. السؤال إذن: ما الصلة بين الفلسفة والتراث، تلك الصلة التي يشير إليها حرف العطف ويفترضها منذ البداية؟ هل المقصود كيف نشأت الفلسفة، أي علوم الحكمة في تراثنا القديم؟ أم أن المقصود هو صلة الفلسفة المعاصرة التي ندرسها في جامعاتنا ومعاهدنا بالتراث الفلسفي القديم؟ الأرجح هو الثاني. فالأول سؤال تاريخي أكاديمي خالص وإن كانت له دلالته المعاصرة في أن الفلسفة قد نشأت من تراثنا القديم في حين أن الفلسفة في عصرنا إما نقل من النشأة الأولى دون نشأة ثانية، أو نقل عن التراث الغربي المعاصر بعد أن أصبح الغرب الحديث هو المركز وما سواه من الشعوب والحضارات هي الأطراف. وانتقال العلوم والمعارف من المركز إلى المحيط مثل انتقال الجيوش والخبرات وبرامج الإرسال من أجهزة الإعلام. والثاني سؤال يكشف مباشرة عن أزمة الفلسفة في عالمنا العربي اليوم.
8
لماذا تبدو الفلسفة وكأنها وليد مريب في بيئة ثقافية تلفظها؟ وفي كلتا الحالتين الفلسفة في أزمة لأنها تبدو وكأنها إما نقل للمذاهب الغربية الحديثة والمعاصرة كما هو الحال في جامعاتنا في تدريس فلسفات القرنين السابع عشر والثامن عشر في الفلسفة الحديثة وفلسفات القرنين التاسع عشر والعشرين في المعاصرة ونقل للعلوم الإنسانية الغربية مثل علوم المنطق والنفس والاجتماعى والأخلاق والسياسة والجمال، أو نقل للفلسفات والعلوم القديمة مثل علوم الكلام والفلسفة والتصوف، باستثناء أصول الفقه الذي لم يحظ حتى الآن بإدخاله ضمن العلوم الفلسفية بالرغم من التنبيه على أهميته والتحذير من إغفاله.
9
وعلى أقصى تقدير يتم وضع بعض جوانب التراث القديم في العلوم الفلسفية الغربية المعاصرة كبدايات لها، وصياغات لا علمية في مرحلة ما قبل العلم، وأسوة بما يحدث في التراث الغربي في نظرته للتراث الشرقي باعتباره بدايات العلم قبل صياغاته الأخيرة في العصور الحديثة،
10
وأحيانا تعقد بعض مقارنات بين رواد المثالية في الفلسفة الغربية ومؤسسي حركة الإصلاح الديني في فكرنا المعاصر.
11
وقد يكون المقصود من «الفلسفة والتراث» هو صلة الفلسفة كواقع حالي، أي كفكر ومنهج واختيار، بالتراث القديم بالمعنى الفلسفي الخاص أو بالمعنى الحضاري العام. كيف يتعامل أساتذة الفلسفة حاليا باسم الفلسفة مع هذا التراث القديم؟ ما هي مسئولية الفلسفة كمنهج والتزام بالنسبة للموروث الفلسفي القديم؟ هنا تشير العلاقة بين الفلسفة والتراث من خلال حرف العطف إلى الجبهة الثالثة في موقفنا الحضاري، أي الواقع الحالي، وكيف يفرض نفسه، في حالة استيقاظه، على التراث القديم، يتفاعل معه، وينتقي منه، وينقد رواسبه، ويطور عناصره التي توقفت، ويبرز مواطن قوته.
وعلى أية حال، سواء كان المقصود المعنى الأول الذي يجعل العلاقة بين الفلسفة والتراث سؤالا تاريخيا خالصا مشيرا إلى تراثنا القديم (الجبهة الأولى)، أو كان المقصود هو المعنى الثاني الذي يجعل هذه العلاقة سؤالا فلسفيا معاصرا قريب الصلة بالفلسفة الغربية الحديثة والمعاصرة؛ حيث إن لفظ الفلسفة أقرب إليها (الجبهة الثانية)، أو كان المقصود علاقة الفكر ذاته والفلسفة كعملية ممارسة للتفلسف وصلتها بالتراث القديم (الجبهة الثالثة)، فإنه يظل سؤالا مطروحا بكل هذه المعاني الثلاث وفي هذه الجبهات الثلاث، خاصة وأنها معان متداخلة وجبهات متشابكة. وتكون الصعوبة في معرفة إلى أي حد تميل العلاقة بين «الفلسفة والتراث» إلى أي من هذه المعاني أو الجبهات الثلاث.
12
ثانيا: أزمة «الفلسفة والتراث»
تتمثل أزمة «الفلسفة والتراث» في وجود «ثنائية المصدر» في فكرنا الفلسفي المعاصر: الفلسفة، والتي تعني في الغالب الفلسفة الغربية الحديثة والمعاصرة، والتراث، ويعني في الغالب التراث الفلسفي القديم. فالفلسفة تأتي من الغرب الحديث، والتراث يأتي من تاريخنا القديم. ويعني ذلك أن «الآخر» هو الحديث المعاصر وأن «الأنا» هو التاريخ القديم. وبالتالي يصبح التمايز بين «الأنا» و«الآخر» تمايزا في الزمان، بين القديم والجديد، بين التراث والفلسفة إلى آخر ما يقال من مصطلحات عصرنا ومطلبه الرئيسي في الأصالة والمعاصرة. أما البعد الثالث وهو الذي يمثله حرف العطف «الواو» أي الفكر المستقل اعتمادا على العقل الخالص والذي يمكن أن يكون موطن التفاعل بين القديم والحديث فلا وجود له. وهو العقل الذي نيطت به عدة علوم فلسفية خالصة وفي مقدمتها الميتافيزيقا، وإن كان قد غلبت على هذا العلم أيضا مادة المعاصرين مثل كانط وهيدجر وكارناب. كما أن المدخل إلى الفلسفة قد غلب عليه أيضا الطابع الذري في قسمة الفلسفة إلى نظريات ثلاث مشهورة: المعرفة والوجود والقيم دون الإشارة إلى ما يعادلها في تراثنا القديم في علم أصول الدين: نظرية العلم، ونظرية الوجود، والإلهيات التي تضم نظريتي التوحيد والعدل أي مجموع القيم وفي مقدمتها استقلال العقل، وحرية الإرادة، والأمل في المستقبل.
1
والحقيقة أن هذه النظريات الثلاث في الفلسفة الغربية الحديثة إنما أتت في بداية العصور الحديثة كغطاء نظري جديد بديلا عن الغطاء النظري القديم الذي ورد من العصر الوسيط والذي تم إسقاطه في عصر النهضة في حين أن هذه النظريات الثلاث ما زالت مطوية داخل علم العقائد في تراثنا القديم. وإن «أسس الفلسفة» بالنسبة لجيلنا هي الجبهات الفلسفية الثلاث التي يحتمها موقفنا الحضاري الحالي: الموقف من التراث القديم، والموقف من التراث الغربي، والموقف من الواقع.
2
والضحية الرئيسية لهذه الأزمة هي ظروف العصر التي تم إسقاطها كلية من الحساب؛ مما ينتج عنه حيرة طلاب الفلاسفة بين التراث القديم والفلسفة المعاصرة. ومع ذلك نشكو من عدم ارتباط مقرراتنا الفلسفية بروح العصر وعدم تعرضها لمشاكله، ونثير الموضوع على صفحات الجرائد وفي أجهزة الإعلام كنوع من تبرئة الذمة أمام النفس، وكأننا على وعي بالأزمة ونحاول جاهدين إيجاد حل لها. والسبب واضح وهو حصار طالب الفلسفة بين هذه الجبهات الثلاث: تراثنا القديم، والتراث الغربي المعاصر، وواقع عصرنا وهمومه، دون ما رابط عضوي أو تفاعل بينها. والحل واضح وهو تحديد الموقف بدقة من هذه الجبهات الثلاث وإيجاد عناصر التفاعل بينها؛ حتى لا يميل وعينا القومي تجاه أحد منها متناسيا الآخر تماما ومتجاهلا إياه فيهزم فيه؛ إذ تخرج «السلفية» من الجبهة الأولى، كما تخرج «العلمانية» من الجبهة الثانية، وتحاول «الإصلاحية» الخروج من الجبهة الثالثة. وكل فريق يتجاهل الجبهتين الأخريين أو يكتفي بمعاداتهما وتكفيرهما، لا فرق بين هذا الفريق أو ذاك.
وقد يكون أحد أسباب هذه الأزمة هو أن الجبهتين الأولى والثانية، أعني التراث القديم والفلسفة الغربية المعاصر؛ هو عدم تساويهما من حيث العمق التاريخي. فالتراث أعمق من الفلسفة في وعينا التاريخي. إذ يمتد التراث في وعينا القومي أكثر من أربعة عشر قرنا، في حين أن الفلسفة الغربية وليدة فيه منذ قرنين من الزمان. فهي لم تكون تراثا قديما بعد، والأجيال التي عملت فيه لا تتجاوز الجيلين أو الثلاثة، بل إن التراث الغربي عند أصحابه ما زال معاصرا بالنسبة إلى تراثه القديم في العصر الوسيط أو في العصر اليوناني. وهو أيضا كذلك حتى عند الاتجاهات المحافظة في الفلسفة المعاصرة مثل التوماوية الجديدة التي تعتبره مجرد قوسين، تأويلا جديدا لموضوعات أساسية في العصر الوسيط، وإذا كان التراث أكثر رسوخا في وعينا التاريخي من الفلسفة فإن التعبير «التراث والفلسفة» يكون أصدق من «الفلسفة والتراث». فالأولوية للتراث على الفلسفة لأنه أعمق تاريخيا وأرسخ وجدانيا في وعينا القومي.
وقد يكون أحد أسباب عدم التوازن في وعينا القومي بين التراث والفلسفة هو أن التراث معلوم الهوية؛ إذ يعني تراثنا القديم أنه يعبر عن هوية الأنا، في حين أن الفلسفة والتي قد تعني الفلسفة الغربية المعاصرة، أقل وضوحا في التعبير عن الهوية، وهوية من؟ هوية الأنا أم هوية الآخر؟ وإذا كانت هوية الأنا فهل هي هوية الأنا القديم أم هوية الأنا المعاصر؟ وبالتالي ينشأ في الأنا ولاء مزدوج لهويتين غير متكافئتين؛ هوية القديم برسوخه وعمقه التاريخي، وهوية المعاصر بحداثته وغربته. وتشتد الأزمة بحيث يستحيل الجمع بين التراث والفلسفة بحرف العطف لأن العلاقة بينهما علاقة صراع وتضاد منذ نهضتنا الحالية. فإذا كان التراث يعبر عن «الأنا» والفلسفة تعبر عن «الآخر»، فإن علاقة التراث بالفلسفة تحددها علاقة الصراع بين الأنا والآخر، بين التحرر والاستعمار، بين الشرعية واللاشرعية، بين الجماهير والصفوة، بين المحكومين والحكام. وهل يمكن حل هذا الصراع بين الأنا والآخر، بين الجبهتين الأولى والثانية إلا في الواقع المباشر، أي الجبهة الثالثة، حيث يدور القتال؟
3
ثالثا: مظاهر الأزمة
وتبدو الأزمة في تعاملنا مع التراث القديم في نقل علومه كلها دون ما اختيار أو تطوير. فغالبا ما ننقل الفلسفة والكلام والتصوف دون أصول الفقه مع أنه، وكما نبه على ذلك رواد البحث الفلسفي في عصرنا، أهم مواطن الإبداع في فكرنا الفلسفي المنطقي المنهجي. وما زال قابعا في كليات الشريعة في الجامعات الدينية مثل الجامعة الأزهرية، والجامعات الإسلامية بأم درمان والقرويين والزيتونة أو في كليات الحقوق في الجامعات الوطنية، مطويا في الشريعة الإسلامية وكأنه أحد مقدماتها دون مقارنة بينه وبين العلم الموازي له في التراث الغربي؛ أعني منطق القانون ومناهج تفسيره.
1
أسقطنا أصول من الفقه الحساب مع أنه منطق النص، وروح الحضارة، ومنهج الفكر، وموطن الإبداع، وبالرغم من شكايتنا المستمرة من غياب الفكر المنهجي في فكرنا المعاصر، ودعوتنا إلى أهمية المنهج في الفكر الغربي.
وفي تدريسنا للعلوم العقلية النقلية الأربعة وضعناها كلها على مستوى واحد دون أن نفضل بعضها على بعض، فعلم الكلام كالفلسفة وكالتصوف سواء بسواء دون تمايز بينها من حيث الأهمية أو النفع بالنسبة لعصرنا الحاضر بل ودون جدل بينها، هذا الجدل الذي أدركه القدماء. فالفلسفة تطوير للعقائد في الصراع الدائر بين المتكلمين والفلاسفة.
2
والتنزيل في صراع مع التأويل وهو الصراع المشهور بين الفقهاء والصوفية. والمتكلمون في صراع مع الصوفية، وهو الصراع بين منطق العقل ومنطق الذوق، بين البرهان والكشف، ومحاولة الفلسفة الإشراقية من ناحية وحكمة الإشراق من ناحية أخرى الجمع بينهما.
3
وقد حاول المتأخرون كالمتقدمين «إحصاء العلوم» من أجل تحديد علاقة العلوم كلها بعضها ببعض في نسق علمي واحد؛ طبقا لمقاييس في التصنيف تدل على اتصال الإلهيات بالطبيعيات، وعلم الكلام وعلوم الفقه بالعلم المدني.
4
وننقل مادة كل علم وعلى أقصى تقدير نصف نشأته وكأننا غرباء عنه، متفرجون عليه أشبه بالمستشرقين من أصحاب البلاد سواء بسواء مع أننا جزء منه، ومسئولون عنه. توقف العلم لأننا انفصلنا عنه، وتخلينا عن مسئوليتنا تجاهه كجزء من التخلي عن المسئوليات العامة لرجال العلم ولعلماء الأمة وتركها في أيدي أولي الأمر. وكان من نتيجة ذلك أن توقفت العلوم بعد نشأتها وتطورها واكتمالها.
وفي كل علم نعرض لأمهات المسائل والخلاف حولها وكأننا لسنا طرفا فيها، وكأن الأمر لا يعنينا في قضايا المصير. ففي الكلام نعرض للخلاف بين المعتزلة والأشاعرة ولا نفضل التنزيه على التشبيه في التوحيد، ولا نؤثر العقل على النقل، ولا حرية الإرادة على الجبر والكسب في العدل. ولا نعطي الأولوية للعمل على الإيمان في الأسماء والأحكام ولا للاختيار على النص في الإمامة. فلا تزال الإمامة في قريش، أي في فئة لا تخرج منها. وهي اختيارات قديمة فرضتها ضرورات العصور القديمة إبان النزاع على السلطة منذ أيام الفتنة الأولى والتي حفظتها الكتب المدونة ويكررها الأساتذة في الجامعات الدينية والوطنية بالرغم من تغير الظروف والتي تحتم اختيارات بديلة؛ طبقا لحاجات عصرنا. ما زلنا نؤرخ للفرق بين الفرق دون محاولة للجمع بين الفرق ونحن ندعو إلى الوحدة الوطنية ونريد تأسيس الجبهات الوطنية بعيدا عن أحادية الطرف في الحكم وكوسيلة للخلاص.
وفي الفلسفة نكرر القسمة الثلاثية القديمة: المنطق والغيبيات والإلهيات دون أية محاولة لإعادة بناء المنطق الصوري القديم، وتحويله إلى منطق شعوري أو جدلي أو اجتماعي. ونكرر الطبيعيات القديمة ودرجاتها وترتيبها الصاعد من العناصر الأربعة إلى المعادن إلى النبات إلى الحيوان إلى النفس، والطبيعة ساقطة من وعينا القومي. ونكرر الإلهيات القديمة بإشراقياتها وفيضها وإعطائها الأولوية لله على العالم دون ما محاولة لإعادة بنائها لرد الاعتبار إلى العالم؛ من أجل القضاء على اغترابنا فيه والعودة إليه. ونثبت الضرورة الكونية في العالم التي تحتمها أحكام النجوم ودوائر الأفلاك، ونرى الطوالع لمعرفة مصائر البشر. ونرى المدينة الفاضلة متمثلة في الدولة الهرمية التي تأخذ القمة فيها كل شيء ويسلب عن القاعدة كل شيء. نعيد البناء القديم والإنسان والتاريخ فيه غائبان، وهما محورا التقدم في كل حضارة ولدى كل الشعوب.
5
ونعيد التصوف القديم ونكرره كعلم دون أن نحدد نشأته التاريخية الذاتية، وليس مصادره ومؤثراته الخارجية كما يفعل المستشرقون طبقا لمنهج الأثر والتأثر، فقد كان التصوف مجرد رد فعل تاريخي على تيار البذخ والترف ونتيجة للتكالب على العالم، والامتثال بين الفرق السياسية، كل منها تدعي أنها أولى بالحكم الشرعي، وتكفر الأخرى. كان التصوف حركة مقاومة سلبية بعد أن استحالت المقاومة الفعلية وبعد أن استشهد العديد من الأئمة من آل البيت في خروجهم على السلطان. لم تبق إلا محاولة الخلاص الفردي بعد أن استحال الخلاص الجماعي، وترك الدنيا بمن فيها على من فيها، بعد أن تكالب الناس عليها، والهروب إلى الله بعد أن استعصى العالم واستحالت السيطرة عليه. ولا نطرح سؤال: هل الموقف الآن هو كذلك؟ هل المقاومة ميئوس منها؟ هل ما زال الهروب إلى الله مطروحا؟ هل إنقاذ الجماعة قد انتهى إلى طريق مسدود؟ هل استشهد منا قادة المعارضة مثلما استشهد من آل البيت؟ ما زلنا ندرس التصوف، وندرسه كحركة خروج من العالم بينما العالم ينزلق من بين أيدينا، ويفر من بين أصابعنا، ويهرب فاقدين السيطرة عليه، ثم يأتي الغير كبديل عنا ليحل محلنا بحجة المساعدة والعون والتعاون المشترك والتنسيق المتبادل والمناورات المشتركة.
وفي كليات الشريعة في الجامعات الدينية وكليات الحقوق في الجامعات الوطنية نكرر النسق القديم في علم أصول الفقه ونبرز المدارس الأربعة وكأنها مختلفة متباينة دون أن نراها من منظور واحد وكمنهج واحد مع تأكيد كل مدرسة على أحد جوانبه. فالمالكية تعطي الأولوية للواقع على النص، والحنفية تعطي الأولوية للنص على الواقع، والشافعية تجمع بين الاثنين طبقا للضرورة والمصلحة وتغير الزمان والمكان، والحنبلية دعوة إلى العودة إلى الأصول بعد أن تشعب الفكر، وتضاربت مناهج الاستدلال، وتداخلت الأهواء والمصالح، وتشابكت العلل. كما نكرر النسق القديم في ترتيب الأصول الأربعة: الكتاب والسنة والإجماع والقياس. وهو ترتيب كان يتفق مع روح العصر القديم؛ نظرا لقربه من الوحي وأولويته على الواقع. في حين أن روح العصر الحالي، واستنادا أيضا إلى روح الوحي الممثلة في أسباب النزول و«الناسخ والمنسوخ» تعطي الأولوية للواقع على الفكر. بالقبول من دليل المتكلمين وبالتالي يكون ترتيب الأصول الأربعة الذي يفرضه روح العصر: القياس، والإجماع، والسنة، والكتاب. وهو الترتيب الصاعد في مقابل الترتيب النازل القديم. الاستقراء في مقابل الاستنباط، القاعدة في مواجهة القمة. وإلا ففيم الشكاية من غلق باب الاجتهاد، وقلة الاعتماد على العقل، وغياب المنطق، وضياع إعمال النظر؟ القياس هو تجربة الفرد الخاصة وجهده العقلي الخالص. وهو قادر على الاستدلال إذا استكمل شروط الاجتهاد: العلم بمنطق اللغة والدراية بأسباب النزول الأولى والوعي بمصالح المسلمين الحالية، وهي أسباب النزول الثانية، أي ظروف قراءة النص حاليا. والإجماع تجربة إنسانية مشتركة بين علماء الأمة، نوع من الحوار الحر بين المفكرين والمنظرين وقادة الرأي دون ما خوف أو قهر أو استبداد بالرأي الواحد، أو إلهام يأتي، حتى ولو كان رأي الخليفة أو الإمام أو قاضي القضاة أو ساري العسكر. والسنة هي التجربة الفريدة لنموذج التحقق الأول في حياة مبلغ الوحي للاسترشاد بها كما هو الحال في المسيحية البدائية واليهودية الأولى، والمراحل الأولى في كل المذاهب الفكرية قبل أن تنالها عوامل التاريخ وصراعات القوى بالانحراف والتغيير أو الضياع. والكتاب هو تجارب الأمم والشعوب على مدى التاريخ، التراكم المعرفي الإنساني الشامل المتحقق مع مراجعة العقل والفطرة وكما تبدو في الحكم والأمثال والمأثورات والآداب الشعبية.
6
وأسقطنا العلوم النقلية الخالصة من الحساب، فتلقفتها الجامعات الدينية وبعض أقسام اللغة العربية في الجامعات الوطنية تعيد في الأغلب اجترار علوم القرآن والحديث والتفسير والسيرة والفقه كما تركها القدماء بلا تطوير وبلا نقل لها من مرحلة العلوم النقلية إلى مرحلة العلوم النقلية العقلية. وتلك مهمة المعاصرين حتى تأتي أجيال لاحقة فتحولها إلى علوم عقلية خالصة. وهي أكثر العلوم حضورا في وعينا القومي؛ فقد استقرت في الأذهان، وترسبت في الوعي، وامتلأت بها المكتبات العامة والخاصة في المساجد والقصور، وقامت عليها المعاهد والمدارس الدينية، وشاعت وراجت طباعة، وتوزيعا، وكسب الناشرون من ورائها الملايين. يستشهد بها الأئمة والخطباء، ويستعملها العامة والخاصة كحجج سلطة للإثبات أو النفي، وهي العلوم التي نشأت نقلية خالصة وتوقف تطورها، ولم تتحول بعد إلى علوم نقلية عقلية، كباقي العلوم الأربعة الأخرى التي تغلب على أقسام الفلسفة. ولما ظلت بعيدة عن أعمال العقل وممارسة النقد امتلأت بالأساطير وسادتها الخرافات، وغاب عنها النقد الداخلي، واكتفينا بالنقد الخارجي كما وضعه القدماء.
لم تتطور علوم القرآن منذ السيوطي والزمخشري، ولم تزد أبوابها عن الأبواب القديمة التي تبلغ المائة بما في ذلك الحرف والشكل والصوت ودون التمييز بين ما هو دال وبين ما لا دلالة له. ظللنا نردد مادة كانت لها دلالتها عند القدماء لقرب عهدهم بالوحي مثل: هل الفاتحة جزء من القرآن؟ هل البسملة جزء من السورة؟ وهي مسائل لم تعد ذات دلالة عندنا لأنها استقرت ولم تعد موطنا للنقاش، وإثارتها مع غيرها مثل ضرورة حذف «قل»، «قال» أو تغيير التاريخ الهجري إلى تاريخ مولد الرسول يجلب الضرر أكثر مما يجلب النفع، ويفرق أكثر مما يجمع. في حين فرض عصرنا أن تكون الأولوية لأبواب أخرى ذكرها القدماء دون التركيز على دلالتها مثل «أسباب النزول» أي أولوية الواقع على الفكر، «الناسخ والمنسوخ» أي تطور التشريع في الزمان وقياسه على القدرة والأهلية، المكي والمدني، أي التصور والنظام، والعقيدة والشريعة، النظر والعمل ... إلخ.
وظلت علوم التفسير القديمة ضحية التفسير الطويل الزماني المتقطع، سورة بعد سورة، آية بعد آية؛ حيث يتوزع الموضوع الواحد في عديد من الأمكنة فتضيع وحدته، ويفقد الناس رؤيته، ويتفتت بناؤه، وبالتالي لا يغير من الواقع شيئا ولا يقدم له نظرية. في حين أن التفسير الموضوعي للقرآن قد يكون أقرب إلى روح العصر لمعرفة موقف الوحي من الأرض والملكية والعمل والطبقات الاجتماعية والفقر والغنى وعوائد النفط والتبعية للأجنبي والحرية والقهر.
7
كما كانت علوم التفسير القديمة ضحية النزعة التاريخية ، أي البحث عن الوقائع المادية التي يشير إليها النص، في حين أن النص مجرد باعث على الفعل والسلوك، وصدقه النظري في تطابقه مع التجربة البشرية وليس مع الوقائع التاريخية .
8
أما علوم السيرة فقد تكون هي المسئولة عن التشخيص في حياتنا العملية وعبادة الأشخاص عندما تتحول الأفكار والمذاهب والمبادئ ونظم الدول بل وعصور التاريخ إلى أشخاص. الوحي مبادئ لا مشخصة، ونظريات لا شخصية، تصورات مبدئية، وشرائع عامة، والرسول مجرد مبلغ للوحي، وأول مبين لعمومه، ومطبق لشريعته. ليس الرسول وحيا بشخصه وإلا وقعنا في التصور المسيحي للوحي، وهو المسيح بشخصه أو الكنيسة بمؤسساتها. علوم السيرة نشأت في المسيحية نظرا لتحول العقيدة من الكلمة عند المسيح إلى الشخص عند الحواريين خاصة بولس، ولتقديس الحواريين من بعده وتعظيم الرهبان ودفنهم في الكنائس وإقامة المعابد فوق المقابر. ولكنها قد لا تنشأ في الإسلام لأن الرسول مجرد مبلغ للوحي، كان يأكل الطعام ويمشي في الأسواق، ابن امرأة كانت تأكل القديد، رسول قد خلت من قبله الرسل، لا يقوم بالمعجزات في حياته أو بعد مماته، ولادته ومماته مثل سائر البشر؛ لذلك كان تشخيص الرسالة في علوم السيرة هو الراسب التاريخي المكون لعبادة الأشخاص في حياتنا القومية المعاصرة. ثم قويت نظريات الشفاعة والولاية والتوسط والمحبة والتي شملت آل البيت أيضا. هذا التشخيص من خلال الطرق الصوفية يعتبر الرافد الأول للدين الشعبي الذي يمارسه الناس في حياتهم اليومية.
أما علوم الحديث فإنها استطاعت بحق أن تضبط صحة أقوال الرسول بعد أن تشعبت وزادت ونقصت، واختلط الصحيح منها بالموضوع، وبعد أن رفض الأوائل تدوين مصدر ثان للتشريع مع اكتفاء بالمصدر الأول. كانت ظروف العصر الأول تحتم النقد الخارجي والاعتماد على صحة السند؛ استدلالا منه على صحة المتن. ونشأ علم الجرح والتعديل وعلم ميزان الرجال؛ لقرب العهد برواة الحديث. ولكن الظرف الآن قد تغير، وبعد عهدنا عن عهد الرواة، وأصبح عصرنا أكثر قدرة على النقد الداخلي، أي إعطاء الأولوية للمتن على السند، والاستدلال على صحة الحديث من صحة المتن، واتفاقه مع العقل والحس، مع البداهة والواقع، مع التجربة البشرية ومصلحة الجمهور. وهي بعض مقاييس صحة سند المتواتر مثل: استقلال الرواة أي عدم خضوع الراوي لأية ضغوط لتغيير الذمة، واستحالة التواطؤ والاتفاق على تغيير الرواية بوجود العدد الكافي من الرواة حتى يصبح الاطراد في القول أساس الصحة مثل اطراد التجربة البشرية، التجانس في الزمان أي تجانس انتشار الرواية عبر العصور، لا خفاء فجأة أو شهرة فجأة؛ حتى يمكن معرفة مواطن الوضع وجماعات المصلحة التي تريد إخفاء النص أو نشره.
أما الفقه فإنه كان أيضا وثيق الصلة بالعصر القديم، فغلبت فيه العبادات على المعاملات؛ نظرا لقربه من عصر الوحي، ولحداثة العبادات ونجاح المعاملات، وتبويب الفقه بأيدي فرق السلطان حتى يقنن للناس شريعة تغلب عليها الشعائر والطقوس، ولا تتعرض إلى الحياة العامة إلا في الفروع، وكما هو الحال في الإمامة في علوم أصول الدين عندما وضعت كآخر مسألة في نسق العقائد، كفرع لا أصل، على هامش العقيدة وليس في صلبها؛ اتباعا للعرف وليس طبقا لضرورة العقل ومقتضيات العقيدة. في حين أن أزمة عصرنا في هذه الغلبة بالذات وتواري المعاملات عن العبادات، وامتلاء حياتنا العامة بالعبادات، وانفلات المعاملات طبقا للمنافع الشخصية وأساليب الاستغلال، وتهريب رءوس الأموال مع غطاء فقهي صوري من المصارف الإسلامية وشركات توظيف الأموال. لقد كان هم الفقه القديم معرفة الأحكام الشرعية، الحلال والحرام؛ نظرا لقربه من عصر النبوة وحاجة الناس إلى هذه المعرفة. واقتفينا الأثر، وزايدنا في الإيمان، فركزنا على الحلال والحرام، تاركين المندوب والمكروه أو محيلين إياهما إلى الحلال والحرام كما فعلت الصوفية من قبل، ونسينا المباح. طرحنا سؤال التحليل والتحريم في كل شيء حتى أصبحت حياة البعض منا هاجسا وسواسا يرى الحرام في كل شيء، مع أن الحلال أو المباح أحد أحكام الشرع الخمسة. وكل ما سكت عنه الشرع تحليلا أو تحريما فهو مباح. ولا حلال إلا ما حلله الشرع ولا حرام إلا ما حرمه الشرع. أحالت فرقنا الإسلامية المعاصرة - مثل الصوفية قديما - المكروه إلى الحرام، والمندوب إلى الواجب، وتحولت حياة المسلم إلى ثنائية الحلال والحرام، وضاعت حياة التوحيد، وانزوت أمام المانوية الأولى وثنائيات الخير والشر وتعارض النور والظلمة، وضاعت من النفس الطمأنينة والسكينة وحياة السلام، وتحولت إلى حياة الحرب والتضاد والصراع في معركة وهمية غير متكافئة بين قوى الفرد وقوى الإحباط وصنوف القهر، أو ما يسمى بقوى الخير وقوى الشر، بين الفضيلة والرذيلة. مع أن روح العصر تتطلب تحرير الناس من عبودية الحكام وأسر التقاليد وقهر القوانين ودعوتهم إلى الطبيعة أساس الوحي، وبدئهم بالمباح أو الحلال أساس الشريعة، براءة الذمة أو البراءة الأصلية؛ رحمة بالناس.
كما درسنا العلوم العقلية والطبيعية الخالصة في مادة «تاريخ العلوم عند العرب» سواء العلوم الرياضية أو الطبيعية، مكررين نظريات القدماء أو مقارنين بينها وبين العلوم الغربية المعاصرة، حاكمين بأنه كان لنا قصب السبق على غيرنا؛ حتى نرضي أنفسنا تجاه الإحساس بالنقص، وتعويضا للتوقف الحالي ما دمنا في الماضي قد سبقنا غيرنا، فإن ذلك قد يشفع لنا تأخرنا الحالي أو قد يعطينا وهما باللحاق، وقد تكون أقرب إلى تاريخ العلوم الصرف في المراحل السابقة لتطور العلم الغربي الحديث، وبالأخص نقل علوم اليونان وترجمتها إلى العلم الغربي قبيل عصر النهضة، وهي صورة تاريخ العلم العام من وجهة النظر الأوروبية حث يصب كل شيء في الغرب الحديث منذ البدايات الأولى للعلم في الصين والهند وفارس ومصر وعند العرب المسلمين. وما العلم العربي والإسلامي إلا حلقة اتصال بين العلم اليوناني والعلم الغربي، لنا شرف النقل وجهد الحامل، وإن استعصى الأمر أحيانا على فهم المسلمين، فأساءوا التأويل وخلطوا بين العلم والدين، بين أرسطو وأفلاطون. ولم ندرك أنه حتى التسمية «تاريخ العلوم عند العرب» خاطئة؛ لأن الموضوع هو نشأة العلم عند المسلمين؛ لأن حملة العلم كانوا مسلمين كما أن العلم نشأ بفضل الإسلام الذي يجب الجنسية والقومية. وإن القول بأن أكثر حملة العلم كانوا من العجم هو رد على خطأ بخطأ آخر، عجم في مقابل العرب، ومجموع الخطأين لا يكون صوابا. حتى وإن كانت العروبة تعني اللسان فإن بعض المؤلفات العلمية مكتوب باللغات الفارسية والتركية والهندية. كما أن التعريب قد تم بفضل الإسلام. إن المهم لدينا ليس هو تاريخ العلوم الذي وصل الغرب إلى نهايته وجعل كل مساهمات الشعوب اللاغربية أذيالا له، وفصل عن قصد بين العلم وتاريخ العلم، بين البيئة والتطور، بين النهاية والبداية، بين الغرب ومصادره في الشرق. إن ما يهمنا في العلوم العقلية الخالصة هو كيفية خروج هذه العلوم من التوحيد؟ ما الصلة بين وظيفة العقل وتصور الطبيعة من ناحية، وبين التوحيد من ناحية أخرى؟ هل استطاع التوحيد توجيه العقل نحو الفكر الخالص بفعل التنزيه، وتوجيهه نحو الطبيعة بفعل الإرادة والخلق؟ هل استطاعت هذه العلوم الكشف عن الهوية التامة بين الوحي والعقل والطبيعة؟ هل استطاعت أن تضع هوية العقل والطبيعة على أنها هوية الوحي ودون الإحالة إليه؟ كيف استطاع العلم الإسلامي الخروج من التوحيد أو كيف تحول التوحيد إلى علم عقلي طبيعي خالص؟ كيف طبع التوحيد العقلية الإسلامية موجها إياها نحو الرياضيات الخالصة والعلم التجريبي الخالص؟ هل هناك صلة بين أوصاف الذات: القديم أي ما لا أول له، والباقي أي ما لا نهاية له بحساب اللامتناهي في الرياضيات؟ هل هناك صلة، بين الواحد وحساب التفاضل والتكامل؟ ما الصلة بين التنزيه والفن الإسلامي، أي توالي الأشكال الهندسية إلى ما لا نهاية من كل الجهات؟ ما الصلة بين الابتعاد عن التجسيم والتشبيه في الصفات وبين الابتعاد عن التصوير والنحت في الفن؟ هل هذه الدوافع ما زالت باقية بعد أن استقر التوحيد وجمد في الأذهان، أم أنها مستمرة لا تخضع لروح العصر بل تنبع من البنية الداخلية للفن ولتكوين العمل الفني مثل أولوية الفنون السمعية على الفنون البصرية، بصرف النظر عن الوحي كلمة أو ألواحا؟ هل يمكن أن تنشأ فنون الرسم والنحت والتصوير لدينا بدوافع إسلامية دون تقليد للغرب؟ إن العلم الحالي لدينا إما نقل عن العلم الغربي دون تعرف على فلسفته وأسسه النظرية، نهاية بلا بداية، تطبيق بلا نظرية، وإما انغلاق على الذات ورفض له باعتباره قائما على تصورات ودوافع لا إسلامية، ثم تتحول هذه التصورات والدوافع إلى عقائد وأشياء لا توجه الشعور، ولا تؤثر في الذهن، ولا تطبع العقلية بشيء، لا تثير فيها إبداعا، لا تثير العقل الخالص ولا توجهه نحو الطبيعة.
9
أما العلوم «الإنسانية»: اللغة والأدب والجغرافيا والتاريخ، فإنها لا تكاد تذكر في أقسام الفلسفة، وتحولت علوم اللغة والأدب إلى أقسام اللغة العربية وآدابها، أما الجغرافيا والتاريخ فلا يكادان يذكران لا في أقسام الفلسفة ولا في الأقسام المختصة بهما كالجغرافيا والتاريخ. فالجغرافيا علم غربي معاصر بكل أنواعها، والتاريخ مجرد مراجع عامة ومصادر تركها القدماء تحتوي على أخبار بصرف النظر عن دلالاتها. إنما تركناهما كهواية للأساتذة أو المثقفين يكتبون عن الجغرافيين العرب والمؤرخين العرب، وكيف أنهم قد حازوا قصب السبق، كانوا رحالة يجوبون الأرض، ويضعون الخرائط، ويصفون البقاع، وكانوا مرشدين في عصور «الكشوف الجغرافية» الغربية دون بحث عن دلالات ذلك كله في توجيه الوحي العقلي نحو الطبيعة والدعوة إلى التفكر في الجبال والأنهار والوديان، وأسباب نزول الأمطار واندلاع البرق وإطلاق أصوات الرعد، وعلل الزمهرير والثلج والصقيع والضباب، وأسباب الحرارة والبرودة، وفي توجيه الوحي العلماء إلى السياحة في الأرض، والانتشار في العالم، والتعرف على عادات الشعوب والقبائل، واكتشاف سنن الله في الخلق.
10
رابعا: تغير ظروف العصر
إن الدوافع على إعادة النظر في التراث الفلسفي خاصة، وفي التراث كله عامة، علومه وأبنيته وحلوله واختياراته وبدائلها الممكنة؛ هي تغير الظروف كلية من عصر إلى عصر، ومن فترة إلى فترة. فإذا كنا الآن في مطلع القرن الخامس عشر أو جاوزناه بقليل فوراءنا أربعة عشر قرنا من التراث يندرج تحت فترتين: الأولى امتدت سبعة قرون، منذ القرن الأول حتى القرن السابع. نشأت في قرنين: الأول والثاني، وازدهرت واكتملت في قرنين «الخامس والسادس» منذ هجوم الغزالي على العلوم العقلية في القرن الخامس ومحاولة ابن رشد رأب الصدع في القرن السادس. ولما كانت الضربة قاضية وكان ابن رشد نفسه محاصرا من الفقهاء في المغرب وبعيدا عن أن يمتد أثره في المشرق أسرع الانهيار في السابع والثامن. وفي ذلك الوقت ظهر ابن خلدون ليؤرخ للفترة الأولى متسائلا عن أسباب الانهيار. وكان طبيعيا أن ينشأ الوعي التاريخي بعد اكتمال إحدى فترات التاريخ.
أما الفترة الثانية فتمتد من القرن الثامن حتى القرن الرابع عشر، أيضا على مدى سبعة قرون، تؤرخ فيها الحضارة لنفسها، وتحفظ نفسها بالتدوين، فظهرت الموسوعات الكبيرة، أو تشرح نفسها بنفسها وتلخص إبداعاتها في عصر الشروح والملخصات اجترارا وتمثلا ثانيا، باستثناء بعض الإبداعات المتأخرة في إيران وتركيا وفي أطراف العالم الإسلامي في المناطق غير الناطقة بالعربية، بقايا حياة في الأطراف بعد أن توقف القلب. ثم ظهرت الحركات الإصلاحية ابتداء من القرن الثاني عشر؛ الوهابية ثم الأفغاني وتلاميذه في القرن الثالث عشر حتى حسن البنا والإخوان المسلمين والجماعات الإسلامية الحالية في القرن الرابع عشر ومطلع هذا القرن، كل حركة تعكس ظروف عصرها وترد عليها.
هناك إذن فترتان متمايزتان في تراثنا القديم وفي حضارتنا الإسلامية؛ الأولى الفترة القديمة، والثانية الفترة الحديثة. الأولى اكتملت فيها الحضارة في دورتها الأولى، والثانية ما زلنا نشاهدها. في نهاية الأولى أرخت الحضارة لنفسها، وفي الثانية حاولت النهوض. ونحن جزء منها، وارثين الحركة الإصلاحية ومحاولين تطويرها إلى نهضة شاملة. الأولى تعادل في التراث الغربي العصر الوسيط فيه، والثانية تعادل عصوره الحديثة، وعلى هذا يكون التقابل بين التراثين، التراث القديم والتراث الغربي محددا جدل الأنا والآخر. عصر الازدهار والاكتمال لدينا في الفترة الأولى هو العصر الوسيط الأوروبي، وعصر التدوين والشروح والملخصات، أي التوقف والاجترار في العصور الغربية الحديثة، فليس تراثنا القديم هو العصر الوسيط، إسقاط الآخر على الأنا، كما أننا لا نعيش في العصور الغربية الحديثة، إسقاط الأنا على الآخر.
وتتقابل الفترتان، الأولى والثانية، في تراثنا القديم تقابل الأضداد على النحو التالي: (1)
نشأت الحضارة في فترتها الأولى في عصر كانت الأمة فيه منتصرة، وكانت جيوشها فاتحة. استطاعت أن ترث الإمبراطوريتين القديمتين، الفرس والروم، في أسرع وقت ونشر الإسلام في أواسط آسيا شرقا حتى حدود الصين، وغربا حتى الأندلس وعبر البرانس. صحيح أن الإسلام انتشر في أفريقيا في الفترة الثانية وإبان مرحلة الضعف والخمول، وانتشر أساسا عبر الطرق الصوفية وبعض حركات الاستقلال ضد الغزو الأوروبي، ولكن قلب العالم الإسلامي كان مهزوما ومحاصرا، وبالتالي نشأت العلوم الإسلامية في زهو الانتصار ومن ثنايا الفتح. فنشأت تصورات العلوم على هذا النحو، الأولوية للإرادة المسيطرة على حرية الإرادة في علم الكلام، لواجب الوجود على ممكن الوجود في الفلسفة، ولله على العالم في التصوف، وللنص على الواقع في الأصول. كانت العلوم بمراكزها وأولوياتها نموذج الدولة القوية المسيطرة، والإمبراطورية المترامية الأطراف. ولما استتب الأمر للنظم الحاكمة استقرت العلوم وأكسبت النظم شرعية نظرية وفقهية، واستمر الإفراز المتبادل بينهما؛ الدولة تفرز أيديولوجياتها، والأيديولوجيات تدعم الدولة.
وقد تغيرت الظروف الآن، وأصبحت الأمة في فترتها الثانية مهزومة بعد أن تلقت الهجمات الصليبية غربا وغزوات التتار والمغول شرقا، ثم الاستعمار الحديث غربا من جديد، بعد أن استعصى على الهجمات الصليبية غزو العالم الإسلامي برا وفي القلب، وكان من السهل الالتفاف حول العالم الإسلامي بحرا وحول الأطراف. انهزمت الأمة بعد أن كانت منتصرة، واحتلت بعد أن كانت مستقلة، وتجزأت بعد أن كانت موحدة، وتخلفت بعد أن كانت في أعلى مراحل التقدم والتنمية. أصبحت الأمة محاصرة، معتمدة على الآخر في غذائها وسلاحها، في علمها وتنميتها، تخلت عن استقلالها الذاتي إلى تبعيتها للآخر. أرضها محتلة في فلسطين وسبتة ومليلة، وبها قواعد عسكرية أجنبية أو داخلة في أحلاف عسكرية مباشرة أو غير مباشرة تحت ستار معاهدات الصداقة والتعاون. ودائعها في الخارج لتنمية القوى الغربية، ثم تستجدي المعونات وتستعطف السداد وتقليل الفوائد، وتطالب بفترات السماح. أصبح إشكال أساتذة الفلسفة أنهم يدرسون علوما نشأت في مرحلة الانتصار ويعيشون في واقع مرحلة الهزيمة. فحدث عدم تطابق بين مادة العلم التي يحملها الأساتذة ويسمعها الطلاب والواقع الجديد الذي يعيشه كلاهما على حد سواء. وبالتالي انعزلت الفلسفة ولم تجد لها آذانا صاغية. لم تعد تخاطب جمهور القراء. تحولت عند بعض الأساتذة إلى مادة للمقررات وإلى تكسب بالعلم وحمل الشهادات، ونيل الجوائز، والواقع لا يتغير، يئن من وطأة الفصام بين الثقافة في مرحلة الانتصار والواقع الحالي في مرحلة الهزيمة. وأصبح هذا الفصام أحد مظاهر نفاق العصر كله. وإذا سن القدماء: الإسلام أو الجزية أو القتال، والإسلام منتصر، فكيف بالأمة اليوم وهي غارقة في أتون الاستجداء والاستعطاف والتبعية؟ (2)
لما كانت الجيوش فاتحة والأمة منتصرة في الفترة الأولى لم يستطع خصومها النيل من قوتها أو الوقوف أمام زحفها، فالتفوا من الخلف وإلى مصدر قوتها وهو الدين الجديد وعقيدة التوحيد؛ لضربه والنيل منه. ظهرت حركات الزندقة والتشويش على العقائد للالتفاف حول الإسلام من الباب الخلفي، من باب النظر وليس من باب العمل، من باب العقائد وليس في أتون المعارك. وكان الخصوم من أنصار الديانات القديمة كالمانوية والمذاهب السائدة في الأراضي المفتوحة كالمجوسية، أو الديانات التي دخل معها الإسلام في جدال عقائدي كاليهودية والنصرانية، وبالتالي نشأت العلوم الإسلامية، العقلية النقلية، للدفاع عن العقيدة الجديدة والدخول في معارك العقائد ضد الفلسفات والمذاهب والديانات القديمة. وكان من الطبيعي أن تتصدى الحضارة لمواطن الخطر في العقائد النظرية بعد أن اطمأنت إلى سيطرتها على الأرض وتحول الجمهور إلى الدين الجديد.
أما الآن فقد تغيرت الظروف، ولم تعد الهجمات موجهة إلى العقائد باستثناء الغزو الثقافي الذي نحن على وعي به ونتحدث عنه ليل نهار، وتتناوله أجهزة الإعلام والأحزاب التقدمية، والاستشراق الذي يقوم بما قام به الخصماء الأقدمون. لم يعد أحد الآن منا يتصور الله اثنين أو ثلاثا. ليس فينا مشرك أو وثني، عابد شجرة أو نار، مؤمن بشمس أو قمر، ويبتهل لكوكب أو نجم. ولكن الخطر الآن موجه إلى الأرض والثروات ونقل الجمهور خارج أرضه في فلسطين. كما أن الخطر موجه إلى حريات الناس من نظم الاستعباد والقهر، ولكنا ما زلنا في تدريس الفلسفة ندخل في معارك الذات والصفات، والعقل والنقل، والنبوة والمعاد، والإيمان والعمل، والخلق والفيض، والفضائل النظرية والفضائل العملية وقد كسبناها من قبل، ونترك معارك الأرض والثروة والحرية والعدالة الاجتماعية والاستقلال والتبعية، دون الدخول فيها باسم الفلسفة. بل إننا لا نحاول اختيار الحلول المعاصرة للمشاكل القديمة المترسبة في أعماق العصر.
