4 (4)
وهكذا تحدد بناء الشعور الثلاثي الأوروبي بين الصورية والمادية والشعور وظل يتأرجح منهجيا بينها، يجرب كل منها مرة ثم يعاود التجربة من جديد حتى لم يعد يستقر له حال، وأصيب بداء التردد والحيرة، وتحول ذلك إلى بحث دائب مستمر دون الوصول إلى شيء مما أدى في النهاية إلى الوقوع في النسبية والشك. واتسم الوعي الأوروبي بطابع التجريب المستمر، والحيرة والقلق والتردد وعدم الثبات والاستقرار مما جعل الجديد فيه باعثا دائما ضد القديم ومطلبا ملحا ضد الشائع. يصيبه الملل باستمرار، ويرنو إلى الآخر والبعيد، ويتطلع إلى المستقبل دائما. غاب المركز الذي يبعث على الاستقرار والثبات، وضاع أي غطاء نظري مسبق وأي تصور دائم يضمن للإنسان الحد الأدنى من اليقين النظري. وقد يمر على المركز مرات عدة ويعتبره أحد نقاط المحيط. (5)
لقد مر الغرب بمراحله كلها، ولم يعد له رؤية مستقبلية محددة للمرحلة المقبلة التي هو في الطريق إليها. لقد مر بعصر الإحياء في القرن الرابع عشر، إحياء الآداب القديمة عند بوكاتشيو وبترارك فلعله يجد في أدب القدماء ما يبحث عنه من تأكيد للإنسان وقدرته أمام الآلهة في صراعه مع الطبيعة وفي الإيمان بحريته. ثم مر بالإصلاح الديني في الخامس عشر حتى يمكنه البداية من جديد من الجذور الأولى للوعي في الدين بعد الأدب. وقد حصل على ما ينبغي من تأكيد لحرية المسيحي في الفعل والسلوك وفي التفسير والفهم، والصلة المباشرة بين الإنسان والله دون توسط، والإيمان في اللحظة دون ما حاجة إلى التاريخ المقدس أو تاريخ الكنيسة، وإثبات الكتاب المقدس وحده كمصدر للإيمان دون التراث الكنسي، والتأكيد على القومية واللغة الوطنية، ودحض جميع مظاهر النفاق والاتجار بالدين. ثم مر بعصر النهضة بعد أن نجح الإصلاح، وبدأ يضع الإنسان محور الكون، يتوجه بعقله نحو الموروث القديم ناقدا لنظرياته، ومحررا وجدانه من تقاليده وآثاره، يتجه بإرادته وحسه نحو الطبيعية يستلهم منها معارف جديدة يستطيع بها أن يسيطر على قوانينها، ويتنبأ بمسارها. وظهر المذهب الإنساني عند أراسم ليؤكد الإنسان كقيمة مستقلة مطلقة بدنا وعقلا. ثم أتت العقلانية في القرن السابع عشر لتعلن أن العقل له سلطان على كل شيء، وأنه منهج قادر على أن يصل إلى حقائق الأشياء وأن الطبيعة عاقلة، والله عقل، والعالم كله يحكمه قانون عقلي، والحياة كلها تنتظم طبقا لقوانين عقلية. بعدها بدأ التنوير في القرن الثامن عشر، ليفجر العقل في النظم الاجتماعية والسياسية، ويتحول من حرية الفرد إلى حرية المجتمع، ومن حرية السلوك إلى الديموقراطية في النظم السياسية، وإقامة المجتمع الجديد على أساس من الحرية والإخاء والمساواة. وكانت من إنجازات التنوير الثورة الفرنسية والثورة الأمريكية. ثم أتى التصنيع، والانقلاب الصناعي في القرن التاسع عشر، وانتصارات العلم الطبيعي، وتحويل المجتمع المستنير إلى مجتمع صناعي، يسيطر فيه العقل على الطبيعة، ويستثمر فيه الإنسان بإرادته ثروتها. وتحققت المكتشفات العلمية وتمتع الإنسان بنتائج جهده الطويل منذ الإحياء حتى العلم. بل إن الوعي الأوروبي من وجهة نظره استطاع الخروج خارج حدوده بحثا عن الأسواق، والأيدي العاملة والمواد الأولية، والنقاط الاستراتيجية للسيطرة على العالم. وأخيرا وصل الوعي الأوروبي إلى الثورة الصناعية الثانية، ثورة التكنولوجيا في القرن العشرين. وأصبح قادرا على حساب الماضي والحاضر والمستقبل بالحاسبات الآلية، وغزو الفضاء واستثمار قاع المحيطات، والاستشعار عن بعد لما في باطن الأرض، ولم يعد يقف أمامه أي عائق أو مستحيل.
