مقدمة
متى تموت الفلسفة ومتى تحيا؟
أولا: مقدمة
ثانيا: ما الفلسفة؟
ثالثا: الفلسفة والسلطة
رابعا: الفلسفة والمذهب
خامسا: الفلسفة والابتسار
سادسا: الفلسفة والعقل
سابعا: الفلسفة والمنهج
ثامنا: الفلسفة والعلوم الإنسانية
تاسعا: الفلسفة والتاريخ
عاشرا: خاتمة
الصراع بين الكليات الجامعية عند كانط1
أولا: نشأة الجامعات في أوروبا
ثانيا: الصراع بين الكليات الجامعية عند كانط
ثالثا: الصراع بين كلية الفلسفة وكلية اللاهوت
رابعا: الصراع بين كلية الفلسفة وكلية الحقوق
خامسا: الصراع بين كلية الفلسفة وكلية الطب
فلسفة التاريخ عند فيكو1
أولا: مقدمة: نشأة فلسفة التاريخ
ثانيا: ماذا يعني «العلم الجديد للطبيعة المشتركة بين الأمم»؟
ثالثا: المبادئ العامة لفلسفة التاريخ
رابعا: الحكمة الشعرية
خامسا: المراحل الثلاث لتطور البشرية
سادسا: خاتمة: حدود فلسفة التاريخ عند فيكو
الاغتراب الديني عند فيورباخ1
أولا: مقدمة: جوهر المسيحية
ثانيا: الجوهر الحقيقي أي أنثروبولوجيا الدين
ثالثا: الجوهر الزائف، أي ثيولوجيا الدين
ثورة الجماهير عند أورتيجا إي جاسيه1
أولا: الكتاب، والأسلوب، والمنهج، والنسق
ثانيا: الإنسان الجماهيري
ثالثا: انهيار الغرب
مدرسة «تاريخ الأشكال الأدبية»1
أولا: المقدمة
ثانيا: نشأة «نقد الأشكال الأدبية»
ثالثا: المبادئ الأولية والمسلمات العامة
رابعا: الأشكال الأدبية عند ديبليوس
خامسا: الأشكال الأدبية عند بولتمان
سادسا: تاريخ الأشكال الأدبية وحياة عيسى
سابعا: تطور المدرسة والردود على الاعتراضات
قراءة النص1
أولا: مقدمة: من النقل إلى الإبداع
ثانيا: ماذا تعني قراءة النص؟
ثالثا: ما هو النص؟
رابعا: ضرورة النص
خامسا: هل هناك معنى موضوعي للنص؟
سادسا: متغيرات النص
سابعا: ثوابت النص
ثامنا: الإحالة إلى الذات
تاسعا: خاتمة: القراءة إبداع
علم المستقبليات
أولا: مقدمة
ثانيا: الاتجاه نحو الماضي والإعداد للمستقبل في تراثنا القديم
ثالثا: التحول من الماضي والاتجاه نحو المستقبل وصياغة التقدم في التراث الغربي
رابعا: حيرة الحاضر في وجداننا القومي، في أي مرحلة من التاريخ نحن نعيش؟
خامسا: حساب الماضي، وأزمة الحاضر، وهموم المستقبل في الوعي الأوروبي
سادسا: خاتمة
مقدمة
متى تموت الفلسفة ومتى تحيا؟
أولا: مقدمة
ثانيا: ما الفلسفة؟
ثالثا: الفلسفة والسلطة
رابعا: الفلسفة والمذهب
خامسا: الفلسفة والابتسار
سادسا: الفلسفة والعقل
سابعا: الفلسفة والمنهج
ثامنا: الفلسفة والعلوم الإنسانية
تاسعا: الفلسفة والتاريخ
عاشرا: خاتمة
الصراع بين الكليات الجامعية عند كانط1
أولا: نشأة الجامعات في أوروبا
ثانيا: الصراع بين الكليات الجامعية عند كانط
ثالثا: الصراع بين كلية الفلسفة وكلية اللاهوت
رابعا: الصراع بين كلية الفلسفة وكلية الحقوق
خامسا: الصراع بين كلية الفلسفة وكلية الطب
فلسفة التاريخ عند فيكو1
أولا: مقدمة: نشأة فلسفة التاريخ
ثانيا: ماذا يعني «العلم الجديد للطبيعة المشتركة بين الأمم»؟
ثالثا: المبادئ العامة لفلسفة التاريخ
رابعا: الحكمة الشعرية
خامسا: المراحل الثلاث لتطور البشرية
سادسا: خاتمة: حدود فلسفة التاريخ عند فيكو
الاغتراب الديني عند فيورباخ1
أولا: مقدمة: جوهر المسيحية
ثانيا: الجوهر الحقيقي أي أنثروبولوجيا الدين
ثالثا: الجوهر الزائف، أي ثيولوجيا الدين
ثورة الجماهير عند أورتيجا إي جاسيه1
أولا: الكتاب، والأسلوب، والمنهج، والنسق
ثانيا: الإنسان الجماهيري
ثالثا: انهيار الغرب
مدرسة «تاريخ الأشكال الأدبية»1
أولا: المقدمة
ثانيا: نشأة «نقد الأشكال الأدبية»
ثالثا: المبادئ الأولية والمسلمات العامة
رابعا: الأشكال الأدبية عند ديبليوس
خامسا: الأشكال الأدبية عند بولتمان
سادسا: تاريخ الأشكال الأدبية وحياة عيسى
سابعا: تطور المدرسة والردود على الاعتراضات
قراءة النص1
أولا: مقدمة: من النقل إلى الإبداع
ثانيا: ماذا تعني قراءة النص؟
ثالثا: ما هو النص؟
رابعا: ضرورة النص
خامسا: هل هناك معنى موضوعي للنص؟
سادسا: متغيرات النص
سابعا: ثوابت النص
ثامنا: الإحالة إلى الذات
تاسعا: خاتمة: القراءة إبداع
علم المستقبليات
أولا: مقدمة
ثانيا: الاتجاه نحو الماضي والإعداد للمستقبل في تراثنا القديم
ثالثا: التحول من الماضي والاتجاه نحو المستقبل وصياغة التقدم في التراث الغربي
رابعا: حيرة الحاضر في وجداننا القومي، في أي مرحلة من التاريخ نحن نعيش؟
خامسا: حساب الماضي، وأزمة الحاضر، وهموم المستقبل في الوعي الأوروبي
سادسا: خاتمة
دراسات فلسفية (الجزء الثاني)
دراسات فلسفية (الجزء الثاني)
في الفلسفة الغربية الحديثة والمعاصرة
تأليف
حسن حنفي
مقدمة
كتب هذا الجزء الثاني، في «الفكر الغربي المعاصر» من «دراسات فلسفية» أيضا بعد انقلاب الثورة المصرية على نفسها وتحولها إلى ثورة مضادة، وانقسام ثقافة الأمة إلى تيارين متخاصمين: السلفية والعلمانية، ليس فقط في مصر بل في الوطن العربي.
كتب المقالان الأول والأخير: «متى تموت الفلسفة ومتى تحيا؟» «علم المستقبليات» بعد أن عزمت مجلة عالم الفكر في الكويت إصدار عدد خاص بعنوان «هل ماتت الفلسفة؟» وكان السؤال يحتوي مسبقا على إجابة متضمنة غير معلنة. فآثرت طرح السؤال بطريقة أصح ومحايدة «متى تموت الفلسفة ومتى تحيا؟» فالفلسفة ابنة عصرها وموقف فلاسفته. كما فكرت وزارة الإعلام في نفس القطر إنشاء مجلة ثقافية جديدة إما «عالم الغد» لعلم المستقبليات أو «المعرفة العالمية» لتنشر آخر صيحات الفكر الغربي المعاصر. ولما فضلت الأولى كتبت افتتاحيتها «علم المستقبليات» أو عالم الغد بين الأمس واليوم، ولكن «المعرفة العالمية» هي التي وقع عليها الاختيار ترويجا للثقافة الغربية، ودرءا لمخاطر السلفية.
وكتب المقالان الثاني والثالث: «الصراع بين الكليات الجامعية عند كانط» و«فلسفة التاريخ عند فيكو» مساهمة في العددين الخاصين لمجلة «الفكر العربي» ببيروت؛ الأول عن الجامعة، والثاني عن فلسفة التاريخ.
وكتب المقالان الرابع والخامس: «الاغتراب الديني عند فيورباخ» و«ثورة الجماهير عند أورتيجا أي جاسيه» من أجل الحد من الاغتراب الديني عند السلفيين، جعل الدين مجرد عقائد وشعائر وحدود بعيد عن القضايا الاجتماعية والسياسية، ودعوة إلى ثورة الجماهير التي استكانت ورضيت بالثورة المضادة، باستثناء ثورات الطلبة في 1972م، والانتفاضة الشعبية في يناير 1977م، وحركة الأمن المركزي في يناير 1986م.
أما المقالان السادس والسابع: «مدرسة الأشكال الأدبية» و«قراءة النص» فيهدفان إلى توجيه العقل العربي نحو تحليل النصوص الدينية تحليلا أدبيا لبيان أشكالها الأدبية مع ضرب المثل بالإنجيل، وقراءة النص قراءة عصرية تجعله حاملا لمطالب العصر دون كسر اتساق الخطاب العقلي.
حسن حنفي
القاهرة، مدينة نصر، يونيو 1995م
متى تموت الفلسفة ومتى تحيا؟
أولا: مقدمة
الفلسفة مثل الكائنات الحية تموت وتحيا. فهي إبداع إنساني يتخلق عندما تتهيأ له ظروفه وينقرض تماما عندما تتغير هذه الظروف، وتحل محلها ظروف أخرى مضادة لا يقوى الكائن الحي الوليد على مقاومتها والتكيف معها حتى يضمن لنفسه البقاء والاستمرار. والتاريخ شاهد على ذلك. فهو هذا المعمل الذي تقام فيه التجارب الحية وتنشأ فيه الأجنة التي تولد والتي تحيا . وهو السجل الذي يدون فيه الموتى والأحياء، والمحفوظ دائما في صدور الناس في وعيهم بالتاريخ وفي إدراكهم لقوانين حركته. وشروط الحياة أو الموت ليست ظروفا تاريخية مجردة عن الحياة الإنسانية التي تتسم بحرية النظر والعمل دون أن تكون أسيرة للظروف وخاضعة لها خضوعا آليا حتميا، ولكن باجتماع هذين العنصرين: حتمية التاريخ وحرية الإنسان، تموت الفلسفة وتحيا. ويأتي السؤال عن الموت قبل السؤال عن الحياة. فحياة الفلسفة شيء طبيعي طالما أن الإنسان ما زالت به حياة، وطالما أن الحياة تعني حرية الفكر والنظر، والقدرة على البحث والتقصي، وطالما أن الدنيا ما زالت قائمة، وطالما وجد فيها إنسان واحد يتنفس أو يعقل؛ فالعقل كما قال القدماء: إحدى قوى النفس، والنفس أحد مظاهر الحياة، ولكن الغريب أن تموت الفلسفة والحياة باقية، وهناك إنسان حي عاقل على وجه الأرض. إن موت الفلسفة يعني نهاية الحياة وعدم قدرة الإنسان على المقاومة، واستعمال حريته، وعجزه عن خلق الظروف التي تعيد له وللفلسفة الحياة. وهذا الافتراض تنكر لوجود الإنسان وفاعليته في الحياة. حياة الفلسفة هي الأساس وموتها هو العرض، حياتها هي القاعدة وموتها هو الاستثناء، حياتها هي الطبيعي المألوف وموتها هو الشاذ الغريب.
وليس السؤال: هل ماتت الفلسفة؟ فهي تموت بطبيعة الأحوال وتغير الظروف، وبالوجود الإنساني ذاته الذي قد يمارس حريته ويستعمل عقله وقد لا يمارس أو يستعمل. ويشهد بذلك أيضا تاريخ الفكر الإنساني ولحظات موت الفلسفة ولحظات حياتها، ولكن السؤال هو: متى تموت الفلسفة ومتى تحيا؟ متى يحدث لها أن تموت، وفي أي ظروف تحيا؟ فالسؤال ليس مجردا بل هو سؤال في الزمان وفي التاريخ داخل الحضارات البشرية ودوراتها؛ وبالتالي فلا توجد إجابة واحدة عامة ومطلقة وشاملة بل هناك إجابات تاريخية محددة في لحظات تاريخية معينة وفي أوضاع اجتماعية وسياسية بعينها تصدر عن مدى وعي الأفراد والجماعات بحركة التاريخ وبقوانين مساره. والسؤال عن الزمان هو في حد ذاته سؤال عن العلة، فالعلة توجد في التاريخ، لحظة زمانية أو مرحلة تاريخية تكمن فيها العلة وتتحد معها؛ ومن ثم كان الحديث عن الزمان والتاريخ هو حديث عن العلل والأسباب. ولا يوجد موت نهائي للفلسفة بل هناك إمكانية بعث لها وعودة الحياة إليها. فالظروف متغيرة، وحرية الإنسان دائمة ومستمرة حتى لو اعتراها الوهن والضعف في بعض اللحظات. لا يوجد موت إلا ويتلوه بعث، ولا توجد حياة إلا ويصيبها الموت أو الهزال. بل إن كل لحظة موت هي بداية لحظة أخرى لميلاد جديد، تموت الفلسفة وتحيا في دورات وبإيقاع منتظم رتيب مثل ضربات القلب أو دفعات النفس.
وليس السؤال في فعل ماض: هل ماتت الفلسفة؟ بل السؤال في الفعل المضارع: متى تموت الفلسفة، ومتى تحيا؟ فليس المقصود هو الحديث عن التاريخ الماضي ورصد حسابه بل الحديث عن الحاضر وكشف مكوناته. فلعلنا باكتشافنا اللحظة الحاضرة نستطيع أن نرى الماضي بوضوح فالحاضر يقرأ نفسه في الماضي. ولا يوجد ماض يأتي بفعل الزمان، والتاريخ لا يثيره الحاضر ولا يبعثه. الماضي ولى، والحاضر بعث له وإمكانية تحقق. وإذا كان الماضي قد انتهى فإن معاركه ما زالت حاضرة، وصراع الأطراف ما زال قائما. الماضي من تراث الآباء والحاضر من إبداع الأبناء، ولكن في مواقف قد تكون واحدة. فما أشبه الأمس باليوم؛ وبالتالي يكون سؤال: متى تموت الفلسفة ومتى تحيا؟ مسئولية الجيل الحاضر عن موت الفلسفة أو حياتها، وإذا كان الماضي عند البعض سلبا واستلابا ومحايدة، فإن الحاضر عند البعض الآخر التزام ونقد ومقاومة.
ولما كنا نحن الآن في نهاية فترة وبداية أخرى، نتحدث عن الانهيار والنهضة ونذكر الانحطاط والبعث، ونواجه التوقف والاستمرار فمن الطبيعي أن يكون سؤال: متى تموت الفلسفة ومتى تحيا؟ موجها إلينا في جيلنا، واضعا إيانا مع مشكلتنا الجوهرية التي نواجهها منذ عدة أجيال منذ الطهطاوي والأفغاني وشبلي شميل ألا وهي النهضة، شروطها ومقوماتها وطرقها وغاياتها، وكان من الطبيعي الدخول في الزمان في التاريخ فلعلنا نكتشف لدينا وعيا بالزمان وإحساسا بالتاريخ يمكننا من الإجابة على السؤال. وإذا كنا على حافة دورتين حضاريتين؛ الأولى هي التي حددها ابن خلدون ووصف مسارها في المقدمة؛ والثانية هي عصر الانهيار الذي قد شارف على النهاية منذ نهاية القرن الرابع عشر الهجري وبداية الخامس عشر، فإن لدينا التجارب العصرية التي تجعلنا قادرين على رؤية موت فلسفة وحياة أخرى. مجتمعاتنا في لحظات التحول من التقاليد إلى التحرر، ومن التراث إلى التجديد، وفي هذه المرحلة من مسارها يكون السؤال ذا دلالة، وتحمل الإجابة عليه تجربة حضارية لمجتمعاتنا الناهضة قد تساعدنا على تقوية وعينا باللحظة التاريخية الراهنة.
لذلك كان من الطبيعي أن يكون المنهج المتبع هو منهج تحليل التجارب الشعورية لجيلنا والتي يعيشها المفكر أو الفيلسوف، وهو المنهج الذي تمت صياغته باسم المنهج «الوصفي» أو المنهج «الظاهرياتي» أو المنهج «الفينومينولوجي» في التراث الغربي في الفينومينولوجيا المعاصرة.
1
وقد كان متبعا من قبل في تراثنا القديم خاصة في علوم التصوف وفي علم أصول الفقه وإلى حد ما في علوم الحكمة،
2
وهو أيضا المنهج الذي يطبقه كل المفكرين على غير وعي منهم سواء كانوا علماء أو فلاسفة أو حتى أدباء وفنانين، فلا شيء يحدث في الخارج إلا ويحدث في الشعور، ولا شيء يتم إدراكه في الخارج إن لم يتم إدراكه في الشعور، وهو المنهج الذي يستعمله بسطاء الناس وعامتهم في حياتهم اليومية في إدراكهم وتعبيرهم وتحديد مواقفهم. فالإنسان لا يستطيع أن يفهم أي موضوع إلا من خلال التجربة. والموضوع تجربة معاشة في شعور الإنسان لا يستطيع أن يفهمه إلا إذا أدرك دلالته أو معناه، ولما كانت التجارب البشرية مطردة وقوانين التاريخ وتطور المجتمعات واحدة، فإنه يمكننا فهمها بصرف النظر عن اختلاف العصور والأجيال، فنحن قادرون على تذوق الآداب القديمة وفهم الفلسفات الماضية وإدراك المواقف الإنسانية للعصور السابقة. فالماهيات واحدة، والمعاني قائمة ومستقلة عن حواملها التاريخية، ويمكن إدراكها بالحدس، يكفي إعادة بناء الموقف، وعيش التجربة واتحاد الذات بموضوعها. ويتفق على حدس الماهيات عديد من الباحثين والقراء على السواء دون ما خلاف على النتائج. وتلك تطابق الحكم الصوري مع الواقع المادي. فهذا التطابق ادعاء لا وجود له لأن الحكم والواقع لا يوجدان إلا في التجربة المعاشة ؛ فالصدق في التحليل والبداهة في الإدراك هما مقياسان لصحة تطبيق هذا المنهج في مثل هذا الموضوع: متى تموت الفلسفة ومتى تحيا؟ وقد قام هوسرل واضع هذا المنهج بتطبيقه في نفس الموضوع متسائلا عن إفلاس
Bankrott
الفلسفة على يد الحسيين التجريبيين من أمثال هيوم، وكيف يمكن زيادة رصيدها.
3
بل إنه لا يكاد يخلو فيلسوف واحد من وضع هذا السؤال، كل على طريقته ولتدعيم مذهبه. ولكن هوسرل هو الذي وضع السؤال على مستوى الوعي الأوروبي كله. فالموت والحياة ظاهرتان للوعي التاريخي الفردي والحضاري، وليس على مستوى معين صوري أو مادي أو وجودي.
ولما كان كل باحث اليوم ذا شعور مغترب نظرا لسيادة الحضارة الأوروبية وانتشارها خارج حدودها فإنه يجد نفسه لا محالة بصدد تحليل الشواهد والأمثلة التاريخية من داخل الحضارة الأوروبية وكأن الغرب هو العالم كله، وكأن تاريخ الفكر الأوروبي هو تاريخ الفكر الإنساني، وكأن الحضارة الأوروبية خاصة في العصور الحديثة هي الممثلة الوحيدة للحضارات البشرية كلها؛ في مصر والصين وفارس وما بين النهرين وفي أفريقيا وفي خليج المكسيك. وحرصا على هذا التحرر من هذا التحيز الحضاري المسبق، ونحن ما زلنا ضحيته، فإن الشواهد والأمثلة التاريخية ستعمم وتتنوع قدر الإمكان حتى تشمل أكبر قدر ممكن من الحضارات الأخرى وفي مقدمتها الحضارة الإسلامية التي تكون مخزوننا النفسي ورصيدها الفلسفي، والتي ما زلنا نعيشها وتعيش فينا حتى الآن.
4
ولما كان الباحث ذو الوعي المتحرر من الغرب لم يع بما فيه الكفاية إحدى دوائره الحضارية الكبرى وهي دائرة الشرق، فذلك لأن الغرب ما زال يمثل لنا التحدي الأكبر ليس فقط عسكريا واقتصاديا بل ثقافيا وحضاريا، ويكفينا في جيلنا التخلص من آثاره، ويكفينا تحجيمه ورده داخل حدوده حتى يحدث التوازن في وعينا القومي بين حضارتنا وحضارات الغير في الغرب أولا ثم في الشرق ثانيا.
ثانيا: ما الفلسفة؟
ما هي الفلسفة تلك التي تموت وتحيا؟ وما تعريفها؟ (1)
هل الفلسفة هي البحث الخالص عن الحقيقة المجردة؟ هذا التعريف في حقيقة الأمر نظري أكثر منه واقعي؛ إذ لا توجد حقيقة مجردة بل توجد حاجات ومطالب وأهداف وبواعث وأوضاع اجتماعية محددة في عصور وأمكنة معينة. المجرد لا وجود له في الذهن ولا في الواقع لأنه معاش في تجربة أولا بما في ذلك المفاهيم الرياضية والتصورات المنطقية. ولم يكن هناك على مدى الفكر البشري أي بحث مجرد عن الحقيقة حتى ولو أعلن الفيلسوف ذلك لأن الشمول مطلب إنساني يتجاوز به الإنسان حدوده الفردية والاجتماعية والتاريخية، لذلك كانت الفلسفات الصينية - وفي مقدمتها الكونفوشيوسية - فلسفات عملية مرتبطة بسعادة الإنسان على الأرض ونعيمه في هذه الدنيا. كما وجه الإسلام الذهن البشري نحو منافع الأمة ومصالحها وعدم السؤال عن أشياء لا نفع منها أو يأتي منها ضرر:
يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم عفا الله عنها والله غفور حليم * قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين (المائدة: 101-102). فالسؤال لا يجوز إلا إذا كان فيه نفع عملي. وقد قال علماء أصول الفقه قديما: إن كل سؤال لا ينتج عنه أثر عملي فإنه يكون عاريا عن العلم.
1
وكثير من الأسئلة له إجابات عملية وليست نظرية، وكما في الأثر عندما سئل الرسول عن الساعة قال: «فاستعد لها.» كما رفضت الفلسفات العملية في الغرب هذا البحث النظري المجرد من أجل التوجيه العملي في الحياة. لقد ارتبط هذا التعريف للفلسفة باليونان عامة وبالطبقة الأرستقراطية - طبقة الأحرار - خاصة وهي التي كفاها العبيد مئونة العيش وتدبير حياتها المادية من عمل وكد ورزق وإعداد للأعمال المنزلية. فبدأت في البحث عن طبائع الأشياء وأصلها بحثا مجردا صرفا لا غاية له ولا هدف إلا الحقيقة ذاتها لملء أوقات الفراغ. كما استمر هذا التعريف أيضا عند بعض فلاسفة التنوير مثل لسنج صاحب القول المأثور: «لو أن الله أمسك بالحقيقة كلها في يده اليمنى، والبحث الدائب عن الحقيقة في اليسرى كي أقع دائما في الأخطاء وقال لي: أيهما تختار؟ فإنني بكل تواضع أختار اليد اليسرى قائلا: أبي، هب لي هذا، فالحقيقة المطلقة لك وحدك.»
2
وقد كان ذلك رد فعل على الدجماطيقية والمعطيات المسبقة والحقائق الجاهزة من السلطتين الدينية والسياسية أو من العرف والتقاليد، ثقة بقدرة الإنسان على اكتشاف الحقائق بجهده الإنساني الخالص حتى يطمئن إلى ذاته وإلى قدرته على إعطاء العالم غطاء نظريا من وضعه بعد أن انهارت كل الأغطية النظرية الموروثة التي دافعت عنها الكنيسة والدولة إلى آخر رمق. وكان الثمن دماء المفكرين الأحرار والعلماء التي سالت من أجل البحث عن الحقيقة والبرهنة عليها بشهادة الحس والتجربة وبدليل العقل والبرهان. وقد عبر هوسرل عن هذا التعريف أخيرا بأن الفلسفة هي البحث عن الحقيقة النظرية المجردة الخالصة وأن موضوعها المثالي هو نقطة أرشميدس أي الموضوع النظري المجرد الذي لا وجود له في الواقع. فطالما ارتبطت الفلسفة بالنواحي العملية الدينية أو الأخلاقية ولم تكن بحثا نظريا مجردا فإنها لا تكون فلسفة؛ ومن ثم لم يعرف الشرق القديم الفلسفة بهذا المعنى. بل إن سقراط نفسه ليس فيلسوفا لأنه ربط بحثه النظري بالأخلاق العملية، وعلى هذا النحو يكون الغرب وحده - ببحثه النظري المجرد - هو القادر على التفلسف، ويكون أفلاطون هو نموذج الفيلسوف في نظرية المثل؛ موضوعات عقلية صورية مفارقة للطبيعة الحسية المادية. إن تطور الحضارة الأوروبية وبناءها إنما يتحدد بالبحث النظري المجرد. وقد تحول ذلك إلى غائية وقصد حضاري. بل إن العمل ذاته، أي كل ما يتعلق بالإرادة والرغبات والميول، يتم البحث فيه بحثا نظريا خالصا مجردا كما أراد كانط في «نقد العقل العملي» من أجل البحث عن الأسس النظرية للعمل؛ لذلك كان ليبنتز نموذج الفيلسوف بتحويله العالم إلى رياضيات شاملة يمكن معرفتها بقوانين العقل ذاتها وأولياته.
3
وقد كرر ماكس فيبر الشيء نفسه، وجعل التعقيل أو التنظير
Rationalization
ميزة خاصة للغرب على باقي الحضارات. فقد نشأ لديه تقسيم العمل واكتشف قوانين الطبيعة واخترع الحاسبات الآلية، وقد وصل هذا الاعتزاز عند فيبر بهذا التنظير إلى حد العنصرية.
4
ولم ينشأ لدينا في تراثنا القديم ولا نهضتنا المعاصرة هذا الاتجاه للبحث النظري المجرد باسم الفلسفة أو البحث عن الحقيقة ؛ فقد ارتبطت الفلسفة لدينا بالدين وبالشريعة أي بسعادة الإنسان في الدارين. كما ارتبطت المعرفة بالسعادة والفلسفة بالأخلاق، بل إن وضع الحكمة في أعلى الفضائل إنما لإعطائها الإنسان السعادة والخير. هكذا كان الحال في علوم الحكمة وعلوم التصوف لدينا. أما علم أصول الدين فالحقيقة فيه منزلة من عند الله، من النبوة والوحي لغاية عملية، وفي علم أصول الفقه الحقيقة فيه عملية وليست نظرية أي الحرص على المصالح العامة والمنافع الدنيوية. (2)
هل الفلسفة هي فن الحياة والتكيف مع مطالبها ومقتضياتها من أجل البقاء والحرص على المنافع الخاصة والعامة دون طرح أي سؤال نظري؟ هل هي مجرد تسهيل للأمور، وتذليل للصعاب، وحل للمشاكل من أجل سير الحياة؟ ولكن البراجماتية ذاتها كانت رد فعل على الفلسفة باعتبارها بحثا عن الحقائق النظرية المجردة التي لا أثر لها في الحياة العملية؛ لذلك أسقطت من حسابها موضوع البحث النظري الخالص. وهو أيضا موقف برجسون من العقل والبحث النظري بل والدين الثابت
Statique ، فالهدف من ذلك كله هو التكيف مع الحياة. فالتصورات النظرية عند برجسون مجرد ظلال وأشباح للواقع، وليست الواقع نفسه الذي يتكيف الإنسان معه ويدركه بالحدس الوجداني، مجرد شيكات أو حوالات أو أذونات للصرف وليست رصيدا حقيقيا وثروة فعلية.
5
والحقيقة أنه يصعب تناول مشكلة العمل دون النظر، فالنظر هو أساس العمل؛ لذلك كتب كانط «نقد العقل العملي» لبحث المسائل النظرية لموضوعات العمل والسلوك، كما أن الاتجاهات العملية في الفلسفات كلها لم تسقط من حسابها البحث النظري، فسقراط كان يبحث عن المبادئ النظرية العامة للسلوك العملي. وكذلك كان أفلاطون وأرسطو. وظل الحال كذلك في العصر الوسيط بصرف النظر عن صواب هذه المبادئ النظرية أو خطئها (الخطيئة، الخلاص، الفداء ... إلخ). كما بحث ديكارت موضوع الصواب والخطأ في التأملات في الفلسفة الأولى وكذلك فعل اسبينوزا في «الأخلاق». بل إن «البراجماتية» عند «مل» تقوم على أساس تجريبي وهو بحث نظري وإن اختلف المنهج، ويقوم على استقصاء للعلل كما هو الحال عند علماء أصول الفقه في تراثنا، وهناك الاتجاهات العملية عند شيلر
F. C. S. Shiller
وبيرس
Ch. Pierce ، وبلوندل، وكلها تؤسس العمل على البحث النظري سواء في العلوم الإنسانية أو في العلوم الرياضية والطبيعية أو في العقيدة الدينية، بل إن الوجودية ذاتها، باعتبارها رد فعل على الفلسفات النظرية المجردة، لم تغفل الأسس النظرية للسلوك الفردي الاجتماعي كما هو واضح في «نقد العقل الجدلي» عند سارتر.
6
لقد انتهت الفلسفة عند اليونان بعد أن سادت الفلسفة بعد أرسطو المدارس الأخلاقية العملية كالرواقية والأبيقورية، وتحولت الفلسفة إلى بحث في السعادة واللذة وممارسات عملية في جماعات وحلقات دون طرح الأسس النظرية لهذا البحث. كما ماتت الفلسفة في أمريكا بعد النزعة البراجماتية الخالصة كما هو الحال عند وليم جيمس وجون ديوي، ما دامت الحقيقة هي مقدار ما تحدث من أثر في الحياة العملية. وأصبح يضرب بالمجتمع الأمريكي كله المثل في النزعة العملية وفي سطحية الفكر لولا هجرة بعض المفكرين الأوروبيين والقيام بحركة ثقافية علمية لطرح السؤال النظري.
7 (3)
هل الفلسفة تفكير على الدين، وتأييد لعقائده وخدمة له، وفهم لنصوصه؟ لقد ارتبطت الفلسفة منذ نشأتها بالدين، وخرجت من المعابد والكنائس واشتغل بها رجال الدين. بل إن الفلسفة قد تكون تطورا طبيعيا للدين كما يقول بعض فلاسفة التاريخ مثل كونت في قانون الحالات الثلاث، وأن موضوع الفلسفة الأول وهو الوجود المطلق، هو بعينه موضوع الدين الأول وهو الله. وأن وسيلة المعرفة في الفلسفة - أي العقل أو الحدس - هي بعينها وسيلة المعرفة في الدين وهو الوحي أو الإيمان أو النبوة أو الإلهام بالرغم مما قد يبدو بين الوسيلتين من اختلاف عند البعض، ومن اتفاق عند البعض الآخر. وأن غاية الدين وهي النجاة في الدنيا والآخرة، هي بعينها غاية الفلسفة وهي الحصول على السعادة؛ ومن ثم كان الدين والفلسفة متفقين في الموضوع والمنهج والغاية. وقد ظهر ذلك بشكل واضح في تراثنا القديم عند الفلاسفة المسلمين. فالفلسفة والدين عند الكندي متفقان في الموضوع والغاية وإن اختلفا في المنهج، وعند ابن سينا طريقان يؤديان إلى نفس الغاية كما وضح من قصة «حي بن يقظان»، وعند ابن رشد: الفلسفة بالنسبة للشريعة هي الأخت الرضيعة، المتحدتان بالطبع، المتحابتان بالجوهر والغريزة، وإنما يكمن الخلاف بينهما في الظاهر، ومن هنا أتت ضرورة التأويل. ويعظم الخلاف بينهما عند العامة التي لا تقدر على التأويل، وعند رجال الدين الذين يدافعون عن مناصبهم المزورة ويضطهدون الحكماء الذين يكشفون عيوبهم. بل إن غاية الفيلسوف هي بيان هذا الاتفاق بين الشريعة والحكمة، وبين الدين والفلسفة.
8
وقد وضح هذا الاتجاه أيضا لدى آباء الكنيسة الأوائل خاصة عند جيستان الذي كان يرى سقراط مسيحيا؛ فالفلسفة هي محبة الحكمة، والمسيحية هي المحبة، ومن ثم فلا خلاف بين الفيلسوف والمسيحي. وقد استمر هذا التيار أيضا في الفلسفة المسيحية في العصر الوسيط عندما بدأ الجدل يسيطر على اللاهوت عند بيرانجيه التوري، ونيقولا الأمياني، واستمر عند أبيلار. كما ظهر بوضوح عند الرشديين اللاتين وفي مقدمتهم سيجر البرابنتي وغيره من تلاميذ المسلمين. كما ظهر في العصر الحديث كله ابتداء من ديكارت والديكارتيين خاصة اسبينوزا الذي أمكنه استنباط كل حقائق الإيمان من العقل الخالص. وقد بلغ ذلك الذروة عند هيجل عندما تحول الدين إلى فلسفة، والتثليث إلى جدل، والقيامة إلى تاريخ. كما تحولت الفلسفة إلى دين، والمطلق إلى إله، والعقل إلى وحي. لم يعد هناك فرق بين الفلسفة والدين ... وكلاهما تحققان للفكرة، ومظهران للمطلق؛ ومن ثم لحق هيجل بتراثنا الفلسفي القديم الذي أصبح فيه النبي هو الفيلسوف والفيلسوف هو النبي.
9
ولكن ارتباط الفلسفة بالدين جعلها خادمة له وأفقدها القدرة على التفكير المستقل وحرية البحث. أصبحت الفلسفة خادمة للدين ومبررة له مما أحدث رد فعل عنيفا للفلسفة التي أصبحت عند البعض الآخر في مواجهة الدين، ومعارضة له. فبدل أن كانت خادمة للدين أصبحت سيدة له. حينئذ يتحول الدين إلى مجرد خرافات وأساطير من الناحية النظرية وإلى شعائر وطقوس من الناحية العملية، وإلى سلطة ومؤسسات وهيئات من الناحية التنظيمية، وتصبح الفلسفة هي الحامل للواء العقل والحرية والعمل، تعيد الإنسان إلى العالم بعد أن استلبه الدين خارجا عنه كما ظهر ذلك بوضوح عند فيورباخ في «جوهر المسيحية».
10
وقد ظهر هذان الاتجاهان نفسهما في تراثنا القديم؛ الأول يريد جعل الفلسفة خادمة للدين كما وضح عند الأشاعرة بجعلهم النقل أساس العقل؛ والثاني جعل الفلسفة مستقلة عن الدين كما وضح عند المعتزلة بجعلهم العقل أساس النقل. وقد ظهر رد الفعل على الاتجاه الأول عند ابن الرواندي وعند الرازي؛ ولذلك لم تحفظ مؤلفاتهما خاصة عن النبوة، وما زلنا حتى الآن في حركاتنا الإصلاحية الأخيرة وفي نهضاتنا المعاصرة نتصور ارتباط الفلسفة بالدين كما هو الحال في «الجوانية».
11 (4)
هل الفلسفة تفكير على العلم، وتأمل في نتائجه وحل لمشاكله وتبن لمنهجه ونظر في موضوعاته؟ لقد ارتبطت الفلسفة دائما بالطبيعة وهي ميدان العلم وموضوعه الأول منذ الطبيعيين الأوائل عند اليونان. بل إن العلم ذاته قد نشأ من ثنايا فلسفة الطبيعة ثم ساعد على ازدهارها بعد نشأته. كانت فلسفة الطبيعة مادة للعلماء كما كان العلم مادة لفلاسفة الطبيعة. وازدهرت الفلسفة الطبيعية في القرن التاسع عشر بانتصار العلم وإثر الاكتشافات العلمية الهائلة، واكتشاف علوم الحياة بالإضافة إلى علوم الطبيعة، وبعد نظرية التطور وأثرها على التصور العلمي للحياة وللكون، وفي هذا القرن نشأت فلسفة علمية، تختار من العلم المنهج الدقيق لا الموضوع الطبيعي، فاقتصرت الفلسفة على تحليل اللغة، وتحولت إلى علم مضبوط. كما تحولت فلسفات الطبيعة إلى أطر نظرية للمذاهب الاشتراكية كما هو الحال عند ماركس وأنجلز، أو إلى أسس ميتافيزيقية لفلسفات الوجود كما هو الحال عند هيدجر وبقية الطبائعيين الأوائل قبل سقراط، أو عند ميرلوبونتي وبرجسون واعتمادهما على الطبيعة البشرية من خلال علم النفس وعلوم الحياة بوجه عام.
12
وقد أصبح العلم الطبيعي لدينا منذ القرن الماضي، عند شبلي شميل ويعقوب صروف ونقولا حداد وولي الدين يكن، وفي هذا القرن عند سلامة موسى وزكي نجيب محمود وفؤاد زكريا، أحد طرق النهضة وأهم شروطها نظرا لما يسود مجتمعاتنا من خرافة وأساطير ومحرمات لا يمكن الاقتراب منها. وأصبح تكوين فلسفة علمية أحد طرق الإصلاح، إحكاما لاستعمالنا للغة، وتوجيها لوعينا نحو الظواهر الطبيعية أو الاجتماعية واستخداما للعقل بطريقة تحليلية.
13
وبالرغم من إنجازات الفلسفة الطبيعية ونجاحها في القضاء على التصورات النظرية التي لا أساس لها في العقل أو في الطبيعة وصياغة منهج تجريبي علمي دقيق استطاع القضاء على كل الأفكار الموروثة والعقائد المسبقة والأحكام المبتسرة والتحيزات والأهواء، إلا أن الفلسفة فقدت استقلالها، وأصبحت تجري وراء العلم أينما ذهب، وضاع من الفلسفة روح التأمل والتساؤل، وغابت منها الحيرة والظنون والافتراضات، وتحولت إلى مذهب دجماطيقي يرفض كل تأمل يخرج عن حدود العلم ويتهمه بالخرافة والميتافيزيقا. وفي النهاية حل العلم محل الفلسفة، وأصبحت الفلسفة إحدى مراحل التفكير البشري بعد الدين وقبل العلم. ولم يعد لدى الإنسان أي مجال للتأمل النظري الخالص، إن لم يشأ العلم فعليه بالدين أو الفن يجد فيهما متعته ومبتغاه. (5)
هل الفلسفة تفكير على الفن؟ لقد ارتبطت الفلسفة أيضا منذ نشأتها بالفن كما ارتبطت بالدين وبالعلم. وكان التفكير في الجمال أحد مصادر التفكير الفلسفي، فالإنسان البدائي فنان قبل أن يكون فيلسوفا، الفن لغة وتعبيرا أكثر بدائية من الفلسفة التي تحتاج إلى تنظير وتعقيل وترتيب ومنطق وحجة وبرهان. وقد تساءل الفلاسفة قديما عن معنى الفن والجمال. ولا يوجد فيلسوف إلا ويتوج مذهبه بنظرية في الفن أو يطبقه في الجمال. وقد فام الفلاسفة أنفسهم بوضع نظريات علم الجمال أحد فروع الفلسفة. خصص له أفلاطون محاورة «فيدروس»، وجعل أرسطو كتاب «الشعر» أحد كتب المنطق. وكتب أوغسطين كتابا في «الموسيقى». وفي مرحلة المذاهب الفلسفية في العصور الحديثة خصص له كانط أحد كتبه النقدية الثلاثة «نقد ملكة الحكم» وأيضا «ملاحظات حول الجميل والجليل»، وتبعه في ذلك شيلر في «التربية الجمالية للإنسان»، كما طبق هيجل مذهبه في «دروس في الجمال» وتبعه شوبنهور حيث جعل الفلسفة تفكيرا على الفن والحياة. ولا يخلو فيلسوف معاصر إلا ويتطرق إلى الفن؛ فقد كتب ماركس وأنجلز في «الفن والأدب»، وجعل كيركجارد «الجمال» أولى مراحل الحياة. كما ارتبط الجمال بالحياة وبدفعاتها الحيوية عند جويو وبرجسون ونيتشه، وبالتأمل الروحي عند تولستوي. وتحول إلى فلسفة خالصة عند سوزان لانجر وكولنجوود وسوريو وسارتر وهيدجر، فالصورة الفنية وعمل الخيال هما الوظيفتان الأساسيتان للفلسفة.
14
ومع ذلك فالفن مجرد وسيلة للتعبير وليس فكرة وإن كان تجسيدا للفكرة. هو مجرد أسلوب في التعبير عن الدين أو الفلسفة أو العلم أحيانا وليس فكرا. والإدراك الجمالي أحد أنواع الإدراك مثل الإدراك الحسي والإدراك العقلي والحدس الفلسفي؛ ومن ثم يكون رد الفلسفة إلى الجمال هو رد للكل إلى الجزء وإغفال للمضمون من أجل الصورة وتضحية بالشيء المعبر عنه من أجل وسيلة التعبير. (6)
هل الفلسفة تفكير على العلوم الإنسانية مثل الاجتماع والسياسة والاقتصاد والتاريخ والقانون؟ هل هي تفكير على ظروف كل عصر وأحوال كل مجتمع؟ هل هي تعبير عن روح العصر التي تظهر في العلوم الإنسانية؟ مما لا شك فيه أن الفلسفة تعبير عن ظروف كل عصر. تنشأ فيها، وتعبر عنها، وتؤثر فيها خاصة عندما تدخل الأفكار الفلسفية في نسق متكامل وتصبح «أيديولوجيا»؛ وبالتالي فهي مجرد تفكير على العلوم الإنسانية لما كانت هذه العلوم هي التي تعكس روح العصر. وبالفعل لا يوجد فيلسوف إلا وطبق مذهبه في السياسة أو الاجتماع أو الاقتصاد أو التاريخ أو القانون. فهناك «جمهورية أفلاطون» و«القوانين» وكتاب «السياسة» لأرسطو، و«دستور أثينا» و«مدينة الله» لأوغسطين، و«رسالة في اللاهوت والسياسة» لاسبينوزا، و«مشروع السلام الدائم» لكانط، و«فلسفة الحق» لهيجل، و«أسطورة الدولة» لكاسيرر، و«القنبلة الذرية ومستقبل الإنسانية» لياسبرز، و«الإنسانية والرعب» لميرلوبونتي، و«نقد العقل الجدلي» لسارتر، و«الإنسان ضد الإنساني» لجابريل مارسل، و«فكرة السلام» لشيلر، و«العقل والثورة» لماركيوز. كما لا يوجد فيلسوف إلا وتوج مذهبه في موضوعات السياسة والاجتماع أو الاقتصاد؛ فقد كتب مارسل البادوي «المدافع عن السلام»، وهوبز «الإنسان والمواطن»، وميكيافيلي «الأمير»، وروسو «العقد الاجتماعي»، ومونتسكيو «روح القوانين»، ومور «يوتوبيا»، وكرمويل «الكنيسة والدولة»، وبيرك «في الثورة»، وهيوم «كتابات سياسية»، ومل «الحكومة النيابية»، وبوزانكويه «فكرة الدولة»، وباكونين «الله والدولة» وأورتيجا «ثورة الجماهير»، وديوي «الديموقراطية». بل إن «رسل» قد خصص ربما نصف إنتاجه الفلسفي للموضوعات الاجتماعية والسياسية مثل «المجتمع الإنساني في الأخلاق والسياسة»، «مبادئ النظام الاجتماعي»، «التربية والنظام الاجتماعي»، «آفاق جديدة لعالم متغير»، «الحرية ضد النظام»، «السلطة والفرد»، «الطرق إلى الحرية»، «السلطة»، «جرائم الحرب في فيتنام». بل إنه تحدث في أكثر الموضوعات الاجتماعية شيوعا مثل «الحصول على السعادة»، «الزواج والأخلاق»، «مدح الجنون». بل إن هناك فلاسفة قد عرفوا كذلك بنظرياتهم السياسية فقط دون أن تكون لهم أبنية ميتافيزيقية أو مذاهب فلسفية مثل هارنجتون، والقديس جوست، وجوزيف دي ميستر، وجودوين، وبرودون، وماركس، وباكونين، وسولفييف، وكاوتسكي، وتروتسكي وغيرهم. كما ظهر فلاسفة في التاريخ يفكرون في تقدم الشعور وأصبحوا فلاسفة لا يقلون أهمية وأثرا عن الفلاسفة الخلص مثل هردر، وفيكو، وكوندرسيه، وكورنو، وكروتشه، وتوينبي، واشبنجلر، واكتون وغيرهم.
15
ولكن تحولت الفلسفة من هذا النوع عند البعض إلى تفكير طوباوي كما حدث عند مور، وعند دعاة الاشتراكية الخيالية، وأصبحت تعبر عن أماني وتمنيات أكثر مما تعبر عن واقع إنساني. كما تحولت عند البعض الأخير إلى أيديولوجيات تنتهي بالحزبية والتعصب والمذهبية؛ وبالتالي تفقد الفلسفة روح البحث الحر، والقدرة على الحوار. كما تحولت عند فريق ثالث إلى مذاهب سياسية ونظم اقتصادية مثل الرأسمالية والاشتراكية والفوضوية والقومية والنازية والدولية؛ وبالتالي تحولت إلى سلوك عملي تدافع عنه الدولة بالجيش والبوليس، وتفقد الفلسفة قدرتها على النقد الاجتماعي وعلى تغيير الواقع.
16
وقد ارتبطت الفلسفة في تراثنا القديم بمثل هذا اللون من الفكر السياسي والاجتماعي، وظهر بصورة واضحة في علوم الفقه والشريعة أكثر مما ظهر في علوم الحكمة، ولكنه لم يكن فلسفة بالمعنى النظري بل تكييفا للسلوك العملي وتنظيما للحياة العامة. كما ارتبط فكرنا الإصلاحي الأخير بهذا اللون من التفكير السياسي والاجتماعي حتى أصبح هو الغالب على فكرنا القومي، فالتيارات الفكرية الثلاثة في فكرنا المعاصر: الديني والعلماني والقومي، كلها بدأت من الإصلاح والنهضة وتغيير الواقع الاجتماعي، وأعطت الأولوية للعلوم العملية على العلوم النظرية، وحاولت الدعوة إلى تأسيس علوم اجتماعية تنهض بحال الأمة وتعينها على النهضة.