فمسألة الذات والصفات لها دلالتها المعاصرة؛ فعلاقة الزيادة تشخيص وعلاقة التساوي عدل أمام القانون. وجعل العقل تابعا للنقل، وصاية، وجعل النقل تابعا للعقل ، تنوير. والنبوة تاريخ لاستقلال الوعي الإنساني وليس لقصوره، والمعاد مستقبل الإنسان في الدنيا وليس خارجا عنها. والعمل جزء من الإيمان ومظهره الأول، كما أن العمل منبثق عن النظر في علاقة تكامل وليس في علاقة أفضلية. والفيض كتدرج قد يكون أساس البيروقراطية. والخلق قد يكون ذا صلة بالقلب والتحول من حال إلى حال، في حين أن القدم مصاحب للعالم منذ البداية فيعيش الإنسان فيه أليفا. وإذا نشأت حركات الإصلاح الديني أو الخطابة السياسية فإنها لا تكاد تستمر، بل تكبو باستمرار بسبب عدم التطابق بين العلوم المنقولة عن القدماء وواقع الأمة الحالي.
1
ثم تخلينا نحن عن مسئولية إعادة بناء العلوم القديمة التي ورثناها من القدماء بناء على ظروف عصرنا، بعد أن أنشأها القدماء ابتداء من ظروف عصرهم. (3)
نشأت الفلسفة في الفترة الأولى والإسلام قادم وليس ذاهبا، والحضارة يافعة وليست هرمة، مع ثقة في النفس وليس عن تخوف أو ضعف. وبالتالي لم تخش الحضارة الإسلامية انفتاحها على حضارة الغير. لم يحدث نتيجة للانفتاح الحضاري القديم أية زعزعة للهوية أو فقدان للذاتية أو إحساس بالنقص أمام الآخر. نشأت الحضارة في فترتها الأولى وهي في حالة هجوم على الآخر وليست في حالة دفاع عن الذات، من أجل ابتلاع الآخر في الأنا وليس من أجل ابتلاع الأنا في الآخر وذوبانه فيه. نشأت الحضارة في فترتها الأولى من مركز قوة وليس من مركز ضعف، كامتداد وانتشار وليس كانحسار ونكوص.
أما اليوم، فالفلسفة تنشأ في ظروف مخالفة تماما، والإسلام ذاهب وليس قادما، والحضارة تاريخية وليست ناشئة مع ضعف ثقة في النفس وإحساس بالنقص أمام الآخر، واتخاذ موقف التلميذ الأبدي من المعلم الأبدي. تنشأ الفلسفة اليوم مقطوعة الصلة بالهوية وانحيازا للآخر، دون معرفة بدلالات القديم وتقليد للجديد، ودون قراءة للآخرين خلال الذات، بل تهربا من الذات وفقدانا للهوية. ويطغى على الفلسفة معارك ثقافية لسنا طرفا فيها مثل المثالية والواقعية، العقلانية والحسية، الصورية والمادية، الرأسمالية والاشتراكية، الفردية والاجتماعية، البنيوية والماركسية، مجتثين المعارك من جذورها وزارعين لها في تربة أخرى. فلا هي أنبتت فلسفة في أرض جديدة، ولا هي احتفظت بحياتها في أرضها القديمة. (4)
نشأ عصر الترجمة الأول كجزء من التعرف على ثقافات البلاد المفتوحة بعد أن وجدت مؤلفات أرسطو في أديرة الشام، وقوانين فارس وحكمتها في بلاد فارس. كانت الترجمة جزءا من التعرف على المكونات الثقافية للأمة الغالبة مع احترام كامل لثقافات الشعوب المغلوبة. فالتراث الإنساني واحد، وتؤخذ الحكمة من أي جهة كانت حتى ولو كانت من أقصى الشعوب عنا. بدأت الترجمة من موقع قوة لا من موقع ضعف، تعرفا من حضارة المنتصر على حضارة المهزوم وليس نقلا لحضارة المنتصر وزحزحة حضارة المهزوم كما هو الوضع الآن. أما الترجمة الحالية التي بدأت منذ قرنين والتي ما زالت مستمرة في ظروفنا الراهنة إنما تمت من منطلق تعرف المهزوم على ثقافة المنتصر كجزء من حب الشعوب المغلوبة تقليد الشعوب الغالبة، نذهب إليه ولا يأتي هو إلينا، نتعلم منه ولا نعلمه، نأخذ ولا نعطي، ننقل ولا نبدع، فتحولت الثقافة بين الحضارات إلى مسار واحد، من الآخر إلى الأنا بعد أن كانت حوارا بين الحضارات، وجدلا بين الأنا والآخر. نشأ لدينا إحساس بالنقص أمام حضارة الآخر، وفي الوقت نفسه نقوم بتدريس النموذج القديم عندنا كأن الأنا في مركز قوة والآخر في مركز ضعف، فيحدث التعويض النفسي اللاشعوري، تعويض القديم للجديد، تعويض الماضي للحاضر، وتتحول الفلسفة إلى مجرد عزاء للنفس. (5)
نشأت الحضارة في فترتها الأولى اعتمادا على العقل الذي أكده الوحي ودعا إلى استعماله المتكلمون والنظار. فكان النظر أول الواجبات على المكلف حتى قبل الصلاة؛ فلا صلاة بلا تكليف، ولا تكليف بغير نظر. أثبت الفقهاء العقل أساس النقل، وموافقة صريح العقل لصحيح المنقول، وقال المعتزلة بالحسن والقبح العقليين. كان العقل والسمع صنوين، والفلسفة والشريعة أختين رضيعتين متفقتين بالشرع، متحابتين بالطبع والغريزة، كان الفيلسوف والنبي شخصا واحدا ، والفلسفة والدين حقيقة واحدة وغاية واحدة وإن اختلفا في المنهج والطريق. وبالتالي نشأت أزهى حضارة في أقصر مدة، بل تم تأليه العقل في كثير من الأحاديث القدسية، فكان أول مخلوق، أول ما خلق الله خلق العقل. ونشأت علوم وضعية علمية، طبيعية وإنسانية، خالية من الخرافة وهو ما حدث بعد ذلك في العلوم الغربية الحديثة بعد ألف عام وبفضل الترجمة من الأنا إلى الآخر، من الحضارة الإسلامية إلى الحضارة الغربية.
أما اليوم فقد تغيرت الظروف، وأصبح النقل أساس العقل، ودعا الفقهاء إلى الأخذ بالنص وإن عارض العقل، وظهرت الحاكمية لله في مقابل حاكمية البشر بل ومناقضة لها. واحتد النقاش بين الإسلام والعلمانية لدرجة الخصام بل والتكفير المتبادل بين الإخوة الأعداء. كان القدماء أكثر تحررا منا، وأصبحنا نحن أكثر محافظة منهم، وتعجبنا كيف درس القدماء الجنس والدين والسلطة بلا حياء أو خوف أو مزايدة، بينما جعلناها نحن محرمات ثلاثة لا يجوز لأحد الاقتراب منها وإلا كان ملحدا في الدين منحلا في الأخلاق عاصيا لأوامر السلطان. (6)
نشأت الحضارة القديمة على التوحيد بين الوحي والمصلحة، بين الدين والدنيا، بين الشرع وواقع الناس، بين الأمر الإلهي وكرامة الإنسان. نشأت العلوم كلها تؤكد هذه القيم العامة قبل وضع مبحث القيم الغربي. لذلك وضعت القوانين، وسنت الشرائع تعبيرا عن هذه الروح؛ فالشريعة للإنسان وليس الإنسان للشريعة. بل شرع الفقهاء المصلحة أساسا للشرع، ووضعوا قواعد «لا ضرر ولا ضرار»، «درء المفاسد مقدم على جلب المصالح»؛ للاستناد إليها في الاستدلال.
أما الآن فإننا نعيش في عصر فيه الشرائع الموروثة في جانب والمصلحة في جانب آخر، وكأن الشرائع هدف في ذاتها وليست وسيلة لتحقيق المصالح العامة للناس. ظهر التصادم بين مصلحة الدين ومصلحة الدنيا، ووقع الصدام بين حق الله وحق الإنسان، بين الأمر الإلهي والحرية الإنسانية. وظهرت مسائل تطبيق الشريعة ضد الشرائع المدنية، وتحولت الدعوة العلنية إلى مقاومة سرية بين الجماعات الإسلامية والنظم الحاكمة، كل فريق يرى في الآخر اعتداء عليه وعلى شرعية وجوده: الحاكمية عدوان على الديموقراطية عند العلمانيين ، والنظم الحاكمة والعلمانية عدوان على الشريعة عند الجماعات الإسلامية المقهورة. وبدا قانون الأحوال الشخصية في حاجة إلى تعديل عند العلمانيين، وفي حاجة إلى تطبيق حرفي كما ورثناه من القدماء عند المحافظين. وانحاز النظام الاقتصادي الإسلامي إلى الاقتصاد الحر والتجارة الحرة عند ولاة الأمور والجماعات الدينية المحافظة وشركات توظيف الأموال، وأقرب إلى النظام الاشتراكي، وملكية الدولة لوسائل الإنتاج، وتحقيق أكبر قدر ممكن من العدالة الاجتماعية، وتذويب الفوارق بين الطبقات عند القوميين والتقدميين والاشتراكيين. وصراع التفسيرات هو في الحقيقة صراع اجتماعي صرف. كل فريق يأخذ سلاح النص ويقرؤه لصالحه. (7)
كانت الحضارة كلها في الفترة الأولى وحدة واحدة، تخرج من بؤرة واحدة هي التوحيد. ونشأت العلوم كدوائر متداخلة حول هذا المركز، وساهمت كلها في وضع تصور موحد للعالم بصرف النظر عن اختلاف المناهج والأهداف. وضع علم أصول الدين قواعد النظر، وعلم أصول الفقه قواعد العمل؛ الأول أشبه بالعقل النظري، والثاني بالعقل العملي. ووضع التصوف طريقا صاعدا متعاليا وهو التأويل، وآثر الأصول وضع طريق نازل عائد إلى العالم وهو التنزيل، أصول الدين وعلوم الحكمة علوم نظرية، وأصول الفقه وعلوم التصوف علوم عملية. ومن ثم ظهر موضوع «إحصاء العلوم» كموضوع رئيسي عند القدماء من أجل توحيد العلوم كلها في منظومة واحدة، واستمر ذلك منذ المحاولات الأولى في البداية حتى الموسوعات والمعاجم في النهاية.
2
أما الآن فتفككت العروة، وانزوت العلوم كل منها في ميدانها لا رابط بينه وبين العلوم الأخرى. وأصبحت مادة العلوم مزدوجة خاصة في العلوم الإنسانية بين تراث القدماء وتراث المعاصرين. أما العلوم الرياضية والطبيعية فقد انقطعت كلها عن تراث القدماء وأصبحت امتدادا للتراث الغربي المعاصر؛ لذلك لم تساهم علومنا في تكوين وحدة الفكر أو في تأسيس تصور للعالم. فاحتجنا إلى الأيديولوجيات والمذاهب السياسية لتكميل النقص وسد الفراغ. ويا ليت ذلك قد حدث باسم التخصص الدقيق والبحث عن الجزيئيات كما هو الحال في التراث الغربي المعاصر، بل حدث بسبب ضياع وحدة المصدر، والتصور الواحد الشامل المتوازن.
إن التقابل بين الفترتين في تاريخ الحضارة الإسلامية يمكن أن يستمر ويمتد إلى ميادين عديدة. وبصرف النظر عن الإحصاء الشامل، يكفي الوعي بهذا الوضع التاريخي والذي يفرض نفسه على الباحث وأستاذ الفلسفة؛ حتى يعيد بناء علوم التراث بناء على ظروف عصره.
خامسا: نشأة الفلسفة: قراءة الآخرين
من خلال الذات
إذا كان المقصود بالفلسفة والتراث هو علاقة الفلسفة الحالية بالتراث الفلسفي القديم، فإن وصف نشأة هذا التراث الفلسفي قد تساعد على فهم وظيفة الفلسفة التي أدتها في التراث، وإلى معرفة إلى أي حد استمرت هذه الوظيفة أم انقطعت. وما صلة النشأة الأولى بالنشأة الثانية؟ وهل يمكن بعث الفلسفة من جديد بنشأة ثانية تماثل النشأة الأولى ولكن مع تراث مختلف، الغربي الحديث بدلا من اليوناني القديم؟ (1)
كانت الفلسفة في التراث آخر العلوم العقلية النقلية ظهورا؛ إذ إنها نشأت متأخرة بعد عصر الترجمة، في حين نشأت العلوم الأخرى، أصول الدين وأصول الفقه وجماعات الزهاد والعباد والبكائين وهم بدايات التصوف، منذ أواخر القرن الأول، فالفلسفة لا تنشأ إلا بالتعامل مع الآخر، وبعد لقاء مع تراث آخر بعد ترجمته والتعرف عليه. لذلك كان القرن الثاني هو عصر الترجمة والذي استمر حتى الثالث والرابع، ثم تحول بعض المترجمين أنفسهم إلى شراح وفلاسفة كما كان بعض الفلاسفة الأوائل مترجمين.
1 (2)
نشأت الفلسفة إذن كقراءة لنصوص لتعرف الأنا على الآخر. لم تنعزل الحضارة الجديدة عن حضارات الغير ولا حاولت القضاء عليها كما فعلت الحضارة الأوروبية إبان الأوج الاستعماري مع حضارات آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية بل تم التعرف عليها باحترام شديد، بل والدفاع عنها وتأصيلها وإكمالها وتبنيها، ثم صبها في حضارة الذات. وما تم في الفكر ثانيا قد تم في الواقع أولا عن طريق التزاوج والتصاهر بين الفاتحين الجدد والمفتوحين القدامى، بين حاملي الدين الجديد وبين المتحولين إليه من أنصار الديانات القديمة.
2 (3)
وكانت الترجمة ذاتها قراءة. فلم يكن الهدف النص المترجم بل كان الهدف هو الترجمة ذاتها. لم يكن يهم التطابق الحرفي بين القراءة والمقروء بل التطابق المعنوي لدرجة تغيير النفل حتى يتفق مع المعنى المفهوم والذي أمكن فهمه بفضل تصور الأنا المتكامل للعالم النابع من الموروث القديم، حتى ولو لم يكن الناقل مسلما دينا فإنه كان مسلما ثقافة. لذلك يخطئ الناشرون المحدثون للترجمات العربية القديمة عندما يصححونها بناء على النصوص اليونانية القديمة أو على ترجماتها إلى اللغات الأوروبية الحديثة. فموقف الناقل القديم لم يكن موقفا استشراقيا حديثا يهمه ضبط النص بموضوعية تاريخية فقهية لغوية نصية، بل كان موقفا حضاريا ينقل النص بعد قراءته وفهمه، ثم وضعه في صياغة عربية مفهومة كمرحلة أولى، تتبعها مراحل ثانية مثل الشرح والتلخيص، ثم مرحلة ثالثة هي التأليف الإبداعي الخالص سواء في الوافد وحده، أي حضارة الآخر لإعطاء تصور شامل لها، أو باجتماع الوافد والموروث، ثقافة الآخر مع ثقافة الأنا في إبداع ثالث جديد. (4)
وقد تمت الترجمة على مرحلتين: الأولى حرفية؛ حرصا على «حدود» النص المقروء، وحماية له من سوء التأويل، وأمانة علمية بلغة عصرنا، إلى أقصى حد؛ حرصا على دقة الفهم، والثانية معنوية حرصا على المعنى وهو المقصود من اللفظ. فإذا كانت الترجمة الأولى محاولة للتعرف على الآخر فإن الثانية هي قراءة له، أي تجاوز ألفاظه وتعبيراته إلى معانيه وتصوراته، ثم التعبير عنها بلغة عربية تلقائية. فإذا كانت الترجمة الأولى نقلا فإن الثانية تأليف غير مباشر. وغالبا ما قام مترجم واحد بالترجمتين معا إذا ما تجاوز عمره عمر جيلين.
3
لم تكن الترجمة استبدال لفظ بلفظ وكأنها مجرد نقل اعتمادا على المعاجم اللغوية، بل كانت نقل تصور الآخر للعالم إلى تصور الذات، مع تغيير ألفاظ الآخر لتتفق مع تصورات الذات كلما اقتضى الأمر ذلك. فمثلا إذا كان النص المنقول يستعمل لفظ «الآلهة» فإن اللفظ الناقل يستعمل بدلا عنه لفظ «الملائكة». ففي تصور الآخر لا ضير من تعدد الآلهة في حين أنه في تصور الأنا الله واحد، والتعدد فقط للملائكة ولسائر المخلوقات.
4 (5)
وقد استغرقت الترجمة القديمة جيلين اثنين حتى ظهرت بوادر التأليف. بل إن بعض المترجمين كانوا مؤلفين كما كان بعض المؤلفين مترجمين.
5
ثم تزامن النقل المعنوي والتأليف حتى منتصف القرن الرابع، ثم استمر التأليف وحده حتى القرن السابع، أما في عصرنا الحاضر فإننا بدأنا النقل عن الغرب منذ ما يزيد على قرنين من الزمان أي منذ أكثر من أربعة أجيال ولم يتم حتى الآن إبداع. وإذا كان هناك تأليف فهو تجميع للنقل وإعادة تبويب وعرض له. ولما كان معدل التأليف عند الآخر أعلى بكثير وأسرع من معدل النقل عند الأنا؛ أصبحنا نجري وراء الغير لاهثين بدعوى اللحاق بركب الحضارة، وساعدنا بأيدينا على نقل العلوم من المركز إلى المحيط كأحد مظاهر السيطرة من خلال الهيمنة الثقافية. (6)
وقد قامت الترجمة بفضل ديوان الحكمة، أي بفضل الدولة ومؤسساتها، وكانت عملا منظما ومختارا ومقصودا، لا تخشى مذهبا، ولا تستبعد مؤلفا، ولا تصادر كتابا. وقد تم ذلك في بدايات نهضتنا الحالية على يد الطهطاوي ومدرسة الألسن. وفي كلتا المرحلتين كان هناك نقلة ومراجعون، وكانت الدولة تقوم بالنشر والتوزيع ثم بالتطبيق المباشر لهذا التراث العلمي في أجهزة الدولة خاصة في الجيش وقطاعات الصناعة والزراعة والتعليم. وكان النقل في الحالتين بداية من العلوم خاصة الطب والكيمياء؛ نظرا لحاجة الدولة إلى علاج الجند وإلى صناعة السلاح، ولكن في جلينا قامت الدولة باختيار النصوص التي تتفق مع هواها واستبعاد نصوص أخرى بدعوى التوجيه المعنوي والإرشاد الوطني والإعلام الحزبي. (7)
كان المترجمون الأوائل نصارى يعيشون بين المسلمين. كانوا مزدوجي الثقافة، نصارى العقيدة ولكن مسلمي الثقافة. لم يكونوا رسل ثقافة الآخر إلى الذات، بل كانوا رسل ثقافة الذات إلى الآخر. لم يكونوا على هوامش المجتمع، أقلية مقهورة في مواجهة أغلبية قاهرة، بل كانوا في قلب المجتمع على قدم المساواة بين جميع الطوائف والملل، لم يكونوا غرباء على الأمة دخلاء على ثقافتها، بل كانوا أصحاب حق ينبعون من صميم الثقافة العربية، كانوا مواطنين من الدرجة الأولى، زينة مجالس الخلفاء من أطباء ورياضيين وفلكيين وفلاسفة وأدباء ونحاة وظرفاء وفقهاء ومتكلمين. لم يكن القصد إيجاد ازدواجية في الثقافة، بين موروث ووافد، بين ثقافة الأنا وثقافة الآخر، بل كانت الغاية تقديم ثقافة الآخر للأنا؛ من أجل القضاء على الازدواجية الثقافية. كانوا عربا لغة، ومسلمين تصورا، وإن كانوا نصارى أو يهودا عقيدة، وهذا عكس ما حدث في عصرنا عندما كان نصارى الشام المحدثون يشعرون بالأقلية في مواجهة الأغلبية ، على هامش المجتمع وليس في قلبه، كان ولاؤهم أقرب إلى ثقافة الآخر منه إلى ثقافة الأنا. فالأولى أكثر علمية وعقلانية وإنسانية، في حين أن الثانية أكثر خرافة وصوفية وإلهية. قاموا بدور الوكلاء لثقافات الآخر ومذاهبه عند الأنا، وكونوا بؤرا ثقافية هامشية منعزلة من خلال مدارس التبشير والجامعات الأجنبية. فنشأت ازدواجية ثقافية بين ثقافة الأنا وثقافة الغير والتي كان هدف المترجمين الأوائل في المرحلة الأولى تجاوزها والقضاء عليها.
تعثرت الفلسفة في جيلنا؛ لأنها لم تع تماما النشأة الأولى كقراءة للآخر من خلال الذات للقضاء على ازدواجية الثقافة، ثم نشأت في المرحلة الثانية كنقل لثقافة الآخر عند الأنا، وفي العصر الذي نحاول فيه التحرر من جميع أشكال السيطرة والهيمنة الثقافية.
سادسا: تطور الفلسفة: من الشرح والتلخيص إلى العرض
والتأليف
بعد أن نشأت الفلسفة ابتداء من النقل ظهرت حركة ثانية هي الشرح والتلخيص من أجل تجاوز النص المنقول والتعبير عن مضمونه بأسلوب عربي خالص. وهما متلازمان، وإن كان أحدهما يبدو زمانيا قبل الآخر أحيانا. قد ينشأ التلخيص قبل الشرح في الزمان، سواء في حياة الجماعة أو في عمر الفرد الواحد، وقد ينشأ الشرح قبل التلخيص لما في الشرح من إسهاب وتفصيل ولما في التلخيص من تركيز. والغالب أنهما متلازمان ومتبادلان، يظهران في كل عصر ويقوم بهما كل فيلسوف،
1
علاقة التلخيص بالشرح مثل علاقة التركيب بالتحليل. فالتخليص مثل التركيب، والشرح مثل التحليل. وقد كانا عمليتين متلازمتين متجاورتين متزامنتين منذ نشأة الفلسفة حتى نهايتها، تعبران عن بنية الفكر وليس عن مجرد تطوره في مراحله أو في مراحل عمر الفيلسوف.
ولا يوجد فصل زماني حاسم بين مرحلة النقل ومرحلة الشرح والتلخيص؛ فقد قام بعض المترجمين أنفسهم بالشرح والتلخيص مما يدل على أنهم كانوا فلاسفة يبحثون عن المعنى وليسوا مجرد نقلة حرفيين كما هو الحال في عصرنا بدعوى الموضوعية والأمانة والحرص على النص المنقول. وهو يدل في الحقيقة على عدم وجود موقف حضاري للناقل ولا يقوم النقل لديه بأية وظيفة. بل لا يضير الناقل المعاصر أن ينقل أرسطو عن الفرنسية، فاللغة لديه لم تعد مرتبطة بالفكر، ولا يقدم إلا ثقافة عائمة طافية من الآخر فوق ثقافة راسخة أصيلة، من الأنا. وبالتالي تظل هامشية بعيدة عن القلب. فلا المترجم الفرنسي له موقف حضاري ولا المترجم العربي المعاصر له موقف حضاري، كلاهما ناقل؛ الأول ضحية موضوعية القرن التاسع عشر في حضارته، والثاني ضحية تقليد الآخر.
2
ويعني الشرح إعادة تركيب النص المنقول من بيئة ثقافية إلى بيئة ثقافية أخرى، من ثقافة الآخر إلى ثقافة الأنا؛ وذلك عن طريق: (1)
تفتيت النص المنقول وتحليله إلى عناصره الأولية؛ حتى يسهل فهمه وابتلاعه جزءا جزءا، ثم هضمه وتمثله من أجل العرض والتأليف فيما بعد. (2)
إعادة تركيب النص طبقا للتصور الإسلامي لفظا ومعنى وشيئا. فالشرح بداية القراءة الفاحصة. الشرح هو القيام بعملية «عاشق ومعشوق» من أجل تحويل النص من المقروء إلى القارئ، من ثقافة الآخر إلى ثقافة الأنا. (3)
إسقاط جميع الأمثلة التي من ثقافة الآخر وإسقاط جميع أسماء أعلامه وشواهده قدر الإمكان؛ لأنها بيئية صرفة، محلية، لا تعيش في المخزون التراثي في البيئة الثقافية الجديدة. (4)
وضع أمثلة أخرى وشواهد جديدة من ثقافة الأنا للتوضيح، ولتقوم بنفس الوظيفة التي كانت تقوم بها أمثلة الآخر وشواهده، هذه الأمثلة الجديدة لها دلالتها في الثقافة الجديدة والتي يسهل مطابقتها مع دلالات النص المقروء. (5)
إكمال الناقص في النص المنقول، ثم وضع الجزء الذي توصل إليه الآخر في الكل الذي تضعه الأنا. فالشرح إعادة تصنيف وترتيب للأجزاء المنقولة في إطار الكل المسبق في وعي الشارح. (6)
تصحيح تحليل الآخر عن طريق إعادة التحقق من صحته؛ إما بعرضه على العقل والحس أو بعرضه على الوحي. فالشرح ليس مجرد التعبير عن لفظ بلفظ أو بعبارة شارحة، بل هو إعادة تحقق من صدق المضمون بمقاييس جديدة تقوم على اتفاق الوحي والعقل والطبيعة؛ لذلك ظهرت الردود على بعض الشراح اليونان أو المسلمين دفعا لسوء تأويلهم وتصحيحا لفهم النص.
3 (7)
إعادة الأطراف إلى الوسط من أجل إكمال التصور الشامل وإيجاد عنصر التوازن في النص طبقا للتصور المتوازن للأنا .
وقد يكون الشرح، وكما وضح عند ابن رشد، على ثلاثة أنواع لا يهم مدى تعبيرها عن المراحل الزمانية في حياة الفيلسوف بقدر ما يهم دلالاتها على الشرح كأسلوب فلسفي أو نوع أدبي: (1)
الشرح الأصغر، وهو أقرب إلى التلخيص. ويقوم هذا الشرح على البداية بالفكرة الواحدة ثم الناء عليها ربطا للقديم بالجديد، وتواصلا بين الحضارات، واستمرارا للتراكم المعرفي للإنسان، دون ذكر مقال أرسطو أو حتى اسم صاحب النص أو أية أسماء أخرى أو شواهد من بيئة المنقول أو من بيئة الناقل. (2)
الشرح الأوسط في صيغة «قال أرسطو إن ...»، وهو القول غير المباشر، ويعني ذلك البداية بأول النص المترجم كخيط قائد، ثم الخروج عنه تأليفا وإبداعا لنصوص أخرى. البداية من الآخر أما الوسط والنهاية فمن الأنا. النقل من الآخر أما الإبداع فمن الأنا. (3)
الشرح الأكبر وهو أخذ النص مقسما إلى وحدات صغيرة وبدايتها «قال أرسطو ...» مع التمييز بين النص والشرح، بين المقروء والقراءة كما هو الحال في علوم التفسير. ويتم تقطيع النص المقروء حتى يسهل مضغه وابتلاعه وهضمه من أجل تمثله وتحوله إلى إبداعات فكرية، ونشاطات ذهنية، وهنا تبقى الشواهد الأصلية من الوافد ويزاد عليها شواهد محلية من الموروث.
4
أما التلخيص فمع أنه أصغر كما إلا أنه أكثر تركيزا فكرا؛ لأنه يعني: (1)
تجاوز مرحلة النص كلية، والانتقال ليس فقط من اللفظ إلى المعنى، ولكن أيضا من الإسهاب في المعنى إلى التركيز، ومن المعاني الفرعية إلى المعاني الكلية. التلخيص بهذا المعنى لباب بلا قشور، وجواهر بلا أعراض، وقلب بلا أطراف، وروح بلا جسد. (2)
إسقاط الشواهد والأسماء والتحديدات الزمانية والمكانية والشخصية كلها، وعدم استبدال أمثلة جديدة من ثقافة الأنا بأمثلة قديمة من ثقافة الآخر. (3)
الحرص على التجريد والتعميم بحيث يبدو الفكر وكأنه من استنباط العقل النظري الخالص دون ما رجوع إلى أية مادة علمية من ثقافة الآخر أو من ثقافة الأنا. وهي البنية الصورية للموضوع بصرف النظر عن الخطاب أو المقال، وتأسيس هذه البنية على نسق داخلي عضوي قائم بذاته بصرف النظر عن نشأة هذا الموضوع في هذا التراث أو ذاك.
وبهذا المعنى لا يختلف التلخيص عن التأليف في شيء إلا في أن التلخيص ما زال يحتفظ بعنوان النص المنقول مثل المقولات، العبارة، القياس، البرهان ... إلخ. وفي هذه الحالة لا يشير العنوان إلى نص واحد، بل إلى موضوع فلسفي صرف لا وافد ولا موروث، العقل قادر على التعامل معه مباشرة. وهذا هو أحد معاني الفلسفة التي افتقدناها في فلسفتنا المعاصرة.
أما العرض والتأليف فهما مرحلة تالية بعد الشرح والتلخيص. العرض هنا محاولة للتأليف في الوافد، وتناول الموضوع ابتداء منه. هو عرض للشيء ذاته متجاوزا الشرح والتلخيص، اللفظ والعبارة. ومع ذلك يظل اسم الفيلسوف الوافد مذكورا في العنوان اعترافا بفضله، وشهادة لإمامته وسبقه. وقد يكون ذلك إما عرضا لكتاب واحد أو للفلسفة كلها. وقد يظهر اسم الكتاب وحده وقد يظهر معه الموضوع ذاته تمهيدا لمرحلة أخرى هي التأليف في موضوع الوافد بصرف النظر عن أشخاصه.
5
وقد يكون التأليف «العارض» هو دخول في معارك الوافد، والانتصار لفيلسوف على آخر إحقاقا للحق وانحيازا له بصرف النظر عن النتيجة وإن كانت في الغالب لصالح أرسطو على غيره، ليس تبعية لأرسطو ولكن نظرا لأنه أقرب إلى روح الإسلام في اتفاق العقل والطبيعة والذي يجعله الإسلام تطابق العقل والطبيعة والوحي.
6
وفي حالة عدم التناقض بين فيلسوفين وآخرين والانتصار لأحدهما إذا كان التناقض صحيحا فإنه يمكن الجمع بينهما إذا ما كان التناقض ظاهرا. وبالتالي يمكن الجمع بين رأيي الحكيمين كما يمكن ضم آرائهما في النفس، لا يعني ذلك خلطا بين المتناقضين ناشئا عن سوء فهم، بل جمع للأجزاء في كل واحد هو التصور الإسلامي الجديد الذي يجمع بين الواقع والمثال، بين الدنيا والآخرة، بين الجسد والروح ... إلخ.
7
ثم ينتقل المؤلف العارض إلى مرحلة أخرى أكثر تجريدا وأكثر اقترابا من الموضوع نفسه، وابتعادا عن الأشخاص؛ وذلك بالتأليف في موضوعات الوافد المستقلة عن أشخاصه، بعد تحويل هذه الموضوعات إلى أبنية مستقلة تندرج في علوم. فجاء التأليف في المقولات وفي العبارة وفي البرهان وفي إيساغوجي وفي الشعر بصرف النظر عن بدايات هذه الموضوعات عند أصحابها، وقد يذكر اللفظ المنقول صوتا مثل اللفظ المعرب، سواء كان الترتيب لهذا أو لذاك لمجرد تذكير القارئ بالبداية التاريخية، ولربط الإبداع الجديد الذي يعبر عنه اللفظ المعرب بالنقل القديم الذي يعبر عنه اللفظ المنقول مثلا كتاب «باري أرمنياس» أي العبارة،
8
وقد يستغنى كلية عن اللفظ المنقول ويكتفى باللفظ المعرب مثل المقولات، العبارة.
9
وقد يتحول العرض إلى تأليف؛ وذلك بتغيير العنوان الوافد كلية، أو الحديث في العلم ككل من أجل اكتشاف قوانين جديدة.
10
هذا التأليف في ثقافة الوافد عن طريق العرض أشبه بما يتم حاليا في مؤلفات تاريخ الفلسفة. والفرق بين العرض القديم وبين مؤلفات الأساتذة الجامعيين حاليا هو أن العرض كان تمهيدا لمرحلة أخرى هي التأليف الخالص والإبداع المحض، في حين أننا توقفنا على العرض ولم نجعله مجرد مرحلة تتلو مرحلة وتتبعها مرحلة أخرى كما كان الأمر عند القدماء.
وبعد العرض بجميع أشكاله يأتي التأليف الذي يمثل الإبداع بعد النقل.
11
ومنذ بداية الفلسفة عند الكندي الإبداع من حيث الكم أكبر حجما من الشرح والتلخيص والعرض. فالفلسفة بدأت مبدعة وليست شارحة أو ملخصة عارضة. ثم أتى الفارابي فزادت نسبة الشرح والتلخيص والعرض ومع ذلك ظل الإبداع أيضا من حيث الكم أكبر حجما. ثم أتى ابن سينا وامحى الفرق بين الشرح والتلخيص والعرض من ناحية، وبين الإبداع من ناحية أخرى، ووضع الكل في بنية الفلسفة في موسوعات كبيرة اختفت مصادرها التاريخية ولم يظهر إلا بناء العقل الخالص أو وصف الموضوع نفسه. ثم أتى ابن رشد ليعيد التصحيح منذ البداية فلا إبداع بلا نقل صحيح؛ لذلك غلب الشرح والتلخيص على الإبداع من حيث الكم، وأخذ ابن رشد لقب الشارح الأعظم لذلك. كانت العودة إلى الشرح والتلخيص عند ابن رشد حركة تصحيحية في فهم النقل وفي الوقت نفسه تطوى الإبداعات خفية وخشية، خاصة ما كان منها نقدا موجها إلى الموروث. ثم جاء الفلاسفة بعد ابن رشد مثل الرازي والطوسي بإبداع خالص دون شرح أو تلخيص. إذن لم يتجاوز النقل أبدا وما تبعه من شرح وتلخيص وعرض الإبداع في أية مرحلة إلا عند ابن رشد الذي استطاع تمويه الإبداع والتعبير عنه من خلال الشرح والتلخيص. بل لقد آثر بعض الفلاسفة مثل ابن مسكويه والعلماء مثل عمر الخيام الدخول في الإبداع مباشرة دون مراحله التمهيدية في الشرح والتلخيص والعرض.
ولم يكن التأليف مجرد تطوير لمراحل النقل والشرح والتلخيص والعرض، بل كان ذلك كله مجرد رافد واحد فيه وعنصر مكون له. وكان هناك رافد آخر هو التفكير على معطيات الحضارة الإسلامية وإبداعاتها الأولى المستقلة عن الوافد، مثل أصول الفقه وأصول الدين وعلوم التصوف. وباجتماع هذين الرافدين، الوافد والموروث، ينشأ الإبداع الشامل. للفلسفة إذن مصدران: الوافد والموروث. والوافد قد تم تحويله إلى موروث محلي صرف بعد عمليات النقل والشرح والتلخيص والعرض والتأليف. أما الموروث فهو علوم الكلام وتطويرها بعد نقد الفلسفة لها. وقد كان أوائل الفلاسفة مثل الكندي متكلمين يفكرون في مسائل الكلام، مثل الاستطاعة والفعل، أو التفكير في الله أو في مسائل القضاء والقدر، أو نقد علم الكلام كله باعتباره علما لا يفيد الذكي ولا ينتفع به البليد. وكما اتضح في علم الكلام المتأخر في القرنين السادس والسابع وكما هو واضح عند الإيجي في «المواقف» غلبت موضوعات الفلسفة على الكلام. ففي الفلسفة المتأخرة وكما هو الحال عند الرازي في المباحث المشرقية غلبت موضوعات الكلام على الفلسفة.
12
كما شمل الموروث علم أصول الفقه، وكانت الفلسفة تفكيرا غير مباشر عليه، روحه أكثر من مسائله.
13
وشمل أيضا علوم التصوف والتي طبعت الفلسفة بطابعها فيما عرف فيما بعد باسم الفلسفة الإشراقية.
14
كما احتوى أيضا بعض العلوم النقلية مثل الفقه والتفسير.
15
وتبلغ قمة الإبداع الخالص في التفكير على الموضوعات الإنسانية الخالصة في الأخلاق والاجتماع والسياسة بصرف النظر عن الرافدين الأساسيين في التكوين الفلسفي: الوافد والموروث
16
ثم ينتقل الإبداع إلى العلوم الفلسفية الخالصة مثل ما بعد الطبيعة. وفي مقدمتها الموجودات المفارقة وخلود النفس.
17
ثم يبلغ الذروة في التفكير في الموضوعات الرياضية والطبيعية الصرفة حيث يتم الإبداع في أتم صورة دون جدال أو نقد أو إشارة إلى أحد المصدرين: الوافد أو الموروث.
18
لقد بدأت الفلسفة عند الكندي والرازي تفكيرا على العلم بالأساس؛ أي العقل في مواجهة الطبيعة. ثم انحرفت بمؤامرة داخلية لضربها وأصبحت فلسفة إشراقية؛ تأملا في النفس وانعراجا إلى الله عند الفارابي وابن سينا وإخوان الصفا والشيعة وامتدادها عند ابن باجة وابن طفيل، ثم عادت من جديد نحو العقل والطبيعة عند ابن رشد. هناك إذن نموذجان: الأول الفلسفة العقلية الطبيعية التي ميزت البداية والنهاية والتي هي أشبه بالرأس والقدمين، ونموذج الفلسفة الإشراقية التي احتلت الوسط والتي هي أشبه باندفاع البطن الذي في حاجة إلى دواء ليعود التناسق إلى الجسم الفلسفي. وهو نفس التمايز في علم أصول الدين بين الأصول الإنسانية العقلية الطبيعية عند المعتزلة، والأصول الإلهية عند الأشاعرة.
وبالرغم من بعض الظواهر السلبية في الفلسفة والتي كانت نتيجة طبيعية لروح الحضارة القديمة مثل المنطق الصوري، والعقل التبريري، والمعرفة الإشراقية، ونظرية الفيض، والطبيعيات الإلهية، وثنائية الطبيعية، وعلم أحكام النجوم، والضرورة الكونية، وأولوية الفضائل النظرية، والتصور الهرمي للدولة؛ إلا أنها استطاعت تطوير الفكر الديني، واحتواء الحضارات المجاورة، والانتقال من النقل والشرح والتلخيص إلى العرض والتأليف، وصياغة لغة جديدة، ووضع تصور شامل، والإحاطة بكل العلوم القديمة في علم موسوعي شامل، ثم إثبات الحقائق الفلسفية العامة التي تتفق عليها البشرية جمعاء والتي تصل إليها كل حضارة؛ مثل الله كمبدأ عام شامل يظهر في فعل الخير والإتيان بالعمل الصالح، وإثبات خلق العالم من أجل الفعل فيه، وعدم الحرج من القول بقدمه ردا لاعتباره، وخلود النفس الفردية من خلال العقل الكلي.
19
كان للفلسفة دور ووظيفة ورسالة وكانت لها إنجازات تجعلنا نتساءل: ما هي وظيفة الفلسفة اليوم وما دورها وما رسالتها، وما هي الإنجازات التي قدمتها؟
سابعا: البنية الثلاثية للفلسفة :
غياب الإنسان والتاريخ
بدأ التأليف عند الكندي واستمر عند الفارابي في موضوعات متفرقة حتى وصل الأمر إلى ابن سينا فوضع لها بنية ثلاثية: المنطق، والطبيعيات، والإلهيات. وقد انتقلت هذه البنية إلى العصر الوسيط الأوروبي، بل وإلى العصور الحديثة حتى هيجل الذي اجتمعت فيه فلسفات العصر الوسيط والعصور الحديثة على السواء، خاصة في «الموسوعة الفلسفية». ولقد انتقلت هذه البنية الثلاثية إلى الفلسفة الأوروبية الحديثة مع تحول جديد إلى نظرية المعرفة ونظرية الوجود ونظرية القيم؛ إجابة على أسئلة ثلاثة: كيف أعرف؟ وماذا أعرف؟ ماذا آمل؟ وقد نشأ كل ذلك في البداية من الموضوعات الرئيسية الثلاثة في علم أصول الدين: نظرية العلم، ونظرية الوجود، والإلهيات، بالإضافة إلى النبوات (السمعيات).
فإذا سألنا: هل للفلسفة لدينا الان بنية؟ لكانت الإجابة حتما بالنفي. والفلسفة بدون بنية مجرد تأملات في موضوعات متفرقة كما كانت الفلسفة القديمة في بداياتها عند الكندي والفارابي. وإذا سألنا: هل الفلسفة لدينا الآن، وهي في مرحلة البدايات؛ أي التفكير المتناثر المشتت في موضوعات متفرقة علمية ورياضية وإنسانية عامة، مرحلة تمهيدية لمرحلة أخرى تالية تتحول فيها الفلسفة من تفتت المسائل إلى وحدة الموضوع؟ لكانت الإجابة أيضا بالنفي، بالرغم مما يكون في هذه الإجابة من مصادرة على المستقبل، وحرية حركاته وإمكانات إبداعه.
فالمنطق، بالرغم مما يبدو عليه من صورية وتقليدية، منطق قضايا وأشكال، إلا أنه قد تم تركيبه بناء على تصور الحضارة الجديدة. فالمنطق بالنسبة للفكر عند ابن سينا يعادل الوحي بالنسبة للعقل، كلاهما يعصمان من الخطأ. وينقسم المنطق إلى منطق صواب وهو البرهان، ومنطق خطأ وهو الجدل والسفسطة، كما ينقسم منطق الوحي إلى يقين وظن، وبالتالي سهل إدخال مادة المنطق الوافدة في تصور الحقيقة الجديدة. فمنطق اليقين هو البرهان، ومنطق الظن هو الجدل والسفسطة.
وإذا كان البرهان هو قمة المنطق أصبحت المباحث الثلاثة الأولى فيه: المقولات والعبارة والقياس ثلاث مقدمات له، والمباحث الأربعة التالية له تطبيقات عليه في الجدل والسفسطة والخطابة والشعر. وإذا كانت اللغة مادة المنطق التي عليها تتضح أشكال الفكر فإن اللغة هي أيضا وسيلة التعبير في الوحي. هناك إذن تطابق بين المنطق واللغة. المنطق مقولات وعبارة، واللغة ألفاظ وجمل، والقضية موضوع ومحمول، والجملة مبتدأ وخبر. إحالة المنطق إلى اللغة هو إحالة الوافد إلى الموروث، ووضع الحضارة اليونانية في تصور الحضارة الإسلامية، وعلى ما وضح في المناظرة الشهيرة بين المنطق والنحو بين متى والسيرافي. وقد تم عرض المنطق على العقل فقبله العقل؛ نظرا لما في المنطق من نسق هندسي. المقولة نقطة، والعبارة خط، والقياس خطان متوازيان، والبرهان: الموازيان لثالث متوازيان. فنظرا لأن المنطق عقلي والعقل أساس السمع؛ ظهر تطابق المنطق والوحي.
ولكن هذا هو فقط مقترحات الفلاسفة، ولا يمكن عزله عن باقي أنواع المنطق التي تقف من منطق الفلاسفة موقف النقد والرفض والعداء، مثل منطق الصوفية ومنطق الفقهاء. فلقد قدم الصوفية منطق الإشراق وهو منطق وجداني خالص، وإن أمكن صبه أيضا في أشكال القياس.
1
كما قدم الفقهاء منطق الحس والتجربة اعتمادا على الواقع والمشاهدة؛ تحقيقا للمنفعة وللمصالح العامة. إذن يمكن لجيلنا النظر إلى المنطق ككل واحد، منطق العقل الخالص عند الفلاسفة، ومنطق الشعور عند الصوفية، ومنطق الواقع عند الفقهاء، ونضيف عليه الجدل الاجتماعي ومنطق التاريخ.
أما الطبيعيات القديمة فهي كما تبدو طبيعيات عقلية مثالية، أقرب إلى رسم الطبيعة منها إلى علم الطبيعة. وعلى الرغم من أن مادتها من الوافد إلا أن تصورها وترتيبها من أسفل إلى أعلى على نحو صاعد، من المعادن والنبات إلى الحيوان والنفس، أشبه بطبيعيات الصوفية والارتقاء من الطبيعة إلى ما بعد الطبيعة، كما أن هذه المراتب ذاتها إنما هي توجهات من الوحي، وتحقيق لدعوته للتأمل في مظاهر الطبيعة وآيات الكون، وما أكثر وصف المعادن والنبات والحيوان والنفس في الوحي وكأن التطابق بين ثنائيات اليونان: الجوهر والعرض، الصورة والمادة، الكيف والكم، السكون والحركة، القوة والفعل، المعلول والعلة ... إلخ، وبين الطابع المثالي لوصف الطبيعة في الوحي. وكما أنه يستحيل التمييز بين موضوعات علم الطبيعة وموضوعات علم الميتافيزيقا، كذلك يستحيل التمييز بين الآية ودلالتها، بين دليل الحدوث وقدم الذات في الفلسفة الإسلامية. فالعلم واحد، سواء كان طبيعيات أم إلهيات؛ الطبيعيات إلهيات مقلوبة إلى أسفل، والإلهيات طبيعيات مقلوبة إلى أعلى. لذلك استحال فصل العالم عن الله، والحدوث عن القدم. أما النفس فهي موطن الالتقاء بين العالمين؛ عالم الواقع، وعالم المثال. كلاهما بعدان للنفس، ما أسهل إذن الحصول على دلالات معاصرة للطبيعيات القديمة وذلك بطريقتين؛ الأولى: معرفة كيفية تركيب الطبيعيات القديمة إلى طبيعيات معاصرة، أي إلى بعد طبيعي للشعور من أجل القضاء على الثنائيات الموروثة والتي تغذيها ثنائيات الحلال والحرام. والثانية: الكشف عن البعد الطبيعي للإنسان، ووضع الإنسان في الطبيعة لتحقيق تطابق العقل والوحي والطبيعة.