5 (6)
وفي أوج انتصار ثورة القرن العشرين بدأت أزمة الحاضر تتكشف سواء على المستوى المادي في نقد المجتمع الصناعي أو على المستوى المعنوي في نقد الحضارة الحديثة. وقامت الفلسفات الاجتماعية والسياسية والأخلاقية المعاصرة على هذا النقد المزدوج مثل فلسفات هوسرل وبرجسون وشيلر ورسل وتوينبي. ولم تخل العلوم الإنسانية مثل الاجتماع والأنثروبولوجيا وعلم النفس الاجتماعي وعلوم الحضارة من تناول هذا الموضوع بالتحليل والوصف. فقد سادت الآلة على الحياة، وتحول الإنسان إلى آلة، وأصبح شيئا يماثل الآلة، يتكرر، لا فردية له، يساوي قدر إنتاجه من البضائع، لا حياة له ولا كيان. ضعف العقل بعد اعتماده المستمر على الحاسبات الآلية حتى ضاعت منه قدراته على الخلق والإبداع بعد أن تحول عمل العقل إلى عمل الآلة. بل وضاع أخذ زمام المبادرة بعد أن تحولت إرادة القرار إلى حاسبات القرار. عم الاستغلال، استغلال الأفراد والجماعات والشعوب، وتراكم رأس المال لدى الشركات المتعددة الأجناس التي حلت محل الاستعمار القديم. كثرت الحروب الناتجة عن الصناعات العسكرية في أيدي الشركات الصناعية الكبرى. ضاعت الحقيقة بسبب توجيه أجهزة الإعلام للرأي العام، وصياغة حقائق أخرى بديلة نمطية حتى سلب الإنسان حرية التفكير، والقدرة على الحكم، والاختيار الحر بين البدائل حتى أصبح الإنسان كما يقول ماركيوز «ذا بعد واحد» موجه التفكير والسلوك. زادت العنصرية، فالملونون غير مواطنين أو مواطنون من الدرجة الأولى في البلدان الأوروبية لا تنطبق عليهم حقوق الإنسان. عظم استغلال الشعوب غير الأوروبية، واستغلال مواردها الأولية وأسواقها وعمالتها، ونهب عقول البشر واستدراجها في البلدان الصناعية، وتفريغ الشعوب غير الأوروبية من عقولها وإبداعها، وسلب حضارتها وتاريخها. تفاقمت مشاكل المجتمع الصناعي مثل تلوث البيئة والاعتداء المستمر على الطبيعة، وتدمير المحاصيل الزراعية، والإسراف في الاستهلاك. زادت حوادث الانتحار، وعم الشقاء، ولم يعد الإنسان سعيدا بالرغم من الوفرة ومجتمع الاستهلاك، وكثرت الأمراض النفسية، وأصبح لكل مواطن طبيب نفسي معالج لشفائه من أمراض العصر. زادت الأمراض البدنية، واستشرى السرطان في كل أعضاء المجتمع الصناعي نظرا للتدخل المفتعل في تطور الخلايا في المزروعات أو في الحيوانات مما تسبب عنه تطور مصطنع لخلايا الكائن الحي في الإنسان نتيجة للمواد الكيميائية التي أصبحت خالقة لطبيعة ثانية بديلة عن الطبيعة الأولى. ضاع الولاء للأوطان والقضايا العامة وتحول الانتماء إلى المصلحة الشخصية والكسب الفردي. سادت قيم مجتمع الرفاهية والوفرة والاستهلاك بحيث لم يعد الإنسان قادرا على التفكير في أي شيء، أو الانتماء إلى أي شيء، أو التضحية في سبيل أي شيء. انقلبت القيم رأسا على عقب، ولم يعد للوفاء والإخلاص والشجاعة والصدق والصراحة أي معنى. ظهرت قيم جديدة رافضة وثقافة مضادة لا تضع جديدا، بل تثور ضد القديم، وتهدم ما هو قائم، وتجعل الضياع واللانظام واللامألوف أسلوبا للحياة. عمت الحيرة والتردد والشك بعد الوعي بعيوب المجتمع الرأسمالي الصناعي، وبعيوب المجتمعات الاشتراكية الشمولية، وبعيوب مجتمعات العالم الثالث التي لم تتمثل مميزات المجتمعات القائمة مثل الحرية والاشتراكية والوطنية بل تمثلت عيوبها جميعا، التسلط والاستغلال والخيانة والعمالة. وانتشر في الروح الموت، وتأصل في النفس الغثيان. وكثر الحديث عن أزمة العصر، وكرب الزمن، وزلزلة الأرض، وتهتك السماء، وانقراض البشر.