17
ومع ذلك فإن اعتبار الفلسفة تفكيرا في المجتمع وبحثا في علومه يجعلها باستمرار وراء أحداث العصر غير قادرة على تجاوزها. فالعصر إحدى لحظات التاريخ ، والمجتمع إحدى حلقاته، والفلسفة وحدها هي القادرة على رؤية قوانينه الثابتة؛ لذلك ارتبطت الفلسفات الاجتماعية بفلسفات التاريخ، الفلسفة هي القادرة على إدراك الثبات من خلال التغير والماهيات المحمولة على الواقع؛ وبالتالي يظل السؤال النظري مطروحا حتى في خضم أحداث التاريخ. (7)
الفلسفة تحليل للتجارب البشرية لمعرفة ماهيتها. وهي تجارب العصر التي تظهر من خلال وعي الأفراد والجماعات بها. وتشترط الوعي اليقظ القادر على تحويل الوقائع إلى تجارب حية دالة يمكن إدراك ماهياتها بالحدس. كما تتطلب قدرة العقل على تحليل الشعور وإدراك المعاني الشاملة فيه؛ ففي الشعور يعمل العقل، وفي التجربة يعيش الواقع، وكلاهما يكونان وعي الإنسان بنفسه وبالعالم. كما تتطلب القدرة على التخلص من الأفكار المسبقة والآراء المنحازة، ووجهات النظر الخاصة، والتحرر من العادات والعرف والتقاليد والأفكار الموروثة حتى يبدأ الشعور العاقل أو العقل الشعوري عملية الإدراك والفهم بداية جديدة على يقين أولي هو الوعي بالذات وبالعالم. وفي الوقت نفسه يكون الشعور قادرا على قلب النظرة ورؤية الماهيات في التجارب الشعورية التي تعيش فيها الوقائع؛ وبالتالي تنتقل الوقائع المادية من المكان إلى تجارب حية في الشعور الداخلي بالزمان. ولما كان الشعور عاما وشاملا فإنه قادر على إدراك الماهيات الشاملة. ولما كان موضوعيا بلا تحيز أو هوى أمكن لشعور آخر إدراك نفس الماهيات، ويكون الاتفاق على الإدراك هو الموضوعية الإنسانية الجديدة أي الوصول إلى نفس الرؤية من فلاسفة عديدين؛ ومن ثم كان الشعور قادرا أيضا على البحث الحر واستقصاء الموضوع، ورؤية الواقع وعيش التجارب، وطرح وجهات النظر وتجريبها ثم جمعها في رؤية واحدة تكون متحدة مع الموضوع ذاته. ويشتد الشعور وينشط بالانتماء إلى وطن، والانتساب إلى جماعة، والولاء لقضية، والسعي نحو مثل أعلى وتحقيق رسالة، وعلى هذا النحو يخرج الشعور من دائرة التأمل الخالص وتحليل الماهيات إلى العالم الإنساني العريض حيث يتم تحويل الماهيات إلى أوضاع اجتماعية ومواقف إنسانية ووعي بالجماهير ومشاركة في حركة التاريخ. فالتاريخ واقع يحيا ، والواقع تاريخ حادث؛ وبالتالي ترتبط الفلسفة بالوعي الفردي والاجتماعي والتاريخي. لا تلعب دور أجيال مضت لتعيد التاريخ إلى الوراء، ولا تلعب دور أجيال قادمة لتقفز على مراحل التاريخ، ولكن تقوم بدور جيلها الحاضر معبرة عن روح العصر ورؤية التاريخ.
18
ثالثا: الفلسفة والسلطة
علاقة الفلسفة بالسلطة علاقة قديمة. فالفلسفة التي تظهر في مجتمع تعلن اكتشاف الفكر، وتبين ما غاب عن الأذهان. ولما كان العرف الشائع والأنظمة الاجتماعية القائمة لا يقومان إلا على العقائد الموروثة التي تكون حينئذ أكبر دعامة للنظام، اصطدم الفكر بالسلطة القائمة، سلطة التقاليد الموروثة أو سلطة النظم الاجتماعية. السلطة واحدة ولكنها تتنوع في الظاهر. أولها سلطة الموروث القديم المتمثل في العقائد والعرف والتقاليد والأفكار الشائعة والعادات وما ألفه الناس. هذا الموروث تتمثله القوى الاجتماعية فيتحول إلى سلطة سياسية تستعمله لاستتباب الأمن والمحافظة على الوضع القائم، وتتمثله السلطة الدينية فيتحول إلى مقياس للعقائد ومعايير للصواب والخطأ. ولما كان رجال الحكم ورجال الدين يشاركون في نفس المصالح أي الدفاع عن الوضع القائم، حدث التعاون بينهما ضد حرية الفكر وضد كسر ما هو مألوف والخروج عما هو شائع وهي مهمة الفلسفة ودور الفيلسوف. وغالبا ما يتم اضطهاد الفلسفة باعتبارها الحامل للفكر الحر في لحظات ضعف السلطة وليس في قوتها رغبة في حماية نفسها ضد المفكرين الأحرار، فتعتمد على السيف في مواجهة الفكر، وتقرع الحجة بالاعتقال، والبرهان بالتعذيب، والدليل بالنفي والطرد. وتكون الغلبة في النهاية لحرية الفكر التي تكشف ضعف السلطة وتضع حدا للطغيان. وغالبا ما تفشل السلطة في القضاء على الفكر كما قال نابليون من قبل إثر هزيمته لألمانيا عسكريا ومواجهة «فشته» له بالفكر: «لقد هزم القلم السيف.» إذ يتخذ الفكر حينئذ ثلاثة اتجاهات: الأول ممالأة السلطة وتبرير قراراتها وهو الفكر الرسمي الذي يسود أجهزة الدولة، والثاني مقاومة السلطة في صورة منشورات وكتابات سرية داخل البلاد أو خارجها، والثالث رجوع الفكر مكتوما في صدور الناس، لا يعبرون عنه إلا في الجلسات الخاصة أو علنا في صورة نكات شعبية أو عند بعض الكتاب في الأدب الرمزي. الفلسفة والسلطة إذن نقيضان، إذا غاب أحدهما حضر الآخر. ويشهد بذلك تاريخ الفكر البشري في الصراع المشهور بين الأنبياء والكتبة، بين الفلاسفة والحكام، بين الصوفية والفقهاء، بين المفكرين الأحرار ورجال الدين، وكأن تاريخ الفكر البشري يتحدد أساسا بصراعه مع السلطة. أحيانا يكون النصر للسلطة والهزيمة للفكر وأحيانا أخرى يكون النصر للفكر والهزيمة للسلطة، وهنا تموت الفلسفة أو تحيا.
1
تموت الفلسفة إذن إذا ما انهزمت أمام السلطة وتخلت عن دورها في التمسك بحرية الفكر، ووظيفة النقد، وضرورة التغيير، وحتمية التقدم. تموت في حكم الطغاة وتنتهي في نظم الإرهاب ولو إلى حين حتى ينتصر الفكر وينتهي الطغيان. وأكبر شاهد على ذلك حال الفلسفة في عصر آباء الكنيسة ثم في العصر الوسيط حتى عصر النهضة وبدايات العصر الحديث. فقد كانت هناك عدة اتجاهات في عيش المسيحية والإحساس بها وصياغة عقائدها منذ الحواريين حتى قبل العصر الرابع، عصر التقنين ومجمع نيقيا الأول والانتهاء إلى صياغة واحدة للعقيدة، واعتبار كل ما خالفها كفر ومروق وزندقة وهرطقة. فضاعت فرص اعتبار المسيح عيسى بن مريم إنسانا لا ألوهية فيه كما قال أريوس، وضاعت فرصة التأكيد على الحرية الإنسانية كما قال بلاجيوس، وضاعت فرصة إقامة الدين الوطني المناهض للاستعمار كما حاول دوناتوس. واستمر الحال كذلك حتى العصر الوسيط وخروج دفعة ثانية من الفلاسفة العقلانيين وفي مقدمتهم أبيلار وأنصار ابن رشد اللاتيني دفاعا عن التوحيد وعن سلطة العقل فكان جزاؤهم السجن والتشريد. واشتد الأمر حتى أقيمت محاكم التفتيش، ونصبت قوائم الكتب الممنوعة، وحوكم العلماء وحرق الفلاسفة بدعوى مناهضة السلطة، سلطة القدماء وسلطة الدين. وأمثلة جاليليو وجيوردانو برونو وغيرهم كثيرة. واستمر اضطهاد السلطة للمفكرين الأحرار فيما بعد عصر النهضة حتى شمل فلاسفة التنوير الذين استطاعوا في نهاية الأمر التحرر من سلطان الكنيسة، وكان ذلك نذيرا أيضا بانتهاء السلطة السياسية وبداية الثورات الشعبية. بل وامتد الاضطهاد حتى القرن الماضي بعد ظهور نظرية التطور عند داروين ومناصبة الكنيسة له العداء، ولكن انتصار العلم بعد انتصار العقل جعل السلطة تتوارى داخل حدودها الطبيعية وعدم خروجها عن ميدان العقيدة.
2
وفي تراثنا القديم قامت الدولة الأموية في بدايتها أيضا باضطهاد المعارضة، ولما كانت الدولة والمعارضة على حد سواء تقومان على أسس فكرية، فقد أفرزت كل منهما الفكر الذي يؤيدها. فخرج الفكر السني لتأييد الدولة، وخرج الفكر الشيعي لمعارضة الدولة. كما نشأت فرق المعارضة من داخل أهل السنة مثل المعتزلة والخوارج للمقاومة من الداخل وبنفس السلاح النظري، واعتمدت الدولة على سلطة الفقهاء لتبرير سلطتها ولحمايتها من هجمات المعارضة حتى أصبح الفقهاء يكونون السلطة في تراثنا القديم منذ المعتزلة الأوائل: معبد الجهني، وغيلان الدمشقي، وعمرو بن عبيد، حتى آخر الفلاسفة: ابن رشد، وإحراق كتبه في ميدان قرطبة. فهم - الفقهاء - الذين كانت لهم القوامة على الفكر، يصيغون العقائد، ويميزون بين الصحيح منها والباطل، يتمثلون الصحيح، ويتهمون المعارضة بالكفر والزندقة، يدفعهم في ذلك حرصهم على تراث الأمة ودينها، ومقاومتهم للغزو الثقافي الخارجي في أحسن الأحوال أو تدعيمهم للنظام القائم وتنصيبهم فقهاء السلطان، يأخذون الثمن، ويشترون بآيات الله ثمنا قليلا في أسوأ الأحوال. في كلتا الحالتين، وضعوا النقل، باعتباره سلطة الدولة وسلطة الدين، في مواجهة العقل باعتباره آلة الكفر وسلاح المعارضة، والأنا في مواجهة الغير، والداخل في مواجهة الخارج، تقوقعا على الذات، وحماية النفس، وكانت النتيجة أن ساد تيار واحد هو تيار الأشاعرة في كل العلوم الدينية: علم أصول الدين وعلم أصول الفقه بل وفي علوم الحكمة وعلوم التصوف، واضطهدت جميع الفرق الأخرى فذبح الجعد بن درهم بعد صلاة الجمعة، وصلب الحلاج، وقتل السهروردي، وصدرت الفتاوى بتحريم الفكر والنظر وأشهرها فتاوى ابن صلاح في تحريم الاشتغال بالمنطق والفلسفة.
ولكن تحيا الفلسفة بمقاومة العقل للسلطة وبتمسكها بحرية الفكر، وبحقها في البحث والنظر وطلب الحجة والبرهان. تحيا الفلسفة بحرية الفكر وبالإعلاء من شأن العقل واعتباره هو السلطان الأوحد على كل شيء. العقل هو وسيلة التحليل، وإدراك الواقع، وفهم الظواهر، والحوار مع الآخرين، وقبول الحقائق والبرهنة عليها، والدفاع عنها، ويشهد التاريخ على ذلك. فالفلسفة اليونانية - هذا الإبداع الذي لا مثيل له في الفكر البشري - قد قامت بفضل العقل، واستعماله وتوجهه نحو الطبيعة كما هو الحال عند الطبائعيين الأوائل وأرسطو، أو نحو المثال كما هو الحال عند سقراط والمدارس الأخلاقية بعد أرسطو في حرية تامة دون إرهاب أو طغيان. بل إن سقراط قد انتصر في نهاية الأمر على قضاته وعلى ممثلي الشعب في أثينا، وبقي في التاريخ رائدا من رواد حرية الفكر، والحوار مع التلاميذ والمناقشة العامة في الأسواق. فحرية الفكر هي الباقية ضد التسلط، وأحرار الفكر هم المساهمون في تقدم البشر وحركة التاريخ ضد حكم الطغاة.
كما حييت الفلسفة على يد الهراطقة وإن لم يظهر ذلك على السطح نظرا لطغيان آباء الكنيسة الأوائل. بل ساهموا في تكوين العقيدة المسيحية في قلوب الناس وفي روح التاريخ أكثر مما ساهمت صياغات الكنيسة النظرية التي بقيت في ثنايا الكتب وفي ملخصات العقائد كمهنة في المعاهد الدينية. وبقيت تتخمر حتى عادت للظهور من جديد لدى الموحدين
Unitarians
والعقليين وأصحاب مذهب التقوى
ودعاة الحرية، وما جان بول سارتر إلا بلاجيوس من جديد. كما حييت الفلسفة على يد الفلاسفة العقليين في العصر الوسيط وفي مقدمتهم أبيلار الذي جعل عصر النهضة ممكنا بعد التأكيد على سلطة العقل في مواجهة سلطة الموروث القديم. ولقد حييت الفلسفة بالفعل في عصر النهضة عندما انتقل الفكر من السلطة إلى العقل، ومن التقاليد إلى التحرر، ومن الكتاب إلى الطبيعة، ومن «قال أرسطو» إلى برهان العقل؛ وبالتالي يمثل عصر النهضة عصرا فلسفيا بالأصالة لأنه تتمثل فيه الثورة على القدماء من أجل اكتشاف الطبيعة والثقة بالمعرفة الإنسانية. واستمرت الفلسفة في حياتها بتأكيد العقل لذاته في القرن السابع عشر وسيادة العقلانية كتيار أساسي في الحياة العامة. ثم بلغت قمة إحساسها بالحياة وبفورة الشباب في القرن الثامن عشر على يد المفكرين الأحرار الذين أنهوا بقايا السلطتين الدينية والسياسية من أجل «شنق آخر ملك بأمعاء آخر قسيس» كما يقول فولتير، وكان آخر انتصارات العقل والعلم ضد السلطة نظرية التطور في القرن الماضي بفضل دارون، وأصبح دفاع السلطة الدينية عن نفسها ضد العقل والعلم مجرد شهادة للتاريخ على المحافظة على الموروث القديم . وفي تراثنا القديم تصدى أوائل المعتزلة للسلطة الأموية وضد نظريات الجبر التي أفرزتها. وظلوا يحملون لواء الفكر الحر على مدى قرنين من الزمان حتى أصيبوا بمحنة الاضطهاد. كما قاوم أئمة آل البيت بعقائدهم، وقاوم الخوارج أيضا بنظرياتهم وكونوا دولهم التي عاش البعض منها حتى الآن، وما زلنا نحن منذ فجر النهضة الحديثة نجاهد من أجل الفكر ننجح مرة ونتعثر مرات.
3
إن موت الفلسفة وحياتها دورتان مستمرتان تتحركان بعلاقة الفلسفة بالسلطة، ففي نفس الوقت الذي تموت فيه الفلسفة ظاهريا في المجتمعات التسلطية يتحول الفكر من الصوت المكتوم في النفس عند الفرد إلى الفعل الجماعي السري عند الجماعة. وينقلب من فكر المضطهدين إلى فكر المناهضين. ولا تلبث اتجاهات المعارضة والأحزاب السرية حتى تنقض على السلطة سواء في انفجارات شعبية أو في انقلابات عسكرية، فيتحول المجتمع كله من مجتمع تسلط إلى مجتمع حرية. وقد لا يمنع ذلك من أن تمارس السلطة الجديدة بعض أساليب القمع ضد حلفاء الأمس الذين دخلوا جميعا في البداية على قدم المساواة في جبهة وطنية واحدة ضد التسلط والقهر، فتستأثر بالسلطة بمفردها. وهنا تنشأ جماعات سرية أخرى لمناهضة السلطة الجديدة. وهكذا تحمل السلطة مقومات فنائها، وكأن الحرية الفكرية إذا ما تحولت إلى سلطة سياسية حافظت على السلطة أكثر مما تحافظ على نفسها وبالتالي تتحول إلى نقيضها.
رابعا: الفلسفة والمذهب
تنشأ الحاجة إلى ترك الفلسفة والأخذ بالمذهب عندما ينشأ دافع الاستحواذ ورغبة التسلط والحاجة إلى الدفاع عن النفس ضد مخاطر الفلسفة التي تعني الفكر الحر والحوار المفتوح والتقدم المستمر. حدث ذلك مرات عدة في تاريخ الفكر البشري وفي عدد من الحضارات الإنسانية. حدث ذلك لأول مرة في الحضارة الغربية بعد نشأة المسيحية وأخذها الطابع الأخلاقي الروحي العملي وتحويلها لقلوب الناس، وتغييرها لأساليب حياتها. فجاء بولس ونظم العقائد، وصاغ النظريات، ووضع كل ذلك في مذهب عقائدي صارم يكفر ما سواه، ويعتبر أصحابها من «العلماء الكذبة» حماية للعقيدة ، وتأسيسا للسلطة، ودفاعا عن الكنيسة. فبذر بذور الشقاق الذي سيحدث فيما بعد بين الكنيسة الشرقية والكنيسة الغربية، ثم داخل الكنيسة الغربية ذاتها بين البروتستانت والكاثوليك. ثم نشأت الحاجة مرة ثانية في عصر آباء الكنيسة الأوائل، عندما تشعبت الفرق الدينية واختلف الناس في فهم طبيعة المسيح، فتدخلت السلطة الدينية مرة ثانية لتختار عقيدة دون أخرى وتتبنى مذهبا وتكفر ما عداه، وتصوغها في عبارات لا حيدة عنها كما فعلت في مجمع نيقيا الأول. ولما اشتد الفكر الحر في العصر الوسيط المتأخر وبدأ العقل يأخذ سلطانه ويتبدد الشر ويظهر التناقض بين العقل والإيمان سارع علماء الكنيسة بوضع مذهب لاهوتي جديد يقوم على سلاح الخصوم وهو العقل، وعلى أحدث فلسفات العصر وهو مذهب أرسطو. فكتب توما الأكويني «الخلاصة اللاهوتية» لصياغة مذهب جديد يحمي به العقيدة من هجمات اللاهوتيين العقليين وأنصار الفلسفة الإسلامية. وأخيرا جاءت المحاولة الرابعة في بداية العصور الحديثة في عصر النهضة بعد أن تم تقويض كل النظريات القديمة والتصورات السابقة للعالم التي سادت العصر الوسيط والتي اكتشف العقل زيفها وتعارضها معه وتناقضها، وبعد اكتشافات العلم الحديث والثقة بشهادة الحس واطراد التجربة. ولما أعطى عصر النهضة تصورات جزئية عن الإنسان والكون، وأصبح في القرن السابع عشر للعقل السلطان على كل شيء، بدأت الحاجة إلى المذاهب الفلسفية الشامخة لإعطاء تصورات عامة وشاملة بديلة عن التصورات الأولى التي انهارت وتم القضاء عليها تماما. فالإنسان لا يستطيع أن يعيش في هذا الكون دون تصورات عامة، والمجتمع لا يستطيع أن يسلك أو أن يعيش دون رؤية شاملة له. نشأت هذه المذاهب الشاملة إذن كرد فعل على العقائد النظرية القديمة التي كانت تقوم بوظيفة التصورات للعالم، لا تريد أن تتزحزح عن موقفها دفاعا عن العالم ودفاعا عن المكتسبات البشرية التي من أجلها سالت دماء الشهداء من المفكرين والعلماء. وقد حدث الشيء نفسه في تراثنا القديم عندما تمت صياغة العقائد على يد الأشعرية وأصبحت هي نموذج الإيمان الصحيح وتكفير عقائد كل الفرق حتى كثرت العقائد «النسفية» و«الطحاوية» و «العضدية»، يتم تلقينها جيلا بعد جيل كأنها أشياء أو ميراث أو مقدسات لا يمكن الاقتراب منها أو العدول عنها.
تموت الفلسفة إذن إذا ما تقوقعت وتكورت على ذاتها، وتحولت إلى مذهب مغلق يكون بديلا عن الواقع ذاته. كل ما يتفق مع المذهب يكون صحيحا، وكل ما خالفه يكون باطلا. فالمذهب هو المعيار الذي يقاس به كل شيء، وهو القالب الذي تقد عليه كل فكرة. المذهب عالم مغلق لا مداخل إليه ولا مخارج منه، دائرة مغلقة لا فجوات بها؛ لذلك فإنه لا يقبل التطور أو التغير مهما تغيرت الظروف والأحوال. مذهب أبدي شامخ كالطود، حقيقة مطلقة لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها، يدور الأفراد في فلكها. بل إنه لا يقبل التعديل أو النقد من أنصاره، وإلا كان ذلك نهاية له وانفتاحا وتطورا. يؤخذ كله أو يرفض كله. لا يمكن الدخول في حوار معه فهو بناء متكامل لا يقبل إعادة النظر أو المراجعة.
1
وتكون النتيجة التخشب والتصلب والموت للفلسفة وللفكر وللحياة. ابتعدت المذاهب عن واقع الحياة وحركتها وتحجرت حتى لم يعد يشعر فيها أحد بنبض إنسان بلحمه وعظمه. بل كانت مجموعة من الأطر الهيكلية والمقولات والتصورات تتركب فيما بينها بطريقة آلية لتعطي صورة للوجود دون مضمونه حتى لقد جعل كيركجارد من حياته كلها صراعا ضد المذهب، ضد العملية الكونية التاريخية دفاعا عن الفرد، هذا الكائن الحي بلحمه وعظمه كما يقول أونامونو. وإن الجبال كلها إذا وقعت عليه وهشمته وكسرت ضلوعه فإنه أقوى منها لأنه يشعر أنه يتحطم وهي لا تشعر بشيء. وهو ما قصد إليه القرآن الكريم بقوله:
إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا (الأحزاب: 72)، فالإنسان أعظم من السموات والأرض والجبال لأنه حرية ودعوة ورسالة وإمكانية وتحقق ومشروع.
ولما تعددت المذاهب طبقا لمزاج الفيلسوف وتربيته ورؤيته للواقع وأهدافه تحولت المذاهب المختلفة إلى حقائق نسبية بعد أن ادعى كل منها أنه الحقيقة المطلقة، ولما كانت الحقيقة المطلقة لا تتعدد فقد نشأ بينها أي (المذاهب) التصادم والصراع فضاعت الحقيقة المطلقة التي كانت في البداية الدافع على نشأة المذاهب وبنائها. وللتغلب على هذه النسبية يتحول البعض منها إلى أيديولوجيات سياسية ومذاهب اقتصادية أو تنظيمات حزبية تعيد الحياة إليها، وتلجأ إلى الواقع باعتباره المحك الأول لصدقها دون غيرها. فتتحول إلى دجماطيقية أكثر، وتتعصب وتتحزب. والروح الحزبية في نهاية الأمر على النقيض من الروح الفلسفية. فقد تحول الجدل من مجرد مذهب إلى أيديولوجية سياسية ثم إلى تنظيم حزبي ثم إلى نظام سياسي ثم إلى دولة ثم إلى معسكر غابت عنه حرية الفكر، وضاعت منه حرية النقاش والحوار، وخفتت فيه أصوات المعارضة. وأصبحت هذه الدول توصف بالنظم الشمولية التسلطية تعلو فيها أصوات المنشقين، وتكثر فيها محاولات هروب الفنانين والأدباء، وتنتهي بسجن العلماء والمناهضين. تسيطر فيها الدولة على جميع مظاهر الإبداع البشري في الفن والعلم والفلسفة، وقد يزداد خطر الحرب لحل الصراع المذهبي بين النظم السياسية المتعارضة مثل النظم الاشتراكية والرأسمالية. كما قد تكون وسيلة الحوار بين المصالح الطبقية المتعارضة هو الصراع الطبقي واستعمال العنف وإراقة الدماء. فتسيل الدماء بدل أن تسيل الأقلام، وتتصارع السيوف بدل أن تتقارع الحجج.
2
ويشهد التاريخ على موت الفلسفة عندما تسود روح المذهب. فقد كان القديس بولس أول من «مذهب» المسيحية ووضعها في صورة عقائد محكمة في نظريات الخلاص والفداء والخطيئة إثر القديس يوحنا «اللاهوتي» فقضى على روح المسيحية كما عبر عنها المسيح في «الوصايا على الجبل» دعوة إلى المحبة والتواضع والتأمل، وقضى على روح الحوار التي كان المعلم يتبعها مع تلاميذه، بل مع أعدائه من اليهود والمنافقين والكتبة والأغنياء والفريسيين. ثم تعقدت روح المسيحية من جديد وتمذهبت مرة ثانية في مجمع نيقيا الأول، وتم تكفير كل الآراء المعارضة واعتبارها هرطقات للرد عليها. وقد قام القديس أرينيوس بذلك بالفعل في «الرد على الهراطقة»، مع أن هذه العقائد كلها كانت معاشة بين الجماعات المسيحية الأولى بنفس الدرجة التي عاشتها العقائد المسيحية الرسمية. بل ساهمت في تكوين هذه العقائد الرسمية ذاتها لأنها لا تخلو من آثارها. وكانت النتيجة أن انشقت عن المسيحية الأرثوذكسية أولا ثم البروتستانتية ثانيا. وتوالت حركات الانشقاق كلها ترفض روح المذهب ونسق العقائد. ثم أعاد توما الأكويني صياغة المذهب من جديد في «الخلاصة اللاهوتية» ورفض كل ما عداه في «الرد على الأمم» معيدا بناء المذهب ليس على أساس أفلاطوني كما كان الحال في عصر آباء الكنيسة الأوائل، بل على أساس أرسطي جديد، ولكن المذهب لم يتغير واستعمل في مواجهة ما يسمى بحركات الإلحاد في العصر الوسيط المتأخر الذي قاده أنصار الجدل مثل بيرانجيه التوري وانسيلم البساطي والفلاسفة العقلانيين تلاميذ المسلمين مثل أبيلار والرشديين اللاتين. وقد نشأ فرع جديد بأكمله لهذا الغرض وهو «علم اللاهوت العقائدي» دفاعا عن المذهب، تحول فيه الدين إلى بناء ضخم. بل إن علوم الأخلاق والسياسة والاجتماع والقانون والتاريخ تحولت أيضا إلى فروع للاهوت في اللاهوت السياسي، واللاهوت الاجتماعي، واللاهوت القانوني، واللاهوت التاريخي. بل إن البروتستانتية التي قاومت روح المذهب من أجل الإعلاء من شأن الإيمان اللحظي الفردي القلبي الباطني، قد وقعت أيضا تحت الإغراب المذهبي فلم يختلف اللاهوتيون البروتستانت عن زملائهم الكاثوليك في صياغة أكثر المذاهب إحكاما. ففي هذا القرن أعاد كارل بارت بناء المذهب في «العقيدة»
La Dogmatique
حماية لها من تأويلات المحدثين، ونظرات المجددين وتفسيرات اللاهوت الجديدة «لاهوت التحرر، ولاهوت الثورة، واللاهوت العلماني، واللاهوت الإلحادي».
3
وفي بدايات العصر الحديث تحولت الدجماطيقية إلى مذهب فلسفي عند فولف يقوم على الفلسفة العقلية، وعلم النفس العقلي، والطبيعة العقلية، واللاهوت العقلي ... إلخ، فتحولت الفلسفة إلى نسق محكم يطابق حتمية الطبيعة لا يمكن أن تهتز أمام تحليل التجارب الإنسانية الحية أو المواقف الإنسانية الفردية ... وقد دعا ذلك كانط إلى التصدي «للدجماطيقية» واضعا في مقابلها الفلسفة «النقدية» مبينا أن الفلسفة ليست في كم المعلومات ونسق الأفكار بل في معرفة شروط المعرفة وإمكانياتها أولا حتى لا يتجاوز الإنسان بقدراته المعرفية حدودها فيقع في الدجماطيقية. ثم بلغت المذهبية أوجها عند هيجل حتى لقد عرفت فلسفته باسم المذهب
Le systeme
ضم الحس والعقل والقلب، الفرد والأسرة والمجتمع، المنطق الذاتي والمنطق الموضوعي والمنطق الذاتي الموضوعي، الدين والأخلاق والفلسفة، الاجتماع والسياسة والقانون، الماضي والحاضر والمستقبل، الإنسان والعالم والله. لم يخل المذهب من شيء واحد لم يتعرض له حتى فقد الإنسان فرديته في العالم وحريته أمام الضرورة التاريخية مما سبب ثورة كيركجارد وجميع الوجوديين عليه.
4
وفي تراثنا القديم ظهرت النزعة المذهبية في كتب العقائد سواء عقائد الإمامية أو عقائد الأشعرية، وكلتاهما تعبر عن مجموعة من المطلقات المغلقة التي لا يمكن الخروج عليها، للعقل نقدها أو للواقع دحضها. مع أنها في نشأتها كانت أوضاعا اجتماعية تعبر عن جماعات من المضطهدين خارج السلطة أو عن أقليات من المضطهدين من أصحاب السلطان كل منهما يبرر نفسه ويدافع عن شرعيته في التاريخ باستعمال سلاح العقيدة، فخرجت العقائد الإمامية للدفاع عن الفريق الأول مثل الإمامة والغيبة والعصمة والتقية لإبقاء الجماعة في التاريخ كأصابع ديناميت أو قنابل موقوتة تنفجر إذا ما حانت ساعة الخلاص. وخرجت عقائد الأشاعرة مثل العقائد النسفية، والعقائد العضدية، والعقيدة الطحاوية، والعقيدة السنوسية إلى آخر هذا التنميط للعقائد الإسلامية ابتداء من «الفقه الأكبر» لأبي حنيفة حتى عقائد الدردير واللقاني. تحول الإسلام إلى مذهب أي عقائد ثابتة تكون حقيقة الإيمان ومضمونه، من يعتنقها يؤمن، ومن يخرج عليها يكفر؛ وبالتالي ضاعت الفلسفة وانتهى روح التأمل وطرح المسائل وإعطاء مختلف الحلول على قدم المساواة، مع أن هذه العقائد ذاتها مثل عقائد الإمامية، من وضع التاريخ. لم تكن هناك عقائد في البداية بل كانت هناك حركة في التاريخ وتحقيق «رسالة التوحيد» فيه. فلما انتصرت الدولة السنية أفرزت «الأشعرية» كفكر السلطة، وبدأ تقنينها في نسق عقائدي في مواجهة الخصوم ثم تبنتها الدولة دفاعا عن التصورات المطلقة للعالم ولتكفير كل العقائد الأخرى التي تفسح المجال للحرية الإنسانية وللعقل الطبيعي ولاستقلال قوانين الطبيعة. وتم تكفير كل العقائد الأخرى بالاعتماد على بعض الأحاديث الضعيفة مثل حديث «الفرقة الناجية» التي يتم فيه تكفير كل فرق الأمة الثلاث والسبعين باستثناء فرقة واحدة هي الفرقة الناجية، فرقة الحكومة! والمتتبع لهذه العقائد نشأة وتطورا يجد أنها تعكس ظروف المجتمع وتاريخ الأمة من حيث العدد والصياغة؛ فقد بدأت بست عقائد في الذات الإلهية وبسبع في صفاتها. ثم انقسمت الصفات إلى اسم وفعل مثل عالم بعلم، وحي بحياة، وقادر بقدرة فتضاعفت. ثم نفي الضد مثل عالم وليس بجاهل، بعلم وليس بجهل ... إلخ، فتضاعفت مرة أخرى فأصبح المجموع 6 + 6 (نفي الضد) + 14 + 14 (نفي الضد) فأصبح مجموع العقائد في الله أربعين عقيدة، وفي الرسول أربعا تنفي أضدادها فيكون المجموع ثماني وأربعين عقيدة يجب على المسلم الإيمان بها. وقد تزيد في جيلنا أو في الأجيال القادمة. كل ذلك من عمل المذهب نتيجة للانغلاق على الذات والانعزال عن الواقع فتعيش العقيدة على ذاتها حتى تتآكل في النهاية.
5
إنما تحيا الفلسفة بكسر حدة المذهب والخروج من حصاره والإفلات من دوائره. غابت روح المذهب عن الفلسفة اليونانية وبالتالي ازدهرت الفلسفة، وأصبح طريقها هو الحوار الذي خلده أفلاطون في «المحاورات» والذي وضعه المعلم سقراط، دون وضع نظريات مسبقة بل التساؤل عن المعتقدات الشائعة ومطالبة المعارضين بالبرهان فيكتشف الإنسان الصواب أو الخطأ من نفسه. وهو الطريق الذي وضعه القرآن بقوله:
وفي الأرض آيات للموقنين * وفي أنفسكم أفلا تبصرون (الذاريات: 20-21). بل إن أرسطو نفسه لم يضع مذهبا. وقد وصفه برجسون بأنه «عبقرية كل العصور لكنه لم يضع مذهبا.» بل كانت عينه مفتوحة على الطبيعة كما هي يدرك حركتها ولرؤية الفردي والضروري في آن واحد كما فعل برجسون بالحدس، هذا التعاطف الوجداني مع الواقع والاتحاد به لإدراك ماهياته المستقلة من خلال التجربة. كما أعطى أوغسطين نموذجا آخر لروح التفلسف في مواجهة المذهب بالرغم من استعماله هذه الروح دفاعا عن العقائد الرسمية للكنيسة. استعمل الحوار السقراطي الأفلاطوني وغاص في التجارب البشرية التي تكمن وراء العقائد. فكان فيلسوفا أكثر منه عقائديا. وأمكنه الدفاع عن المسيحية باسم السلطة حتى لو كانت سلطة الروح أو سلطة الاختيار. ولم يكن ذلك فقط في «المحاورات الفلسفية» التي كتبها في شبابه بل أيضا في كتبه العقائدية الصرفة مثل «كتاب التثليث» حيث لا يكاد يرفض أي فيلسوف المظاهر الثلاثية في الحياة مثل: الحس والعقل والقلب، الشهوة والغضب والعقل، الأب والأم والابن، السماء والأرض وما بينهما، المتكلم والمخاطب والغائب ... إلخ، كما نجح الجدليون في العصر الوسيط المتأخر في التخفيف من روح الأنساق العقائدية بالاعتماد على العقل وكسر حدة المذهبية العقائدية، ولو أن استعمال العقل كان جدليا أكثر منه دعوة للحوار المفتوح دون تعصب أو هوى، فالجدل إحدى وظائف العقل وليس عمله الرئيسي وهو البرهان. إنما يكفي أن الجدل قد أعطى للآخر الحق في تناول العقيدة وجعلها محور النقاش، وموضوعا للأخذ والرد، وللقبول والرفض. وقد بدأت العصور الحديثة بروح التفلسف المعادية للمذاهب العقائدية والفلسفية القديمة. فكان ديكارت يتهكم على القدماء، ويفخر بجهله بعلمهم. واستمرت روح التفلسف ابتداء من أن العقل هو أعدل الأشياء قسمة بين الناس ويطلب الوضوح والتميز ويقين البداهة. كما وضع كانط الفلسفة النقدية في مواجهة الفلسفة الدجماطيقية، وأن معرفة إمكانيات المعرفة أهم من نتائج المعرفة فازدهرت الفلسفة وحييت على يد الكانطيين، وأصبحت المشكلة الكانطية هي المشكلة الفلسفية بالأصالة. كما حييت الفلسفة بعد التحرر من المذهب عند هيجل، وازدهرت على أيدي الهيجليين الشبان منهم والشيوخ حتى أتت الفلسفة الوجودية، وانتعشت الفلسفة بل والميتافيزيقيا في فلسفة التساؤل والدهشة والبحث عن المعاني، والغوص في أعماق الوجود الإنساني. وقد قام المعتزلة بالشيء نفسه في تراثنا القديم فبمواجهة العقائد السلفية ومن أجل الدعوة إلى حرية البحث والنظر، فالنظر أول الواجبات، بل إن الشك واجب قبل النظر. النظر يولد العلم بل والعلم اليقيني، ولكن لسوء الحظ لم تعش هذه المحاولات وما زالت محاولات بعثها تصطدم بالمذهب الموروث الذي اتحدت معه السلطة فأصبح أكبر دعامة لها.
6
خامسا: الفلسفة والابتسار
وكما أن الفلسفة تموت إذا ما سادت المذهبية والشمول والغطاء ووضع جميع البشر تحت القبة السماوية التي لا منافذ منها، فإن الفلسفة تموت أيضا من قصر النظر والابتسار والرد والاقتضاب والتجزئة. فإن ضيق الأفق والالتصاق بالموضوع إلى حد محو المسافة بينه وبين الذات اللازمة للإدراك يؤدي إلى غياب النظرة الشاملة وعدم رؤية العلاقات بين الأجزاء. ولما كان الجزء بمفرده ليس قانونا ولا نظاما ولا تصورا حدثت الأزمة في العلوم، فينتقل الوعي إلى جزء آخر يجربه إلى حين وهو الجزء المقابل للأول وكرد فعل عليه فتنفرج الأزمة مؤقتا ولكن سرعان ما تظهر من جديد. فيتم تجريب جزء ثالث في الوسط يجمع بين الجزءين السالفين قدر الإمكان، ولكنه يظل أيضا جزءا أو كلا مصطنعا مجزأ مفككا، ويتم الانتقال من جيل إلى جيل بطريقة المحاولة والخطأ حتى تصبح الحيرة سمة عامة للوعي فيقع في نهاية الأمر في النسبية والشك، أو ينتهي به المطاف إلى العدمية المطلقة.
وقد حدث ذلك في الوعي الأوروبي ويعرف باسم الابتسار أو الرد أو الاقتضاب، رد الكل إلى أجزائه، وتقليص الشيء أو ابتسار الواقع وتقطيعه إلى أجزاء، وبتكرار هذا الرد يتحول إلى عادة في الوعي، فلا يواجه كلا إلا إذا رده إلى الأجزاء خوفا من الوقوع في الكليات التي لا تدعمها شهادة الحس. فاليقين المادي على الأقل يمكن رؤيته وقياسه كما، والبرهنة عليه حسا، وليس ظنا أو سرابا أو وهما كما كانت الكليات السابقة من قبل. عظم شأن الاستقراء، وتوارى الاستنباط، وتحول كل شيء إلى كم يقاس، وإلى أجزاء تعد حتى لم يعد هناك وجود لكيف أو لمعنى أو لقيمة أو لفكر أو لتصور. كان من الطبيعي أن يجرب الوعي الأوروبي الجزء بعد أن اكتشف زيف الكل الذي ورثه من العصر الوسيط والذي سرعان ما تهرأ وتهاوى بعد اكتشاف عصر النهضة والعلم الجديد. وقد حدث هذا الانهيار في كل العلوم لأنها كانت في معظمها كليات نابعة من العقائد، والعقائد من الكنيسة، والكنيسة من التاريخ. ولم يكن لها ما يصدقها من الحس أو المشاهدة أو التجربة أو العقل أو الاستدلال.
وهنا تموت الفلسفة لأنها لا تذهب إلى ما وراء الأجزاء لتدرك العلاقات وتبحث عن المعاني فيما وراء الألفاظ، وتكشف عن الدلالات. فاللامرئي هو أساس المرئي، والتصور الكلي للعالم هو الذي يربط بين الأجزاء، والإنسان يكون أقدر على رؤية الجزء من خلال الكل . وكثيرا ما كانت الاكتشافات العلمية في إدراك العلاقات الكلية.
1
ويؤكد تاريخ الفكر البشري موت الفلسفة حين تقع في الابتسار والتجزئة ووجهات النظر التي تنم عن التعصب والتحزب والانحياز. كانت الفلسفة اليونانية في اتجاهاتها الثلاثة: المثالية والواقعية والإنسانية نظرة شاملة للكون. ولم تقع في الابتسار إلا عند السوفسطائيين والشكاك الذين أنكروا المعاني المستقلة وراء الألفاظ، والحقائق وراء المدركات الحسية، ولكن الفريقين كانا عرضين في الفكر اليوناني. كذلك لم تقع العصور الوسطى في الابتسار نظرا لسيادة العقائد الكلية والتصورات الشاملة، ولكن ابتداء من العصور الحديثة وقع الوعي الأوروبي في الابتسار وفي النظرة الجزئية بعد رفع الغطاء النظري الشامل الذي كان سائدا في العصر الوسيط ابتداء من فرنسيس بيكون، واستمرارا عند لوك وهوبز وهيوم وانتهاء بالوضعية الاجتماعية والمنطقية.
2
ربما لم تمت الفلسفة عند بيكون أولا نظرا لأن الحس والتجربة كان لهما دور إيجابي في الكشف عن الأوهام وتأسيس المعرفة اليقينية، ولكن ظهر الابتسار بشكل واضح في المدرسة الحسية الإنكليزية عند باقي ممثليها بقول لوك المشهور: إنه لا يوجد في العقل إلا ما كان في الحس أولا - حتى العقل ذاته - دون مراعاة لاعتراض ليبنتز. فلا توجد أفكار فطرية ولا أوليات أو بديهيات عقلية. ولا توجد معان أو قيم مستقلة عن واقعها الاجتماعي أو حواملها اللفظية، ولا توجد قوانين مطردة ولا علل دائمة في الكون، فكلها تداع للمعاني، وتكرار تألفه العادة، وتعميم وتجريد ابتداء من المشاهد الحسية لدرجة أن كانط قد صاغ كل فلسفته للرد على هيوم. بل إن هوسرل أعلن أن فلسفة هيوم هي إفلاس
Bankrott
للفلسفة. ثم تحولت الوضعية المعرفية إلى وضعية اجتماعية، فالظواهر الاجتماعية أشياء ووقائع ولا يوجد شيء خارج المجتمع، وأن الفلسفة والدين لا يعبران إلا عن مراحل بدائية في تطور البشرية في حين أن العلم يعبر عن كمالها ومرحلتها الأخيرة. ولا توجد معان مستقلة عن الألفاظ بل إنه يمكن أيضا الاستغناء عن الألفاظ وتحويلها إلى مجرد رموز رياضية؛ ومن ثم ينتهي المذهب الحسي المادي إلى نقيضه في الصورية الفارغة. وفي تراثنا القديم لم يحدث هذا الابتسار الحسي حتى الآن إلا في أقل الحدود؛ نظرا لوجود التصور الشامل للكون المنبثق من العقيدة. ومع ذلك ظهر السمنية يدعون إلى المعرفة الحسية وينكرون البديهيات العقلية، كما ظهر المهندسون في الإلهيات يردون كل الصفات الإلهية إلى الحس والتجارب الإنسانية، ولكنهما لم يكونا تيارا أساسيا في فكرنا القومي.
وقد يكون الابتسار من ناحية العقل عندما لا يرى من الواقع إلى جانبه الصوري ولا يرى في العالم إلا المقولات والتصورات. فالعالم فكرة، والمادة رؤية، ولا وجود إلا للذات. وقد وقع في هذا الابتسار كل التيار العقلي في العصور الحديثة الذي خرج منه ديكارت وسار فيه اسبينوزا وليبنتز ومالبرانش. فالعالم حركة وامتداد، مفهومان رياضيان لعلمي الميكانيكا والهندسة. والله فكرة العالم، والروح فكرة البدن كما هو الحال عند اسبينوزا. والعالم كله قوانين عقلية ثابتة يمكن معرفتها وحسابها كما هو الحال عند ليبنتز في «المونادولوجيا». وقد انتهى هذا الابتسار إلى الوقوع في الصورية الفارغة وإنكار العالم المادي وإغفال منطق الحس والتجربة، ونشأ الصراع بين الابتسار الحسي وبين الابتسار العقلي، كل يريد رد الكل إلى الجزء، وضاعت الحقيقة بشقها إلى نصفين.
ثم حدث ابتسار ثالث عندما تم تجاوز هذا الصراع التقليدي بين المذهب الحسي والمذهب العقلي من أجل العثور على طرف ثالث يجمع بين الاثنين هو الحياة أو الوجود أو الإنسان. واختلف الفلاسفة في هذا الطرف الثالث وتحديد ماهيته، فهو الوجود الإنساني عند هيدجر، وهو الحرية عند سارتر، والجسم عند جابريل مارسل وميرلو بونتي، وإرادة القوة عند نيتشه، والحياة عند أونامونو، والزمان عند برجسون، والشخص عند مونييه وشيلر، والعمل عند وليم جيمس وجون ديوي، والفعل عند بلوندل، ويعود المذهب الحسي من جديد في الواقعية الجديدة، كما يعود المذهب العقلي في العقلانية الجديدة. وتحاول فلسفة الشعور جعل العقل والتجربة واجهتين له. ويظل الوعي الأوروبي متذبذبا بين هذا وذاك، ترددا بين المذاهب، وهو في كل الحالات يرد الكل إلى الجزء، وإن اختلفت الأجزاء.