وإذا كانت الإلهيات طبيعيات مقلوبة فإن ما يبقى منها هو النفس والعقل؛ أي الإنسان من حيث هو قوى نظرية وعملية، ويدخل في ذلك الأخلاق والاجتماع والسياسة والتاريخ. ونظرا لأهمية هذا الجانب في عصرنا فإنه لا يمكن تركه محاصرا بين الطبيعيات والإلهيات القديمة كعنصر ربط بينهما دون أن يصبح قسما مستقلا. وبالتالي تكون بنية الفلسفة رباعية: المنطق، الطبيعيات، الإلهيات، الإنسانيات. وهو ما حاول إخوان الصفا إضافته في القسم الرابع فيما سموه «العلوم الناموسية والشرعية». وتكون المهمة في هذا الجزء الانتقال من الأخلاق الفردية إلى الأخلاق الاجتماعية، ومن ثنائية الفضائل والرذائل إلى توظيفها الاجتماعي طبقا للطبقات الاجتماعية: أخلاق الأمر والنهي للطبقة العليا، وأخلاق القانون والنظام للطبقة الوسطى، وأخلاق الفقر والقهر للطبقة الدنيا. إن وصف المدن الفاضلة سهل ما دام الأمر هو التعبير عما ينغي أن يكون، ولكن تحليل الجدل الاجتماعي ووصف واقع الناس ومعرفة أسباب الانهيار وشروط التقدم هو الأنفع والأقرب إلى تحقيق مصالح الناس. وإذا كان القدماء قد أفاضوا في إثبات خلود النفس وفناء البدن وكسبوا المعارك النظرية فإن المحدثين يستطيعون وصف مآسي البدن؛ فمآسينا من جوع وقحط وعري، ومشاكلنا في المواصلات والإسكان والنظافة وضيق المكان؛ كلها آتية من سوء تدبير البدن. ومن هنا تنشأ مشاكل النفس بصرف النظر عن قدرة الصفوة على تجاوزها والإبقاء على طهارة النفس، رغما عن ضرورات البدن.
2
ثامنا: خاتمة: مسئولية من؟
هذا بحث في الفلسفة والتراث وحال الأمة. وإضافة الطرف الثالث الذي يعبر عن ماهية العلاقة بين الطرفين الأولين ضروري، وإلا كان البحث في الفلسفة والتراث أشبه بما هو سائد حاليا في نداوتنا العلمية ومحاضراتنا الجامعية. وتلك مهمة المؤتمر الفلسفي العربي وما قد ينبثق منه من جمعية فلسفية عربية تحقيقا وفعلا، تكون الموطن الطبيعي لإبداعات فكر الأمة بعد أن انتظر الناس طويلا أهل الحل والعقد وعلماء الأمة، وكما انتظروا أيضا أولي الأمر الذين وضعوا العربة أمام الحصان.
1
وما زال الجميع ينتظر المخلص. وتلك مسئولية أساتذة الفلسفة أولا وقبل كل شيء بوعيهم بالتراث وبرؤيتهم لأحداث العصر، بفكرهم كعلماء وبممارستهم كمواطنين. وقد تكون تراثنا القديم بفضل علماء الأمة الذين أسسوا المدارس، وصاغوا المذاهب، وشكلوا العقائد. إن تحقيق الوحدة العضوية بين العالم والمواطن، بين حق العلم وواجب المواطنة هو السبيل إلى الجمع بين التراث والفلسفة وحال الأمة.
ثم إنها مسئولية الطلاب ثانيا الذين يشكلهم الأساتذة، سواء في الدراسات العامة أو في الدراسات العليا، كعلماء ومواطنين يجمعون أيضا بين حق العلم وواجب المواطنة، يتأثرون بهم ويردون عليهم، ويكونون مذاهب بديلة، في حوار صريح وعلني. فقد نشأت الفلسفة كما نشأ التراث كله نتيجة لحوار بين المذاهب وخلاف بين العقائد. فالكل راد والكل مردود عليه. وما من حجة إلا ولها حجة مناقضة، وما من موقف إلا وله موقف بديل، ليس الطلاب نسخة منا، ولكنهم تطوير لنا، وزيادة علينا، أو قلب وتغيير لفكرنا رأسا على عقب.
وإنها لمسئولية الدولة ثالثا أن تقف على الحياد التام في الخلاف الفكري بين العلماء وفي حرية الاختيار بين المذاهب. فالسلطة ليست حجة، والفكر ناصح والسلطة سامعة. ليس للسلطة مفكروها ولكن المفكرين يخاطبون الناس الذين يختارون ممثليهم، ويبايعون أئمتهم، ويعقدون على ولاة أمورهم، فالإمامة عقد، وبيعة، واختيار.
التراث والتغير الاجتماعي1
أولا: أنواع المجتمعات البشرية
بالنسبة إلى تراثها
تمتاز المجتمعات البشرية على غيرها من المجتمعات الحيوية بأنها مجتمعات تراثية تحتفظ بتاريخها الماضي وتدون آثارها، أو تحفظه شفاها ثم ترويه الأجيال السابقة إلى الأجيال اللاحقة. ومن هنا ارتبط تاريخ الإنسانية بعلم النقوش والآثار والحفائر كما حفظت حياة المجتمعات في السجلات والحوليات، وخلد الملك على حوائط المعابد والمقابر. فإذا كانت التجمعات الحيوانية تحفظ تجاربها السابقة في سلوكها وتعلمها من المحاولة والخطأ، فإن التجمعات البشرية تحفظ هذا التاريخ وتدونه كتابة. التجمعات البشرية هي إذن وحدها التي لها تاريخ، وبالتالي كان تاريخها سجل حياتها ومرآة روحها، وهو ما أكدته فلسفة الحضارات البشرية.
والمجتمعات البشرية بالنسبة إلى تراثها على ثلاثة أنواع: الأول ما يسمى بالمجتمعات «البدائية» وهي المجتمعات التراثية التي يكون فيها تراثها ماضيها وحاضرها ومستقبلها، ويكون دينها وفنها وفلسفتها وأسلوب حياتها، ويكون بديلا عن واقعها وفكرها ويقوم مقام عملها ومعرفتها. وفي هذه المجتمعات لا يحدث تغير اجتماعي قصدي، بل يحدث تقدم في أساليب الحياة العملية طبقا للمحاولة والخطأ، أو إيهاما بوسائل السحر وأساليب الخرافة.
والثاني ما يسمى بالمجتمعات «المدنية» أو المجتمعات الحديثة أو المجتمعات الغربية المتقدمة، وهي المجتمعات اللاتراثية التي كان فيها تراث يوما ما يكون ماضيها وحاضرها ومستقبلها ثم تكشف لها تعارض بعض جوانب هذا التراث مع العلم الحديث والعقل البسيط أو الحياة المدنية العصرية التي تقوم على العقد الاجتماعي الحر، فنفدته أولا وتركته ثانيا، ولم تستبق منه إلا ما اتفق مع المعرفة الجديدة والعلم الحديث والنزعة الإنسانية بعد معركة فاصلة بين القدماء والمحدثين، بين أنصار القديم وأنصار الجديد.
والثالث ما يسمى بالمجتمعات «النامية» أو المجتمعات المتحررة حديثا وهي المجتمعات التي ما زالت في مرحلة انتقال بين القديم والجديد، تحاول الخروج من التراث إلى الواقع والذي تثار فيه قضايا الأصالة والمعاصرة، وتعرض عليه النماذج التراثية واللاتراثية، ويتأرجح بين التقليد والتجديد، ويتجاذبه تيارا الانقطاع والتواصل في هذه المجتمعات، وهي مجتمعاتنا التي لم تحسم فيها القضية بعد والتي تثار فيها قضية «التراث والتغير الاجتماعي». فهي مجتمعات تراثية تشارف على العصر بعد أن جابهت الاستعمار وحققت الاستقلال الوطني وبدأت التنمية الاجتماعية الشاملة.
ثانيا: النموذج التراثي
والنموذج التراثي لا يوجد فقط في المجتمعات «البدائية» بل قد يوجد أيضا في جماعات محلية تحتية
Sub-groups
داخل المجتمعات المدنية. لذلك يصفها علماء الاجتماع باسم «البدائية»
. وبالنسبة لنا في المجتمعات النامية يكون لهذا النموذج عدة عيوب رئيسية، وأهمها: (1)
يؤخذ التراث على أنه غاية في ذاته وليس مجرد وسيلة لتحقيق غاية أخرى هو تقدم الشعوب ونهضة المجتمعات. فالتراث قيمة في حد ذاتها يحرص عليها، ولا يمكن تناولها بالنقد أو التغيير. التراث مصدر القيم، وهو في حد ذاته قيمة روحية. هو مضمون الإيمان أو «المطلق في التاريخ». هو «المقدس» الذي لا يمكن تدنيسه بالبحث الإنساني أو بإعمال العقل، أو بتحويله إلى «الدنيوي» أو «العلماني». وفي هذه الحالة يكون التراث والدين شيئا واحدا، وتنفى عنه صفة الإبداع الإنساني، وكأنه من صنع الروح الإلهي والنفح النبوي. يفعل في الناس، ويوجه المجتمعات، ويحدد المصائر، يجب الخضوع له، والثورة عليه كفر وإلحاد. ويشمل الكتب المقدسة والمؤلفات الصوفية والفقهية والعقائدية، ويضم الضريح والولي وكل صاحب عمامة وبائع عطور! (2)
يكون التراث مستقلا عن الواقع وليس جزءا منه أو موجها له، فهو فكر وواقع، عقيدة وشريعة، تصور ونظام، دين ودنيا، مصحف وسيف ... إلخ. ويكون بديلا عن الواقع، يطرد الواقع الحالي، ويحل محله الواقع التراثي، ويتم الخلط بين ما ينبغي أن يكون وما هو كائن، بين المبدأ والواقع، أو بلغة الأصوليين بين الأصل والفرع. أو على الأقل ينبغي على الواقع الحالي أن يطوع نفسه طبقا للواقع التراثي، فالتراث لا يقبل واقعا من خارجه يند عنه أو يهرب منه أو يثور عليه. التراث ملزم ومشرع وقادر على احتواء كل شيء خارجه. التراث هو الذات والموضوع، الأنا والغير، الروح والمادة، مغلق على نفسه، لا يمكن النفاذ إليه. (3)
التراث كل لا يتجزأ يؤخذ كله أو يرفض كله، لا يقبل الترقيع أو التوفيق مع تراث آخر مغاير. التراث وحدة واحدة لا بداية له ولا نهاية، يبدأ من ذاته ويعود إلى ذاته، منه البداية وإليه المنتهى. الناس صنفان: مؤمن أو كافر، ولا وسط بينهما، فلا وسط بين الحق والباطل أو بين الصواب والخطأ. لذلك تحولت الجماعات التراثية إلى جماعات مستغلقة على نفسها تتزاوج فيما بينها ولا تسمع أو تطيع إلا لمن هو فيها، بل وتهاجر وتكون جماعات كلية متطهرة في ربوع الصحراء أو على أطراف المدن لا تتعامل مع غيرها إلا بعد التحول من النقيض إلى النقيض، ومن الضد إلى الضد. (4)
يكون التراث خارج التاريخ والزمان والمكان، حقيقة أبدية لا تتطور أو تتغير ولا يخضع لتأويل أو تفسير أو وجهة نظر. يشمل الزمان والمكان ويطويهما فيه، فلا فرق بين ماض وحاضر ومستقبل، ولا وجود لمراحل التاريخ أو نوعية المجتمعات أو خصوصيات الشعوب. وبالتالي، تم التنكر للحاضر كلية، وتمت التضحية بأصول الفقه في سبيل أصول الدين، وغلبت العقيدة على الشريعة، وأصبح أصحاب التراث معبرين عن مبدأ أكثر منهم عاملين في الواقع ومغيرين له. يقف التاريخ لديهم في عصر ذهبي في الماضي، يكون هو التقاء الخلود والزمان. ومن ثم لا تتقدم الشعوب إلا بالرجوع إلى الماضي واختزال التطور، فلا يصلح حال هذه الأمة إلا ما صلح به أولها. يعيشون الماضي في الحاضر ويعيشون الحاضر في الماضي، والمستقبل غائب باستثناء المعاد، وخلود الأرواح. (5)
الواقع كله مدان، ولا يمكن تطويره أو إصلاحه بل هدمه من الأساس حتى يبدأ البناء الجديد على أسس راسخة، أصله ثابت وفرعه في السماء. فالهدم يسبق البناء، والموت شرط الحياة، والبداية من الصفر خير من البداية على ما هو موجود بالطبيعة. ولما كان الواقع باقيا، والحياة قائمة فإن الهدم لا ينتهي حتى يبدأ البناء، ومن ثم يبدو التراث عدائيا للواقع، رافضا له، خارجا عليه، سرعان ما ينتهي أصحابه بتدمير أنفسهم والواقع باق لم يتغير، والمجتمعات تندم وتتحسر على هذه الطهارة الضائعة الخاسرة. ولما استعصى الواقع طال الهدم ولم يأت البناء، فظهر السلب دون الإيجاب، والرفعة دون القبول. (6)
تتولد العقلية الانقلابية، وتغيير المجتمعات عن طريق الصفوة الطليعية المؤسسة، الجيل القرآني الجديد، القادر على تجنيد الأمة، ومواجهة قوى البغي والعدوان، والدفاع عن حاكمية الله لتقويض حاكمية البشر. يحدث الانقلاب في حياة الفرد أولا ثم حياة المجتمع ثانيا، فالتغير انقلاب، والثورة انقلاب على ما هو واضح أيضا في اللغة الأوردية. وبالتالي يتم العمل في الخفاء، سرا لا علانية، تحت الأرض أكثر منه فوق الأرض، بجهاز سري شبه عسكري، سرعان ما تكتشفه السلطة القائمة فتقضي عليه بقوة الجيش والبوليس المسلح. ولا ضير من استعمال العنف المسلح والاغتيال السياسي لتبديل الزمرة الحاكمة وإحلال الصفوة المؤمنة محلها. (7)
ويتم ذلك كله باسم الله دفاعا عن حقه، وتأكيدا لحاكميته، وتنفيذا لإرادته وامتثالا لطاعته، وطمعا في أجره وثوابه. ولا يتم باسم الإنسان، دفاعا عن حقوقه وتأكيدا لسلطانه وتحقيقا لمصالحه العامة حتى يعيش في دنياه حرا كريما. وبالتالي غابت النظرة الإنسانية، ونقصت الرحمة، وظهرت القسوة. والله يبرر شعوريا عند دعاة التراث سلوكهم؛ لأنهم يدافعون عن الشرع باسمه. انزوى الإنسان وخاف، وتقلصت قواه، وتجمدت طاقته وضغطت طبيعته. فولد الكبت والحرمان مظاهر التعويض والإشباع، وكأن الله ليس غنيا عن العالمين وفي حاجة إلى دفاع، وكأن الله لم يكرم بني آدم في البر والبحر ولم يجعله سيد العالمين. (8)
ويسود التعصب والتشنج، ويرفض الحوار مع الآخرين حتى انغلق أصحاب التراث على الذات وأسقطوا الآخرين من الحساب، فأصبحوا نرجسيين، يرون أشخاصهم وذواتهم في مرآة الآخرين. هم الحق وما سواهم الباطل، وبالتالي استحالت الوحدة الوطنية وانقسمت الأمة إلى فريقين متصارعين متعارضين، خصمان يكفر أحدهما الآخر، ويحمل كل منهما السلاح في وجه الآخر. وتستعملهما الدولة كل فريق ضد الآخر، فيحدث الشقاق بين قوى المعارضة، وتتوقف عملية التغير الاجتماعي، وتكون الخطورة أعظم إذا ما انشق دعاة التراث على أنفسهم، ودبت الخلافات فيما بينهم، كل فريق يدعي أنه على حق وصواب وما دونه الباطل. (9)
وتسهل المعارك الشكلية حين يصعب تغيير المضمون، فيظهر التغير على السطح في مظاهر اللباس خاصة وصورة البدن، مثل إطالة اللحى، والتمتمة بالشفتين والحجاب، والصلاة وإقامة الشعائر والطقوس؛ بحجة الاستعداد وعدم التسرع، والإعداد للمعارك القادمة، فيبقى الواقع الاجتماعي لا يتغير، وتثار المشاكل الوهمية في مجتمعات التنمية مثل فصل الذكور عن الإناث، أو التجمهر لإقامة مصلى، ولا يجد الضنك والبؤس والفقر والجوع من يتصدى له، ويرتفع المترفون، وتستسلم الأمة، ويضيع استقلالها على رائحة العطر ومعارض كتب التراث ومعارك الحجاب. (10)
وسرعان ما تجد القوى المحافظة في النموذج التراثي خير دعامة لإيقاف حركة التغيير الاجتماعي، فتتمسك بالقديم، وتحافظ على الأصول، وبالتالي تجد شرعيتها في التراث بعد أن فقدتها في الواقع، وتتأصل في المبدأ وتختفي وراءه وتستعمله كقناع يخفي التسلط في الواقع ونهب ثروات الأمة، لذلك عم النموذج التراثي في النظم المحافظة، وأصبح دعامة الإقطاع العشائري والحكم القبلي، والنظام الأسري، وتحولت قيم الأصالة والصلابة والإيمان إلى موانع للتغير الاجتماعي، وأصبحت القيم القديمة خير دعامة للنظم المحافظة. ولا تجد قوى التغير الاجتماعي لديها أية وسيلة لمواجهة القديم أو النظام القائم وإلا اتهمت بالخروج على المجتمع، خاصة إذا كانت المحافظة هو التيار الغالب على ثقافة الجماهير.
ثالثا: عيوب النموذج اللاتراثي
وفي مقابل النموذج التراثي، وكرد فعل عليه يظهر النموذج اللاتراثي. يقطع الصلة بالقديم لبناء الجديد على أسس من العلم والمعرفة وبالجهد الإنساني الخالص بعد اكتشاف عورات التراث وعدم ثباته أمام العلم الجديد، فالتقدم نحو الجديد مرهون بالتخلص من القديم، وهو درس عصر النهضة الأوروبي في القرن السادس عشر خاصة وحتى الآن. وكما ظهرت «البدائية» كتجمعات محلية ظهرت أيضا الحركات التحديثية العلمية العلمانية على النمط الأوروبي كتجمعات فوقية
Super-Groups
مفروضة على مجتمعاتنا من الخارج. وأهم عيوب النموذج: (1)
يحدث تغيير في السطح لا في العمق، وفي العرض لا في الجوهر، وفي الأطراف لا في المركز. فتتغير مثلا الحروف الوطنية في اللغة إلى الحروف اللاتينية، كما يتغير اللباس الوطني إلى اللباس الأوروبي، والموسيقى الشرقية إلى الموسيقى الغربية، والمنازل العربية إلى المنازل الحديثة، والمدارس الوطنية إلى المدارس الأجنبية، واللغة العربية إلى اللغات الأوروبية، وبدلا من أن تكون البلاد جزءا من الشرق تصبح قطعة من أوروبا، وكان التحديث هو ترك الأنا وتقليد الآخر، والقضاء على الهوية والوقوع في التغريب، وكما يقول الشاعر: «لبسنا قشرة الحضارة، والروح جاهلية.» (2)
يحدث التقدم في الخارج في مظاهر الحياة المدنية من صناعة وزراعة وتجارة وعمران، ولكن على أساس من التخلف في الداخل. فيقام التصنيع بعقلية الزراعة وانتظار الفيضان وسقوط الأمطار، وبذر الحبوب وانتظار الحصاد، وكأن التصنيع سيحضر عقليته معه ويفرز قيمه في الزمان والتنظير والآلية. وتقام مزارع ومديريات الإصلاح الزراعي بعقلية الإقطاع أو بنظام بيروقراطي، ويدار القطاع العام في التجارة بعقلية القطاع الخاص. فسرعان ما ينهار التقدم بانتهاء دور النخبة التحديثية، وتظهر المحافظة في الأعماق، ويبدو التخلف كمرحلة تاريخية لا يمكن عبورها بمجرد تغيير المظاهر الخارجية. (3)
يحدث تغيير في الأنظمة السياسية والاجتماعية والاقتصادية كما يحدث تغيير في الأبنية الاجتماعية دون أن يقع تغيير مواز في أنساق القيم. فسرعان ما تعود الأنظمة القديمة متطابقة مع نسق القيم القديم بمجرد اختفاء قوى الحراك الاجتماعي التي أحدثت هذا التغيير وهي في موقع السلطة السياسية. وكأن نسق القيمة هو الأساس الواقعي الوحيد للبنية الاجتماعية مهما اختلفت الأيديولوجيات وآراؤها حول أولوية الأبنية التحتية أو الأبنية الفوقية. فتحدث التنمية دون مفهوم التقدم، ويتم التحرير والتعمير دون مفهوم الأرض، وتتسع رقعة الخدمات دون مفهوم الإنسان. (4)
ونتيجة لذلك يحدث انفصام في الشخصية الوطنية، وتتجاور فيها طبقتان من الثقافة؛ الأولى تاريخية متصلة محافظة أصيلة، والثانية حديثة منقطعة تقدمية مستوردة. وتوضع الثانية فوق الأولى دون أن تنبع منها أو تكون تطويرا لها، ويحدث الاشتباه في الشخصية القومية كما هو الحال في تركيا وبولندا؛ طبقة راسخة من الإسلام وفوقها طبقة من التحديث الغربي في الأولى، وطبقة راسخة من الكاثوليكية وفوقها طبقة من الماركسية في الثانية. وتنقسم الأمة إلى فريقين وكما هو حادث في مجتمعاتنا العربية والإسلامية بين أنصار التعليم الديني وأنصار التعليم العلماني. (5)
ونظرا لهذا التجاور السطحي بين الطبقتين تحدث ردود الأفعال؛ ففي ساعة الهزائم وأوقات الشدة وعندما ترى الشعوب فشل مناهج تحديثها السطحية، تثور الأعماق، ويحدث رد فعل، ونظهر السلفية والحركات الدينية الرافضة لجميع مظاهر الحداثة كما هو حادث الآن في مجتمعاتنا العربية والإسلامية. فالثقل التاريخي للأعماق أقوى بكثير من خفة السطح. والرصيد التاريخي لتراث الشعوب يرجح تقليدها المحدث للآخرين. وبدل أن يحدث التغير الاجتماعي يوقف مسار التغير، وتكتسب الشعوب مناعة ضده، وتحصن نفسها منه باعتباره آفة العصر. (6)
ونظرا لوجود هاتين الطبقتين المتجاورتين لم يحدث أن مرت مثل هذه المجتمعات بفترة انتقال من التراث إلى التجديد، يحدث فيها إعادة بناء التراث وإعادة الاختيار بين البدائل بحيث يقضى على معوقات التقدم، وتستمد منه بواعث التغير الاجتماعي. وتتميز هذه الفترة الانتقالية بظهور ما يسمى بالليبرالية أو التنوير اعتزازا بالعقل وبحرية الإنسان، وتأكيدا على استقلال الطبيعة وتقدم التاريخ، وهي الحلقة المتوسطة بين القديم والجديد، ووسيلة الانتقال من التراث إلى الثورة باعتبارها تغيرا اجتماعيا متراكما عبر عدة أجيال. ومن ثم ظهرت في بولندا الحاجة إلى الليبرالية كما انتقل الاتحاد السوفيتي من الإقطاع إلى الاشتراكية دون المرور بهذه المرحلة المتوسطة، فنشأت الحاجة إلى الحرية، وظهرت حركات المعارضة، وسمعت أصوات المنشقين. (7)
ولما كان التحديث منوطا بالتنمية وطبقة التكنوقراط المؤهلة للتحديث سيطرت الأقلية الحديثة على الأغلبية القديمة، وأخذت هذه الأقلية في تنظيم نفسها في حزب طليعي أو في ضباط أحرار أو في طبقة المديرين وجهاز الدولة، وأصبح التحديث في عقول الصفوة وليس وجدانا شعبيا لدى الجماهير. فتصدر القرارات التحديثية ثم تفرغ من مضمونها حتى تنتهي إلى فراغ، ويتحول التحديث إلى مجموعة من الشعارات يتهكم عليها الناس، أو تبقى إعلاما في التاريخ. (8)
وتنتهي الطلائع الثورية بالعزلة عن قواعدها الشعبية؛ نظرا لاختلاف لغة التفاهم والتخاطب، ونظرا لاختلاف البواعث والأهداف الموجهة، ونظرا لاختلاف درجة الوعي السياسي والاجتماعي. وغالبا ما تفشل في إقامة نظام جماهيري شعبي يقضي على عزلتها، وسرعان ما تنتهي إلى دوائر مغلقة في الثقافة والفن، وتتحول إلى أحاديث الصالونات، ولا تبقى إلا في تاريخ الحركة الثقافية وبوادرها الأولى. فعندما يتوقف الإبداع السياسي يستمر الإبداع الفني، ويصبح الفن عزاء للنفس، والشعر تطهيرا لها. (9)
وكسرا لحدة العزلة، وإيجاد المخرج منها خارج الطوق؛ يتحول أحيانا الولاء الوطني إلى الولاء للأجنبي حتى يجد قادة التغير الاجتماعي حليفا لهم ومؤيدا لجهودهم ومعينا لمشروعاتهم. فإن كانت تحديثية ليبرالية ظهر الولاء للنظم الغربية. وإن كانت تحديثية اشتراكية ظهر الولاء للنظم الشرقية. وتخمد الروح الوطنية، وتضيع الأصالة، وتمحي الخصوصية، ويعم التقليد، وينتهي الاستقلال ، وتسود التبعية. فإذا ما شكت الجماهير في ولاء قادة التغير الاجتماعي ازدادت العزلة، وظهرت طلائع أخرى تحاصرها. وغالبا ما تكون هذه الطلائع الجديدة ضد حركات التغير الاجتماعي، فتحدث الردة، وتتوقف حركات التغير. (10)
وكما تمثلت القوى المحافظة للنموذج التراثي، وأخذت درعا يحميها ضد قوى التغير الاجتماعي، فإن قوى التقدم تتمثل النموذج اللاتراثي، ولكنها تأخذه كرمح تخرق به القوى المحافظة وكحاجز بينها وبينها فيحدث التصادم، وتنفصم عرى الوحدة، وتسيل الدماء. ترهق قوى التقدم نفسها، وتحيد عن معركتها الأساسية، وتنهك قواها حتى تنهار. وتقوم القوى المحافظة بالتصدي لأهدافها البعيدة، وتفقد وظيفتها في احتواء قوى التقدم وفي المحافظة على الوحدة الوطنية كما حدث في الثورة الإيرانية عندما كانت الحركة الثورية الإسلامية وعاء لكل الاتجاهات الوطنية. فإذا ما خسرت الجولة فإنها تتحول إلى قوى رفض ومعارضة ترمي إلى الأخذ بالثأر، ويملأ نفوسها الحقد والضغينة، وتنسى أهدافها. وتضيع فرصة خلق قيادات جديدة لمحركات التغير الاجتماعي؛ نظرا لغياب الممارسة الطبيعية لها. تقف قوى التقدم وهي في موقع السلطة عاجزة عن البناء، وتتصدى القوى المحافظة لحركة التغير الاجتماعي وهي خارج السلطة وفي مواجهتها. ويكون الحسم في النهاية لقوى الأغلبية الصامتة وقيادتها المحافظة.
رابعا: نموذج إعادة بناء التراث
والنموذج الثالث هو «إعادة بناء التراث» أو «إحياء التراث» أو «تجديد التراث» النموذج الذي تحاول المجتمعات النامية صياغته وتبنيه بالرغم مما هو حادث الآن من وقوع في الخطابة أو الانتقائية من الخارج. فإذا كان النمط التراثي يضحي بالتغير الاجتماعي من أجل المحافظة على التراث وكان النمط اللاتراثي يضحي بالتراث من أجل إحداث التغير الاجتماعي، فإن تجديد التراث أو إحياءه أو إعادة بنائه طبقا لحاجات العصر هو الذي يحفظ من التراث دوافعه على التقدم ويقضي على معوقاته، وهو القادر على إحداث التغير الاجتماعي بطريقة أرسخ وأبقى وأحفظ له في التاريخ من الانتكاسات والردة وحركات النكوص.
1
ولما كان التراث عادة يتم نسجه حول المعطى الديني الذي يتحول فيما بعد إلى عقائد ونظريات ومذاهب وأبنية نفسية، فإن ذلك يحدث في واقع تاريخي محدد وفي زمان ومكان معينين وفي مجتمعات بعينها بكل ما فيها من صراع اجتماعي وتضارب في المصالح بين القوى الاجتماعية المختلفة. فبرز التراث معبرا عن هذا الصراع وهذه المصالح، وهذا الواقع التاريخي ، ومملوءا بهذه التناقضات حتى أصبح حاويا للشيء ونقيضه، متعدد الأطراف، متشابه الأحكام والقضايا. وقد عبرت الفرق الإسلامية القديمة عن ذلك أصدق تعبير، وأصبحت المذاهب الكلامية أكبر معبر عن القوى الاجتماعية في المجتمع الإسلامي القديم. فكان سلاح المذهب والعقيدة أمضى الأسلحة لكسب معارك الصراع الاجتماعي. ولما كان الصراع الاجتماعي في كل عصر واحدا لا يتغير، الصراع بين الحاكم والمحكومين، بين الطبقة العليا والطبقات الدنيا، بين من يملكون كل شيء ومن لا يملكون شيئا، بين الأقوياء والمستضعفين، بين الأقلية والأغلبية، بين القاهرين والمقهورين خرج التراث متشابها يعبر عن كلا الموقفين. فإذا كان الصراع قد حسم أولا لصالح فريق، فريق السلطة، الدولة السنية القائمة، وبالتالي ساد تراثه على مدى أكثر من ألف عام منذ حسم الصراع في القرن الخامس الهجري حتى الآن، فإن المعركة اليوم على أشدها بين الفريقين من جديد بصرف النظر عمن يمثلها؛ القاهر من الخارج مثل الاستعمار والصهيونية، أو القاهر من الداخل مثل الإقطاعي أو الحاكم المطلق. وتكون معركة التراث الآن هي في إحداث البدائل وقلب التراث من تراث القهر إلى تراث التحرر؛ نظرا لتغير الظروف الاجتماعية وبداية معارك التغير الاجتماعي من جديد. فلا يمكن للقوى الاجتماعية صاحبة الحق في إحداث التغير الاجتماعي من التغير بثقافة السلطة، ثقافة الدولة الأشعرية، دون اكتشاف ثقافة المقهورين؛ ثقافة الشيعة والخوارج والمعتزلة وتراث القرامطة والزنج. وقد بدأ هذا التحول في تراث الحركات الإسلامية الثورية المعاصرة مثل المهدية والسنوسية والثورة العرابية وثورات الريف وحركات التحرر الوطني في المغرب العربي، وحركات المعارضة الإسلامية في الحجاز، وأخيرا في الثورة الإسلامية الكبرى في إيران.
ويمكن تصور أحداث هذا النموذج الجديد، وعلى سبيل المثال، على النحو الآتي:
2 (1) من التصور الرأسي للعالم إلى التصور الأفقي
فقد ظهر التصور الرأسي للعالم أو التصور المركزي أو التصور الهرمي في وقت كان الدفاع فيه عن الله كمركز للكون وعن القمة من أهم المعارك التي دخلها التراث القديم ضد المذاهب والملل والنحل دفاعا عن التوحيد ضد الشرك والثنوية وكل مظاهر التشبيه والتجسيم التي كانت منتشرة في المجتمعات القديمة المجاورة خاصة في فارس. وقد حسمت المعركة لصالح التوحيد، واستتب الأمر لصالح الدولة القائمة وقوى النظام. ولكن أصبح هذا النظام فيما بعد قيمة مطلقة، وتحول إلى بناء نفسي للجماهير، فتعطى القمة كل شيء ولا تعطى القاعدة أي شيء، وأصبحت العلاقة بين الأعلى والأدنى علاقة تمايز وتفاضل وشرف. كلما صعدنا إلى أعلى وصلنا إلى أسمى مراتب الكمال، وكلما هبطنا إلى أسفل وصلنا إلى أقصى مراتب النقص. فنشأت لدينا المجتمعات الإقطاعية والنظم الرأسمالية، وتغلغلت البيروقراطية في النفوس، وأسسنا المجتمع الطبقي كقيمة تراثية راسخة، وكبناء اجتماعي ثابت وكنظام طبيعي خلقي جبلي فطري! فتعثرت محاولات التغير الاجتماعي وإقامة عدالة اجتماعية وتذويب الفوارق بين الطبقات والقضاء على المركزية الإدارية. فالتقدم مشروط بالتصور الأفقي للعالم حينما تكون العلاقة بين الطرفين علاقة الأمام بالخلف، وليست علاقة الأعلى بالأدنى، وتكون الأطراف جميعا على مستوى واحد منذ البداية حتى تتكافأ الفرص. وبهذه العلاقة الجديدة يمكن تأسيس مجتمعات الحرية والاشتراكية كما يمكن تأسيس نظم جماهيرية تعطي القواعد الشعبية قدر ما تعطي الطلائع الثورية. (2) من الله إلى الإنسان
لما كان التراث القديم في مواجهة تراث الغير كان الدفاع عن الله، ذاته وصفاته وأفعاله، ضمن إنجازات القدماء ضد تشبيهات الإنسان. وقد تم كسب المعركة، وأصبح الله في شعورنا مستحقا لكل صفات العظمة والجلال، ولكن في مجتمعاتنا الحالية أصبح الخطر مدهما بالإنسان، حياته ومعاشه وتعليمه وصحته وخدماته وحقوقه وحريته. ومن ثم وجب نقل المركز أو الثورة من الله إلى الإنسان، دون أن يكون في ذلك خروج على مقاصد الله؛ فالله قد خاطب الإنسان بالوحي، وأرسل له الأنبياء، وكرم بني آدم في البر والبحر، وجعله سيد المخلوقات. الله غني عن العالمين، ولكن الإنسان في حاجة إلى دفاع وحماية. وقد فرض الإنسان نفسه في تصورنا لله، فشخصناه حتى امتلأت حياتنا بالتشخيص ، تشخيص المبادئ والنظم والتصورات. وتصورنا الله «الإنسان الكامل» بكل ما له من علم وقدرة وحياة وسمع وبصر وكلام وإرادة. وبدل أن تكون هذه الصفات مثلا عليا يحققها الإنسان في حياته وهدفا له يسعى نحوه؛ تجمدت وتحجرت وثبتت وتحولت إلى معبود يشعر الإنسان أمامه بالعجز والدونية. (3) من الأمير والرئيس والإمام إلى الشعوب وجماهير الأمة
وقد انتقل التصور الهرمي المركزي للعالم إلى ميدان الاجتماع والسياسة، فنشأت لدينا المدن الفاضلة تتمركز حول الرئيس أو الإمام كخليفة لله في الأرض، كما دارت النظم السياسية وفي علم العقائد خاصة حول الإمامة وشروطها وصفات الإمام. فتوارت المؤسسات الاجتماعية والسياسية كما توارت الشعوب والجماهير متخلية عن دورها في المعارضة والثورة وآخذة دور السمع والطاعة. وسمعنا في مجتمعاتنا من يحذر من الاقتراب من «بغلة السلطان» بالنقد أو التجريح فما بالنا بالسلطان! ويقول الفارابي: سواء قلت الله أو الرئيس أو الأمير أو الإمام فإنما أعني نفس الشيء. فإذا خرج جزء من القاعدة على القمة جاز للرئيس بتره واستئصاله حتى يعم النظام ويستتب الأمن، وكأن التصفية الجسدية هي أفضل وسيلة للتعامل مع المعارضة والرئيس أكمل البشر، وهو وحده القادر على المعرفة والإلهام، يكاد لا يخطئ ولا يراجعه أحد! إن المؤسسات الدستورية هي وحدها القادرة على المراجعة حتى تحدث التنمية الشاملة دون أن تخضع لهوى الحكام ولنزوات السلطة. (4) من الجبرية والقضاء المسبق إلى الحرية وخلق الأفعال
ظهرت عقيدة الجبر بتوجيه من الدولة القائمة للقضاء على المعارضة ودعوة الناس إلى التسليم، فآمن الناس بأن كل ما يحدث في حياتهم من محازن ومآس إنما تم بقضاء الله وقدره المسبق وأنه ليس في الإمكان أبدع مما كان، وكان يمكن أن تحدث مآس ومصائب أقوى وأشد، ولكن الله خفف ولطف، ولو علم الناس المقدر لاختاروا الواقع! وأصبح كل من يعارض أو يعترض أو ينقد أو حتى ينصح بالحسنى خارجا على النظام ومنشقا على إجماع الأمة! ولذلك وصفت المجتمعات الشرقية بنظام «الاستبداد الشرقي» واحد فيها فقط هو الحر والباقي عبيد! ولما كان شرط التنمية هو التخطيط والمبادرة وقدرة الإنسان على الابتكار والخلق كان الانتقال إلى الحرية وخلق الأفعال كقيمة محققا لهذا الشرط. وقد حاولت حركاتنا الإصلاحية الأخيرة إحداث هذه النقلة خاصة الكواكبي في «طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد». (5) من منهج النص النازل إلى منهج الاستقراء الصاعد
كان المنهج السائد في التراث القديم هو المنهج النصي القائم على استنباط الأحكام الشرعية من الأدلة وهي الأصول الأولى المكتوبة. وساد هذا المنهج، فخرج التفسير بالمأثور في علوم التفسير، وأولوية النقل على العقل في علم أصول الدين عند الحشوية وأهل الظاهر. كما ظهر الفقه الافتراضي وسادت فرقة أهل السنة والحديث التي أصبح فيها النص حجة قائمة بذاتها لا يقوى عليه أي دليل عقلي أو أي برهان حسي منذ أحمد بن حنبل حتى محمد بن عبد الوهاب. وكان من الطبيعي قديما أن يحدث ذلك، فكان الوحي هو مصدر المعرفة والعلم. ولما تغير الوضع الآن وأصبح الواقع هو مصدر المعرفة، وأصبح التحليل الكمي للواقع هو أساس القرار ومادة التخطيط، لزم الانتقال من منهج النص النازل إلى منهج الاستقراء الصاعد، والانتقال من الفكر إلى الواقع، ومن الوحي إلى الطبيعة، ومن الأصل إلى الفرع، ومن المبدأ والشعار إلى حياة الناس وواقعهم التاريخي. (6) من العقل الإشراقي إلى العقل الاستدلالي
كانت المعرفة العقلية عند القدماء في الحضارات المجاورة شائعة وسائدة. فلما جاء الوحي بالمعرفة الدينية عن طريق الأنبياء كان من الطبيعي أن يركز التراث على خصوصيته ويجعل الإشراق مرتبة أعلى من العقل على ما هو معروف في الفلسفة الإشراقية وفي التصوف. وساد هذا التيار حتى الآن. ولما تغيرت الظروف التاريخية، وساد الجهل وعمت الخرافة واعتمد الناس في أمر حياتهم على المعارف اللدنية في كل شيء وغاب التخطيط القائم على الدراسة والتحليل، وجب الانتقال من المعرفة الإشراقية إلى المعرفة العلمية، وإصدار القرارات لا عن طريق الإلهام الرباني، بل عن طريق حساب الإمكانيات وعرض الاحتمالات وإلا لتحول المجتمع كله إلى أنبياء يوحى إليهم أو إلى أولياء يتبرك بهم ويتحول الجميع إلى مريدين. (7) من الإيمان والنظر إلى العمل والممارسة
لما كان الإيمان الباطني هو ما جاء به الوحي ركز عليه القدماء خاصة بعد الفتنة وتشتت الأعمال. أصبح المسلم بإيمانه قولا، وأرجأ الأعمال إلى يوم القيامة. كما رفع الفلاسفة من شأن القيم النظرية على حساب القيم العملية، وجعل الصوفية التأمل والفناء في قمة الطريق الصوفي. ولما كان العمل والممارسة شرط إحداث أي تغير اجتماعي، كان الانتقال من النظر والإيمان إلى العمل والممارسة شرط التنمية وزيادة معدلات الإنتاج. وقد نبه محمد عبده من قبل على ذلك بقوله: «ما أكثر القول وما أقل العمل!» كما استشهد الجميع بآيات العمل والجهاد مثل:
وقل اعملوا
ولاحظوا اقتران الإيمان بالعمل في آيات: يا أيها
الذين آمنوا وعملوا الصالحات [الأعراف: 57]. فإذا كان القدماء قد فهموا العالم فقد آن الأوان لنا أن نغيره. (8) من خلود النفس إلى بقاء البدن
كانت المشكلة عند القدماء هي إثبات خلود النفس في مواجهة الفلسفات المادية القديمة التي تقول بفنائها أو ببقاء البدن. وقد نجح القدماء في كسب المعركة حتى تحول خلود النفس وفناء البدن إلى معتقد أساسي شعبي في وجدان الجماهير. ولما تغيرت الظروف، وظهرت أوضاع الفقر والجوع وحالات البؤس والضنك بان أن المأساة في البدن في المأكل والمشرب والملبس والمسكن، وأن الروح لا خطر عليها إلا من خلال البدن. ولا يمكن أن تحدث تنمية طالما ظل البدن قيمة سلبية في وجدان الجماهير. وقد حاول ابن رشد ذلك من قبل بتصوره بقاء البدن فالمادة لا تفنى ولا تتبدد، بل تتحول من شكل إلى آخر، وبتصوره بقاء الروح عن طريق الفكر والعقل الكلي في الحضارة الإنسانية. (9) من فناء الدنيا إلى بقاء العالم
استطاع القدماء أن يبرزوا التصور الإسلامي الجديد للعالم وهو خلق العالم وفناؤه في مواجهة الفلسفات القديمة التي كانت تقول بقدمه وأزليته. وصاغوا لذلك دليل الحدوث، ودليل الإمكان، ودليل الجوهر الفرد، وغيرها من الأدلة لإثبات فناء العالم وبأنه أتى من لا شيء وسيعود إلى لا شيء:
كل من عليها فان * ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام [الرحمن: 26-27]. ولكن بانحسار المد الإسلامي القديم وتخلي المجتمع الإسلامي عن رسالته في الفتح وازدواج الأشعرية والتصوف وسيطرة القوى الأجنبية على مقدرات المسلمين، تحولت عقيدة فناء الدنيا إلى سلب الدنيا من وجدان الجماهير، فعجزت عن العمل، وآثرت التحول عنها والتوجه إلى الآخرة؛
تؤثرون الحياة الدنيا * والآخرة خير وأبقى [الأعلى: 16-17]. والتنمية لا تحدث في مجتمع ذي اتجاه سلبي نحو العالم. ولا يظهر الاتجاه الإيجابي إلا في بقاء العالم؛ أي العمل في الدنيا وكأن الإنسان يعيش فيها إلى الأبد. (10) من الفرقة الناجية إلى الوحدة الوطنية
لما تعددت الآراء، وتضاربت الأهواء وتشتت المذاهب، وحدث الشقاق، وعمت الفتنة بدأ الناس يبحثون عن الفرقة الناجية في مواجهة الفرق الضالة، فظهر حديث الفرقة الناجية الذي ستفترق فيه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة وهي فرقة الحكومة؛ أي الدولة القائمة المستتبة. وبالتالي تمت إدانة جميع الاتجاهات، واتهام الخصوم وفرق المعارضة بالكفر والعصيان. واستمر الحال كذلك إلى الآن حتى غابت الديموقراطية من مجتمعاتنا وساد الرأي الواحد والحزب الواحد. ولما كانت التنمية لا تحدث إلا بالمشاركة والحوار واختلاف الآراء، ومقارنة الحجة بالحجة، ومقارعة الرأي بالرأي، ومقابلة البرهان بالبرهان؛ لزم الانتقال إلى نوع آخر من الأحاديث مثل: «اختلاف الأئمة رحمة بينهم» أو «أصحابي كالنجوم فبأيهم اقتديتم اهتديتم» حتى يظهر الرأي الآخر ويرد الاعتبار إلى شرعيته.
خامسا: مخاطر وشبهات
لما كان التراث حاضرا كبناء نفسي في المجتمعات النامية كان هذا النموذج الثالث «إعادة بناء التراث» هو طريق التنمية ووسيلة إحداث تغير اجتماعي جذري بالرغم مما يبدو عليه من نظرة إصلاحية دينية إحيائية. إعادة بناء التراث إذن جزء من عملية التغير الاجتماعي إن لم تكن شرطها الأساسي. وإن إعادة الاختيار بين البدائل من ثقافة القهر إلى ثقافة التمرد لهو تغير جذري في ميزان القوى الاجتماعية لصالح الأغلبية الصامتة صاحبة الحق في التنمية وفي التغير الاجتماعي.
ومع ذلك تثار عدة شبهات ومحاذير يسهل إيضاحها والتخلص منها، وعلى رأسها: (1)
إعادة بناء التراث نزعة عملية ذرائعية صرفة لا تبحث عن الحق في التصورات أو الصواب في العقائد، بل مجرد وظيفية خالصة في أحسن الأحوال أو انتهازية صرفة في أسوأ الظروف. هي حركة «تكتيكية» تستغل الدين وتستثمره في قلوب المتدينين دون الإيمان به نظرا، وبالتالي إيقاع العقائد الثابتة في مسار التغير، وضياع الحقيقة لصالح النفع الدنيوي العاجل. والحقيقة أن هذه الشبهة لا أساس لها، ولا تعبر إلا عن مزايدة في الإيمان وتملق لأذواق الجماهير إذا افترضنا سوء النية، أو تعبر عن موقف متطهر خالص، وتقوى زائدة إذا افترضنا حسن النية. فالغاية هي مصالح العباد، والعقائد والشرائع وسائل وليست غايات. إن إعادة بناء التراث تصور علمي دقيق للمرحلة التاريخية للمجتمعات التراثية مثل المجتمعات النامية حتى يمكنها أن تحقق أكبر معدل للتنمية وتقضي على معوقات التقدم من الجذور، وحتى تأمن الانتكاسات وحركات الردة والثورات المضادة، وهي مهمة عدة أجيال حتى يتم محو الأمية وتجنيد الجماهير. فالبواعث مرحليا قد تكون بديلا عن التصورات. ولا يوجد حق نظري إلا إذا نتج عنه نفع عملي على ما يقول الأصوليون القدماء. (2)
إعادة بناء التراث إنما يخضع لانتقائية عشوائية، وكل شيء في التراث يحتمل التأويل، وبالتالي فهو خلط وتشويش دون مقياس واضح، وكل فكرة يمكن أن تؤدي إلى عمل وأثر؛ ولذلك لا بد من معايير نظرية خالصة وثابتة. والحقيقة أن هذا الحذر أيضا لا مبرر له؛ لأن إعادة بناء التراث تخضع لمقياس المصالح المرسلة وتحقيق النفع لجماهير الأمة، وهذه يحددها الفقهاء الذين هم بمصطلح العصر علماء الاجتماع والسياسة والاقتصاد بما لديهم من لغة الأرقام والتحليل الكمي للواقع. ومقياس جلب المنافع ودفع المضار مقياس شرعي تقاس به الأحكام، ولا يقتصر فقط على الأمور العملية الفقهية بل يمتد أيضا إلى العقائد النظرية وكما يتضح أيضا من «علم اجتماع الثقافة». ولا يهم صحة التأويل النظري بل مقدار ما يقدمه من نفع عملي، فالتأويل في نهاية الأمر هو قراءة الحاضر في الماضي وإسقاطه عليه. هو عملية تاريخية مشروعة تحقق بها الأمة تجانسها وتواصلها في الزمان. (3)
وما العمل إذا ما أخذ فريق آخر جانبا آخر من التراث على أنه أكثر تحقيقا للمصلحة مما أخذه الفريق الأول، وبالتالي يتشبث كل فريق بالشرعية ولا يمكن ترجيح أحدهما على الآخر؟ والحقيقة أن هذا الاعتراض يعبر عن حقيقة فعلية وهي أن الصراع بين اتجاهات التأويل هو في حقيقة الأمر صراع بين القوى الاجتماعية التي يتمثل كل منها تأويلا للتراث؛ تدعيما لمواقعه الاجتماعية. والذي يحسم الصراع في نهاية الأمر ليس الحجة والبرهان والصحة النظرية، بل صراع القوى الاجتماعية وأي قوة يكون لها الحسم في النهاية. وتكون القضية: أي التأويلات أكثر تعبيرا عن مصالح الأغلبية والقوى الاجتماعية التي يتم التغيير لصالحها؟ يستطيع البرهان أن يقوم بدور التوعية الاجتماعية ولكن المعركة تحسم في النهاية على أرض الواقع. والحس الشعبي الجماهيري قادر على التمييز بين مختلف التأويلات، وعلى معرفة أيها يعبر عن مصالح الأغلبية، وأيها يعبر عن مصالح الأقلية. (4)
إن في ذلك كله قضاء على الإيمان في قلوب الناس وإدخال الدين ذاته في اللعبة السياسية، وبالتالي الانتهاء إلى النسبية المطلقة وضياع الحق من قلوب الناس. والحقيقة أن هذه الشبهة تقوم على تصور خاطئ للتراث؛ فالتراث ليس الدين، والتصورات المختلفة للعقائد ليست عقائد الإيمان. إعادة بناء التراث عملية تاريخية صرفة تتعامل مع نتاج تاريخي خالص. صحيح أن المعطيات التراثية في بداياتها كانت معطيات دينية، ولكن نسج حولها الفلسفة والأخلاق والفن والأمثال العامية وسير الأبطال والملاحم الشعبية. فالتراث نتاج إنساني خالص ليس له صفة القداسة أو الألوهية. وما دمنا في نطاق التاريخ والمجتمعات البشرية فنحن شئنا أم لم نشأ في نطاق التغير والحدوث، ولسنا في نطاق الثبات والديمومة. ويكون الأبقى هو منطق عملية التغيير ذاتها وليس نتاج العملية الذي قد يختلف من عصر إلى عصر ومن مجتمع إلى مجتمع.