6 (7)
ثم بدأ الوعي الأوروبي يعبر عن هموم المستقبل بعد أن استعصت عليه أزمة الحاضر، وشارف على النهاية. بدأ يخشى سباق التسلح، وخطر الحرب الذرية، وتدمير البشرية. تحدث الفلاسفة عن مستقبل البشرية، وضرورة نزع السلاح، ووضع المعاهدات، وإبرام الاتفاقيات لمنع انتشار السلاح النووي. وظهرت الأعمال الأدبية والفنية تصور العالم بعد أن حل عليه الدمار، يبدأ من جديد باكتشاف النار باحتكاك حجر الصوان، وبداية الإنسانية من مرحلة الصيد والقنص وجني الثمار! بدأ الحديث عن أزمة الطاقة، واكتشاف موارد جديدة وبديلة للنفط، والحرب من أجل ضمان تأمين الطاقة التي اكتشف الوعي الأوروبي أنها ليست لديه، وأنه عاش أسطورة التفوق وعناصر التفوق كلها ليست ملكه، وفي غفلة من الزمن. وبدأ البحث عن الموارد الأولية في حالة نفاد المواد الحالية الموجودة في معظمها خارج القارة الأوروبية. وبدأ يخشى من آثار التضخم، ورفع الأسعار والأجور، وازدياد البطالة، والتنافس في الأسواق بين الدول الصناعية، وحماية المنتجات الصناعية لكل دولة، وظهور التناقضات داخل المجتمعات الرأسمالية الصناعية الكبيرة. وظهر التطرف الديني والسياسي في المجتمعات الديموقراطية، وأصبح استعمال العنف هو الوسيلة لضمان مستقبل أفضل، كما أصبح العالم يسير فوق حافة الجنون؛ جنون القيادة وجنون الجماعات المغلقة. لقد أحس الوعي الأوروبي بنهاية المشروع الغربي وإفلاسه القائم على أكبر قدر ممكن من الإنتاج لأكبر قدر ممكن من الاستهلاك لأكبر قسط ممكن من السعادة والرفاهية دون أن يجد مشروعا بديلا آخر لحاضره ولمستقبله؛ ومن ثم تكشف لديه حسرة الماضي، ضياع الحاضر، وغيوم المستقبل.
7
سادسا: خاتمة
إن الدراسات المستقبلة ليست مجرد حسابات كمية لإمكانيات المستقبل والتخطيط لحياة أفضل تقوم على تنبؤ أكبر بالقدرة على استغلال الموارد، بل هي رؤية تقوم على تصور للزمان وعلى فلسفة في التاريخ. لم تنشأ في فراغ ولكنها ارتبطت بالحضارة الغربية في تاريخها الطويل خاصة في دورتها الثانية الحالية التي شارفت على الانتهاء والتي بدأت منذ أكثر من خمسة قرون. لا يمكن نقلها وتقليدها والتبشير بها والنسج على منوالها والدعاية لها والإعجاب بها في كل حضارة، لدينا أو لدى غيرنا دون تأصيل لها، وقيامها على احتياجات فعلية، ومناهج محلية. إذ لا يمكن قيام دراسات مستقبلية دون إحساس بالزمان والتاريخ والتقدم. كما لا يمكن أن تكون تعويضا عن أزمات العصر ودواء مسكنا لاحتياجاته الملحة. إن التحول من الماضي والاتجاه نحو المستقبل في وعينا القومي، والوعي بتجارب الآخرين في نشأة الدراسات المستقبلية من خلال فلسفة التاريخ أي التحول عن الماضي واكتشاف مفهوم التقدم، وكذلك الوعي بالمرحلة التاريخية التي يعيشها جيلنا اليوم، والعلم بالحالة الراهنة للوعي الأوروبي وأزمته، كل ذلك هي الشروط المؤهلة لنشأة الدراسات المستقبلية لدينا تأصيلا ووعيا وإبداعا.
صفحة غير معروفة