3
وعلى العكس من ذلك، تحيا الفلسفة بالنظرة الشاملة للكون وبالقدرة على بعد الرؤية وإدراك المعاني المستقلة والماهيات والحقائق التي تنكشف من خلال التجربة وبالاستقلال عنها. وقد كانت الفلسفات الشرقية القديمة نموذجا لهذا البحث. لم تقع في الابتسار وظلت مرتبطة بالنظرة الشاملة للكون، وبواقع الناس اليومي؛ ومن ثم اتحدت بحياتهم، وعبرت عن تاريخهم، وكونت تراثهم ووعيهم القومي. كما كانت الفلسفة اليونانية نموذجا آخر لهذا البحث الكلي الشامل باتجاهاتها الثلاثة، فقد بحث سقراط معاني الخير والفضيلة والجمال والصداقة والمحبة بصرف النظر عن وقائعها المادية وظروفها الاجتماعية وحالاتها الخاصة، حتى إنه ليمكن لعشرات الأجيال بعد سقراط إدراك مقاصده وفهم معانيه دون أن تبلى وتقدم. كما كانت هناك محاولات في العصر الوسيط لإعطاء تصورات شاملة للكون ولكن لم يكن لها سند من عقل أو تجربة بل كانت مضادة للعقل ولشهادة الحس، مناهضة للفكر الحر وللعلم الحديث. وإبان العصور الحديثة قامت محاولات أخرى لضم الأجزاء من أجل الحصول على نظرة شاملة للكون. حاول ذلك كانط ولكن جاءت محاولته مصطنعة بطريقة الأدراج والعلب والمراتب. فوضع الحس أولا، ووضع فوقه الذهن ثانيا، ثم وضع فوقه العقل ثالثا. وكل طبقه دنيا تدخل في الطبقة العليا بطريقة المضمون والشكل. وما أسهل أن يتفكك الرباط المصطنع فينشأ منه المذهب الحسي وحده أو العقلي وحده أو الإيماني بمفرده، وكل مذهب ينتسب إلى كانط. كما حاول هيجل بعد ذلك الشيء نفسه فوضع الحركة في البناء، وأعطاه الوحدة الداخلية بين الحس والذهن والعقل، كلها ثلاث لحظات للتصور. ربط بين الفلسفة والدين والعلم، بين الوجود والماهية والصيرورة، بين الإنسان والعالم والله. ولكن خرجت المحاولة أسطورية كونية بلا فردية، فتحول الجميع ضحايا للمذهب وغرق الأفراد في بحر الشمول.
ولكن هناك محاولات أخرى قدر لها النجاح النسبي، وأنقذت العلوم الأوروبية من أزمة الابتسار. فقد ساهمت نظرية الجشطلت في تقدم علم النفس بعد أن اشتدت أزمة علم النفس التجريبي وذلك بإعطاء الأولوية للكل على الجزء، وإثبات أن إدراك الكل سابق على إدراك الأجزاء. كما نجح هوسرل في «بحوث منطقية» في المبحث الثالث «الكل والأجزاء» في نقد المذهب التجريبي في المنطق معطيا الأولوية للكل على الجزء، ومكونا المنطق الترنسندنتالي. كما نجح الوجوديون في وضع الإنسان في موقف وبيان موقفه من العالم مع الآخرين وبين الأشياء متجاوزين الموضوعية العلمية العتيقة وموجهين العقل نحو التجارب الإنسانية الواسعة. كما أصبح أحد عناصر قوة الماركسية - كمذهب سياسي - هو نظرتها الشاملة للكون، ووضع الفرد في علاقاته الاجتماعية وداخل أوضاع المجتمع الطبقية وتفسيرها لكل شيء ووضعه له في مرحلته التاريخية المحددة.
4
سادسا: الفلسفة والعقل
تموت الفلسفة إذا ما أصبحت مهمة العقل - وهو أداة الفلسفة الأولى - هي تبرير المعطيات سواء كانت دينية أو سياسية، والدفاع عنها دون أن يقوم بوظيفته الأولى في التحليل والفهم أولا ثم في نقد الواقع والأوضاع القائمة ثانيا، بل يقتصر على التبرير لما يفهم دون نقد أو تغيير ودون إحداث أي تأثير في الواقع، فالفهم والتغيير كلاهما من وظائف العقل. والاكتفاء بالأول دون الثاني يجعل من الفيلسوف متفرجا على الأحداث دون أن يكون مسيرا لها. فلا يكفي فهم العالم بل لا بد من تغييره أيضا. والحقيقة أن العقل قادر على فهم كل شيء وتبرير كل شيء، بل إن الفهم نفسه هو أحد أنواع التبرير. ومع ذلك لا يتم دور العقل الكلي إلا إذا واجه ما يستعصي على الفهم. وهنا يبدأ عمل العقل الفعلي في التحليل والنقد. ثم يتحول إلى رفض وثورة وغضب ويتحد بالوجود الإنساني كله. وفي التبرير لا تهم جهة المعطيات ونوعها. فسواء أتت من الوحي أو من المجتمع فالتبرير واحد في كلتا الحالتين. تبرير الوحي يكون تبريرا للعقائد التي هي في حقيقة الأمر نتاج التاريخ ومن وضع المجتمع ومن صياغة الفقهاء، تعبيرا عن روح العصر. وتبرير المجتمع يكون تبريرا للنظم السياسية والاجتماعية دفاعا عن الأوضاع القائمة، ويقوم به الموظفون الأيديولوجيون في كل نظام.
وقد نشأت هذه الوظيفة في الوعي الأوروبي بعد أن مارس العقل وظيفته الأولى في التحليل والنقد واكتشف ضعف المعطيات التي حللها، والتناقض الداخلي في الموروث القديم وعدم تطابقه مع الحس أو الواقع وتعارضه مع الصالح العام ، ولكن خشي البعض إلقاء الطفل مع الماء بعد طقس العماد، وأرادوا إنقاذ ما يمكن إنقاذه فقاموا باستئناف عمل العقل في العصر الوسيط، أي تبرير العقائد مع الاختلاف في مواد التبرير وفي درجة الإقناع. فإذا ند الموروث القديم عن العقل في العصر الوسيط فإنه الآن يعبر عن الاشتباه في الحياة الذي يعبر بدوره عن تناقض الوجود الإنساني. وإذا برر العقل الخطيئة الأولى بعجز الإنسان عن إنقاذ نفسه وضرورة المخلص فإنه يبررها اليوم بمظاهر الألم والبؤس والشقاء في الوجود الإنساني. وإذا برر القدماء نهاية العالم بفساد الكون فإن المحدثين يرونها بتقليص الطاقة وبتناقصها في الزمان.
1
ويشهد تاريخ الفكر البشري على موت الفلسفة إذا ما قام العقل بوظيفة التبرير وتخلى عن دوره في التحليل والنقد. فقد كانت الفلسفة في العصر الوسيط تستخدم العقل دفاعا عن العقيدة؛ ومن ثم خرجت فلسفات في الدين تقبل الخطيئة والخلاص والتجسد والفداء كحقائق مطلقة على العقل أن يفهمها ويبررها للناس. بل إنه لشرف كبير للعقل أن يفهم أسرار الإيمان دون أن يتعدى حدوده. فالإيمان يفوق العقل ويتحداه. الإيمان عقل أكبر. وإذا كان «أومن كي أعقل» يعطي الأولوية صراحة للإيمان على العقل فإن «أعقل كي أومن» لا يعطي العقل الأولوية المطلقة على الإيمان، ولا يجعل العقل يقوم بدوره في التحليل والنقد. بل إن أقصى ما توصلت إليه المسيحية الأرسطية كما مثلها توما الأكويني هو وضع ثلاثة مستويات: العقل الطبيعي القادر على الوصول إلى الله كما تصوره الفلاسفة، ثم الإيمان الذي يعطي وحدة الله كما يتصوره الدين أي السر الإلهي، وأخيرا عقل الإيمان القادر على فهم هذا السر بعد حدوثه في القلب بفعل الإيمان. وهذا التصور الثلاثي يرتكب في حقيقة الأمر خطأين؛ الأول اعتبار الله كما تصوره الفلاسفة غير الإله الذي أوحى به الدين؛ والثاني اعتبار أن العقل قاصر عن إدراك السر وأنه لا بد من حدوث السر أولا بالإيمان حتى يمكن لعقل الإيمان فهمه ثانيا. وذلك عود من جديد إلى «أومن كي أعقل». بل إن العصور الحديثة كلها والقرن السابع عشر خاصة الذي عرف باسم العقلانية كان العقل فيه مبررا للإيمان ولكن بصورة أفضل، وبذكاء أكبر، وبأسلوب أكثر إقناعا، وبمنهج أوضح مما كان العقل عليه في العصر الوسيط، بل إن «التأملات في الفلسفة الأولى» لديكارت مهداة إلى علماء أصول الدين الهدف منها البرهنة على صحة عقائد الإيمان، وقد سار كانط في التيار نفسه حين جعل «العقل النظري» قادرا فقط على إدراك الظواهر وعاجزا عن إدراك الحقائق وبواطن الأمور، بل إنه صاحب القول المأثور «كان لزاما علي هدم المعرفة لإفساح المجال للإيمان.» الجدل العقلي لديه جدل ووهم وخداع. ومثل العقل الثلاثة: الله والنفس والعالم تصورات قبلية لا برهان عليها. ولا يوجد برهان عقلي قبلي أو كوسمولوجي بعدي على وجود الله. فتغلب الإيمان على العقل، وأصبح العقل مبررا للإيمان. ويظهر التبرير بصورة واضحة عند هيجل حين تحولت المسيحية إلى فلسفة والتثليث إلى جدل، والله إلى تاريخ. بل تجاوز العقل تبرير الدين إلى تبرير الدولة القائمة، وتبرير كل ما هو موجود باعتبار أنه إحدى لحظات الفكر، فالعقلي هو الواقعي، والواقعي هو العقلي. فتغلب الفهم على النقد، والتفسير على التغيير، واستمر الحال كذلك حتى عند المعاصرين مع أن الرفض روح العصر، وهم التوماويون الجدد وعلى رأسهم جاك مارتيان، في معاداتهم روح العصر والدعوة إلى الرجوع إلى القدماء وإلى فلسفة توما الأكويني التي حوت كل شيء.
2
وقد ظهر دور العقل في تبرير المعطيات على أوضح ما يكون في تراثنا الفلسفي القديم عندما أصبحت وظيفته فهم الوحي خاصة عند أهل السنة الذين جعلوا النقل أساس العقل. بل إن المعتزلة أنفسهم الذين جعلوا العقل أساس النقل كانت مهمة العقل لديهم تأويل النقل حتى يصبح أكثر اتفاقا مع العقل دون نقده أو تأويله تأويلا جذريا بإرجاعه إلى التجارب الإنسانية التي هي أساس كل نص. لم يقم العقل بدوره في التحليل والنقد إلا في حدود التأويل حرصا على التنزيه، تأويل الصفات والرؤية دفاعا عن التوحيد، وتأويل الشفاعة والصراط والميزان والحوض دفاعا عن العدل، واعتبار ذلك صورا فنية تسمح بها اللغة العربية لإعطاء معاني العدالة والحكم. ولسوء الحظ لم يستمر خط الرازي في «نقد النبوات» وابن الرواندي في استعمال العقل على نحو نقدي، وتم استئصال هذه النماذج كلية من تراثنا القديم حتى غابت كلية من وعينا القومي ووجداننا المعاصر. كذلك قام الفلاسفة بالمهمة نفسها في التبرير فاقتصر دور العقل على فهم الدين بطريقة أكثر رقيا ترضي ذوق المثقفين والحكماء. فالجنة نعيم روحي، والنار عذاب معنوي، ولم يجرؤ أحد على الخروج عن هذا الإطار لوظيفة العقل باستثناء ابن رشد خاصة في شروحه على أرسطو والذي لاقى ما لاقى من صنوف القهر والاضطهاد. بل إن علماء أصول الفقه أيضا تقبلوا الوحي كحقيقة معطاة سلفا، وما دام المعطى المسبق قد أعطي كل شيء، وحمل الحقيقة الجاهزة إلينا فقد تحدد دور العقل في فهمها وتفسيرها وتذوقها. لقد أغنانا الله عن البحث النظري المجرد، وأعطانا الحقيقة لنوجه جهدنا كله إلى العمل وإلى تحقيقها كنظام شرعي في الأرض. يمكن للعقل الاجتهاد قياسا للفرع على الأصل دون إعمال العقل في الأصل إلا من أجل تنقيح المناط أو تخريج المناط أو تحقيق المناط دون النظر في تأسيس النص في العقل أو في الواقع. أما الصوفية فقد عادوا العقل كلية. وأصحاب الحكمة الإلهية أو حكمة الإشراق وظفوا العقل في إيجاد البرهنة على صدق الحدس القلبي كما هو الحال في الفلسفة المسيحية.
3
ولكن تحيا الفلسفة إذا ما قام العقل بوظيفته الأساسية في التحليل والنقد من أجل التغيير. وظيفة العقل بيان الاتساق الداخلي للموضوع أولا ثم بيان المسافة بين الواقع والمثال ثانيا، وبيان وضع المجتمع في حركة التاريخ ثالثا بين الخلف والأمام في معركة التخلف والتقدم. لقد قام العقل عند اليونان بهذا الدور عندما كان سقراط يناقش تلاميذه حول آلهة اليونان وحول تعاليم السوفسطائيين. كما ظهر العقل النقدي في حركات الهرطقة في عصر آباء الكنيسة عند مؤسسي الفرق الدينية الذين كشفوا بعض جوانب التناقض في العقائد السائدة والتي ما زالت في طور التشكيل مثل أريوس دفاعا عن التوحيد، وبلاجيوس دفاعا عن الحرية، ودوناتوس دفاعا عن الوطنية، ولكن ابتداء من عصر النهضة ظهر العقل الناقد في الثورة على القدماء ورفض المعتقدات الموروثة وتوجيه العقل نحو الطبيعة من أجل تخليص الذهن من الأحكام المسبقة والأوهام الشائعة. ولما ترك ديكارت الاستثناءات خارج النقد - وهي الكتب المقدسة والعقائد والأخلاق الشائعة - وطالب فيها باتباع «الأخلاق المؤقتة» جاء اسبينوزا مؤكدا دور العقل في النقد حتى يمكن تأسيس المجتمع بعد ذلك على أسس عقلية. وفي العصر نفسه نشأ النقد التاريخي للكتب المقدسة لإخضاع النص الديني لأحكام العقل رفضا للتناقض، وإبعادا للزيادة فيه، وبيانا للنقص والتحريف والتبديل والانتحال عليه. وقد قام فلاسفة التنوير في القرن الثامن عشر بدور النقد العقلي لمظاهر التخلف في الحياة الاجتماعية والسياسية فارتبط بالحس والمشاهدة والتجربة، ووقف ضد النظم الملكية والتسلطية، ودحض الخرافات والأساطير، وبين مآسي الحروب والتعصب الطائفي. كما قام الهيجليون الشبان بتحويل وظيفة العقل في التنوير عند هيجل إلى وظيفة النقد، وأسس شترنر وفيورباخ وشتراوس وباور «فلسفة النقد» الهيجلية وتحويل وظيفة العقل من تبرير الدين إلى نقد المجتمع. ثم دفع ماركس وظيفة النقد خطوة أبعد في نقد النقد، والانتقال من نقد المجتمع إلى تغيير المجتمع. ثم أتى ماركيوز أخيرا وجعل وظيفة العقل الأساسية الثورة والنفي والرفض، والانتقال من المثالية إلى النقد الاجتماعي، ومن العقل إلى النظرية السياسية.
4
وفي تراثنا القديم قام الفقهاء بالدور نفسه بالنسبة للتراث الأجنبي الوافد حماية للعقائد ودفاعا عن الحضارة. قام الفقهاء بنقد المنطق الأرسطي والفلسفة اليونانية كما فعل ابن تيمية. وقام آخرون بنقد الكتب المقدسة مبينين ما فيها من زيف ووضع وتبديل وتحريف بالاعتماد على قواعد المنهج التاريخي كما وضعها علماء الحديث. كما قام البعض بالنقد الاجتماعي مبينين عيوب التصوف وخطورته على المجتمع مثل عقائد الولاية والإمامة والحلول والاتحاد والفناء ووحدة الوجود. ولكن لسوء الحظ لم يشمل هذا النقد الأصول ذاتها فوقعوا في التشبيه والحرفية وضيق الأفق والتعصب. كما حاولت الحركات الإصلاحية الحديثة الإعلاء من شأن العقل ولكنه ظل محددا تحت وصاية النبي. ولولا قدوم الضباط الأحرار قبل المفكرين الأحرار لكان بالإمكان ظهور المعتزلة الجدد وأن تحيا الفلسفة بعد موت.
5
سابعا: الفلسفة والمنهج
تموت الفلسفة إذا تحولت إلى جمع المعلومات دون منهج، وإلى تصنيف المعارف دون طريقة في الاستدلال، فالفلسفة أساسا منهج أو طريق وليست معرفة أو علما. وقد كانت معظم التحولات الأساسية في الفكر البشري تحولات في المنهج أكثر منها زيادة في المعارف والعلوم؛ لذلك كان المنطق أو مناهج البحث جزءا من الفلسفة. فالمنطق بتعريف القدماء آلة للعلوم يعصم الذهن من الخطأ. ومناهج البحث هي طرق الاستدلال التي لا يستغني عنها باحث في أي علم. وينشأ من هذا العلم الكمي تضارب المعلومات دون أي اتساق فيما بينها ووضع الصواب مع الخطأ، الصحيح مع الباطل، العلمي مع الأسطوري دون أي معيار للصدق بينهما. ويكون حينئذ الطريق الوحيد لزيادة المعارف هو النقل أو الرواية عن القدماء، جيلا بعد جيل، والاعتماد على المأثور دون المعقول، والأخذ بالأثر دون الرأي. ويغيب الواقع كلية وتتوقف الحياة ويلحق الضرر بالمصالح العامة إذ يكون العلم في جانب وواقع الناس في جانب آخر. ثم تستأثر جماعة معينة بالعلم فلا يشيع بين الجميع، وتنشأ طبقة من الكهان والحفظة والكتبة والفقهاء وحملة العلم، يحفظونه في الرءوس أو يدونونه في مجلدات؛ لذلك عرف الفكر القديم باسم الفكر الموسوعي. فالعالم هو الذي يحيط به، والجاهل هو الذي لا يعلمه.
وقد يكون السبب في ذلك أن الحضارة الإنسانية في بداياتها كانت أقرب إلى المعارف منها إلى المناهج؛ فقد كان يهمها تجميع المعارف بصرف النظر عن طريق الوصول إليها. وبتراكم المعارف تنشأ الحضارة البشرية، جيلا بعد جيل، وإضافة بعد إضافة. كانت العلاقة بين الإنسان والطبيعية آنذاك ينقصها التكيف المعرفي بالإضافة إلى التكيف المادي؛ وبالتالي نشأت الحاجة إلى المعارف، أية معارف لملء هذا الفراغ النظري بين الإنسان والطبيعة بصرف النظر عن مصدرها. وكان الغالب على هذه المصادر السحر والخرافة واستدعاء أرواح الموتى، والأساطير والحكمة الشعبية، وهي كلها مصادر للمعرفة لا يقين لها، الغاية منها التكيف المعرفي مع الطبيعة. ثم قام الأنبياء بعد ذلك بالدور نفسه كاشفين عن النبوة كمصدر للعلم، هم وحدهم المتصلون به، وعلى الآخرين أخذ المعارف دون المناهج. ثم تراكمت النبوات ودونت في كتب، من علمها أصبح عالما، وشرحها الشراح، وتراكمت الشروح، ومن علمها أيضا أصبح عالما. وهكذا في بدايات التاريخ البشري كانت للمعلومات والمعارف الأولوية المطلقة على المناهج وطرق الاستدلال.
1
ويشهد التاريخ أن الفلسفة تموت عندما يغيب المنهج، وتتحول الفلسفة إلى معارف موروثة يتراكم بعضها فوق بعض دون طريقة للوصول إليها. ماتت مرتين؛ مرة في العصر الوسيط الأوروبي عندما تحولت إلى موسوعات ودوائر للمعارف؛ ومرة لدينا في تراثنا القديم عندما تحولت أيضا إلى موسوعات ضخمة تضم كل المعارف والعلوم، ويقتصر دور الفيلسوف على التنسيق والربط بينها فتتراكم المعلومات، وتتعدد المصادر، وتحتضن الكنيسة كل ذلك وتنظمها بحيث تكون أكبر دفاع عن العقائد وأقوى دليل على صحتها. ولا يهم أن تنتقل من مصدر إلى مصدر أو أن تعتمد على فيلسوف ثم تغيره إلى فيلسوف آخر مناقض للأول؛ لذلك خرجت المسيحية أفلاطونية مرة لدى آباء الكنيسة ثم أرسطية مرة أخرى لدى توما الأكويني، وداروينية مرة ثالثة عند تيار دي شاردان؛ ومن ثم تحول الدين إلى حضارة، وأصبحت المعارف البشرية هي أساس الدين وفهم العقائد.
2
ولم يختلف الحال كثيرا في تراثنا الفلسفي القديم؛ فقد كانت الفلسفة فكرا موسوعيا يقوم على تجميع المعارف والعلوم وتصنيفها وإعادة ترتيبها وتبويبها حتى دون نسبة المعارف إلى أصحابها والمعلومات إلى مصادرها. فالمعارف مشاع للجميع بل ودون تحقق من صحة النسبة حتى كثر الانتحال والآراء المجهولة المؤلف. فلا يهم إن كان مؤلف «أثولوجيا أرسططاليس» أرسطو أم أفلوطين، ولا يهم إن كان كتاب «التفاحة» من وضع أرسطو أم منتحلا. وكأن الذهن البشري به قوالبه المسبقة وتصوراته للعالم، وما على الفيلسوف إلا ملء الفراغات والبحث عن المضامين البعدية لهذه الإشكالات القبلية. وأكبر نموذج على ذلك «رسائل إخوان الصفاء» وموسوعة «الشفاء» لابن سينا. خرجت الفلسفة أقساما: المنطق والطبيعيات والإلهيات إلى آخر ما وصلت إليه الحضارة البشرية في هذه العلوم؛ لذلك ظلت الفلسفة غريبة على مجتمعها، دوائر منعزلة على هامش الحضارة، نقاطا على المحيط بعيدة عن المركز حتى لقد سمي الفلاسفة المشاءون أتباع أرسطو.
ولا يزال الحال كذلك في جامعاتنا ومعاهدنا، كم من المعلومات يحفظها الطلاب ويضعها الأساتذة في كتب مقررة دون منهج للتفكير أو طريقة في البحث. فالعالم هو الحاوي للمعارف، والحافظ والناقل والمحدث والراوي وليس المخترع أو المكتشف. وإن كثيرا من الاضطراب في حياتنا الفكرية المعاصرة ناشئ من اضطراب في الفكر المنهجي؛ فقد غلب على ثقافتنا المعاصرة إما النقل عن الغرب أو النقل عن القدماء دون ما منهج لتحليل الواقع ومن ثم غاب الإبداع وماتت الفلسفة.
3
ولكن تحيا الفلسفة بالفكر المنهجي، فطريقة وضع السؤال أهم من الإجابة على السؤال، وكما قال القدماء نصف الإجابة في طريقة وضع السؤال. لقد ظلت الفلسفة اليونانية باقية في الفكر البشري لمناهجها التي وضعتها، وليس لعلومها واكتشافاتها ومعارفها. فقد وضع سقراط منهج التهكم والتوليد القائم على السخرية من الخصوم وتوليد الحقائق منهم دون أن يدروا وعلى غير وعي منهم. ووضع أفلاطون المنهج الجدلي، الجدل النازل للانتقال من المثال العقلي إلى العالم الحسي، والمنهج الصاعد للانتقال من العالم الحسي إلى المثال العقلي، وكلاهما يكونان منهجا جدليا رأسيا مزدوجا يجمع بين المثال والواقع، بين المعقول والمحسوس. مما يدل على أن الصراع بين المثالية والواقعية هو في حقيقة الأمر صراع منهجي. ثم جاء أرسطو وأراد البحث عن الصوري والفردي، عن العام والخاص، ووضع المنطق آلة للعلوم كلها؛ لذلك كانت تجد كل محاولة للجمع بين المثالية والواقعية في أرسطو رائدا لها. واتبع السوفسطائيون منهجا آخر، منهج تحليل الألفاظ لمعرفة معانيها الدقيقة منعا للبس والاشتباه، وهو المنهج الذي شاع في الفلسفة المعاصرة بنفس الاسم.
4
ثم حييت الفلسفة من جديد على يد القديس أوغسطين في عصر آباء الكنيسة بالعودة إلى منهج سقراط في الحوار. وأضاف على تحليل الألفاظ تحليل التجارب البشرية للبحث عن دلالاتها وإيجاد المضمون الإنساني للعقائد في الوجود الإنساني ذاته. كما حول الأفلاطونيون المسيحيون الجدل الصاعد عند أفلاطون إلى طريق إلى الله كما هو الحال عند القديس بونافنتير، وحوله الجدليون في العصر الوسيط المتأخر إلى منطق في الإقناع والتبشير ومحاورة الخصوم على ما هو الحال في «المنطق الجديد» عند ريمون الليلي. فاشتدت الحركة الفكرية وازدهرت الفلسفة معلنة بدايات العصور الحديثة.
5
ثم جاءت العصور الحديثة وأحدثت تغيرا كيفيا في مسار الوعي الأوروبي وتحولا جذريا في حضارته التي أبدعها وذلك بوضعها المناهج الحديثة من أجل إعادة تأسيس العلوم فنشأت المناهج الثلاثة التي أصبحت تميز الحضارة الأوروبية والتي تعيد إحكام نفس المناهج التي صاغها القدماء. وضع ديكارت قواعد المنهج الاستنباطي من أجل الحصول على اليقين في العلوم، واستعار منهج العلوم الرياضية الذي يعتمد على المسلمات والبديهيات والمصادرات واستنباط النتائج منها باعتبارها مقدمات. ويكون مقياس صدق النتائج هو تطابقها مع المقدمات وليس مع الواقع. وقد تم تطبيق هذا المنهج في الدين والأخلاق كما هو واضح عند اسبينوزا. كما وضع بيكون قواعد المنهج التجريبي اعتمادا على شهادة الحس والتجربة وابتداء من الملاحظة وانتهاء بالقانون العلمي بعد الفرض والتجريب، ويكون صدق النتائج مرهونا باتساقها مع الواقع وتحقيقها في التجربة. وتم تطبيق هذا المنهج في العلوم الطبيعية خاصة ثم تبنته العلوم الإنسانية فيما بعد نظرا لنجاحه وإنجازاته. وقد حاول البعض، مثل جون ستيورات مل وغيره، ضم المنهجين معا في منهج استنباطي استقرائي من أجل صياغة منهج متكامل شامل، ولكن نقصته الحياة التي لا يمكن تبخيرها في الصورة بالاستنباط أو ردها إلى المادة بالاستقراء. وهنا ظهر هوسرل وفلاسفة الحياة، دريش ودلتاي وبرجسون وشيلر، ووضع قواعد المنهج الفينومينولوجي من أجل تحليل التجارب الحية وإدراك ماهياتها بالحدس في الشعور في الإحساس الداخلي بالزمان ومن أجل الكشف عن الأشياء ذاتها، ويكون مقياس الصحة هو تطابق النتائج مع التجارب الحية للفرد وللجماعة في مدينة العلماء. هذا بالإضافة إلى المنهج الجدلي الذي وضعه هيجل من أجل الوصول إلى الحقيقة والانتقال من الموضوع إلى نقيض الموضوع إلى مركب الموضوع، ثلاث لحظات تحدد مسار كل موضوع. وكان لكل منهج شقان؛ الأول سلبي للتخلص من المعارف القديمة وتطهير النفس من أخطائها والبداية من جديد على أسس أكثر يقينا سماه ديكارت الشك، وبيكون القضاء على الأوهام، وهوسرل الرد أو الاقتضاب أو التوقف عن الحكم أو الوضع بين قوسين، وهيجل النفي أو الهدم أو الرفع بمعنى الإزالة وهو أحد معاني فعل
Aufheben ؛ والثاني إيجابي لبداية الطريق للحصول على المعارف الجديدة وهداية الذهن سماه ديكارت اليقين، وبيكون التجربة، وهوسرل البناء أو التكوين، وهيجل الإثبات. أصبح الفكر الأوروبي كله نتيجة طبيعية لاستعمال هذه المناهج وازدهرت الفلسفة بفضلها، وأصبحت معظم التحولات الجذرية فيه نتيجة لاكتشافات منهجية.
6
وقد حييت الفلسفة في تراثنا القديم بعد وضع المناهج الإسلامية وتجاوز الفكر الإسلامي للمعلومات المتراكمة التي بدت في علوم الحكمة. فقد وضع علماء أصول الفقه «منهج التنزيل»، كما وضع الصوفية «منهج التأويل». ومنهج التنزيل هو المنهج الشرعي الذي يقوم على الأدلة الأربعة: الكتاب والسنة والإجماع والاجتهاد أو القياس، يهدف إلى البحث عن العلة المؤثرة في الحكم لتعديته من الأصل إلى الفرع إذا ما تشابهت العلة. كما أنه يضم مباحث الألفاظ لضبط فهم النصوص مثل الحقيقة والمجاز، الظاهر والمؤول، المحكم والمتشابه، المجمل والمبين، المطلق والمقيد ... إلخ. ويشمل أيضا مباحث المعاني أو دلالات الألفاظ لمعرفة اقتضاء اللفظ ومدلول الخطاب. كما يشمل مناهج الرواية لضبط صحة النصوص خاصة الحديث والتمييز بين التواتر والآحاد والنقل باللفظ والنقل بالمعنى. وأخيرا وضع منطق للأفعال وتقسيمها إلى مقاصد وأحكام، ووصف سلوك الإنسان في العالم بين الإيجاب والسلب، وبين الإمكان والضرورة، يرتبط بمصالح الأمة وبحاجات العصر، ويلبي متطلبات كل جيل. فهو منهج متكامل يدل على جوانب الإبداع في تراثنا القديم. وعلى أساسه تم نقد المنطق الأرسطي ووضع منطق جديد مكانه هو المنهج الإسلامي. ولولا إعطاء الأولوية للأصل على الفرع وسيادة المنهج النصي وعدم الجرأة على تحليل العلل المؤثرة لكان للمنهج الأصولي أبلغ الأثر في حياتنا المعاصرة.
7
وفي مقابل هذا المنهج وضع الصوفية منهج التأويل لفهم النصوص والرجوع بها إلى مصدرها الأول وهو الله يرتفع فيه الخلق إلى الخالق، وتسقط الأوصاف الإنسانية وتثبت الصفات الإلهية ، فيتحد الخلق بالحق ويفنى الإنسان ويتحد بالله. يسير في هذا الطريق ابتداء من المرحلة الأخلاقية من أجل التحلي بالأخلاق الكريمة إلى المرحلة النفسية من أجل علم بواطن القلوب إلى المرحلة الميتافيزيقية من أجل الوحدة المطلقة. يتدرج الإنسان فيه من مقام إلى مقام، وتعرض عليه الأحوال حتى يصل إلى الفناء المطلق. ولولا معاداة العقل (باستثناء حكمة الإشراق) والإيغال في العلوم اللدنية والعروج إلى السماء والهروب من العالم والنزعة الفردية لأمكن لهذا المنهج أن يقيلنا من عثرتنا في حياتنا المعاصرة.
8
ثامنا: الفلسفة والعلوم الإنسانية
تموت الفلسفة إذا ما انعزلت عن الإنسان، وتنتهي الحكمة إن لم ترتبط بالعلوم الإنسانية؛ فالفلسفة بناء إنساني يقوم بها الإنسان ليتكيف من خلالها مع الواقع إذ إنها تفسر له العالم، وتشرح له ألغازه، ولكن لما كان الإنسان البدائي يصارع من أجل البقاء فإنه قد نسي ذاته في مواجهة الطبيعة وأخذ الحل ونسي المشكلة. ولما كانت المشكلة مخاطر الطبيعة، وكان الحل القوى الخفية والآلهة والأرواح المسيطرة عليها التي يمكن استرضاؤها بالسحر والقرابين ركز الفكر الإنساني على الله ونسي الإنسان، وجعل الله محوره واهتمامه ونسي ذاته، وكأن الذهن البشري يصل إلى النهاية وينسى البداية، يفرح بالحل وينسى الأزمة. وفي ذلك موت للفلسفة لأن السحر والقرابين ومظاهر العبادة تكيف عملي دون طرح نظري. ولما كان العمل في حاجة إلى من يقوم به نشأت طبقة الكهنة من أجل تنظيم العمل، وتولدت منها الكنيسة، وخرج منها رجال الدين، ونشأت عنها السلطة الدينية التي أصبحت فيما بعد أكبر خطر يهدد الفلسفة.
1
وبيقظة الوعي الإنساني واكتشافه قدرته على النظر العقلي وعلى وصف الظواهر الطبيعية اتجه نحو العقل، هذا الذي أنقذه من الخرافة والسحر والأساطير والأوهام، وحاول البحث عن النظري الخالص، واستمر في التجريد شيئا فشيئا حتى غاب الجانب الإنساني منه، وأصبحت النظرية هي كل شيء والصورة الخالصة هي المطلب الأساسي كما حدث في «البنيوية» أخيرا وسيطرتها على «علم الإنسان». كما اتجه نحو الطبيعة من خلال التجربة والمشاهدة والمدركات الحسية. واستمر في المشاهدة حتى نسي الجانب الإنساني في العلم، وطغت «المادة» على كل شيء وكأن المادة تدرك وتتحدث وتدل. ثم تحولت الطبيعة إلى صورة، والظواهر إلى معادلات كما هو الحال في الطبيعيات الحديثة التي لا تفترق عن الرياضيات البحتة، وأصبح التجريب الآن هو نوع من حساب الاحتمالات النظرية الخالصة. وأصبح الإنسان في نهاية الأمر، وهو الخالق لهذا كله، للدين والسحر والأسطورة والعقل والعلم، أصبح يعيش شيئا فشيئا في عالم لا إنساني.
2
ويشهد التاريخ على موت الفلسفة إذا ما ارتبطت بشيء آخر غير الإنسان، سواء كان الله أو الطبيعة، الصورة أو المادة، بصرف النظر عن أسسها الإنسانية في العقل والحس في النظر والمشاهدة، في الرؤية والإدراك. فقد ماتت الفلسفة بعد أن أصبحت أحد فروع علم اللاهوت فتحزبت وتحجرت، وتمذهبت وضاع منها روح البحث وحرية الفكر واستقلال الرأي والقدرة على التغيير والإبداع. وعلم اللاهوت ذاته هو علم إنسان «مقلوب» يعبر عن وعي الإنسان بذاته على نحو مغترب، خارجا عنه، عابدا إياه. حدث ذلك في العصر الوسيط وفي الفلسفة المدرسية. كما حدث لدينا في علم الكلام أو في علم العقائد بالرغم مما قاله المهندسون في الإلهيات ومحاولتهم إرجاع اللاهوت إلى تجاربه الحسية، وبالرغم من قول أبي شعيب: إن الإنسان هو العالم القادر الحي بالحقيقة، والله هو العالم القادر الحي بالمجاز.
3
كما تموت الفلسفة إذا ما تحولت إلى مباحث نظرية خالصة أو إلى علوم رياضية صورية كما هو الحال في المنطق الرياضي الحديث أو في مدارس تحليل اللغة. فالصورية لا حياة فيها ولا دم ولا لحم ولا عظم، ولا صراع ولا مواقف ولا تناقض أو اشتباه. تلغي الفردية وتتنكر للخصوصية ولا تبحث إلا عن العموم والشمول. بل إن المفاهيم الرياضية ذاتها لها أسسها النفسية في الشعور، والتجريد ذاته ما هو إلا ظاهر يكشف عن مضامين شعورية. تموت الفلسفة إذا ما كانت بحثا نظريا مجردا عن «الخالص» و«النظري» و«الحقيقي». فذلك لا وجود له إلا بعد تجريد العقل للموضوع. وهنا تعيش الفلسفة على ذاتها وتصبح الذات والموضوع في آن واحد .
وتموت الفلسفة أيضا إذا ما أصبحت مبحثا في الوقائع المادية كما هو الحال في العلوم الطبيعية، فالمادية وهم وخداع تحت ستار الموضوعية وباسم التجرد والنزاهة والحياد. فلا ترى الطبيعة من خلال منظور إنساني، ولا تتم الرؤية إلا من خلال الإدراك الحسي أو العقلي. كما أنه لا يمكن التجرد من الأهواء والانفعالات والمواقف الإنسانية بل والمراحل التاريخية والبناء النفسي للأجيال وروح العصر. الموضوعية العلمية خرافة. بل إن النسق التصوري العلمي كله من وضع الذهن. كما أن الاطراد الذي يتسم به القانون الطبيعي ضد الفردية، والحتمية في الطبيعة ضد الحرية الإنسانية. وفي نهاية الأمر لا يظهر العلم إلا في مجتمع مستقر يريد أن يؤسس بنيانه على نحو علمي؛ ومن ثم ارتبط بالكيان الاجتماعي أي بالإنسان.
4
ولكن تحيا الفلسفة إذا ما كانت تفكيرا في الإنسان، وإذا ما استمدت مادتها من العلوم الإنسانية. يتضح ذلك من الفلسفة اليونانية باتجاهاتها الثلاثة: المثالية والواقعية والإنسانية، وعلى وجه خاص في «محاورات» أفلاطون وموضوعاتها الإنسانية: المحبة، الصداقة، الجمال، العدالة ... إلخ. كما أن الفلسفة عند أرسطو قريبة الصلة بالسياسة والأخلاق، وليست فقط بالمنطق والطبيعة والفلسفة الأولى. كانت الحكمة مطلبا إنسانيا، وكان البحث عن السعادة هدفا إنسانيا. وقد لخص ديوجين حكمة اليونان حاملا مصباحه في بحثه عن «الإنسان».
5
وربما ما بقي من الفلسفة المسيحية هو الجانب الإنساني فيها الذي يتلخص في عقيدة الله - الإنسان. وربما ما بقي منها هو أريوس وأوغسطين. أي الإنسان والتجربة الحية. وربما كان أكثر الموضوعات حيوية في العصر الوسيط هو العقل والنفس والاتصال والخلود والمعاد، أي الجوانب الإنسانية في الفلسفة، وكان نصرا فعليا يوم بدأت العصور الحديثة في القرن السادس عشر بالمذهب الإنساني عند «اراسم» حيث ظهر الإنسان محور الكون. وكان البحث في البدن بداية للتعرف على الإنسان الحي في مواجهة كل ما هو غير إنساني في السلطة أو في العقائد أو في المناهج. وكان تتويج هذا النصر وبداية الوعي الأوروبي «الكوجيتو» عند ديكارت حيث أصبحت الفلسفة مرادفة للوعي الأوروبي واعيا ذاته والإنسانية معه، وأصبحت المثالية الترنسندنتالية بعده تطويرا للكوجيتو الديكارتي، وتأكد الإنسان محورا للكون في الثورة «الكوبرنيقية»: الذات في المركز والعالم يدور حولها. ثم تحولت الذات إلى روح، والروح إلى تاريخ على يد هيجل حتى أصبح الوعي الفردي مرادفا للوعي الحضاري، وأصبح الإنسان هو الإنسانية كلها. وكانت فلسفة التنوير قبل ذلك قد ربطت الفلسفة بالعلوم الاجتماعية، وخرجت من دوائر المتخصصين والمهنيين في صياغات البراهين على وجود الله وخلق العالم وخلود النفس، بل تجاوزتها إلى وضع الإنسان في المجتمع والتاريخ وفي أنظمة الحكم والمذاهب السياسية. ثم أتى الكانطيون للتأكيد على الإنسان كما هو الحال عند نيتشه ولكشف الشيء في ذاته واعتباره إرادة الإنسان عند شوبنهور. كما استمر الكانطيون الجدد في هذا التوجه الإنساني والانتقال من «الأنا أفكر» إلى الاجتماع والسياسة والأخلاق والقانون. وازدهرت الفلسفة أخيرا في مدرسة فرانكفورت، واستطاعت أن تتحد بالعلوم الإنسانية خاصة علم الاجتماع وأن تصوغه كفلسفة، وأن تصوغ الفلسفة كعلم اجتماع سواء في السياسة أو في الاجتماع أو في الفن أو في الحضارة. بل إن الوجوديين أنفسهم ربطوا بين الفلسفة والعلوم الاجتماعية والتاريخية. فارتبط سارتر بالسياسة والتاريخ وعلم النفس. كما ارتبط ميرلو بونتي بعلم النفس وعلم الأحياء والعلوم السياسية. كما كانت بدايات ياسبرز علم الأمراض النفسية والعام، بل إنه لا يوجد أي فرق الآن بين الفلسفة والعلوم الإنسانية في أهم التيارات الفلسفية العلمية المعاصرة وهي الماركسية والفرويدية والبنيوية.
6
ثم قام الوعي الأوروبي بحركة ارتدادية للكشف عن الجوانب الإنسانية في اللاهوت وفي الطبيعة على السواء. فإذا كانت موضوعات الفلسفة ثلاثة: الله والطبيعة والإنسان، وأن الفلسفة إما إلهية أو طبيعية أو إنسانية، فقد كشف الوعي الأوروبي أن الفلسفتين الإلهية والطبيعية هما في حقيقة الأمر فلسفة إنسانية، مرة مغتربة إلى أعلى ومرة أخرى مغتربة إلى أسفل، وكلتاهما خارج المنظور الإنساني، مرة فوقه ومرة تحته. فقد كشف فيورباخ خاصة «أن كل علم لاهوت هو علم إنسان مقلوب» وأن كل ما قيل في أوصاف الله وصفاته هو في حقيقة الأمر أوصاف وصفات إنسانية قذف بها الإنسان خارجا عنه نتيجة لاغترابه في العالم. كما كشف هوسرل أن العلوم الطبيعية ذاتها بناء إنساني وأن العلم هو في الكشف عن البناء الشعوري للعلم في مرحلة ما قبل الفهم. فإذا كان الوعي الأوروبي قد بدأ بالكوجيتو فإنه يكون قد انتهى بالكوجيتاتوم
Cogitatum
فيصبح الإنسان هو الأنا أفكر وهو موضوع التفكير في آن واحد.
7
وقد حدث الشيء نفسه في تراثنا القديم عندما ارتبطت الفلسفة بالعلوم الإنسانية وبالموسيقى عند الكندي والفارابي، وبعلوم الأخلاق والسياسة عند الفارابي، وبالتشريع عند ابن رشد. بل إنها ارتبطت أيضا بعلوم الحياة مثل الطب والتشريح والنبات والصيدلة. وقد وضح ذلك بصورة خاصة في «رسائل إخوان الصفا» حيث أضيف جزء أخير عن «النفسانيات» على التقسيم الثلاثي التقليدي، المنطق والطبيعيات والإلهيات. ومع ذلك ما زلنا لم نصل بعد إلى الكشف عن الإنسان في تراثنا القديم وراء الإلهيات والطبيعيات، وأن نبدأ الوعي الحضاري الجديد ابتداء من الوعي الذاتي حتى تحيا الفلسفة من جديد.
8
تاسعا: الفلسفة والتاريخ
لقد ارتبطت الفلسفة بالتاريخ ليس فقط من حيث هو تاريخ الفلسفة أي رصد تاريخ الفكر البشري وتقلباته بل من حيث هو فلسفة التاريخ؛ أي التفكير في تطور التاريخ وحركته ومحاولة البحث عن قانون يحكم هذا التطور ويصف هذه الحركة. بل إن تاريخ الفلسفة ذاته ليس رصدا ميتا للمذاهب والنظريات الفلسفية عبر التاريخ دون رجوع إلى ظروفها التاريخية وتعبيرها عن روح العصر، بل هي معرفة التجارب البشرية الفردية والاجتماعية والتاريخية التي خرجت منها هذه الفلسفات. تاريخ الفلسفة هو تاريخ الروح البشري في مواجهة الواقع وعبر التاريخ؛ لذلك كان هناك نوعان من تاريخ الفلسفة؛ الأول هو الرصد الكمي لتاريخ الأفكار بلا منظور أو قانون أو دلالة؛ والثاني محاولة الدخول في أعماق التاريخ والذهاب إلى ما وراء الأفكار لمعرفة دلالاتها على عصورها وظروف نشأتها والتجارب الحية التي وراءها، وصلتها بالمرحلة التي قبلها وتمهيدها للمرحلة التي بعدها. الأول موت للفلسفة، والثاني حياة لها. لقد كانت الفلسفة ابنة عصرها تعبر عن أزمة العصر وتحاول إعطاء حلول تعبر أيضا عن تصور العصر وتجاوزه إلى ما بعده. نشأت الفلسفة في التاريخ، وخرجت من موقف ولكن ضاعت على أيدي أساتذة الفلسفة ومحترفيها واجتثوها من الجذور، وعرضوها كطائر في الهواء لا مستقر له ولا مكان. الصلة بين الفلسفة والتاريخ واضحة بذاتها. وعليها يتوقف موتها أو حياتها. إذا ما ارتبطت الفلسفة بالتاريخ تنمو وتزدهر وتحيا. وإذا انفصلت عن التاريخ تخبو وتتقلص وتموت.
الفلسفة حركة التاريخ. وفصلهما مثل فصل الروح عن البدن، وإثبات الروح مجردة غير مرئية لا مستقر لها إلا في عالم الغيب، وجثة هامدة لا حراك فيها تنحل بعد حين، فتندثر الأمم. وأغلب ما يشاهد فيه موت الفلسفة وحياتها في التاريخ في نهاية مرحلة وبداية أخرى، وفلسفة العصور الذهبية حية باستمرار، وفلسفة الخمود والانحطاط ميتة باستمرار، ولكن البعث الفلسفي يحدث في لحظات الموت والحياة عندما تخبو حركة التاريخ ثم تبعث فيها الحياة من جديد. فأرسطو وابن خلدون واشبنجلر وتوينبي وبرجسون وهوسرل في نهاية عصر عندما تؤذن الحضارة بالنهاية. وسقراط والكندي، وديكارت، والطهطاوي بدايات لعصور عندما تبعث الحضارة من جديد.
1
تموت الفلسفة إذن عندما تكون خارج التاريخ لا شأن لها بتطور الروح البشري ولا بحياة الشعوب. تظل فلسفة لا في زمان ولا في مكان، فلسفة يمكن نقلها من عصر إلى عصر، ومن بيئة إلى بيئة، ومن جيل إلى جيل، لا موطن لها ولا مستقر، لا تقضي على طاغ ولا تقيم صرح دولة. وهي مثل الفلسفات التي ننقلها نحن هذه الأيام من الغرب حتى نكون معاصرين، نكسب بعض الشهرة، ونرتزق منها، ونجد فيها مادة للتدريس كما نجد البضائع المستوردة، ونضعها في الكتب المقررة في معاهدنا وجامعاتنا. فالزمان والحركة هما اللذان يعطيان الفكر البشري قوته وحياته. وهما قنواته التي تمد الذهن البشري بخصوصيته ونمائه.