لقد قامت مجتمعات نامية أخرى بإعادة بناء التراث كوعاء لحركاتها الوطنية، مثل الصين وفيتنام وإيران والجزائر وأمريكا اللاتينية وبعض البلدان الأفريقية، وبقي أن نحول ذلك إلى علم دقيق خارج العلوم الاجتماعية الغربية - التي وقعت ضحية النموذج اللاتراثي الغربي - وتأسيس علوم اجتماعية وطنية تعترف بخصوصية الشعوب وبقدراتها على الخلق والإبداع بما لديها من رصيد تاريخي طويل وتجارب معاصرة أدت بها إلى التحرر والاستقلال.
التراث والعمل السياسي1
أولا: ماذا يعني التراث والعمل السياسي؟
ليس التراث مجموعة من العقائد المقدسة، والأبنية الصورية أو النصوص المخطوطة والمنشورة والمراجع والمعاجم ودوائر المعارف؛ فهو ليس تراثا صوريا فارغا لا أثر له ولا هو تراث مادي حسي، مجرد مجموعة من الكتب «الصفراء» القديمة تدرسها الجامعات الدينية. التراث هو المخزون النفسي عند الجماهير، هو تواصل الماضي في الحاضر، يتحول إلى سلطة في مقابل سلطة العقل أو الطبيعة. يمد الإنسان بتصوراته للعالم وبقيمه في السلوك. ويظهر التراث كقيمة في المجتمعات النامية، وهي المجتمعات التراثية التي ما زالت ترى في ماضيها العريق أحد مقومات وجودها، وفي جذورها التاريخية شرط تنميتها وازدهارها.
وعادة ما يقوم التراث في مثل هذه المجتمعات بوظيفتين متعارضتين طبقا للبناء الاجتماعي والتكوين السياسي لكل مجتمع. فإذا كان المجتمع بطبيعة تكوينه مجتمعا طبقيا، وفي المجتمعات المتخلفة طبقة أقلية بيدها السلطة وطبقة أغلبية صامتة خارجة عن السلطة، فإن التراث يعتبر إفراز كل طبقة لمفاهيمها ومصالحها وتصوراتها وتأويلاتها للنصوص الدينية. ولما كانت الأقلية بيدها الحكم والأغلبية محكومة كان تراث الأولى تراث السلطة، وتراث الثانية تراث القمع، وفي أقله تراث المعارضة. التراث إذن تعبير عن الصراع الطبقي والسياسي في كل مجتمع لذلك كان تراثان: تراث الحاكم وتراث المحكوم، تراث الأغنياء وتراث الفقراء، تراث القاهر وتراث المقهور. وهذا هو الذي يفسر قضية «الاشتباه
Ambiguité » في التراث؛ إذ نجد فيه نظريات وآراء ومعتقدات «سلطوية» تدعو إلى الطاعة لأولي الأمر والتسليم لهم ونظريات وآراء ومعتقدات أخرى تدعو للثورة عليهم وللخروج على سلطانهم، حتى بدا التراث متعارضا كما هو الحال في الأمثال العامية. فهناك تشبيه وتنزيه، نقل وعقل، جبر واختيار، إيمان وعمل، نص حرفي وعقل مصلحي، دعوة إلى الآخرة ودعوة إلى الدنيا ... إلخ. لذلك يستعمل الجميع حجة التراث باعتباره حجة سلطة، الحاكم والمحكوم، القاهر والمقهور، كل منهما يجد في التراث ما يؤيده، ومن هنا أتى دوره في العمل السياسي.
فلما كان التراث سلطة وقيمة وحجة في وجدان الناس ، يطيعونه دون ما حاجة إلى اقتناع، استعمله الحكام طلبا للطاعة لهم وإثباتا لشرعيتهم. وأظهروا عقائد الطاعة
أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم [النساء: 59] دون عقائد «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق» أو الخروج على الإمام إذا ما نقض البيعة ولم يراع المصلحة العامة أو هادن الأعداء ولم يدافع عن البلاد. ولما كانت حركة المعارضة إما علمانية تجهل التراث ولا تستعمل التراث المضاد، أو إسلامية سلفية تكفر الحاكم دون أن توجه إليه نفس السلاح وظهرها مؤمن بالجماهير الإسلامية، فإن تراث المعارضة لم يستعمل إلا نادرا في جيلنا هذا. ولم تستعمل حركة الإصلاح إلا تراثا متوسطا بين تراث الحاكم وتراث المحكوم، وهو تراث الطبقة المتوسطة الذي يعتمد على الإصلاح والتنوير والعلم والعقل والطبيعة والتقدم والنهضة؛ من أجل تأسيس دول قومية حديثة أو ملكيات دستورية مقيدة، ونظم برلمانية حديثة تقوم على تعدد الأحزاب؛ أسوة بالنظم البرلمانية في الغرب.
أما العمل السياسي فإنه يعني تطوير المجتمعات، ونقلها من مرحلة إلى مرحلة. فهو العمل السياسي بالمعنى الواسع الذي يشمل التغير الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والقانوني والتعليمي والفني ... إلخ. تعني السياسة هنا كل ما يتعلق بقضايا التغير الاجتماعي لما كانت الأولوية للسياسة في المجتمعات النامية. وبالنسبة لنا يعني التغير الاجتماعي من منظور السياسة قضايا تحرير الأرض من الاحتلال والغزو، والدفاع عن الحريات ضد صنوف القهر، والعدالة الاجتماعية والمساواة ضد سوء توزيع الثروة والفروق الطبقية الشاسعة بين الأغنياء والفقراء، والوحدة بين أجزاء الأمة المبعثرة ضد التشتت والتجزيء والتشرذم والتفتت، وقضية الهوية والأصالة في مقابل التغريب والتقليد، وهي القضية الحضارية الأولى. وربما كانت هي نفس القضايا التي تعرضت لها أجيالنا السابقة منذ فجر النهضة العربية الحديثة في القرن الماضي بتياراته الثلاثة: الإصلاح الديني (الأفغاني) والعقلانية العلمية (شبلي شميل)، والليبرالية الحديثة (الطهطاوي). يعني العمل السياسي أيضا كيفية إدارة الصراع من أجل مواجهة هذه القضايا ودور ثقافة الجماهير ونوعية قياداتها، وقنوات الاتصال بين الأولى والثانية (الخلايا والأحزاب أم الأئمة والمساجد).
يعرض موضوع «التراث والعمل السياسي» إذن لقضايا التغير الاجتماعي. والمهم فيها ليس التراث، فهو ما يسلم به الجميع، سواء كان قابلا له أو رافضا إياه، وليس العمل السياسي، فهو ما يمارسه الجميع سواء كان العلمانيون أم الإسلاميون. المهم هو حرف العطف «الواو» التي تبدأ بمسلمة وهي أن هناك صلة وثيقة بين التراث من ناحية «والعمل السياسي» من ناحية أخرى. وأن نموذج الانقطاع بينهما (تركيا، بولندا) ليس هو النموذج المتبع في مجتمعاتنا النامية. إذ إن الانقطاع افتراض صوري لا وجود له في الواقع، وتقليد للغرب، وتعال طبقي نخبوي على ثقافة الأمة، وترفع على جماهيرها. كما أنه وقوع في القبلية والطائفية والشعوبية الحديثة بدعوى الخصوصية والتمايز والإبداع الذاتي. وسينتج عنه بالضرورة إما حركة علمانية محاصرة معزولة مؤكدة حتمية التغريب، أو رد فعل عليها بحركة سلفية محافظة رجعية تدافع عن الأصول، أو حركة ليبرالية طبيعية تدعو إلى التواصل والتطوير والتغير الطبيعي والانتقال من الأصالة إلى المعاصرة، أو من التراث إلى التجديد، وهو الاختيار الثالث الذي ترنو إليه كل المجتمعات النامية التي راحت ضحية البديلين الأولين، فوقعت الأمة في ازدواجية الثقافة وشقت وحدة الصف، وانقسمت الحركات السياسية إلى جناحين متنازعين ويكفر كل منهما الآخر، ويعتبر كل منهما الآخر عدوه اللدود، ويتنافس كلاهما على الحكم، ويتصارعان على السلطة، وتكون الجماهير والحريات العامة في نهاية الأمر هما الضحية.
ولما كان العمل السياسي مسئوليتنا نحن كمثقفين طليعيين وكسياسيين حزبيين، فكذلك التراث مسئوليتنا نحن كمفكرين وطنيين. فالتراث نتاج لكل عصر، ظروفه وصراعاته. وطالما تتغير الظروف يتغير التراث، أو الاختيار بين بدائله، أو حتى تأويله وتفسيره. فليس التراث من المقدسات، بل هو نتاج تاريخي صرف يمكن فهمه عن طريق «علم اجتماع المعرفة». لسنا مستشرقين نرصد حركته التاريخية فحسب، بل هو جزء منا ونحن جزء منه، مسئوليتنا عنه لا تقل عن مسئولية واضعيه الأوائل. وبالتالي كان علينا تطويره وتغييره بل وقلبه، رأسا على عقب. ومن هنا كان نقد التراث واجبا وطنيا. والنواح على سلبياته مجرد بكاء وصراخ وعويل لا يجدي. فالسلبيات يمكن القضاء عليها بإنتاج تراثي آخر أو تحويلها إلى إيجابيات بفعل سياسي مضاد. كما أن التغني بإيجابياته إعجاب بتراث الآباء والأجداد لا قيمة له إلا بمقدار مساهمة هذه الإيجابيات في حل قضايا العصر الأساسية وقبول تحدياته الرئيسية. فما الفائدة في التغني بالعقل في مجتمع غيبي، أو الفخر بالعدالة الاجتماعية والمساواة في مجتمع الفقر والضنك والبؤس والشقاء، أو الاعتزاز بالحرية في مجتمع القهر والتسلط تفتح فيه السجون والمعتقلات أكثر مما تفتح فيه المدارس ودور العلم، أو التشدق بالوحدة في أمة تقطعت أوصالها وتفرقت شيعا يحارب بعضها بعضا
كل حزب بما لديهم فرحون [الروم: 32].
ثانيا: العلوم التراثية ومعوقات
العمل السياسي
ينقسم التراث إلى مجموعات ثلاث من العلوم: العلوم النقلية الخالصة، والعلوم النقلية العقلية، والعلوم العقلية الخالصة. ولكل منها أثره في العمل السياسي على درجات متفاوتة طبقا لمدى رسوخها في وعينا القومي. فقد عاشت العلوم النقلية والعلوم النقلية العقلية في وجداننا، وترسبت فيه بدرجة كبيرة، بينما اختفى أثر العلوم العقلية من وعينا القومي في حين أنها انتقلت، من خلال الترجمة، إلى وجدان الغرب، وساهمت في نهضته الحديثة، وكانت وراء تكوين الوعي الأوروبي بأبعاده الثلاثة؛ العقلي، والعلمي، والإنساني. (1) العلوم النقلية
العلوم النقلية الموروثة خمسة: القرآن، والحديث، والتفسير، والسيرة، والفقه. كل منها تحقق ثان للذي قبله، فالحديث تحقق ثان وتخصيص للقرآن وبيان لأوجه تطبيقه. والتفسير شرح للقرآن وجمع أكبر قدر ممكن من المعلومات حوله. والسيرة تخصيص أكثر للحديث بإدخال حياة الرسول قبل البعثة بل وقبل الميلاد. أما الفقه فهو إعادة تبويب الحديث، حتى يكون سلوكا للناس جميعا؛ فهي كلها علوم مرتبطة بالوحي، ومتفاوتة بين أقصاها في العموم مثل القرآن وأقصاها في الخصوص وهو الفقه.
وقد رسبت هذه العلوم الخمسة في وجداننا وتراكمت في سلوك الناس على نحو سلبي أكثر منه إيجابيا. فعلوم القرآن ما زالت تتحدث عن رسم المصحف وشكله وجمعه وتدوينه، وعدد سوره وآياته، ونظمه، وهل البسملة جزء منه، وقراءاته، ولهجاته وهي كلها أشياء خارجية محضة، مرتبطة بظروف الوحي والإعلان عنه أول مرة، ولم نعد نحن قادرين على المساهمة فيها خاصة في القراءة والتدوين، فقد بعد العهد ولم يعد أحد منا معاصرا لنزول الوحي كما كان القدماء شاهدي عيان له. ولكننا نستطيع أن نجد دلالات معاصرة لبعض موضوعاته تساعد على حل بعض القضايا التي تعرض لنا ونحن بصدد موضوع التغير الاجتماعي أو العمل السياسي. فمثلا موضوع المكي والمدني هو بالنسبة لنا يدل على أن أي نسق مذهبي إنما يشمل بالضرورة قسمين: التصور والنظام، العقيدة والشريعة. فالمكي أعطى التصور والمدني استنبط النظام، فلا عقيدة إذن بلا شريعة، ولا شريعة بلا عقيدة، وبالتالي يحسم الخلاف بين الحركة الإسلامية والحركة العلمانية حول الإسلام دين ودولة، أم دين دون دولة، كما أن موضوع «أسباب النزول» إنما يعني بالنسبة لنا أن الواقع سابق على الفكر، وأن الوحي لا ينزل إلا بعد وقوع مشكلة اجتماعية تتطلب حلا لم يهتد إليه جل الناس أو اهتدى إليه البعض ببداهته وفطرته. فالواقع ينادي الفكر والفكر يفرض نفسه على الواقع. الهدف من الوحي هو حل المشاكل الاجتماعية وليس غطاء معرفيا نظريا للعالم، معرفة من أجل المعرفة. وهذا ما يعطي فكرنا الديني السياسي المعاصر نموذجا ومنهجا. فلا يقرأ الوحي إلا من خلال المشاكل الاجتماعية، ولا نصائح نظرية سياسية إلا من خلال المواقف الإنسانية والتحديات الأساسية التي تواجه كل مجتمع. أما الناسخ والمنسوخ، فإن له أيضا دلالة حديثة فيما يتعلق بالزمان والتطور، وإعادة صياغة التشريعات والقوانين طبقا للقدرات الإنسانية. فلا جمود في التشريع، وأن القانون وضع لصالح الإنسان، وليس الإنسان لصالح القانون.
أما «علوم الحديث» فقد أتقن القدماء مناهج الرواية وفصلوا في طرقها من أجل التحقق من صحة الحديث من خلال السند. وأسسوا لذلك علوما مساعدة مثل علم الجرح والتعديل أو علم ميزان الرجال. أما نحن فقد بعد علينا العهد، ولم نعد في مثل قدرة القدماء في التعرف على الرواة. ولكننا قادرون على نقد «المتن» وتحكيم الحس والعقل والمصلحة في الرواية، خاصة وأن من شروط التواتر الاتفاق مع الحس ومجرى العادات. وبالتالي يخف أثر الأحاديث «الغيبية» عن النفوس، وكل ما يعارض العقل، ويناهض المصلحة. فنفرض واقعنا على الرواية، وبالتالي نكون قد قدمنا نقد المضمون كما قدم القدماء نقد الشكل، فكثير من الأحاديث تؤثر في حياتنا السياسية مثل حديث «الفرقة الناجية» الذي يكفر كل اجتهادات الأمة ولا يقبل إلا رأيا واحدا هو رأي السلطة القائمة التي تمثل «الفرقة الناجية».
و«علوم التفسير» في حاجة أيضا إلى إعادة نظر، ليس المطلوب هو التفسير «الطولي» للقرآن، جزءا بعد جزء، حزبا إثر حزب، سورة بسورة، وآية بآية، وجمع أكبر قدر ممكن من المعلومات «التاريخية» عن الحوادث والشخصيات التي يتعرض لها القرآن، فليس الوحي حوادث بل معان، وليس وقائع بل ماهيات. كما أن التفسير الطولي تجزئة للموضوع الواحد، وبعثرة لبنائه، إنما الذي يفيد في العمل السياسي هو البحث عن المعاني والدلالات، وتعميمها في كل عصر، وليس الوقائع التاريخية المحددة. كما أن المفيد هو التفسير الموضوعي الذي يجمع الآيات كلها حول موضوع واحد؛ مثل المساواة، المال، العدل، الظلم، الحكم، الأمة، الوحدة؛ حتى يمكن التعرف على نظريات التراث التي ما زالت تفعل إيجابا أم سلبا في وجدان الناس. ولا تفسير إلا من خلال مصالح الأمة، وهو التفسير الأصولي لا الكلامي أو الفلسفي أو الفقهي أو الصوفي أو اللغوي أو الأدبي. فقد أتى الوحي حفاظا على مصالح الناس. ومن ثم يقرأ القرآن من خلال مصالح الناس، وترى مصالح الناس داخل السور والآيات. وبالتالي ينشأ تفسير سياسي اجتماعي اقتصادي يكون هو البديل عن الأيديولوجية العلمانية.
1
أما علوم «السيرة» فإنها تتعرض لشخص النبي، ولكل جوانب حياته، ما قبل الميلاد، وما قبل البعثة، وربما ما بعد الموت. وبالتالي «تشخص» الوحي في النبي مع أن النبي مجرد وسيلة لإبلاغ الوحي. وربما كان هذا هو سبب التشخيص في حياتنا السياسية، تحول الحكم إلى شخص، والمبدأ إلى سيرة، والفكرة إلى زعامة. فلا فرق بين الاحتفال بالمولد النبوي وبين الاحتفال بميلاد الملك، فكلاهما تشخيص للأعياد الوطنية. تتشخص المؤسسات الاجتماعية والسياسية، بل وتتشخص دول بأكملها، فهذه دولة الحسن وهذه دولة الحسين، وتضيع الأمم. خاصة وأن السيرة فيها الغيبي المعجز وفيها العقلي البديهي، والأول هو الذي يشد انتباه العامة. لذلك، أصبح الزعيم السياسي أيضا معجزا في أقواله وأفعاله، معصوما في أخطائه، يتعبده الناس أو كادوا.
أما علوم «الفقه» القديمة فإن طابع العبادات هو الغالب عليها؛ نظرا لقرب عهدها بالدين الجديد وشعائره. ولكن بعد أن استقرت وعرفت ومارسها الناس لم تعد الأركان الخمسة محور الفقه، أي العبادات، بل المعاملات في الزراعة والصناعة والتجارة، وفي الأجور والقيمة والاستثمار. فأثر الفقه القديم في العمل السياسي بأن ترك الحركات الدينية تصول وتجول في العبادات، وتترك المعاملات وكأنها خارج نطاق الاهتمام. فتركت موضوعات الأرض والزراعة والعمالة والأجور يفعل فيها الحكام ما يشاءون، وتقترح فيها المذاهب العلمانية ما تريد. أما الفقه الافتراضي القائم على افتراض حالات لم تقع فإنه حول الشريعة إلى مجرد احتمالات وخيالات لا واقع لها، وضاع منها لبها وجوهرها وهو واقعيتها. فوصية إنسان بين أنياب الأسد، أو طلاق امرأة إذا جامعها زوجها في ثوبها وإن لم يجامعها في ثوبها، أو حكم بيضة من فرخة جامعها رجل، قضايا يتبارى فيها الفقهاء في وقت تحتل فيه الأرض، وتنهب فيه الثروات، وتفتت فيه الأمة، وتقهر فيه الحريات.
وربما تحتاج العلوم النقلية كلها إلى تطوير بحيث تصبح علوما نقلية عقلية أو حتى عقلية خالصة؛ حتى يضيع أثر النقل من حياتنا ويتحول إلى العقل، وتضيع حجة السلطة ويسود المنطق والبرهان. (2) العلوم النقلية العقلية
وهي أربعة: علم أصول الدين، وعلوم الحكمة، وعلوم التصوف، وعلم أصول الفقه. وهي العلوم التي جمعت بين العقل والنقل، أو التي استطاع فيها العقل أن يفرض على النقل. وهي أيضا تتفاوت فيما بينها في درجة اختراق العقل للنقل. وقد انتهت هذه العلوم منذ سبعة قرون إلى تراجع قدر العقل فيها، وتحولت إلى علوم تقرب من النقلية الخالصة؛ ومن ثم كانت القرون السبعة الأولى تمثل تقدما أكثر مما عليه نحن الآن. وبالتالي ساد النقل كلية، وأصبحنا نعاني من غياب العقلانية ولا ندري السبب، ولا نجد إلا العقلانية الغربية طريقا للخلاص. (أ) علم أصول الدين
وهو أول العلوم النقلية العقلية وأخطرها على معتقدات الأمة وسلوكها؛ فهو العلم الذي يمدها بتصوراتها للعالم ويعطيها أنماط سلوكها. فالعقيدة ليست مجرد إيمان انفعالي، بل هي تصور للكون على الفعل. وقد كانت القضية الأساسية في هذا العلم هي قضية «التوحيد» فقد كانت موطن الهجوم ومظان الطعان من الديانات المعاصرة والملل والنحل للأمم المغلوبة، فجلد المتكلمون جهدهم كله دفاعا عن التوحيد، فانتصر التنزيه الخالص، الله ليس كمثله شيء، ضد كل نزعات الحلول والاتحاد والتجسيم والتأليه والتشبيه الحسي. وتم إثبات صفاته الكاملة وقدرته اللامتناهية، وأفعاله من بعث للرسل وخلق للعالم وحشر للأجساد، وحساب وعقاب. ولكن استعملت النظم السياسية القائمة هذا التصور «المطلقي»
Absolutist
للعلم لحسابها الخاص وبدافع سياسي خالص. فما أسهل ما أن ينزلق الحاكم وراء صورة الإله المطلق فيتشبه به، ويأخذ صفاته، ويستعير أفعاله فيصبح الحاكم مطلقا مثل الله، وأفعاله واجبة الطاعة مثل أفعال الله.
أما اليوم فالموقف مختلف تماما: انتصر التوحيد، ولم يعد هناك من يظن أن الله ثالث ثلاثة أو من يعتقد أنه هذا الشخص أو هذا الجبل أو هذا النجم أو الكوكب أو الشمس أو القمر أو اللات أو العزى. إنما الخطر الآن في الأرض واحتلالها، والثروات ونهبها، والحريات وقهرها، ووحدة الأمة وتجزئتها، وهويتها واستغرابها. ومن ثم يمكن إعادة صياغة علم أصول الدين طبقا لظروف العصر؛ فالله في السماء وفي الأرض
وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله [الزخرف: 84]، والذي يستولي على الأرض فإنما يستولى على نصف الله، فالله «إله السموات والأرض»،
رب السموات والأرض . وهنا يتحول الناس إلى إيمان بالأرض قدر إيمانهم بالله، ويصبح تصور الله ذا مضمون وليس تصورا فارغا في مقابل صهيونية تربط بين الله والأرض، والشعب والمدينة، والمعبد والهيكل، في عقيدة الميثاق أو العهد أو أرض الميعاد، أو شعب الله المختار.
2
وإذا كان التشبيه (الأشعري) هو الذي ساد في تصورنا لله حتى قارب التشخيص، فإن التنزيه (الاعتزالي) قادر على تحويل تصورنا لله إلى مبدأ عقلاني شامل ينتسب إليه الناس جميعا، فنتحول إلى رجال مبادئ وليس إلى رجال أشخاص . وإذا كان القدماء قد استعملوا الطبيعة لإثبات وجود الله فدمروها وحكموا عليها بالفناء، فإننا اليوم نستعمل تصورنا للطبيعة للتأكيد على وجود الطبيعة وإثبات استقلال قوانينها واطرادها. وكيف يمكن العمل في عالم فان زائل لا يبقى ولا يستمر؟ وإذا كان القدماء قد أعطوا الأولوية للفعل الإلهي على الفعل الإنساني؛ فذلك لأن القدرة الإلهية كانت في خطر من جراء أفعال الطبيعة أو السحر أو الآلهة أو الأرواح. أما الآن فإن الفعل الإنساني في خطر من جراء أفعال الحكام وقدراتهم المطلقة والقوانين المقيدة للحريات. فالدفاع عن الفعل الإنساني أولى من الدفاع عن الفعل الإلهي. كما دافع القدماء عن النقل في عصر نزول الوحي وصحة الرواية في مواجهة ديانات تقوم على العقل أو الحس، أما الآن فإن العقل قد انحسر والحس قد توارى وساوى النقل، حتى أصبح سلطة بمفرده ممثلا في قال الله أو قال الرسول أو قال الزعيم أو قال الإمام أو قال المجاهد أو قال الرئيس. في حين أن كل الحجج النقلية حتى لو تضافرت لإثبات شيء على أنه يقيني ما أثبتته، ولظل ظنيا، ولا يتحول إلى يقين إلا بحجة عقلية ولو واحدة. كما دافع القدماء عن النبوة في عصرها ودليلها المعجزة في عصرها. أما نحن فندافع عن تحقق النبوة في التاريخ واكتمالها باستقلال الوعي الإنساني عقلا وإرادة، وأن المعجزة إعجاز؛ أي تحد للإرادة البشرية على الخلق والإبداع، بدلا من التقليد والاتباع. لقد دافع القدماء عن أمور المعاد وعن حياة الإنسان بعد الموت وخلود النفس في عصر كان الناس ينشغلون بأمور الدنيا. أما الآن فإن حياتنا بعد الموت ليست موضع تساؤل، ونفوسنا عامرة بالخير. إنما القضية في أمور الدنيا وفي الأبدان المعذبة جوعا وعطشا وعريا وعراء. لقد دافع القدماء عن الإيمان المتمثل في الشهادتين لفظا حتى يتسع المجال لكل الأمة. يجد كل منا فيها مكانا. أما اليوم فإن الإيمان عاجز، والشهادتين نطلقهما في كل مكان لفظا بالشفاه. والغائب هو العمل. ومن ثم ندافع عن العمل كجوهر للإيمان وأن من لا عمل له لا إيمان له. وقد يكون الخوارج أنسب لنا من المرجئة. ولقد تصور القدماء التاريخ على أنه سقوط وانهيار من الرسول إلى الصحابي إلى التابعي إلى تابعي التابعي، وكل جيل لاحق أقل فضلا من الجيل السابق
فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات [مريم: 59]، حتى يئس الناس من التقدم، ونشأت الحركات السلفية ظانة أن كل تقدم هو رجوع إلى الوراء «خير القرون قرني»، فكيف تنهض أمة والتاريخ في وعيها سقوط وانهيار؟ لا يمكن أن يتم عمل سياسي لإيقاظ الجماهير وإحياء عقائدهم إلا بإعادة بناء النسق العقائدي واستبدال اختيار القدماء باختيار آخر؛ نظرا لتغير الظروف وتبدل المخاطر. أو على الأقل الاستفادة من النسق القديم على نحو يخدم القضية الاجتماعية الحالية. فلا يعقل أن يعبد مجتمع إلها عالما وهو جاهل، قادرا وهو عاجز، حيا وهو ميت، سميعا، بصيرا، متكلما، مريدا، وهو لا يسمع ولا يبصر ولا يتكلم ولا يريد! لا يمكن أن يتم عمل سياسي دون أيديولوجية، ولا يمكن صياغة أيديولوجية في مجتمع تراثي دون ما تحول لنسقه العقائدي القديم. (ب) علوم الحكمة
وهي علوم نظرية مثل علم أصول الدين، ولكنها تطوره وتحيله إلى علوم يغلب عليها العقل أكثر من النقل، وتتعامل مع الحضارات الأخرى دون خوف أو تردد. وقد تشعبت إلى حكمة منطقية وحكمة طبيعية وحكمة إلهية، دون أن تكون هناك حكمة إنسانية أو حكمة تاريخية، وبالتالي غاب بعدا الإنسان والتاريخ من وجداننا القومي، فقامت نظمنا السياسية بلا إنسان، لا ترعى حقوقه، ولا تدافع عن كرامته. كما أنها نظم خارج التاريخ لا ترتبط بماضيها ولا تخطط لمستقبلها. فانفصل الوعي السياسي عن حقوق الإنسان وعن الوعي التاريخي في آن واحد. وتعثر العمل السياسي، واختلفت النظم في تصورها للهياكل الاجتماعية والسياسية، ولكنها اتفقت فيما بينها على تجاهل قضية الإنسان، وتجاهل المرحلة التاريخية التي تمر بها مجتمعاتنا.
أما الحكمة المنطقية فإنها لا تتعدى قواعد المنطق الصوري، منطق القضايا، ما دام منطقا عقليا خالصا لا يعارض النقل في شيء، وقادر على أن يعصم المذهب من الوقوع في أخطاء الاستدلال أو اللغة. ولكنه لم يتحول إلى منطق جدلي تاريخي، منطق للصراع بين الأضداد، وبالتالي لم نستطع فهم قوانين الصراع في مجتمعاتنا الحالية، وتصور السياسة على أنها تغيير نظام بنظام عن طريق الانقلاب والقفز على السلطة، أي سياسة صورية خالصة بلا جدل وبلا تاريخ، خلت من الجماهير، واعتمدت على الزعامات أي على التصورات السلطوية وعلى المعجزات والمغامرات والمبادرات الفردية.
والحكمة الطبيعية والحكمة الإلهية بالرغم من اختلافهما إلا أنهما في نهاية الأمر تقومان على تصور ثنائي واحد للعالم. بقدر ما نعطي الطبيعة نأخذ من الله وبقدر ما نعطي الله نأخذ من الطبيعة. فالعلاقة بين الطبيعة والله علاقة سالب بموجب، حادث بقديم، فان بباق، ممكن بواجب، عدم بوجود. فدمرنا الطبيعة لحساب الله، ونظرنا إلى الله فضاعت الأرض من تحت الأقدام. وعدنا فتصورنا الطبيعة كمادة وصورة، معلول وعلة، كثير وواحد، حركة ومحرك، وكأننا جعلناها مجرد سلم إلى الله، ودليل عليه. أما الله فهو عقل وعاقل ومعقول، عشق وعاشق ومعشوق، جلال وبهاء وجمال، وعشقنا الطهارة كتعويض عن عالم البؤس والشقاء. وكانت غاية الإنسان الاتصال بالعقل المفارق، والاتحاد به، فتحولت الحكمة إلى تصوف وإشراق، وضاع العقل لحساب الذوق. ونحن ما زلنا في عملنا السياسي ندعو إلى العقلانية والعلم، وندعو إلى اكتشاف الطبيعة وقوانينها، وما من مجيب.
وقد تصورت علوم الحكمة الفضائل النظرية أعلى من الفضائل العملية، وأن الذي يفكر بعقله أفضل من الذي يعمل بيده، وبالتالي استحال في عملنا الاجتماعي الدعوة إلى العمل والمعاهد المتوسطة والمدارس الفنية، وترسب في وعينا القومي أن الجامعات أفضل من المعاهد، وأن المفكر أفضل من العامل، وأن الياقات البيضاء أفضل وأشرف من الياقات الزرقاء. فاحتقرنا العمل اليدوي. وأراد الكل أن يكونوا مهندسين ومشرفين وإداريين لا عمالا منتجين، صناعا أو زراعا. وفي تصور «المدينة الفاضلة»، يرأسها الفيلسوف الحكيم أعلم البشر وأحكمهم وأفضلهم وأشجعهم وأنقاهم، الحاكم الأوحد، والزعيم الملهم، والقائد الأعظم، والمجاهد الأكبر، والإمام، يتلوه من هم أقل منه فضلا، الوزراء والكتاب، يتلوهم العمال والزراع. فإذا خرجت القاعدة أو جزء منها على القمة وجب بترها حتى يصح الجسد كله ببتر العضو الفاسد! أصبحت «المدينة الفاضلة» صورة اجتماعية لنظرية الفيض أو الصدور حيث يتربع أيضا في قمة الكون الواحد، ثم يصدر عنه الثاني، ثم الثالث، حتى العاشر. وبالتالي أصبح النظام هرميا في المعرفة وفي الوجود وفي الأخلاق السياسة، ونتجت عن ذلك النظم البيروقراطية والإقطاعية والرأسمالية. واستحال أي عمل سياسي لتغيير المجتمع إلى نظم أخرى لا مركزية اشتراكية جماهيرية شعبية، طالما أن التصور الهرمي للعالم النابع من التراث الفلسفي ما زال مترسبا في الوجدان الفردي وفي الشعور الاجتماعي.
3 (ج) علوم التصوف
وهي علوم عملية في مقابل العلمين النظريين السابقين، تهدف إلى تصفية القلب؛ فهي طريقة للوصول وليست منهجا للاستدلال، تقوم على «التأويل» أي الرجوع إلى المصدر الأول وليس على «التنزيل» أي استنباط الأحكام من الأصول إلى الفروع. وقد نشأت هذه العلوم في بدايتها كرد فعل على التكالب على الدنيا، والصراع على السلطة، ومظاهر البذخ والترف في المجتمع الإسلامي، واليأس من التغيير، وإصلاح الناس والعودة إلى الشرعية وحياة النبوة الأولى، بعد أن استشهد المئات من آل البيت الخارجين على الدولة الأموية. فما دام الأمر أصبح ميئوسا منه، وما دام إصلاح العالم أصبح طريقا مسدودا فالأولى العكوف على الذات، وإصلاح النفس، وإنقاذ ما يمكن إنقاذه. وفي هذا الموقف خرج حديث: «عدنا من الجهاد الأصغر (جهاد الأعداء) إلى الجهاد الأكبر» (جهاد النفس). وأصبح التصوف لهذا السبب الطريق الأوحد للخلاص، خلاص النفس بعد أن استعصى خلاص العالم، وإنقاذ النفس بعد أن استحال إنقاذ الآخرين، وتصفية الداخل بعد أن استقرت الأبنية الاجتماعية والسياسية في الخارج واستحال تغييرها. فساد الانفعال دون العقل، وأصبح الهدف هو الأعلى لا الأدنى، فوق الرأس وليس تحت القدمين، في السماء لا في الأرض. وأصبح الطريق مقسما إلى مقامات؛ مثل التوبة، والصبر، والزهد، والشكر، والرضا، والقناعة، والتوكل. وكلها قيم سلبية تدعو الناس إلى الصبر والرضا والزهد في العالم والقناعة بالمقسوم كرد فعل على التكالب على الدنيا. كما يمر الطريق بأحوال كلها حالات نفسية بين الخوف والرجاء، الحزن والفرح، الغيبة والحضور، الصحو والسكر، الفناء والبقاء، تجعل الإنسان بين حالتين وانفعالين متضادين حتى يصل في النهاية إلى فقدان الذات والفناء في الله، أو البقاء به، فينعم بالصحبة الخيرة بدلا من صحبة السوء في الدنيا، ويرضى بعد سخط، ويستسلم بعد مقاومة.
ولكن الآن تغير الظرف. لم يستشهد منا المئات خروجا على الأئمة، ولم تصبح المقاومة بعد أمرا ميئوسا منه، بل إننا في أعلى لحظات المقاومة (خاصة بعد معركة بيروت والغزو الصهيوني للبنان)، وتغيير الأبنية السياسية والاجتماعية ممكن، وبالتالي فقيمنا هي المقاومة، والجهاد، والنزال، والصمود، والتصدي، والتقدم، والشهادة. وأحوالنا هي الكر والفر، المكر والخداع، الإقدام والإحجام، الضرب والاختفاء، وليست مقامات وأحوال الصوفية. غايتنا ليس الفناء بل البقاء، وتكويننا ليس الرضى والاستسلام بل الغضب والثورة. التصوف القديم إذن في حاجة إلى «عود إلى العالم»، ومقاومة لمظاهر الظلم والطغيان فيه. وهو التصوف العملي، «طريق واحد، يخرج من فوهة بندقية».
4 (د) علم أصول الفقه
وهو أقل العلوم التراثية احتواء على معوقات العمل السياسي. وذلك أنه علم عملي يهدف إلى رعاية مصالح الناس، يقوم على الاستدلال العقلي وعلى الاستقراء التجريبي. فليست به عقائد نظرية، بل إن الله هو مجرد الشارع. وليست به قيم سلبية بل يعتمد على الاجتهاد وبذل الوسع والمجهود. وليست به نظرات إشراقية فهو يقوم على التعليل. لا يضر بالناس فمن مبادئه العامة لا ضرر ولا ضرار، الضرورات تبيح المحظورات، لا يجوز تكليف ما لا يطاق، المصالح المرسلة. ومع ذلك فهناك بعض المخاطر على العمل السياسي؛ منها إعطاء الأولوية للنص على المصلحة عند بعض مدارس الرأي. بل إن النسق الاستدلالي القديم كله يبدأ بالكتاب ثم السنة ثم الإجماع ثم القياس، في حين أن عصرنا يحتم البدء بالقياس مباشرة، فالصالح العام يعرفه الجميع وسيكون حتما متفقا مع النص (كما كان يحدث لعمر بن الخطاب). كما أن الحكم بمقاصد الشريعة مباشرة، المحافظة على الضرورات الخمس: الحياة (النفس)، والعقل، والدين، والعرض، والمال، بها يتوجه مباشرة إلى مصالح الناس وإلى ما فيه قوام الحياة الإنسانية. أما الأوامر والنواهي؛ أي الأحكام الشرعية فإنه من الأفضل للعمل السياسي أن تكون نابعة من طبيعة الناس ووجودهم الإنساني بدلا من أن تكون فرضا عليهم فتزيد الفروض فرائض جديدة . فالواجب ما به قوام الحياة، وعكسه الحرام أي ما به فسادها. والمندوب متروك لاختيار الإنسان طبقا لقدراته الفردية أن يفعل الخير تطوعا، وعكسه المكروه ألا يفعل ما قد يفسد الحياة بحريته واختياره. أما الحلال فهو مصاحبة الأشياء، وكأن الشرعية في الطبيعة، في البراءة الأصلية، فالأصل في الأشياء الإباحة. لقد استطاع علم الأصول بتحليله أحكام الوضع الخمسة ربط كل حكم بسبب وعلة، وتعليقه على شرط وإقامته على القدرات الإنسانية (العزيمة والرخصة)، ابتداء من النية (الصحة والبطلان). فليس المهم قطع يد السارق؛ لأن شرط ذلك هو الكفاية، فلا تقطع يد السارق عن جوع أو بطالة أو حرمان أو عداء طبقي وحسد اجتماعي ولا تقطع يد سارق الدرهم وتترك يد ناهب ثروات الشعوب من باطن الأرض ومن فوقها، صاحب البراميل أو إقطاعي الأرض أو رأسمالي المصنع. ولا يرجم زان في مجتمع لا يجد الإنسان فيه زواجا؛ فلا مهر ولا سكن، وكل ما فيه الإثارة الجنسية في الصحف وأجهزة الإعلام، وعهر الحكام في كل مكان وتعرفه الشعوب من حديث الصحف الأجنبية. (3) العلوم العقلية
وهي العلوم الرياضية مثل الحساب، والجبر، والهندسة، والفلك، والموسيقى. والعلوم الطبيعية وهي النبات، والحيوان، والطبيعة، والكيمياء، والطب، والصيدلة. والعلوم الإنسانية وهي اللغة، والأدب، والجغرافيا، والتاريخ. وهي نموذج للعلوم التي أثر فيها التوحيد وكان دافعا على الكشف العقلي والإبداع العلمي. فهناك علاقة بين اللاتناهي وحساب اللامتناهي، وعلاقة أخرى بين التوجه نحو الكواكب والنجوم ونشأة علم الفلك، وبين موسيقى القرآن ونشأة علم الموسيقى، وبين تصور القرآن للنبات والحيوان، وإبرازه للحياة ونشأة علوم النبات والحيوان، وبين الطبيعة والكيمياء، ومقتضيات المجتمع الفاتح وحاجات الحرب في صناعة الأسلحة وعلوم الطب والصيدلة. وقد نشأت علوم اللغة والأدب من تحليل بلاغة القرآن وإعجازه، كما ارتبطت نشأة علوم الجغرافيا والتاريخ بخرائط البلاد المفتوحة، والتعرف على العالم من أجل الاستخلاف عليه، والتفكير في سبب تقدم الأمم وانهيارها.
ولكننا انفصلنا عن هذا الجانب العقلي العلمي الإنساني الخالص الذي طوره الغرب، فكان وراء نهضته الحديثة. وأخذنا نحن ننقل العقلانية والعلمية والإنسانية الغربية التي هي تطوير لهذا الجانب فينا من تراثنا القديم. ثم عدنا نفتش عليه ونبعثه كفخر واعتزاز بالقديم دون أن يكون دافعا على الإبداع الجديد، ورفضا للنقل عن الغرب. حتى العلوم الإنسانية، اللغة، والأدب، والجغرافيا، والتاريخ، وقفنا عندها؛ إما عند أبحاث القدماء أو الاستيعاب والنقل عن المحدثين دون أن نساهم فيها. وما زلنا نعرض لقضية ابن خلدون: لماذا تنهار الأمم؟ ولا نضع سؤالا تاليا: كيف تتقدم الشعوب؟ وما هي شروط النهضة؟ ما زلنا ننقل عن الغرب الرياضيات الحديثة والطبيعيات الحديثة بل والعلوم الإنسانية المعاصرة. وفي هذا الجو الحضاري العام يستحيل العمل السياسي حيث لا إبداع للجديد ولا تطوير للقديم، ولا إعمال للعقل، ولا إجهاد للقريحة. فنصبح في العمل السياسي أيضا ناقلين. تتشبث الأنظمة القائمة بتراث القدماء وتنقل المعارضة تراث المحدثين (الماركسية أو الليبرالية أو القومية). والقديم أرسخ جذورا وأقوى شرعية من قشور المحدثين.
ثالثا: العقائد التراثية ومواقع
العمل السياسي
وبالرغم من المعوقات التراثية في العمل السياسي إلا أن هناك دوافع تراثية أيضا لتحريك العمل السياسي وضبطه وتنشيطه وترسيخه في وجدان الناس. فإذا رصدنا مشاكل عصرنا وتحدياته الرئيسية لوجدناها الآتي: (1) تحرير الأرض من الاستعمار والغزو
ما زالت قضيتنا الرئيسية هي احتلال الأرض. فما زالت بقع من أراضي العرب والمسلمين محتلة، من بقايا الاستعمار القديم (سبتة ومليلة مثلا)، ودول أخرى من الغزو الصهيوني الجديد (فلسطين وسوريا ولبنان). وما زال قائد المعركة، معركة التحرير، هي الأنظمة السياسية، والجيوش النظامية أو فصائل المقاومة، دون إشراك الشعوب التي ما زالت بكمها وكيفها خارج الميدان. هنا تستطيع العقائد الترائية المساهمة في معركة تحرير الأرض. وذلك أن «الله» وهو القيمة الأولى في نسق العقائد التراثي هو «إله السموات والأرض»،
رب السموات والأرض ،
وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله [الزخرف: 84] وبالتالي فإن إيمان الجماهير بالله هو في الوقت نفسه إيمان بالأرض، وموتها في سبيل الله هو استشهادها في سبيل الأرض، ومن يستولي على الأرض فإنه أسر نصف الإله ويجعله سجين الاحتلال! فإذا كان الإله في المسيحية هو «إله السموات» وفي اليهودية «إله الأرض» فإنه في العقائد التراثية «إله السموات والأرض». وبالتالي يمكن الوقوف أمام العقيدة الصهيونية التي ربطت بين الله والشعب والأرض والمدينة والمعبد والهيكل بصهيونية مضادة ومن نفس النوع لتحرير الأرض، فحرب العقائد لا تقل أهمية عن قعقعة السلاح.
وبعد التحرير يأتي التعمير؛ فصورة الأرض في القرآن ليست الأرض الخراب الصحراء الصفراء، بل هي الأرض العمار المسكونة، الأرض المزروعة الخضراء التي ينزل عليها الماء فتهتز فتنبت من كل زوج بهيج، فلا الفيضان يغرقها ولا القحط يميتها. الأرض سوداء، والنيل يجري، ودجلة والفرات يسيلان، والعمل ناقص، والفلاح إما يكتظ به وادي النيل أو يشح في أرض الجزيرة وما بين النهرين. فيضان في بنغلاديش وقحط في تشاد وكأننا لم نعد قادرين على السيطرة على موارد الطبيعة، وكأن الله لم يسخر لنا قوانينها. ومن ضمن العقائد التراثية: الأرض لمن يفلحها، والأرض البوار لمن يصلحها «من أصلح أرضا فهي له».
1 (2) الدفاع عن الحريات ضد القهر والتسلط
إن التحدي الثاني الذي يواجه أي عمل سياسي هو القهر والتسلط وكل القوانين الاستثنائية المقيدة للحريات، وكل السلطات شبه المطلقة التي يتمتع بها الحكام، ملوكا أو أفرادا أو رؤساء. وقد أوشك أن يصبح عدد السجون مثل عدد المدارس، وخريجو السجون مثل خريجي الجامعات. فقد لا يوجد وطني واحد إلا ودخل السجن مرة وحتى ضرب المثل «السجن للرجال». هنا تأتى العقائد التراثية كي تساهم في العمل السياسي وتتحدى القهر والتسلط والتكبر وحكم الفرد المطلق. فالله وحده هو «المليك المقتدر» دون سواه. وهذا ما يعبر عنه أول ركن من أركان الإسلام «الشهادتان»: تعني أشهد رؤية أحداث العصر والإعلان عنها، ورفض الصمت والتواطؤ، أي الجهر بالقول والإعلان عن الحق المرئي، وقد يستتبع ذلك الشهادة؛ أي التضحية بالنفس في سبيل شهادة القول، ثم يقوم الإنسان بفعلين: فعل النفي في «لا إله» وفعل الإثبات في «إلا الله». وبفعل النفي، يحرر الإنسان شعوره من كل آلهة العصر المزيفة: الجاه، والسلطان، والمال، والجنس، وحب الدنيا؛ حتى يستطيع أن ينتسب إلى المبدأ الواحد، العام الشامل الذي يتساوى أمامه الجميع بالفعل الثاني «إلا الله». وتعني الشهادة الثانية الإعلان عن اكتمال النبوة واستقلال الوعي الإنساني عقلا وإرادة. كما يعبر عن حرية الإنسان شعار: «الله أكبر» أي لا متكبر سواه. لذلك كان شعار الثورة الإسلامية في إيران «الله أكبر، قاصم الجبارين». والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب ديني، وفرض شرعي يجعل الإنسان القادر عليه حرا، مراجعا للحكام وكذلك «الدين النصيحة». و«لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق»، فالطاعة للقانون، وسلطة الحاكم من العقد والبيعة، فإذا عصى الحاكم الشريعة وإذا أخل بعقد البيعة فلا طاعة له، ويجب الخروج عليه. وإن أعلى شهادة: «كلمة حق في وجه سلطان جائر»، و«الساكت عن الحق شيطان أخرس». بل إن وظيفة الحكومة الإسلامية هي «الحسبة» أي مراجعة نفسها بنفسها، والرقابة على نفسها وعلى الأسواق ومظاهر النشاط الاقتصادي والتلاعب بالأسعار وبقوانين السوق. إن الحاكم هو آخر من يأكل وآخر من يشرب وآخر من يلبس وآخر من يسكن، وإلا فلا سمع ولا طاعة له. (3) العدالة الاجتماعية والمساواة في مواجهة سوء توزيع الثروة والفروق الشاسعة بين الأغنياء والفقراء
وهي القضية الاجتماعية بالأصالة التي اجتمعت عليها كل الأحزاب السياسية، والتي من أجلها قامت الثورات العربية الأخيرة، والتي لأجلها ستهتز العروش والتيجان. فنحن أمة يضرب بها المثل بأقصى درجات الغنى وبأشد درجات الفقر، بالبطون المنتفخة وبالأفواه الجائعة، بالقصور المزخرفة وبالأكواخ الصفيح، وننتسب إلى أمة واحدة، ونعتنق دينا واحدا، ونؤمن بإله واحد. هنا تأتي العقائد الترائية لتقوية العمل السياسي وإعطائه شرعية من التاريخ. فالملكية لله وحده
ولله ملك السموات والأرض [آل عمران: 189]. والإنسان مستخلف فيما بين يديه. له حق الانتفاع، وحق التصرف، وحق الاستثمار، وليس له حق الاكتناز أو الاحتكار أو الاستغلال، ومن حق السلطة الشرعية التدخل بالتأميم والمصادرة في حالة سوء استعمال الثروة. وكل أدوات الإنتاج التي تمس الصالح العام ملكية جماعية لا يجوز وقوعها بين أيدي الأفراد، «الماء والكلأ» قديما والزراعة حديثا، و«النار» قديما والصناعة حديثا، والملح قديما والمعادن حديثا. «الركاز» أي ما في باطن الأرض، ملك للأمة وليس ملكا للأفراد. عرف القدماء الذهب والفضة والحديد والنحاس ... إلخ. وعرفنا نحن النفط. والعمل وحده مصدر القيمة بدليل تحريم الربا الذي يعني أن المال يولد المال بلا جهد أو عرق. ولا يجوز أخذ فائض قيمة من إنتاج عامل، فكل نتاجه له، وللدولة رأس المال. فإذا ظهر فرق في الدخول بين الأغنياء والفقراء فإن فضول الأغنياء ترد إلى الفقراء، والفضول ما زاد عن القوت.
والذين في أموالهم حق معلوم * للسائل والمحروم [المعارج: 24-25]، وفي المال حق غير الزكاة. والمجتمع الواحد الذي فيه إنسان واحد جائع تبرأ ذمة الله منه. و«ليس منا من بات شبعان وجاره طاو». وقد صحنا في حركاتنا الإصلاحية الأخيرة: «عجبت لرجل لا يجد قوت يومه ولا يخرج للناس شاهرا سيفه!» أو «عجبت لك أيها الفلاح، تشق الأرض بفأسك، ولا تشق قلب ظالمك!» (الأفغاني). وفرق بين أن نقول ذلك في أدبيات «الاشتراكية والإسلام» دعاية لنظام سياسي، وبين أن نثور الجماهير به، فتدافع عن حقوقها المسلوبة من عقائدها وتراثها. (4) الهوية ضد التغريب
ومما لا شك فيه أن قضية الهوية أو الأصالة تكمن وراء كل مشاكلنا الاجتماعية والسياسية لأنها هي المشكلة الحضارية. وما زلنا منذ فجر نهضتنا العربية الحديثة نطرحها، وندعو لها، وننبه عليها ولم نحلها بعد. وربما كانت معظم تياراتنا الفكرية الحديثة أقرب إلى التغريب منها إلى الأصالة؛ فالإصلاح الديني (الأفغاني) والليبرالية السياسية (الطهطاوي) والعقلانية العلمية (شبلي شميل) كلها ترى الغرب نمطا للتحديث ونموذجا للتقدم، ترى صورتها في مرآة الآخر، مما ولد الحركة السلفية حتى أصبحت وريثة الإصلاح. وقضينا على الليبرالية بأيدينا باسم الثورات العربية الأخيرة، وانتهى العقل والعلم من حياتنا بذيوع مسوح الإيمان والخرافة. ولا يمكن أن يوجد عمل سياسي إبداعي دون أصالة وضد التغريب، وما زالت أحزابنا السياسية حتى الآن، خاصة العلمانية منها، تصوغ القضية السياسية على نحو مغترب، وتجد الحل عند الآخر وليس بتحليل الأنا. هنا تظهر المواقف التراثية التي تضع التقابل صراحة بين الأنا والآخر؛ فالقرآن يحرم موالاة الغير، مصالحتهم أو مسالمتهم أو السلام معهم إذا ما اعتدوا على الديار. كما يحرم التقليد والتبعية للآخر لأنه محو للمسئولية الفردية وبالتالي المساءلة.
2 (5) الوحدة ضد التجزئة
قضية الوحدة، وحدة قطرية، وحدة وطنية، وحدة عربية أو وحدة إسلامية، هي إحدى قضايانا الرئيسية والتي تدخل ضمن برامج كل الأحزاب السياسية. ولكن ظلت القضية متعثرة، لا تتجاوز إعلان البيانات التي لا يتجاوز عمرها أياما ثم تنفض الوحدة أو تكون وحدة علم ونشيد وزعيم ورئيس، أو تظل أماني وأغاني، وأحلاما وأهازيج. والواقع نفسه يدعو إلى التجزيء والتشتت والتبعثر من جراء الخلافات على الحدود، والحروب والحملات الإذاعية، وتضارب المصالح، والصراع على السلطة. في حين أن العقائد التراثية خير ضمان للوحدة على كافة مستوياتها. الوحدة الوطنية في
أشداء على الكفار رحماء بينهم [الفتح: 29] أي الانفتاح على الداخل والجبهة الوطنية المتحدة أمام الأعداء في الخارج،
ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك [آل عمران: 159] درس آخر في القيادة وتكوين الجبهة، ووحدة على مستوى الأمة
إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون [الأنبياء: 92]،
أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار [يوسف: 39]. والإسلام أقدر المذاهب والأيديولوجيات على توحيد الشعوب حيث لا عنصرية ولا شعوبية ولا طائفية، وفي الوقت نفسه يعترف بالتقاليد واللغات والأعراف المحلية.
ويمكن تجاوز المعوقات التراثية وإظهار الدوافع في العمل السياسي بالوسائل الآتية: (1)
إيجاد البدائل: ويعني ذلك أننا ونحن في بداية القرن الخامس عشر الهجري تركنا العقلانية العلمية (المعتزلة والفلاسفة)؛ فالمحافظة الدينية أرسخ في وجداننا القومي من الليبرالية. وبالتالي كانت مهمتنا ضغط الألف عام إلى النصف وزيادة الأربعمائة عام إلى الضعف. في هذه اللحظة التاريخية فقط وحتى يتم ذلك يمكن أن ينجح أي عمل سياسي؛ لأن التعددية والليبرالية والعقلانية والعلمية قد أصبحت الرافد الأساسي والمكون الرئيسي لوعينا القومي. ومن ثم يكون الشرط التراثي الأول لأي عمل سياسي هو الانتقال من الأشعرية إلى المعتزلة، ومن إشراقية الفلاسفة إلى عقلانية ابن رشد، ومن الفقه الافتراضي إلى الفقه المصلحي، ومن التصوف النظري السلبي إلى التصوف العملي الإيجابي. وعلى هذا النحو تبدأ دورة ثالثة من الحضارة الإسلامية، بعد الدورة الأولى؛ عصر التكوين والازدهار، والقرون السبعة الأولى، والدورة الثانية؛ عصر الشروح والملخصات (القرون السبعة الثانية)، والدورة الثالثة والتي نحن في بدايتها في مطلع القرن الخامس عشر. لا يمكن إذن أن يتم أي عمل سياسي بدون فلسفة في التاريخ، ومعرفة في أية مرحلة تاريخية تعيش مجتمعاتنا وفي أي عصر تعيش أجيالنا بوجه عام وجيلنا بوجه خاص. وهذا يتطلب عملا سياسيا في التراث إذا أردنا أن يكون للتراث عمل سياسي فينا. ولا ضير في ذلك؛ فالتراث في كل عصر نتاج لظروفه السياسية والاجتماعية، وبالتالي فإن عملنا السياسي فيه يرجع إلى أصله الذي منه نشأ أول مرة. يتطلب العمل السياسي في التراث إعادة صياغة لغة جديدة إنسانية عقلانية مفتوحة بدل اللغة الدينية القانونية الاصطلاحية. كما يتطلب تغيير مستويات التحليل والرؤية من المستوى الفقهي إلى المستوى الطبيعي حتى تظهر حياة الناس، ثم تغيير المحاور من الأعلى والأدنى إلى الأمام والخلف؛ حتى يقل أثر نظرية الفيض فينا، ويظهر في وجداننا بعد الزمان ومسار التاريخ وحركتا التقدم والتخلف. فالأعلى عند القدماء هو الأمام بالنسبة لنا، والأدنى لديهم هو الخلف عندنا. كما يتطلب ذلك تغيير المحاور، من التمركز حول الله الذي دافع عنه القدماء نظرا للدين الجديد الحديث العهد، إلى الدفاع عن الإنسان وهو مظان الطعان في عصرنا والذي لم نبدأ الدفاع عنه حتى الآن. قد يفرض ذلك أيضا تغيير المناهج، من المناهج الاستنباطية التي تبدأ من النص إلى الواقع، إلى المناهج الاستقرائية التي تبدأ من الواقع إلى النص، فالوحي ليس نزولا مفروضا بل نداء للطبيعة وتلبية لمقتضياتها وقصدها نحو الكمال. وقد يفرض ذلك تغيير المادة «الدينية» القديمة كلها إلى مادة اجتماعية معاصرة، فالدين تعبير عن الأوضاع الاجتماعية، والوحي حلول للمشاكل الاجتماعية. (2)
اليسار الإسلامي: التيار الذي يمكنه أن يقوم بقراءة سياسية للتراث هو «الإسلام السياسي» أو «اليسار الإسلامي»؛ فهو الذي ينبع من تراث الأمة، ويلتزم بقضايا العصر، وقادر على القيام بهذا التحول من المحافظة التاريخية إلى التقدمية العصرية. فجذوره في التراث، وفروعه في العصر، لا يعادي الحركة الإسلامية بل يفهم متطلباتها، وصديق للحركة العلمانية يفهم منطلقاتها. اليسار الإسلامي هو القادر على إعادة وحدة الصف وإنهاء الازدواجية في الثقافة الوطنية بين الثقافة الدينية والثقافة العلمانية. وهو القادر على ملء هذا الفراغ الآن بين الطرفين المتعارضين. كما أنه قادر على تجنيد الجماهير التي ما زالت تتحرك بالأنساق العقائدية أو تحت ضغط ظروف الحياة المادية: المساجد عامرة بالمصلين، والأئمة المستقلون، طليعة الأمة، قادرون على قيادتها. اليسار الإسلامي ينقد السلفية من موضع الاشتراك في الجذور، وينقد العلمانية من موقع الاشتراك في الثمار، ولكنه هو الأقدر على تلبية مطالب الجماهير، وصياغة مشروع قومي يربط الماضي بالحاضر، ويحقق التغير الاجتماعي وقمته في الثورة من خلال التواصل لا من خلال الانقطاع. وهو وريث المعتزلة والفلاسفة والأصول والتصوف العملي القديم. كما أنه وريث حركة الإصلاح الديني الحديث، راجعا إلى جذوره (الأفغاني) ومنشطا إياه من جديد - بعد أن خف صوته على مراحل - حتى وصل إلى الحركة الإسلامية الحالية، فيتحول الإصلاح الديني إلى نهضة شاملة. كما أن اليسار الإسلامي قادر على إقالة الثورة العربية من عثراتها، حتى لا تبدأ هذه المرة بالضباط الأحرار بل بالمفكرين الأحرار.
3 (3)
الوحدة الوطنية: واليسار الإسلامي إنما يقوم بهذه المهمة تثوير التراث وممارسة العمل السياسي من الجذور التراثية في إطار الوحدة الوطنية. فاليسار الإسلامي لا يكفر أحدا. بل إنه يقبل كل التراث القديم بمعوقاته ودوافعه من أجل إعادة النظر فيها، وتصفيته من الأولى، وتحويل الثانية إلى رافد أساسي في وعينا القومي. كما يقبل الحركة العلمانية بكل فصائلها لأنه يفهم منطلقاتها ودوافعها. وقد انتشرت فوق تربتنا ثلاثة تيارات علمانية: الليبرالية قبل الثورات العربية الأخيرة، ثم الثورة العربية أو القومية العربية أو الاشتراكية العربية، وكلاهما قدر لهما أن يحكما ويحققا إنجازات وتنتج عنهما مخاسر، والحركة الماركسية التي بدأت في أوائل هذا القرن حتى الآن والتي لم يقدر لها أن تحكم إلا في بعض أطراف العالم العربي (اليمن الديمقراطي) أو داخلة في حلف مع الثورة العربية (سوريا، العراق). وطالما خسرنا جميعا باضطهاد الحركة الإسلامية على طول الخط، سواء قبل الثورة العربية أو بعدها، أو باضطهاد الليبرالية بعد الثورة العربية واضطهاد الماركسية قبلها وأحيانا بعدها. وطالما شوهت كل حركة الحركة الأخرى بتدعيم الدولة؛ فالماركسية كفر وإلحاد وعمالة، والليبرالية فردية رأسمالية انحلالية، والقومية عنصرية وشعوبية واغتراب، والإسلامية تزلف ورجعية ومحافظة. فأصبح الكل خاسرا، نزيل سجون، راغبا في الثأر من المجتمع أو الانقضاض على أخيه. وقد آن الأوان أن يعمل الجميع في إطار من الوحدة الوطنية. فلا حوار بين الفرقاء إلا بالليبرالية، ولا تحقيق لوحدة الأمة إلا بالقومية، ولا إعادة لتوزيع الدخل القومي إلا بالماركسية، ولا تغيير من خلال التواصل إلا بالحركة الإسلامية. الأمة طائر جسده القومية العرية نتاج الثورة العربية، وذيله الليبرالية، وجناحاه الإسلامية والماركسية، ورأسه الوحدة الوطنية. فلا يمكن أن يطير إلا بمجموع جسمه، وإلا سقط أو انحرف أو أصبح كسيحا لا يقوى على النهوض.
رابعا: خاتمة: ضرورة إعادة بناء
التراث
إن التراث القديم ليس هو الدين، وبالتالي ليس له طابع التقديس، بل إن الدين هو جزء من التراث، أي الموروث العقائدي، بجوار الموروث الأدبي والعرفي. هو نتيجة ظروف سياسية قديمة وصراع على السلطة وتعبير عن أوضاع اجتماعية. ولما كانت الظروف تغيرت فإن مسئوليتنا، بالتالي، إفراز تراث جديد وإعادة بناء التراث القديم؛ حتى لا يقف حجر عثرة في سبيل النهضة الحديثة والثورة العربية المعاصرة. ليس الأمر مجرد تحميس للناس وشحذ عزائمهم، بل يتعلق الأمر بالبناء العقائدي للجماهير، وبإعطائها أيديولوجية سياسية تملأ بها فراغها النظري وحصارها بين الحركة السلفية والحركة العلمانية. فإذا كان التراث القديم نتيجة للعمل السياسي القديم فإن العمل السياسي الحديث يتطلب تراثه المعاصر، وفي الوقت نفسه إعادة النظر في الموروث القديم؛ فإما يتطابق معه في تراث المعارضة، وإما يختلف معه في تراث السلطة. وفي كلتا الحالتين يحدث التغير من خلال التواصل، وتأمن الأمة الردة والفصام في الشخصية، ويصبح حاضرها إحدى حلقات وحدة تاريخها.
كبوة الإصلاح1
نموذج مصر
أولا: مقدمة: وصف الظاهرة
ماذا تعني «كبوة الإصلاح»؟ تعني كبوة الإصلاح أن نهضتنا الحديثة التي بدأت منذ أوائل القرن الماضي باصطلاح المؤرخين إنما بدأت في جيلين وانتهت على يد جيلين. فإذا ما أتى الجيل الخامس فإنه يجد نفسه في أزمة: هل يعاود الإصلاح من جديد؟ هل يبدأ بداية جديدة؟ وما هي هذه البداية؟ وكأن نبوءة ابن خلدون قد تحققت في تاريخنا المعاصر وهي أن الدورة التاريخية تمتد أربعة أجيال! فإذا أخذنا التيارات الرئيسية الثلاثة التي تكون نهضتنا الحديثة: الإصلاح الديني، والفكر العلمي العلماني، والفكر السياسي الليبرالي، لوجدنا أن كل تيار قد حدثت فيه الكبوة على مر هذه الأجيال الأربعة. فالإصلاح الديني بدأه الأفغاني بداية جيدة، وحدد مشروعه الإصلاحي تحديدا متفقا مع ظروف عصره: مواجهة الاستعمار في الخارج ومقاومة التسلط في الداخل. ولكن بعد الثورة العرابية والاحتلال الإنكليزي لمصر خبا مشروع الإصلاح وهوى إلى النصف على يد محمد عبده فاصلا الدين عن السياسة - لعن الله ساس ويسوس! تاركا الثورة للإعداد لها، وتغيير النظم السياسية لتربية الشعوب، ومواجهة السلطان إلى إصلاح مناهج التعليم والمحاكم الشرعية. وبعد اشتداد الحركة الوطنية في البلاد على يد تلاميذ الأفغاني، وفي مقدمتهم مصطفى كامل ومحمد فريد وسعد زغلول واندلاع ثورة 1919م، خبا المشروع الإصلاحي مرة أخرى عند رشيد رضا بعد أن رأى مخاطر الوطنية في العلمانية وتقليد الغرب والتفرنج كما هو الحال في تركيا بعد الثورة الكمالية في 1924م. ثم خبا المشروع مرة ثالثة على يد الإخوان المسلمين بالرغم من محاولتهم إعادة الحياة له وإكماله عن طريق تجنيد الجماهير. فبعد مقتل حسن البنا في 1949م واضطهاد الجماعة كلها على فترات متتالية في 1954م ثم في 1965م، ولعدم تطوير الحركة الإصلاحية وموقفها؛ تحولت إلى حركة سلفية، ومنها خرجت الجماعات الإسلامية المعاصرة تعبيرا عن ظروف الاضطهاد للحركة الإسلامية المعاصرة. انغلقت على الذات وعادت التيارات الأخرى، وأصبحت تمثل رد فعل على فشل الأيديولوجيات العلمانية للتحديث؛ ليبرالية أو اشتراكية أو قومية أو ماركسية.
1
وإذا أخذنا التيار الثاني وهو الفكر العلمي العلماني، فقد بدأه شبلي شميل بداية طيبة في الترويج للفكر العلمي، وبيان أهمية التحليل العلمي والمنهج العلمي؛ كي تحدث الصدمة الحضارية الثانية بعد أن حدثت الأولى إبان الحملة الفرنسية على مصر في مشاهدة علماء الأزهر للتجارب العلمية التي أجراها علماء الحملة. وقامت جريدة «المقتطف» التي أسسها يعقوب صروف بذلك خير قيام. واستمز فرح أنطون في الدعوة إلى العلم من خلال ابن رشد. استمر الجيل الأول إذن في الدعوة إلى العلم الذي لا وطن له أو إلى العلم القومي حتى الجيل الثاني في القرن الماضي. ولكن خبت الدعوة على يد الجيل الثالث عند سلامة موسى، ثم الجيل الرابع عند إسماعيل مظهر وزكي نجيب محمود بعزلة التيار وارتمائه كلية في أحضان الغرب.
2
أو بالردة عنه والعودة إلى تراث الأمة لإيجاد نوع من الاتساق الحضاري والاستمرارية في التاريخ.
3
فما إن أتى الجيل الخامس حتى ظهر الاضطراب لدرجة الصراع بين العلم والإيمان ونشأة رد فعل على العلم في التيارات اللاعلمية واللاعقلانية المنتشرة في مجتمعاتنا اليوم.
أما التيار الثالث الذي يمثله الفكر السياسي الليبرالي فقد بدأه الطهطاوي أيضا بداية جيدة؛ وذلك بنشر أفكار الحرية والعدالة والمساواة، ووضع موضوعات جديدة للفكر الوطني مثل التقدم والدولة والدستور، والحديث عن الزراعة والصناعة والتعليم من أجل تأسيس الدولة الحديثة. وقد حدد مشروعه في «مناهج الألباب» تحديدا واضحا ودقيقا. وسار الجيل الثاني ممثلا في لطفي السيد مؤكدا على الوطنية المصرية. ولكن ما إن أتى الجيل الثالث ممثلا في طه حسين والعقاد ثم الجيل الرابع ممثلا في جماهير المثقفين الوطنيين من خلال حزب الوفد حتى خبا المشروع الأول. فتحولت الدولة من أداة تكوين إلى أداة قهر، وتحول المفكرون من بناة دول وطنية إلى موظفي أنظمة سياسية. وقامت الثورات العربية الأخيرة التي بالرغم من إنجازاتها الاجتماعية والسياسية على الصعيدين الداخلي والخارجي انتهت بالقضاء على الحريات ومعاداة الليبرالية والقضاء على النظم البرلمانية الدستورية الحزبية ، حتى أصبح المفكر الحر مرادفا لنزيل السجون!
تعني الكبوة أيضا أن الحركة عمرها قصير، انتهت بمجرد أن بدأت، سقطت بمجرد أن قامت. وكأن الصاروخ لم يستطع أن يخترق حجب الفضاء، وعاد إلى الأرض بمجرد الانطلاق وانتهاء قوة الدفع الأولى. ومن ثم كان مسار النهضة قوسا أو نصف دائرة من أسفل إلى أعلى ثم من أعلى إلى أسفل، وليس خطا مستقيما تتراكم فيه الخبرات جيلا بعد جيل، وكأن الدورة لدينا لا بد وأن تبدأ من الصفر من جديد دون أن ترث الأجيال من بعضها البعض خبراتها حتى يحدث تراكم تاريخي كي يحدث في نهضتنا تغير كيفي مماثل في القدر. لم تتعلم الأجيال من بعضها البعض، ولم ينشأ حوار بين القدماء والمحدثين إلا في أضيق الحدود وفي مجالات الأدب دون الفكر والتاريخ. لم ينشأ حوار بين الأموات والأحياء، بل أعيد حوار الأموات فيما بينهم في المناقضات الأدبية أو حوا الأحياء فيما بينهم، أيهم على صواب وأيهم على خطأ في المجلات الأدبية. لم يحدث وعي تاريخي، وبالتالي أصبح الوعي السياسي بلا رؤية أو منظور. وانحصرت الحركة في مجموعات من المثقفين أو «صالونات» فكرية أو منتديات ثقافية دون أن تكون حركة جماهيرية أو ثقافية شعبية. وعلى أقصى تقدير حملتها الطبقات المتوسطة كوسيلة للتحديث، ولكنها لم تنتشر خارجها. ولما كانت حركة النهضة في صميمها حركة إصلاح ظلت نسبية، تراجع القديم وتؤوله، ولكنها لا تأخذ موقفا نقديا منه، ولا تغير شيئا من منطلقاته الأساسية حتى ولو كانت البدائل القديمة موجودة. تعني كبوة الإصلاح أن هناك إجهاضا مستمرا لكل تجربة تمر بها مجتمعاتنا حتى تبدأ من الصفر من جديد، تبدأ دولة محمد علي ثم تنهار، ويتحول المشروع إلى مشروع مضاد؛ من النهضة والاستقلال والوحدة إلى الكبوة والاحتلال والتجزئة. ثم تأتي تجربة مصر الليبرالية ثم تجهضها الثورات العربية. وتأتي التجربة الناصرية ويتم القضاء عليها وتكاد تنهار الدولة، وينتهي المشروع القومي الحديث من الحرية والاشتراكية والوحدة إلى القهر والرأسمالية والتجزئة، وتتحول التجربة المصرية من مقاومة الاستعمار إلى الوقوع في براثن الاستعمار، ومن كونها مركز الدوائر الثلاث إلى كونها محيطا لمراكز أخرى.
والحقيقة أن ظاهرة الكبوة هذه لا يمكن إدراكها إلا برؤية الحاضر في الماضي وبنظرة تراجعية تكشف عن بداية المسار وتطوره. بل إنها لا تكشف إلا ابتداء من أزمات العصر وأزمة الجيل الخامس، جيلنا. ومع ذلك فهي تخرج من نطاق التقييم الذاتي إلى الوصف الموضوعي، ومن الحكم الفردي إلى الاتفاق الجماعي.
وقد لا يكون العيب في الإصلاح الذي حدد مشروعه في ظروف عصره، بل فينا نحن الذين لم نطوره وظنناه باقيا عبر عدة أجيال كنمط خالد لا يتغير. فانزلق الواقع من تحته في مساره الخاص، وأصبح الإصلاح فارغا بلا مضمون أو كاد. وبالرغم من أن هذا البحث يتناول نموذج مصر إلا أنه يمكن تعميم التجربة؛ فظاهرة الكبوة عامة، داخل مصر وخارجها، سواء تحت أثر مصر أو بالاستقلال عنها. وبالرغم من اعتماد البحث على التأملات والملاحظات التاريخية الحية أكثر من اعتماده على إحصاءات المؤرخين وتدقيقاتهم وأسماء الملوك والبلدان، إلا أنه يعتمد على منهج دقيق في العلوم الإنسانية وهو منهج تحليل الخبرات الفردية والاجتماعية من أجل إعادة بناء الموقف التاريخي بعد تكشف أبعاده في الموقف الحالي، ومن ثم تتم رؤية الماضي في الحاضر، والحاضر من خلال الماضي، وهو المنهج الذي طالما استعملناه لدراسة التجارب الحية المعاصرة لكشف دلالاتها المستقلة.
4
وقد جرت العادة عند الباحثين والمؤرخين على هذه القسمة الثلاثية لروافد النهضة الحديثة: الإصلاح الديني، والتيار العلمي العلماني، والفكر السياسي الليبرالي. وفي حقيقة الأمر إن هذه الروافد الثلاثة إنما تمثل موقفا حضاريا واحدا ذا شعب ثلاث: الموقف من القديم، والموقف من الغرب، والموقف من الواقع؛ فالحركة الإصلاحية إحياء للقديم وتمثل للغرب وتغيير للواقع، والفكر العلمي العلماني ثورة على القديم وتمثل للغرب وتغيير للواقع، والفكر السياسي الليبرالي تمثل للقديم وتمثل للغرب من أجل بناء الواقع. الإصلاح الديني رد فعل على القديم بالإحياء، والفكر العلمي العلماني رد فعل على الغرب بالتمثل، والفكر السياسي الليبرالي رد فعل على الواقع ذاته بإعادة بنائه. فكل رافد يكشف عن موقف حضاري واسع، وبالتالي قد تتقارب الروافد الثلاثة أكثر مما تتباعد، وتجتمع أكثر مما تفترق، وتتفق فيما بينها أكثر مما تختلف. ويتناول هذا البحث الموقف الحضاري الموحد للروافد الثلاثة أكثر من تناوله للروافد الثلاثة ذاتها؛ حتى يمكن وصف ظاهرة الكبوة وانتقال الإصلاح من جيل إلى جيل.
5
ثانيا: الموقف من القديم
أخذ الإصلاح الديني موقف الدفاع عن القديم في ظرف تاريخي كان القديم فيه موضع هجوم من المستشرقين في الخارج أو من العلمانيين في الداخل خاصة في تركيا. كان من الطبيعي إذن في هذا الظرف الذي تقف فيه الأمة في مواجهة الاستعمار التأكيد على التمسك بالقديم والدفاع عنه. ولما كان الدين جوهر القديم فقد ظهر الدفاع عنه دفاعا عن الدين والعقيدة والشريعة والأخلاق والتقاليد، سواء كانت من الدين أو ليست منه. وكان الدفاع عن التأويل السائد والفكر الديني الشائع الممثل في الأشعرية، فكر الدولة السنية، وأيديولوجية النظام السياسي القائم. ولكن بعد أن تأكدت الهوية، وتم حصار العلمانية، وبانت حدودها في تركيا، ظهرت كبوة الإصلاح نظرا لاستمرار موقف الدفاع عن القديم عند الجيلين الثالث والرابع حتى الآن دون أن يحاول الجيل الخامس تطوير موقف الدفاع إلى موقف النقد. باتت مخاطر الدفاع عن القديم في ظهور الحركات المحافظة واشتداد التصلب في الجماعات الإسلامية المعاصرة ربما كرد فعل على فشل التحديث العلماني القومي الاشتراكي. إن نمط الدفاع عن القديم نمط مؤقت يصلح لجيل في بداية الإصلاح، ولكنه لا يصلح لكل الأجيال، خاصة لجيل آخر في مرحلة النهضة؛ إذ تتطلب النهضة نقد الموروث والتحول في نظرية المعرفة من المنقول إلى المعقول، من الكتاب القديم إلى كتاب الطبيعة، ومن تأويل النصوص إلى تفسير ظواهر الطبيعة ومعرفة قوانينها. تتطلب النهضة تغيرا في بؤرة الحضارة من الله إلى الإنسان، وفي محورها الرئيسي من الأعلى والأدنى إلى الأمام والخلف، ومن لغتها التشريعية الدينية العقائدية الصوفية المنغلقة إلى لغة إنسانية عقلية طبيعية مفتوحة تقبل الحوار. نشأت كبوة الإصلاح لاستمرار نمط الدفاع بالرغم من تغير الظروف وظهور الحاجة إلى نقد الموروث، وانتهت كل الإنجازات الاجتماعية الثورية الحديثة وانقلبت إلى مشاريع مضادة؛ نظرا لأن الموروث هو الرافد الأساسي في ثقافة الجماهير تعتمد عليه النظم القائمة طلبا للشرعية، ويغذيه الاستعمار لإجهاض التجارب الوطنية.
وأخذ الفكر العلمي العلماني موقف الهجوم المقنع من القديم داعيا إلى الانقطاع عنه فليس فيه إلا دين وتشريع وأخلاق وتصوف، وليس فيه من علوم الدنيا إلا تاريخ هذه العلوم. وقد سبب هذا الموقف الآن في جيلنا رد فعل الحركة السلفية والقيام بالدعوة المضادة من الدفاع عن القديم كله بكل ما فيه. وقد يكون الهجوم على أجزاء من القديم وليس على القديم كله، فيستثنى من الهجوم ابن رشد أو ابن خلدون أو المعتزلة أو الفقه الواقعي.
1
ولكن هذا الاستثناء لم يفلح في إبراز هذه الجوانب من القديم وتحويلها إلى رافد في الثقافة القومية خاصة وأنها مرفوضة من الحركة السلفية باعتبارها مواقف مقلدة للآخر (اليوناني). وقد ولد التصاق هذا التيار بالنصرانية إلى طائفية ضمنية أو صريحة باعتبار أن النصارى هم أصحاب هذا الموقف: القطيعة مع القديم؛ إذ إنهم لا يجدون أنفسهم فيه. وقد أدى ذلك أيضا إلى كبوة الإصلاح في جيلنا. فالقطيعة مع القديم لا وجود لها إلا في ذهن بعض الأفراد. أما لدى جماهير الشعب وفي أجهزة الإعلام وفي خطط الغرب فله حضور دائم وثقل تاريخي لا يمكن تجاهله. وقد أدى تفجره إلى اندلاع الثورة الإسلامية في إيران ضد كل محاولات التحديث العلماني الغربي. إنها مسئولية الجيل الخامس أنه لم يطور موقف القطيعة إلى موقف المطور والمغير والمعدل من أجل تحقيق التغير من خلال الاستمرار حرصا على التجانس التاريخي وحتى لا ينشأ رد فعل سلفي يعصف بكل شيء أو يكاد، كما هو الحال الآن في تركيا وبولندا، وفي شتى أنحاء العالم العربي.
أما الفكر السياسي الليبرالي فإنه أخذ موقف التبرير للواقع باستعمال القديم أو التوفيق بين القديم ومقتضيات الحداثة؛ مما جعل القديم مجرد آلة للاستخدام لصالح الدولة. استعمل لتبرير الحداثة ونشرها، بل وباستعمال المنقول دون المعقول، وبالاعتماد على الأشعرية السائدة .
2
وقد استمر هذا النمط حتى الآن ولم يغيره أحد، فاستعملت الدولة القديم لتبرير وجودها وتدعيم شرعية نظامها، كما استعمله الموظفون الأيديولوجيون لكل نظام لتدعيم السلطة وبيعتها أمام الجماهير التي ما زال القديم يمثل بالنسبة لها قيمة مطلقة وتصديقا يعادل الإيمان. لم يقم الجيل الخامس بتغيير نمط التبرير إلى نمط التثوير، ومن الدفاع عن النظام إلى قيادة الجماهير، فكبا الإصلاح وتعثر، وضاق بعد أن امتد الواقع وتجاوز نمطه القديم.
وعلى هذا النحو تشترك الروافد الثلاثة فيما بينها في أنها ليس لديها موقف بحكم علمي تاريخي من القديم، بل مواقف لا علمية تمثل ردود أفعال انفعالية على بعضها البعض أو تكشف عن قصور في رؤية الواقع.
ثالثا: الموقف من الغرب
بالرغم من التمايز بين روافد النهضة الثلاثة، إلا أنها في واقع الأمر أخذت موقفا متشابها بالنسبة للغرب، وهو أنها جميعا اعتبرت الغرب نمطا للتحديث، والخلاف بينها مجرد اختلاف في الدرجة لا خلافا في النوع.
فبالرغم من هجوم الحركة الإصلاحية على الماديين «النيتشريين» سواء في الهند أو في الغرب ممثلين في الاشتراكيين (السوسياليست) والشيوعيين (الكومونيست) والعدميين (النهيليست)، وبالرغم من رفضنا أطر الغرب النظرية المادية ومظاهر تقليده في الفكر والثقافة كما في السلوك والممارسة، إلا أن الإعجاب بالإنجازات العملية والتفرق العلمي والعمراني في الغرب دفع الإصلاح الديني إلى اعتبار الغرب من هذه الناحية نمطا للتحديث؛ فمواجهة الاستعمار الغربي من الناحية العملية لم تمنع من تبني الوسائل التي استعملها الغرب نفسه، فأدت إلى تفوقه على غيره، وفي مقدمتها العلم والصناعة، وقد أدى كلاهما إلى القوة والغلبة. وقد دافع الغرب عن الحرية وما تؤدي إليه من نظم برلمانية ومجالس ودساتير وملكيات مقيدة. وبالتالي استطاع الغرب أن يحقق العمران، ويبني المدن، ويراعي النظافة، ويتقدم، ويكتشف علوم الإنسان والتاريخ. لا يحارب العدو إلا بسلاحه، ولا سبيل إلى مواجهة الغرب إلا بأساليب الغرب. واستمر الحال كذلك في الجيلين الثالث والرابع على مستوى الفكر والمذاهب الفلسفية، خاصة بعد أن خفت حدة مقاومة الاستعمار بعد بدايات الحصول على الاستقلال الوطني. ولكن في الوقت نفسه بدأت ظاهرة «التغريب» ولم يلتفت إليها أحد إلا كرد فعل مضاد في الحركة السلفية المتهمة لدينا بالرجعية والتخلف والارتداد إلى الماضي. ولم يحاول الجيل الخامس تغيير النمط القديم «الغرب كنمط للتحديث» إلى «تحجيم الغرب » ورده إلى حدود الطبيعية لإفساح المجال للإبداع الذاتي للشعوب ولتجاربها الخاصة.
1
بل لم يحاول أحد مراجعة «الرد على الدهريين» والموقف من المادية، وأن المادية ليست مذهبا تاريخيا ظهر عند اليونان في القرنين الرابع والثالث قبل الميلاد، بل بنية فكرية وموقف طبيعي للإنسان، وأنها تصور علمي للطبيعة وليس تصورا أخلاقيا يدعو إلى المشاركة في الأموال والأبضاع. بل إن الطبيعة ليست ضد الدين، فهناك الدين الطبيعي الذي كان عنصر تحرر في القرن الثامن عشر في الغرب والذي كان عليه إبراهيم، وهو دين الإسلام. وقد ظهر تحليل العلل المادية في أبحاث الأصوليين القدماء، وكانت الطبيعيات باستمرار مقدمة للإلهيات عند الحكماء، وكان الخلق هو الحق عند الصوفية.
أما التيار العلمي العلماني فإنه دعا صراحة إلى أخذ الغرب كنمط للتحديث، دفاعا عن الحداثة والمدنية. فالغرب هو مصدر للمعرفة وليس لدى غيره إلا الجهل، وبدايات الإنسانية. الغرب هو العلم والاجتماع، العلوم الطبيعية والإنسانية، ولا حرج من تقليد الغرب في العادات والتقاليد فالمدنية لا وطن لها. وبالرغم من مشاركة أنصار هذا التيار في الحركة الوطنية باسم الليبرالية والحرية إلا أن اعتبار الغرب نمطا للتحديث قد أدى عند الجيل الخامس إلى الوقوع الكلي في «التغريب» حيث أصبحنا وكلاء حضاريين للغرب، نخلط بين المعرفة والعلم، نجمع المعارف ونكدسها نقلا عن الغرب ولا ننشئ علما أو يكون لدينا تصور علمي للعالم. وأصبح الشباب لدينا هو الذي يبدأ حياته الفكرية بذكر أكبر قدر ممكن من أسماء الأعلام في الغرب والمذاهب في الغرب منتسبا إلى إحداها وداخلا في معاركها وهو لم ينشئها، وليس طرفا فيها ولا تعبر عن أي واقع لديه. ويبدو أن توقف الإبداع الذاتي كطابع مميز لمرحلة تاريخية أفسح المجال للنقل بصرف النظر عن مصدره؛ نقل من القدماء ونقل من المحدثين، نقل من القديم فتنشأ الحركة السلفية أو نقل من الغرب فتنشأ الحركة العلمانية. وبالرغم من محاصرة العلمانية وعزلتها وظهور تراث الجماهير كعامل مكون لثقافتها لم يحاول الجيل الخامس تغيير الغرب كنمط للتحديث. ولم يلتفت إلى تراث الشعب إلا كنوع من الفن الشعبي «الفولكلور» مطورا إياه أيضا بأسلوب غربي.
أما الفكر السياسي الليبرالي، فإن الغرب كان لديه أيضا في إحدى لحظاته التاريخية وهي الثورة الفرنسية، نمطا للتحديث، وبدأت حركة الترجمة والنقل عنه، وتأسس ديوان الحكمة الثاني «مدرسة الألسن» لأجله. وبدأ نقل العلوم الطبيعية والإنسانية. وكانت «الشرطة» نموذجا للدستور، وباريس مثالا للعمران عند الطهطاوي. وعاد لطفي السيد لترجمات اليونان، وطه حسين لوضع مصر في ثقافة البحر الأبيض المتوسط. ولم يحاول أحد منا أبناء الجيل الرابع أو الخامس مراجعة الغرب كنمط للتحديث في التيار الليبرالي بعد أن بانت حدوده وتكشفت سلبياته. فبالرغم من عظمة الثورة الفرنسية إلا أنها أدت إلى غزو نابليون لأوروبا، وانتهت إلى عودة الملكية. وبالرغم من أهمية الفكر الحر الثاني الذي حمله الهيجليون الشبان إلا أنه أدى إلى فشل ثورة 1848م. وبالرغم من أهمية باريس كنموذج للعمران الحديث إلا أن ذلك قد أدى إلى اعوجاج في وعينا القومي مما أدى إلى الهجرة. فقد أصبح المواطن يعيش في قلبه الغرب، ليس باريس، بل أمريكا وأستراليا وكندا، واجدا في الغرب أمله وحياته، حاضره ومستقبله، كسبه ومعاشه، حتى حدثت أكبر عملية لاستنزاف العقول، وأصبحنا نبني ونعمر في الغرب وبيتنا خراب. واستمرت الترجمة حتى الآن، مما جعل أقصى مشروع لدينا هو ترجمة الألف كتاب، وأن الكتاب يترجم لدينا أو يقرأ قبل صدوره في بلده الأصلي. فطالت فترة الترجمة إلى قرنين من الزمان ولم يحدث إبداع بعد. في حين أن الترجمة الأولى لم يمر عليها قرن واحد حتى بدأ الإبداع بعدها في القرن الثاني. وقد تم الترويج بيننا لنظرية الصدمة الحضارية، ومؤداها أن معدل إنتاج الغرب أسرع بكثير من معدل ترجمتنا له، وبالتالي فإن الهوة بيننا تزداد اتساعا على مر الأيام. فمهما ترجمنا فإننا لن نلحق به حتى نظل نجري وراء الغرب لاهثين ثم نصاب بالصدمة الحضارية، أي باليأس من التقدم والتمدن حتى على مستوى الترجمة والنقل، فما بالنا على مستوى الخلق والإبداع؟ وبالرغم من جهاد أنصار هذا التيار في الحركة الوطنية إلا أن الليبرالية قد أدت في النهاية إلى الإقطاع، وأدى الإقطاع إلى ثورات عسكرية انتهت بالقمع، أي إلى القضاء على الليبرالية كمنطلق أول. ولم يمنع ذلك أيضا بفعل الغرب كنمط للتحديث في بعض البلدان إلى الانتقال منه إلى موالاة الغرب ومحالفة الغرب على المستوى السياسي والعسكري والوقوع في مناطق النفوذ وسياسة الأحلاف. لم يحاول أحد منا أبناء الجيل الخامس مراجعة هذا النمط للتحديث الذي كان متفقا مع ظروف عصره داعيا إلى تحجيم الغرب، ورده إلى حدوده الطبيعية؛ لإفساح المجال للإبداع الذاتي للشعوب، وتعدد أنماط التحديث طبقا لخصوصياتها، والاستفادة من عمقها التاريخي وتجاربها الوطنية وإمكانيات شعوبها.
فبالرغم من تمايز هذه التيارات الثلاثة إلا أنها تبنت موقفا واحدا من الغرب وهو الغرب كنمط للتحديث. وكبا الإصلاح لاستمرار هذا النمط عبر أربعة أجيال دون أن يتغير على يد الجيل الخامس، فنشأت ظاهرة التغريب، وظهر رد الحركة السلفية بمعاداة الغرب المبدئية دون وضع الغرب في حدوده الطبيعية، وجعله موضوع دراسة في علم الاستغراب.
رابعا: الموقف من الواقع
بالرغم من تمايز الروافد الثلاثة في نهضتنا الحديثة إلا أنها قد يكون لها موقف واحد بالنسبة للواقع، وهو البعد الثالث من الموقف الحضاري؛ فالحركة الإصلاحية بالرغم من بدايتها بالواقع وحماسها للناس وحرصها على الصالح العام وإدراكها لمآسي الاستعمار الخارجي والقهر الداخلي، ومواجهتها لقضايا الفقر والبطالة والجهل، إلا أنها أخذت موقفا خطابيا حماسيا، ولم تستطع تجنيد الجماهير في حزب إصلاحي أو ثوري يحقق المشروع الإصلاحي. وكان ذلك أحد أسباب فشل الثورة العرابية. وفي الوقت الذي تكون فيه الحزب «الإخوان المسلمون» اصطدم بالسلطة مبكرا صراعا على السلطة؛ لأن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن.
1
وما أسهل الانقلاب على السلطة! وما أصعب إدراك! المراحل! وطالما حصلت أحزاب على السلطة ولم تغير شيئا، وطالما غيرت تيارات مجتمعاتها دون الحصول على السلطة. كما كانت الحركة الإصلاحية ثورة على الواقع وليس إحصاء كميا له، كانت خطابا عن الفقر والقهر، وليس تحليلا لظواهر الفقر والجهل لمعرفة العلل المادية المباشرة كما يفعل الأصوليون. ولا فرق في ذلك بين الخطاب العلماني الثوري والخطاب الإصلاحي الثوري بالنسبة للتحليل الكمي للواقع، كلاهما إنشاء وليس علما. فلو حدثت الثورة بالفعل لما استطاعت أن تغير من الواقع شيئا لغياب هذا التحليل الكمي الإحصائي له. والغضب والتمرد ليس تحليل العقل ولا بصيرة الثورة، انفعال وقتي يحرك الجماهير في فورة الغضب ثم يعود السكون، وما زال الأمر كذلك حتى الآن وكما يبدو في الجماعات الإسلامية المعاصرة بتمسكها بشعار «الحاكمية» دون ترجمته إلى واقع معين بلغة الفقر وتوزيع الثروة أو سياسة الأجور أو ملكية الأرض والمصنع أو برامج الدراسة أو نوع التمثيل الشعبي ودرجته وكيفيته أو تحديد لأهل الحل والعقد على مستوى العصر.