ويشهد التاريخ على ذلك. فمن أسباب موت الفلسفة في العصر الوسيط أنها كانت فلسفات عقائدية لا تهتم بتطور التاريخ البشري ولا بحياة الشعوب ولا بمراحله المختلفة، اقتصرت على صياغة فلسفات لا تاريخية ثلاثية القسمة: منطق وطبيعيات وإلهيات دون أن يكون فيها تاريخيات أو إنسانيات كأقسام مستقلة غير ملحقة بالإلهيات. كانت العلاقة بين طرفي الحقيقة علاقة رأسية بين الله والعالم، وليست علاقة أفقية بين الماضي والمستقبل أي الله في التاريخ والخلود في الزمان. وقد ظهر الشيء نفسه في فلسفاتنا القديمة عند ابن سينا خاصة في موسوعاته الفلسفية. فكانت فلسفة بلا تاريخ وبلا وعي تاريخي، وبلا مراحل تاريخية. وأقصى ما وصلت إليه هو ذكر حضارات السابقين وتراث الأمم السالفة وطبائعها دون صياغة مفهوم لتقدم التاريخ ومراحله. كان التاريخ هو الرواية أو تاريخ النبوة، أو تاريخ التشريع أو تاريخ الطبقات أو تاريخ الخلفاء أو تاريخ الملوك أو تاريخ السنين أو تاريخ الأعيان والأعلام، ولم يكن تاريخ الشعوب وحركة الجماهير والوعي بالتاريخ.
2
لقد ماتت الفلسفة أيضا في الاتجاهين الصوري والمادي في الوعي الأوروبي لأنهما أسقطا الزمان والتاريخ من الحساب. وأكبر مثل على ذلك ديكارت ومالبرانش وليبنتز. فلم يظهر التاريخ في فلسفتهم نظرا لأن العقل كان في علاقة مباشرة مع اللانهائي بلا تطور أو زمان. ولم يند عن ذلك إلا اسبينوزا في «رسالة في اللاهوت والسياسة» التي درس فيها نشأة دولة العبرانيين وسقوطها، وتطور الكتب المقدسة والعقيدة المسيحية والتاريخ المقدس. بل إن البنيوية كوريث للعقلانية والصورية دراسة للموضوعات خارج التاريخ والزمان فتحولت إلى تطبيقات في العلوم الإنسانية دون حركة تاريخ بالرغم من وجود التطور الزمني
Diachronique
لأنه في نهاية الأمر لا يقدم إلا صورا وقوالب صورية وليس تاريخا بمعنى الوعي بالتاريخ وحركة الشعوب. كذلك الحال عند برنشفيج عندما كان التاريخ لديه هو تاريخ الرياضة والحساب دون الشعوب والمجتمعات. كما ماتت الفلسفة في المذاهب الحسية التجريبية الوضعية لأنها بدورها أسقطت التاريخ من الحساب ولم تدرك الواقع إلا في الحاضر بلا ماض أو مستقبل وكأن الموضوع هو فتق في التاريخ، ونتوء في التطور. بل إن النظرية النسبية التي أدخلت الزمان كبعد رابع في الواقع المادي حولته إلى حساب كمي رياضي خارج الوعي بالزمان وبالتالي خارج حركة التاريخ.
3
وماتت الفلسفة في أمريكا لأنها بلا تاريخ، وليس لها جذور إلا كامتداد للفلسفات الأوروبية واتجاهاتها المثالية والواقعية . ماتت الفلسفة في العالم الجديد لأنه بلا تاريخ، ودون وعي تاريخي، وليس له منظور تاريخي، فالمذاهب الحسية والعملية والتحليلية كلها بلا تاريخ وبلا موضوع. التاريخ والفلسفات المثالية مثل فلسفات هوكنج ورويس مثالية فردية بلا وعي بالتاريخ. كما أن الفلسفات الشرقية القديمة لم تعن بموضوع التاريخ. فقد طغى الكون على كل شيء. وابتلع الخلود الزمان وطواه فيه.
4
وماتت الفلسفة لدينا لأنه ليس لدينا وعي بالتاريخ، ولا نعرف في أي مرحلة من التاريخ نحن نعيش؟ نقوم بأدوار أجيال مضت فتنشأ الحركة السلفية أو نقوم بأدوار أجيال قادمة فتنشأ لدينا الاتجاهات الماركسية والعلمية والعلمانية. أو لا نقوم بأي دور في الحاضر فتنشأ حالة اللامبالاة دون أن ندري أننا في مرحلة خروج من التقاليد إلى التحرر، ومن التراث إلى التجديد، ومن الماضي إلى الحاضر، وبالتالي يستلزم ذلك القيام بدور التنوير من أجل نهضة شاملة.
وعلى العكس من ذلك، تحيا الفلسفة بدخولها في معارك التاريخ وباستثمارها رصيد الفكر الإنساني، وإنجازات الروح البشري. وهنا تبدو أهمية أرسطو مؤرخا وأولويته على سقراط وأفلاطون، فعن طريق أرسطو بعث التاريخ، تاريخ الفكر اليوناني، فلم يكن أرسطو يبدأ أية مشكلة دون عرض آراء السابقين عليه، وقبل أن يبدأ برأيه الخاص، فأمكن رؤية جدلية الموضوع واحتمالاته المختلفة. ولما كانت كتابة التاريخ نذيرا بنهاية مرحلة وبداية أخرى كما هو الحال عند أرسطو وابن خلدون وتوينبي، فقد كان أرسطو ينبئ بنهاية الفكر اليوناني. وبفضل أوزب
Eusèbe «في تاريخ الكنيسة» في القرن الثاني أمكن معرفة وعي الجماعة المسيحية الأولى وتطور العقائد وتدوين النصوص الدينية. كما عرض أوغسطين في القرن الرابع لتاريخ النبوة في «مدينة الله» مبينا مراحل تقدم الوعي الإنساني واضعا بذلك أسس فلسفة التاريخ. كما قام يواكيم الفيوري في القرن الثاني عشر محولا التثليث، الآب والابن والروح القدس، من العلاقة الرأسية إلى العلاقة الأفقية. فوضع فلسفة لتاريخ الإنسانية، مرحلة السلطة ومرحلة المعارضة ثم مرحلة استقلال الوعي الإنساني، فخرج التاريخ من العقيدة والوعي من الروح.
5
وقد حييت الفلسفة بشكل واضح في العصور الحديثة خاصة ابتداء من القرن الثامن عشر بعد اكتشاف فلسفة التاريخ والوعي بالتاريخ ابتداء من فيكو وكوندرسيه وترجو وفولتير وروسو حيث ارتبطت الفلسفة بالتاريخ. وحين أصبح التاريخ موضوع الفلسفة المفضل، وحين تحددت خصائص الفكر الفلسفي طبقا للمرحلة التاريخية التي يمر بها، تحولت العناية الإلهية إلى قانون للتقدم، وأصبحت الفلسفة هي المعبرة عن هذا التقدم، وقد ظهر ذلك بوضوح في حركة التنوير في ألمانيا عند لسنج وهردر وكانط. وقد ازدهرت الفلسفة بصورة أوضح عند هيجل؛ فهو الذي فلسف التاريخ وأرخ الفلسفة، وجعل للفكر مسارا في التاريخ، وجعل التاريخ تحققا للفكرة، فوحد بين الفلسفة والتاريخ، فالوعي تاريخ الوعي، والمنطق تاريخ المنطق، والفلسفة تاريخ الفلسفة، والجمال تاريخ الجمال، والدين تاريخ الدين، والسياسة تاريخ السياسة، والتاريخ تاريخ الحضارات البشرية. كما ظهر ذلك أيضا عند ماركس، وأهمية التحليل التاريخي للواقع الاجتماعي، واستمر عند الماركسيين المعاصرين مثل لوكاتش في «التاريخ والوعي الطبقي».
6
وازدهرت الفلسفة أخيرا في نهاية الوعي الأوروبي في الفلسفة المعاصرة على يد هوسرل وبرجسون ودلتاي وفلاسفة الوعي التاريخي. فالفينومينولوجيا اكتمال للوعي الأوروبي وتاريخ له في الوقت نفسه. وقد فعل هوسرل ما فعله أرسطو من قبل في نهاية الفلسفة اليونانية بعرضه لتطور الموضوع ثم اكتماله. وتحتوي كثير من المؤلفات على عرض لجدلية الموضوع قبل بنائه، فالتاريخ جزء من الموضوع، والموضوع يعيش في التاريخ له حياة في الماضي والحاضر. وإكمال الموضوع في الحاضر هو الذي يكشف عن ماضيه في التاريخ. وقد سمى برجسون ذلك «الحركة الارتدادية للحقيقي»
Le Mouvement retrograde du vrai
أو «ترائي الحاضر في الماضي»
Le Mirage du présent au passé . كما تحدث هوسرل عن الحركة الارتدادية التقدمية أو الحركة الخلفية الأمامية للموضوع، وبين ذلك في أزمة العلوم الأوروبية ونشأة الهندسة و«الفلسفة الأولى». وقد ازدهرت الفلسفة أيضا عند الوجوديين بتحليلهم للتأريخ
Historicité
أي الوعي بالتاريخ أو التاريخ كبعد للوجود الإنساني كما هو الحال عند هيدجر وميرلو بونتي وسارتر في «نقد العقل الجدلي». وكان الوعي بالتاريخ قد تحول إلى فلسفة كاملة عند دلتاي في «فلسفة تصورات العالم». فالفلسفة روح العصر الذي يظهر في الوعي التاريخي.
وفي تراثنا القديم كان يمكن للفلسفة أن تزدهر من التفكير في تاريخ الفرق دون تكفير بعضها للبعض الآخر ، وتكفير الفرقة الناجية - فرفة أهل السنة والحديث - كل الفرق الأخرى. فتاريخ الأمة هو تاريخ فكرها دون إدانة وحكم بالمروق. وكان للفلسفة أن تحيا بالتفكير في تاريخ الأمم والحضارات وتاريخ الفرق غير الإسلامية هذا الجزء المجهول في علم أصول الدين الذي ذكره علماء الكلام وهم بصدد الحديث عن صفة «الواحد» أو بصدد الحديث عن الحضارات البشرية السابقة على الإسلام مثل حضارات الهند وفارس والروم. كما كان يمكن للفلسفة أن تزدهر لو ظل الاجتهاد ولم يتوقف المسلمون عنه. وكان يمكن لها أن تزدهر أيضا لو استأنفت تفكير ابن خلدون في علم التاريخ، في أسباب انهيار الأمم والشعوب، وتزيد عليه أسباب نهضة الأمم وشروط البعث الحضاري الجديد. وقد بدأت الإرهاصات منذ القرن الماضي في الفكر الإصلاحي والعلماني والسياسي كل بطريقته الخاصة دون أن تنشأ فلسفة أو أن يؤسس اتجاه أو يقام مذهب. وهذا لا يعني أن الفلسفة قد ماتت بل يعني أن ظروف حياتها ما زالت تتهيأ وأنها على مشارف ميلاد جديد.
7
عاشرا: خاتمة
لما كانت الفلسفة ليست معطى مسبقا أو هبة طبيعية للشعوب وعبقرية تتميز بها أمة عن غيرها بل كانت جزءا من حركة التاريخ وحياة الأمم، تموت بموتها وتحيا بحياتها، ارتبطت بالوعي الفردي والاجتماعي والتاريخي في كل أمة. فالوعي الفردي وإن كان يعبر أيضا عن حركة التاريخ إلا أن له استقلاله وحريته وقدرته على تجاوز المرحلة وإحداث تقدم أسرع عن طريق الزعامة والقيادة ودفع التقدم إلى خطوات أكبر وأسرع. والوعي الجماعي المنظم قادر على إحداث تغيرات كيفية من خلال ثورة الجماهير وحركتها والعمل الجماعي الهادف الواعي بقوانين التغير الاجتماعي. والوعي بحركة التاريخ والموقف الحضاري للأمة قادر على تحديد مهمة الفلسفة، وكيف تحيا من خلال هذا الوعي التاريخي بالموقف الحضاري. فبالتحليل الموضوعي لحركة الوعي في التاريخ تحيا الفلسفة.
وهو بالنسبة لها الآن ذو ثلاث شعب: (1)
الموقف من التراث القديم؛ وذلك لأن التراث ما زال هو المصدر الأول لفكرنا الفلسفي نجتره أو نرفضه أو نعيد بناءه طبقا لحاجات العصر. فكل تعامل مع التراث لأخذ موقف منه هو فلسفة كما كان الحال في عصر النهضة الأوروبي قبل أن يتحرر الوعي الأوروبي من أسر القديم ويتوجه نحو الجديد، ويسقط الأغلفة النظرية القديمة، ويبني مذاهب نظرية غيرها هي التي نأخذها الآن على أنها نماذج للفلسفة. (2)
الموقف من التراث الغربي؛ وذلك لأن الغرب منذ عدة أجيال ما زال يمثل بالنسبة لنا مصدرا من مصادر المعرفة بالنقل والاستيعاب أو بالرفض والإنكار أو بالتمثل والنقد الحضاري من أجل تحجيمه ورده إلى حدوده الطبيعية حتى يمكن إفساح المجال للإبداع الحضاري للشعوب غير الأوروبية، فكل تعامل مع الغرب هو فلسفة بهذا المعنى. كان الحال كذلك في عصر النهضة عندما بدأ التعامل مع أرسطو عند الشراح المسلمين، ونقد الرشدية اللاتينية. وكان الحال كذلك أيضا بتعامل الحضارة الإسلامية مع الفلسفات الغازية خاصة اليونانية. (3)
الموقف من الواقع الذي تعيشه الأمة، والتحليل المباشر له وإدراك مكوناته والتعرف على علل ظواهره. فهو الغاية والهدف. وهو الميدان الذي تتصارع فيه قوى القديم والجديد. فكل تعامل مع الواقع المباشر هو فلسفة. وكل رصد لحركته ومعرفة لإمكانياته جزء من عملية التفلسف. فالواقع هو التاريخ والفلسفة فعل في التاريخ، هكذا كان الحال أيضا في عصر النهضة عندما تم اكتشاف الطبيعة وقوانين البدن واعتبارها المحك لكل الموروث الحضاري القديم سواء من العصر الوسيط المسيحي أو من المنقول الإسلامي من خلال أنصار ابن رشد. وهكذا كان الحال عندما نشأت الفلسفة الإسلامية أولا بالتعرف على حاجات الأمة ومتطلبات العصر فنشأت العلوم الفلسفية لتلبية هذه الحاجات وتحقيق هذه المتطلبات. ويكون الخطأ خطأنا بتكرار النماذج القديمة بالرغم من تغير الظروف والحاجات.
1
تموت الفلسفة عندما يغيب الوعي بالتاريخ، وتنتهي عندما تخرج عن الموقف الحضاري، وتحيا الفلسفة عندما تنبثق عن الوعي بالتاريخ وتعبر عن الموقف الحضاري؛ ومن ثم كان فجر النهضة الحديثة بداية للتفلسف حتى وإن لم يبلغ القدر الكافي من الطرح النظري ومن الإحكام الفلسفي فتلك مهمة عدة أجيال، ويكون الفيلسوف هو الذي يتصدى لهذه الشعب الثلاث في وعينا القومي. الفيلسوف هو صاحب هذا الموقف الحضاري الذي يعبر عن الوعي بالتاريخ. الأفغاني والطهطاوي وشميل فلاسفة بهذا المعنى كما كان أراسم ومونتي وتوماس مور فلاسفة قبل ظهور الفكر المنهجي وبدايات الفلسفة عند ديكارت وبيكون قبل أن تبنى المذاهب الفلسفية التي نعنيها بقولنا. هل ماتت الفلسفة؟ سؤال قد يكشف عن الإحساس بالدونية أو عن احتقار للذات أمام الغرب أو ينم عن يأس دفين وحسرة بالغة الألم على الواقع، ولكنه سؤال إذا وضع في الزمان وفي التاريخ قد يبعث على الأمل ويدفع إلى الاعتزاز بالنفس والثقة بالروح.
الصراع بين الكليات الجامعية عند كانط1
دراسة في حرية البحث العلمي
أولا: نشأة الجامعات في أوروبا
منذ نشأة الجامعات في أوروبا في القرن الثاني عشر الميلادي، تطرق الفلاسفة إلى موضوع الجامعة، خاصة فيما يتعلق بحرية البحث العلمي، أو بدورها في المجتمع، وتحقيق الأهداف القومية للبلاد، وليس هنالك فيلسوف إلا تطرق للبحث العلمي منهجا وموضوعا، أو معهدا ومؤسسة. لقد أنشأ أفلاطون «الأكاديمية»، وأسس أرسطو «اللقيوم»، بينما آثر سقراط التعليم في الأسواق. كما رفض أوغسطين مناهج التعليم في عصره، وآثر استمداد علمه من تجاربه الذاتية. وقد ظهر فكر «المعلم الملائكي» توما الأكويني من تدريسه في نابلي، مثل فكر أستاذه ألبير الكبير. ومنذ بداية العصور الحديثة وموضوع الجامعات يثار على أوسع نطاق حتى ثورات الشباب عام 1968م، وتحديد ماركيوز لدور الطلبة في قيادة حركة التغير الاجتماعي، بعدما حدده ماركس في العمال، وماو تسي تونج في الفلاحين.
وإذا كان ديكارت هو الذي بدأ العصور الحديثة بنقد عقم التعليم في المدارس القائمة، فإن كانط في القرن الثامن عشر هو الذي حول ذلك إلى موضوع مستقل، وكتب فيه مؤلفه الشهير «الصراع بين الكليات»، بين كلية الفلسفة من ناحية وكليات اللاهوت والقانون والطب من ناحية أخرى، واضعا بذلك مشكلة الحريات الأكاديمية ودور الجامعات في البحث عن الحقيقة، وأزمة هذا البحث بين سلطة الحكومة وتربية الجماهير. ثم جاء أساتذة الجامعات الألمان، الكانطيون في القرن التاسع عشر ، وساهموا في خلق ثقافة وطنية: «الأيديولوجية الألمانية» وحددوا دورهم في تربية الوعي القومي، خاصة فشته، ومقاومة المحتل، بل وتحقيق الأهداف القومية، في الاستقلال والوحدة والاشتراكية خاصة، فكانت الجامعات الألمانية قلب الأمة، وعقلها، ومنطلق قواها. ثم جاء دور الجامعات ومراكز البحث العلمي في القرن العشرين، في إعداد البحوث، وتجهيز المعلومات لمراكز اتخاذ القرارات في الدولة، أو للقيام بالصناعات الحربية أو المدنية، وتمويل الشركات الكبرى، أو مراكز الاستخبارات، لمعظم مشروعات البحوث، بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، كما هو الحال في أميركا حاليا. ثم ثار الطلاب والمثقفون ورجال البحث العلمي على هذا الدور، وآثروا اتخاذ موقف نقدي من المجتمع الصناعي المتقدم، ووضع الحقيقة والتعبير عنها فيه، مما جعل دور الجامعات في أوروبا أقرب إلى دور الجامعات الجديد الذي كان صدى لتجارب البلاد النامية التي حاربت الاستعمار دفاعا عن استقلالها الوطني، وهذا الدور الجديد هو قيادة العمل الوطني، وقيادة الثورة الوطنية، كما كان الحال في الجامعات المصرية منذ نشأتها، وكما كان الحال إبان قيادة الثورة الإسلامية الكبرى في إيران، وانطلاقها من جامعة طهران.
وقد ارتبطت نشأة الجامعات في أوروبا بالفلسفة الإسلامية وبمناهج التعليم في الشرق الإسلامي، فخرجت العلوم والمعارف من الكنائس والأديرة إلى المدارس والجامعات، وحمل العلم، لا رجال الدين (آباء الكنيسة، والقساوسة، والرهبان) فقط، بل أيضا رجال الثقافة وأساتذة الجامعات. فانتقل العلم من الدين إلى الدنيا، ومن علوم الغايات إلى علوم الوسائل. وبعد الحروب الصليبية، وإثر القوافل التجارية، وعبر إسبانيا وجنوب إيطاليا والقسطنطينية، تعرفت أوروبا على نماذج جديدة للعلم، موضوعا ومنهجا وطرقا للتدريس؛ فقد اعتمدت الفلسفة الإسلامية على منهج الحوار، والجدل، والمناقشة، والإقناع، والبرهان. كما بحثت في كل شيء ولم تعد هناك أسرار إلهية أو محرمات دينية يؤمن بها العقل ويسلم بها الإنسان دون برهان. كان العقل والإيمان شيئا واحدا، والفلسفة والدين حكمة واحدة؛ فلا سلطان إلا للعقل وحده، وهو مقياس الإيمان الصحيح. ولقد انتشر هذا النموذج الإسلامي الجديد في الغرب لدرجة أن الفيلسوف المسلم أصبح النموذج الجديد للفيلسوف، في مقابل اللاهوتي المسيحي واللاهوتي اليهودي، كما عرض ذلك أبيلار في كتابه المشهور «حوار بين يهودي وفيلسوف ومسيحي». وتحول النموذج الإسلامي إلى الحقيقة ذاتها في الوعي الأوروبي، وأصبح مرادفا لها على نحو لا شعوري. ومن ثم تم اتهام الفلاسفة العقليين في أواخر العصر الوسيط وبدايات العصور الحديثة بالإلحاد والخروج عن الدين، وأنهم تلاميذ المسلمين. وبدأت حركة رد فعل لتحويل المسلمين عن دينهم، باستعمال قواعد الجدل والمنطق الجديد، كما كان الحال عند ريمون الليلي. ومع ذلك، بدأ الصراع في الغرب بين العقل والعلم من ناحية، وبين اللاهوت والنظم السياسية من ناحية أخرى، أي بين النموذج الإسلامي والسلطتين الدينية والسياسية في الغرب. وقد انتصر النموذج الإسلامي في النهاية، بالرغم من محاكم التفتيش واضطهاد العلماء، وإحراق جيوردانو برونو، وسجن جاليليو، حتى انتصر العلم في عصر النهضة، والعقل في القرن السابع عشر، والثورة الاشتراكية الإنسانية في القرن الثامن عشر، معلنة المبادئ الثلاثة: الحرية، والإخاء، والمساواة، وأصبحت الحضارة الأوروبية كلها ترتكز على العلم والعقل في القرن التاسع عشر، قبل أن تستغل ذلك كله من أجل الاستعمار، والسيطرة، ونهب ثروات الشعوب غير الأوروبية. وتبدأ أزمة القرن العشرين في الغرب: أزمة القيم، وأزمة الموارد، وأزمة الطاقة، ومن يدري؟ فربما عاد النموذج الإسلامي من جديد فارضا نفسه على الغرب، كما فعل أول الأمر في بدايات العصور الحديثة، فيجد الغرب فيه خلاصه من أزمته، وهو في نهايات دورته الحضارية الأولى.
لم تكن الجامعة تعني في العصر الوسيط في أوروبا كليات عديدة في مكان واحد، بل كانت مجموعة من الكليات في أماكن متفرقة، وهذه الحالة ما زالت سائدة حتى الآن. وكانت تشير إلى الأبنية والطلاب والأساتذة والحياة الجامعية، بما فيها من تقاليد وأعراف. وهذا ما يدل عليه لفظ
Universitas
أي ما يشمل ويضم ويجمع، مثل «الجامع» في تراثنا الإسلامي، حين يشير إلى ما يجمع الناس في مكان واحد، لهدف واحد؛ لذلك كانت جامعاتنا القديمة في جوامعنا، ولم تنفصل الجامعات عن الجوامع إلا بعد أن تخلينا عن نموذجنا الإسلامي وتقليدنا النموذج الغربي الحديث الذي ورث نموذجنا الإسلامي القديم بعد «علمنته»، نظرا لما أصاب الوعي الأوروبي الحديث من عقدة نقص تجاه كل ما هو «ديني» إثر طبيعة المعطى الديني الذي كان لديه، وتعامله معه، والظروف التي أحاطت بتطور هذا المعطى الديني، وتحويله إلى كتاب، أو سلطة، أو عقائد، أو تصورات، كانت السبب في ثورة الوعي الأوروبي عليها ورفضها إلى الأبد، دون ما رجعة إلى الوراء تحت أي ظرف، ولأي سبب. كان هناك الحرم الجامعي العام أو الرسمي الذي يضم الكنيسة والمكتبة ومحور الحياة الجامعية، وكان مأهولا بالطلاب والأساتذة، ثم الحرم الجامعي الخاص الذي تشغله بعض الكليات المتفرقة، وصلتهما كصلة القلب بالأطراف، وهو التصور الشائع في العصر الوسيط.
كانت جامعة بولونيا هي أول جامعة بالمعنى الحديث. وكانت أقرب إلى مركز للدراسات القانونية؛ لأن كلية اللاهوت، ككلية نظامية، لم تنشأ فيها إلا في عهد البابا إنوسنت السادس
lnnocent VI
عام 1352م، ولكن جامعة باريس بعد إنشائها، وضمها للعلوم الفلسفية في القرن الثالث عشر، تفوقت على جامعة بولونيا السابقة عليها، كما تفوقت على جامعة أكسفورد اللاحقة لها. وأصبحت جامعة باريس مركز الحياة الدينية والفلسفية في الغرب. وقد ساعد على ذلك ازدهار البيئة الثقافية في المدارس العليا في القرن الثاني عشر، إثر تعاليم الفكتوريين (ريتشارد وهيوج سان فكتور)، وكذلك دروس أساتذة عظام (مثلا أبيلار) الذين بلغت شهرتهم حد استقطاب عديد من الطلاب من إيطاليا وألمانيا وانجلترا. وقد تجمعت هذه المدارس كلها في «جزيرة المدينة»
lle de la Cité
وعلى سفوح تل «سان جانفيف». ثم شعر الطلاب والأساتذة بضرورة الوحدة فيما بينهم درءا للمخاطر التي تهددهم من بقايا السلطتين الدينية والسياسية، ودفاعا عن مصالحهم المشتركة في ضرورة البحث عن الحقيقة، وتأسيس العلوم الجديدة. وقد سعت هاتان السلطتان إثر ظهور هذا الخطر الجديد إلى خطب وده، من أجل الالتفاف حوله، دون الدخول في مواجهة علنية معه، واستطاعتا التوفيق بين مصلحتيهما ومصلحة الجامعات الجديدة الناشئة. وكان يمثل هاتين السلطتين ملوك فرنسا والبابوات. وقد سعد ملوك فرنسا بهذا الطوفان الجارف من الطلاب من جميع أنحاء أوروبا إلى مقاطعاتهم لتعلم العلوم والفنون والآداب بمختلف أنواعها. لقد ازدهرت عواصمهم، كما زادت قوتهم وسطوتهم خارج البلاد، من خلال الطلاب الأجانب الذين تعلموا في بلادهم، ثم غادروها إلى مواطنهم الأصلية، ينشرون الثقافات التي تعلموها ويدينون ببعض الولاء إلى أماكن دراستهم ويحنون إليها، الأمر الذي ما زال سائدا حتى الآن، حتى خلقت طبقة من المثقفين المستغربين حاملي الثقافات الأجنبية التي تعلموها في وقت كان الشعور الوطني فيه متواريا وراء الشعور الديني. وأعظم دليل على ذلك شهادة يوحنا السالزبوري وغيره من فلاسفة العصر الوسيط على هذا الإعجاب الشديد الذي تحظى به فرنسا، عادات وتقاليد وأخلاقا وعمرانا، لدى الطلاب الأجانب، وما نعموا به من لذة الحياة، وما شاهدوه من النعم المادية والروحية. كان من الطبيعي إذن أن يقوم ملوك فرنسا بحماية الطلاب الفرنسيين والأجانب ضد أي مخاطر تهددهم من الداخل أو الخارج، ما دام الرصيد في نهاية الأمر راجعا إليهم. ولكي يزدهر الحرم الجامعي الباريسي، كان لا بد من تأمين الطلاب، وتوفير أسباب الراحة والهدوء لديهم، وحمايتهم من الاستغلال الفكري والمعنوي، وصياغة اللوائح التنظيمية لهذا الغرض.
ولكن يبدو أن هذه النظم التي فرضها ملوك فرنسا والظروف المساعدة على ذلك لم تكن إلا عاملا ثانويا لنشأة الجامعات وازدهارها، ممثلة في جامعة باريس؛ لأن المؤسس الحقيقي لها كان إنوسنت الثالث، ثم جريجوار التاسع. ومع أن الجامعة نشأت دون تدخل البابا، إلا أنه لا يمكن فهم دورها القيادي الخاص بين جامعات العصر الوسيط دون أن نأخذ في الاعتبار التدخل الفعال والمباشر للبابا والمقاصد الدينية التي حددها لها. ومع أن الجامعة هي المكان الذي يجتمع فيه الطلاب والأساتذة لدراسة بعض العلوم حبا في العلم، إلا أن هذا المثل الأعلى المجرد لم يكن يخلو من بعض المنافع العملية التي لا تعارض حب الاستطلاع وطلب العلم لذاته؛ لذلك ضمت الجامعات المعارف النظرية الشاملة لتوسيع المدارك الإنسانية والتخصصات العلمية الدقيقة لتحقيق بعض النفع في الحياة اليومية.
ولكن جامعة باريس في القرن الثالث عشر كان يتنازعها هذان التياران المتعارضان؛ الأول يريد أن يجعلها مركزا علميا محايدا منزها عن الأغراض؛ والثاني يريد استخدام العلوم والمعارف من أجل إثبات أهداف ومقاصد دينية، ويجعل الجامعة سلطة عقلية ودينية في آن واحد. ويمكن ملاحظة هذين التيارين من قراءة لائحة جامعة باريس، يتحدان مرة، ويتصارعان مرة أخرى. فمثلا، لم تكن دراسة الطب رائجة في جامعة باريس في القرن الثالث عشر، على عكس بعض الجامعات الفرنسية في جنوب فرنسا فيما بعد، تحت تأثير الطب الإسلامي وامتداده من الأندلس، ولكن كانت دراسة القانون على العكس رائجة تحظى باهتمام عديد من الطلاب. وكانت هذه الجامعات تدرس القانون الروماني كأساس للمجتمع المدني المستقل الذي لا يعتمد إلا على ذاته. ثم أتت الكنيسة، ومنعت هذه الدراسة، وأصرت على تدريس القانون الكنسي.
أما فيما يتعلق بتدريس الفلسفة، فمنذ أن انتشرت الفنون الثلاثة المشهورة في العصر الوسيط: البلاغة والنحو والمنطق، عاد الجدل إلى مكانته الأولى، وشغف به معظم الأساتذة، رافضين الدخول في موضوعات اللاهوت. ولقد ظل أبيلار نفسه لمدة طويلة جدليا. ومنذ اكتشاف مؤلفات أرسطو حصل أساتذة الفنون الحرة (البلاغة، والنحو، والمنطق، والحساب، والهندسة، والموسيقى، والفلك) على سلطة أكبر مما كان لديهم في القرن الثاني عشر؛ فقد طبق أساتذة الجدل مناهجهم من منطق وفيزيقا وميتافيزيقا أرسطو، دون أي مادة علمية أخرى؛ لذلك ظل الجدل فارغا عقيما لا يستعمل في موضوعات اللاهوت التي ترفض بطبيعتها أن تخضع لقوانين الجدل. ثم طالب الأساتذة فيما بعد بتطبيق مناهج الجدل في علوم وضعية أخرى، لها مضمون واقعي، ولكن ظل التيار الغالب على الأساتذة في كليات الآداب في باريس أثناء القرن الثالث عشر كله هو تدريس المنطق والفيزيقا وميتافيزيقا أرسطو دون الاهتمام بأي علوم أخرى أو حتى باللاهوت. وكانت «الرشدية» الباريسية تمثل هذا التيار.
أما فيما يتعلق بتدريس اللاهوت، فقد زاد الاهتمام بكلية اللاهوت، وزادت أهميتها، حتى طغت على كلية الآداب، وفاقتها في الأهمية. وفيها أيضا ظهرت الاتجاهات الجديدة في مواجهة التراث التقليدي السائد الذي بدأ يتزعزع. فمنذ القديس أوغسطين ومع أساتذة سان فيكتور، كان اللاهوت أوغسطينيا في جوهره، دون رفض جدل أرسطو ؛ إذ لم يقدم أرسطو إلى هذا اللاهوت إلا طرق العرض والشرح. ولم يكن لدى طلبة جامعة باريس وأساتذتها وخريجيها أي رغبة في تغيير هذا التراث الشائع، لدرجة أنه حتى الانتصار النهائي للتوماوية الأرسطية، كان أشهر الأساتذة، مثل: الإسكندر الهالي، والقديس بونافنتير، وأساقفة باريس (مثل: وليم الأوفرني، وأتين تجييه)، أوغسطينيين. وكانت عبقرية ألبير الكبير وتوما الأكويني وسبب انتصارهما النهائي التوفيق بين هذين التيارين المتعارضين في جامعة باريس. لقد أعطيا الشرعية لكل المضمون الوضعي الذي أثرى الفنون الحرة السبعة، وفي الوقت نفسه أعادا تنظيم اللاهوت القديم على أسس أكثر رسوخا مما كان عليه.
ومنذ أن بدأت جامعة باريس في تدريس اللاهوت لم تعد صاحبة الكلمة الأخيرة فيه، وخضعت لتشريع آخر أعلى من العقل الفردي والتراث المدرسي. ونظرا لأهميتها وازدياد عدد أساتذتها وطلابها من كل أرجاء العالم المسيحي أصبحت مشرعة للخطأ والصواب في مجال العقيدة لكل المسيحيين كما كان حال الأزهر في مصر. وهذا ما أدركه البابوات، وحاولوا الاستفادة منه في سياساتهم الجامعية؛ فلم تكن جامعة باريس في نظر إنوسنت الثالث أو جريجوار التاسع إلا أكثر الوسائل التي تمتلكها الكنيسة فاعلية لنشر الحقيقة الدينية في كل أرجاء العالم المسيحي أو أكثر الوسائل خطورة لدس السم القاتل في قلوب المسيحيين. كان إنوستت أول من أراد أن يجعل من هذه الجامعة راعية للحقيقة المسيحية كما تتصورها الكنيسة، وأن يحول مركز البحث هذا إلى هيئة لها هيكلها، ووظيفتها، ومكانتها، لتحقيق هذا الغرض، فالجامعة قوة روحية وخلقية، وليست فرنسية، أو باريسية، بل مسيحية كنسية، وجزءا من الكنيسة، كما كان كهنوت روما جزءا من الإمبراطورية الرومانية. والحقيقة أن التمسك بالجامعة كان تعويضا عن انهيار البابوية والإمبراطورية معا. وقد وضع إنوسنت الثالث بعض التشريعات لحماية الجامعة من الأخطار التي تتصورها الكنيسة؛ فمنع نائبه روبير دي كورسون
Ropbert de Courçon
عام 1215م من تدريس الفيزيقا والميتافيزيقا لأرسطو. كما أيد أونوريوس الثالث
Honorius III
استقرار الدومنيكان والفرنسيسكان في باريس، وأوصى بإدخالهما إلى الجامعة عام 1220م. وأدخل جريجوار التاسع الدراسات العلمية واللاهوتية في النظام الفرنسيسكاني، وأسس نظام «المساكين»
Mendiants
من أجل توظيف دراساتهم لخدمة اللاهوت، وهو العلم الذي يحمل الحقيقة المسيحية للعالم كله. لقد كان اللاهوت يسود كل العلوم، وله السلطان عليها، من أجل توجيهها التوجيه الصحيح، بعيدا عن الأخطاء التي يقع فيها بعض مدعي الفلسفة الذين يسنون البدع، ويتجاوزون الحدود التي وضعها آباء الكنيسة، ويدرسون الفلسفة الوثنية، ويعتبرونها وسيلة لتفسير الكتاب المقدس، وهو الكتاب الذي طواه الآباء، وأصبح من الكفر إعادة فتحه من جديد. فمن الطبيعي أن تسيطر الروح على الجسد، كما يسيطر اللاهوت على الفلسفة. ويذكرنا هذا بموقف بعض الفقهاء المسلمين من الفلسفة، مثل ابن الصلاح في فتواه المشهورة.
ولكن جامعة أكسفورد كانت أحسن حالا من جامعة باريس؛ فقد تم تأسيسها بعد أن منع الطلبة الإنكليز، لأسباب سياسية، من الذهاب إلى باريس. كان أساتذتها أيضا أوغسطينيين، ولهم ميل خاص إلى الأفلاطونية والرياضة والعلوم الوضعية في الفلسفة. ونظرا لانعزالها وعدم اهتمام البابوات بها لم تغزها الأرسطية التوماوية والاتجاه التقليدي في الفلسفة بسرعة، كما كان الحال في جامعة باريس. كان لأكسفورد طابعها الخاص وأصالتها بعيدا عن جدل أرسطو ومنطقه. وكان اهتمامها يرجع إلى أثر الفلسفة الإسلامية التي جعلت العلم جزءا منها، وليس مضادا لها. وكان التعامل مع اللاهوت يتم بطريقة أكثر حرية ومرونة دون أن يكون لها نفع مادي عاجل لصالح فريق دون فريق أو مؤسسة على مؤسسة أخرى. اهتمت أكسفورد بالعنصر التجريبي، وليس بالجانب الجدلي المنطقي الميتافيزيقي كما كان الحال في جامعة باريس. كانت أكسفورد تتبع العلوم الطبيعية عند الحسن بن الهيثم أكثر من تبعيتها لأرسطو. وكان اهتمامها مركزا على الرباعي: «الحساب، والهندسة، والموسيقى، والفلك»، أكثر من اهتمامها بالثلاثي: «النحو، والبلاغة، والمنطق» الذي كان سائدا في جامعة باريس؛ لذلك ظهرت التجربة عند وليم الأوكامي في القرن الرابع عشر لتهز التوماوية الأرسطية وليتحول التيار التجريبي إلى أحد العناصر المميزة للفلسفة الإنكليزية حتى الآن. وكان هناك منهجان سائدان للتدريس في كل جامعات العصر الوسيط: الدرس، والمناقشة؛ فالدرس محاضرة وشرح نص من أعمال أرسطو في كلية الفنون الحرة (الآداب)، أو نص من التوراة، أو من «حكم» بطرس اللومباردي في كلية اللاهوت. ومن الدرس والشرح خرجت معظم الأعمال الشارحة في العصر الوسيط محتوية على أصالة متخفية في ثنايا النص المشروح. أما المناقشة، فكانت نوعا من الجدل تحت إشراف أساتذة عديدين، يبدأ بإثارة المسألة، ثم إيراد الحلول المختلفة، بالاعتماد على الحجج والحجج المضادة. وبعد عدة أيام يقوم الأستاذ بجمع الحجج المؤيدة والمعارضة، ويعطي الحل. وكانت المناقشة في آخر كل أسبوع أو أسبوعين، ويختار الأستاذ الموضوعات، ومن هنا جاء هذا النوع من التأليف بعنوان: «المسائل المتنازع عليها»
Questions Disputae
في العصر الوسيط. وكانت بعض المناقشات المهمة تعقد مرة واحدة أو مرتين في السنة، في عيد الفصح وعيد الميلاد. ومنها خرج أيضا نوع آخر من التأليف في العصر الوسيط كان يسمى «الماشائيات»
Questiones QuodIibetales ، مثل بعض مؤلفات توما الأكويني ووليم الأوفرني. كما كانت كل أعمال توما الأكويني باستثناء «الرد على الأمم» حصيلة هذه الدروس. وكذلك كانت أعمال القديس بونافنتير، ودنز سكوت، ووليم الأوكامي، حصيلة شروحهم كتاب «الحكم» لبطرس اللومباردي.
هذه هي الخلفية التاريخية التي منها سيثير كانط مسألة حرية البحث العلمي، محاولا حل أزمته في صراعه بين السلطات السياسية والسلطات الدينية، ومحاولا إيجاد مخرج للفحص الفلسفي الحر، من أجل تربية الشعب، ودون الخروج على نظام الدولة.
1
ثانيا: الصراع بين الكليات الجامعية
عند كانط
كتب كانط (1724-1804م) «صراع الكليات»، عام 1798م، وعمره أربعة وسبعون عاما، وكان آخر ما كتبه ونشره باسمه بنفسه. ويتضح فيه إخلاص كانط الشديد للمبادئ العامة للفلسفة النقدية التي ظل طيلة حياته يؤسسها. وقد كانت هناك ظروف معينة دفعته لذلك؛ إذ عندما توفي فردريك الثاني ملك بروسيا الذي كان من أنصار المفكرين الأحرار، حدث رد فعل على فلسفة التنوير في ألمانيا. وتحت تأثير الوزير يوحنا كرستوف فولتر (1732-1800م) اتخذ الملك الجديد فردريك وليم الثاني إجراءات قهرية للدفاع عن السلفية (الأورثوذكسية) الدينية، منذ هجمات التنوير عليها، على يد لسنج. وصدر فرمان الدين في 9 / 7 / 1788م، يمنع أي نقد ضد الدين القائم. ثم صدر قانون آخر في 19 / 12 / 1788م، يكمل الفرمان الأول ضد حرية الصحافة. ثم تأسست لجنة الرقابة على المطبوعات عام 1792م.
وبعد أن نشر كانط «نقد العقل العملي» عام 1788م، أصبح موضع شبهة من جديد، ففي 14 / 6 / 1792م، منعت الرقابة نشر الجزء الثاني من «الدين في حدود العقل البسيط». ومع ذلك نشره كانط كله عام 1793م؛ مما دفع الملك إلى أن يرسل له خطابا يعنفه فيه في 1 / 10 / 1794م، نشره كانط في مقدمة «صراع الكليات». وقد صمت كانط على الأقل خارجيا انصياعا لأوامر الملك، ولكنه حافظ سرا على آرائه. ولم يتنازل عنها. وكان قد عزم على استئناف نشاطه الفلسفي بعد موت الملك. وقد كانت الرقابة هي السبب في تأخر نشر «صراع الكليات» الذي يقوم كله على فكرة «حرية الضمير». كتب الجزء الأول في أواخر عام 1794م، والثاني قبل نهاية عام 1797م. وقد دون الجزء الثالث أخيرا بمناسبة نشر هوفلاند
Hufland
كتابا بعنوان «فن إطالة الحياة» الذي ظهر أولا في مجلة «الطب العملي» عام 1797م. هذا التفاوت في الزمان في نشر المحاولات الثلاث سمح لكانط بإدراك الوحدة الداخلية بينها؛ مما جعله يقرر إعادة كتابتها من جديد بجرة قلم واحدة. ومع ذلك ظلت المحاولات مفككة، تنقصها الوحدة، غير متساوية الأجزاء، ومتفاوتة الأهمية، فبينما بلغت المحاولة الأولى «الصراع بين كلية الفلسفة وكلية اللاهوت» حوالي ثلثي الكتاب؛ وبالتالي كانت أهمها على الإطلاق، بلغت المحاولتان الأخيرتان الثلث الأخير. وإذا كانت المحاولة الأخيرة في صلب الموضوع، إلا أن المحاولة الثانية «الصراع بين كلية الفلسفة وكلية الحقوق» تدرس موضوع التقدم، وليس موضوع الحق أو القانون أو التشريع. والمحاولة الثالثة عن «الصراع بين كلية الفلسفة وكلية الطب» لا تحتوي على أي مظهر من مظاهر الصراع، وتعتمد على تجارب شخصية، وليس على وضع موضوعات علمية. ولا يرجع السبب في ذلك كما يقول كونوفشر إلى ضعف القوى الذهنية لكانط لكبر سنه بل إلى الظروف التي كتبت فيها المحاولات نفسها.
يظن بعضهم، مثل الشاعر. هينه
Heine ، أن العمل الأساسي لكانط هو «العقل الخالص» وأن أعماله الأخرى مجرد إضافات زائدة عليه. ووصف «نقد العقل العملي» بأنه مجرد أضحوكة! وهذا غير صحيح على الإطلاق؛ لأن فلسفة كانط أساسا هي فلسفة إرادة وحرية، وإن «نقد العقل الخالص» ما هو إلا مقدمة لإفساح المجال لكتابه الثاني «نقد العقل العملي ». وكما قال كانط نفسه في مقدمة الطبعة الثانية لكتاب «نقد العقل الخالص»: «كان لزاما علي هدم المعرفة لإفساح المجال للإيمان.» إن الشك في الظواهر عند كانط، كما هو الحال عند ديكارت وبسكال، مجرد وسيلة لا غاية، وليس وسيلة للاستسلام والتنازل عن الحقيقة، بل لإثبات الاستقلال الذاتي الداخلي في المعرفة والأخلاق للعقل والإرادة في النظر وفي العمل. وهذا لا يمنع وجود فلسفتين متعارضتين لكانط؛ العقلانية (كما هو الحال في المقولات من ناحية)؛ والقانون الخلقي والنزعة الإرادية من ناحية أخرى.
وإذا أخذنا نظرية كانط في الإرادة، أمكننا معرفة بناء كتاب «صراع الكليات»؛ إذ إنه يحتوي على تطبيق لنظرية كانط العملية. فإذا كان الحس السليم هو أعدل الأشياء قسمة بين الناس عند ديكارت، فإن الاستعدادات الخلقية أيضا هي كذلك عند كانط. إنما المهم هو معرفة كيفية تنميتها، فالشعب (العامة) عادة ما يفضل أن يعيش الحياة ويتمتع بها أكثر من أن يسلك طبقا للقانون الخلقي. ومع ذلك فإن من مصلحة الدولة التي تهدف إلى حكم شعب مسالم أن تقيم مؤسسة غرضها البحث عن الحقيقة العلمية والخلقية، وهذه المؤسسة هي الجامعة. وكلية الفلسفة دون غيرها من الكليات الجامعية هي التي تقع عليها هذه التبعة، وتحقيق هذه الغاية. وهي الكلية التي تقوم بدراسة الآداب والعلوم معا، حيث تنضم جميعها تحت لواء الفلسفة. وبالرغم من نبل هذه الغاية وشرف المقصد، يسمي كلية الفلسفة: الكلية «الدنيا»؛ لأنها بالرغم من أنها تتمتع بحرية البحث، إلا أنها لا تشارك في السلطة.