أما التيار العلماني فإنه منعزل عن الجماهير ولم يتجاوز مناقشات الصالونات الفكرية. لا تموت الجماهير في سبيله كما تستشهد في سبيل الله. وقد تتحرك الجماهير بشعاراته التي تعبر عن مطالبها الوطنية (الوفد) والاجتماعية (الناصرية) ولكنها لا تنزل إلى الشوارع أمام الدبابات لتحصد بنيران الرشاشات (الثورة الإسلامية في إيران). كما أنه منعزل عن ثقافة الجماهير التي لا تعي قوانين الكم والكيف ولا تفهم النفي ولا نفي النفي. إنما تتحرك الجماهير بالشواهد النقلية، سواء من النصوص الدينية أو الأمثال العامية والسير الشعبية أو الشعارات القومية. ثقافة الجماهير مستمدة أساسا من تراثها القديم الحي فيها وليس من الغرب المنقول إليها. وبالتالي انعزل التيار أيضا عن تاريخ الأمة وتراثها وثقافتها وماضيها، وأصبح مجرد طلاء خارجي باهت، أو زرع بلا جذور لا ينتظر وقت الحصاد، تذروه الرياح وتعصف به الأعاصير. لم يحاول أحد حتى الآن العودة إلى الواقع وهو أبلغ من كل نظرية ثورية محكمة أو إلى الحس الشعبي التلقائي الذي هو أقوى من أي تصور علمي تاريخي. إن حكمة الشعوب التاريخية هي رصيدها الثوري وليست نظريات الثورة العلمية التي هي في حقيقة الأمر مضادة للعلم؛ لأنها بلا واقع حاضر وبلا رصيد تاريخي وبلا رؤية علمية لمكونات الواقع.
أما التيار الليبرالي فإنه بالرغم من شعبيته وإنجازاته العملية من أجل بناء الدولة الحديثة وتخطيطه للزراعة والصناعة والتجارة والتعليم وإنشاء عديد من مراكز البحث العلمي وتأسيس الجامعات، إلا أن البداية لديه كانت الدولة، وكانت الإنجازات تتم باسم السلطة، وكانت الأولوية للرئاسة. فأصبح المثقفون كلهم موظفين في الدولة لا يستطيعون الخروج عليها. وانتهى الأمر في الثورات العسكرية الأخيرة وحتى قبلها إلى أن أصبحت الدولة أداة قمع للمعارضة أولا، ثم لباقي الشعب ثانيا. واستمدت سلطتها من العسكر دون ما حاجة إلى جهاز دولة، فالعسكر قادرون على كل شيء. ومن ثم انتهت الليبرالية إلى عكس ما بدأت منه، وبدل أن كانت الدولة تعبيرا عن العقد الاجتماعي أصبحت مهيمنة ومسيطرة على كل شيء. لم يحاول أحد من جيلنا تغيير هذا الموقف من الواقع والبداية منه دفاعا عن حقوق المواطن وعن حرية القول والاعتقاد، والإصرار على استقلال الفكر وممارسة حق المعارضة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والنصيحة في الدين، وإعلان كلمة الحق في وجه السلطان الجائر.
ما زال الواقع كبعد ثالث في موقفنا الحضاري غير محكم الرؤية، وما زالت التيارات الثلاثة الرئيسية في نهضتنا الحديثة مداخل حضارية للواقع وليست تنظيرا مباشرا له. لذلك كبا الإصلاح الذي يعني أساسا الإصلاح في الأرض ومقاومة الفساد فيها. إن التحدي الأساسي لجيلنا هو مواجهة قضايا العصر الرئيسية، تحرير الأرض من الغزو الاستعماري والاستيطان الصهيوني، إعادة توزيع الثروة ضد التفاوت الهائل في الدخول بين الأغنياء والفقراء، الدفاع عن الحريات ضد كل قوانين القهر وأساليب القمع، تحقيق الوحدة ضد شتى صنوف التجزئة، تحقيق التنمية الشاملة في مواجهة ظواهر التخلف، التأكيد على الهوية الذاتية ضد صنوف التغريب، وأخيرا تجنيد الجماهير وتحزيبها في مواجهة سلبيتها ولامبالاتها وسكونها.
2
خامسا: خاتمة: الوعي التاريخي
إن الموقف الحضاري هو الأشمل والأعم على التيارات الرئيسية الثلاثة المتمايزة في نهضتنا الحديثة منذ القرن الماضي. وعدم الوعي التاريخي به هو السبب في كبوة الإصلاح. وما زال الموقف الحضاري لم يتغير ذا أبعاد ثلاثة؛ الموقف من القديم، والموقف من الغرب، والموقف من الواقع. إن الموقف الحضاري الآن بناء على الوعي التاريخي يقتضي أخذ موقف نقدي من القديم وليس الدفاع عنه. كما يقتضي ثانيا، أخذ موقف نقدي من الغرب وليس الدفاع عن الغرب. ويقتضي ثالثا، أخذ موقف نقدي من الواقع وليس دفاعا عن الواقع. كبا الإصلاح لأن الموقف الحضاري فيه كان الدفاع. ويمكن أن ينهض الإصلاح من جديد ويتحول إلى نهضة شاملة إذا ما تغير الموقف الحضاري من الدفاع إلى النقد، ومن الحماس إلى العلم، ومن الخطابة إلى التحليل، ومن الإنشاء إلى الخبر. ليست كبوة الإصلاح عيبا في الإصلاح، بل عيب في عدم تطوير الجيل الخامس له وإعادة صياغة مشروع الإصلاح طبقا لظروف كل جيل.
الفكر الإسلامي والتخطيط لدوره الثقافي المستقبلي1
أولا: مقدمة: تحديد المصطلحات
نظرا لاتساع مفاهيم الألفاظ وشمول الموضوع في مثل هذا العنوان «الفكر الإسلامي والتخطيط لدوره الثقافي المستقبلي»، فإنه يجب أولا تحديدها حتى يسهل استعمالها على نحو أدق، وكذلك تحديد الموضوع حتى يمكن فهمه والوصول فيه إلى نتائج محددة ويقينية قدر الإمكان. فتحديد الألفاظ شرط لتحديد الموضوع.
ويشمل العنوان ستة ألفاظ يمكن تحديدها على النحو الآتي: (1) «الفكر»: هو كل ما أبدعه الذهن في حضارتنا التي ورثناها منذ أربعة عشر قرنا. وهو لفظ لم يستعمله القدماء بل استعملوا بدلا منه لفظ «علم» وكأن الفكر لا يكون إلا علما، أي فكر له موضوع ومنهج، غاية ومقصد؛ لذلك قامت الحضارة الإسلامية من خلال تأسيس العلوم، العلوم النقلية والعلوم العقلية والعلوم النقلية العقلية.
1
بل إن لفظ «الفكر» لم يستعمل للدلالة على الفلسفة بل استعمل لفظ الحكمة بأنواعها الثلاثة، المنطقية والطبيعية والإلهية. فلفظة «الفكر» مستحدثة واردة من الغرب وشاعت في العصور الحديثة كبديل عن الإيمان أو كغطاء نظري للعالم وكإثبات لوجود الذات ثم انتقلت إلى فلسفات الحضارات، فأصبح لدينا الفكر اليوناني والفكر المسيحي والفكر اليهودي، ومنها خرج المستشرقون بمفهوم الفكر الإسلامي. ثم نقلناه نحن إبان نهضتنا الحديثة من الغرب، وأسقطناه على تراث القدماء.
ومع ذلك فلا مشاحة من استعمال اللفظ كما جرى عليه العرف، فالمعنى العرفي أحد معاني الألفاظ طبقا للأصوليين. الفكر في هذه الحالة يشير إلى كل ما أنتجه الذهن في حضارتنا سواء كان ذلك في العلوم النقلية أو العقلية أو النقلية العقلية. وهو ليس فكرا مجردا علميا رياضيا خالصا، بل هو فكر إنساني مرتبط بحياة الإنسان في كل أبعادها، حامل لعقائد وقيم ونظم وتشريعات، يعطي تصورات للعالم وموجهات للسلوك. هو فكر حي في نفوس الناس، وحاضر في شعور الأمة، قريب إلى وجدانها وحياتها وتاريخها، تعتمد عليه كحجة في الإقناع، وتستخدمه كسلطة في البرهان. يحتوي على دوافع التقدم كما يضم معوقاته. فالفكر بهذا المعنى يعبر عن مجموعة من المصالح المتباينة والأهواء المتعارضة، نصفه يؤيد النظم القائمة ضد المعارضة وهو «فكر السلطة»، والنصف الآخر يعبر عن موقف المعارضة ويشحذها ضد النظم القائمة وهو «فكر المعارضة»، فالفكر ينتج في أتون المعارك السياسية كسلاح عقائدي في دولة عقائدية ولجماهير مؤمنة. لذلك عبر فكرنا القديم في نصفه الأول عن سلطة الحاكم والطبقات الحاكمة، وفي نصفه الثاني عن ثورة المحكومين والأغلبية الصامتة. الفكر بهذا المعنى هو الموروث القديم عندما يتحول في وجدان الناس وفي شعور الأمة إلى تراكم تاريخي يحدد بناء الذهن ويوجه سلوك الناس وليس فقط عقلها، وجودها وليس فقط نظرها. (2)
أما صفة «الإسلامي»: فإنها تعني الفكر الذي نشأ من ثنايا الإسلام وبفضله وبعد نشأته؛ فقد عرف العرب الشعر والتجارة والديانات السابقة، وكانت لديهم مجموعة الأعراف والتقاليد والقيم العربية الموروثة، ولكن لم يكن لهم فكر بمعنى علم أو حضارة، نشأ الفكر الإسلامي إذن بنشأة الإسلام وهو السبب التاريخي في تسميته «الفكر الإسلامي». ومع ذلك هناك سبب آخر لا تاريخي؛ فالفكر إسلامي، يعني أنه ذو نمط محدد ويقوم على خصائص معينة سواء من حيث صفات الفكر العامة أو العقائد النابعة منه أو القيم التي يقوم عليها أو النظم والتشريعات التي يسنها، «الفكر الإسلامي» بهذا المعنى يختلف عن الفكر المسيحي أو اليوناني أو الغربي أو الهندي أو الصيني، كل فكر له طابع أو نمط أو «خصوصية»، ولا يوجد فكر عام شامل لا طابع له يمثل الإنسانية جمعاء، ويكون فكرا إنسانيا لا وطن له ولا حضارة ولا تاريخ ولا محل، حتى ولو كان الفكر في أعلى درجات التجريد والشمول. لا يوجد فكر إلا إذا كان تفكيرا على نحو معين، وبمنهج مميز حتى الفكر الرياضي أو العلمي. الفكر هنا بالضرورة حضاري تاريخي؛ لأن الإنسان الذي يفكر هو موجود حضاري تاريخي.
أما صفة «العربي» فهي تشير إلى لغة التدوين لأن معظم نتاج الفكر دون بالعربية. العربية هي اللسان وليس الفكر أو الطابع أو الشخصية أو القومية. وقد التبس علينا الأمر في فكرنا الحديث عندما انتشر الفكر القومي الغربي فيه، وعرفنا الفكر الفرنسي والألماني والإنكليزي والأمريكي فقلنا «الفكر العربي» إثر نشأة القومية العربية كرد فعل على القومية الطورانية ونهاية لحكم الخلافة وبعد أن انزوى الفكر الإسلامي الذي تنصهر فيه القوميات في وحدة متعددة أو في تعدد موحد.
2
لقد استطاع الفكر الإسلامي القديم تمثيل غيره من الحضارات السابقة عليه، اليهودية والمسيحية والفارسية والهندية واليونانية. كما دخلت فيه كثير من العقائد الشعبية والعادات والتقاليد والأعراف والأمثال العامية والحكم وسير الأبطال، وكل أنواع التراث الشعبي الشفاهي أو المكتوب. الفكر بهذا المعنى «تاريخ الروح» أو «روح التاريخ». أما صفة «العربي» التي تستعملها أجيالنا الحديثة فإنها لا تشير إلى أكثر من «المجتمعات العربية» أو «الأمة العربية» التي تتحدث العربية والتي تعيش في «الوطن العربي» من الخليج إلى المحيط، والتي تتحدث العربية والتي ارتبطت فيما بينها تاريخا وتراثا وثقافة وعادات وتقاليد في الماضي وهموما ومصالح ومآسي في الحاضر، وتطلعات وآمالا في المستقبل. لا تشير صفة «العربي» إلى قومية أو فكر أو تمايز خاص في مقابل صفة «الإسلامي»، بل تشير إلى «المجتمع العربي» الذي هو جزء من الأمة الإسلامية. فالفكر الإسلامي يضم المجتمع العربي والفارسي والهندي والتركي وكل الشعوب الإسلامية الناطقة بغير العربية والتي لم يحدث فيها توحيد بين الإسلام والعروبة؛ نظرا لوقوف حركة التعريب أو الوقوع أحيانا في الشعوبية.
3 (3)
ويعني «التخطيط»: أن الفكر الإسلامي مسئولية المفكرين الإسلاميين، وأنه ليس مجرد نقل لفكر القدماء والتعريف به وعرضه وشرحه دون ما مراعاة لظروف العصر واحتياجاته؛ وبالتالي يهدف التخطيط لتجاوز خطأين شائعين: (أ)
التعامل مع الفكر كخليط غير متجانس، كمذاهب وعقائد ونظريات ونظم متضاربة عشوائية لا رابط بينها، ليس لها ظروف تاريخية معينة ساعدت على إفرازها. فتعرض نظريات التشبيه والتنزيه، النقل والعقل، الجبر والاختيار، الطاعة والخروج، الإيمان والعمل، الفيض والقدم، الأثر والرأي، النص والمصلحة، الفناء والبقاء ... إلخ، وكأنها نظريات متعارضة، متساوية في القيمة، فيحدث التشتت، وتكافؤ الأدلة. (ب)
نقل ذلك كله وعرضه للمحدثين دون ما مراعاة لظروف العصر التي تحتم اختيار نظرية دون أخرى، أي إسقاط الظروف التاريخية الحالية من الحساب وكأننا نعيش خارج التاريخ مع أنها كانت حاضرة في الفكر القديم. فإذا تم الاختيار فإنه يحدث طبقا للاختيار الأول، التشبيه دون التنزيه، والنقل دون العقل، والجبر لا الاختيار، والطاعة لا الخروج، والإيمان دون العمل، والفيض دون القدم، والأثر وليس الرأي، والنص وليس المصلحة، والفناء وليس البقاء ... إلخ، ودون ما عرض للظروف التاريخية القديمة والصراعات الاجتماعية والسياسية التي كانت وراء هذا الاختيار الأول، مع أن ظروف العصر الحالية قد تحتم الاختيار الثاني، التنزيه دون التشبيه، والعقل دون النقل، والاختيار لا الجبر، والخروج لا الطاعة، والعمل دون الإيمان، والقدم دون الفيض، والرأي لا الأثر، والمصلحة لا النص، والبقاء وليس الفناء ... إلخ.
يعني التخطيط إذن شيئين: (أ)
معرفة الظروف التاريخية القديمة التي كانت وراء نشأة الأفكار والتي كانت وراء الاختيارات القديمة. (ب)
معرفة الظروف الحالية التي تعيش فيها الأمة التي تحتم إفراز فكر جديد أو اختيار بديل قد يتفق أو يختلف مع الفكر والاختيارات السابقة، خاصة وأن الأمة قديما كانت منتصرة متقدمة موحدة، والأمة الآن مهزومة متخلفة متجزئة.
4
ولا يعني «التخطيط» مجرد وضع برامج عملية كما يحدث في تخطيط التنمية، بل يعني التخطيط الشامل ابتداء من التصورات والرؤى والمقولات والمفاهيم والألفاظ المستعملة، أي إنه تخطيط فكري وذهني أكثر منه تخطيطا عمليا إجرائيا. (4)
أما «الدور»: فإنه يعني أن الفكر الإسلامي وتخطيطه لا يعني مجرد عرض نظري لأفكار القدماء أو حتى لاجتهادات المحدثين اختيارا أو إبداعا، بل يعني أن للفكر دورا يؤديه، ومهمة يقوم بها ، وفاعلية يحققها، وهدفا يسعى إليه. فنحن أمة بدأت بالفكر، وقامت على أساس الفكر ممثلا في التوحيد. وقد كان للتوحيد دور في التاريخ في خلق وحدة فكر الأمة، ووحدة حضارتها، ووحدة شعوبها. وليس دور المفكر الإسلامي إذن التفرج على الفكر القديم أو عرضه أو اختيار حلوله اختيارا عشوائيا طبقا للاختصاص أو للمزاج أو للاهتمام أو للتكسب والتجارة أو بدافع التدرج الوظيفي ارتزاقا بالمهنة وكسبا للجوائز والمنح، بل يعني أن الفكر الإسلامي له دور كما كان للوحي دور، وهو ارتقاء الجنس البشري وتربية الإنسانية حتى ينتهي هذا الدور باكتمال الوعي الإنساني واستقلاله عقلا وإرادة؛ ومن ثم يقوم على خطة مقصودة يهدف إلى تحقيق غاية قصوى في النهاية. وقد ظهرت الغائية في عقيدة الصلاح والأصلح، وفي الشريعة في تعليل الأحكام بغاياتها، وفي التصوف في اعتبار الإنسان قصدا نحو هدف، وفي الفلسفة في إعطاء الأولوية للعلة الغائية باعتبارها علة فاعلة.
5 (5)
والدور هو بالضرورة دور «ثقافي» وليس دورا سياسيا، أو اجتماعيا أو اقتصاديا مباشرا. فالدور يتحدد في الفكر، ويقوم به الذهن، يتعامل مع التصورات العقلية والقوالب الذهنية، فنحن مجتمع يعيش على الفكر، ويتوجه بالتراث. وذلك ليس مثالية وإعطاء الأولوية للفكر على الواقع، بل هو عين الواقعية ووصف الحقائق كما هي عليه. إن التعارض بين الفكر والواقع وأولوية كل منهما على الآخر بالتبادل طبقا للمذاهب الفلسفية إنما أتانا من الفكر الغربي؛ فقد نشأ هذا التعارض في أول العصور الحديثة بعد تعرية الوعي الأوروبي من غطائه النظري الديني القديم، وحين بدأ الفكر يضع ذاته ويستنبط الواقع منه (ديكارت)، أو يكون مجرد رصد للواقع ثم يتم تجريده بالفكر (بيكون)، واشتداد الصراع بين المثالية والواقعية. وهذا كله لا شأن لنا به؛ إذ إن الواقع لدينا ما زال يقبع تحت غطائه النظري القديم لا يحتاج إلى تفسير جديد. كما أن الفكر لدينا، وهو الوحي، قائم على الواقع منذ البداية في «أسباب النزول» وفي «الناسخ والمنسوخ» وفي الاعتراف بالقدرة والأهلية، وعدم تكليف ما لا يطاق، إلى آخر ما هو معروف من مبادئ الشريعة.
وربما كان أحد أسباب الردة في الثورات العربية المعاصرة هي أنها حاولت تخطيط دور في المجتمع بتغيير الأبنية الاجتماعية والسياسية والاقتصادية دون تغيير مماثل على مستوى الأبنية الثقافية والقوالب الذهنية، فانقلبت إلى ثورة مضادة، سواء على مستوى الأبنية التحتية (العودة إلى الرأسمالية) أو على مستوى الأبنية الفوقية (الحركة السلفية). وأصبحت الثورة المضادة على المستويين معا تقدم نفسها كبديل حتمي للثورة العربية كلها، وظهرت الحركة السلفية كبديل حتمي مطروح للحركة العلمانية كلها. وضعت الثورة العربية المعاصرة العربة أمام الحصان لدى شعوب تتحكم أبنيتها الثقافية وقوالبها الذهنية في نظمها الاجتماعية وأوضاعها السياسية. فما كان أسهل من تغيير الأوضاع والنظم بقرارات من السلطة، مرة شرقا ومرة غربا، مرة اشتراكية ومرة رأسمالية، والأبنية الذهنية لم تتغير، بل ازدادت رسوخا كرد فعل على تهرؤ المذاهب العلمانية وهزائمها.
الدور الثقافي إذن هو الأبقى، وهو الأقدر على الحفاظ على كل مكتسبات الثورة العربية المعاصرة، بل وعلى مكتسبات النهضة التي بدأناها في القرن الماضي إن كانت ما زالت باقية. الثورة الثقافية هي الثورة الدائمة، الثورة التي تغير مجرى التاريخ، الثورة التي تنبع من «روح التاريخ» أو تنبثق من «تاريخ الروح»، والتي لا تنشب فقط من مجرد انقلاب عسكري للاستيلاء على السلطة، يقوم بها الضباط الأحرار أو التنظيمات السرية سواء كانت إسلامية أو ماركسية.
6
وبطبيعة الحال، يكون ذلك دور المثقفين، فليس المثقف هو المتعلم أو العالم، بل الذي تحولت الثقافة لديه إلى وعي بالذات وبالتاريخ. وليس مصدر الثقافة وحده هو المكتوب بل قد يكون الشفاهي، وبالتالي يكون أيضا للمثقفين العاميين دور من خلال التراث الشفاهي. وقد كان الوحي تراثا شفاهيا قبل أن يصبح مدونا. (6)
والتخطيط لهذا الدور هو الذي سيكشف البعد المستقبلي في وجداننا المعاصر وجذوره في الفكر الإسلامي؛ فالمستقبل هو هم الجميع لا هروبا من الماضي وكرد فعل على الحركة السلفية وعلى نقيض منها، أو هربا من الحاضر وكرد فعل على هزائمه وكأن المستقبل سيأتي معه بحلول للحاضر رجوعا إلى الوراء، بل يعني المستقبل رؤية شاملة تضع الفكر الإسلامي في منظور تاريخي، وكحلقة متصلة من الماضي إلى الحاضر، ومن الحاضر إلى المستقبل، دون إخراجه من الزمان أو ابتساره في إحدى لحظاته. ويقوم بهذا الدور عدة أجيال وليس جيلا واحدا لأنه «مشروع رؤية» تتحقق على فترات؛ فالتاريخ مراحل، والأجيال متعاقبة، والأدوار متصلة.
والتعرض للمستقبل ليس تبعية للدراسات المستقبلية أو علوم المستقبل المعروفة في الغرب والتي أصبحت بريقا عند المعاصرين منا، ومفتاحا سحريا لمشاكل الجيل، بل ضرورة داخلية للفكر الإسلامي؛ نظرا لامتداد جذوره في الماضي، وتراكمه في الحاضر وترسبه فيه. وبالتالي يكون بعده المستقبلي ضرورة تاريخية نظرا لامتداده في الزمان واتصال أبعاد الزمان الثلاثة. كما أنه لم يغب في تراثنا القديم في أمور المعاد في علم أصول الدين، وفي الاتصال بالعقل الفعال وخلود النفس في علوم الحكمة، وفي تطور النبوة ومستقبلها ودور الولاية والإلهام والغاية في علوم التصوف، وكما ظهر في مقاصد الشريعة في علم أصول الفقه. وبالتالي فإن هم المستقبل موجود في الفكر الإسلامي إلا أنه كان هما بما سيحدث بعد الموت؛ فقد كانت الدنيا عند القدماء تحت سيطرتهم، وكانوا سادتها في حين أن المهم لدينا هو هم الدنيا بعد أن فقدنا سيادتنا عليها، وأصبح غيرنا هم سادتها وسادتنا.
وفي النهاية، يصعب على المفكر في أمثال هذه الموضوعات أن يجد وسطا متناسبا، وميزانا متعادلا بين العلم والحماس، بين العقل والانفعال، بين الموضوعية والغضب، بين التحليل والصرخة، بين الفكر والألم؛ فالمفكر هنا يحلل ذاته، ويصف واقعه، ويعبر عن همه بلغة العقل وبرود المنهج وهدوء الموضوعية. كما أنه يصعب عليه إيجاد لغة متسقة بين التعبير عن الأشياء ذاتها أو عن تجارب الأنا والنحن التي من خلالها تظهر الأشياء، وبالتالي يتردد المفكر بين ضمير الغائب للإشارة إلى الأشياء وبين ضمير المتكلم للإشارة إلى التجارب الذاتية. ومع ذلك فإن تحليل التجارب المعاصرة التي يعيشها الجميع تكشف عن المادة العلمية أكثر مما تكشف عنها المواد المكتوبة في المراجع العلمية القديمة والحديثة. فهذه أيضا كانت تجارب عند أصحابها ثم تحولت إلى تاريخ.
ثانيا : مدى ما يمكن أن يستلهمه المجتمع العربي في قيمه
المستقبلية ونظمه وتشريعاته من مبادئ الإسلام وروحه
في حقيقة الأمر، يصعب التمييز بين الأمثلة الثلاثة المطروحة؛ إذ إنها متداخلة فيما بينها؛ فمبادئ الإسلام وروحه التي يمكن للمجتمع العربي استلهامها، لا تعرض إلا في إطار التحديات المعاصرة ولا تنفصل عن قضايا العصر ومشكلاته وتحدياته (السؤال الثاني). وكلاهما لا ينفصلان عن قدرة الفكر الإسلامي على استشراف المستقبل (السؤال الثالث)، فالمستقبل هو مصير مشكلات الأمة وطرق حلها. ومع ذلك فإن السؤال الأول يغلب عليه التساؤل عن القيم النظرية التي يمكن أخذها كأساس للمجتمع العربي في لحظته التاريخية الراهنة، في حين أن السؤال الثاني يعطي الإجابات العملية على قدرة هذه القيم على قبول الدخول في تحديات العصر. أما السؤال الثالث فإنه يتوجه نحو المنجزات العملية لتحقيق رؤية مستقبلية لتاريخ الأمة طالما أن هذه التحديات ما زالت قائمة منذ فجر النهضة العربية الحديثة حتى الآن.
ويمكن تحديد هذه المبادئ والروح العامة التي يمكن أن يستلهمها المجتمع العربي في قيمه المستقبلية ونظمه وتشريعاته على النحو الآتي: (1)
العقل: الإسلام دين العقل، وذلك بنص القرآن الكريم والحديث وبإجماع الأمة ورأي العقلاء.
1
وقد قامت الحضارة الإسلامية كلها على العقل. وظهر كأساس في العلوم العقلية وفي العلوم النقلية العقلية؛ فالعقل أساس النقل عند المعتزلة. وإن كل الحجج النقلية حتى لو تضافرت لإثبات شيء على أنه يقيني لما أصبح كذلك وظل ظنيا لا يتحول إلى يقين إلا بحجة عقلية ولو واحدة بإجماع الأشاعرة. والعقل الصريح موافق للنقل الصحيح عند جمهور الفقهاء، والقياس أصل من أصول الشريعة عند الأصوليين، وإن إيمان المقلد لا يجوز. والحكمة والشريعة أو الفلسفة والدين متحدتان بالطبع، متحابتان بالغريزة عند الحكماء، والعقل هو الله عند الفلاسفة، والعقل الفعال موطن العلوم والمعارف، وغاية الإنسان الاتصال به والاتحاد معه. بل إن العقل لا يعارض الذوق بل يفهمه ويعقله كما هو الحال في حكمة الإشراق. وعندما ترجمت الحضارة الإسلامية في العصر الوسيط المسيحي ساعدت على إنماء التيار العقلاني في الفكر المسيحي وفي بدايات العصور الحديثة حتى أصبح الفيلسوف مرادفا للمسلم، والإسلام مرادفا للفلسفة. وقد ظهر ذلك أيضا في معظم كتاباتنا الإصلاحية وأدبياتنا الحديثة التي بها ندافع عن الإسلام ونميزه بها عن غيره من الديانات.
والغريب أن مجتمعاتنا الحالية تشكو من اللاعقلانية، وتئن تحت وطأة الأسطورة، وتجعل الحركة الإسلامية النقل أساس العقل، وتحول علم أصول الدين إلى علم نقلي خالص «على المؤمن أن يؤمن بخمسين عقيدة!» كما يدرس حاليا في معاهدنا وجامعاتنا الدينية، كما تحول علم أصول الفقه إلى علم نصي خالص. ولم يعد الاجتهاد ممكنا إلا في حدود إجماع القدماء واتفاق المذاهب الأربعة. وتحولت الحكمة إلى إشراق، وضاع منها جانبها العقلي، وعم التصوف، وانتشرت الطرق الصوفية. وظهرت مكانة القديسين والأولياء في ممارساتنا الشعبية. يحارب الملائكة مع المسلمين، ويعبرون القناة معهم، ويزداد المحصول معجزة من عند الله، ويظهر النفط توفيقا من الله، وينطوي النبات على نفسه إذا ما نبت في الفضاء خشية من الله، ونكفر كل من يحاول ربط الأسباب بالمسببات. ويتحدث الدعاة أمام أجهزة الإعلام عن قصور العقل عن إدراك الحقائق العليا أو عن عجائب الكون الذي يقف الإنسان أمامه فاقد الوعي والاتزان. وما زلنا ندعو إلى العقلانية منذ فجر النهضة العربية الحديثة ولكنها عقلانية الغرب، عقلانية ديكارت وكانط وهيجل، ونقرأ من خلالها حركة الإصلاح الديني دون أن نحاول تأسيس العقلانية المعاصرة ابتداء من التراث العقلاني الاعتزالي الفلسفي القديم الذي كان وراء عقلانية الغرب. (2)
الطبيعة: والطبيعة قيمة ثابتة في الوحي منذ البداية عن طريق تسخير كل ما في الكون لصالح الإنسان.
2
الشمس للدفء، والقمر للنور، والكواكب والنجوم هداية، والأرض للسعي والرزق، والماء والهواء والزرع للحياة، والجبال للسكن، والحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس، والسمك والطير للطعام، والأنعام للانتقال. قوانينها ثابتة ودائمة يعرفها الإنسان بالملاحظة والتجربة والعقل والاستدلال، ويسيطر عليها، ومن خلالها يسيطر على الكون، فالإنسان سيد الكون. مظاهرها آيات، والآية ظاهرة طبيعية ونفسية، وكلاهما موضوع تأمل واستبصار.
وقد ظهرت الطبيعة في تراثنا القديم في العلوم العقلية الرياضية والطبيعية خاصة. وأصبح «تاريخ العلوم عند العرب» نموذجا يحتذى به في العصر الوسيط الأوروبي، وكان وراء النهضة العلمية الأوروبية الحديثة، وأصبح من أهم موضوعات معاهد «تاريخ العلوم»؛ فقد أقر الفلاسفة حتمية قوانين الطبيعة.
3
وأصبح الوحي والطبيعة يقودان إلى حقيقة واحدة (حي بن يقظان). وقالت المعتزلة بالكمون والطفرة والتولد. وكانت الطبيعة عند علماء أصول الدين طريقا إلى إثبات الصانع، وموضوعا للعلم سابقا عليه، وأصبحت الطبيعة عند الصوفية إلها تتوحد معه في وحدة الحق والخلق، أو على أقل تقدير مرآة تعكس ذات الله. فالآية ليست فقط الوحي القرآني بل حادثة طبيعية ودليل لإثبات وجود الله. وأقر علماء أصول الفقه بوجود الطبيعة الإنسانية، فكل ما هو طبيعي شرعي، وكل ما هو شرعي طبيعي. الحلال طبيعي، والمباح طبيعي، والإنسان على الفطرة والبراءة الأصلية. الضرورات تبيح المحظورات، ولا ضرر ولا ضرار، والمصلحة أساس الشرع. وكان العمران الإسلامي القديم سكنا في الطبيعة بما فيها من هواء وشمس وزرع وماء وريح وريحان.
ولكننا أسقطنا الطبيعة من الحساب، وحولناها إلى سلب مطلق، موجود حادث، شر محرم، لا قوام له ولا كيان، إيثارا لما وراء الطبيعة، وتمييزا لله بالبقاء وحده. هدمنا الطبيعة بأيدينا، وقضينا على استقلالها وثبات قوانينها. وتحولت الطبيعة من آيات، أي دلالات وعلامات وظواهر طبيعية إلى آيات بمعنى معجزات، أي الخرق المستمر لقوانين الطبيعة. فانتظرنا المعجزات، وطلبنا المدد من السماء، وشحذنا النصر من عنده تعالى. النصر في الحرب معجزة، واكتشاف النفط معجزة، ووفرة المحصول معجزة، وإصلاح الصرف الصحي معجزة. مع أنه لا معجزات في الإسلام.
4
فقد تحولت المعجزة إلى إعجاز أي إلى تحد للقدرة البشرية. كانت المعجزة موجودة في مراحل الوحي السابقة وأدت دورها المحدود في إيمان البعض ولكنها انتهت في آخر مرحلة من مراحل الوحي إعلانا لاستقلال العقل والإرادة وقوانين الطبيعة. كما تحولت الطبيعة في وجداننا القومي إلى محرمات في معظمها حتى أصبح الإنسان يدين نفسه، وجوده وغرائزه، عواطفه وانفعالاته، إحساساته ومطالبه. بل قد تربى لديه إحساس بالذنب في كل لحظة عما يقول ويفعل وعما يحس ويشعر. وأصبح سلوكه سلبيا خالصا بناء على مجموعة من النواهي يلتزم بها، فتولد لديه إحساس بالكبت والحرمان، فينتهي إما إلى المرض أو الغضب. وتحولت براءة الإسلام إلى خطيئة المسيحية. وبدل أن تكون الطبيعة طاهرة ألقينا عليها الأوساخ فغابت النظافة. لم تعد الطبيعة دليلا على وجود الله؛ فالله في القلب يظهر عند العجز والبلاء، عند الضر أو الحاجة. (3)
الإنسان: الإنسان قيمة بنص القرآن، خلق في أحسن تقويم، خليفة الله في الأرض، كرم في البر والبحر، وهب العلم والحواس والقلب والفؤاد. خلق على صورة الله ومثاله، سيد الكون، تسجد له الملائكة، ويعاقب من يعصي السجود. أعطي له الوحي، وأصبح كليما لله، طرفا معه في الحوار، حرا مسئولا، ساعيا في الدنيا، كادحا فيها، بصيرا على نفسه.
5
وقد ظهر «الإنسان» في الفكر الإسلامي القديم متخفيا مرة، وظاهرا مرة أخرى، متخفيا في علم أصول الدين كإنسان كامل، موجود، قديم، باق، ليس في محل، لا يشبه الحوادث، واحد؛ أي وعي خالص منزه، عالم، قادر، حي، سميع، بصير، متكلم، مريد؛ أي وعي مدرك فعال، وكأن الله وصف نفسه بصفات الإنسان تأنيسا له، أو أن الإنسان وصف الله بصفات نفسه تأليها لها. كما ظهر الإنسان في علوم التصوف أيضا في نظرية «الإنسان الكامل» تأكيدا لما وصل إليه علماء أصول الدين؛ حيث لم يعد هناك فرق بين الإنسان والله. وظهر أيضا في علوم الحكمة، الإنسان محور للكون، عالم أصغر في مقابل عالم أكبر، وهي الطبيعة. وبرز في علم أصول الفقه على أنه الإنسان الموجود بلحمه وعظمه، يحافظ على مصالحه وضرورياته: الحياة، والعقل، والدين، والعرض، والمال.
6
وقد كان الإنسان أحد مشاكل نهضتنا المعاصرة كلها؛ فما زال الإنسان لا يعيش كقيمة في وجداننا المعاصر، الأولوية باستمرار لغيره، لله أو للحاكم، للماضي أو للنص. ليس له أوصاف ذاتية خالصة، لا يؤمن نظام واحد بوجوده، يمكن أن يعتقل أو يفصل أو تختفي به الأرض فلا يعلم أحد عنه شيئا. ما زال الله محور الكون وليس الإنسان. لم يسترد الإنسان صفاته بعد، وظل وعيه خارجا عنه.
7
هناك إنسان أوحد وهو الزعيم أقرب إلى الإله منه إلى الإنسان، لا يستطيع أحد الحديث عنه أو نقده أو الخروج عليه، وهو وحده الإنسان الكامل، وما دونه يتعلم منه ويتتلمذ عليه، يطيع أوامره ونواهيه.
لقد حاولت الثورات العربية المعاصرة تغيير الهياكل الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، ولكن ظلت قضية الإنسان معلقة، بل كثيرا ما كانت تنتهك كرامة الإنسان وحريته وحقوقه الطبيعية باسم الثورة. وظل الغرب يزهو علينا بأنه الوحيد صاحب حضارة الإنسان، ففيه نشأ المذهب الإنساني
Humanism
منذ فجر النهضة الحديثة حتى إعلان حقوق الإنسان، وتأتي اللجان عندنا لتكتب تقارير عن حقوق الإنسان في مجتمعاتنا العربية فتجدها منتهكة ضائعة بالرغم من توقيع النظم القائمة على وثيقة إعلان حقوق الإنسان! (4)
الحرية: والحرية أيضا منصوص عليها في الوحي وفي سير الخلفاء!
8
لا يملك إنسان لإنسان أمرا. وكل إنسان مسئول، ألزم طائره في عنقه، لا يحمل وزر أحد، ولا يخلصه أحد. والحرية نتيجة للعقل والتمييز. فالعقل استدلال حر والحرية اختيار للإرادة طبقا لاستدلال العقل. الضمير حر، وشعور الإنسان حر حتى من قبضة فرعون، ومستقل عن الشعور الجماعي العام.
9
والتوحيد تحرر للوجدان البشري بفعل الشهادة، والشهادة نفي كل ما يقهر الشعور ويكبله في فعل النفي «لا إله» ثم إثبات الفعل الحر في فعل الإثبات «إلا الله». وهذا هو المعنى الذي أعطته الثورة الإسلامية في إيران لشعارها «الله أكبر قاصم الجبارين»؛ فالتوحيد تحرر للوجدان الإنساني من العبودية في شتى صورها.
10
وقد أكد الفكر الإسلامي على ذلك، خاصة عند المعتزلة في إثبات حرية الاختيار وإثبات الاستطاعة قبل الفعل ومع الفعل وبعد الفعل، وإثبات قانون الاستحقاق، والمسئولية عن الأعمال، وإلا استحال الحساب والعقاب. كما أكده علماء أصول الفقه الذين أثبتوا للمكلف قدرته على الفعل، ومنعوا تكليف ما لا يطاق، وأن العقل شرط التكليف لأنه مناط الحرية، وأن الصبية والمجانين غير مكلفين. العلم والعبودية لا يجتمعان، فالعبد الذي يتعلم يتحرر، والذنب الذي يقترف يتم التكفير عنه بتحرير عبد، والأمة التي تلد تصبح حرة بفعل الأمومة، والحرية شرط الإمامة حتى لا يكون الإمام تابعا لسيد آخر. كما أنها شرط الشهادة، فبدون حرية لا يعلن عن حق، ولا يقال صدق.
ولكن يبدو أننا ما زلنا نحاول أن نتحرر، ولم ننته بعد من ذلك منذ بدأ فجر النهضة العربية الحديثة حتى الآن. نعرض لنظريات الحرية وثورات الشعوب، ونكافح الاستعمار من أجل الحرية والاستقلال، ونكتب روايات وأشعارا عن الحرية، ويستشهد المناضلون من أجل الحرية، ولكن تظل قضية الحريات في مجتمعاتنا مطروحة وكأن الحرية ليست نظرية بل ممارسة، وكأن العدو ليس فقط المحتل الخارجي، بل أيضا أو بالأساس القهر الداخلي. ويبدو أن الأمر أعمق بكثير من القوانين المقيدة للحريات ونظم القهر والتسلط والقوانين الاستثنائية، بل تمتد جذور الأزمة في التاريخ إلى التسلطية كتصور، والجبرية كعقيدة، والإمامية كسياسة، والحرفية كتفسير، والتبريرية كوظيفة للعقل.
11
يمكن إذن إعادة الاختيار، ترك الجبرية والكسب الأشعري والنقل والتفسير الحرفي، وإبراز حرية الفكر وحرية الإرادة كاختيار في تراثنا القديم وكحاجة في وجداننا المعاصر؛ حتى يمكن حل مأساة الحريات في عالمنا هذا مرة واحدة وإلى الأبد، فهي حق الإنسان الطبيعي أكده الوحي، بمنعه الإكراه، وشهادة المكره لا تجوز، وذنبه مغفور. (5)
المساواة: بالرغم من حرية الإنسان وإثبات وجوده الفردي إلا أنه أيضا ينتسب إلى جماعة ويعيش فيها. لذلك ظهر موضوع المساواة والعدالة الاجتماعية كشرط للسلام الاجتماعي. يظهر أحيانا في تعبيرات اقتصادية وأخرى أخلاقية وثالثة سياسية. فبنص القرآن نجد أن المالك هو الله وحده والإنسان مستخلف فيما أودعه الله بين يديه، له حق التصرف والانتفاع والاستثمار، وليس له حق الاستغلال والاحتكار والاكتناز. الملكية وظيفة اجتماعية وليست شيئا للاستحواذ عليه. المال مجرد علاقة بين الأنا والشيء، يشير إليها باسم الصلة «ما» وبحرف الجر «ل». ومن هنا كان على الإمام حق مصادرة أموال السفهاء والتأميم للصالح العام. وما تعم به البلوى لا يجوز ملكه كالماء والكلأ والنار قديما أي الزراعة والصناعة حديثا. والركاز - أي ما في باطن الأرض - ملك للأمة وليس للأفراد عند الفقهاء. عرف القدماء الحديد والنحاس والذهب والفضة، وعرفنا نحن النفط. وبنص القرآن لا يكون المال دولة بين الأغنياء ، وللفقراء حق في أموال الأغنياء، غير الزكاة. ويعني تحريم الربا أن العمل وحده مصدر القيمة وأنه لا يجوز الإثراء بالاستفادة من حاجات الناس انتهازا للفرص. وأن المجتمع الذي فيه إنسان جائع واحد تبرأ ذمة الله منه، وأنه لا عجب أن يخرج رجل لا يجد قوت يومه شاهرا على الناس سيفه. وقد استمر هذا المثل الأعلى في سيرة الخلفاء،
12
وعند بعض اتجاهات المعارضة وجماعات الرفض حتى أتت المذاهب الاشتراكية الحديثة ينتسب إليها المثقفون والعمال فيسهل حصارهم واتهامهم بالكفر والإلحاد، والخيانة والعمالة.
إن إحدى قضايانا الأساسية هي بلا شك قضية توزيع الثروة. فلدينا يضرب المثل بأقصى المجتمعات غنى وبأشدها فقرا، مجتمع البطنة والترهل، ومجتمع الجوع والقحط، مجتمع البذخ والترف ومجتمع البؤس والحرمان، وبالتالي نشأت الحاجة لدينا إلى الأفكار الاجتماعية والمذاهب الاشتراكية، فلا نجد إلا العلمانية منها التي يسهل حصارها وعزلها فيضيع أثرها. هذا هو التحدي الحقيقي. وطالما قامت النظم التي تقبل بهذا التفاوت على الإسلام، تستمد شرعيتها منه وتحكي باسمه. مع أن الحاكم في الإسلام آخر من يأكل وآخر من يشرب وآخر من يسكن، وسيرة الخلفاء فينا ما زالت حاضرة. (6)
التقدم: وقد أصبح التقدم هدفا وطنيا عاما تصبو إليه الأمة بجميع فرقها. وفي الحقيقة إن التقدم مسار الوحي، وبسببه تتوالى النبوات منذ أولى مراتبها حتى آخر مراحلها فتحقق هدفها وهو استقلال الوعي الإنساني عقلا وإرادة.
13
والتقدم موجود داخل آخر مرحلة من مراحل الوحي في «الناسخ والمنسوخ»، تقدم في الشريعة، وإعادة صياغتها طبقا للقدرات الإنسانية. ومصادر الشرع أربعة تدل على تقدم كل مصدر على الآخر: السنة تقدم على القرآن في الزمان، والإجماع تقدم على السنة، والقياس تقدم على الإجماع. كل عصر يمثل تقدما بالنسبة للعصر السابق. لذلك أمكن لكل عصر أن يؤسس إجماعه. كما تحتوي المبادئ اللغوية في علم الأصول مثل الحقيقة والمجاز، والمحكم والمتشابه، المجمل والمبين، المطلق والمقيد، على حركة في التشريع من أجل التقدم، تقدم جيل على جيل، وإثبات للزمان، ودور الأجيال في الاجتهاد. وفي أصول الدين ظهر التقدم في الصلاح والأصلح عند المعتزلة، وفي النبوة أي تاريخ الإنسانية في الماضي، وفي أمور المعاد أي تاريخ الإنسانية في المستقبل.
ولكن الذي رسب فينا هو تصور آخر يرى التاريخ في سقوط مستمر، وأن السلف خير من الخلف.
14
وهو آخر جزء من العقائد بعد الإمامة، وترتيب الخلفاء والأئمة تبعا للأفضلية، اعتمادا على أحاديث مثل «خير القرون قرني ...» فتصورنا التاريخ في سقوط مستمر بعد الخلفاء الأربعة، من النبي إلى الصحابة إلى التابعين إلى تابعي التابعين. وبالتالي نحاول المساهمة في صنع التقدم والتاريخ يتساقط من بين أيدينا. وهذا هو المنبع الدائم للحركة السلفية وحركة النهوض بالعودة إلى الوراء. وعلى أفضل تقدير، نضع أنفسنا خارج التاريخ والزمان بعد أن أعطانا الله الزمان كله أي الخلود، وما دونه الفناء. فضاعت الحركة عن التاريخ، ولم ندرك التطور كسنة له.
15
وجاءت الأحزاب التقدمية فعالجت موضوع التقدم بعقلية متخلفة، فقاومت التفاوت الطبقي دون القضاء عليه من جذوره في الوجدان، وناهضت القهر دون حله من جذوره التاريخية، وتصدت للتخلف وظنته في نقص معدل التنمية الاقتصادية دون القضاء على معوقات التقدم في الذهن وما ترسب في الوعي القومي.
هذه القيم الأساسية والمفاهيم النظرية لا شأن لها بفلسفة التنوير في الغرب، بل حاول الغرب الاقتراب منها فوقع في حدود العنصرية والرومانسية.