ولما كان المجتمع في حاجة، كي يرشد نفسه، إلى قواعد جاهزة، فإنه بالتالي لا يهتم بالبحث العلمي المجرد أو بالمناقشات النظرية الخالصة، وهنا تأتي الحكومة لتتدخل من خلال وكلائها وممثليها وموظفيها، وهم رجال الدين ورجال القضاء والأطباء، لتنظيم شئون الناس العملية. ويتم إعداد هؤلاء في الكليات «العليا »: كليات اللاهوت، والحقوق، والطب. الأولى غايتها تدريس العقائد التي تحتوي عليها الكتب المقدسة وتقرها الكنيسة، والثانية تدرس القانون وحقوق الشعب، والثالثة تدرس قواعد الصحة وطول العمر. وفي هذه الكليات «العليا»، لا بد من موافقة الدولة على المعلومات التي يتلقاها الطلاب ويعطيها الأساتذة؛ لأنها تتعلق بالصالح العام، وبنظام الدولة، وبصلة الحكام بالمحكومين. ويمكن القول: إن كلية الطب التي تقوم بدراسة الطبيعة، تتمتع باستقلال ذاتي أكبر من الكليتين الأخريين.
هناك إذن تعارض بين مجموع الكليات العليا وكلية الفلسفة؛ لأن هذه الأخيرة تتمتع، أو على الأقل يجب أن تتمتع، بحرية كاملة في الميدان العلمي، في حين أن الكليات الأخرى غير مصرح لها أن تنحرف عن القواعد المقررة لها، والعلوم المسموح لها بتدريسها. وهذا هو منشأ الصراع بين الكليات: بين العلم الحي والمعطيات الميتة، بين الاستقلال الذاتي للذهن وتبعيته للسلطة، أو بين البحث عن الحقيقة والحقيقة الجاهزة، على ما يقول لسنج.
1
ويظهر هذا الصراع في صورتين؛ الأولى سيادة التراث الوضعي أو الديني أو القانوني على حساب الجهد الإرادي الفردي وهو الوحيد الجدير بالاحترام؛ وبالتالي ينشأ الصراع بين القديم والجديد، بين التقليد والتجديد، بين الماضي والحاضر؛ والثانية ضرورة خضوع قوانين الكليات ولوائحها، سواء أكان مصدرها التاريخ أم العقل أو الحس، للمراجعة التي هي عمل العقل، أي خضوع الكليات إلى كلية الفلسفة ورفض الأولى ذلك. وعلى هذا النحو تكون الكلية «الدنيا» هي الكلية الأولى لأن لها حق مراجعة الكليات العليا وفحصها. وهذان الجانبان للصراع لا ينتهيان إلا بانتهاء المجتمع ذاته، وسيظلان طالما أن هناك ذهنا إنسانيا، وإبداعا بشريا، وإنتاجا فكريا وأدبيا وعلميا.
ويبدو هذا الصراع في ثلاثة جوانب؛ عندما يجد الفيلسوف نفسه في مواجهة اللاهوتي أولا، والقانوني ثانيا، والطبيب ثالثا. وتتفاوت أهمية الصراع في كل جانب، نظرا لتفاوت أهمية الكليات العليا، بالرغم من أنها تهدف جميعا إلى خلاص الروح، والخير الاجتماعي، والصحة البدنية. ويرتب كانط الكليات هذا الترتيب طبقا للعقل، وليس طبقا للنظام الطبيعي الذي يضع الصحة البدنية في البداية، وخلاص الروح في النهاية. يريد كانط أن يبين أهمية الصراع بين الفلسفة والدين، أو بين العقل والنقل، على ما يقول علماء أصول الدين في تراثنا القديم، نظرا لضرورة الحرص على الاستقلال الذاتي للذهن، والكمال الخلقي للشعور، وقد عاش كانط هذه الأزمة كما يعرض لذلك في أول الكتاب من جراء حظر الأرثوذكسية (السلفية) مؤلفاته وطغيان التفسير الحرفي للكتاب المقدس، ومن هنا نشأت مشكلة قيمة النص الديني، من حيث صحته التاريخية، أو تفسيره لغويا أو تطبيقه عمليا، من أجل توجيه سلوك الناس. لقد استحسن الكتاب المقدس - في رأي كانط - تكييف الحقائق العملية، طبقا لتصورات العامة وفهمها الضيق، على ما لاحظ أيضا لسنج فيلسوف التنوير. إن الذي يهم في الكتاب المقدس إذن هو الأساس الخلقي، الحقيقة العملية التي ترشد الناس في حياتهم العامة. إن أخلاق الكتاب المقدس هي الضمان الوحيد، وهذا ما يجب على الفيلسوف أن يذكر به اللاهوتيين الذين يظنون أن الإيمان الأعمى بالسلطة الحرفية للكتاب المقدس هو الطريق الوحيد للخلاص، في حين أن الفيلسوف وحده هو القادر على إرجاع كل ما يحتويه الكتاب من روعة وتاريخ ومعرفة إلى العقل. فالعقل هو السلطة الوحيدة اليقينية في موضوع الدين؛ لذلك وجب أيضا، بالإضافة إلى الصراع ضد وثنية السلفية وتشبيهها وتجسيمها وحرفيتها، ألا نحسن الظن بالتصوف، أي الاتجاه الانفعالي الوجداني العاطفي في الدين. لا ينبغي أن تخلب لبنا البطولة الخلقية التي يمثلها أصحاب مذهب القنوت
مثل شبنر
Spener
وزنزندورف
Zinzendorf
لدرجة الخلط بين ما فوق الحس وما فوق الطبيعة. ومما لا شك فيه أن التصوف أعلى من السلفية، ولكنه من الناحية العملية ينتهي إلى النتيجة نفسها، أي هزيمة الإرادة؛ إذ إنه ليس هناك دين حقيقي، إلا إذا تأسس في «نقد العقل العملي».
فإذا ما تخلص الشعور من قهر السلطة الدينية، والسلطة السياسية على السواء، فإن عليه أن يؤكد نفسه في الخارج، وأن يتحرر أيضا من العقبات الاجتماعية؛ وبالتالي تعتمد ممارسات الإرادة على مقدار ما تحققه المؤسسات السياسية من ليبرالية. هناك إذن علاقة بين الجهد الفردي وتكوين المجتمع، بين إرادة الفرد والنظام السياسي ، ولكن كيف يمكن إيجاد صيغة مثلى لهذه العلاقة؟ هنا يطرح كانط سؤال التقدم الذي شغل فلاسفة التنوير. يقول كانط: إن بعضهم يظن أن النوع الإنساني في سقوط لا يمكن تفاديه أو التخلص منه، ويظن بعضهم الآخر أن التقدم حادث ضرورة، يوما بعد يوم، وكأنه قانون طبيعي، لا يمكن أيضا تجاوزه، ويظن فريق ثالث أن النوع الإنساني متوقف في مكانه، وأن كل تغيير له عبث. يرى كانط أن هذه الإجابات الثلاث خادعة، ولا تصدقها التجربة. إنما الإيمان بالتقدم لا ينتج إلا من ظهور شرعي لفكرة الحق (القانون). وقد شهد المجتمع حادثة من هذا النوع هي الثورة الفرنسية. وبالرغم من أن كانط يدين تطرفها، إلا أنها أيقظت في روح الشعوب حماسا خالصا وتفاؤلا بقرب سيادة القانون وسعادة البشر. لا يهم شكل الحكومة، إنما المهم أن تكون الروح جمهورية، ثم تنتشر هذه الروح شيئا فشيئا لدى كل شعوب الأرض، حتى يتم استئصال النزعة العسكرية، ويتم نزع السلاح وإيقاف الحروب، وهي أكبر مانع أمام التقدم الخلقي. لم يكن لدى عصر كانط ما يسمى بحروب التحرير التي بدأت في هذا القرن، والتي هي من أجل إقرار السلام، وإن كان قد لاحظ أن الحرب هي النتيجة الطبيعية للتعصب والقهر والسيطرة. ويهدف كانط إلى أخذ الإنسانية إلى غايتها القصوى ومنتهاها، وهو التنوير الشامل والسلام الدائم. وما تبقى من حروب ستساعد حتما - بعد أن تتوقف نهائيا - على تحقيق غاية الإنسانية هذه. هذا التفاؤل المطلق عند كانط يتفق تماما مع روح التفاؤل التي كانت سائدة في القرن الثامن عشر، والتي ظهرت لدى جميع فلاسفة التاريخ الذين عبروا عن روح الثورة الفرنسية.
فإذا ما حقق الشعور هاتين الغايتين؛ حرية الفكر، والإرادة المستقلة من أجل تقدم البشرية، تأتي مشكلة البدن التي يعالجها الطبيب، وينشأ الصراع الثالث بين كلية الفلسفة وكلية الطب؛ الأولى تعطي الإرادة والعزيمة الأولوية على أمراض البدن، والثانية تريد أن تجعل «العقل السليم في الجسم السليم». لا يشارك كانط نوفاليس رأيه أن الجسد كله تقوده الروح طبقا للإرادة؛ فكانط لا يترك أرض الواقع ليحلم مع الرومانسيين، ولكن الإرادة لديه يمكن أن يكون لها دور محمود على الصحة البدنية. إن دور الإرادة في الصحة دور وقائي خالص. ويتمثل هذا الدور في نظام التغذية الذي يعتبره كانط قريبا من المبدأ الرواقي. فالبطنة هي التحدي الحقيقي للإرادة. ويرى كانط أن الزواج لا يطيل العمر، فيعاديه، وطبق ذلك على نفسه، فعاش عزبا. ويعطينا في آخر الكتاب معلومات عن صحته ونظام التغذية الذي فرضه على نفسه ويعتذر عن عرض آرائه الخاصة والحديث عن نفسه، ولكن المهم هو صدقه في التعبير عن آرائه القائمة على تجارب شخصية. ويسخر كانط من أعداء الفكر الحي، خاصة اللاهوتيين وآباء الكنيسة، ويؤكد إخلاصه للعقل ضد كل انفعال، فكل ما سوى العقل يستحق الإنسان اللوم عليه.
وقد استمر تلاميذ كانط في محاولة أستاذهم بالرغم من الهجوم عليه، وعلى تلك الثنائية التي تعتصر فلسفته وهذا الصراع بين الأطراف والتناقض أو التقابل بينها، كما هو واضح من العنوان «صراع الكليات». لقد حاولت الرومانسية التي وقع فيها التلاميذ تجاوز الثنائية إلى الوحدة، فابتلعت الذات الموضوع عند فشته، وابتلع الموضوع الذات عند شلنج. وقد عالج كل منهما من خلال مذهبه الفلسفي مشكلة التعليم، فكتب فشته «رسالة العلم»، كما كتب شلنج «دروس في منهج الدراسات الأكاديمية»، ولكن الحلول التي أتوا بها كانت وقتية لعلاج بعض الموضوعات الزمنية، ولكن الدرس المستفاد من الأستاذ هو أن الجامعة ليست مجرد مكان لتجميع العلوم دون أي علاقة بينها، بل يجب أن تتجه كلها نحو غاية واحدة هي الحقيقة. يجب أن يسود الجامعة النشاط العقلي الحر دون أي عقبات من التقاليد أو الأعراف. ولا يجب أن ننسى روح المذهب، تلك البؤرة التي يشع منها نور العلم. ليس البحث عن الحقيقة وظيفة كلية الفلسفة وحدها كما يقول الأستاذ، بل إنها رسالة الجامعة كلها كما يقول التلاميذ.
2
يهدي كانط كتابه إلى أحد الأساتذة في جامعة جوتنجن، ولكنه في الحقيقة يوجه كلامه إلى الحكومة المستنيرة التي تخلص العقل الإنساني من قيوده، والتي تدفع كانط إلى التفكير بحرية تامة. ويتضح من كلام كانط أنه يسخر ولا يتملق، ويستعمل المدح أسلوبا للذم، فيصف الملك فردريك وليم الثاني بأنه حاكم شجاع شريف صديق للبشر، ويجد له العذر في سن تلك القوانين ضد الحريات، وأنه إنما فعل ذلك نتيجة نصيحة رجل دين. هذه القوانين هي التي كانت السبب في منع كتاب كانط الأول «الدين في حدود العقل البسيط». ويذكر كانط أجزاء من خطاب الملك له، يتهمه فيه بسوء استعمال الفلسفة لتشويه العقائد الدينية الأساسية في الكتب المقدسة، والنيل منها، وكما سبق له ذلك في «الدين في حدود العقل البسيط»، ويحذره من العودة إلى ذلك، ويرجوه الانتباه إلى تربية الشباب، وأن يكون معبرا بإخلاص وصدق عن مقاصد الحاكم، ويهدده بالعقاب، ويحذره من الوقوع في المستقبل في مثل هذه الأخطاء، ويرد كانط على خطاب الملك، وينشر رده مع الخطاب في مقدمة الكتاب، ويمدحه بأنه شجاع شريف، محب للبشرية، وأن كانط يضع تحت أقدامه برهان خضوعه المتواضع، ويدافع عن نفسه. هل خاف كانط، أم أنه كان يتملق، أم أنه مثل ديكارت كان خبيثا يستعمل المدح في معرض الذم، ويريد لدعوته أن تنجح أفضل من أن يفشل ويموت شهيدا؟ يرد كانط على الاتهام الأول أنه باعتباره أستاذا للشباب، فإنه لم يخلط في دروسه بين حقائق المسيحية وحقائق الفلسفة، والدليل على ذلك اعتماده على ملخصات باومجارتن التي ليس فيها مادة من الكتاب المقدس، أو العقائد المسيحية، بل مجرد مادة فلسفية خالصة. وباعتبار كانط مربيا للشباب فإنه لم يورد في كتابه «الدين في حدود العقل البسيط» ما ينال من دين البلاد، بل إنه كتاب غير مفهوم للعامة، مجرد مناقشات أكاديمية غامضة، تخص المؤسسات التعليمية والتي تحرم الدولة نشرها وذيوعها إلى العامة. ليس في الكتاب مدح أو ذم للمسيحية يرفع من شأنها ولا يقلل منها، بل مجرد بيان للدين الطبيعي والاستشهاد بالنصوص الدينية للبرهنة على بعض العقائد العقلية. ولا ضير أن يتفق العقل مع الوحي، وأن يعطى الإيمان صفات الشمول والوحدة والضرورة. إن جوهر الدين هو العمل الخلقي، ما يجب أن يكون في مقابل الوحي الذي يعتمد على التاريخ، ليصبح الإيمان في هذه الحالة حادثا عرضيا، زائدا وزائفا. مهمة الوحي مهمة خلقية خالصة، والعمل النظري العقلي يكمل بالعمل الخلقي، خاصة فيما يتعلق بتحويل الشر في الإنسان إلى خير، وتجاوز الخطيئة بالخلاص، واعتقاد الإنسان بضرورة الحياة الخيرة. ويؤكد كانط احترامه الإيمان وعقائد الكتب المقدسة والمسيحية ويثني على الكتاب المقدس باعتباره أفضل دليل مرشد للمحافظة على الدين الوطني القادر على تربية النفوس، وأنه لمن العار توجيه أي اعتراضات أو إثارة أي شكوك حول العقائد النظرية أو الأسرار الإلهية التي ينص عليها الكتاب، سواء في المدارس أم المؤلفات، وإن كان يسمح بذلك في الكليات وحدها. إن أكبر ثناء على الكتاب المقدس هو اتفاقه مع الإيمان الخلقي والعقلي. وعلى هذا النحو يمكن إعادة تأسيس المسيحية، وليس على التعالم الديني الذي يدل على تزييف المسيحية. ويرجع كانط في النهاية الموضوع كله إلى ضميره، أمام قاضي العالم الذي يعلم ضمائر البشر، وهو في هذه السن المتقدمة، واحدا وسبعين عاما.
أما بالنسبة للموضوع الثاني، وهو التزام كانط - كما يطلب الملك - بعدم العودة إلى مثل هذه الكتابات، فإن كانط يستسلم في الظاهر مؤكدا أنه أكثر الرعايا إخلاصا لسمو الملك، وأنه سيتوقف عن أي عرض للدين الطبيعي أو لدين الوحي للجماهير، في دروسه أو في كتاباته، على عكس عادة فلسفة التنوير في فرنسا التي تحولت إلى ثقافة شعبية جماهيرية، فجندت الجماهير حتى انطلقت الثورة. وبالرغم من أن كانط على يقين من العواقب الوخيمة الناشئة عن إبعاد الإيمان عن العقل، إلا أنه يعد بفعل ذلك. ويبين إحدى هذه العواقب، وهي هروب التلاميذ إلى كلية الحقوق، هربا من لجنة الإيمان التي تفحص إيمان الطلاب، وتفتش في ضمائرهم عند التحاقهم بكلية اللاهوت، بالرغم من أنهم لم يدركوا مدى النفع في كلية الحقوق إلا فيما بعد. أما الذين يقبلون في كلية اللاهوت، فإنه يجب عليهم التوبة أولا أو طلبها. ويدعو كانط إلى توقف أعمال مثل هذه اللجنة تحقيقا للصالح العام، وللخير الاجتماعي، ولصالح العلم الذي أقيمت لأجله المدارس والمعاهد والجامعات. وينهي كانط خطابه للملك بالتأكيد على ثقته بحكمة الحكومة، وعلى رأسها مثل هذا الحاكم المستنير الذي يريد تقدم العلوم كلها، وليس اللاهوت وحده، ويبغي تقدم الحضارة ضد كل مظاهر التعتيم والتعمية.
3
ثالثا: الصراع بين كلية الفلسفة
وكلية اللاهوت
يبدأ كانط قبل الدخول في الموضوع الأول مباشرة، وهو الصراع بين كلية الفلسفة وكلية اللاهوت، أو كما يقول بلغتنا كلية الآداب وكلية أصول الدين، أو بين الجامعة الوطنية والجامعة الأزهرية، بإعطاء مقدمة عامة عن الجامعة، طلابا وأساتذة وإدارة، وعن التقسيم العام للكليات الجامعية، ثم عن وضع كل كلية، سواء الكليات العليا (وهي كلية اللاهوت وكلية الحقوق، وكلية الطب)، أم الكلية الدنيا (وهي كلية الفلسفة). وأخيرا يتحدث كانط عن الصفة المميزة لكل كلية، وعن الصراع المشروع والصراع غير المشروع بينها.
إن العلم البشري بالرغم من وحدة المعرفة، ينقسم إلى عدة علوم، ولكل علم أساتذة متخصصون وطلاب وهيئات تسمى جامعة أو مدرسة عليا تتمتع باستقلال ذاتي؛ لأن العلماء وحدهم هم القادرون على الحكم على العلماء، وتقبل الجامعة الطلاب والأساتذة وفقا لقواعد تضعها. وبالإضافة إلى أعضاء هيئة التدريس هناك الأساتذة المستقلون داخل الأكاديميات والجمعيات العلمية الذين يطلبون العلم من أجل العلم. ويطلبونه مخلصين له طيلة حياتهم. وأحيانا يتحول أعضاء هيئة التدريس أو الخريجين إلى مجرد متعلمين، أي أصحاب شهادات موظفين في الحياة العامة نسوا كل شيء تعلموه. يكفيهم أنهم قادرون على أداء وظائفهم بالحد الأدنى مما تبقى في أذهانهم. ومنهم رجال الأعمال أو تكنوقراطيو العلم الذين يصبحون في النهاية مجرد آلات للحكومة، مثل رجال الدين ورجال القضاء والأطباء، ويكون لهم أبلغ الأثر على الجماهير، نظرا لاتصالهم بها. ولا يسمح لهؤلاء بمزاولة علمهم إلا في أداء مهنهم، ولكنهم خارج المهنة ينسون كل شيء.
ويقسم كانط الكليات الجامعية إلى قسمين: كليات عليا ثلاث، وكلية واحدة دنيا. وهو تقسيم نابع من الحكومة، وليس من العلماء. والكليات العليا تخرج موظفين للحكومة، والحكومة قبل أن تستخدمهم تحكم على صلاحية عرض علمهم على الجمهور. أما الكلية التي تسمى الدنيا، فإنها تهتم بالعلم لذاته، وتتمتع بحرية الفكر والاستقلال؛ وبالتالي فإنها تهتم بالكليات العليا، وتهمل الكلية الدنيا، وتتركها لعلمائها. فإذا ما قررت الحكومة استبعاد بعض النظريات، فإنها تطالب الكليات المختصة بالقيام بهذه المهمة، وحذفها وإسقاطها من الحساب؛ لأن عقود الأساتذة مع الجامعة تنص على ذلك. وأي حكومة من هذا النوع تعمل بالنظريات، وتتعهد بتقدم العلوم وازدهارها، ويكون على رأسها الحاكم العالم، أو الملك الفيلسوف - كما يقول أفلاطون - تفقد الاحترام الواجب لها، بسبب هذا التعالم والتدخل فيما لا تعرف. والحكومة في نهاية الأمر أسمى من أن تهبط إلى مستوى العلماء أو العامة، وأن تتناول من معارفهم. وهذا هو السبب في وجود الكلية الدنيا مستقلة عن الحكومة في نظمها ونظرياتها، ولها الحرية التامة في إصدار أحكامها على النظريات، من وجهة النظر العلمية، أي طبقا للحقيقة وحرية التعبير عنها صراحة، فبدون الحرية لا تظهر الحقيقة لأن العقل بطبيعته لا يقبل شيئا على أنه حق، إن لم يثبت له بالدليل القاطع أنه كذلك، وهو الدرس المستفاد في بداية العصور الحديثة، من ديكارت، فإذا كانت هذه الكلية مع ذلك تسمى الكلية الدنيا، فإن السبب يرجع إلى طبيعة الإنسان، لأن من يعطي الأوامر يتصور أنه أعلى. والحقيقة أن القادر على الحكم المستقل هو الجدير بهذه التسمية.
ثم يتحدث كانط عن وضع الكليات بادئا بوضع الكليات العليا وأقسامها. فلما كان كل معهد يقوم على فكرة، أو مبدأ عقلي، أو تصور مسبق، بالإضافة إلى مجموعة من التجارب، على ما هو معروف من فلسفة كانط في «نقد العقل الخالص»، وليس مجرد وليد الصدفة، فإن أهداف أي حكومة طبقا للعقل (أي موضوعيا) بالنسبة للجامعات، ثلاثة: الأول تحقيق الخير الأبدي لكل فرد، والثاني تحقيق الخير الاجتماعي لكل فرد باعتباره عضوا في مجتمع، والثالث تحقيق الخير البدني أي حياة أطول وصحة أوفر. ويمكن أن يكون لتوجيه الحكومة وطرقها لتحقيق الهدفين الأولين أبلغ الأثر في تعويد الشعب على طاعة قوانين الدولة والالتزام بنظامها . ويكون أثرها بتحقيق الهدف الثالث في تكوين شعب من الأصحاء تستخدمه الدولة لتحقيق أغراضها الخاصة. وطبقا للعقل هناك إذن ثلاث كليات؛ كلية اللاهوت، وكلية الحقوق، وكلية الطب. ولكن طبقا للغريزة الطبيعية تأتي كلية الطب أولا؛ لأن الطبيب أهم للإنسان من اللاهوتي؛ فهو الذي يحافظ على حياته، ثم يأتي القانوني، ليحافظ على ممتلكاته، وأخيرا يأتي اللاهوتي ليعلمه الحياة الأبدية ويعده بالسعادة في المستقبل، كما خفف آلامه في الدنيا، وكأن كانط يريد أن يقول هنا: إن اللاهوت «أفيون الشعب»، كما قال قبل ذلك في محاضراته في «التربية» عام «1766-1777م»: إن الدين «أفيون الشعور»؛ لأنه يخلق في الإنسان اطمئنانا ورضا ومسرة. وفي كلا النظامين نظام العقل ونظام الغريزة الطبيعية، تبقى كلية الحقوق كما هي في الوسط. ولكن يختلف الأمر بالنسبة لكلية الفلسفة وكلية اللاهوت، حيث يبدو الصراع بينهما وكأنهما طرفان متقابلان تمام التقابل، فيعطي نظام العقل كلية الفلسفة الأولوية، بينما يعطي نظام الغريزة كلية اللاهوت الأولوية. ويبدو أن هذا التقسيم الثلاثي يتفق أيضا مع القسمة الثلاثية للعقل النظري عند كانط؛ فكلية الطب مثل الحساسية الترنسندنتالية، وكلية الحقوق مثل الذهن، وكلية اللاهوت مثل العقل. وقد يتفق أيضا مع قسمة أفلاطون الشهيرة للقوى الإنسانية؛ القوة الشهوية التي تمثل كلية الطب، والقوة الغضبية التي تمثل كلية الحقوق، والقوة العاقلة التي تمثل كلية اللاهوت. وتكون الكليات العليا تحت توجيه الدولة كتابة من خلال التشريعات، في حين أن الكلية الدنيا تخضع لمبادئ علمية عامة وشاملة ودائمة. وقد يكون لهذه الكليات العليا قواعد وقوانين لا تتفق مع العقل، بل تهدف أساسا إلى طاعة الدولة؛ لأن القانون قد يستنبط من العقل، فيتفق معه، وقد يكون في تعارض معه معبرا عن مشرع خارجي وهو الدولة. وتكون القوانين التي تسنها الدولة وتشرعها ملزمة، في حين أن القوانين المستنبطة من العقل، لا تكون ملزمة؛ لأنه ليس وراءها سلطة لتنفيذها. كذلك لا يستمد لاهوتي الكتاب المقدس لاهوته من العقل، بل من الكتاب، كما لا يستمد القانوني قانونه من القانون الطبيعي (وهو ما يعادل العقل النظري)، بل من القانون المدني. كذلك لا يستمد الطبيب علاجه من علم الفيزيولوجيا بل من قواعد الطب المتعارف عليها. فإذا ما قامت إحدى هذه الكليات الثلاث العليا لتعتمد على العقل، فإنها بذلك توجه إهانة بالغة إلى السلطة، وتنتزع منها حق الطاعة؛ ومن ثم فإن واجب الكليات العليا ألا تدخل في حلف مع الكلية الدنيا، بل عليها أن تنظر إليها بحذر؛ لكي تظل لوائحها وقوانينها ودساتيرها قائمة لخدمة الدولة أي لخدمة النظام القائم!
ثم يبين كانط الصفة الخاصة المميزة لكل كلية من الكليات العليا الثلاث؛ ففي كلية اللاهوت يبرهن اللاهوتي على وجود الله؛ فقد عبر الله عن نفسه في الكتاب، كما أن الكتاب يتحدث عن طبيعة الله، وبطريقة تصل إلى معارضتها للعقل، كما هو الحال في الحديث عن الثالوث. أما إثبات أن الله قد تكلم من خلال الكتاب، فهذا ما لا يستطيع اللاهوتي برهنته، لأن ذلك مجاله التاريخ، أو تصل إلى إمكانيات العقل الخالصة، وهو ما يخص كلية الفلسفة. وكأن كانط يشير هنا إلى أن اللاهوتي واقع في الدور المنطقي لا محالة، إذ ما أراد البرهنة على وجود الله من خلال الكتاب، والبرهنة على المصدر الإلهي للكتاب الذي يتطلب الإيمان بالله مسبقا، وأنه لا مخلص للاهوتي من هذا الدور إلا الفيلسوف الذي يقطع هذه الدائرة، ويبرهن له إمكانية الوحي. ليس أمام اللاهوتي دون مساعدة الفيلسوف إلا أن يؤسس المصدر الإلهي للكتاب على الإيمان، على أساس من عاطفة الألوهية. ولسوء الحظ لا يستطيع العالم أن يتساءل أمام العامة عن أصل هذه العاطفة، لأن العامة لا تهتم بالعلم، بل تريد الإغراق في الأحلام والتمنيات، ويبدو أن كانط هنا يشارك علماء أصول الدين في تراثنا القديم الذين منعوا العامة من الدخول في علم الكلام، وكما بين الغزالي في كتابه المشهور «إلجام العوام عن علم الكلام». وهو حديث الصوفية والفلاسفة نفسه، في تفرقتهم بين الخاصة والعامة، مما يدل على أن التنوير في ألمانيا كان عمل الخاصة، وليس العامة، كما هو الحال في فرنسا. ولا يستطيع اللاهوتي أيضا أن يفسر الكتاب إلا طبقا للتفسير الحرفي، ولا يستطيع تفسيره بحيث يتفق مع الحقائق الخلقية. وكما أنه لا يوجد مفسر إنساني لديه سلطة إلهية، فإن اللاهوتي يجد نفسه مضطرا للاعتماد على مصدر من فوق الطبيعة يقود الذهن إلى المعنى الصحيح إن لم يطلب مساعدة الفيلسوف القادر على أن يبين له اتفاق المعنى مع العقل. أما فيما يتعلق بتطبيق الأوامر الإلهية، فإن اللاهوتي لا يعتمد في ذلك على الإرادة الإنسانية بل على الفضل الإلهي، عن طريق إيمان قلبي خالص بالتوفيق والهداية والعون والتأييد. وهو ما لا يتفق مع العقل والإرادة الإنسانية الحرة؛ لذلك يجد اللاهوتي نفسه وقد قفز إلى أحضان الكنيسة كي ترعاه وتعطيه سلطاتها، وإلا تحول كل شيء إلى فوضى خارج الكنيسة. وواضح أن كانط هنا ينقد الموقف السلفي التقليدي الذي يمثله المحدثون في تراثنا القديم، والذي يعطي الأولوية للنقل على العقل، والفعل الإلهي على الفعل الإنساني، والتشبيه على التنزيه، وقدم القرآن على خلقه، ويؤسس الموقف الاعتزالي الذي كان وراء ظهور فلسفة التنوير، كما يتضح عند لسنج بوجه خاص.
وتتصف كلية الحقوق بأن القانوني فيها يبحث عن قوانين تضمن حقوق الناس كمواطنين في الدولة. ولا يبحث ذلك طبقا للعقل، بل طبقا للقانون الرسمي الذي تدخل مخالفته تحت طائلة العقاب. ولا يمكننا مطالبته بالبرهنة على صحة هذه القوانين أو الدفاع عنها ضد اعتراضات العقل، فمن السخف عصيان القوانين التي تعبر عن الإرادة الخارجية بدعوى أنها لا تتفق مع العقل لأن احترام الدولة ينتج من أنها لا تترك لكل فرد أن يحكم على هواه بصحة هذه القوانين أو بطلانها، ولكن فقط طبقا لإرادة المشرع، ومع ذلك، فإن وضع كلية الحقوق من الناحية العملية أفضل بكثير من كلية اللاهوت؛ لأن لديها مفسرا مرئيا حاضرا للقانون، وهو الفقيه، أو الأصولي، أو لجنة قضائية، أو المشرع نفسه. وليس الأمر كذلك في تفسير الكتاب المقدس الذي لا يعلم معناه إلا الله، ولكن يعيبها أن القانون الإنساني متغير، في حين أن الكتاب المقدس لا يتغير . كما أن شكوى القانوني من غياب قاعدة عامة للسلوك الموحد للناس لا يشكو منها اللاهوتي الذي لديه مثل هذه القواعد العامة المتمثلة في الأوامر والنواهي. هذا بالإضافة إلى أن المحامي أو القانوني لا يضمن للمواطن تطبيق القانون ومسئوليته عن ذلك، في حين أن اللاهوتي يضمن ذلك للمتدين يوم القيامة، ويعتبر نفسه مسئولا عن ذلك! وهم مطمئنون إلى أن أحدا لن يعارضهم في مثل هذا التأكيد، بالاعتماد على تجارب الدنيا، فشتان بين ما يحدث في الآخرة من يقين، وما يحدث في الدنيا من ظنون. ويبدو أن كانط في تصوره الكليات الثلاث العليا على أنها تهدف إلى طاعة الناس يتفق مع اسبينوزا الذي يجعل ذلك من وظيفة الإيمان. في حين أن العقل عند كانط والفلسفة عند اسبينوزا يدعوان الناس إلى الخروج على الطاعة والرفض والثورة على النظام القائم، بالرغم مما في لغة كانط من حيطة وحذر، ومن استعمال لغة الإثبات، وهو يقصد بها لغة النفي، وهو الدرس الذي تعلمه من ديكارت.
وتتصف كلية الطب بأن الطبيب فيها فنان يعتمد في دراسته على الطبيعة، في حين تعتمد كلية الطب على مجموع القوانين المهنية. كما أن الدولة تقيم «اللجنة العليا للصحة» لممارسة الطب طبقا للقواعد المعروفة، ولكن هذه القواعد لا تأتي من الطبيعة بل من فن الممارسة والعلاج؛ ومن ثم وجب على كلية الطب الاستعانة بكلية الفلسفة لمساعدتها على معرفة قوانين الطب من الطبيعة، وليس من كلية الطب أو اللجان الطبية على الأقل فيما لا ينبغي عمله أو في بعض المبادئ العامة، مثل ضرورة وجود أطباء للعامة (لأن الخاصة لديهم عند كانط نظام للتغذية يعتمد على قوة الإرادة والسيطرة على الانفعالات)، وأنه ليس هناك عنصر تجريبي يتبع المبدأ، ويتفق معه في كثير من الأحيان. فالمثل الأول يهدف إلى رعاية الحكومة الصالح العام، بينما المثل الثاني يهدف إلى رعاية الأمن العام والاستقرار. وكلاهما يعتمد على «البوليس الطبي» أو الرقابة الطبية! ومع ذلك، فكلية الطب أكثر حرية من الكليتين السابقتين وأقربهما إلى كلية الفلسفة. كما أن الأطباء في تكوينهم لا يعتمدون على كتاب مغلق إلى الأبد، كما هو الحال في كلية اللاهوت، بل على كتاب الطبيعة المنشور دائما. ولا يصل الأطباء إلى قانون علمي بالمعنى الدقيق، بل إلى مجرد قواعد وإجراءات، الغرض منها تحقيق النفع العملي، وهو الشفاء. ومعرفتها لا تكون علما؛ لأن العلم مجموعة من النظريات، لا يمكن للدولة أن تعاقبها، فتتركها للأطباء.
أما الكلية الدنيا، وهي كلية الفلسفة، فهي الكلية التي لا تخضع نظرياتها إلى إرادة حاكم. وقد يحدث أن تخضع عمليا لنظرية ما، ولكن يستحيل اعتبارها حقيقة لأنها مفروضة من الحاكم، ليس فقط موضوعيا (أي ما لا ينبغي أن يكون)، بل أيضا ذاتيا (أي ما لا يستطيع أحد إصداره). ومن يعترف مرة بخطئه فإنه لا يخطئ! ويبدو أن كانط هنا يعيش صراع ما ينبغي أن يكون، وما هو كائن، فيما يتعلق بكلية الفلسفة، ومحاولة الدولة السيطرة عليها، وصراع كانط ضد الدولة دفاعا عن استقلالها. فإذا ما أراد أساتذة كلية الفلسفة عرض نظرياتهم على الجمهور، فإنهم لا يعتمدون في ذلك على سلطة خارجية، بل على سلطة العقل وحده. كما أنهم لا يؤمنون بنظرياتهم إلا على نحو عملي من أجل الممارسة، بالرغم من قدرتهم على برهنة صدقها النظري، بينهم وبين أنفسهم؛ فقد وصلوا إلى نظرياتهم بناء على الفحص الحر، والعقل هو القوة القادرة على ممارسة هذا الفحص الحر.
تعتمد حقائق الفلسفة إذن على العقل وحده، وليس على سلطة الدولة أو الحكومة. وتكون وظيفتها الرقابة على الكليات الثلاث الأخرى، وأن تقدم لها خدمة جليلة؛ لأنها لا تبغي إلا الحقيقة، وهو الشرط الأول للعلم. أما المنفعة التي تقدمها الكليات العليا للدولة، فتأتي في المحل الثاني. ويمكننا أن نترك لكلية اللاهوت هذا الفخر بأنها قد اتخذت كلية الفلسفة خادمة لها، طالما أنها لم تستبعدها، أو تتحكم فيها. إنما المهم أن نعرف هل تسير كلية الفلسفة في المقدمة حاملة المشعل، أم أن كلية اللاهوت تجرها وراءها، فتخفي نورها! ويضاف إلى هذا التواضع الذي تمثله كلية الفلسفة الحرية في فحص الحقائق، ثم إعطاء نتائج هذا الفحص الكليات العليا، وتوصية الحكومة بها، وبأن الفلسفة ليست موضع ريب أو تهمة، وأنه لا يمكن الاستغناء عنها. وتشمل كلية الفلسفة قسمين: العلوم التاريخية التي تعتمد على التاريخ (مثل: التاريخ، والجغرافيا، واللغة، والعلوم الإنسانية، وكل ما يقدمه علم الطبيعة)، والعلوم العقلية الخالصة التي تعتمد على العقل (مثل: الرياضة، والفلسفة، وميتافيزيقا الطبيعة، والأخلاق). ويدخل ضمنها بحث العلاقة بين القسمين من العلوم، وكل أجزاء المعرفة الإنسانية، من حيث إنها موضوع للبحث والفحص والنقد والتمحيص. تطالب كلية الفلسفة إذن بفحص كل العلوم، ولا يمكن للحكومة منعها من ذلك. ويجب أن تقبل الكليات العليا اعتراضها وشكوكها وتساؤلاتها. ومن المؤسف والمحزن حقا أن يسبب نقد الفلسفة هز الكليات العليا، وزعزعة استقرارها وأركانها، والنيل من مكاسبها؛ لذلك فمن الطبيعي أن يعارض رجال الكليات العليا نقد الفلسفة؛ لأنهم يمثلون جهاز الدولة ونظامها وسلطتها. ويمكن للأساتذة العلماء فقط معارضة نقد الفلسفة لأنهم مثل الفلاسفة، ولكن لا يسمح بذلك لعملاء الدولة أساتذة الكليات المتواطئين مع نظام الدولة والداعمين له على حساب الحقيقة. ومن الطبيعي أن يحدث ذلك؛ لأنه لو نقد رجال القانون القانون لحثوا الشعب على العصيان والتمرد، ولو نقد رجال الدين اللاهوت لرفض الناس سلطة الكنيسة، ولو نقد الأطباء قواعد الطب لما وثق المرضى في علاجهم. إنما يمكن للأساتذة العلماء وحدهم النقاش في اعتراضات الفلسفة فيما بينهم، باسم العلم والعقل، من أجل الوصول إلى الحقيقة. وكثيرا ما تسبب هذه المناقشات أن يرجع بعض الأساتذة والطلاب في نهاية الأمر إلى الحقيقة صاغرين؛ فليس هناك أفضل من العقل المستنير، والتسليم بالحق فضيلة.
ويقسم كانط الصراع بين الكليات العليا والكلية الدنيا إلى قسمين؛ صراع غير مشروع، وصراع مشروع. ومن غير المشروع: الصراع العلني بين الآراء والنظريات، سواء أكان صراعا علميا في المضمون (لأن العلم ليس مطلبا للجمهور)، أم في الشكل (لأن النقاش لا يقوم على قواعد موضوعية موجهة إلى عقل الخصم، بل على دوافع شخصية وعواطف وانفعالات، بل وباستعمال الحيل، أو وسائل الترغيب غير المشروعة، مثل : الرشوة، والفساد؛ أو أساليب الإرهاب، مثل: العنف). والخطورة أن يحدث مثل هذا الصراع علنيا أمام الشعب؛ مما يسمح للكليات العليا بتملق أذواق الجماهير والاعتماد على جهلها. فتحاول كل منها أن تقنع الشعب بأنها هي الوحيدة التي تعمل على سعادته. الغاية واحدة، ولكن الأسلوب مختلف، ولما كان الشعب لا يضع هناءه وسعادته في الحرية، بل في غاياته الطبيعية، وهي أن يكون سعيدا بعد الموت، وأن تكون ممتلكاته في الدنيا محفوظة بالقوانين المدنية من طمع الآخرين فيها، وأن يتمتع ببدنه في الحياة بالصحة الوافرة والعمر الطويل، فإن كلية الفلسفة لا تستطيع المشاركة في هذه الأهداف إلا بقدر اعتمادها على العقل، وعلى مبدأ الحرية، وعلى ما يستطيع الإنسان أن يقدمه لنفسه بجهده الخاص، وليس بوعود الآخرين: أن يعيش شريفا، وألا يؤذي الآخرين، وأن يكون معتدلا في صحته، صابرا في مرضه، معتمدا على تلقائية الطبيعة. ولتحقيق ذلك، فإنه لا يحتاج إلى علوم عميقة، بل عليه فقط أن يضبط انفعالاته، ويتبع العقل، ولكن الشعب لا يهتم بهذا الجهد الفردي؛ لأنه يريد حلولا أسهل ووعودا أكبر. فيطالب الكليات العليا أن تقدم له مقترحات أكثر قبولا نظرا لأنه يرفض القوانين التي تحد من حريته أو التي تطالبه بالإصلاح والتغيير. ويقول للفلاسفة: كل ذلك أيها العلماء الفلاسفة ثرثرة معروفة منذ زمان طويل، إنما يريد كل منا أن يعرف ثلاثة أشياء؛ الأول: كيف أنال تذكرة إلى الآخرة، وأنا آثم جاحد؟ والثاني: كيف أكسب القضية وأنا مخطئ؟ والثالث: كيف أكون ذا صحة جيدة وأعيش عمرا طويلا، وأن أتمتع بالحياة بطولها وعرضها؟ لقد درستم طويلا، ولكن المهم هو الحس السليم! يتصور الشعب إذن العلماء كأنهم منجمون أو سحرة ينتظرون منهم خوارق العادات! فإذا ما استطاع أحد أن يعطي الشعب ما يطلب، فإنه سيحتقر كلية الفلسفة، ويوقن بعجزها عن أن توفر له احتياجاته. ويكون رجال الأعمال من خريجي الكليات العليا سحرة بالفعل إن لم يتركوا الفلاسفة يعملون ضدهم، ليس من أجل قلب نظرياتهم أو دحضها، بل لكشف هذه القدرة السحرية التي يعزوها الشعب لهم. هذا هو الصراع غير المشروع عندما يتعدى رجال الكليات الثلاث العليا على القوانين متعمدين ذلك، وكفرصة مؤاتية لهم لإظهار مهاراتهم أمام الشعب. إن الشعب يحتاج إلى قيادة، ولكنه يخطئ في تصور قادته عملاء للكليات العليا، وليس علماءها، هؤلاء العملاء الذين يعرفون كيف يدبرون حياتهم، وكيف يعيشون
Savoir faire ، وهم رجال الدين ورجال القضاء والأدباء؛ لذلك تستعملهم الدولة، بعد أن حازوا ثقة الشعب بهم؛ نظرا للوعود التي يلقونها إليهم لفرض نظرية معينة عليه، لا تتفق مع الحكمة، بل تهدف إلى السيطرة عليه. ففي اللاهوت مثلا من الأفضل الاعتقاد بحرفية النصوص، دون فحص ما ينبغي اعتقاده بالعقل، وأن الإتيان ببعض الطقوس وإقامة بعض الشعائر يمكن أن يمحو بعض الجرائم المرتكبة. وفي القانون تهدف طاعة القانون حرفيا إلى منع المواطن من معرفة قصد الشارع. هذا هو الصراع غير المشروع الذي لا يمكن حسمه بين الكليات العليا والكلية الدنيا لأن المبدأ الذي تقوم عليه الأولى هو مبدأ الحكومة، حتى ولو كان الفوضوية ورغبة كل فرد في اتباع ميوله الخاصة. ولو أرادت الحكومة إيقاع الكليات العليا في صراع مع كلية الفلسفة، فإنه سيؤدي، لا محالة، إلى موت الفلسفة كلية. وهي طريقة بطولية لحل الصراع.
أما الصراع المشروع، فإنه ينشأ من ارتباط النظريات التي تسمح بها الحكومة للكليات العليا، للإعلان عنها بإرادة المشرع؛ وبالتالي كانت عرضة للخطأ، وفي الوقت نفسه من مهمة كلية الفلسفة التحقق من صدق هذه النظريات. ويحدث صراع مشروع؛ لأن هذه النظريات تعارض العقل، وهو صراع مشروع، ليس فقط من حيث الحق والقانون، ولكن أيضا من حيث ما ينبغي أن يكون. فإذا كانت هناك بعض النظريات مستمدة من التاريخ، وتوحي بتصديقها، فإن من واجبات كلية الفلسفة فحصها. فإذا اتفقت مع العقل تم قبولها، أما إذا كانت معتمدة على الحس أو العاطفة، فإن من حق كلية الفلسفة إعلان ذلك، بعد فحصها بالعقل الهادئ، وتحويل العاطفة إلى تصور، دون أن ينال ذلك من قدسيتها. ويضع كانط أربعة مبادئ صورية لإدارة مثل هذا الصراع المشروع وهي : (1)
لا يمكن حل هذا الصراع باتفاق ودي، بل يتطلب إصدار حكم، أي قرار له قوة القانون الذي يصدره القاضي، وهو العقل. وهنا يرفض كانط أي مساومة بين العقل وما سواه، أو استعمال العقل في وظيفة التبرير، خادما لشيء آخر، كما هو الحال في اللاهوت. (2)
لا يمكن إنهاء الصراع مرة واحدة وإلى الأبد لأنه سيكون هناك دائما نظريات تعرضها الحكومة، وتدافع عنها الكليات العليا وفي حاجة إلى بحث وتحقيق وتمحيص. إن كلية الفلسفة تدافع عن بقاء هذا الصراع طالما أن هناك عقلا بشريا في مواجهة نظام وضعي متمثل في السلطة السياسية ووكلائها من رجال الدين، ورجال القضاء، ورجال الأعمال. (3)
لا يمكن أن يتضمن هذا الصراع أي إدانة للحكومة، أو اتهامها بالخطأ، فالصراع بين الكليات ليس صراعا مع الحكومة، ولكنه صراع بين كلية وباقي الكليات التي تستخدمها الحكومة بوقا لها. وهو نقاش يدور بين جماعة العلماء، وليس بين الجماعة السياسية. ولا شأن للحكومة بالخلاف بين العلماء. إن الكليات العليا تمثل اليمين في البرلمان، وكلية الفلسفة تمثل اليسار. الأولى تدافع عن الحكومة، والثانية تفحص بحرية وبموضوعية. ولا يجب أن تتدخل الحكومة في هذا الصراع وإلا نصرت الكليات العليا ضد كلية الفلسفة، والتي ما زالت الحكومة تعتبرها بدعة. وهنا تبدو جرأة كانط في اعتبار المعارضة الفكرية يسارا والموافقة يمينا. ويبدو كأحد المناضلين الكبار، دفاعا عن حرية الفكر ضد الوضع القائم. (4)
يدور هذا الصراع إذا كان هناك اتفاق بين جماعة العلماء وجماعة المواطنين فيما يتعلق بالقواعد التي يمكن مراعاتها لصالح التقدم الدائم والمستمر للكليات بنوعيها، نحو كمال أعظم، لاغية بذلك كل الحدود والقيود على حرية الفكر والرأي والتعبير التي تضعها الحكومة. وعلى هذا النحو تصبح الكليات العليا هي الدنيا والكلية الدنيا هي العليا. ولا يحدث هذا التحول بالحصول على سلطة، أو بتغيير الحكومة حلفاءها وعملاءها، ولكن عن طريق إسداء النصح لمن بيدهم السلطة، حتى تجد السلطة في هذه الفكرة أنجح وسيلة لتحقيق غاياتها دون الاعتماد على السلطان.