16
بل هي أهم مقولات العلوم الإسلامية القدمة خاصة عند المعتزلة والفلاسفة. وهي في الوقت نفسه تعبر عن متطلبات الحاضر، وتمتد جذورها عند القدماء. إن لم تتأسس إسلاميا، وإن لم تعرض نفسها عرضا محليا تعبيرا عن حاجات الأمة فإن المجتمع سيظل يستلهم حاجاته من التراث الغربي، رافضا الفكر الإسلامي باعتباره على نقيض ما يبحث عنه. هكذا فعل القدماء مع التراث اليوناني عندما حولوه إلى تراث محلي خالص، فوجد المسلمون في فكرهم العقل والطبيعة، والأخلاق والسياسة، وهي القيم التي لا بديل عنها في أية نهضة معاصرة أو تخطيط مستقبلي للدور الثقافي للفكر الإسلامي.
ثالثا: مدى ما يمكن أن يسهم به الفكر الإسلامي المعاصر في
مواجهة قضايا العصر ومشكلاته وتحدياته
ليست القيم الإسلامية وتصورات الإسلام الأساسية مجرد فلسفة نظرية أو مذهب فلسفي يكتفي به الإنسان ويقتنع به، يملأ عليه حياته، ويعطيه الطمأنينة والسكون، بل مجرد إعداد ذهني للإنسان لمواجهة تحديات عصره ومشكلات جيله، يمده بطاقة وقدرة، ويحدد له خططه وغاياته. الفكر الإسلامي على هذا النحو فكر نضالي يقوم على المواجهة كما كان في بدايته يقوم على «أسباب النزول» أي إن الواقع سابق على الفكر، وإن المشكلة الاجتماعية هي التي تتحدى الفكر، وتطالبه بمقابلة التحدي بتحد مماثل. وقد كان عمر بن الخطاب يقبل التحدي ويفرض حلا بحكم البديهة والمصلحة فيأتي الوحي مؤيدا لاجتهاده. لا مكان إذن لفكر إسلامي خارج الزمان والمكان، يقول كل شيء ولا شيء، يسهب ويطيل في لاموضوع أو يتناول موضوعات لا وجود لها، لا يثير قضية، ولا يضع مشكلة أو يتطلب حلا. يقتصر على المبادئ العامة دون تطبيقها في مجتمع بعينه في لحظة تاريخية محددة، وفي مشكلة بعينها حتى يمكن أن تظهر قدرة الفكر الإسلامي على مواجهة التحديات وإيجاد حل للمعضلات. وفي هذه الحالة يكون الفكر الإسلامي مخاطرة ومغامرة، ومعركة وصراعا وليس مجرد إعلان لحسن النيات ولكمال الإسلام!
وعلى سبيل المثال يمكن للفكر الإسلامي أن يواجه قضايا العصر الأساسية وهي بالنسبة لنا يمكن إجمالها في ست: (1) تحرير الأرض من الاحتلال والغزو
إن أول قضية تعرض لنا هي قضية احتلال الأرض، سواء من الاستعمار القديم (فما زالت هناك أراض محتلة من المغرب وأفغانستان وكشمير)، وهي كلها أراض يعيش عليها المسلمون، وبالتالي تدخل في دار الإسلام أو في الغزو الاستيطاني الجديد في قلب العالم الإسلامي والوطن العربي في فلسطين. ويمكن إيراد أسباب الاحتلال من الدراسات التاريخية وكيفية مقاومته من علوم السياسة. ولكن ما يهمنا هو كيف يمكن للفكر الإسلامي أن يساهم في كيفية تحرير الأرض من الاستعمار القديم والغزو الاستيطاني الجديد. وطالما استعملناها للحماس في أجهزة الإعلام دون جدية من أجل إعداد الجماهير لأخذ مصائرها بيدها. مثلا: (أ)
الله والأرض في القرآن وحدة واحدة كما يبدو ذلك في عديد من الآيات؛ مثل:
رب السموات والأرض ، [الرعد: 16]،
له ملك السموات والأرض [الحديد: 5]،
وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله ... [الزخرف: 84] إلخ. مما يدل على أن الدفاع عن الأرض دفاع عن الله، وأن المؤمن بالله لا بد وأن يؤمن بالضرورة بالأرض.
1 (ب)
الحث على القتال دفاعا عن الأرض والديار، والإعداد لذلك، وهجوم القرآن على القاعدين والمتخلفين المتثاقلين إلى الأرض الذين يؤثرون الدنيا على الآخرة. لذلك كان الجهاد أصلا من أصول الشريعة وركنا من أركان الإسلام، كما أبرزت ذلك الحركة الإسلامية المعاصرة، وتعظيم الشهداء وبأنهم أحياء عند ربهم يرزقون.
2 (ج)
الفتوحات والتبليغ وإعلان التوحيد، وتحرير الشعوب من الطاغوت والقهر، وضمهم تحت «لا إله إلا الله»، فالإسلام فاتح للأرض، محرر للشعوب، تحقيقا لكلمة الله، وأداء للأمانة، وتحويلا للتوحيد من النظر إلى العمل، ومن المعرفة إلى الوجود. (د)
مهمة الإمام الذب عن البيضة، وإقامة الثغور، وتجهيز الجيوش، والدفاع عن دار الإسلام قبل أن تكون تطبيق الحدود وتقسيم الغنيمة والفيء؛ فالدفاع عن البلاد فرض على الحاكم والمحكوم دون الاستسلام للعدو أو الرضا بالاحتلال. (2) الدفاع عن الحريات في مواجهة القهر
قضيتنا الأساسية الثانية هي قهر الحريات، فسجوننا ملأى بالخصوم السياسيين وكأننا لا نتصور إلا فارسا واحدا في الميدان، هو الحاكم الزعيم الملهم، الرئيس المجاهد الأعظم، حتى كانت صورتنا في ذهن الغرب أن واحدا فقط لدينا هو الحر، هو الحاكم، أما الباقون فعبيد، في حين أن الناس كلهم في الغرب أحرار. ويمكن للفكر الإسلامي أن يساهم في الدفاع عن قضية الحريات في البلاد وأن يساعد في القضاء على شتى صنوف القهر والطغيان على النحو الآتي: (أ)
الشهادة: وهي أول ركن من أركان الإسلام بفعليها النفي في «لا إله» والإثبات في «إلا الله» تحريرا للوجدان من كل صنوف العبودية حتى لا ينتسب إلا لمبدأ واحد عام وشامل. وهي ليست فقط تمتمة بالشفتين، بل شهادة على العصر ورؤية لأحداثه وحكم على نظمه مع قياس المسافة بين الواقع والمثال، فلا يوجد موحد بالله يقبل الضيم والظلم والطغيان. (ب)
لا إكراه في الدين [البقرة: 256] وأن كل إنسان له عقل قادر على التمييز، وإرادة حرة قادرة على الاختيار، وأنه ليس لأحد سلطة على آخر حتى الرسول؛ فما عليه إلا البلاغ. (ج)
الحكم بيعة وعقد، شورى واختيار. وبالتالي لا يكون الحكم شرعيا إلا بناء على اختيار الناس وبيعتهم. يستحيل إذن القفز على السلطة أو الانقلاب عليها أو التسلط على رقاب الناس. (د)
المعارضة السياسية حق للأمة من «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر»، فالدين النصيحة، وإن أعظم شهادة كلمة حق في وجه إمام جائر، والساكت عن الحق شيطان أخرس. بل إن الدولة نفسها تقوم بالرقابة على نفسها من خلال وظيفة الحسبة، وهي الوظيفة الأساسية للحكومة الإسلامية، تراقب الأسواق والأسعار، وتكشف التلاعب والاحتكار وكل مظاهر الغش والفساد. (ه)
لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، فالحاكم هو القانون أو الشريعة، يلتزم بها الحاكم والمحكوم. ويجوز للأمة الخروج على الحاكم إن عصى القانون وأخل بالعقد، فتبطل البيعة. (3) العدالة الاجتماعية في مواجهة سوء توزيع الثروة
مما لا شك فيه أن الإسلام دين المساواة والعدالة الاجتماعية بنص القرآن. ومما لا شك فيه أيضا أن من قضايانا الأساسية سوء توزيع الثروة، والفروق الشاسعة بين الدخول. فمنا من يموت بطنة ومنا من يموت جوعا. والفكر الإسلامي قادر على دفع الناس، حكاما ومحكومين، على حل هذه القضية وإعادة توزيع الدخل بحيث يحقق أكبر قدر ممكن من المساواة والعدالة الاجتماعية على النحو الآتي: (أ)
نظرية الاستخلاف التي تجعل المال مال الله، وأن الإنسان مستخلف فيما أودعه الله بين يديه له حق التصرف والانتفاع والاستثمار، وليس له حق الاحتكار والاستغلال والاكتناز. ويجوز للإمام التدخل بالمصادرة والتأميم لصالح الجماعة. ووسائل الإنتاج التي تعم بها البلوى ملكية عامة مثل الماء والكلأ (الزراعة) والنار (الصناعة) والملح (التعدين). وكل ما في باطن الأرض من معادن (الركاز) ملك أيضا للأمة. (ب)
يرفض الإسلام تركيز المال في أيدي قلة من الأغنياء والمترفين؛ حتى لا تتم سيطرة رأس المال على الحياة الاجتماعية والسياسية، ويرى دورة رأس المال في المجتمع من خلال الزكاة، والمشاركة في الأموال، ورد فضول الأغنياء أي ما يزيد على قوام الحياة - من مأكل وملبس ومشرب - إلى الفقراء، وتكوين مجتمع ليس فيه إنسان واحد جائع، وإلا برئت ذمة الله منه. فيستحيل أن يكون في مجتمع
وبئر معطلة وقصر مشيد [الحج: 45]. (ج)
العمل وحده مصدر القيمة؛ فالمال لا يولد المال، بل الجهد والعرق والإنتاج هو الذي يولد المال. والعمل وحده مصدر الربح، وتفاوت الأجور طبقا لتفاوت الجهد. لذلك حرم الربا والإثراء على حساب الغير وحاجاته. الأرض لمن يفلحها، ومن استصلح أرضا فهي له، ومن أنتج فله نتاج عمله. (د)
إن رؤية الإسلام للدنيا واعتبارها مجرد معبر للآخرة تجعل ملكية الإنسان لعمله ولأثره ولسنته ولذكراه وليس لماله. وأفضل ميراث ما كان ميراث الحكمة والنبوة والفكر والقدوة. فالأعمال قيمة، والأشياء لا قيمة، وبالتالي يصحب الإنسان أعماله ويترك الأشياء، والأعمال الصالحة أبقى في الدنيا من الأموال المكدسة في البنوك الأجنبية من عوائد النفط وثروات البلاد المهربة.
3 (4) التنمية الشاملة في مواجهة التخلف الحضاري
والتخلف الحضاري قضية أساسية، بل إن كل القضايا الأخرى إنما هي تعبير عن أوضاع التخلف؛ مثل سوء توزيع الثروة، وقهر الحريات. والتنمية هنا لا تعني الاقتصاد وزيادة الإنتاج والدخول فحسب، في مقابل قلة الموارد أو سوء استخدامها وقلة الإنتاج، وضعف الدخل القومي، ونقص الخدمات، بل تعني التنمية الشاملة التي تتعرض لقضايا التعليم والصحة والخدمات العامة، والإسلام قادر على مواجهة مظاهر التخلف والمساهمة في تنمية المجتمع على النحو الآتي: (أ)
زراعة الأرض: فالأرض في القرآن هي الأرض الخضراء التي ينزل عليها الماء فتهتز وتربو وتنبت من كل زوج بهيج، وليست الأرض الصفراء الصحراء القاحلة مثل أراضينا الآن. فالسكن لا يكون إلا حيث الماء والزرع.
4
ومن استصلح أرضا فهي له، فالشيء قيمته فيما يبذل فيه الإنسان من جهد وعمل . والأرض لمن يفلحها في عرف الفقهاء لأن الملكية بمفردها ليست وظيفة أو مهنة دون عمل. والمزارعة والمؤاجرة تحتم الاشتراك في المحصول، أي في نتاج الأرض، فليس الفلاح مجرد أجير زراعي، بل هو مشارك في الإنتاج. (ب)
الصناعة: وتقوم الصناعة على استثمار المواد الأولية من باطن الأرض من خلال العمل وبالجهد الإنساني. وقيمة الإنتاج بمقدار الجهد المبذول دون أن يكون هناك «فائض قيمة» لصاحب رأس المال. وليست الصناعة فقط هي الصناعات الخفيفة مثل الصناعات الزراعية والملابس، بل هي الصناعات الثقيلة التي تقوم على الحديد الذي فيه بأس شديد ومنافع للناس. (ج)
الخدمات: لكل إنسان حق التعليم، وحق الرعاية الصحية، وحق السكن، وحق العمل، فالعلم فريضة، ورعاية الجسد واجب، والإيواء حق طبيعي، والعمل وسيلة الإنتاج. وقد كانت الحضارة الإسلامية نموذجا للعمران، من حيث بناء المدارس والمساكن والمصانع «والبيمارستانات» (المستشفيات). (د)
البيروقراطية والتسلطية وتشخيص المؤسسات كلها ظواهر للتخلف من حيث الإدارة. فالبيروقراطية قضاء على زمام المبادرة، وأخذ القرار، ونزع المسئولية من مواطن الإنتاج. والتسلطية تحكم وادعاء ملك. وتشخص المؤسسات هو تصور الإنسان بدلا من الغاية. والمجتمع الإسلامي يقوم على قضية يلتزم بها الجميع، ويكون مسئولا عنها مع إنكار الذات والسعي وراء تحقيق الهدف. (5) إثبات الهوية ضد الاغتراب
وقضية الهوية ما زالت بالنسبة لنا إحدى قضايانا الرئيسية ضد التغريب، نتفاوت فيها من منطقة إلى منطقة؛ تبعا لشدة الاستعمار وتغلغله في النفوس وما تبقى منه في العقول. برزت قضية الأصالة في مواجهة التحديث والاغتراب المرتبط به بحيث وضعت الأنا ذاتها في مواجهة الآخر. وتتفاوت المجتمعات الإسلامية فيما بينها في حدة المشكلة. فالمجتمعات التي داهمها الاستعمار كانت إحدى وسائل المقاومة فيها إثبات الهوية في مقابل التغاير، والأنا في مواجهة الآخر. ولكن بعد الاستقلال الوطني عاد المستعمر من خلال الثقافة وانتشر التغريب. استقلت البلاد ولكن احتلت الأذهان. وقد ولد الفعل - وهو التوجه نحو الآخر - رد فعل هو الرجوع إلى الأنا، كما هو الحال في الثورة الإسلامية في إيران، والحركة الإسلامية المعاصرة في شتى أنحاء العالم العربي والإسلامي . وقعنا في ازدواجية الثقافة وتخاصمت ثقافتان يكفر كل منهما الآخر. يرى كل منهما بقاءه وحياته في فناء الآخر وموته.
ويستطيع الفكر الإسلامي أن يعطي نموذجا دفاعا عن الهوية ضد الاغتراب على النحو الآتي: (أ)
تحريم القرآن موالاة الغير، والتقرب إلى الأعداء، والمصالحة معهم، والتودد إليهم، فغاية الأعداء هي القضاء على هوية الأنا وإيقاعها في التقليد والقضاء عليها؛ حتى لا يوجد إلا الآخر.
5 (ب)
رفض التقليد والتبعية في السلوك الفردي وفي العقائد من أي فرد كان، وإثبات المسئولية الفردية. فإيمان المقلد لا يجوز، والاعتذار بالتقليد غير مقبول يوم الحساب.
6 (ج)
لقد استطاع الفكر الإسلامي القديم تمثل الحضارات السابقة دون أن يفقد هويته بل قام بدور ناقد لها، ومطور ومكمل لإنجازاتها، فظل إسلاميا معاصرا، ذاتيا قادرا على التعامل مع الآخر، ممثلا للحضارات القومية كلها. (د)
بالرغم من انبهار الفكر الإسلامي الحديث وأخذه الغرب كنموذج للتحديث من حيث الصناعة والتعليم والنظم البرلمانية والدستورية، إلا أنه أيضا كان ناقدا للغرب في دهريته وإباحيته ودنيويته (الأفغاني، إقبال). ولم يفقد خصوصيته وهو في أوج التعامل معه بالرغم من الاستعمار أو بعد الاستقلال. (6) توحيد الأمة في مواجهة التجزئة
إذا كانت الهوية إثباتا للمركز والإبداع منه فإن التوحيد إثبات للمحيط وربطه بالمركز كمجال له. فالتوحيد ليس عقيدة فقط، بل هو حضارة وتاريخ، فرد وأمة. وقضية الوحدة، بالنسبة لنا، وحدة الأمة بدلا من التجزئة والتشتت والتبعثر إحدى القضايا الرئيسية في جيلنا بعد أن ضاعت منا وأصبحنا نسعى إليها من جديد. والفكر الإسلامي قادر على تحقيقها والمساهمة في إيجادها على النحو الآتي: (أ)
التوحيد عقيدة الإسلام الرئيسية، وتصوره النظري، وأساسه السلوكي أبرزها القرآن، وهي وحدة عقلية طبيعية أخلاقية، وهو مبدأ معرفي، أنطولوجي، سلوكي، جمالي، تاريخي.
7 (ب)
تنتج عنها وحدة الذات، ووحدة القول والعمل، ووحدة الفكر والوجدان، وبالتالي يستحيل النفاق، وازدواجية السلوك، وتتوحد الشخصية، وتتجند طاقاتها، فتعلن عن الحق بالقول وتشهد عليه بالعمل، وتبرهن عليه بالفكر، وتشعر به بالوجدان.
8 (ج)
لقد خرج التراث الإسلامي كله تعبيرا عن هذه الوحدة، وانطلقت علومه كلها من المركز وهو القرآن، تنسج نفسها كدوائر حوله، فظهر التوحيد متحققا في التراث والعلم والحضارة. (د)
ظهر التوحيد أيضا في وحدة التاريخ ووحدة الشعوب كلها. فقد استطاع الإسلام التوحيد بين القبائل، وصهر الشعوب، وأسقط كل حواجز اللغة ولون البشرة والطبقات الاجتماعية والقومية والعنصرية. وأصبح العمل الصالح مقياسا واحدا وشاملا للجميع.
9
رابعا: مدى قدرة الفكر الإسلامي على استشراف المستقبل الأفضل
وارتياد آفاقه، وبيان الطرق لتحويل الأفكار إلى واقع تطبيقي
لقد استطاع الفكر الإسلامي القديم أن يقوم بنفس الدور المناط به حاليا. فقد استطاع بقدراته الذاتية على الخلق والإبداع احتواء كل الحضارات القديمة وتمثلها. كما استطاع التوحيد الانتشار فوق الحضارتين القديمتين وفتح إمبراطوريتي الفرس والروم ووراثة العالم القديم كله. والإسلام اليوم في نفس الظروف وبنفس الإمكانيات، والتحدي الأعظم بالنسبة لنا هو: هل يمكن الوصول إلى نفس النتائج؟ إن الإسلام اليوم محاط بأكبر إمبراطوريتين حديثتين وأقوى دولتين عظميين، لم تنهكهما الحروب بعد. والعالم الإسلامي بموقعه الجغرافي الفريد وإمكانياته العالية من حيث المواد الأولية، والنفط، والثروات الطبيعية، والأسواق، والأيدي العاملة، والخبرات البشرية لا حد لها. ورصيدنا ضخم في العالم الثالث، حيث نكون قلب أفريقيا وآسيا، وأمريكا اللاتينية تشاركنا نفس الهموم والرغبة في الاستقلال والتحرر.
ولكن السؤال كيف يمكن تحقيق ذلك بالفعل؟ وما هي العقبات التي تحول دون ذلك؟ إن الإسلام يريد أن يخطط ليحقق وينتج، لا مجرد تأمل نظري (البوذية) أو شهادة من أجل التاريخ (المسيحية). ولا يوجد إلا ثلاثة طرق: (أ)
طريق التنظيمات السرية، الذي تتبعه بعض فصائل الحركة الإسلامية أو العلمانية (الماركسية)، وهو الطريق الذي اتبعته الثورات العربية والتي أدت إلى الانقلابات العسكرية. وهو طريق مسدود لأن التغير الاجتماعي والنهضة الشاملة أكثر بكثير من الانقلابات والاستيلاء على السلطة. فطالما حصلت اتجاهات على السلطة زاد التعتيم، وتوالت الهزائم، واتسع التخلف. وطالما لم تحصل تيارات على السلطة وكان لها أبلغ الأثر في الحياة الاجتماعية والسياسية والثقافية. وكيف يمكن الدعوة للإسلام سرا وهو ليس جريمة، ولسنا باطنيين؟ وكيف تنجح دعوة سرية في دولة تقوم أساسا على أجهزة الأمن، وعيونها في كل مكان؟ ولطالما جربنا ذلك فكانت النتيجة الصدام مع النظم القائمة ونكوص الحركة الإسلامية أو انتشارها على نحو مرضي راغب في الثأر والانتقام. فالدعوة السرية إذن، لكثير من الأسباب، طريق مسدود. (ب)
الخروج العلني، وعصيان النظم القائمة، والجهر بالعداء، وتكفير حكم البشر. والصدام المسلح أو على أقل تقدير المواجهة العنيدة. فأي نظام قائم لن يترك السلطة اختيارا، وأي مواجهة مدنية لجماعات دينية لن تصل إلى السلطة، بل سيتم حصارها وتكفيرها وعزلها، فتنفر الناس منها. والناس أقرب إلى طاعة أولي الأمر من الخروج عليهم. وماذا يجدي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإتيان بمنكر أعظم منه وضياع المعروف؟ وكيف يقبل التغيير من بيده السلطة وهو مدان مكفر مجرح سلفا؟ فالجهر بالعداء والدعوة إلى الخروج العلني أيضا طريق مسدود. (ج)
لم يبق إذن إلا طريق الشرعية، والعمل من خلال النظم القائمة، فلا الإسلام سر نخفيه ولا الدعوة له جريمة نخشاها. ليس المطلب الحصول على سلطة بدلا من السلطة القائمة، ولو أن ذلك مطلب شرعي لكل تيار في إطار الشرعية وبناء على اختيار الأمة بأسلوب ديموقراطي حر، بل الهدف توحيد فرق الأمة وعلى رأسها الحركة العلمانية القصيرة النظر الغير مرتبطة ارتباطا عضويا بتراث الأمة وتاريخها وثقافتها الوطنية، والحركة السلفية التي تؤثر الصورة على المضمون، والشعار على الواقع. فلا مضمون بلا صورة (الحركة العلمانية) ولا صورة بلا مضمون (الحركة السلفية). قد لا يكون للنظم القائمة مصلحة في التغيير، ومع ذلك فالتغيير أبقى عليها من الوقوف ضده، والتمسك بالإسلام كدرع يحمي مصالح الأمة خير من الوقوع في إسلام بلا أمة أو في أمة بلا إسلام. وأن يتم ذلك من خلال رؤية تاريخية، ومشروع طويل يتحقق في عدة أجيال. وليحكم اليوم من يشاء. فما ضاع خلال قرون طويلة لا يعود إلا بجهود عدة أجيال بناء على خطة محكمة ورؤية تاريخية يتمثل بعضها في الآتي: (1) مشروع إعادة بناء التراث
لما كان التراث ما زال حاضرا في وجدان الأمة، مؤثرا فيها، يمدها بقيمها ، ويحدد تصوراتها، ويوجه سلوكها، فإنه حتى الآن ما زال وحدة واحدة، كلا شاملا، خليطا متنافرا، به ما يضر (النزعات الصوفية والإشراقية والحرفية) أكثر مما ينفع (النزعات العقلانية العلمية الواقعية). فمهما حاولت الحركة العلمانية أن تدعو إلى العقلانية والعلمية والتقدم والحرية والديموقراطية فإن دعوتها ستصطدم لا محالة بميراث ألف عام من التصوف. والأشعرية أرسخ وأعمق في وجدان الناس من دعوات المعاصرين. وطالما أن هذا الموروث لم «يتصرف» بعد فإنه سيظل المنبع الأول الذي يغذي الحركات السلفية. مشروع إعادة بناء التراث إذن هو إقامة نهضة شاملة تلي حركة الإصلاح الديني في القرن الماضي وتطورها. وعلى هذا النحو نضمن التغيير من خلال الانقطاع حتى نأمن الردة (تركيا، بولندا). كما نأمن رد فعل الحركة السلفية والعودة الى المنبع بلا مصب وتقوية الجذور بلا ثمار. كما نأمن من إزدواجية ثقافة الأمة، وشق وحدة الصف، وضياع وحدة الثقافة الوطنية وتشتتنا بين التعليم الديني والتعليم الدنيوي.
فإذا كنا قد عشنا المحافظة الدينية (الأشعرية المزدوجة بالتصوف) خلال ألف عام، من القرن الخامس حتى الخامس عشر فإننا عشنا العقلانية التحررية (المعتزلة والفلاسفة) حوالي ثلاثمائة عام من القرن الثاني حتى القرن الخامس، وظل جناحا المحافظة والتقدم غير متعادلين في وجداننا القومي، فصرنا نتعثر أو نعرج وكأننا نسير على ساق واحدة، أو كالأعور يرى العالم بعين واحدة. كل المرجو الآن هو مجرد التحول من الأشعرية والتصوف إلى المعتزلة والفلاسفة من أجل ضغط الألف عام من المحافظة الدينية وزيادة الثلاثمائة عام من العقلانية التحررية حتى يأتي جيل تتعادل فيه الكفتان، وهنا يبدأ المجتمع في النهوض والسير على ساقين متساويتين، والنظر إلى العالم بعينين اثنتين. ويتم ذلك عن طريق إعادة الاختيار بين البدائل طبقا لظروف العصر: المجتمع المهزوم المتخلف، المغايرة لظروف القدماء، المجتمع المنتصر المتقدم الراغب في الدفاع عن العقيدة الجديدة ضد الهجمات عليها. التراث فيه نقل وعقل، جبر وحرية، تشبيه وتنزيه، إيمان وعمل، إمامة بالنص والتعيين، وإمامة بالبيعة والاختيار، إشراقية وعقلانية، تصوف وفقه، أثر ورأي. فإذا كان القدماء قد اختاروا الأول نظرا لظروفهم فإننا نختار الثاني نظرا لظروفنا، فالتنزيه لدينا أولى من التشبيه، والحرية دون الجبر، والعقل دون النقل، والعمل له الأولوية على الإيمان، والبيعة والاختيار لا النص والتعيين، عقل الفلاسفة دون إشراق الصوفية، ورأي الفقهاء والمصلحة لا النص والأثر ... إلخ . وهنا يصبح التراث دافعا على التقدم وليس معوقا له، جزءا من تاريخنا وحاضرنا واختيارا لمستقبلنا. ونكون مسئولين عنه ولسنا نقلة له، نطوره ولا نروج له «كالحمار يحمل أسفارا». ويكون للإسلام السياسي أو الاجتماعي أو الاقتصادي دلالة في حياتنا المعاصرة دون الإسلام الشعائري الفقهي المظهري، وأن يتحول هذا المشروع، مشروع إعادة بناء التراث إلى برامج علمية مفصلة في الجامعات ومعاهد البحث العلمي بل وفي أجهزة الإعلام كرافد أساسي في ثقافتنا الوطنية. ويدخل كجزء من برامج التعليم، ويكون لكل مادة تعليمية رؤية تراثية حتى العلوم الطبيعية والرياضية، الطب والكيمياء والصيدلة والحيوان والنبات، والهندسة والحساب والفلك والجبر والموسيقى حتى يحدث الإبداع دون النقل. ولا يكفي في ذلك نشر التراث وجمعه وعرضه وشرحه، بل استيعابه والوعي بمنطلقاته ودوافعه وبواعث خلقه.
1 (2) حرية الفكر
كي يكون للتراث الإسلامي دور في تطور فكر الأمة والدخول في تحديات عصرها؛ فإن ذلك لا يمكن أن يحدث إلا بحرية الفكر، فالصراعات قبل أن تكون اجتماعية سياسية اقتصادية هي صراعات فكرية بالأساس. وبالتالي يكون الفكر هو مرآة المجتمع، يقرأ فيه كل فرد مكوناته وواقعه. ولا يمكن أن تحدث رؤية أو يتحقق سلوك إلا بحرية الفكر، وإلا كان الصراع همجيا خالصا. وتتحقق حرية الفكر على النحو الآتي: (أ)
ضرورة اجتهادات الأمة كلها بجميع فرقها. فلا أحد يحتكر الحق ودونه الباطل. ثم يحدث حوار مفتوح بين جميع الفرق والاجتهادات؛ حتى يمكن أن تتوحد إن لم يكن على مستوى الأطر النظرية فعلى الأقل على مستوى البرامج العملية، فتعدد النظر ووحدة العمل أحد الدروس الفقهية القديمة. (ب)
عدم دخول الدولة كطرف في الحوار، تناصر فريقا دون فريق، تكفر فريقا وتعلن عن إيمان فريق. الدولة سلطة تنفيذية خالصة أما النظر والتشريع فمن شأن المفكرين أي فقهاء الأمة . (ج)
الحوار بين الحركة الإسلامية والحركة العلمانية، وهما الجناحان الرئيسيان في فكر الأمة. الأول يدافع عن الأصول والثاني يجتهد في الفروع، الأول يحرص على الجذور والثاني يقتطف الثمار. وطالما لم تتوحد الحركتان سيظل الشقاق في الأمة والخصام في وجدانها ويغيب الحوار، ويظهر العنف، والسباق نحو السلطة. (د)
حرية التفكير والتنظيم العلني الشرعي للحركة الإسلامية التي لاقت أشد صنوف العذاب والاضطهاد من الثورة العربية حتى أصبح بينهما ثأر لا يمحوه إلا الدم. فالفكر الإسلامي فكر شرعي، والتنظيم الاجتماعي القانوني للحركة الإسلامية تنظيم تاريخي، لم يغب مرة واحدة، بل إن الحكم الإسلامي حكم شرعي بنص القرآن وبضرورة التاريخ وبعد استيلاء الحركة العلمانية على مقاليد الحكم. (ه)
تكوين الجمعيات الثقافية والسياسية والاجتماعية المستقلة التي تبدأ بالحوار وتطرح جميع الموضوعات دون خوف أو رهبة، حتى ما يظنه الناس على أنه من المقدسات أو المحرمات (التابو) كالدين، والسلطة، والجنس. وطالما قامت النهضات بل ووحدة الأمم من خلال الجمعيات والمنتديات، ويصحب ذلك حرية الاستيراد والتصدير للكتب والمجلات الثقافية على الصعيد العربي والإسلامي. فلا بقاء لنظام يخشى حرية الكلمة. (3) المحافظة على مقاصد الشريعة
ليس الفكر الإسلامي فكرا صوريا يقوم على شعارات لا مضمون وراءها، ولكنه فكر يقوم على تحقيق أهداف إنسانية هي مقاصد الشريعة أي الضروريات الخمس: المحافظة على الحياة، والعقل، والدين، والعرض، والمال بإجماع فقهاء الأمة. فالحياة قيمة مطلقة، والمحافظة عليها واجب ديني، وفرض إلهي، ضد الجوع وسوء التغذية وحوادث الطريق وحروب الإبادة، والاغتيال والاعتقال. وكذلك المحافظة على العقل واجب شرعي، وبالتالي يستحيل الجهل، والتعتيم والكذب والتشويه والتمويه والخداع، فالعقل أساس التكليف. كما يستحيل إيقاع الناس في الأسطورة والغيب والخرافة والسحر والشعوذة. والمحافظة على الدين أيضا فريضة، والدين هنا أي الحقيقة والمبدأ العام الشامل الذي ينتسب إليه الإنسان بعيدا عن العنصرية والقومية والقبلية والطائفية، وبعيدا عن التردد والشك واللاأدرية وتغير القيم تبعا لتغير الظروف، وإيثار النفعية الخالصة والبراجماتية الرخيصة. والمحافظة على العرض تعني المحافظة على جميع القيم الأخلاقية والمبادئ الإنسانية العامة المتمثلة في عرض الإنسان رمز شرفه وكرامته وحرمته. فحرية الإنسان جزء من عرضه، وكرامته وشخصيته المستقلة وحياته الخاصة أيضا من عرضه بعيدا عن مظاهر الانحلال والتفسخ. أما المحافظة على المال فهو دفاع عن حياة الإنسان المادية وحقه في الكسب والرزق، والمأكل والمشرب والمسكن دون عدوان من أحد عليه، ينهب قوته، ويسرق نتاجه، ويبتز عرقه. هذا هو تطبيق الشريعة الإسلامية وليس مظاهر النفاق الديني عن طريق بناء المساجد دون المدارس، والنداء على الصلوات بمكبرات الصوت منافسة للأغاني الإباحية والتفسخ والانحلال ولخطب القادة والسياسيين وكأن كل ما في الأمر هو حرب الهواء، وإطالة اللحى، ولبس الجلباب، وارتداء الحجاب، فما الفائدة في ظاهر عامر والباطن خراب؟ ومما يساعد على ذلك التفسير «الموضوعي» للقرآن من خلال «المعجم المفهرس» لألفاظه حيث يمكن التعرف على النظرية العامة في الحياة أو العقل أو الدين أو المال أو أي موضوع آخر يمس مصالح الناس بدلا من تقطيعه وتجزيئه في التفسير «الطولي» للقرآن، سورة بعد سورة، وآية بعد آية. (4) الإصلاح في الأرض لا الإفساد فيها
ويمكن الاقتراب من مقاصد الشريعة وهي لب الفكر الإسلامي ليس بالضرورة عن طريق الحكم الإسلامي المباشر وتطبيق الحاكمية وأحكام الشريعة، بل عن طريق الإصلاح في الأرض والنهي عن الفساد، أي الأساس الوضعي للشريعة. وبالتالي تقترب الحركة العلمانية من الحركة الإسلامية، وتتجاوز الحركتان الشعارات إلى المضمون. فكل قضاء على مظاهر الفساد في المجتمع وإصلاح الأرض هو حكم شرعي. وبالتالي على المفكر أن يعرف تماما ما هي مظاهر الفساد الاجتماعي، وما هي مواطن الإصلاح. فالرشوة، والعمولات، والكسب الحرام، والسرقة، والنهب؛ كل ذلك مظاهر فساد وغش. وتقريب الفوارق بين الطبقات واحترام المال العام وصياغة سياسة في الأجور تتناسب مع طبيعة العمل وحده؛ كل ذلك إصلاح في الأرض. فتطوير الواقع نحو الصلاح والأصلح أفضل من هدمه كلية وإعادة بنائه من الصفر، وهي عملية لا يقدر عليها حتى الآلهة. فالإسلام تطوير للجاهلية، وإبقاء على ما لا يعارض العقل والمصلحة. مهمة المفكر الإسلامي أن يعرف جميع مشاكل عصره وأن يرصدها، ويحاول حلها كما كان الإسلام يفعل قبلا في «أسباب النزول» حتى كان الإسلام هو مجموع هذه الحلول للمشاكل المعروضة. لم ينزل القرآن دفعة واحدة بل نزل منجما طبقا للظروف والمشاكل حتى يعيه الناس.
2
النهي عن الفساد في الأرض والإصلاح فيها هو الطريق لنشر الإسلام والتعريف به. بل إن النهي عن الإفساد أهم من الإصلاح لأن الإفساد فساد في الأرض وقضاء على فعل الإصلاح. فالإصلاح تدعيم للدين والإفساد تبديل له.
3 (5) استقلال المؤسسات الدينية
إن صورة الدين في أذهان العامة إنما تأتي عادة من «رجال» الدين، والمؤسسات الدينية. فإذا رأتها لا تقوم بواجبها الديني والوطني، الشرعي والاجتماعي، فإنها تفقد الثقة بها، وتفقد احترامها. إذ تجدها مرة تحلل شيئا إرضاء للحاكم ثم تحرمه مرة أخرى إرضاء للحاكم الآخر. لا تقول الحق بل تبغي رضا الحاكم؛ خوفا من رهبته، أو طمعا في جاهه، أو بحثا عن ماله، حتى أصبح رجال الدين «فقهاء السلطان» أو «فقهاء الحيض والنفاس» أي إنهم أدوات طيعة في يد الحكام أو لا يتعرضون لصالح الأمة ولا يوجهون فكرهم إلى قضاياها الرئيسية. واجب الدولة إذن هو رفع يدها عن المؤسسات الدينية، وإثبات استقلالها الذي كان يدعمه نظام الوقف؛ حتى لا يرتبط رجل الدين في معاشه بالوظيفة أو السلطان. ويمكن ذلك على النحو التالي: (أ)
دور الإمام الرائد في القرية أو في الحي، حيث يتصل بالجمهور خمس مرات يوميا على الأقل يثقون فيه إذا رأوا فيه قدوة وجرأة، وشرفا ونزاهة، مستعدون لطاعته إذا أمرهم بالمعروف ونهاهم عن المنكر، أكثر من أي إطار سياسي أو «كادر» حزبي لا يلتف حوله إلا أنصاره أو الراغبون في المنفعة. (ب)
دور المسجد أيضا في القرية والحي، حيث يلتقي الناس خمس مرات يوميا على الأقل، فهو مكان عامر باستمرار دون ما دعاية. وأكثر عمرانا من أي مركز حزبي أو خلية سياسية. يجد الناس فيه التقوى والصلاح، الخير والمنفعة، الإيمان والعمل. وهو مكان للعلم دون ما حاجة إلى مدارس وتكاليف إضافية وبرامج محو أمية التي غالبا ما تفشل. (ج)
والجماهير موجودة، ومستعدة للعمل ، يسهل تجنيدها. هي الرصيد الطبيعي لأية حركة اجتماعية، حركة تلقائية في مركزها المسجد وفي وسطه الإمام. فلا شكوى إذن من «سلبية» الجماهير التي تعلنها الأحزاب السياسية أو من «غياب» الجماهير، وانعدام ثقلها في الساحة. الجماهير موجودة. وهي جماهير المصلين ، تقع العروش إذا تحركت وتهتز التيجان إذا ما تجندت. (د)
والعقائد أيضا لها دور في تحريك الجماهير وإعطائها تصورات للعالم وموجهات للسلوك، والتوحيد قادر على تحويل جماهير المصلين إلى جند الله يفتحون البلاد، ويحررون الأراضي ويستعيدون مجد الإسلام، ويستردون كرامة المسلمين. والتراث الإسلامي ما زال في قلوبهم يمدهم ببعد حضاري، والتاريخ الإسلامي يعطيهم نماذج وقدوة وسير أبطال، وكأن التاريخ نفسه يعيد سيرته الأولى من جديد. (6) إبطال مظاهر النفاق الديني من أجهزة الإعلام وجهاز الدولة
إن ما يثير الناس والحركات الإسلامية والعلمانية هو وضع «الدين» في جهاز الدولة عامة وفي «أجهزة الإعلام» عنوان الدولة وصورتها خاصة. فكل دولة ترفع شعار الإسلام، تضع في دستورها أن دين الدولة هو الإسلام بعد معارك عدة تشق فيها الوحدة الوطنية وتعتبرها وسيلة لإضفاء الشرعية على الحكام. كثيرا ما يتسمى الحاكم «أمير المؤمنين» أو «الرئيس المؤمن» طلبا للطاعة وتأكيدا لشرعية الحكم. يؤذن للصلاة في أجهزة الإعلام من خلال الفواصل الموسيقية والبرامج الراقصة. ويحتفل بالموالد النبوية وبأعياد الأولياء، ويعظم القرآن ككتاب محلى بالذهب ومجلد بالقطيفة ومزركش بالفن العربي كتحفة فنية على الموائد والنوافذ والعربات الخاصة. وتبني الدولة المساجد، وتنشئ دور حفظ القرآن، وتقيم الجوائز والمسابقات الدينية، وتحتفل على رأس الطرق الصوفية، وتتشدق بتطبيق الشريعة الإسلامية وبتقنين بنودها. وتركز على الدين كمادة إجبارية في التعليم، وتفرض المواد الدينية على الجامعات بدعوى الإصلاح الجامعي، وتفتح أقسام الدراسات الإسلامية ليس حبا في الإسلام بل لمناهضة الأقسام العلمانية ومقاومة المذاهب الهدامة. وينتسب الحكام إلى بني هاشم أو إلى العلويين أو إلى شريف أو نقيب وكأن النبوة والحكم إرث من السلف إلى الخلف. وتطال الذقون، وتهف السراويل، وتطقطق المسابح، ويفوح البخور، وتباع المساوك، وتغسل الكعبة، وترسل الكسوة حبا في آل البيت أو قدوة للرسول!
خامسا: خاتمة
مهما نظرنا في الفكر الإسلامي، ومهما بينا الإجراءات العملية التي يمكن اتخاذها لتحقيق أهدافه؛ فإن ذلك كله ينتهي في حقيقة الأمر إلى تكرار أشياء معروفة، قيلت سلفا عشرات المرات في مجلدات ومجلدات دون إضافة جديد. فنظريات الإسلام السياسية والاقتصادية والاجتماعية معروفة، وليس المهم إعادة عرضها، تبرئة للذمة، وتعويضا عن مآسي العصر، بل المهم هو بيان المسافة بينها وبين الواقع، وتغيير هذا الواقع بالفعل حتى يقترب من المثال. وإن تغيير الواقع خطوة واحدة نحو العقلانية أو الطبيعية أو الحرية أو الإنسان أو المساواة أو التقدم؛ لأقرب إلى الإسلام من عشرات النظريات فيها ومئات الآراء حولها.
صحيح أن طريق التغيير من الدعاة، والتنظيمات الشعبية، والمؤسسات التعليمية والثقافية طويل ولكن لا بديل عنه. إنما التغيير الأقصر والأنجع هو التغيير عن طريق السلطة كعامل مساعد. وإن ثورة القيادة لا تقل أهمية عن ثورة الجماهير. ولكن، لما كانت السلطة السياسية تعبيرا عن السلطة الاجتماعية والسلطة الاقتصادية كان السؤال: هل تبغي السلطة السياسية إجراء أي تغيير بالفعل يقوم على مبادئ الإسلام وقيمه، أم أنها ستكون أولى الضحايا؟ وهنا يدور الفكر الإسلامي في حلقة مفرغة بين مبادئه النظرية وتحقيقاته العملية. فأصحاب السلطة هم ضحايا التغيير، وهم الذين بيدهم مقاليد الأمور. فهل يقضي الإنسان على نفسه، ويتخلى السلطان عن سلطانه وصاحب رأس المال عن ماله، والظالم عن ظلمه، والقاهر عن سطوته، والساحر عن سحره، والصوفي عن طريقته، والمترئس عن رئاسته؟ هل يتخلى عن ذلك طوعا عن طريق التوبة والانقلاب الداخلي، أم كراهية عن طريقة ثورة الجماهير عليه، أو إعدادا للناس وعرضا للأمور، وطلبا للتحدي، ومعطيا للبرهان؟ لا مفر من الحوار المفتوح أمام الناس بين أصحاب الحقوق وأدعيائها. ومن ثم لا مناص من حرية الفكر الذي بدونه لا يجهر بحق، ولا يقال صدق، ولماذا الخوف والعيش في ظلام؟ وبماذا تنفع الدنيا؟ أليس المال والبنون زينة الحياة الدنيا والآخرة خير وأبقى؟
يوم لا ينفع مال ولا بنون * إلا من أتى الله بقلب سليم [الشعراء: 88-89].
هل يمكن تحليل «الشخصية العربية الإسلامية والمصير العربي»
من منظور إقليمي وفي إطار نظري غربي استشراقي؟
أولا: مقدمة: المراجعة كقراءة1
يصعب على الإنسان أن يعرض ويحلل عملا لأخ وصديق مثل د. هشام جعيط مؤلف «الشخصية العربية الإسلامية والمصير العربي»، وأحد المفكرين العرب البارزين ، والأساتذة الجامعيين المرموقين من القطر العربي التونسي الشقيق. ولولا تقديري له وإعجابي بشجاعته الفكرية لما أقدمت على هذا العرض التحليلي الناقد لعمله الفكري. إنما هي الرغبة في الحوار بين المفكرين العرب ولإقامة الجسور بين الأقطار العربية الشقيقة، وعقد أواصر الصلة بين جناحي العالم العربي في المشرق والمغرب هي التي دفعتني لهذا العرض. ومما يزيدني حماسا أن هذا أول مقال لي بعد انقطاع عدة سنوات عن كتابة المقالات والمشاركة الفكرية العامة؛ إيثارا للأعمال العلمية الطويلة الأمد وإكمالا لمشروع «التراث والتجديد». هذا العرض إذن يحتل شرفا مزدوجا للمؤلف والمراجع على حد سواء، فكلانا ينتسب إلى جيل واحد يعاني من مأساة مشتركة ويحاول جاهدا إيجاد حلول قد تتباين بتباين المناهج والمذاهب الفكرية والمواقف الحضارية، وإن كانت تتوحد حول الموضوع والأزمة.
وكل مراجعة ليست فقط عرضا موضوعيا لموضوعات الكتاب، وهو ما يستحيل عمليا؛ نظرا للصلة بين القارئ والمقروء، بل هي قراءة جديدة من موقع مخالف، رغبة في الحوار وإثراء للموضوع. ليست المراجعة بالضرورة الدخول في المشاكل نفسها التي يعرضها المؤلف، بل رؤية مشكلات أخرى من خلالها توسيعا للموضوع وإكمالا لنظرته. المراجعة تقوم على طرح عدة تساؤلات أساسية، وتحاول إعادة دراسة الأشياء ذاتها التي درسها المؤلف من إطار نظري مخالف. وهذا هو الفرق بين العرض التكراري والعرض الخلاق، الأول للاتفاق ولا يقول جديدا والثاني للخلاف والحوار، الأول للمديح والتقريظ والثاني للنقد والإكمال. فكل قراءة لنص على هذا النحو الثاني هو خلق لنص جديد. وتدعيما للقراءة الجديدة للنصوص الأولى؛ أوردت كثيرا منها كنماذج ممثلة لتيار عام دون إيثار أو افتعال، قد لا يراها المؤلف أفضل النصوص، وقد يراها مقطوعة السياق، وقد يراها معارضة بنصوص أخرى، ومع ذلك فإنها وإن كان يبدو بعضها أحيانا على هذا النحو ، إلا أن مجموعها يمثل روحا عامة هي موضوع الحوار.