إن هذا الصراع بين الكليات يهدف أساسا إلى تحقيق غايات قصوى للبشرية وأهداف سامية للإنسانية، وليس حربا أو نزاعا تتباين فيه المقاصد، وخلافا بين ما للأنا وما للآخر من حق وعلم. إن الحرية فوق كل شيء، والحرية فوق الملكية. ومهمة كلية الفلسفة هي توعية الشعب بحقوقه وخلق مجتمع مستنير.
وبعد هذه المبادئ العامة يعطي كانط نماذج عملية لمواطن هذا الصراع وموضوعاته، وطرق حله، بعد أن بين موقع هذا الصراع بين الحكومة والشعب. فموضوع الصراع الأول هو تفسير الكتاب: هل النقل أساس العقل أم أن العقل أساس النقل، كما يقول المسلمون القدماء؟ يدافع عن الموقف الأول اللاهوتي الكتابي، وهو العالم فيما يتعلق بإيمان الكنيسة الذي يقوم على قواعد أي قوانين مستنبطة من إرادة شخص آخر. ويدافع عن الموقف الثاني اللاهوتي العقلي وهو العالم بالعقل فيما يتعلق بالإيمان الديني الذي يقوم على قوانين باطنية، يمكن استنباطها من عقل أي إنسان. ولا يمكن أن يتأسس الدين على مجرد أوامر ونواهي وطقوس، كما أنه ليس عقائد يقال إنها وحي من عند الله، بل يشمل مجموع واجباتنا بوجه عام، باعتبارها أوامر إلهية. فالدين على هذا النحو لا يختلف عن الأخلاق في مادته، أي في موضوعه لأنه يتعلق بالواجبات، ولكنه يختلف فقط في الصورة. أي في تشريع العقل المستنبط من فكرة الله، باعتباره فكرة خلقية من أجل التأثير على الإرادة الإنسانية للقيام بالواجبات. وبهذا المعنى ليس هناك ديانات متعددة بل طرق متعددة للإيمان بالوحي الإلهي وبالعقائد الرسمية التي لا تأتي من العقل، أي صورة مختلفة وتمثلات حسية للإرادة الإلهية. فالمسيحية دين بهذا المعنى. وهي في الكتاب. وتتكون من جزءين مختلفين: قواعد الإيمان
canon ، وآلة الإيمان
organon
الأول هو الإيمان الديني الخالص القائم على العقل دون قواعد، والثاني هو الإيمان الكنسي الذي يقوم على القواعد، ويتطلب الوحي. يقول اللاهوتي الكتابي: ابحثوا في الكتاب تجدوا سعادتكم، وكأن سعادة الإنسان تكمن في نص مكتوب. إن المبادئ والتصورات لا تؤخذ من كتاب حسي تاريخي، قد يتفق مع الإيمان الديني، وقد يختلف. وتصر كلية اللاهوت الكتابي على الكتاب، وكأن الإيمان بهذه الأشياء جزء من الدين. وهنا تأتى كلية الفلسفة وتدخل في الصراع من أجل إيضاح هذا الخلط. وما يقال عن منهج التفسير يقال أيضا عن تعاليم الحواريين المرتبطة بعصر وزمان معينين، سواء سلبيا عن طريق التسليم ببعض الآراء الخاطئة في عصرها لكيلا تصطدم بعقائد الناس الشائعة مثل التسليم بوجود الأرواح الشريرة؛ أم إيجابيا مثل إيثار شعب معين، والانتقال من الإيمان القديم إلى الإيمان الجديد. خلاصة الأمر: إن علم التفسير هو أحد موضوعات الصراع بين كلية اللاهوت وكلية الفلسفة. تتهم الأولى الثانية باستبعاد العقائد الموحى بها أو تأويلها، بحيث تتفق مع العقل، وتتهم الثانية الأولى بإهمال الدين الباطني الخلقي الذي يقوم على العقل. إن كلية الفلسفة تهدف إلى الحقيقة؛ وبالتالي تضطر إلى تأويل النصوص. ولا يعني ذلك أن التفسير يكون فلسفيا فقط، بل تكون مبادئ التفسير فقط هي كذلك؛ لأن مناهج التفسير التاريخية أو اللغوية في كل الأحوال تعتمد على مبادئ يمليها العقل.
ويطرح كانط أربعة مبادئ فلسفية لتفسير الكتاب، من أجل حل الصراع بين كلية اللاهوت وكلية الفلسفة في موضوع التفسير، وهي: (1)
إن آيات الكتاب التي تحتوي على بعض العقائد النظرية والمسلم بها على أنها مقدسة، ولكنها تتجاوز حدود العقل، يمكن تفسيرها بالعقل. أما تلك التي تتضمن قضايا ضد العقل العملي، فإنه يجب تأويلها، وهو ما قاله علماء أصول الفقه من قبل، وهو أن الخبر المتواتر يعطي اليقين، نظرا وعملا، في حين أن خبر الواحد يكون ظنيا في النظر، ولكن يقينيا في العمل. ويضرب كانط على هذا المبدأ مثلين؛ الأول: عقيدة التثليث؛ فهي من الناحية الحرفية لا شأن لها بالحياة العملية، على عكس أوغسطين الذي يرى أن التثليث كائن في كل خلجة من خلجات النفس الإنسانية، وفي كل مظهر من مظاهر الطبيعة. فالتثليث النظري لا يهم عند كانط، إنما المهم هو آثاره في الأخلاق العملية. وكذلك عقيدة التجسد التي تجمع بين الله والإنسان وتضعهما معا في التاريخ؛ إذ ليس من أثر لهذه الحقيقة في الحياة العملية. فسواء أكانت المادة روحا أم كانت الروح مادة، فلا أثر لذلك في الحياة العملية، على عكس ما قاله أوغسطين في آثار ذلك على الأخلاق والعيش روحيا في العالم المادي أو ماديا في العالم الروحي. ويهاجم كانط ما قاله الحواري بولس من أنه إذا لم يبعث المسيح فإن بعثنا يكون على غير أساس لأنه أقام حقيقة عملية خلقية على ظن نظري وهو واقعة بعث المسيح. وكذلك يقال الشيء نفسه في العشاء الرباني، فسواء أحدث تاريخيا أم لم يحدث، فإنه يعني الوداع، وداع المعلم التلاميذ. والموت والجرح على الصليب لا يهم، إذا كان قد حدث تاريخيا أو لم يحدث، فذلك يعني فشل المشروع. ولماذا الدخول في مناقشات حول صحة الروايات التاريخية مع أن العقل يكفينا، بإعطائنا اليقين العملي؟ وهنا يبدو أن كانط كان مؤسس هذا النقد الخلقي والفلسفي والروحي للكتاب المقدس، والذي سارت فيه البروتستانتية الخلقية، والكاثوليكية فيما بعد، دون أن يعطي اهتماما، كما فعل اسبينوزا من قبل، لنقد النصوص اعتمادا على العقل. ويضرب كانط مثلا ثانيا بآيات الكتاب التي تعارض تصورنا العقلاني لله ولإرادته؛ فقد اتفق اللاهوتيون على ضرورة فهم التشبيه بما يتفق ومقتضيات التنزيه، فالعقل هو المفسر الأعظم. كما أن عقيدة بولس في القضاء المسبق تمثل رأيه الخاص الذي لا يتفق مع العقل لأنه ضد الحرية واختيار الأفعال والمسئولية والأخلاق. (2)
إن الإيمان بالعقائد النصية التي يوحى بها يكون إيمانا صحيحا إذا عرفنا أنها لا تحتوي على أية قيمة نظرية في ذاتها، وأن غيابها أو الشك فيها ليس عيبا ولا نقصا لأن الدين هو ما وقر في القلب وصدقه العمل. والعمل هو الذي يهم، وليس النظر. ويكون مقياس صحة العقائد النصية، هو مدى اتفاقها أو اختلافها مع العمل. ليست العقيدة هي الإيمان بل العمل؛ إذ إن الإيمان النظري لا يمكن البرهنة عليه مثل العماد، في حين أن الإيمان العملي ظاهر للعيان في سلوك الأفراد. إن العقائد تهم الكنيسة وحدها ونظامها وسلطتها؛ فهي تعيش عليها وتتعيش منها، ولكنها لا تهم الإيمان الباطني واليقين الخلقي. ويبدو أن كانط ينزع هنا نزعة صوفية خالصة، تحيل الدين إلى مجرد أخلاق عملية، هروبا من العقائد النظرية الظنية. (3)
إن العمل يكون نتيجة لاستعمال الإنسان الخاص قواه الخلقية، وليس نتيجة علة فاعلة خارجية علوية، يقف الإنسان أمامها موقفا سلبيا عاجزا؛ لذلك يجب تأويل النصوص التي توحي بهذه العلة، بحيث تتفق مع المبدأ الأول. ويبدو كانط هنا مدافعا عن حرية الاختيار ضد الجبر في الأفعال، مبرزا إرادة الإنسان ومسئوليته الخلقية، في مقابل وضعه السلبي في اللاهوت، بين خطيئة آدم وخلاص المسيح، فلا هو يتحمل وزر آدم الذي تاب الله عليه، ولا هو خلص نفسه بنفسه. (4)
عندما لا يكفي السلوك الشخصي لتبرير الإنسان أمام ضميره، يسمح للعقل بأن يعترف بحدوده، وبأنه في حاجة إلى شيء مكمل يأتيه من فوق الطبيعة، لإكمال نقصه؛ وبالتالي يجب تفسير النصوص الخاصة بذلك، والمتعلقة بشعب معين على هذا الأساس. ويبدو أن كانط هنا يشير إلى عقيدة الاختيار في العقائد اليهودية، ويحاول تفسيرها، بحيث تتفق مع مبادئ العقل، وهو طلب العون بقرار من العقل، ولكن حتى هذا التفسير لا يبدو متفقا مع فلسفة كانط العقلية الصارمة لأنه يعترف بإمكانية عجز العقل، وبأن له حدودا، وبأن وراءه قوة أخرى قادرة على تجاوز هذه الحدود، وهو الموقف اللاهوتي التقليدي الذي يرفضه كانط. فإذا كانت المبادئ الثلاثة الأولى تمثل خطوات إلى الأمام، فإن هذا المبدأ الرابع يمثل خطوة إلى الخلف، بالنسبة لفلسفة كانط، وإن كانت تمثل خطوة إلى الأمام بالنسبة لفهم عقيدة الاختيار في اليهودية. فإذا ما اعترض اللاهوتي الكتابي على هذه المبادئ الأربعة قائلا بأنها تشير إلى دين الطبيعة، وليس إلى المسيحية، أمكن الرد عليه بسهولة بأن المسيحية هي دين الطبيعة والعقل، كما لاحظ لسنج من قبل، حتى ولو كان مصدرها من خارج الطبيعة.
ونظرا لأهمية الاعتراضات التي يمكن أن توجه لمبادئ كانط الفلسفية في التفسير لحل موضوع الصراع، فإنه يورد نوعين من الاعتراضات؛ اعتراض اللاهوتي النصي الكتابي، واعتراض العقل ضد نفسه وضد التفسير العقلي للكتاب. يوجه اللاهوتي الكتابي اعتراضين؛ الأول: أن هذه أحكام كلية الفلسفة التي لا يجب أن تدخل في ميدان اللاهوت النصي. ويمكن الرد على ذلك بأن إيمان الكنيسة في حاجة إلى علم تاريخي، أما الإيمان الديني الباطني فإنه يحتاج إلى العقل وحده . فتفسير الأول كحامل للثاني يتم بمقتضى العقل. فيكون الأول وسيلة، والثاني غاية، وليس هناك من هو أعلى من العقل بشأن الخلاف حول الحقيقة. لا خطر إذن على اللاهوت من الفلسفة، بل إنه لشرف له حل الخلافات بين اللاهوتيين النصيين. وعلى أي حال، في الوقت الذي يتوقف فيه اللاهوت عن استخدام الفلسفة تتوقف الفلسفة عن التدخل في اللاهوت؛ والاعتراض الثاني: أن هذه المبادئ الفلسفية العامة في التفسير مجرد تفسيرات رمزية صوفية، وليست نصية أو فلسفية. وهذا غير صحيح في رأي كانط لأن التفسير النصي هو التفسير الرمزي الذي يأخذ العهد القديم باعتباره مجرد حكاية رمزية
AIIégorie . أما التفسير الخلقي، فإنه يستبعد التفسير الصوفي لأن الأحلام والرؤى تأتي من خارج الطبيعة، في حين أن الأخلاق تعتمد على العقل، أي على الطبيعة.
أما النوع الثاني من الاعتراضات التي يوجهها العقل ضد نفسه في محاولته تفسير الكتاب تفسيرا عقليا، فإن كانط يذكر منها أربعة، وهي: (1)
إن الوحي يفسر بذاته، وليس بالعقل، لأن أساس هذه المعرفة ليس عقليا. ويرد كانط على هذا الاعتراض بأنه لذلك السبب بعينه لا بد من استعمال العقل؛ لأن الوحي لا يتأسس في التاريخ أو في التجربة بل في العقل. (2)
لما كان النظر يسبق العمل، وكان الوحي متضمنا الإرادة الإلهية، فإن البداية بالعقل، أي النظر في موضوع الإرادة أي العمل خطأ وشك في الإرادة. وفي رأي كانط إن هذا الاعتراض صحيح فيما يتعلق بإيمان الكنيسة ولكن ليس فيما يتعلق بالإيمان الديني الذي يقوم على الاعتقاد بالحقيقة. (3)
كيف يمكن أن يقال للميت: «قم وسر» إن لم يصاحب هذا القول، إذا تحقق، قوة خارقة للعادة، لا شأن للعقل بها؟ ويرى كانط أن هذا النداء موجه أيضا للعقل. ويشير إلى المبدأ الترنسندنتالي للحياة الخلقية، أي إمكانية الحياة الخلقية بفعل الإرادة. ويبدو أن كانط هنا يستعمل مصطلحه الشهير لتبرير وقوع المعجزات. (4)
إن الإيمان بوسيلة مجهولة يتعلق بها مصيرنا يقوم على علة نعترف بها مجانا، إشباعا لحاجة نشعر بها، ولا دخل للعقل في ذلك. ويعترف كانط بصحة ذلك، ولكن من الأفضل تأسيسه على فكرة قبلية على الأقل من الناحية العملية.
ويعود كانط من جديد إلى موضوع وحدة الدين وتعدد الفرق والمذاهب والنحل والملل. ليس هناك إلا دين واحد، أما الفرق فتنشأ من إيمان الكنيسة، وتقوم على التراث والكتاب. ولا يهم الإحصاء التاريخي للفرق، مثل: اليهودية، والمسيانية، والمسيحية الشعبية، والمسيحية الخاصة، بل قسمتها قبليا. ويكون مبدأ القسمة حينئذ إما الدين وإما الخرافة أو الوثنية. وهو مبدأ عقلي مثل «ألف» تعارض «لا ألف». والذين يعتقدون بالمبدأ الأول هم المؤمنون، والذين يعتقدون بالمبدأ الثاني هم الكافرون. الإيمان هو وضع الأخلاق والتقوى في الدين، والكفر إخراجهما منه لأنه لا يعترف بوجود كائن ترنسندنتالي خلقي، أي لا يعترف بالأخلاق ذاتها. كل إيمان مرتبط إذن قبليا بالأخلاق، وهو الإيمان الباطني، وإن لم يرتبط، فإنه يكون الإيمان كما تصفه الكنيسة؛ وبالتالي يكون وصف الكنيسة بأنها شاملة تناقضا لأن الشمول يتضمن الضرورة، وهما صفتان للعقل؛ وبالتالي صفتان للإيمان الباطني. إن كل إيمان كنسي يطرح عقائد منظمة على أنها عقائد دينية، يحتوي على قدر من الوثنية، أي وضع العرضي في الجوهري. والذين يقومون على هذا الإيمان هم رجال الدين. وربما تحول إيمان البروتستانت أيضا إلى هذا الإيمان. وهنا يبدو كانط مصلحا للبروتستانتية أيضا محذرا إياها من الوقوع في الإيمان العقائدي، بعد أن كانوا مؤسسي الإيمان الباطني. تنشأ الفرق الدينية أو الطائفية من سلطة الإيمان الكنسي على الإيمان الباطني، فيتفرق الناس شيعا ومذاهب، ويتركون الإيمان الباطني الذي يقوم على العقل والضمير. وتكون النتيجة الفتنة والفرقة والتمرد والعصيان، ليس ضد المضمون بل ضد الشكل. وكلما قوي التسلط كثر التعدد والتفرق، فتنشأ فرق أخرى علنية أو سرية مع الدولة أو ضدها، أو تظهر وسائط أبعد ما تكون عن الدين ومصلحة المجتمع، مثل مشايخ الطرق والأنبياء الكذبة ؛ ومن ثم الابتعاد عن الأخلاق، والدين الباطني. الفرق هي السبب في وجود ديانات متعددة في الدولة، كما أن الإيمان الكنسي هو السبب في وجود هذه الفرق. وترك هذه الفرق والديانات للشعب دليل على حرية الضمير والاختيار الحر. وهذا ثناء على الحكومة التي تسمح للشعب بمثل هذه الحرية وهذا الاختيار، ولكن ذلك مضر بالدين؛ لأنه خال من الوحدة والشمول. ولماذا يكون هناك خلاف على الوسائل دون الاتفاق على الغاية، وخلاف على الصورة دون الاتفاق على المضمون؟ إن وحدة الدين ممكنة إذا أخذنا في الاعتبار الغاية والجوهر والمضمون بين الطوائف والفرق الدينية المختلفة، وتركنا الوسيلة والصورة والعرض. ويمكن لليهود أيضا أن يجدوا وحدة الدين لو تركوا كل أشكال الدين السحري القديم، تركوا «الملابس بلا إنسان»، وأخذوا «الإنسان بلا ملابس»، أي تركوا «الكنيسة بلا دين»، وأخذوا «الدين بلا كنيسة». بل يستطيع اليهودي أن يؤمن بالمسيحية، ويؤول التوراة والإنجيل، ويفرق بين المسيح اليهودي وهو يخاطب اليهود والمسيح الذي يخاطب البشر جميعا، كمعلم للأخلاق. ويبدو كانط هنا مبشرا بالمسيحية الخلقية لدى الطوائف الأخرى، وفي مقدمتهم الطائفة اليهودية.
وتأييدا لهذا التصور وهو «وحدة الدين باعتباره غاية في قلب كل إنسان»، يصوغ كانط القضية من جديد في صورة عرض المشكلة، وإيراد الحل، ثم ذكر البرهان من داخل البروتستانتية وحدها، وبوجه خاص مذهب التقوى أو القنوط الذي نشأ فيه كانط. فالمشكلة التي وضعها شبنر
Spener (1635-1705م) هي أن الوعظ الديني يجب أن يحولنا إلى آخرين، وليس فقط إلى ذوات أفضل. وقد عارضت الأرثوذكسية هذا الرأي بالرغم من أنه يعبر عن مشكلة قائمة بالفعل، أي قدرة الإيمان الباطني على أن يحولنا إلى الآخر، وليس فقط على تحسين الذات. وهناك حل صوفي لهذه المشكلة يأتي من خارج الطبيعة الحسية. ثم يظهر في العاطفة الإنسانية بطريقين؛ عصر القلب، أو كما يقول صوفيتنا القدماء «القبض»، أو انفراج القلب، أو «البسط». الأول للتخلص من الشر والثاني للتمتع بالخير؛ لذلك ظهرت في البروتستانتية فرقتان؛ «مذهب التقوى» عند شبنر وفرانكه
Franke (1633-1727م)؛ و«المورافية» عند زنزندورف
Zinzendorf (1700-1760م ). يرى الأول أن التمييز بين الخير والشر والخلاص من الشر يتم بقوة تأتي من خارج الطبيعة، وأن التحول من الشر إلى الخير يتم بمعجزة تحدث في الصلاة الحية، أو في انفعالات الحزن والخوف، كما كان الحال عند هامان (أشهر ساحر في شمال ألمانيا). ويرى الثاني أن الخلاص من الشر يتم عن طريق وعي الإنسان بخطئه، واتجاهه نحو الكمال، ومعرفة ذلك بالعقل. وتكون وظيفة القانون الخلقي في هذه الحالة أن يعكس له نقصه، ويؤهله للخير. فإذا ما تحقق ذلك تكون المعجزة قد تحققت. وكلا المذهبين اتجاه صوفي فردي روحي يعتمد على الشروط الذاتية والفضل الإلهي؛ الأول في صراعه الرهيب مع الشر، والثاني باستلهامه روح الخير. أما كانط فإنه يقوم في النهاية بعرض برهانه الذي يقوم على استبعاد كل ما يأتي من خارج الطبيعة، وكأن ما يأتي من التجربة والعاطفة والأحلام، لأن فكرة الله لا توجد إلا في العقل. إنما البرهان الوحيد هو الإنسان، ممثل الإنسانية، الجدير بعدم الشك في إنسانيته، ووعيه بأنه خاضع للقوانين الخلقية المؤسسة في العقل لأن طاعة هذه القوانين مطابقة للنظام الطبيعي وللعقل الخالص. فالبرهان هو ما ينبغي أن يكون، وليس ما يأتي من خارج الطبيعة الحسية، هو الاستعداد الخلقي الداخلي للإنسان والذي لا يفصله عن إنسانيته، ويكون موطن الإعجاب فيه. وعلى هذا النحو يتجاوز كانط العيبين الرئيسين: الأرثوذكسية بلا روح، والتصوف القاتل. إنما البرهان الوحيد هو الإيمان الذي يقوم على النقد والعقل العملي، وهو القار في قلوب البشر، والدافع لهم نحو الكمال، والمنظم للكنيسة الشاملة غير المرئية. وليس من خطورة في استعمال الحكومة لمثل هذا الإيمان، كما تفعل مع الإيمان الكنسي لأن الإيمان الباطني لا يتحول إلى إيمان كنسي بل مجرد حالة فردية لا يمكن للحكومة أن تضع يدها عليها، وتفتش في ضمائر الناس.
ويختتم كانط الجزء الأول من كتابه لبيان كيفية حل الصراع بين كلية الفلسفة وكلية اللاهوت حتى يعود السلام والوئام بينهما عن طريق تقسيم العمل. ففيما يتعلق بمسائل العقل العملي النظري تكون مهمة كلية الفلسفة الشكل، ومهمة كلية اللاهوت المضمون أو المادة. ليست مهمة كلية اللاهوت الإيمان العقلي الذي يمكن معرفته قبليا، ولكن الأحكام القانونية المستمدة من كتاب أو طبقا لميثاق قديم أو جديد بين الله والإنسان. وذلك عمل فقهاء القانون، وليس عمل عقل العلمانيين. الإيمان النقلي إيمان مشياني
Messianic (مخلصي) تاريخي، مؤسس في كتاب على الميثاق بين الله وإبراهيم، إيمان بكنيسة ميشيانية، أو موسوية، أو إنجليلية، ابتداء من تاريخ الكون في سفر التكوين حتى نهاية العالم، كما تعرضه رؤيا يوحنا، ولكن نظرا لوجود اضطراب زماني في الكتاب يحدث شك في الصحة التاريخية للنصوص. فالكتاب يعبر عن إرادة إلهية كما تصفها أحكام الشريعة؛ وبالتالي يكون أسرع وسيلة لإعطاء الإنسان السعادة، بشرط صحة النصوص، ولكن أمام ذلك عدة صعوبات، فمثلا: إذا كان الله قد تحدث في الكتاب، كيف يتحقق الإنسان من أن الذي تحدث في الكتاب هو الله، بالرغم من عدم وجود برهان حسي على ذلك؟ إن الإنسان على يقين أنه إذا ما عارضت أحكام الكتاب قوانين الأخلاق فإن ما يقال عنه إنه حديث من عند الله يكون حديثا مزيفا ليس من عند الله. شرعية الكتاب لا تأتي إذن من تعاليم فقهاء الشريعة بل من اتفاقه مع الأخلاق. إن وظيفة دين الكتاب هي السيطرة على الشعب، كما تفعل الحكومة تماما؛ وبالتالي تكون إقامة الأخلاق على الكتاب دافعا على الشك فيها، ولكن الكتاب نفسه يحتوي على برهان الألوهية أي الخلقية، نظرا للأثر الطيب الذي يحدثه في حياة الناس. أما الحقيقة النظرية، فإنها تتأسس على المعرفة التاريخية. وعلى هذا لا بد من أخذ الكتاب، وكأنه وحي من عند الله. ولا بد أن يقول لنا المفسر: هل حكمه على الكتاب حكم صحيح أم حكم عقائدي؟ الحكم الأول لا بد أن يكون متفقا مع النص، أما الحكم الثاني فهدفه التربية الروحية والخلقية لأن الإيمان بمجرد قضية تاريخية إيمان ميت. الحكم الأول هدفه علمي خالص، بينما الحكم الثاني هدفه تربوي شعبي. الأول من حق أساتذة اللاهوت، ولكن الثاني من حق أساتذة الفلسفة وحدهم حين يضعون الحكم الأول تحت مجهر العقل والنقد.
ثم يشفع كانط هذه الخاتمة لتحقيق الوئام والسلام بين الكليتين المتنازعتين بملحقين؛ الأول عن بعض المسائل النقلية التاريخية تتعلق بالاستعمال العملي للكتاب المقدس، ووقت ظهوره في التاريخ، وهي مشكلة الصحة التاريخية التي يحلها كانط بالصحة الخلقية؛ والثاني عن التصوف الخالص في الدين، وفيه يبين كانط وضع الإنسان في العالم وما يتمتع به من عقل وحرية. ويذكر كانط من هذه المسائل النقلية التاريخية: إذا كانت الحكومة هي وسيلة الربط بين الكنيسة والشعب، ماذا يفعل الإيمان الكنسي، إذا لم يجد الحكومة وراءه تدعمه؟ من مؤلف الكتاب؟ وفي أي عصر تم تأليفه؟ هل نعلم قواعد اللغة القديمة لكي نفهم الكتاب ونحسن تفسيره؟ هل لدينا وثائق صحيحة؟ هل نعلم شيئا عن السبعينية (ترجمة التوراة العبرية إلى اللغة اليونانية في الإسكندرية على يد سبعين عالما)؟ ولا يجد كانط أي إجابة على هذه الأسئلة العلمية، كما يجد اسبينوزا، ولكنه يجد إجابات خلقية. فمهمة الكتاب التربية الخلقية والروحية. فإذا ما حدث تعارض بينهما، فلا بد للكتاب من أن يتنحى لصالح الحقائق الخلقية لأن الظن لا يغني من الحق شيئا. فالكتاب ظن والأخلاق يقين، والتفسير بالسياق أفضل من التفسير الحرفي لأنه يعتمد على العقل وعلى حقائق العقل الثابتة، كما يعتمد على قوانين الأخلاق الشاملة. إن الهدف من قراءة النصوص ليس معرفة معانيها الحرفية ولكن تحسين الأخلاق. فالموعظة تخرج المعنى من قلوب المستمعين، وليس من الحروف والألفاظ. إن شهادات الإنجيل ليست وثائق تاريخية صحيحة بل مبادئ عملية للعقل فيما يتعلق بالتاريخ المقدس، وهذا أفيد للشعب وللدولة من التفسير الحرفي للنصوص.
وفي الملحق الأخير يتحدث كانط عن التصوف الخالص في الدين، وهو في حقيقة الأمر ليس تصوفا، بل فلسفة كانط الخلقية التي هي عرض لمذهب القنوط على مستوى العقل. فالفلسفة عند كانط هي فلسفة تمثل الإنسان؛ تصوراته وعقله وحريته. وهذا هو معنى «نقد العقل الخالص»، عكس الفلسفة القديمة التي جعلت الإنسان سالبا. وكأن كانط هنا يلخص فلسفته كلها في «الثورة الكوبرنيقية» التي يكون فيها الإنسان مركز العالم، ويكون كانط بعد ديكارت في «الأنا أفكر»، مؤسس الأنثروبولوجيا في بداية العصور الحديثة، في مقابل الثيولوجيا التي كانت سائدة في العصر الوسيط. الإنسان عند كانط عنصر إيجابي نشط يخلق العالم بتصوراته. الإنسان هو ما يكون وما ينبغي أن يكون؛ الأول من خلال الحس والذهن، والثاني من خلال العقل. الإنسان بلا عقل أو إرادة يكون كالحيوان، ويعني العقل والإرادة في الإنسان شيئا واحدا؛ الحرية. إن لم يعمل الحس والذهن في الموضوعات الخارجية، يعمل العقل والإرادة الحرة في الأخلاق، الأول مرتبط بالجسد، والثاني بالروح. وينتهي كانط من كل ذلك إلى أن الأخلاق هي البرهان الوحيد على وجود الله. فمن فكرة الله النظرية تنشأ فكرة الله العملية كمشرع للأخلاق شامل لكل واجباتنا. ملكوت الله هو ملكوت الأخلاق، وهذا هو الدين الحق. ولا غرابة أن يقول الصوفية الشيء نفسه، وهم الذين يسمون «المنعزلين»؛ فالدين لديهم إيمان باطني بلا عقائد أو طقوس أو أشكال، بل مجرد إيمان قلبي لا يقوم على كتاب أو كنيسة. وهم الكانطيون حقا؛ منهم التجار، والعلماء، والعمال، والفلاحون، ولكن ليس من بينهم اللاهوتيون. وهم مثل طائفة الكويكرز
Quakers
الذين يؤمنون بالله إيمانا قلبيا خالصا. وهنا يبين كانط بصراحة موقفه الخلقي الصوفي الباطني في مواجهة اللاهوتي الكتابي الكنسي.
1
رابعا: الصراع بين كلية الفلسفة
وكلية الحقوق
وفي القسم الثاني يتناول كانط موضوع الصراع بين كلية الفلسفة وكلية الحقوق. وأول ما يتبادر إلى الذهن، كما هو الحال في الصراع الأول بين كلية الفلسفة وكلية اللاهوت، أنه صراع حول حق الفلسفة في فحص التشريعات والنظم والقوانين، وبيان ما إذا كانت تعبر عن القانون الطبيعي والحق الطبيعي وإرادة الشعب أم أنها تعبر عن إرادة الحاكم وهواه. ولكن كانط يتناول في هذا القسم موضوعا لا يتبادر إلى الأذهان، وهو موضوع «التقدم»، تقدم النوع الإنساني، وكأن الصراع يدور حول فلسفة التاريخ. فكلية الفلسفة تؤيد التقدم الإنساني، وتدفعه خطوات إلى الأمام، في حين أن كلية الحقوق تثبت أوضاع النظام القائم، وتدافع عن النظم والتشريعات والقوانين في الدولة؛ وبالتالي كان هذا الجزء أقرب إلى ما قاله كانط في رسائله عن فلسفة التاريخ، على طريقة هردر ولسنج.
يطرح كانط في هذا القسم كله المسألة من جديد: جعل النوع الإنساني يسير في تقدم مستمر نحو الأفضل وهي المسألة التي طرحها المعتزلة من قبل وكان بينهم وبين الأشاعرة خلاف عليه، وهو موضوع «الصلاح والأصلح» الذي تؤكده المعتزلة، وتنفيه الأشاعرة. وهو السؤال نفسه الذي طرحه ليبنتز قبل كانط في موضوع «أفضل العوالم الممكنة»، والذي طرحه كانط نفسه في «مقدمة لكل ميتافيزيقا مستقبلة تريد أن تصير علما»، إجابة على سؤال: «ماذا آمل؟» ويجيب كانط هذه المرة بفقرات صغيرة عشرة في صيغة أسئلة أو أجوبة، مما يدل على أن الصراع في ذهنه لم يكن بالوضوح نفسه الذي كان للصراع السابق، فيتساءل كانط: (1)
ماذا نريد أن نعرف؟ وهو سؤال ليس في نظرية المعرفة، بل في تاريخ الإنسانية. ليس عن الماضي، بل عن المستقبل، كما يفعل العراف أو النبي. وهو سؤال طبيعي لا يحتاج إلى أي عون من خارج الطبيعة. كما أنه سؤال عن التاريخ الخلقي للإنسان، وليس عن التاريخ الطبيعي. وهو سؤال أيضا عن كل البشر مجتمعات وشعوبا، وليس عن النوع الإنساني المجرد. وعلى هذا النحو يحدد كانط منطلق السؤال: مستقبل تاريخ الإنسانية الطبيعي الخلقي. (2)
كيف نستطيع معرفته؟ يمكن معرفة هذا التاريخ كما حدد كانط منطلقاته كرواية تتنبأ بالحوادث المستقبلة قبليا أي قبل وقوعها؛ وبالتالي يتساءل كانط؛ هل يمكن تصور تاريخ قبلي، أي حوادث تقع على نحو قبلي؟ وهو السؤال الأول نفسه في الفلسفة الترنسندنتالية: كيف تكون الأحكام التركيبية القبلية ممكنة؟ لقد تنبأ أنبياء بني إسرائيل بانهيار الدولة قبل وقوعها، نظرا لعناد إسرائيل وعصيانها. التنبؤ إذن بحوادث التاريخ قبل وقوعها ممكن. كذلك يتنبأ رجال الدين بانحطاط المسيحية قبل بدئه، ولا يفعلون شيئا لإيقاف هذا الانحطاط، بل إنهم يساهمون فيه بتركهم الأساس الخلقي للدين. يضع كانط إذن مسئولية مسار التاريخ على أكتاف من يتنبئون به، فالقادر على المعرفة يكون بالضرورة قادرا على السلوك. (3)
إن تصور ما ترغب في معرفته بالنسبة للمستقبل ينقسم إلى ثلاثة احتمالات؛ الأول: نكوص النوع الإنساني وتطوره إلى الخلف نحو الأسوأ؛ الثاني: تطور النوع الإنساني وتقدمه نحو الأفضل؛ الثالث: بقاء النوع الإنساني في وضعه ثابتا لا يتحرك أو يتحرك في المكان. وكأن كانط يتحدث عن اليمين واليسار والوسط، وهو لا يتحرج من استعمال هذه الألفاظ أو الإشارة إلى عنصر التقدم على أنه يسار. الأول هو «الإرهاب» الخلقي، نظرا لتواري الأخلاق أمام قوى الشر، والثاني السعادة الخلقية نظرا لأنها تقدم التفاؤل والاطمئنان والثقة بالنفس وبالمستقبل، والثالث الوقوف في المكان، وتساوي أطراف الحركة وعناصر الجذب. الأول لا يستمر؛ لأن الإنسان يحلم بعالم أفضل متجدد، يعبر فيه عن رغبته في الكمال واتجاهه نحوه. والثاني لا يستمر إلى الأبد؛ لأن التقدم مرتبط بالواقع وشروط المجتمع، وإلا وقعنا في أحلام الأنبياء والمدن الفاضلة عند الفلاسفة. والثالث تساوي الخير والشر والوقوف في المكان، وهو مستحيل واقعا؛ لأن الإنسانية في حركة ونشاط دائبين، ولا تتوقف أبدا في المكان، فهي إما إلى الوراء راجعة أو إلى الأمام ذاهبة. (4)
لا يمكن حل مشكلة التقدم بالتجربة لأن البشر أحرار. ولا يمكن التنبؤ بسلوكهم؛ وبالتالي يستحيل معرفة مسار التقدم في اتجاهاته الثلاثة، بالتجربة وحدها. الله وحده يعلم، وعنايته على بصيرة. ومع ذلك فإرادة الإنسان الخيرة تجعله قادرا على معرفة مساره نحو الأفضل، وهي فكرة قبلية في الذهن، وكأن التقدم عند كانط مثل المقولات والصور والأفكار يقينية صرفة، تنبع من طبيعة العقل؛ وبالتالي يخرج عن دائرة الشك والظن والاحتمال. (5)
ومع ذلك لا بد من ربط تاريخ النوع الإنساني في المستقبل بتجربة ما، إلى أن يمتلك التقدم كتصور قبلي في الذهن، أو كفكرة في العقل. ليست هذه التجربة هي السبب المباشر لتقدم النوع الإنساني في المستقبل، بل مجرد علاقة تاريخية بين التقدم والتاريخ، تشير إلى اتجاه الإنسانية، وأنه ليس اتجاها فرديا، بل جماعيا، ليس اتجاه أشخاص بل اتجاه دول وشعوب؛ لذلك ظهرت أهمية الثورات والانتفاضات والأبطال والحوادث العظام مثل الكوارث والحروب. (6)
وهناك حادثة من هذا النوع في هذا العصر تثبت هذا الاتجاه الخلقي للإنسانية، لا تنتمي إلى جنس الأفعال الشريرة أو الأعمال السحرية، بل تدخل ضمن الثورات العامة والشاملة المنزهة عن الغرض والهوى، والتي قامت على دافع خلقي للتقدم نحو الأفضل، ألا وهي الثورة الفرنسية. لا يهم نجاحها أو فشلها، بل تعاطف الناس معها. تقوم الثورات إذن على دوافع خلقية هي الأسباب الحقيقية للثورة، وأهمها اثنان؛ الأول: حق الشعب في اختيار دستوره الخاص ونظامه السياسي؛ والثاني: مطابقة دستور الشعب مع حقه في أن يعيش حياة خلقية، حياة الخير؛ وبالتالي عدم دخوله في حروب عدوانية، وأن يعيش في سلام. وعلى هذا النحو يحدث التقدم سلبيا، أي بتهيئة الظروف له، ودفع أسباب التأخر والدمار، وكلاهما واقعان خلقيان، يعبران عن حماس الشعب للمثل الأعلى، وهو التقدم الخلقي، وفكرة الحق، وفكرة النبل والشرف والعظمة. (7)
إن مستقبل الإنسانية لا يكون بالضرورة في الثورة، ولكنه قد يكون أيضا في التطور في الدفاع عن الدستور الذي يقوم على الحق الطبيعي والتمسك به أو السعي إليه، وهو الدستور الجمهوري. التطور إذن، بطبيعته، يسير نحو الأفضل. والثورة إن هي إلا تطور فجائي، بعد أن يتم إيقاف التطور الطبيعي بفعل السلطة الحاكمة. والفشل لا يعني عدم وجود الثورة، بل يعني تراكم التطور ونضجه حتى يتحول إلى تجربة ثورية ثانية. والفشل الذي قد يصيب الثورة في الحاضر هو أحد عوامل نجاحها في المستقبل. (8)
ويرتبط التقدم نحو الأفضل بمدى انتشار التنوير وذيوعه وتجاوز العقبات أمام هذا الانتشار. وتنوير الشعب إنما يتم بمعرفته بحقوقه وواجباته بالنسبة للدولة. والذين يقومون بهذه المهمة ليسوا هم موظفو الدولة في الكليات العليا، بل الفلاسفة ناشرو الأنوار؛ لذلك ينظر إليهم على أنهم خطرون على الدولة، مع أن صوتهم مألوف من الشعب، وموضع تقدير واحترام من الدولة. إن منع النشر، والرقابة على انتشار الأفكار، يمنعان الشعب من التقدم نحو الأفضل، حتى في أبسط الأمور، مثل: الحق الطبيعي، وضرورة اتفاق الدستور مع الحق الطبيعي. والمثال على ذلك: الملكية المقيدة في إنكلترا، ومسئولية الوزراء أمام المجلس النيابي، والدستور الجمهوري وإقرار السلام. (9)
إن المكسب الذي يحصل عليه النوع الإنساني من التقدم نحو الأفضل ليس زيادة كمية في إخلاص النية والقصد، أي زيادة النيات الطيبة، بل زيادة آثارها المشروعة في الأفعال طبقا للواجب، أي زيادة الأفعال الخيرة للبشر، وذلك في صورة عنف أقل وليونة أكثر مع القانون وسيادة قيم الشرف والوفاء. (10)
ويمكن التقدم نحو الأفضل في نظام يقوم على تغيير ما هو كائن من أعلى إلى أدنى، وليس من أدنى إلى أعلى، أي بوضع مناهج لتربية الشباب تحت إشراف الأسرة، ووضع مناهج للتعليم في جميع مراحله من المدارس الدنيا إلى المدارس العليا، طبقا لثقافة عقلية وخلقية، يغذيها التعليم الديني من أجل خلق المواطن الصالح، وكل ذلك على نفقة الدولة، بدل صرف مواردها على إشعال الحروب. يدافع كانط عن مجانية التعليم، وعن ضرورة التربية الخلقية والدينية. ويختم كانط حديثه عن هذا القسم الثاني بتأكيده على أن التقدم نحو الأفضل لا يميت بل يحيي، ويدين الحروب التي تدمر الطرفين، ويكون كلاهما خاسرا، ويستعمل كانط تشبيه شخصين يتضاربان بالنبابيت بدل الأواني الفخارية.
1
خامسا: الصراع بين كلية الفلسفة
وكلية الطب
في القسم الثالث والأخير يتناول موضوع الصراع بين كلية الفلسفة وكلية الطب، فيعالج فيه القضية المشهورة؛ علاقة النفس بالبدن، وضرورة سيطرة الأولى على الثاني، تعبيرا عن قوة الإرادة وقدرتها على السيطرة، ليس فقط على الانفعالات كما هو الحال عند ديكارت واسبينوزا، بل أيضا على الوظائف الحيوية للبدن، وهو أضعف الأقسام الثلاثة في الكتاب. كما أنه يعتمد على تجارب كانط الشخصية وعاداته في الطعام والشراب والنوم والاستيقاظ، ولا يقدم بناء نظريا موضوعيا لمظاهر هذا الصراع، كما فعل في القسم الأول، في الصراع بين كلية الفلسفة وكلية اللاهوت.
وقد كتب كانط هذا الجزء بمناسبة إهداء الأستاذ هوفلاند
Hufland
كتابه «فن إطالة الحياة الإنسانية» إلى كانط، وقراءة كانط هذا الكتاب، ثم الرد عليه والتعليق على الأفكار التي وردت فيه؛ لذلك يصدر كانط هذا الجزء بخطاب شكر للمؤلف يبين فيه قيمة هذا الكتاب، وهو أنه يعالج جسم الإنسان خلقيا كعضو متجه نحو الأخلاق مثبتا بذلك أن الحياة الخلقية تكمل الحياة البدنية. وقد وصل المؤلف إلى هذه النتيجة عن طريق البحث العلمي استقراء، وليس عن طريق المبادئ الخلقية استنباطا. ويبين أنه يمكن الوصول إلى هذه الغاية عن طريق علم التغذية
Diététique
أي سلبيا عن طريق الوقاية من الأمراض قبل وقوعها. وذلك يتطلب ملكة فلسفية أو قدرات إرادية في مقابل فن العلاج
Thérapeutique
الذي يعالج الأمراض بعد وقوعها.
يؤيد كانط الاتجاه العام في الكتاب، ويعتمد على تجاربه الشخصية لبيان قوة النفس الإنسانية وقدرتها على أن تصبح سيدة انفعالاتها المميتة وعواطفها القاتلة، بفضل إرادتها القوية وعزيمتها الراسخة. ويشدد كانط على الطابع التجريبي الذاتي لأفكاره، وينفي عنها الطابع النظري الموضوعي الشامل، مما يجعل هذه الأفكار لا تتفق كثيرا مع منهج الفلسفة النقدية الذي يتضح في القسمين الأولين من الكتاب.
يهدف هذا الفن إذن «فن إطالة الحياة» إلى غايتين: أن يعيش الإنسان عمرا طويلا، وأن يتمتع بصحة جيدة. والهدف الأول ليس شرطا للثاني؛ فقد يعيش الإنسان مدة طويلة عليلا، كما أن الثاني ليس شرطا للأول؛ فقد يتمتع الإنسان بصحة جيدة، ومع ذلك يقصر عمره. وقد يضع الإنسان نهاية لحياته بيده، وينتحر إذا يئس من الشفاء، ولكن طبقا للعقل يرغب الإنسان في تحقيق الهدف الأول، وهو طول العمر أولا، وهنا يثني كانط على الشيخوخة وكبر السن، ويوصي بإظهار الاحترام الواجب لهما، ويحظر التهكم على ضعف المسنين بالمقارنة مع قوة الشباب. كبر السن يستحق الثناء والتقدير؛ ففيه تظهر حكمة الشيوخ. ويكفيه فخرا أنه استطاع أن يهزم الموت حتى الآن. أما الهدف الثاني، وهو الصحة الجيدة، فإنه يتحقق عن طريق مبادئ علم التغذية، أن يتغذى الإنسان بطريقة ملائمة ومعتدلة. وهنا تظهر الأخلاق الرواقية، فهي ليست فقط جزءا من الفلسفة العملية أي نظرية الفضيلة، بل أيضا تضم علم الطب. وينصح كانط باتباع وسائل للوقاية تعتمد على التدفئة والنوم والعناية المركزة، ويوصي بحفظ الأقدام والرأس والبطن دافئة (ويضيف «الروس» الصدر)، وبكثرة النوم لمدة طويلة وخاصة غفوة بعد الظهر، وبالاعتناء بالنفس، أو اعتناء الآخرين بالإنسان وهو ما يتيسر للمتزوجين. ومع أن كانط يرى أن الزواج يقصر العمر ولا يحبذه، إلا أن ميزته الوحيدة هي التمريض عند كبر السن الذي تقوم به الزوجة للزوج ! وطول العمر أحيانا يكون صفة وراثية في بعض العائلات، ويصف كانط أعمال المسنين، مثل: إصلاح الساعات، وتربية العصافير، مما تجعلهم يقضون وقتا ممتعا، ولكن يستطيع الفلاسفة تعويض ضعف البدن عن طريق التفلسف والتأمل، مما يكسب الروح قوة لتغذية البدن.
ويفصل كانط في عادات النوم، والطعام، والشراب، والتنفس، فيوصي بالنوم والاستيقاظ في مواعيد مضبوطة. ويمكن استدعاء النوم عن طريق طرد الأفكار، كما ينصح الأطباء، أو بالتفكير في موضوع لا أهمية له كما يوصي كانط، فالأرق داء قاتل، ويمكن للإنسان السيطرة عليه. ويتهكم كانط على الأتراك (أي المسلمين) الذين يغطون في نوم عميق بسبب الإيمان بالقدر المسبق، وبأن لكل أجل كتابا، فلا يأرقون، ويغرفون من النوم ومن الحياة قدر الطاقة والوسع. أما فيما يتعلق بالطعام والشراب فيرى كانط أن الشهية والعادة هما المفتاحان لكل شيء؛ فعلى الإنسان ألا يأكل إلا إذا كانت لديه شهية، وألا يغير عاداته في الطعام والشراب. ومن العادة أن يتناول المسنون ماء أقل، وخمرا أكثر، لتنشيط الأعمار. أما عادة شرب الماء بسرعة فهي عادة مضرة، كذلك العشاء الثقيل بعد الغداء الثقيل رغبة مميتة، ومع ذلك يجب على الإنسان ألا يقاوم تناول الغداء لانتظار عشاء أفضل. وينصح كانط باتباع عادة التنفس من الأنف والفم مغلق، وبهذه الطريقة يمكن القضاء على الكحة وعلى الأرق، والاستيقاظ أثناء النوم! ثم يقدم كانط نصائح أخرى فيما يتعلق بمرض الوهم، كداء قاتل، وذلك عن طريق العمل العقلي الذي يخفف من شدة الانتباه إلى البدن. كما ينصح كانط بعدم التفكير في لحظة غير مواتية، كالتفكير أثناء الطعام حتى لا يوزع الجهد بين العقل والبدن. والتفكير لا غنى عنه للعالم سواء أثناء اليقظة أم أثناء الوحدة، ويكون إما بالقراءة للتعلم، أو بالتفكير للتأمل والإبداع.
ويختم كانط كتابه بسخرية من الرقيب ، وينصح عمال الطباعة أن يطبعوا كتابه هذا بالحبر الرصاصي، وليس بالحبر الأسود، وبحروف لاتينية دقيقة، وبنط صغير، لكيلا يراه الرقيب، أو يتمكن من فحصه، أو يتعب منه، فلا يصدر منه قرار المنع والحرمان؛ فالرقباء كثيرا ما كانوا عمشا ضعاف النظر، مما يدل أيضا على ضعف العقل، وقلة الحيلة، وأنهم لا يستطيعون منع حرية الفكر، أو ذيوع أفكار التنوير.
1
فلسفة التاريخ عند فيكو1
أولا: مقدمة: نشأة فلسفة التاريخ
فلسفة التاريخ من أهم العلوم التي نشأت في الغرب إن لم يكن أهمها على الإطلاق، فقد كان المنطق والطبيعيات والإلهيات قاسما مشتركا بين الحضارات اليونانية والمسيحية والإسلامية. إلا أن الغرب في العصور الحديثة فصل العلوم الإلهية وأبرز ما يخص الإنسانية منها فيما أصبح فيما بعد يسمى «العلوم الإنسانية» في مقابل العلوم الرياضية من ناحية والعلوم الطبيعية من ناحية أخرى. وأصبح هذا التحول من «الله» إلى «الإنسان» أخص ما يميز الحضارة الأوروبية الحديثة. ظهرت فلسفة التاريخ بعد هذا التحول مرتبطة بالإنسان، وتقدمه، ونموه، وارتقائه، ورسالته، وارتباطاته بغيره، وانتماءاته للطوائف والعشائر والقبائل والأمم، وتحديد أدوارها في الزمان، وتعاقبها، وتراكم خبراتها فيما سمي بعد ذلك بالتاريخ؛ لذلك افتخر الغرب وزها باكتشافه ميادين لم تعرفها الحضارات القديمة، وأنه هو وحده صاحب الفضل في اكتشافها مثل الإنسان والتاريخ، أو الزمان والتقدم، أو الحب والموت. فالحب هو جوهر الإنسان الذي يعيش في الزمان، والموت نهاية للتاريخ الإنساني وإيقاف للتقدم. كان الإنسان عند سقراط روحا خالدة بلا تاريخ، وكان التاريخ عند أفلاطون تاريخا أسطوريا، وعند أرسطو تاريخا طبيعيا، وعند أوغسطين تاريخ ملكوت السموات، تاريخ الأنبياء. لم يتم اكتشاف التاريخ كوعي إنساني إلا في الغرب بعد إحياء الآداب القديمة في القرن الرابع عشر واكتشاف الحياة الإنسانية ابتداء من إبداعها الأدبي، وبعد الإصلاح الديني في القرن الخامس عشر، واكتشاف اللحظة في علاقة مباشرة مع الخلود، والتأكيد على حرية المسيحي، والفضل الإلهي الذي لا يحتاج إلى توسط، وبعد القرن السادس عشر حيث بدأ الإنسان يظهر كمركز للكون فيما سمي فيما بعد باسم «المذهب الإنساني» عند أراسم، وبعد معركة القدماء والمحدثين في القرن السابع عشر، وانتصار المحدثين على القدماء، وإثبات قدرة الإنسان على الخلق والإبداع، وتجاوز الخلف للسلف.
1
وهنا ظهرت فلسفة التاريخ في القرن الثامن عشر لتزيد على هذه المكتسبات مفهوم التقدم إجابة على سؤال: كيف تتقدم الشعوب؟ ما هي مراحل ارتقاء الإنسانية؟ وتكاد تجمع جميع فلسفات القرن الثامن عشر والتاسع عشر (باستثناء كوندرسيه الذي جعل المرحلة العاشرة مستقبل الإنسانية وفلسفات القرن العشرين التي تعلن نهاية الحضارة الغربية وأفول الغرب) أن الإنسانية قد وصلت إلى مرحلة النضج والكمال، وأنها لم تعد في حاجة إلى وصاية خارجية من الآلهة أو الأبطال، من الأنبياء أو السحرة، من الحكام أو الآباء. فإذا ما وعت الشعوب مراحل تطورها أمكنها بعد ذلك أن تتحرك، وأن تأخذ مصائرها بأيديها، وأن تنقل أنفسها من مرحلة إلى مرحلة؛ وبالتالي كانت فلسفة التاريخ هي الممهدة للثورة الفرنسية، أعظم إنجاز للغرب، وأكبر مفجر لطاقات فلسفة التنوير التي كانت الأساس النظري الذي خرجت منه فلسفة التاريخ.
ويعتبر فيكو
Vico (1668-1744م) مؤسس فلسفة التاريخ قبل تأسيسها في فرنسا على يد مونتسكيو (1689-1759م)، روسو (1712-1778م)، فولتير (1694-1778م)، تورجو (1727-1781م)، كوندرسيه (1743-1794م) أو حتى في ألمانيا على يد لسنج (1729-1781م)، هردر (1744-1803م)، كانط (1724-1804م)، ولكن كتاب فيكو «العلم الجديد» لم يعرف خارج إيطاليا إلا في القرن التاسع عشر بعد أن ظهرت له ترجمة ألمانية في 1822م وأخرى فرنسية قام بها ميشليه في 1827م؛ لذلك لم يؤثر في تطور فلسفة التاريخ إلا بعد قرن من الزمان.
وقد ظهرت الطبعة الأولى من «العلم الجديد» في 1725م وفيكو عمره سبعة وخمسون عاما، والثانية في 1730م، والثالثة في 1744م. وكان فيكو أستاذ القانون والفلسفة وأستاذ البلاغة اللاتينية في جامعة نابلي بإيطاليا. وهو كتاب ضخم مملوء بالتكرار والحواشي والأخطاء التاريخية، مرقمة فقراته مثل «خاطرات بسكال» وعلى طريقة الفلاسفة في القرنين السابع عشر والثامن عثر، وكثير منها لا يفيد مما جعل المترجم يلخصها مستبعدا التكرار والحواشي الزائدة التي لا دلالة لها بالنسبة للموضوع. وتصعب قراءة الكتاب في النص الإيطالي من الإيطاليين أنفسهم. كما أن الترجمة إلى أية لغة صعبة وثقيلة نظرا لما في الكتاب من تكرار وإشارات دائمة إلى الآداب القديمة. لم يستعمل فيكو أية حواشي أو مراجع في الهوامش بل ذكر كل شيء في صلب الصفحة وداخل النص مستعملا مراجعه على نحو جدلي لا يتقنه إلا من عاش في عصره وبغير ذي فائدة الآن. بل إنه يعد الآن عائقا في فهم الكتاب وفكرته الأساسية في تطور الشعوب.
2
ثانيا: ماذا يعني «العلم الجديد
للطبيعة المشتركة بين الأمم»؟
وعنوان الكتاب هو «مبادئ العلم الجديد لجيامباتستا فيكو الخاص بالطبيعة المشتركة بين الأمم».
1
ولكن الطبعة الأولى كان عنوانها أكبر من ذلك وهو «مبادئ العلم الجديد لجيامباتستا فيكو الخاص بالطبيعة المشتركة بين الأمم والذي يسمح باكتشاف مبادئ نسق آخر لقانون طبيعي للشعوب».
2
وقد كانت هناك محاولة أخرى لتسميته «العلم الجديد الخاص بمبادئ الإنسانية».
3
هذا التأرجح في العنوان وصياغاته يشير إلى أن هذا العلم جديد بالفعل لم يسبقه إليه أحد لإيجاد مبادئ عامة مشتركة بين الشعوب تحكم طبيعتها وتطورها، وهي بالفعل محاولة أصيلة في تاريخ العلوم الإنسانية، وأعظم المحاولات قبل أوجست كونت لإقامة علم شامل للتاريخ الإنساني، وأعظم تحليل لصراع الطبقات سابق على كارل ماركس، وقد خرج فيه فيكو على ما هو شائع في عصره ومألوف فيه من تفسير لاهوتي للتاريخ الإنساني في الجامعة وخارجها فاتهمته السلطتان الدينية والسياسية بالانحراف والخروج على التقاليد شأن كل جديد في مواجهة القديم.
ماذا يعني فيكو بهذا العنوان الذي وضعه للكتاب؟ تعني «المبادئ» وهي موجودة في العنوان وموجودة أيضا كعنوان للكتاب الأول «تأسيس المبادئ»،
4
والقسم الثالث منه «في المبادئ» تعني المؤسسات أو النظم الاجتماعية. ويجعلها فيكو ثلاثا: الدين، والزواج، ودفن الموتى. فالمبادئ هنا لا تعني الأفكار أو التصورات أي ما هو صوري، بل تعني الأوضاع الاجتماعية والظروف الدائمة التي منها تنشأ الأمم، وفيها تحيا الشعوب، والتي تمثل أقل درجة من التطور البشري، من هذه النظم تخرج المبادئ العامة، وعليها تقوم الإنسانية، فالمبادئ هي النظم ، والنظم هي المبادئ.
وبالنسبة للفظ «العلم» فإن فيكو يفرق بين المعرفة والعلم، المعرفة موضوعها اليقيني، والعلم موضوعه الحقيقي الشامل والمبادئ الأبدية. تعتمد المعرفة على اللغة والتاريخ، في حين يعتمد العلم على التأمل والفلسفة. ثم يستعمل فيكو العلم بالمعنى الواسع، فالعلم معرفة الشامل والأبدي، وهو أيضا معرفة بالأسباب وليس فقط المعرفة الرياضية أو الطبيعية، فالرياضة خيال، والطبيعة ليست علما شاملا. يهدف فيكو إلى تأسيس علم «عالم الطبيعة». ليست الطبيعة التي هي من خلق الله، فذلك حق الله، ولكن عالم الشعوب، والعالم المدني، عالم المؤسسات والنظم الإنسانية، فذلك حق البشر. فهم الذين صنعوه، ومبادئه موجودة في الذهن الإنساني. فالعالم الاجتماعي من صنع الإنسان؛ وبالتالي يريد فيكو أن يؤسس علما للطبيعة الإنسانية وللعالم الإنساني كما فعل بيكون في الطبيعة، ورابليه في الأدب، وديكارت في الفلسفة. هذا العلم الإنساني له ميزة على الرياضة بأنه واقعي، وعلى الطبيعة بأنه علم شامل. فإن قيل: إن التاريخ يضم أفعالا وحوادث فريدة لا تتكرر فكيف إذن لهذا العلم الجديد أن يتناولها وكأنها من وضع البشر وأن يحاول معرفة المبادئ الشاملة التي تقوم عليها؟ ويرد فيكو على هذين الاعتراضين باستبعاد التراث اليهودي المسيحي، واعتبار الشعوب الوثنية ذات مصادر متعددة بحيث تكون ممثلة للتاريخ الشامل، والتمييز بين نوعين من العناية الإلهية: الخارجية المفارقة الفريدة، وهي ميزة الشعب المختار، والباطنية الداخلية من خلال القوانين المطردة، وهي عامة عند كل الشعوب. أراد فيكو إذن تأسيس لاهوت عقلي مدني مثل الفارابي في «إحصاء العلوم»، وجمعه في القسم الخامس «العلم المدني وعلم الفقه وعلم الكلام» في علم واحد،
5
وطبقا لما سماه فنت
Wundt «اختلاف الحاجات واتفاق الغاية»، أو ما سماه مندفيل
Mandeville «الرذائل الخاصة والمنافع العامة»، أو ما سماه آدم سميث «اليد غير المرئية»، أو ما سماه هيجل «دهاء العقل».
ويسميه فيكو «العلم الجديد». فبالرغم من أن فيكو عاش في القرن الثامن عشر إلا أنه ابن السابع عشر، عصر العباقرة وكبار الفلاسفة الذين استعملوا مصطلح «الجديد» بشكل لم يسبق له مثيل. فالاكتشاف الجديد أفضل من إصلاح القديم، وقد عاش فيكو في مدينة نابلي التي كانت مشغوفة بالجديد، وكان عضوا في أكاديمية المدينة حيث كان يبحث جميع أعضائها من العلماء عن العلوم «الجديدة»، ولكن جدة القرن السابع عشر كانت في العلوم الرياضية والطبيعية والبيولوجية والطبية، في حين أن طموح فيكو كان في رغبته خلق علم للمجتمع الإنساني وللشعوب كما فعل جاليليو ونيوتن في عالم الطبيعية، وكما فعل هوسرل في هذا القرن في الفلسفة وتأسيسها كعلم محكم. ويشير فيكو إلى هوبز باعتباره المفكر الوحيد الذي سبقه في تنظير القانون الطبيعي (دون أن يذكر اسبينوزا). فهوبز مؤسس الفلسفة المدنية في كتابه «المواطن»
De Cive
عندما أراد دراسة الإنسان والمجتمع ككل في الجنس البشري، وهو ما لم يلاحظه هوبز نفسه. وقد أخفق هوبز في مشروعه لأنه ظن أن بإمكانه استخلاص مبادئ المجتمع الإنساني من المناقشات والجدل والقرارات والنصائح الإنسانية وليس من النظم والمؤسسات كما فعل فيكو فيما بعد، كما أنه استبعد العناية الإلهية كأسس لقيام المجتمعات الوثنية في حين أن فيكو يجعلها الأساس الأول. يحل النسق الجديد للقانون الطبيعي للشعوب الوثنية عند فيكو محل نظريات القانون الطبيعي في القرن السابع عشر. فقد أخطأ منظرو القانون الطبيعي في أنهم بدءوا من الوسط من آخر مرحلة في الأمم المتمدنة بعد أن استنارت بالعقل الطبيعي، وبعد أن نشأ الفلاسفة وتصوروا فكرة العدالة. والقانون الطبيعي عند الفلاسفة غير القانون الطبيعي للشعوب الوثنية؛ الأول قانون العدل، والثاني قانون القوة.
وقد وضع فيكو اسمه في عنوان الكتاب ليدل على أن هذا «العلم الجديد» من وضعه وخلقه واكتشافه وبنائه لم يسبقه إليه أحد من قبل. لم ينشأ من تعاون جهود سابقة، ولم يعتمد على نتائج سالفة بل هي رؤية مباشرة للواقع الإنساني منذ بداية نشأة الفكر الإنساني لدى الشعوب على مدى عشرين عاما من حياة فيكو الفلسفية واللغوية والأدبية. وهو يغوص لدى الشعراء الطبيعيين لمعرفة الحكمة الطبيعية لدى الشعوب الطبيعية. وصحيح أن العلم من بناء فيكو ومن تفكيره الخاص، مما يثبت أن الإبداع في العلم مرتبط ببنائه في شعور العالم كما فعل جاليليو ونيوتن في الطبيعة، وديكارت وبيكون في الفلسفة. الخلق في العلم لا ينشأ بالتراكم الكمي بل بالتحول الكيفي، ولا ينشأ بالتطور ولكن بالطفرة، ولا ينشأ في شعور الجماعة بل في شعور الفرد.
وتعني «الطبيعة» عند فيكو «الميلاد»، وكلا اللفظين مشتق من نفس اللفظ
nascimento, Natura . فطبيعة الأمم تعني ميلادها أو مولدها في زمن معين وبشكل معين؛ أي التكوين والنشأة والتطور. ويضرب فيكو المثل على ذلك بنشأة الدين مع مولد زيوس أو جوبتر أو جوفا أول إله للأمم الوثنية، ونشأة الزمان بعد الرعد الأول للسماء مائة عام بعد فيضان ما بين النهرين؛ أما النمط أو الشكل فإن سلالة حام ويافث وسلالة شيم غير العبرانيين فقدوا لمدة قرنين من الزمان كل النظم والملكات الإنسانية، وأصبحوا حيوانات تعيش على الغريزة وتمارس الجماع، وتصوروا السماء المرعدة على أنها جسم حي، وبرقه ورعده على أنها أوامر تخبرهم بما يجب عليهم فعله، ثم فاجأ الرعد البعض منهم وهم في فعل الجماع مما جعلهم يأوون إلى الكهف؛ وبالتالي نشأ نظام الأمومة والأسرة والحياة المستقرة، فما كان في البداية فعل المصادفة والعشوائية تحول في النهاية إلى فعل إرادي مقصود يباركه «إله السموات». نشأ نظاما الأمومة والأسرة بالطريقة نفسها، كما نشأ كل نظام إنساني آخر على هذا النحو، ومن مجموع نشأة هذه النظم تنشأ الأمة الوثنية. ويعارض تصور فيكو هذا تصور أرسطو الغائي للمدن/الدول الذي يقرر بأن اتحاد بعض القرى في جماعة أكبر يجعلها مكتفية بذاتها؛ وبالتالي تنشأ المدينة ابتداء من الحاجات البشرية. فالصور الأولى للتجمعات البشرية طبيعية، وغايتها المدنية، وطبيعة الشيء غايته، والشيء عندما يتطور إلى كماله تكون له طبيعة سواء كان الأمر يتعلق بالحيوان أو بالإنسان أو بالجماعة البشرية، ولكن عند فيكو توجد طبيعة الشيء في البداية وليس في النهاية كما هو الحال عند أرسطو. وكلاهما نشوئي تكويني تطوري بالرغم مما يبدو بينهما من اختلاف. وإذا كان السوفسطائيون أرادوا بيان التعارض بين الطبيعة والمدنية فقد جمعهما أرسطو بقوله إن الإنسان حيوان مدني أو سياسي. وإذا سمى فيكو عالم الأمم عالم البشر فإنه يعني أن ما كان حيوانا في عالم الطبيعة يصبح بشرا في عالم الأمم. وأنه بدرجة ما يصبحون في عالم الأمم بشرا، يصنعون عالم الأمم ويصنعون أنفسهم.
أما لفظ «المشترك» فإنه لا يعني الاشتراك أو الشيوع في الأبضاع والنساء والأولاد والآباء والأمهات، بل يعني غياب النظام أو ما سبق النظام والمؤسسات من خلط أو اختلاط. كما لا يعني المتبادل أو المتفق عليه بين طرفين مما يفترض النظر والمداولة والاتصال والأثر المتبادل والرضا والاتفاق، بل يعني ما يتمثله الجميع أو الكثير على نحو مستقل بلا حكم أو تفكير يشارك فيه طبقة أو أمة أو شعب أو الجنس البشري كله. كما لا يعني الحس المشترك
Common Sense
الذي ينشأ بالاتصال والتفاهم بل يعني أن الأفكار التي تنشأ لدى الشعوب المختلفة التي لا يعرف بعضها البعض؛ لها قدر من الحقيقة؛ فكل شعب له إله بصرف النظر عن أسمائه المختلفة لدى الشعوب. فالمثالية طبيعة مشتركة بين الأمم أو فطرة أو جبلة على ما يقول الأصوليون القدماء؛ فأسطورة «جوفا» لها أساس مشترك عند جميع الشعوب؛ وبالتالي تكون حقيقة، فالحقيقة وجود شيء بين شعوب مستقلة عن بعضها البعض، وبتعبير القدماء، تواتر الأفكار والآراء وتشابهها وتطابقها مقياس للحقيقة بالرغم من اختلاف الأزمنة والأمكنة والظروف، مثال ذلك اشتراك الشعوب كلها البدائية منها والمتمدينة في ثلاثة نظم اجتماعية أو عادات بالرغم من استقلالها عن بعضها البعض وتفاوتها في الزمان والمكان وهي: الدين، والزواج، ودفن الموتى؛ لذلك أخذها فيكو مبادئ للعلم الجديد. مثال آخر اللغة العقلية المشتركة بين الشعوب والتي تعبر عن طبيعة الإنسان والتي بها يدرك جواهر الأشياء في حياته الفردية والاجتماعية وهي الحكم والأمثال العامية التي تتكرر عند جميع الأمم قديما وحديثا. وقد اتخذها فيكو مادة العلم الجديد التي يمكن من خلالها وصف طبيعة الإنسان. بل إن وجود كلمتين عاديتين في لغتين مستقلتين لهما نفس المعنى لدليل على وجود هذا القاسم الذهني المشترك بين الشعوب.
ويعني لفظ «الأمة» الميلاد أو البداية بالميلاد أي جنس له بداية مشتركة، لغة ومؤسسات ونظم مشتركة. ولا يعني فيكو بالأمة الدولة القومية المعاصرة بل يركز على ثلاثة أشياء؛ الأول: النظم والمؤسسات الاجتماعية لدى كل أمة أو شعب؛ والثاني: وجود كل أمة أو شعب مستقلا عن الأمة الأخرى ليس بهدف النقاء العنصري بل من أجل تطور نظمها ومؤسساتها على نحو مستقل دون أدنى أثر من حضارة على حضارة أخرى؛ والثالث: تطور هذه النظم والمؤسسات من داخلها وليس من خارجها، ويصف فيكو الأمة ليس فقط كعنصر أو جنس بشري بل كحضارة في أوج نضجها. ويستعمل لفظا آخر ليدل به على أولى مراحل التطور مثل قوم أو شعب
Gens . ويتصور فيكو أربع مراحل من تطور أشكال المجتمعات؛ الأولى الأسر، والثانية الأقوام أو العشائر
Gentes ، والثالثة الشعوب، والرابعة الأمم. ويعني لفظ قوم أو شعب في الصفة
Gentile
أميا أو بدائيا أو أوليا بمعنى التكوين أو النشأة. وله في القانون الروماني معنى القرابة من أجل تحديد الميراث، وهو المعنى العربي أيضا من لفظ «أم»، ولكنه عند فيكو يعني «ما له طبيعة» ويمكن أن يكون موضوع دراسة العلم الجديد. والأمم كلها تنضم إلى عالم الأمم أي عالم البشر أو العالم الإنساني في مقابل العالم الطبيعي. وتعيش الأمم منعزلة عن بعضها البعض قبل أن تدخل فيما بينها في علاقات تجارية وسياسية أو في نظم الأحلاف والاتحادات والحروب والمعاهدات.
أما تعبير «القانون الطبيعي» الموجود في عنوان الطبعة الأولى، وكذلك تعبير «النسق الجديد» المخالف لنسق القرن السابع عشر ونظريات القانون الطبيعي عند جروتيوس
Grotius ، زلدن
Selden ، بوفندورف
فقد أسقطهما فيكو من العنوان النهائي وإن بقي معناهما؛ فالعلم الجديد يحاول الكشف عن قانون طبيعي لتطور الشعوب بدراسة الطبيعة المشتركة بين الأمم من خلال النظم والمؤسسات الدينية والعلمانية والدول، في حين أن القانون العام هو القانون الشامل الذي تشارك فيه جميع الأمم والشعوب، وهو القانون الطبيعي. كما يميز فيكو بين القانون المدني وقانون الشعوب؛ فالقانون المدني يختلف من مدينة إلى مدينة ومن دولة إلى دولة ومن نظام سياسي إلى نظام آخر، في حين أن قانون الشعوب هو أيضا قانون عام وشامل، تعبير ضروري عن المجتمع الإنساني، قانون مطبوع لدى كل شعب لأنه من وضع العقل الطبيعي الذي يشارك فيه الإنسان وربما الحيوان. وهي نفس التفرقة بين القانون
Jus
والفقه
Lex ؛ فالأول نظام طبيعي عقلي، والثاني وضعي من صنع البشر. الأول دائم ثابت لا يتغير، والثاني يتغير طبقا للظروف والأحوال. الأول يشمل العادة الثابتة والثاني يعبر عن إرادة المشرعين فحسب.
أما تعبير «مبادئ الإنسانية» في الطبعة الأولى فهو مرادف للطبيعة المشتركة بين الأمم؛ فالإنسانية تعني المدينة أو المدنية أي المعنى التكويني، المبادئ التي بها تصبح الإنسانية كذلك والتي تخلقها الإنسانية من طبيعتها. ولا يعني ذلك وجود ماهية إنسانية مستقلة فردية أو اجتماعية فإن هذه الماهية عند فيكو تنشأ من مجموع العلاقات الاجتماعية وتطور النظم الاجتماعية كما يقول الماركسيون والوجوديون، ولكن هذه «الإنسانية» تقوى كلما تقدمت في مراحل تطورها.
ويقسم فيكو كتابه إلى خمسة كتب غير متساوية في الكم، أطولها الكتاب الثاني عن «الحكمة الشعرية»، وأقصرها الكتاب الخامس عن «تطور النظم الإنسانية عندما تنهض الشعوب من جديد».
6
ويختلط قانون تطور الشعوب في مراحلها الثلاث بحضارات الشعوب، فبينما يظهر هذا القانون بصراحة ووضوح في المقدمة «فكرة الكتاب» إلا أنه يعود ويختفي ولا يظهر إلا في الكتابين الرابع والخامس عن تطور الشعوب في دورتها الأولى وعن تطورها في نهضتها الثانية، ولكن فيكو لا يعرض لهذا القانون عرضا مفصلا في أي من الكتب أو أقسامها بل يذكره دائما دون أن يخصص له قسما مستقلا يعرضه فيه ويستوفيه ولكن على الباحث أن يجمعه من الشتات، كما يضم الكتاب الأول المبادئ العامة للعلم في صورة بديهيات أو أوليات عقلية واضحة بذاتها تحدد بناء العلم الجديد. أما الكتابان الثاني والثالث فإنهما يعطيان الحكمة الشعرية. ويعرض لسؤال الوجود الحقيقي التاريخي لهوميروس شاعر اليونان مبينا أن تاريخ الشعوب في حكمتها، وأن حكمتها في شعرها. أما الخاتمة فإن فيكو يعرض فيها لعقيدة العناية الإلهية كراعية لنظم الحكم وكأنه يريد ختاما تقليديا لمضمون كتاب غير تقليدي.
ثالثا: المبادئ العامة لفلسفة التاريخ
يبدأ فيكو في الكتاب الأول بعنوان «وضع المبادئ» بإرساء القواعد العامة لفلسفة التاريخ.
1
فيعرض أولا للمادة العلمية التي يحللها في جداول زمنية تخطئ وتصيب. وقد تم اختصاره نظرا لأنه مجرد عرض لأساطير الشعوب الوثنية الأولى، ولكن تبدو أهمية هذه المبادئ في الجزء الثاني عن «العناصر» والذي يعرض فيه فيكو على طريقة إقليدس لمائة وأربع عشرة مصادرة أو بديهية يقوم عليها العلم. ثم يحدد فيكو ثالثا «المبادئ الثلاثة التي يقيم عليها العلم» وهي الظواهر الاجتماعية الموجودة في كل مجتمع ولدى كل شعب. وأخيرا يتحدث فيكو عن المنهج الاستقرائي المتبع في إقامة فلسفة التاريخ أسوة بتأسيس علم الطبيعة على نفس المنهج لدى بيكون.
ويعطي فيكو أولا جدولا زمانيا لشعوب سبعة. ويقسم تاريخها طبقا لمراحل التاريخ الثلاث؛ فهذه الشعوب هي العبرانيون، والكلدانيون، والسكيثيون
Scythions ، والفينيقيون، والمصريون، واليونان، والرومان ابتداء من الطوفان حتى الحروب الثانية بين روما وقرطاجنة، ويسرد تاريخ الرومان وقوانينهم ونظمهم، ويشرح أهم القوانين مثل القانون الجمهوري الذي تغير به النظام الروماني من الأرستقراطية إلى الشعبية وقانون العبودية من أجل الوفاء بالدين وإلغائه.
2
ولكن تبدو أهمية هذه المبادئ العامة عندما يتحدث فيكو ثانيا عن «العناصر» والتي يعرض فيها للمصادرات والأوليات والبديهيات التي تقوم عليها فلسفة التاريخ. وبالرغم من تفصيلها في مائة وأربع عشرة مصادرة إلا أنه يمكن إجمالها في عدة أفكار رئيسية واضحة بذاتها.
3
فالإنسان مقياس كل شيء في حالة جهله بالأشياء. فإذا عرف شيئا فإنه من طبيعة الأمور قياس الغائب على الشاهد كما يقول المناطقة القدماء. وهنا يحدد فيكو المنظور الإنساني لفلسفة التاريخ، وأن ليس للإنسان إلا رؤيته وتصوره وعلمه.
وكل أمة تريد أن تجعل نفسها خالقة ومبدعة لمقومات الحياة، كما تريد إرجاع تاريخها إلى أقدم العصور؛ فكل شعب يدعي أنه أصل الإنسانية؛ المصريون، والكلدانيون، والصينيون، والسكيثيون. وهنا يبين فيكو أن الرغبة في البحث عن الجذور، والعودة إلى الأصول، والبداية بالنشأة شيء طبيعي فطري في الأفراد وفي الشعوب.
ومن الضروري توجيه الفلسفة للأفراد وللشعوب وعدم تركهم في فسادهم وإرشادهم إلى الأخلاق السليمة؛ فالفلسفة تصف الإنسان كما ينبغي أن يكون في مقابل التشريع الذي يصف الإنسان كما هو كائن. هذا الواجب ضروري من أجل أن يكون الإنسان ذا نفع في الحياة الاجتماعية. فالإنسان الكائن يسلك بدوافع التوحش والبخل والطموح، وهي الرذائل الثلاث في الجنس البشري التي بسببها تنشأ الطبقة العسكرية التجارية الحاكمة التي تجمع بين القوة والثروة في شكل نظام سياسي، ولكن الفلسفة تبدأ من هذه الرذائل ذاتها لتوجه الجنس البشري، وتجعل سعادة الإنسان المدني ممكنة. فالأشياء لا تخرج عن حالتها الطبيعية ولكنها تنحو نحو الكمال بطبيعتها، وهنا يبدو فيكو أرسطيا تماما في تصوره للطبيعة والكمال.
ثم يعرض فيكو لعدة بديهيات تتعلق بالمعرفة الإنسانية؛ فالمعرفة تؤدي إلى اليقين في حالة غياب العلم الحقيقي، ومن ليس له علم يتمسك باليقين. تعتمد المعرفة على اللغة والتاريخ في حين يقوم العلم على التأمل والفلسفة. واللغة مرتبطة بالاختيار الإنساني عندما يتعلق موضوع الاختيار بالوعي اليقيني. أما الفلسفة والتأمل فهما مرتبطان بالعقل في حالة العلم الحقيقي. ومع ذلك فإن الاختيار الإنساني غير يقيني لأنه يقوم على المعرفة وليس على العلم، ولا يتحول إلى يقين إلا بالحس المشترك
Common Sense
وإدراك منافع الناس وحاجاتهم. وهما المصدران للقانون الطبيعي للشعوب. والحس المشترك حكم بلا تفكير يشارك فيه طبقة أو شعب أو أمة أو الجنس البشري كله. والأفكار المطردة التي تنشأ لدى جميع الأمم المستقلة عن بعضها البعض يكون لها أساس من الحقيقة، فاطراد الأفكار مقياس لصدقها.
وتنشأ النظم الاجتماعية في زمان معين وبشكل معين، وتأخذ خصائصها من أشكالها، وتتغير هذه الأشكال الأولى التي نشأت فيها. فلا توجد عند فيكو خصائص جوهرية كماهيات مستقلة بل توجد علاقات اجتماعية في التاريخ في الزمان والمكان.
والتراث الشعبي له قدر من الحقيقة نظرا لوجوده واستمراره وحفظه وتواتره عبر الأجيال، فهو المعبر عن طبيعة الشعوب. واللغات الشعبية أقدر على حفظ عادات الشعوب من وسائل التعبير الأخرى كالحركات والأصوات؛ وبالتالي تنشأ أهمية الفنون اللغوية وعلى رأسها الشعر. ومن خلال نشأة اللغة يمكن معرفة نشأة العالم ومعرفة داياته، فاللغة مرتبطة بالموجود أو هي «بيت الوجود» على ما يقول هيدجر. كما أن أشعار هوميروس روايات مدنية تحتوي على عادات اليونان القديمة وتقاليدهم ونظمهم وحضارتهم، وكنز عظيم يحتوي على القانون الطبيعي لشعب اليونان. كما أن قانون «الألواح الاثني عشر» شاهد على القانون الطبيعي عند الرومان، هناك إذن لغة طبيعية مشتركة بين الشعوب يتم تهذيبها فيما بعد كما فعل فلاسفة اليونان وكما فعلت فرنسا فيما بعد في أواسط أوروبا. هناك لغة ذهنية مشتركة من خلال الطبيعة المشتركة للأمم تعبر عن ماهية الحياة الإنسانية الفردية والاجتماعية. والدليل على ذلك وجود الحكم والأمثال العامية المترادفة لدى كل الشعوب.
والتاريخ المقدس، وهو مادة «العلم الجديد»، أقدم أنواع التاريخ؛ فهو أقدم من التاريخي الدنيوي وأطول مدة؛ فقد عاشت الإنسانية حوالي ثمانمائة عام في عصر الآباء، عصر العشائر الكبيرة التي منها نشأت المدن. وفي التاريخ المقدس يميز فيكو بين دين العبرانيين ودين الوثنيين. الأول أسسه الله والثاني أسسته الطبيعة؛ فالله هو المؤسس الحق لدين العبرانيين. ويقوم هذا الدين على تحريم العرافة التي مارستها كل الشعوب الوثنية في دياناتها. بل إن الناس نوعان؛ عبرانيون ووثنيون، عاديون وعمالقة. والعمالقة مخلوقات ضخمة رآها الرحالة وشوه الفلاسفة صورتهم نظرا لطبيعتهم الحيوانية. ويبدو أن فيكو أحيانا يبعد عن البديهيات إلى افتراضات مسبقة أو احترازات نظرا لظروف العصر مثل هذه القسمة الأخيرة التي لا يقبلها علم تاريخ الأديان. ويبدأ التاريخ، ومنه تاريخ اليونان الذي منه نعرف معلوماتنا عن باقي الشعوب، بالفيضان والعمالقة، وقد كان الفيضان شاملا على ما ترويه الأساطير وما تقصه عن أحوال الطبيعة.
ويذكر فيكو المراحل الثلاث لتطور الشعوب وكأنها قانون بديهي ضمن أوليات العقل. وهو في الوقت نفسه يذكر أن هذه المراحل الثلاث قد ذكرها المصريون في تصورهم للإنسانية وتطورها قبلهم. وهذه المراحل الثلاث تمثل عصورا ثلاثة لتاريخ كل شعب؛ عصر الآلهة، وعصر الأبطال، وعصر البشر. ولكل عصر لغته، اللغة الهيروغليفية مثل لغة المصريين لعصر الآلهة، واللغة الرمزية مثل لغة هوميروس لعصر الأبطال، واللغة الشعبية العامية لغة الخطاب والرسائل التي تقوم على العلاقات والحروف الأبجدية لإيصال الحاجات المشتركة والتعبير عنها في الحياة اليومية، هذه اللغة لعصر البشر ومن ثم يكون السؤال: هل هذه المراحل بديهية أم حقيقية تاريخية من اكتشاف المصريين أم أنها استقراء تاريخي لتطور الشعوب؟
ثم يذكر فيكو عدة بديهيات عن المرحلة الأولى مؤداها أن الدين طبيعي في البشر. وأن لكل شعب آلهته، وأنه ينشأ من الخوف أو الجهل أو الخرافة أو الدهشة؛ وبالتالي فإنه من اختراع الإنسان؛ فالإنسان حيوان متدين كما سيقول فيورباخ فيما بعد. فهناك حوالي ثلاثون ألف اسم للآلهة، وكلها مرتبطة بالحاجات الطبيعية والأخلاقية للإنسان، وتعبر عن رغباته وأهوائه وعواطفه في العصور الأولى؛ لذلك بدأت الشعوب الأولى حياتها بالدين أول مبادئ العلم الثلاثة، وأول النظم الاجتماعية قبل الزواج ودفن الموتى. وعندما يبلغ شعب ما درجة عالية من التوحش واستعمال السلاح بحيث لا يكون للقانون في حياته أي مكان فإن أقوى وسيلة لإخضاعه يكون الدين. وعندما يجهل الإنسان الأسباب الطبيعية التي عنها تصدر الأشياء ويعجز عن فهمها بالقياس إلى أشياء أخرى فإنهم يسقطون عليها طبيعتهم الخاصة، ويقول العامي حينئذ: «المغنطيس يحب الحديد». فتصور الجاهل للطبيعة نوع من الميتافيزيقا الشعبية يرجع فيها علل الأشياء إلى إرادة خارجة عليها، هي إرادة الله، دون اعتبار للوسائل التي تستعملها الإرادة الإلهية ذاتها لتحقيق الأفعال وإحداث الأثر في الأشياء. وعندما تخاف العقول فإنها تكون مؤهلة للخرافة. وعندما يقع الناس فريسة للخرافة فإنهم يخشونها، ويرجعون إليها كل ما يتخيلونه ويرونه ويصفونه. والدهشة تنشأ أيضا من الجهل، وكلما عظم موضوع الدهشة دل ذلك على شدة الجهل وأدى إلى زيادة التعجب. كما ينشأ حب الاستطلاع، هذه الصفة الفطرية في الإنسان، من الجهل. وفي الوقت نفسه يكون الدافع على المعرفة ونشأتها عندما توقظ الدهشة العقول وتعطي عادة التساؤل عن معاني الظواهر غير العادية في الطبيعة.
وفي هذه الحالة يكون الخيال أقوى من الاستدلال. وتبرز أهمية الشعر. فهو الذي يعطي الأشياء الميتة معانيها مستمدا إياها من عواطف البشر وانفعالاتهم، ويكون الشعراء كالأطفال الذين يتحدثون مع لعبهم وكأنهم يتحدثون مع أشخاص أحياء. وهذا يثبت أن الناس بطبيعتهم شعراء في مرحلة الطفولة. وأن الإنسانية تتحدث بالشعر وهي في البداية في طفولتها الأولى، وهنا يختلط الدين بالشعر، والآلهة بالأبطال. فيسمى الرجال الغلاظ الشداد آلهة إما لأعمالهم البطولية الرائعة أو إعجابا بالقوة الحالية التي يتمتعون بها أو بالنسبة للمنافع التي أعطوها للإنسانية. وهو المعنى المجازي الذي استعمله العبرانيون كما لاحظ اسبينوزا من قبل.
4
وهنا تنشأ الأساطير التي يجتمع فيها الدين بالشعر مثل أسطورة الخلق لدى كل أمة، وأسطورة الفيضان. فكل أمة لديها يهوا أو إله. وكل شعب لديه هرقل ابن يوفا. وقد كان أول حكماء اليونان هم الشعراء الدينيون (اللاهوتيون) الذين ازدهروا قبل الشعراء البطوليين. تفسر الأساطير بدايات الأشياء ونشأة الكون عند كل الشعوب، ويعزو المصريون إلى هرمس المثلث العظمة كل الاكتشافات المفيدة والضرورية للحياة الإنسانية. وكان أول لاهوت للمصريين تاريخا مطعما بالأساطير خجلت منها الأجيال بعدها فأولتها تأويلا صوفيا باطنيا، وهو أيضا ما يحدث لدى جميع الشعوب الأولى. كان المصريون أول المؤلفين من الشرقيين، تلاهم اليونان والرومان. وفي الدورة الثانية كان الشعراء هم أول الكتاب في اللغات الأوروبية الحديثة، والشعر البطولي أقدم أنواع الشعر، والشعر ذو المقطعين أبطؤها، والشعر اليامبي
lambique (الرجز) أقرب أنواع الشعر إلى النثر.
ويستعمل فيكو للحديث عن الدين والشعر تشبيه الأطفال. فمن طبيعة الأطفال أنهم من خلال الأفكار والأسماء المرتبطة بالرجال والنساء والأشياء التي عرفوها يطلقون بعد ذلك نفس الأسماء على الرجال والنساء والأشياء المتشابهة. فالمنطق البشري يبدأ بالحس. والمعرفة البشرية تبدأ بالحس ثم بعد ذلك يستمتع العقل بالاطراد والتكرار والتشابه. فالذهن الإنساني بطبيعته ولارتباطه بالحواس يرى نفسه في الجسم. ويصعب عليه أن يفهم نفسه بالفكر. فالتشبيه سابق على التنزيه كما أن التجسيم سابق على التشبيه على ما يقول علماء أصول الدين القدماء.
والأطفال شعراء كما أن الشعراء أطفال يتمتعون بخيال خصب وذاكرة قوية؛ فالخيال ذاكرة مركبة أو ممتدة في الزمان. ويبدع الأطفال في التقليد ويدخلون على أنفسنا السرور من تقليدهم لكل ما يفهمونه . وإذا كان كل إنسان ذي استعداد طبيعي قادرا على تعلم صناعة ما فإن الشاعر إن لم يكن شاعرا بالفطرة فإنه لا يستطيع أن يتعلم الشعر صنعة. وإذا كان الأطفال يقلدون فإن شعراء الطبيعة لا يقلدون، وتسير الروح الإنسانية عند الأطفال والشعراء بطريقة واحدة. إذ يشعر البشر أولا قبل أن يدركوا، ثم يدركون بذهن مضطرب ثم يفكرون بعد ذلك بذهن واضح. وما يظهر للبشر أولا على أنه موضع شك أو غموض فإنهم يفسرونه بطبيعة الحال طبقا لطبائعهم الخاصة وأهوائهم وعاداتهم.
وليست اللغة وحدها هي وسيلة التعبير؛ إذ يعبر البكم عن أنفسهم بالإيحاءات أو بأشياء ذات علاقات طبيعية مع الأفكار التي يريدون التعبير عنها. يصدر البكم أصواتا لا مقاطع لها بالغناء، ثم يعلم التلعثم في الغناء ألسنة الناس النطق، فالغناء قادر على التعبير عن الانفعالات الإنسانية. وقد بدأت اللغات بالكلمات ذات المقطع الواحد لسهولة النطق بها كما هو الحال عند الأطفال.
ويذكر فيكو عدة بديهيات أخرى تتعلق بتطور المجتمعات البشرية وتطور البشر أنفسهم؛ فقد بدأت الحياة الإنسانية أولا في الغابات ثم الأكواخ ثم القرى ثم المدن وأخيرا الأكاديميات، وكان مجتمع العلماء هو آخر مرحلة من تطور البشرية، وهنا يبدو القانون متجها نحو الذروة والكمال، ولكن أحيانا أخرى يذكر فيكو التطور البشري آخذا في الاعتبار السقوط والانهيار بعد الكمال والذروة؛ إذ يشعر الإنسان أولا بالضرورة ثم ينظر إلى المنفعة ثم يبحث عن الراحة ثم يسلم نفسه للملذات ثم يتحلل في الترف، ويقع في الجنون، ويفقد هويته. كما أن طبيعة الشعوب تكون أولا الغلظة ثم القسوة ثم اللين ثم الرقة وأخيرا الانحلال. وفي الجنس البشري يظهر أولا الضخم والغليظ ثم المعتز بالنفس والعظيم ثم الباسل والعادل ثم العظمة والبهاء، وبعد ذلك يأتي الهوائي المتقلب ثم يسود الانحلال والجنون.
يذكر فيكو هذه القوانين على أنها عادات بشرية. فالعادة ملك، والقانون طاغية. العادة معقولة ولكن قد لا يعبر القانون عن العقل الطبيعي بل عن إرادة البشر، ولكن المعتاد أن القانون الطبيعي للشعوب الأولى يكون معاصرا في نشأته لعادات الأمم ومتطابقا معها من حيث الحس المشترك دون أي تدبر أو روية ومع استقلال كل أمة عن الأمة الأخرى. والعادات البدائية وخاصة فيما يتعلق بالحرية الطبيعية لا تتغير مرة واحدة ولكن على درجات، وتستغرق مدة طويلة، ولكن نظام الأفكار يتبع نظام المؤسسات، وتبدأ النظريات بنشأة موضوعاتها، ثم يضطر البشر إلى الاحتفاظ بذكريات القوانين والنظم التي تربطهم بمجتمعاتهم فتكون سجلا لتطورهم.
ثم ينتقل فيكو بعد ذلك إلى سلسلة أخرى من البديهيات تتعلق بنظم الحكم الملكية والإقطاعية والأرستقراطية وما يتعلق بها من أنظمة اقتصادية واجتماعية، نشأة وتطورا واكتمالا. ويبدأ فيكو بإقرار مبدأ بديهي عام وهو تطابق الحكومات مع طبيعة المحكومين، أي أن النظم السياسية تعبر عن طبيعة الشعوب على عكس ما يقول ابن خلدون من أن الناس على دين ملوكهم. الأولى نظرة طبيعية والثانية نظرة إلهية. الأولى تصور تحتي والثانية تصور فوقي.