ثانيا: الموضوع والمنهج
موضوع الكتاب هو «الشخصية العربية الإسلامية والمصير العربي» والعنوان على هذا النحو ليس ترجمة حرفية للعنوان الأصلي باللغة الفرنسية، وإن كان أفضل الترجمات؛ فصفة «العربي الإسلامي» في الأصل الفرنسي للشخصية والمصير على حد سواء، وليس للشخصية وحدها، واختصار الصفة إلى «العربي» للمصير، كما أن «المصير» اختيار لأحد جوانب لفظ
Devenir
الذي يفيد معنى المسار والصيرورة أكثر مما يفيد معنى المصير
Destinée
ومع ذلك يظل العنوان المقترح في الترجمة العربية معبرا من حيث جماليات اللغة عن معنى العنوان الأصلي وإن لم يكن مطابقا له مطابقة حرفية تامة. والترجمة المعنوية في النهاية أحد ضروب النقل. وبالرغم من الجهد المبذول في الترجمة ومراجعة المؤلف تدقيقا وتنقيحا إلا أن الأسلوب العربي ما زالت تغلب عليه بعض مظاهر العجمة والتي تبدو أحيانا في النقل الصوتي الذي لا لزوم له مثل «الكلاسيكي»، «المجدلن»، «الميثي»
1
أو في الترجمات العربية مثل «الجنسية المثلية» ترجمة للشذوذ الجنسي أو «الأستاذية» ترجمة للمدرسة.
2
كما أن بعض الهوامش تتضمن إحالات إلى ترجمات عربية مع ذكر المراجع الأصلية،
3
وأخرى تتضمن عبارات ناقصة وجملا غير مفيدة من حيث التركيب اللغوي.
4
كما تغيب عن الترجمة فهارس بأسماء الأعلام أو الموضوعات أو الأماكن مما يسهل على الباحث والقارئ معا التعرف على العناصر الرئيسية المكونة للكتاب.
ويضم الكتاب في الأغلب مجموعة من المقالات كتبت في ظروف مختلفة، وتم العثور لها على بنية عامة تضمها في موضوعات مختلفة ست؛ هي: (1) الشخصية العربية الإسلامية. (2) نحو مصير مشترك. (3) جدلية الاستمرار والتغير. (4) الإصلاح والتجديد في الدين. (5) الإنسان العربي المسلم. (6) تنظيم المجتمع الدولة. وواضح أنه يصعب إيجاد بنية متسقة تعبر عن موضوع الكتاب. فالموضوعان الأول والثاني يعبران عن العنوان الرئيسي للكتاب. والموضوعان الثالث والرابع يتناولان موضوع الأصالة والمعاصرة، القديم والجديد. والموضوعان الخامس والسادس يعرضان لموضوع الفرد والدولة. ومع ذلك تظل الموضوعات الستة متفرقة ينقصها التماسك الداخلي، وتغيب عنها البنية الواحدة التي تكشف عن المكونات الداخلية للشخصية العربية الإسلامية في التاريخ. ونظرا لهذا الغياب للبنية الواحدة للموضوع؛ فقد بدا عدم تناسب كمي بين الموضوعات الستة خاصة الموضوع الثالث «جدلية الاستمرار والتغير» والذي لا يتجاوز ثماني صفحات في مقابل الموضوعات الخمسة الأخرى التي بلغ كل منها حوالي أربعين صفحة، كما أنه أقرب إلى الموضوع الثاني «نحو مصير مشترك» إذ يتناول موضوعي الشخصية والمصير أولا، والبحث عن أيديولوجيا ثانيا، وقد تم تناولهما من قبل في الموضوع الثاني «نحو مصير مشترك».
ويبدو أن صعوبة البحث ومظاهر الاضطراب فيه إنما تنشأ من عدم استقرار الباحث على علم معين يضع موضوعه فيه، علم الاجتماع أو علم التاريخ أو علم السياسة أو علوم الثقافة والحضارة. لقد حاول الباحث الجمع بين كل هذه العلوم وجعل الدراسة أقرب إلى علم الاجتماع التاريخي أو علم التاريخ الاجتماعي، مما جعله يستقر أخيرا على نهج التحليل الاجتماعي للتاريخ.
5
ومع ذلك فالمنهج كثيرا ما يتوارى أمام كثير من الأحكام المسبقة؛ مما جعل الكتاب يبعد عن العلم ويقرب من الأيديولوجيا، ويكشف عن موقف سياسي غير معلن تحت ستار أكاديمي معلن. ظهر الكتاب كله وكأنه خلط بين الموضوعية العلمية والرغبة في التأكيد على الذات، بين الوصف المتجرد والبحث عن الهوية. كما يكشف الكتاب أحيانا عن خلط بين وصف ما هو كائن والدعوة لما ينبغي أن يكون، مستعملا عبارات «يجب»، «لا بد».
6
وأخيرا يقع الكتاب في كثير من التعميمات والأحكام الجائرة تتعلق بالأخلاق الإسلامية وبالعالم المعاصر يأباها البحث العلمي الرصين.
7
ثالثا: الأقسام الرئيسية
بعد مقدمة قصيرة (ص5-11) يتحدث فيها الباحث عن عمله كمغامرة، رابطا إياه بتجاربه الحية الفردية والاجتماعية، كاشفا عن بعض أحكامه المسبقة فيما يخص التمايز بين المشرق العربي والمغرب العربي، ومظهرا منذ البداية الإطار الثقافي الغربي والاستشراقي الذي يستند عليه تحليل موضوع الكتاب، وعارضا موجزا لأقسامه. ويضم الكتاب ستة موضوعات رئيسية:
الموضوع الأول «الشخصية العربية الإسلامية» (ص15-51) وهو أيضا العنوان الرئيسي للكتاب. ويشمل ثلاثة محاور: الأول «الإسلام والعروبة» (ص17-25)، ويعطي نموذج تونس المعاصرة وجدلية الانتماء الإسلامي والعروبة ثم يؤصل ذلك في المحور الثاني «القضية التاريخية» (ص26 -32) ابتداء من الإسلام المبكر ومرورا بالعالمية العربية الإسلامية في العصر الأول حتى انشقاق العروبة عن الإسلام وتكوين مفهوم الشخصية الأيديولوجية الثقافية. ويركز المحور الثالث «الشخصية التاريخية والقومية» (33-51) ابتداء من الصراع بين الشخصيتين في أوروبا، ثم انتقالا إلى أصالة التطور في الميدان العربي، ومطبقا إياها على القومية الحديثة في المغرب، ثم محاولا التعميم من جديد على التاريخ والوعي القومي، ومنتهيا بحكم عام على الازدواجية العربية.
والموضوع الثاني «نحو مصير مشترك» (ص55-98) وهو العنوان الثاني الرئيسي في الكتاب «المصير العربي». ويدور أيضا حول محاور ثلاثة: الأول «الأيديولوجيا القومية العربية» (ص57-69) ممثلة أولا في البعث، عرضا لفكر ميشيل عفلق ثم نقدا له، وثانيا في الناصرية. والمحور الثاني «في سبيل التوحيد» (ص70-81) عن الوحدة العربية دفاعا عن بعدها التاريخي والثقافي وضرورتها للتنمية الاقتصادية وأهميتها في التربية الأخلاقية والبشرية. والمحور الثالث «المقاومات المستقبلية» (ص82-98) يعرض لصعوبات المشروع الوحدوي ولحالته الراهنة بين التجمعات الإقليمية وطموحات الوحدة الكاملة.
والموضوع الثالث «جدلية الاستمرار والتغير» (ص101-108) وهو أصغر الأجزاء يتناول الموضوعات السابقة نفسها، الشخصية والمصير، والبحث عن الأيديولوجيا.
والموضوع الرابع «الإصلاح والتجديد في الدين» (ص111-142) يقوم على محورين: الأول «الإصلاح» (ص111-120) ويتركز حول شروط العلمانية ونقد الاتجاه الإصلاحي والتحديثي، ويعرض للعلمنة والتشريعية وتحرير الأخلاقية والصلة بين الدين والدولة. والمحور الثاني «تجديد الرؤية للإيمان» (ص121-142) يبين تاريخية الدين والتفسير الفلسفي للإسلام والقراءة الميتافيزيقية للقرآن. ثم يحاول أن يعبر عن روح الإسلام ويحدد مصير مؤسسه!
والموضوع الخامس «الإنسان العربي المسلم» (ص145-181) يقوم على محورين: الأول التفرقة بين «النقد الذاتي والاستنقاصات الذاتية» (ص145-154)، الأول مجرد نقد ذاتي بينما الثاني استنقاص استعماري للشخصية النفسية كما حدث في المغرب العربي. والمحور الثاني «الشخصية الأساسية» (ص155-181) وهو تطبيق على الشخصية التونسية ومؤسساتها الأولية ابتداء من نهاية العصر الاستعماري حتى التغيرات الراهنة، ثم تعميم التجربة التونسية على الشخصية العربية.
والموضوع السادس والأخير، «تنظيم المجتمع والدولة» (ص185-220) ويقوم أيضا على محورين: الأول «إصلاح البنى» (ص187-195) متناولا الفكر الاقتصادي الجديد والتخلف، ومميزا بين المنظور الفوري والمنظور البعيد، ومقترحا بعض الإصلاحات المحسوسة. والمحور الثاني «استراتيجية المستقبل» (ص196-220) يضع نموذجا يقوم على البنية الاجتماعية العميقة والحركة الاجتماعية المعاصرة، واصفا الدولة البرجوازية ووضع الطبقة المفكرة، ومحددا معالم الديموقراطية والحرية.
وينتهي الكتاب بخاتمة قصيرة (ص223-224) مؤكدا بعض الأحكام الرئيسية في الكتاب حول الشخصية العربية الإسلامية كمفهوم ثقافي وهوية تاريخية أساسية تقوم على رهان تنبؤي ببعث تقليد روحي مستقل، ومؤكدا حكمه المسبق حول استحالة تجديد هذه الشخصية سياسيا، عروبيا أو إسلاميا، وأن القضية الرئيسية هي الحداثة في إطار كوني.
ومع ذلك يتخلل الكتاب بأقسامه الست، موضوعان رئيسيان بين السطور؛ وهما: أولا مصر والعروبة والإسلام، وثانيا الثقافة الغربية والاستشراق. وهما أيضا الموضوعان الرئيسيان اللذان سيصحبان موضوعي الحوار الرئيسيين بين المراجع والمؤلف؛ توثيقا لأواصر الصداقة، وعقدا للحوار بين المفكرين العرب في المشرق والمغرب.
رابعا: مصر وتونس
ومنذ المقدمة الأولى، يكشف الكتاب عن هوية صاحبه كمفكر تونسي مغربي عربي إسلامي في دوائر أربع متداخلة، وهي دوائر ثقافية حقيقية، دون تنكر لإحداها؛ مرة باسم تونس المنفصلة عن مصر، ومرة ثانية باسم المغرب العربي المنفصل عن المشرق العربي، ومرة ثالثة باسم العروبة المجتثة الجذور عن الإسلام، ومرة رابعة باسم الوحدة الإسلامية التي لا ترتكن على أسس جغرافية أو لغوية. فالنموذج التونسي مائل في الأذهان، ونظرا لمشاركته نماذج مشابهة في أقطار عربية أخرى في المشرق والمغرب على السواء؛ فإنه يتحول إلى نموذج عربي إسلامي، تعميما للجزء على الكل، وانتقالا من الخاص إلى العام دون مجافاة في الحكم أو تعسف في الإطلاق.
كما يعتمد الكتاب على تحليل تجارب حية عاشها المؤلف باعتباره مفكرا وأستاذا، عالما ومواطنا، عربيا وإسلاميا، وطنيا وقوميا. وبالتالي فهو وصف لتجارب حية يشاركه فيها معظم المفكرين العرب الذين ينتسبون إلى هذا الجيل، وإن كان المؤلف يمتاز عنهم بثقافة واسعة وتحليل يقوم على الغوص في الأعماق. وتصل التجربة الحية إلى حد القلق الوجودي الذي يكشف عن أزمة صاحبه، أزمة الفرد والمجتمع، أزمة الحضارة والتاريخ. ولكن أحيانا تطغى الأزمة النفسية على صواب النظرة ويصبح المؤلف شاهدا على عصره أكثر منه عالما يدرس موضوعه. وبالتالي يتحول الدارس إلى مدروس، وتنقلب الذات إلى موضوع.
وهذا هو السبب في انقلاب الموازين وتخلخل النسب بين الدوائر الأربع التي يضع المؤلف نفسه في مركزها: تونس، والمغرب، والعروبة، والإسلام. ويضع لكل منها نقيضا شعوريا ولاشعوريا: تونس في مقابل مصر، والمغرب العربي متمايزا عن المشرق العربي، والعروبة في مواجهة الإسلام، والإسلام يتميع في النهاية لأنه ليس مع أحد أو في مواجهة أحد، فيمحي في إطار الثقافة الغربية والاستشراق.
ويعترف المؤلف صراحة بأن التجربة التونسية هي منطلقه الأول، ولكن أحيانا تتغلب المحلية التونسية على الشمول المغربي، كما تتغلب الخصوصية المغربية فيما بعد على الشمول العربي، وكما يتغلب الواقع العربي فيما بعد على الشمول الإسلامي.
1
ويريد المؤلف اللحاق بالمفكرين المغاربة والوقوف معهم على نفس المستوى من الشهرة والجرأة الفكرية خاصة مفكرهم الأول عبد الله العروي والذي يشير إليه المؤلف باستمرار، مستشهدا به ومؤيدا له دون نقد أو مراجعة حتى يكون «عروي تونس» مسقطا من حسابه اجتهادات باقي الإخوة المغاربة في الرباط وفاس ومراكش والدار البيضاء.
2
ولكن الأخطر من ذلك هو وضع تونس في مقابل مصر، وأن إبراز الأولى ومساهماتها في التجارب الوطنية والإبداعات الفكرية إنما يكون على حساب الثانية؛ إغماطا لحقها وتنكرا لتاريخها العربي والإسلامي. فالكم الهائل من الأحكام الجائرة على مصر إبرازا لخصوصيتها وتمايزها عن العالم العربي ومحليتها وعجزها تثير في الأذهان «البورقيبية» في الحقبة الناصرية.
3
فبينما نجد إشادة واحدة بإمكانية تفاهم المصري مع المغربي؛ وبالتالي إمكانية وجود بعد عربي للمصري، إلا أن ذلك في مقابل عدم استطاعة تفاهم الفرنسي مع الإسباني، أي بالمقارنة بالغرب وليس له أية دلالة عربية.
4
إلا أن معظم الإشارات إلى مصر إنما تأتي للتأكيد على محليتها وعدم استطاعة تواصلها مع محيطها العربي والإسلامي، بل وتجزئها إلى لهجات محلية داخلية في القاهرة والإسكندرية والصعيد. وبالأولى تتمايز اللهجة المصرية عن اللهجة التونسية وعن باقي اللهجات في الأقطار العربية، وتنتقل المحلية من مستوى اللغة إلى مستوى الإنتاج الأدبي المنغمس في الواقع المصري والذي لا يستطيع القارئ العربي الوصول إليه! ثم تتجاوز المحلية الأدبية ذاتها إلى محلية الوعي القومي والإرادة الوطنية و«المعرفة» في تاريخ مصر الوطني في عصرها الليبرالي.
5
ويتجاوز الأمر إلى بناء الشخصية المصرية: قهر السلطة وعجز الناس، تسلط الحكام وضعف الأهالي منذ غزو عمرو بن العاص لمصر. وإن ضعف الناس في مصر في بناء الذات القومية لمشابه لضعف البربر ولضعف أهالي الشام والعراق!
6
وينتهي الأمر كله إلى إنكار زعامة مصر؛ نظرا لعجزها ورغبتها في الهيمنة والسيطرة وحب الذات والنرجسية، مع أن هناك مركزين للزعامة: مصر والأندلس، المشرق والمغرب. وقد نقل الفاطميون زعامتهم إلى مصر وضم الأيوبيون الشام، وسرعان ما طرد العثمانيون مصر منها! كما أعطى الإسلام مصر منذ فتحها زعامة تاريخية. فزعامة مصر عرض تاريخي ثقافي، وليست مكونا جوهريا في الشخصية المصرية، بل إن الحركات التحررية الوطنية المعاصرة لم يكن لها مركز واحد في مصر، بل مراكز متعددة في تونس والجزائر، وكلها كيانات محددة، ولا تمثل تيارا عربيا واحدا يخترقها جميعا تتوالد منه الثورات.
7
وهذه هي «البورقيبية» بعينها إبان الحقبة الناصرية والمد الثوري العربي القومي، بما تمثله من عداء لمصر ولزعامتها ولقيادتها حركة التحرر العربي، ورفضها الاعتراف بإسرائيل، ودعوة تونس لذلك وانشقاقها عن الصف العربي، معتبرة نفسها أوروبية أكثر منها عربية، وفرنسية أكثر منها إسلامية. وهو ما يعترف به المؤلف نفسه من وصف لبورقيبة في ذلك الوقت والذي تأثر بما لاقاه من استخفاف أثناء إقامته بمصر، وحذر من محاولاتها للهيمنة، وتبنيه لفكرة الأمة المحدودة على النموذج الأوروبي، وتأثره ببعض الأفكار الاستشراقية بالنسبة لفوضى البربر والبدو، وضرورة الانطلاق إلى البناء الوطني والقومي المحدود للدولة الحديثة! لقد بقي بورقيبة مبهورا بأوروبا ولا سيما بفرنسا مشمئزا في قرارة نفسه من الفكرة العربية ومن المشرق الذي يعتبره مغايرا لعالمه، فالعروبة بالنسبة له صيغة رجعية مغرقة في التقاليد واللاعقلانية وأن القومية العربية ما هي إلا ديماغوجيا وفورة!
8
خامسا: المشرق العربي والمغرب العربي
ويتبنى المؤلف هذا المفهوم الخاطئ الذي سار في أقطار المغرب العربي خاصة في المغرب وتونس ثم في ليبيا والجزائر عن خصوصية المغرب العربي في مقابل المشرق العربي، فالمغرب عقلاني والمشرق صوفي، المغرب إخباري والمشرق إنشائي، المغرب علمي والمشرق ديني، المغرب أوروبي والمشرق آسيوي. ويبلغ الغلو بالخصوصية إلى أنها تتحول من حد التمايز إلى درجة القطيعة بين جناحي العالم العربي استنادا إلى «القطيعة الإبستمولوجية» الواردة من ثقافتي الحي اللاتيني واعتزازا وترويجا لباشلار
Bachelard ، وتصل الأحكام أحيانا إلى درجة من القطيعة بحيث تبدو مشابهة لأحكام المؤرخين الأوروبيين الذين وقعوا في أتون العنصرية والشعوبية في القرن الماضي. والأمثلة كثيرة: فالمغرب يستحوذ عليه التبحر في كافة القدرات، في حين أن في المشرق تطمس السيولة اللفظية كل جهد علمي! المغرب يسوده التبحر العلمي حتى ولو كان جافا، والمشرق فكر مجدب متمذهب وغير متمكن من المعرفة! المشرق غارق في الطائفية التي لا يعرفها المغرب.
1
التجديد كله من المغرب حتى ولو كان متمزقا لأن المشرق غير قادر عليه. لقد توقف تقدم المشرق إلى حد التقهقر؛ نظرا لتسلط الدولة ولعدم تطعيم الفكر في المشرق بالثقافة الغربية. أما المغرب فقد استطاع وحده حل مشكلة الأصالة والمعاصرة حين غرق المشرق في القديم وانقطع عن الحداثة. وكيف ينهض الشباب العربي وهو يرى نفسه في المرآة المشوهة للمشرق العربي؟ إلى هذا الحد تبلغ تعسفية الأحكام والتي تصل إلى حد التجريح.
2
وبالرغم من اعتراف المؤلف بأن الثقافة المشتركة بين المشرق العربي والمغرب العربي هي واقع ومعطى نهائي لا يرد إلا أن هذه الثقافة المشتركة لا تعني أي توحيد للمصير السياسي أو الكيان الحضاري. فإذا ما تبنى المشرق العربي فكرة القومية العربية توحيدا لأقطاره؛ فإنها لا تعني بالنسبة للمغرب العربي إلا إطارا ثقافيا عاما لا يمس وجدانها السياسي والقومي. فإذا كانت العروبة بالنسبة للمشرق العربي ثقافة وسياسة، فإنها بالنسبة إلى المغرب العربي مجرد ثقافة!
3
ويستشهد المؤلف في تأكيده على هذا التمايز الذي يتحول إلى تقابل ثم تضاد وتناقض بين جناحي العالم العربي في المشرق والغرب بوصف هيجل لصلة المغرب العربي بالغرب في مقابل صلة المشرق العربي بالشرق إبان المد الاستعماري الأوروبي في القرن الماضي وتحويل أوروبا كلها مركزا تدور حولها الأطراف في آسيا وأفريقيا والأمريكتين. وعلى هذا النحو يكون مصير المغرب العربي هو الغرب في حين أن اتجاه المشرق العربي نحو الشرق، وهي نفس أطروحة المستعمر الفرنسي في احتلاله لشمال أفريقيا ابتداء من الجزائر منذ قرن ونصف. بل إن الدولة العثمانية ذاتها هي أوروبا الشرقية محررة من سيطرة الشرق!
4
فالمغرب هو المغرب الغربي وليس المغرب العربي بفارق نقطة واحدة تحول العين إلى غين. وعلى هذا النحو يكون المشرق العربي في مقابل المغرب العربي وليس في مواجهة الغرب المسيحي، ويتحول التناقض الثانوي - على فرض التسليم به جدلا - بين جناحي العالم العربي في المشرق والمغرب إلى تناقض رئيسي. ويتحول التناقض الرئيسي بين المغرب العربي والغرب الاستعماري إلى تناقض ثانوي، بل إلى وئام جغرافي وثقافي وحضاري!
5
سادسا: العروبة وفلسطين
ويظل استدلال المؤلف مستمرا من التقابل بين مصر وتونس إلى التضاد بين المشرق العربي والمغرب العربي إلى أن يصل مداه في إنكار القومية العربية وجعل العروبة من اختراع المشرق العربي دون المغرب العربي، ثم التسليم بالمشروع الصهيوني. فالفكرة العروبية إنما نشأت في المشرق لتشييد أمة مجددة في المشرق، وليس في المغرب. والثقافة العربية المعاصرة تتصف بضحالة مؤلمة كما وكيفا فاقدة للنفس والتقنية! إنتاجها الأدبي تسوده السذاجة وتغيب عنه الطلاوة ويعكس عالما ساذجا. بل إن الطبقة الاجتماعية ليست عاملا موحدا بين العرب. فالبرجوازي في بغداد غيره في القاهرة، والبرجوازي في تونس غيره في الجزائر، وكأن التجزئة تستعصي على شتى الاختيارات الأيديولوجية الفكرية المثالية أو الماركسية الاجتماعية، وكأن الاختيار الوحيد هو الانتقائية المنهجية التي تبرز عناصر التجزئة وتخفي عناصر الوحدة والتي لا تنفي شرعية انتقائية مضادة تبرز عناصر الوحدة وتخفي عناصر التجزئة. ويكون التحدي إذن هو اكتشاف جدلية الشرعيتين، التجزئة والوحدة. التجزئة وحدها هي الرصيد الوجداني، هي هذا الجدار الباطني الذي يقف حاجزا بين البدوي في تونس ونظيره في الأردن أو العراق، فالأول جرفه الحضر تحت وطأة هجرة العمالة، والثاني حافظ على بدويته الأولى وكأن هناك عنصرا عربيا نقيا أصيل السمات وهي نظرة عرقية تنافي العروبة التي ترتكز على اللغة والثقافة والحضارة والتاريخ المشترك والتراث القديم.
1
وينكر المؤلف على الأمة العربية حاليا أي إبداع كما أنكر من قبل تاريخها. فالشقة الآن بعيدة بين أدنى مؤرخ أو فيلسوف قديم، وبين أكبر مؤرخ أو فيلسوف حديث في الوضع الذي عليه العالم العربي الآن، وكأن أجيالنا الحالية ليست وراء فجر النهضة الحديثة ولم تقم بحركات التحرر ولم تنشئ الدول الحديثة، وكأنها لا تشارك في هموم مشتركة ومصالح مشتركة، وكأنها لا تواجه أعداء مشتركين. وإذا لم يحقق الشعب العربي حتى الآن وحدة النضال إلا أنه يمارس نضال الوحدة.
2
بل إن المؤلف ينكر على العرب أخذهم اليابان نموذجا للتحديث، وهو ما كان يدعو له الأفغاني من قبل، ورواد النهضة العربية منذ القرن الماضي؛ نظرا لأن العرب لا يملكون ما تملكه اليابان، وهو مشروع التصنيع الذي سبق العرب بقرن، وعدم تعرضه للغزو الاستعماري كما تعرض العرب، وعدم تمسكه بإرادة سياسية أدت إلى هزيمته واقتصاره على نمو اقتصادي، على خلاف العرب الذين يحرصون على إرادة سياسية تجعل لهم مكانا في التاريخ!
3
إلى هذا الحد وصل حد الإقلال من العرب، تاريخا وحاضرا، مع أن مصر بدأت نهضتها الأولى مع اليابان، وكان الإمبراطور ميجي يعتبر محمد علي رائدا له في بناء الدولة الحديثة. وإن العملاق الاقتصادي والقزم السياسي ليس مثالا يحتذى به. كما أن الإرادة السياسية المستقلة والتأثير في مجرى التاريخ ليس وهما. وينتهي المؤلف إلى إنكار الأمة العربية إنكارا تاما واقعا وتاريخا ومصيرا، وكأن نقد أيديولوجيات القومية العربية حتى مع صوابه هو دليل على عدم وجود أمة عربية وليس فقط دليلا على ضعف الصياغات الأيديولوجية الحالية.
4
وبالرغم من أن فلسطين جزء رئيسي من تاريخ العرب وركيزة وجدانهم المعاصر؛ إلا أنها لا تحظى من المؤلف إلا بفقرات محدودة وكأنها هامشية المكان لا تعادل في أهميتها التاريخ الأوروبي بالنسبة للشخصية العربية الإسلامية والمصير العربي. ويدعو المؤلف قراءه العرب إلى التأمل في الوجاهة الأخلاقية والتاريخية للمشروع الصهيوني! فالشعب اليهودي يعود إلى أرض كانت له من قبل؛ وبالتالي فهو يدافع عن كيان مهدد في كيانه، يجمع بين الماضي والحاضر، بين التاريخ والروح. لذلك تعاطف معه الغرب لاشتراكه معه في هذا التاريخ وهذه الروحانية وخذل العرب في فهمهم للقضية؛ نظرا لتركيزهم على الصلة بين الصهيونية والاستعمار! ويمكن نقض المشروع الصهيوني بطبيعة الحال بما يقابله من مشروع عربي إسلامي، حجة بحجة، شرعيتان تتنازعان أرضا واحدة،
5
وبالرغم من أن المؤلف يرفض الحلول الاستسلامية إلا أنه أيضا يرفض الحلول الثورية التي ترى في تثوير العالم العربي تحريرا لفلسطين، ويحكم عليه بأنه حل تهربي طوباوي. ويقترح ترك القضية التي يسميها المؤلف «الإسرائيلية» وليس الفلسطينية لآفاق المستقبل، بعد أن عجز الحاضر عن إيجاد حل لها!
6
سابعا: التاريخ الأوروبي والثقافة الغربية
إذا كان التقابل الذي يصنعه المؤلف بين مصر وتونس، المشرق العربي والمغرب العربي، والعروبة وفلسطين يمثل مواقف فكرية وسياسية فإن اعتبار التاريخ الأوروبي والثقافة الغربية كإطار نظري لفهم الشخصية العربية الإسلامية والمصير العربي تتم الإحالة إليه باستمرار هو نوع من التغريب النظري والمنهجي صاحب المؤلف من أول الكتاب إلى آخره. بل إن استعمال التاريخ الغربي والثقافة الغربية كإطار مرجعي تتم الإحالة إليه باستمرار إنما يكشف عن موقف حضاري أبعد وأعمق، وهو فهم الأنا أو الذات بالإحالة المستمرة إلى الآخر أو الغير، وكأن الأنا أو الذات ليس لها إطارها النظري الخاص ولا يمكن فهمها بتكويناتها الداخلية أو باستعمال الإطار النظري الخاص بها من داخل حضارتها التي تكونت فيها الحضارة الإسلامية، وكأن الأنا لا تعكس نفسها إلا في مرآة الآخر، لا تعي ذاتها بذاتها كأنا إلا من خلال الآخر كمقياس ومعيار للحكم. إن من شروط التعريف هو عدم تعريف الشيء المجهول بشيء آخر مجهول بل تعريفه بشيء معلوم، وإن القارئ العربي الإسلامي الذي يريد معرفة ذاته وشخصيته العربية الإسلامية ومصيره العربي لا يستطيع أن يعلمها بالذهاب إلى البوربون والهبسبورغ والبلغار والسلاف والبروتستانت والكاثوليك وأوغسطين ومردال وسنسناتوس
Cincinatus ، بل الإحالة إلى الخلفاء الراشدين والأمويين والعباسيين والخلافة العثمانية. وإن القارئ العربي لا يفهم ذاته وشخصيته بالإحالة إلى سارتر وميرلو بونتي وفرويد واشبنجلر، بل بالإحالة إلى الأشعري والغزالي والباقلاني وابن سينا والرازي وابن عربي. ألا يستطيع القارئ الذي لا يعرف كل هذا التاريخ الأوروبي والثقافة الغربية أن يفهم ذاته وشخصيته؟ وإذا كان المثقفون العرب لا يعلمون هذا الإطار المرجعي الغربي بالدرجة الكافية فالأولى ألا تعرف جماهير القراء ذلك. بل إن القارئ العربي الذي يعرف التاريخ الأوروبي والثقافة الغربية لقادر أيضا أن يعرف ذاته بالإحالة إلى مكوناته الشخصية ومخزوناتها النفسية ورواسبها القديمة. لا يقع المؤلف فقط في نوع من التغريب يعترف به بادئ ذي بدء.
1
بل إن التغريب لديه يتحول إلى نوع من الاغتراب، اغتراب الأنا في الآخر، مع أن من مكونات الشخصية العربية الإسلامية كما فهمها القدماء فهم الآخر من خلال الأنا، وإعادة بناء حضارات الآخر يونانية ورومانية وفارسية وعبرانية ابتداء من حضارة الأنا. بل لقد استمر ذلك عند رواد النهضة العربية الحديثة وفي مقدمتهم الطهطاوي سواء في «مناهج الألباب» أو في «تخليص الإبريز»، وهم الرواد الذين أسقطهم المؤلف من الحساب كما أسقط التراث القديم، بعد أن اختار التاريخ الأوروبي والثقافة الغربية كأساس نظري لفهم الشخصية العربية الإسلامية والمصير العربي وكإطار مرجعي تتم الإحالة إليه باستمرار.
والأمثلة على ذلك كثيرة. والنصوص تشهد على أن القارئ العربي لا يفهم شخصيته العربية الإسلامية بالإحالة إلى مكونات الشخصية القومية في الغرب. ألا يمكن فهم الشخصية العربية الإسلامية دون الإحالة إلى الجرمان والإسبان والسلاف والمجر والبلغار؟ هل لا بد لفهم الشخصية العربية الإسلامية من المرور عبر الإمبراطورية الرومانية والغاليين في بلاد غاليا والبروطون في مقاطعة بريطانيا والسلتيبار في أسبانيا، والظاهرة الجرمانية والعصر النيوليتي ومملكة شرلمان والحرب بين ورثة لويس الزاهد؟ هل لا بد من تحليل العناصر المكونة لظهور الشخصية القومية الأوروبية لفهم الشخصية الإسلامية العربية دون التحقق من صدق المفهوم أولا ثم البحث عن مكوناته الداخلية في التراث القديم بدلا من الإحالة إلى تاريخ الغرب وثقافته، النزعة الكسمبوليتية للأسر الأميرية في أوروبا والملك أصيل بلاد هانوفر وأسرة هابسبورغ وأسرة بوربون وعرش اسبانيا وعرش إنكلترا؟
2
وتتجاوز الإحالة من مجرد منطق للتقريب والفهم إلى منطق للحكم. فتكوين الشخصية القومية في الغرب يصبح هو المعيار الذي يقاس عليه تكوين الشخصية العربية الإسلامية، وكأن هناك نمطا واحدا فريدا هو النمط الأوروبي عليه تقاس كل النماذج لدى الشعوب الأخرى. فهو النموذج العالمي الذي انتشر في أوروبا الغربية والشرقية والوسطى منذ القرن الماضي، عصر القوميات حتى هذا القرن مرتبطا بزوال الاستعمار وكأنه لم يستمر في الصهيونية باعتبارها من بقايا عصر القوميات في القرن الماضي.
3
وتأخذ فرنسا مكانا مرموقا في التاريخ الأوروبي كما أخذت تونس المكانة نفسها في العالم العربي. فالثورة الفرنسية نموذج الشخصية القومية بعلمها المثلث الألوان وعيدها ونشيدها الوطني لفترة طويلة بشهادة بيجي وميرلو بونتي! وهي كذلك بما أعطت لها من تضامن قومي وولاء وطني للأمة وليس لشخص الملك وبطابعها الديمقراطي وسيادة الأمة. بل إن الأمر تجاوز حد الهوامش الشارحة للتاريخ الفرنسي، شرح فرنسا بفرنسا والمستشارين البروتستانت لآخر ملوك الغالوا وتعاليم ريشيليو وعدله وتسامح لويس الرابع عشر، كل ذلك لفهم الشخصية العربية الإسلامية والمصير العربي!
4
ثم يأتي النموذج الألماني والأنجلوسكسوني والسوفياتي والأمريكي إلا النموذج الإسلامي العربي. فالنموذج الألماني يعتمد على التراب والعرق بجانب اللغة والدين. ويعتمد النموذج الأنجلوسكسوني الأمريكي على المجال الاقتصادي الواسع المنفتح على كل الطاقات البناءة. ويقوم النموذج السوفياتي على قوة الأيديولوجية الماركسية كرسالة كونية توحيدية قادرة على التجنيد القومي للشعوب.
5
فالمؤلف يعرف تاريخ نشأة القوميات وتطورها في الغرب والشرق ويحيل الشخصية الإسلامية العربية إليها دون تعميق لجذور هذه الشخصية في التوحيد الذي قام بالدور نفسه الذي قامت به الأيديولوجية الماركسية بالنسبة لانصهار القوميات.
وتكثر الإحالات إلى المؤلفين الغربيين سواء من العصور الوسطى أو الحديثة مثل سنسناتوس وأوريجان وسيريل وأوغسطين وماركس وفرويد واشبنجلر ومردال وسارتر في صراعه مع الرومان بالرغم مما في وجه المقارنة من تعسف وحكم جائر على الحسين شهيدا ووصفه بأنه كان متعطشا للحكم! وتوصف مصر المسيحية بأثر أوريجان وسيريل ومجمع خلقيدونية. ويتساوى في الثقافة العربية في المغرب العربي القديس أوغسطين وابن خلدون وخير الدين باشا! والتاريخ باعتباره قاعدة أساسية للوعي القومي يعتمد بالضرورة على شهادة لاشبنجلر بالضرورة حتى ولو كان التشبيه أعجميا مثل «زاوية المدخن!». واقتران النظر بالعمل في الإسلام لا يوجد فقط عند الرسول محمد بل أيضا عند ماركس. وتحليل الشعور العربي الإسلامي لا يتم إلا بالإحالة إلى فرويد في «مستقبل وهم» وإلى ميرلو بونتي حتى ولو كان الاستشهاد صعب الفهم ركيك العبارة، وهو الذي يشعر المؤلف نحوه بقرب كبير، ووصف الخلق عن طريق سارتر والعالم العربي عن طريق مردال.
6
بل إن الحديث عن أيديولوجية البعث يتم أيضا عن طريق الإحالة إلى الثقافة الغربية؛ سواء في إنكاره للمادية التاريخية، أو في تأثر ميشيل عفلق برونبرغ والهيجلية والشخصانية.
7
حتى الخاتمة لم تسلم من استشهاد بمالرو ونقض له فيما يتعلق بطي صفحة التاريخ بطي صفحة اللاهوت.
8
إن تعريف الشيء الغامض بشيء آخر أكثر غموضا لا يتفق مع قواعد التعريف، وبالتالي فإن إحالة مكونات الشعور العربي الإسلامي الحالي إلى مكونات الشعور الغربي هي إحالة للشيء الغامض إلى شيء أكثر غموضا، مع أن الإحالة إلى التجارب المعاشة أو إلى المخزون التراثي الثقافي يساعد على التوضيح المطلوب.
وتبدو مظاهر التغريب في دراسة الشخصية العربية الإسلامية؛ سواء في الأحكام العامة أو في النظرة إلى التاريخ والعصور أو في بعض المصطلحات أو في المراجع العامة. فمن الأحكام العامة ما يقوله المؤلف من أن تقهقر المشرق العربي وتقدم المغرب العربي ثقافيا - مع التسليم جدلا بذلك - إنما يرجع إلى أن المشرق العربي لم ينهل من باع الثقافة الغربية قدر ما نهل المغرب العربي مما أغرق المشرق في القديم وقطعه عن الحداثة، في حين أن المغرب العربي قدم حلولا لمشكلة التقليد والحداثة مازجا بين الاثنين. ومثل هذا الحكم يقوم على وضع معكوس، وذلك لانفتاح المشرق على الغرب منذ القرن الماضي بلا حدود، كما أن انفتاحه كان متنوعا وليس فقط على الثقافة الفرنسية. والإغراق في القديم سمة عامة في المشرق والمغرب على حد سواء. بل إن المزاوجة بين القديم والجديد أكثر وضوحا في المشرق على ما وضح في حركات الإصلاح منه في المغرب الذي تحولت فيه المزاوجة إلى ازدواجية وصراع بين الجديد الذي مثلته ثقافة المستعمر وبين القديم الذي مثله التراث دفاعا عن الهوية الوطنية. وما يقدمه المغرب العربي في هذا العصر يشابه ما قدمه الشوام في العصر الماضي، يصبح البعض منه قريبا من الشقشقات اللفظية التي تردد جوانب عديدة من ثقافات الحي اللاتيني. أما بالنسبة للتاريخ والعصور فإن المؤلف يعتبر الإسلام جزءا من تاريخ العصر الوسيط، وكأنه يتبنى الغرب كمقياس لكل الحضارات، فتاريخ الغرب وعصوره الوسطى والحديثة والمعاصرة هي تاريخ لكل الحضارات وعصورها. فالمؤلف يقع ضحية المركزية الأوروبية والتي تجعل ما سواها مجرد أطراف. يتحدث المؤلف عن إسلام العصر الوسيط والإسلام التركي المتوسطي، وعن بنية الدولة في البلاد العربية خلال العصر الوسيط والحديث. وفي العصور الحديثة يتبنى المؤلف التاريخ الميلادي ويسقط من حسابه التاريخ الهجري، فيتحدث عن ظهور الإسلام في القرن السابع الميلادي، وعن السلطان خليفة المسلمين في القرن السادس عشر.
9
ويستعمل المؤلف مصطلح البرجوازيات، والبرجوازية الصغرى نظرا لاستقرار المصطلح وشيوعه في الفكر العربي المعاصر. أما بالنسبة إلى المراجع فإن نسبة المراجع العربية إلى المراجع الأجنبية كنسبة 1 : 7. فمن بين 162 مرجعا هناك 21 مرجعا عربيا في مقابل 141 مرجعا باللغات الأجنبية منها 17 مرجعا لمفكرين عرب، 47 مرجعا لمستشرقين أوروبيين، وبالتالي نسبة الاستشراق العربي إلى الاستشراق الأوروبي 1 : 3. ولا تدخل في المراجع مؤلفات الطهطاوي والأفغاني ومحمد عبده وقاسم أمين في دراسة الشخصية العربية الإسلامية!
إن أهم نقد يمكن إذن توجيهه إلى الكتاب هو استعمال التاريخ الغربي والثقافة الغربية كإطار مرجعي تتم الإحالة إليه باستمرار لفهم الشخصية العربية الإسلامية والمصير العربي وهو «التغريب» كأساس نظري لتحليل الموضوع. ويمكن إرجاع ذلك إلى سببين رئيسيين. الأول طول العلاقة بين الأخوة المثقفين في المغرب العربي والثقافة الأوروبية خاصة الفرنسية منها جعل الغرب يظهر في ثقافته كإطار مرجعي حتمي تتم الإحالة إليه باستمرار كما هو الحال قديما وحديثا لدى الإخوة الشوام خاصة في لبنان. والثاني أن الكتاب أصلا مكتوب باللغة الفرنسية ويهدف إلى مخاطبة الجمهور الفرنسي، وبالتالي أصبحت الإحالة إلى الثقافة الغربية ضرورية حتى يمكن للقارئ الغربي عامة والفرنسي خاصة أن يفهم الشخصية العربية الإسلامية والمصير العربي بسهولة ويسر وبالإحالة المستمرة إلى تاريخه وثقافته. ولو كان الكتاب أصلا باللغة العربية للجمهور العربي لما ظهرت هذه الإحالة المستمرة إلى الثقافة الغربية ولتم استعواضها بالثقافة العربية الإسلامية التي يعرفها القارئ العربي والتي يسهل إحالة الموضوعات إليها تقريبا للأفهام.
ثامنا: حضور الاستشراق وغياب التراث
الإسلامي
ولا يحلل المؤلف التراث الإسلامي مباشرة، ولكن من خلال الاستشراق الأوروبي فيعتمد على فلهاوزن كمؤرخ للمسلمين في أسبانيا وبالنسبة إلى معركة بواتييه. كما يحاور جب
Gibb
رأيه بأن أسباب الانهيار هو جمود الفكر الديني. ويرفض تطبيق تصور كاردينار على الغرب في الوقت الحاضر وبالأولى على العالم العربي. كما يظهر المنهج التاريخي الاستشراقي في الجزء الخامس عن الإنسان العربي المسلم في محوره الأول «نقد ذاتي واستنقاصات ذاتية» حيث يتم فيه الخلط بين الإسلام والتاريخ. ويتم الاستشهاد بجاك بيرك في عبارة إيريك
Eric weil
فيما يتعلق باستحالة الفصل بين الشخصية والمصير التاريخي.
1
فالكتاب استشراقي من نوع استشراق جرينباوم ودراساته على الشخصية العربية الإسلامية في التاريخ محددا عوامل السقوط ومسار الانهيار بما يعني ذلك من عدوانية تجاه الموضوع وحقد عليه وتكريس للتجزئة واستئصاله عن ثقافته الخاصة وإحالته إلى الغرب كإطار مرجعي عام، الإسلام مع الغرب، والترك مع المغول، وفارس والصين والهند مع فرنسا وإنكلترا وألمانيا بلا تمايز ثقافي أو حضاري.
وبالرغم من أن الكتاب يتناول الشخصية العربية الإسلامية إلا أنه يميل إلى العروبة أكثر مما يميل إلى الإسلام، وهو تصور أهل الشام أكثر مما هو تصور أهل المغرب الذي اتحد فيه الإسلام بالوطنية دون تدحل عنصر متوسط هو القومية. وينتقي المؤلف من التاريخ ما يؤيد موقفه، ويقرؤه قراءة عربية محدثة لا إسلامية قديمة، وبالتالي يلتقي المؤلف مع الاستشراق من جديد الذي يتحدث عن العالم العربي في مقابل العالم الإسلامي تكريسا للتجزئة وضربا للعرب بالمسلمين وللمسلمين بالعرب، وإذكاء للنعرة العنصرية ، وربطا للثقافة بالعرق وليس بالدين. وسواء كان الإسلام أو العروبة فكلاهما يمثل مشروعا للهيمنة على الأمم المفتوحة وفرضا لوحدة تأباها الشعوب! وبالتالي ينتهي الكتاب إلى إنكار العروبة أولا ثم الإسلام ثانيا، ولا تبقى إلا الشوفينية الإقليمية الضيقة والثقافة الغربية المهيمنة.
2
أما التراث الإسلامي فإنه غائب تماما، وهو المكون الرئيسي في الشخصية العربية الإسلامية. المصادر الأولى معدومة. والعلوم الإسلامية النقلية أو العقلية أو العقلية النقلية غائبة. ثلاث آيات قرآنية مذكورة، إحداها خاطئة وكأنها هي الأخرى مترجمة عن الفرنسية: «ولا تظنن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا!»
3
بالرغم من اعترافه بأن القرآن قلب الإسلام. ويدعو المؤلف إلى العلمانية ويرفض محاولات اكتشاف العقل والطبيعة في القرآن. ويحاول دفع تهمة الاستشراق القائل بتشويه القرآن لروايات التوراة باللجوء إلى العطاء الأسطوري المشترك للضمير الديني اعتمادا على استشراق آخر.
4
أما الحركة الإصلاحية وروادها الأوائل مثل الأفغاني ومحمد عبده ورشيد رضا وحسن البنا وروادها لدى الحركات الإسلامية المعاصرة؛ فإنها لا تكاد تذكر. والمرات القليلة التي أشار فيها المؤلف إلى محمد عبده كلها نقدية رافضة؛ مثل نقد الاتجاه الأصولي الذي يرى أن هناك المجتمع الإسلامي والعالم الحديث في سياق واقعنا وجها لوجه، ونقد اعتبار أن للدين دورا محركا في كافة الميادين وباعثا على العقلانية والعلم!
5
وفي النهاية، وبالرغم من كل شيء، فإن الكتاب إنما يكشف عن شجاعة صاحبه ورغبة في «اقتحام هذه المغامرة» تحديا لمعجزة الإنجاز، «ذلك العجز الذي كان يبدو لي سمة للفكر التونسي بل المفكر المغربي بصفة أعم» (ص5) وبالتالي فالمؤلف يبحث له عن دور مسار للمفكرين المغاربة. ولكنه في النهاية يكشف عن تيار بأكمله، تيار المتغربين من علماء الاجتماع والتاريخ في مقابل تيار وطني قومي آخر أكثر التحاما بالتراث الإسلامي وأكثر ارتباطا بالمشرق العربي دونما ذكر للأسماء، ومع ذلك يكفيه فخرا محاولته اكتشاف بعدي الإنسان والتاريخ الغائبين في وعينا القومي.
ليس القصد من هذا العرض تصيد الأخطاء أو الهجوم على الإخوة المغاربة؛ فهم زملاء، وكثير منهم أصدقاء. إنما القصد الدخول في حوار مع أحد المفكرين اللامعين في القطر التونسي الشقيق، وأداء لواجب ثقافي ووطني للأخ الصديق هشام جعيط الذي بدا لي من خلال كتابه المثير «الشخصية العربية الإسلامية والمصير العربي» تونسي القطر، مغربي الإقليم، غربي الثقافة.
صفحة غير معروفة