ويبدأ فيكو ببيان نشأة النظم الملكية. لما بدأت كل الشعوب حياتها الطبيعية بعبادة إله ما في الدول العشائرية كان الآباء هم الحكماء تحت وصاية الآلهة. وقد حاول الكهنة تفسير هذه الوصاية لصالحهم ولكن نجح الملوك أخيرا في تحويلها إلى قوانين لعشائرهم. فالملوك هم أول من حكموا العالم، فقد كانوا أجدر الناس من حيث الطبيعة. وكانوا هم الحكماء، يجمعون بين الحكمة والملك والكهانة. الملكية إذن أول نظام للحكم عرفته البشرية. وفي الدول العشائرية مارس الآباء سلطة الملوك خاضعين لله، لهم السلطة على أولادهم وممتلكاتهم وما ملكت أيمانهم؛ فهم البطاركة والآباء والأمراء والرؤساء. وقد حصلت العشائر على أسمائها من الآباء في الحالة الطبيعية. كان الملوك رؤساء الدين والدولة. وكانوا يقومون بتطبيق القوانين داخل البلاد ويشنون الحروب خارجها.
أما النظام الإقطاعي فقد نشأ ابتداء من أن البعض قد اعتزل العالم الهمجي غير القانوني وكون أسرا. عاش البعض منها في حقول ثم عاش فيها الأبناء من بعدهم. لا يمكن إذن فهم نشأة التجمعات البشرية الأولى قبل هؤلاء القارين الذين أرادوا إنقاذ حياتهم بحماية الآباء لهم، وزراعة أراضيهم. تبدأ هذه التجمعات بالنظام الإقطاعي نظرا لما يعود على الناس من الفائدة منه. فظهر القانون الخاص بالحقول وهو أول قانون زراعي في العالم. وفي كل الأمم القديمة التي يوجد فيها عملاء وزبائن يظهر فيها أيضا النظام الإقطاعي. ويظل الإقطاعي صاحب القوة والسيطرة لأن من علامات القوي ألا يفقد بالجبن ما حصل عليه بالشجاعة. ولم تكن هناك قوانين لمعاقبة الإهانات الخاصة أو لتصحيح الأخطاء الشخصية.
أما النظام الأرستقراطي فإنه يقوم على أكتاف النبلاء الذين يقسمون بأن يكونوا أعداء أبديين للعامة. ويقوم النظام على الثروة وتركيزها في طبقة النبلاء لأن الثروة تزيد من قوة الطبقة. وتكون النظم الأرستقراطية على حذر دائم من الدخول في حرب خشية أن تتحول العامة إلى محاربين. والحرب في هذه النظم تؤدي إلى البطولة، كما تؤدي في السلم إلى التمسك بالشرف والتنافس عليه ثم يكون الشرف بالتالي باعثا على الشجاعة في السلم والحرب. ثم تنشأ المعارضة شيئا فشيئا في المدن من أجل مساواة الطبقات العامية مع طبقة النبلاء في الحقوق، وتطالب بالقوانين التي لا يريدها النبلاء، وتطمح العامة من أجل أن تحصل على نتاج كسبها، ولكن طبقة النبلاء توقف القوانين حتى لا يتساوى الضعفاء والأقوياء.
وأخيرا تنشأ النظم الشعبية تعبيرا عن رغبات العامة، ولكنها تقود صراعا من أجل السلطة بالسلاح في وقت السلم، وتصدر القوانين باسم السلطة وليس باسم القانون. ومع ذلك تثبت الحرية الطبيعية ضد النظم الملكية والإقطاعية والأرستقراطية، وتمحي مظاهر العبودية الاجتماعية التي تجعل الإنسان ضمن المقتنيات، ولكن هذه النظم الشعبية ذاتها تحف بها المخاطر. فبعد أن يحاول الناس التحرر من العبودية والحصول على أكبر قدر ممكن من المساواة، تحاول العامة تجاوز المتساوين معها فتتحول النظم الشعبية إلى نظم قوية تقوم على السيطرة. ثم تضع العامة نفسها فوق القوانين التي لا تراعيها فتتحول نظم الحكم إلى فوضويات لا يوجد فيها طاغية واحد لأنهم كلهم طغاة. وأخيرا تحاول العامة أن تجد خلاصها من جديد في عودة النظم الملكية. فبعد أن تضطر العامة لقبول سلطة النبلاء، وبعد أن يضطر النبلاء لقبول سلطة العامة ، يضطر الجميع لقبول سلطة الملوك؛ ومن ثم ينتهي جدل السيد والعبد على ما يقول هيجل لصالح الملك. ولا يستمر في دورة أبدية.
ثم يعطي فيكو بعد ذلك عدة مبادئ عامة عن حياة العمران. فبعد الفيضان عاشت الأسر أولا في الكهوف ثم على سفوح الجبال ثم انتقلت إلى السهول ثم إلى شواطئ البحار، كما تنشأ المدن أولا داخل البلاد ثم بعد ذلك تنشأ المدن الساحلية. وقد كانت مدينة صور أولا في الداخل ثم حولها الفينيقيون إلى مدينة ساحلية، فقد كان الفينيقيون أول بحارة في العالم، فالمدن الداخلية أكثر قدرة على الدفاع عن نفسها من المدن الساحلية. وقد بنى اليونان عدة مدن يونانية على ساحل أيونيا تم تدميرها بسهولة بعد ذلك. ونظرا لضرورات الحياة يترك الناس أرضهم طمعا في مزيد من الثروة عن طريق التجارة أو لحمل ثرواتهم معهم حرصا عليها من الضياع ومخاطر الاستقرار، والشعوب الأولى لا يمكن النفاذ إليها إلا من الخارج عن طريق الحرب ومن الداخل عن طريق فتح حدودها للتجارة مع الغرباء.
وينهي فيكو بديهياته حول الله والقانون والمساواة. فهناك أقوام كبيرة وأقوام صغيرة. ولكل منها إله. فالآلهة تصنع قدر الأقوام! أما القانون فإنه يكون بمثابة الحكمة لدى الشعوب المحدودة الأفكار التي لم تبلغ بعد شأوا من الحضارة والتطور. وينشأ اليقين في القانون من غموض الحكم وتأييد السلطة. أما الأذكياء فإنهم يأخذون المنفعة قانونا. أما حقيقة القانون فإنه نور يعين، وعظمة تأتي إليه من العقل الطبيعي. أما بالنسبة للمساواة، فالمساواة المدنية حكم محتمل لا يعرفه كل الناس. أما المساواة الطبيعية فإنها تعبير عن العقل الإنساني، ودرجة التطور نحو الكمال.
بعد هذه البديهيات التي يسميها فيكو «العناصر»، يتحدث عن «المبادئ» وهي الحقائق البديهية لدى كل الشعوب دون الاستعانة بالتراث المكتوب بل بناء على تنظير مباشر للواقع وسبر لأغوار الطبيعة البشرية. فالعالم الإنساني من صنع الإنسان؛ وبالتالي توجد مبادئه في الذهن الإنساني. فالواقع والذهن شيء واحد، وكأن فيكو هنا يرصد مسبقا «فينومينولوجيا الروح» عند هيجل.
هناك ثلاثة مبادئ هي في الوقت نفسه، عادات للشعوب ونظم لها؛ الأول: أن كل شعب له دين، ولا يوجد شعب يجهل الدين على خلاف ما يرويه بيل وبعض الرحالة من أنهم رأوا شعوبا بلا دين، يجهلون الله، فهؤلاء الرحالة لا يبغون العلم بل يريدون تسويق مؤلفاتهم فحسب. العبرانيون، والمسيحيون، والوثنيون والمسلمون (المحمديون) كل هؤلاء لهم دين ، وقد آمنت كل الشعوب بإله مجسد أو غير مجسد يعتني بالعالم ويرعاه، وهذا ما أكده الفلاسفة جميعا على اختلاف مذاهبهم؛ والثاني: أن كل الشعوب لديها احتفالات بالزواج؛ فالعلاقات الجنسية الحرة دون رباط رسمي علاقات شريرة، ينتج عنها أطفال بلا أسر، يتركون في الخارج. وظيفة الأسرة إذن رعاية الأطفال الشرعيين وإعطاؤهم التعليم والدين واللغة؛ والثالث: أن كل الشعوب تدفن الموتى؛ فلا يوجد شعب يترك موتاه بلا قبور. فنحن جميعا زملاء في البشرية. وعندما نناقش خلود الروح فنحن نشارك في نفس الإنسانية. وقد ذكرت كل الديانات هذا المبدأ وعرفته الحضارات، وكتبت حوله القصص والمسرحيات (أنتيجون).
5
وأخيرا يتحدث فيكو عن منهج «العلم الجديد» ويحدده على أنه منهج الاستقراء الذي يبدأ من الطبيعة إلى الفكر. فالمنهج يبدأ حيث يبدأ الموضوع؛ وبالتالي يكون الموضوع هو منهج ذاته. ويكون تطور الموضوع ضمن خطوات المنهج. وهنا يلحق فيكو أيضا بهيجل في توحيده بين الموضوع والمنهج بين الواقع والجدل؛ لذلك يجب البدء باللغويين والفلاسفة والكتاب والأدباء والشعراء والمشرعين وكل من حاولت الإنسانية تدوين نفسها من خلالهم. ويعطي فيكو نموذجا من هذا المنهج التجريبي بنشأة فكرة الله أو الدين الموجودة لدى كل الشعوب المتحضرة والبدائية. فعندما يعيش الإنسان لحظات اليأس من كل عون للطبيعة، ويرغب في شيء أعلى منها لمساعدته يكون هو الله. وإذا ما وصل المنحلون إلى سن متقدمة في العمر يكتشفون الدين. وهذا ما يثبته البدائيون الذين يعيشون حياة الانفعال. أما الميتافيزيقا الشعبية ولاهوت الشعراء فإنه أيضا ينتهي إلى النتيجة نفسها؛ إذ يعيش البشر، نظرا لطبيعتهم الفاسدة، تحت سيطرة حب الذات ويسيرون وراء منفعتهم الخاصة؛ وبالتالي يعجزون عن السيطرة على انفعالاتهم. وبعد الزواج كان لزاما على الإنسان أن يوفق بين منفعته ومنفعة أبنائه. وبعد الحياة الاجتماعية كان لزاما عليه أيضا أن يوفق بين مصلحته ومصلحة الآخرين، وبين مصالح الآخرين ومصالح الشعب ككل، ثم بين مصالح الشعب ومصالح الجنس البشري. ولما كان الإنسان لا يبغي إلا صالحه الخاص كان لا بد من العناية الإلهية كي تضعه دخل نظم تعلمه العدالة وتحدد دوره كعضو في الأسرة وفي المجتمع وفي المدنية والإنسانية. ولما كان غير قادر على الالتزام بهذه النظم فإنه يسمي العادل منها ما يحقق منفعته الخاصة، وما ينظمها يسميه العدالة الإلهية، وما يحكمها يسميه العناية الإلهية. وهنا يبدو فيكو متفقا مع هوبز في أن الدين ضروري لصالح البشر. وأن كليهما ينظر إلى العقيدة المسيحية، على أنها عقيدة الخلاص من الخطيئة عن طريق المسيح.
العلم الجديد إذن هو اللاهوت العقلي المدني للعناية الإلهية التي يؤمن بها الرواقيون عن طريق الصلة بين العلة والمعلول؛ إذ إنهم في نظام الأشياء الطبيعي يسمون اللاهوت الطبيعي ميتافيزيقا صفات الله وأفعاله في الطبيعة، والأبيقوريون عن طريق المنافسة العمياء بين اللذات. العلم الجديد إذن يأخذ موضوع العناية الإلهية في التاريخ حين تكشف عن نفسها في العادات والنظم الطبيعية. وهنا يلحق هردر بفيكو، فقانون تطور البشرية عند هردر هو أيضا العناية الإلهية وتحويلها من صفة لله إلى قانون للتقدم. ويحلل العلم الجديد الأفكار الإنسانية حول الحاجات الإنسانية ومنافع الحياة الاجتماعية وهما المصدران الدائمان للقانون الطبيعي للشعوب، فتاريخ الأفكار هو تاريخ الإنسانية نفسها. موضوع العلم الجديد إذن هو الحس المشترك للجنس البشري أو شعور البشرية جمعاء.
وتأتي براهين العلم من الفلسفة واللغة مثل اتفاق الأساطير والنظم الذي يدل على أنه اتفاق بالطبيعة وليس وليد المصادفة، اتفاق العبادات البطولية مع النظم، اتفاق المعاني الاشتقاقية للغات البدائية مع النظم. وفهم النظم من خلال الكلمات ومعانيها اللغوية الأصلية أو المجازية المتطورة. القاموس الذهني للنظم الإنسانية الاجتماعية هو القاموس نفسه الذي لدى كل الشعوب والذي يتم التعبير عنه بطرق مختلفة وطبقا للغة كل شعوب: التراث الشعبي المحفوظ الذي يصحح أخطاء المؤرخين، الشذرات القديمة التي يمكن بعد التأليف بينها أن تعطي المعنى والدلالة، معرفة آثار هذه النظم بالرجوع إلى عللها الأولى. هذه البراهين كلها تجعلنا قادرين على معرفة «عالم البشر» كما عرف بيكون «عالم الطبيعة» وبنفس المنهج الاستقرائي الذي يمكن تلخيصه في شعار «انظر وفكر».
رابعا: الحكمة الشعرية
وتعبير «الحكمة الشعرية» هو أكثر التعبيرات استعمالا عند فيكو، وعنوان الكتاب الثاني وهو أطول الكتب في أقسام كتاب «العلم الجديد»؛ وبالتالي يكون الكتاب الأول عن «إقامة المبادئ» مجرد تمهيد له، ويكون الكتاب الثالث عن «اكتشاف هوميروس الحقيقي» تكملة له، والرابع والخامس عن مسار الشعوب في دورتها الأولى ثم الثانية عندما تنهض من جديد مجرد تطبيق للحكمة الشعرية مرة ثانية في دورات الحضارات المتتابعة؛ فقد بدأت البشرية بالشعر، فكان شعراؤها هم حكماؤها وعلماؤها ومشرعوها، لم يكن هوميروس والتراجيديون اليونان مجرد شعراء أو أدباء فقط بل كانوا أصحاب معرفة ودين وأخلاق وسلوك وإرشادات للحياة العملية، بل كانوا أيضا واضعي قوانين. فكل مدينة يونانية أسسها إما مشرع أو بطل. لم يخلق الشعراء العالم كما خلقه الله ولكنهم خلقوه بالخيال، واللفظ اليوناني
مشتق من فعل
أي يفعل أو يخلق؛ فالشعر يمثل بدايات الفن والعلم والميتافيزيقا والمنطق والأخلاق والاقتصاد والطبيعة والكونيات والفلك والتواريخ والجغرافيا. يقول فيكو إنه في هذا الكتاب الثاني سيبين كيف استطاع مؤسسو الإنسانية الأولى بالاعتماد على اللاهوت الطبيعي (الميتافيزيقا) تخيل الآلهة، وبالنطق اختراع اللغات، وبالأخلاق حلق الأبطال، وبالاقتصاد إقامة الأسر، وبالسياسة المدن، وبالطبيعة بدايات الأشياء وكأنها إلهية، وبفيزيقا الإنسان خلقوا أنفسهم، وبالكونيات تصوروا لأنفسهم عالما مملوءا بالآلهة، وبالفلك نقلوا الكواكب والأفلاك من الأرض إلى السماء، وبالتواريخ أعطوا أوقاتا للبدايات، وبالجغرافيا استطاع اليونان وصف العالم كله ابتداء من اليونان. فكل مظاهر الحضارة من اختراع الإنسان، والبشرية خالقة لذاتها على ما يقول فيورباخ فيما بعد. وإن العلم ذاته الذي يزهو به الناس على أنه صورة للطبيعة هو أيضا من اختراع الإنسان، وإن بيكون كان نبي العلم في العصر الثاني للبشرية، ومشروعه الضخم «الإصلاح العظيم» لم ينشر منه إلا «تقدم العلم» و«الأورجانون الجديد»، أكبر إنجاز للقرن السابع عشر. وعلى منواله صاغ فيكو «العلم الجديد» في القرن الثامن عشر، ولكن الفرق أن بيكون أراد العلم الآن في صورته الكاملة وفيكو أراد وصف نشأته وتطوره واكتماله، فالعلم يبدأ حيث يبدأ موضوعه.
والحكمة موجودة لدى كل الشعوب في أساطيرها وقصصها؛ فكل قصص الشعوب لها بدايات أسطورية. وكان الشعر هو لغة التعبير عن هذه الحكمة. فأول الحكماء عند اليونان هم الشعراء اللاهوتيون. ثم بعد ذلك قدم اليونان أنفسهم من خلال الفلسفة، ولكن المصريين قدموا أنفسهم من خلال اللاهوت الطبيعي (الميتافيزيقا). وكل شيء يولد يكشف عن البدايات، والبدايات لدى الشعوب ولدى من من خلالهم تخلد الشعوب ذواتها أي الشعراء وهم الحكماء والعلماء.
ويشترك اليونان والمصريون في خمسة أشياء؛ احترام الدين فقد تأسست الشعوب الوثنية بأساطير حول الدين، اعتبار النظام المدني مستمدا من حكمة تفوق قدرة الإنسان، بحث الفلاسفة عن أشياء مدعاة للتأمل والتفلسف، إيجاد وسائل التعبير عن فلسفاتهم في الألفاظ والتعبيرات التي تركها الشعراء لهم، وأخيرا التأكيد على هذه التأملات في الحكمة والدين. وهذه الأشياء الخمسة تؤكد أهمية الحكمة الإلهية كما تؤكد أهمية التفلسف. ولما كانت الفلسفة تأملات في الشعر وكان الشعر تأملات في الدين كان الشعر هو القاسم المشترك بين الفلسفة والدين. كما يدل على أن البشرية بدأت بالدين ثم بالفلسفة، وهذا كله تشمله الحكمة، ولما كان العقل لا يتفلسف إلا بعد حصول شيء في الحس كما هو الحال عند أرسطو من القدماء وعند هوسرل أيضا والمدرسة الحسية من المحدثين، كانت الفلسفة تالية للشعر وللدين.
والحكمة أم العلوم. وهي ملكة يصدر عنها كل إبداعات البشر من علوم وفنون تصنع الإنسانية، فالإنسان ذهن وروح، عقل وإرادة، وكلاهما واجهتان للحكمة، وعن طريق العقل تسيطر الحكمة على الإرادة لصالح الإنسان. ولما كان الإنسان لا يستطيع أن يعيش إلا في نظم فإن الحكمة أيضا هي التي تنظم علاقة الإنسان بالله. وأفضل النظم ما كان حقا لخير الإنسانية، وهي النظم الدينية التي توجه النظم العلمانية عن طريق الحكمة. الحكمة بلغة هوميروس هي معرفة الخير والشر أو التنبؤ بالمستقبل؛ لذلك يعتبر الشعراء اللاهوتيون هم الذين أسسوا الحكمة القديمة؛ لذلك سموا «أساتذة الحكمة»، بعد ذلك أعطيت الحكمة للناس وشاعت بينهم فظهرت عند الحكماء السبعة ثم عند الفضلاء من الناس لإدارة فن الحكم. وفي كل الحالات يظل معنى الحكمة هو معرفة الأشياء الطبيعية الإلهية أي الميتافيزيقا، معرفة ذهن الإنسان في الله، فالله مصدر الحقيقة ومشرع الخير. الميتافيزيقا إذن علم يهدف إلى تحقيق صالح البشرية التي تقوم على الإيمان الشامل بالعناية الإلهية.
ولا يفرق فيكو في ذلك بين الدين الوثني ودين العبرانيين والمسيحيين على الرغم من وضعه للدينين على مستويين مختلفين. فإذا كانت ربات الفنون
Muses
هي التي أسست الدين الوثني فإن الله هو الذي أسس الدين الحقيقي للعبرانيين وللمسيحيين الذين يسمون الحكمة العلم بالأشياء الأبدية التي يوحيها الله. هناك إذن ثلاثة أنواع من اللاهوت؛ اللاهوت الشعري وهو الشعر المدني لدى الشعوب الوثنية، واللاهوت الطبيعي عند الميتافيزيقيين، ثم اللاهوت المسيحي وهو خليط بين الاثنين بالإضافة إلى اللاهوت الموحى به. وقد ظهرت العناية الإلهية في الأنواع الثلاثة كقاسم مشترك لقيادة البشرية وتوجيهها وكما هو الحال أيضا عند هردر ولسنج. وذلك لأن فيكو يقسم البشرية إلى نوعين؛ الوثنيون وهم العمالقة من جنس حام ويافث وسام الذين رفضوا دين نوح أبيهم المشترك وعاشوا على الطبيعة بعد الطوفان وانقسموا إلى نبلاء مستغلين وعبيد يفلحون الأرض، والعبرانيون الذين قبلوا دين نوح واحتفظوا بوضعهم الأول، وهو الوضع الإنساني الأخير الذي عادت إليه بعد ذلك سلالة العمالقة.
وبعد هذه المقدمة عن الحكمة الشعرية يقسمها فيكو إلى فرعين؛ الميتافيزيقا وهي الجذع الذي يخرج منه المنطق والأخلاق والاقتصاد والسياسة والتاريخ، والفيزيقا وهي التي تخرج منها الكونيات والفلك والتواريخ والجغرافيا، وأكبرها المنطق والسياسة والاقتصاد أي الحكمة الإنسانية. وهو يذكرنا بما قاله ديكارت من قبل عن شجرة المعرفة التي جذورها الميتافيزيقا وجذعها الفيزيقا وفروعها الأخلاق والطب.
فالميتافيزيقا الشعرية هي بداية للشعر وللوثنية وللدين بكل ما فيه من عرافة وقرابين. لم تكن ميتافيزيقا عقلية بل خيالية بسبب الجهل بالطبيعة وقوانينها وعللها. والجهل أساس الدهشة. كان الشعر أولا إلهيا، تعبر به الشعوب عن طبائعها الخاصة كما يفعل الأطفال. خلق الشعراء اللاهوتيون الأسطورة الإلهية الأولى، خلقوا فكرة من أنفسهم، وتصوروا الأشياء مملوءة بآلهة، فاللاهوت هو علم لغة الآلهة، اللغة الإنسانية التي استعملها البشر لوصف الأشياء على أنها آلهة إذ إن لكل شعب آلهة. نشأ الله في الشعر بالخيال أولا ثم حولته الميتافيزيقا بعد ذلك إلى عناية إلهية. نشأ الله من عجز القوة الإنسانية، ومن خوف الإنسان من نفسه، كما نشأت العرافة والأضاحي للسيطرة على هذا الخوف، وكانت النتيجة تصديق هذه الاستحالة؛ استحالة أن تكون الأشياء أرواحا، والأجسام عقولا. لم ينشأ الشعر إذن عن نقص في العقل الإنساني بل للتعبير عن الآلهة. ولقد أعطانا الشعر أساطير رفيعة ملائمة للفهم الشعبي والقلق من أجل الوصول إلى غاية، وتعليم العامة السلوك الفاضل تشبها بالشعراء. وأخيرا يحدد فيكو المظاهر الرئيسية لهذا العلم وكأنها بديهيات مثل قوة العناية الإلهية التي تفوق الطبيعة وتعين الإنسان عليها، ووراثة السلطة دور العناية الإلهية إذ تكون أولا إلهية ثم إنسانية ثم طبيعية، وهي سلطة القانون الطبيعي، وكشف تاريخ الأفكار الإنسانية تصورات البشر للأشياء على أنها آلهة، ثم النقد الفلسفي لهذا التاريخ، ثم تاريخ الشعوب في مسارها، كل على حدة كتاريخ أبدي، ونظام القانون الطبيعي للشعوب، وأخيرا مبادئ التاريخ العام من خلال المراحل الثلاث التي تصورها المصريون والتي أصبحت قانون تطور التاريخ عند فيكو.
والمنطق الشعري يبين أهمية الشعر كمنطق ولغة وتعبير واتصال وتخاطب قبل المنطق الصوري الذي وصفه الفلاسفة، فالمنطق من لفظ
Logos
وهو يعني أيضا أسطورة؛ أي التعبير ثم تأتي أهمية الفكر في الخطاب بعد ذلك.
الأسطورة لغة، تعبر عن الأشياء أحياء، وتعتمد على الخيال والرمز والاستعارة والكناية وشتى أساليب البيان، وهو ما سيلاحظه كاسيرر بعد ذلك في «فلسفة الصور الرمزية» وكلها مستقاة من جسم الإنسان وحواسه وانفعالاته. فالرأس للقمة، والكتفان للثقل، والفم للفتحة، والشفاه للكوب، والعنق للنهر، والجسد للأرض ... إلخ، وطبقا لقوانين المجاز مثل التعبير عن الجزء بالكل أو عن الكل بالجزء. والشعر أسبق من النثر ظهورا لدى كل الشعوب لأنه أكثر قدرة على التعبير وأقل تطلبا للفكر. كما أن فن السخرية بدأ بعد ظهور التفكير لأنه يتطلب معرفة جدل الصدق والكذب. والتحولات الشعرية أو مسخ الكائنات في الشعر أتى من عجز الذهن الإنساني عن تجريد الصفات أو الخصائص مثل الأطفال. والخطاب الشعري يسمح بالكشف عن عادات القدماء وحكمهم وأمثالهم وكل ما يتعلق بالقوانين الاجتماعية والنظم والاحتفالات والشعارات والعلامات ورموز الحكم. وقد نسبت كل الشعوب حكمتها الباطنية إلى المؤلفين الأوائل مثل زرادشت في الشرق، وكونفوشيوس في الصين، وهرمس مثلث العظمة في مصر، وأورفيوس لدى اليونان، وفيثاغورس في إيطاليا. ولما كان الشعر يقوم بدور اللغة فمن المهم معرفة نشأة اللغات وقبلها نشأة الحروف؛ وبالتالي معرفة مصادر اللغة الهيروغليفية والأسماء وشارات الأسر والميداليات والنياشين والنقوش والنقود ... إلخ. بل إن لفظ حرف
character
يعني أيضا صفة وكأن الصفات أو الأفكار كانت في نشأتها حروفا وأن الحروف تعبر عن الأفكار. كما أن الاسم والصفة تعني نفس الشيء عند اليونان؛ لذلك كانت أسماء الله هي صفاته. ويعدد فيكو ثلاثة مبادئ لنشأة الحروف واللغة؛ تصور الشعوب الأولى للأشياء على أنها جواهر حية، والتعبير عن ذلك بالحركات والأشياء التي لها علاقة بالأفكار، ثم التعبير عن ذلك أخيرا بلغة ذات دلالات طبيعية. ويضع فيكو ثلاث لغات للعصور الثلاثة لتطور البشرية؛ اللغة الهيروغليفية أي اللغة المقدسة أو الإلهية في عصر الآلهة، ثم اللغة الرمزية في العصر البطولي، ثم اللغة الشعبية، لغة الرسائل والسوق في العصر الإنساني، ولكن كيف تختلف اللغات لدى الشعوب؟ يرجع الاختلاف إلى البيئة الجغرافية التي اقتضت طبائع مختلفة وعادات مختلفة. لقد بدأت اللغات الثلاث في نفس الوقت، لغة الآلهة صامتة، ولغة الأبطال بين الصمت والنطق، ولغة الشعب ناطقة، وبدأ النطق بتقليد الأصوات كما يفعل الأطفال وكما هو واضح في الألفاظ الصوتية
Onomatopia . ثم نشأت الكلمات من وضع الضمائر من الأصوات التي تدخل على انفعالات الإنسان بمفرده، المتكلم والمخاطب والغائب، وهي أيضا أحادية المقطع، ثم نشأت الأدوات أيضا أحادية المقطع والحروف ثم الأسماء ثم أخيرا الأفعال لأنها تدل على الحركات وتضم الأزمنة، الماضي والحاضر والمستقبل. كذلك نشأ الأسلوب الشعري، الاستطراد، والقلب، والإيقاع، والأوزان، وأنواع الشعر واستعملته الشعوب بسبب عجز اللغة عن التعبير؛ لذلك امتلأ الأسلوب الشعري بالصور والخيالات والتمثيلات والمقارنات والاستعارات والحسيات والتكرار . ومن اللغة نشأ القانون؛ فقد استعملت الحروف والأسماء والشارات والعلامات والرموز لتأكيد الملكية وتمييز بقعة عن بقعة وإحاطة الممتلكات بالأسوار ثم استعملت القوانين بعد ذلك لأداء نفس الوظيفة. وبعد ذلك نشأ منطق المتعلمين. وأعطى الحكماء الأسماء الطبيعية للأشياء، فالاسم
Name
والميلاد
Naitre
من نفس الاشتقاق وكذلك الطبيعة
Nature . وقد تعاملوا أولا مع الموضوعات الحسية ثم بعد ذلك نشأت الأنواع والأجناس؛ فالحس أولى مراحل الإنسانية يتلوه العقل ثم التصنيف والجمع. وبالرغم من ظهور العناية الإلهية لتصريف أمور الدنيا واستقراء تاريخ الفكر البشري إلا أن هناك قانونا عاما وشاملا للإنسانية.
والأخلاق الشعرية تبين نشأة الفضائل الشعبية التي يعلمها الدين من خلال نظام الأسرة من خلال فكرة الله. فالله يظهر في سلوك الأفراد والجماعات في صورة أخلاق بناء على الخوف. فالسماء ملجأ الانفعالات وملاذ الخائفين ومصدر قوة للمستضعفين. تبدأ الفضائل الخلقية إذن بالدوافع والانفعالات، وتتكون لحماية الناس. وهنا يظهر الزواج كطريق طاهر وشريف للعلاقات الجنسية تحت رعاية الله. فمن رعاية الله تدخل المرأة إلى منزل الرجل وأسرته، وتتحجب وتتحدث من وراء ستار، ويأخذها الرجل بالقوة كما كان يفعل العمالقة من قبل باستيلائهم على النساء ومباشرتهن في الكهوف. فالأخلاق والدين وسيلتان لتهذيب الناس وجعلهم حذرين باتخاذ نصائح من الله، وعادلين مع أنفسهم ومع الله، ومعتدلين راضين بامرأة واحدة طوال عمرهم المديد، وأقوياء عاملين وعظماء. ثم ظهرت عادة تقديم القرابين البشرية للآلهة حيث كان يسود التعصب والخرافة.
والاقتصاد الشعري يكشف عن أن الأسر الأولى كانت تضم الأطفال فقط؛ فقد كان الآباء الأبطال يعيشون على الطبيعة كما كان الحكماء تحت رعاية الحكمة، وكان الرهبان يقدمون القرابين، وكان الملوك يستمدون القوانين إلى أسرهم من الآلهة؛ فقد بدأ الملوك أنظمة حكمهم بالاعتماد على العشائر وليس أسرهم الخاصة، وبدءوا في تربية أبنائهم وترك رزقهم لهم، والاستقلال التام لهم. وفي نظام الأمومة توجد الصداقة الحقة وتتم عملية تأنيس البشر. يحقق هذا النظام ثلاثة أهداف؛ الشريف والنافع والمبهج وكل ذلك تحت مظلة الدين ولاستمرار الجنس البشري. وكان أبناء العشائر عبيدا باستثناء أبناء الأبطال فهم وحدهم أحرار. ومن العبيد بدأ الإقطاع واستثمار الأرض ومشاركة الأسر في عمل الأبطال وليس فقط في مكتسباتهم أو شرفهم. وعلى هذا النحو تأسست المدن والمستعمرات داخل الأرض ونشأت الملاجئ، واقتضت ظروف الحياة أن تكون المقايضة أول صور البيع والشراء. ولم يكن هناك إيجار للمنازل لصغر المدن بل كان الإقطاعيون يؤجرون أرضهم للبناء عليها لمدد طويلة. لم تكن المشاركة أو الوكالة معروفة عند القدماء، ولكن عرفت عقود البيع والشراء وختمها بالاتفاق المجرد إلى أن بدأ القانون في الظهور بشكل أسطوري.
والسياسة الشعرية تكشف عن أن أول نظام للحكم في العالم كان نظاما أرستقراطيا؛ فقد نشأ النظام العشائري بالأسر الصغيرة التي وضعها الأبطال تحت حمايتهم بالقوة أو بالإيمان، ولما تحرر الأبناء بعد موت الآباء أخذ كل ابن الأمر كله لنفسه. ثم اتحد الآباء الجدد فيما بينهم اتقاء لثورات العامة. لقد نشأ أول ملوك الدنيا بهذه الطريقة وعلى أكتافهم نشأت أول المدن. وبتعبير آخر إن كل نظم الحكم نشأت طبقا لمبادئ الإقطاع الأبدية إما ملكية الإنتاج أو ملكية الأرض أو ملكية الإقطاعيات. وقد انقسم الناس إلى نوعين؛ عامة تريد تغيير نظام الحكم ونبلاء يريدون المحافظة عليه. ويستمر فيكو في بيان نشأة النظم السياسية القديمة مثل الضرائب والخزانة والجمعيات التشريعية والطبقات الاجتماعية. كما يحاول بيان تطورها ابتداء من التربية الوحشية للعمالقة ثم شراء النساء بالمهور الغالية ثم إنجاب الأطفال وتزوج النساء لمنفعة الأزواج والآباء. كما يتحدث عن الألعاب الرياضية القديمة وأهمية السباق أو الحروب القديمة ونشأة العبودية.
والتاريخ الشعري موجود في أساطير القدماء التي تقص نشأة العالم وبداية الخلق ثم إنشاء المدن وظهور الأغاني والترانيم والأناشيد ثم ظهور النظم والمجالس والقوانين والمحاكمات والعقوبات ثم العداوة بين المدن وظهور فنون الإنسانية. والحقيقة أن فيكو هنا يجمع بين التاريخ والكونيات والتواريخ مما يدخل في علوم الطبيعة.
والفيزيقا الشعرية هي الفرع الثاني من الحكمة بعد الميتافيزيقا وتشمل الكونيات والفلك والتواريخ والجغرافيا. وتبدأ أيضا بالأسطورة. في البداية كان العماء ثم اختلطت البذور الإنسانية مع النساء إثر فعل الزنا ، ثم انقسمت السماء بالرعد، وخلق «يوفا» عالم البشر قائما على الدوافع وحرية الذهن. ومن حركة الأجسام تكون عالم الطبيعة وتحدث الشعراء اللاهوتيون عن العناصر الأربعة. وتشير أيضا الفيزيقا الشعرية إلى جسد الإنسان؛ الرأس والصدر والقلب والمعدة والكبد. وفي الكونيات الشعرية يختلط الكون بالآلهة؛ فالسماء أعلى من الجبال، والآلهة تتربع في السماء وتنزل على قمم الجبال، والنسيان والجوع وتأنيب الضمير مظاهر للعقاب الإلهي. والفلك الشعري عند القدماء يشير إلى حقائق ثابتة مثل رفض أي شعب قبول آلهة غريبة، واعتبار إله الكواكب أكبر من إله النجوم. وفي التواريخ الشعرية تتحدد أنساب الآلهة من أجل تحديد بداية للزمان وبدايات التاريخ الشامل التي تمتد إلى الشرق، أما الجغرافيا الشعرية فإنها تجعل اليونان مركز العالم وتصف أول من سكن المناطق الوسطى وكيفية نشأة المدن. ويتضح من ذلك اختلاط العلوم كلها وتداخلها في الحكمة الشعرية.
ثم يعرض فيكو في الكتاب الثالث إلى مشكلة هوميروس: هل هو شخصية حقيقية عاشت بالفعل أم أنه أسطورة من نسج الخيال؟ وهو ما عرف في التاريخ باسم «المشكلة الهوميرية» والتي نسج على منوالها أيضا قضية الشعر الجاهلي. وينكر فيكو وجود هوميروس كشخصية تاريخية حقيقية عاشت بالفعل؛ وبالتالي يكون من مؤسسي المدرسة الأسطورية في الدين والأدب التي خرجت من هيجل وشتراوس ورينان وغيرهم. ولا يعني ذلك الإقلال من شأن المعطيات النصية لأن المثال أو الفكرة تظل باقية في ذهن الإنسانية بصرف النظر عن قائلها. ولا يضير الأدب الشعبي شيئا في قدرته على تصوير حياة الشعوب بأنه مجهول المؤلف. فالعالم من صنع الإنسان، والأسطورة تعبر عن أعمق مستويات الحضارة، ولا يمكن أن يكتبها شخص واحد، وهو ما توصل إليه يونج وجويس وكاسيرر أيضا في العصر الحاضر، هوميروس ليس شخصية حقيقية تاريخية بل مثال، رجل من الطبيعة، فكرة من العصر البطولي لليونان، كنز يكشف عن القانون الطبيعي لليونان ولكل الشعوب والعادات القديمة. يدل على عقل اليونان وطبيعتهم، وعاشه اليونان بشفاههم وذاكرتهم. ويدلل فيكو على موقفه هذا بما قيل عن هوميروس: عماه، فقره، الإلياذة في الشباب والأوديسة في الشيخوخة لتفسير اختلاف الأسلوب وتباعد القرون بينهما، مولده في منطقة قريبة من مكان حرب طروادة، لغته الوطنية، الدفاع عنه ضد الاتهامات الموجهة ضده، العادات الشعبية التي يذكرها، المقارنات اللفظية، المصطلحات المحلية، كسر الأوزان، تغيير اللهجات، جعل البشر آلهة والآلهة بشرا، قضية الانتحال، صفات البطولة، المقارنات اللفظية، القسوة في وصف المعارك، الانفعالات الشديدة في صياغة العبارات، عظمة الأسلوب، استحالة التفوق عليه أو حتى تقليده (مثل إعجاز القرآن)، مؤسس السياسة والمدنية اليونانية، أب لكل الشعراء، مصدر لكل فلاسفة اليونان، كل هذه الأدلة تثبت أنه لا يمكن لهذه الأشعار أن تكون من تأليف شاعر واحد بعينه؛ فالناس تعيش تاريخها أولا ثم تسجله في شعرها ثانيا، فكل هذه الأساطير بدأت بروايات حقيقية حدثت بالفعل قبل أن يصوغها الخيال الشعبي. فهوميروس ليس شاعرا بل روح اليونان وطبيعتهم وتاريخهم وعاداتهم وقوانينهم وحياتهم. والشعر بهذا المعنى هو تاريخ الشعوب. وهذا لا يحط من شأن هوميروس، فالقيمة في الفكر وليس في التاريخ، وفي المثال وليس في الواقع، وإلا كان الله لا قيمة له لأنه لا واقع له. وهوميروس مثل بوذا ولاوتسي وكونفوشيوس والمسيح، خلق إنساني في صورة شخص، وروح الإنسانية تجسد نفسها في إنسان. والفكرة لا تحتاج إلى واقع كي توجد بل الواقع هو الذي يحتاج إلى فكر كي يخلد. وما أكثر الشخصيات التاريخية التي ليس لها ذكر وما أضخم فعل الأسطورة في حياة الناس، وكأن فيكو هنا قد استطاع الجمع بين هيجل وهيدجر، بين الروح التي تخلد وبين الشعر كمنزل للوجود.
خامسا: المراحل الثلاث لتطور
البشرية
مهمة «العلم الجديد» دراسة التاريخ في الزمان ومعرفة تطور الشعوب والأمم. فكل أمة تنهض وتتطور وتنضج ثم تنهار وتسقط. ويجعل فيكو هذه المراحل كلها في ثلاث هي عصور كل شعب وأعمار كل أمة؛ عصر الآلهة، وعصر الأبطال، وعصر البشر. ولا يفرد فيكو قسما خاصا من العلم الجديد لعرض هذا القانون بل يذكره في «فكرة الكتاب» ثم يطبقه في الكتابين الرابع والخامس. والحقيقة أن هذا القانون ليس من اكتشافات فيكو بل هو من وضع المصريين كما يصرح فيكو نفسه بذلك عشرات المرات، واستعمله المصريون لشرح تاريخ العالم قبلهم إذ كانوا يمثلون قمة الحضارة البشرية، ويدلل فيكو في البداية على صدق هذا القانون بوصفه لتطور أربعة أشياء؛ نظم الحكم واللغات والطبائع والقوانين. ففي عصر الآلهة يعيش الناس في ظل حكومة إلهية تضع كل شيء تحت رعايتها ووصايتها، وهي أقدم النظم في التاريخ القديم. وفي عصر الأبطال تسود الأرستقراطية بدعوى تفوق النبلاء الطبيعي على الدهماء. وفي عصر البشر يصبح البشر جميعا متساوين في الطبيعة، وتقوم نظم سياسية شعبية وملكيات وحكومات إنسانية.
وفي مقابل هذه الحكومات الثلاث هناك لغات ثلاث تكون هي لغة العلم؛ أولا: لغة عصر الأسر عندما بدأت الشعوب الأولى تدخل الإنسانية، وهي لغة صامتة، مجرد علامات وأشياء طبيعية لها صلة بالأفكار والرغبات التي يراد التعبير عنها. ثانيا: اللغة الصوتية بواسطة شعارات الأبطال ومشابهاتهم ومقارناتهم وصورهم واستعاراتهم في عصر الأبطال. ثالثا: اللغة الإنسانية وهي لغة اتفاقية بين الشعب في عصر النظم الشعبية والملكية يتحدث بها الخاصة والعامة، النخبة والدهماء. وهي اللغات الثلاث التي تحدث بها المصريون؛ اللغة الهيروغليفية، لغة الدين والسحر؛ واللغة الرمزية لغة الأبطال؛ ولغة الرسائل أو الدهماء في الحياة اليومية. وهي نفس اللغات الموجودة عند الكلدانيين والجرمان وكل الشعوب القديمة. وقد عاشت اللغة الهيروغليفية مدة طويلة نظرا لإحاطة مصر بالأعداء والغرباء مما دعا المصريين إلى التمسك بلغتهم دفاعا عن النفس، وإحساسا بالعزة والفخر، وتمسكا بالاستقلال، وحرصا على الكرامة الوطنية، وكما هو الحال أيضا في الصين بالنسبة للغة الصينية. اللغة الإلهية تكون عن طريق الحركات الساكنة أو الاحتفالات ثم تكون بطولية بالسلاح والحرب وأخيرا لغوية بالحروف وهو ما تستعمله جميع الشعوب اليوم. والحروف أيضا تبدأ هيروغليفية ثم تصبح بطولية عن طريق الخيال لكي تصبح في النهاية إنسانية شعبية عن طريق الكلمات.
ويكشف تطور اللغة والحروف عن تطور الطبيعة البشرية ذاتها وأن اللغة تمثل بدايات التعبير عند الشعراء، فتبدأ الطبيعة خيالية ثم بطولية ثم إنسانية عاقلة متواضعة تعترف بقوانين الشعور والعقل والواجب والأخلاق.
ويقابل ذلك ثلاثة قوانين: اللاهوت الصوفي عندما كانت الآلهة تقود الشعوب، وكان حكامها الشعراء اللاهوتيون الذين عبروا في أشعارهم عن النبوءات والمعجزات. والقانون البطولي الذي يقوم على المساواة المدنية أو أسباب الدولة. فقد ظن الأبطال أن عليهم تقنين سلوك البشر والتفرقة بين ما ينبغي أن يكون وما هو كائن، وهو ما يظهر في مجموع الوصايا والقوانين. وأخيرا القانون القائم على المساواة الطبيعية في نظم الحكم الحرة حيث يكون القانون عاما وشاملا. فالقانون الطبيعي يكون إلهيا أولا ثم بطوليا ثانيا يعتمد على قانون القوة تحت سلطة الدين، وإنسانيا ثالثا يعتمد على العقل.
وعرض فيكو للعادات والفقه والسلطة والعقل والأحكام وعصور التاريخ ذاتها مبينا المراحل الثلاث في كل إبداع إنساني. فالعادات تبدأ دينية ثم تصبح بطولية وتنتهي بأن لكل إنسان إحساسا بالواجب طبقا لحسه المدني الطبيعي. وإن الفقه يبدأ إلهيا في اللاهوت الصوفي أي علم الكلام الإلهي لفهم الأسرار الإلهية، ثم يصبح فقها بطوليا كما هو الحال في الحكمة. وينتهي أخيرا إلى فقه إنساني يأخذ الحقائق من الواقع نفسه، ويصاغ القانون طبقا لمقتضيات المساواة ونظام الحكم الشعبي الحر حتى ولو كان ملكيا لأن الملكية نظام إنساني. والسلطة تبدأ معتمدة على العناية الإلهية وتقوم على الملكية الخاصة ثم تصبح بطولية تقوم على القانون وأخيرا إنسانية تقوم على الثقة في ذوي الخبرات وعلى الحكمة والحيطة في الأمور العملية والحكمة الرفيعة في الأمور السامية. والعقل ذاته يبدأ إلهيا ثم يصبح عقل الدولة ثم يصير في النهاية العقل الطبيعي. والأحكام التي تصدرها تكون أولا إلهية طبيعية ثم تصبح أحكاما عادية وأخيرا تصير إنسانية طبقا لمقتضيات الواقع وإلزامات الضمير، والمساواة بين البشر في النافع بالإضافة إلى التواضع الطبيعي وحسن النية.
ويدلل فيكو على المراحل الثلاث بمزيد من البراهين المستمدة من التطور الزماني والسياسي؛ فالعصور نفسها تبدأ إلهية تحت حكم الدين ثم حكم المدن وأخيرا يظهر الإنسان الطبيعي بتواضعه وعقله والقانون الطبيعي. وتطور النظم الأرستقراطية ذاتها من حراسة الحدود إلى حراسة النظم والمؤسسات إلى حراسة القوانين. كما تتطور النظم الدستورية من الأثقل إلى الأخف فيتم تخفيف العقوبات، وتمحي الحروب تدريجيا ويعم السلام بين الشعوب. فالتطور يسير نحو الإنسانية. والحقيقة أن المراحل الثلاث كلها تعبر عن ثلاثة معاني للإنسان، الإنسان الإلهي والإنسان البطولي والإنسان الإنساني. الإنسان يعني الإلهية أو البطولية أو الإنسانية. فقد يكون البطل والإنسان في مقابل الله، وقد يكون الإنسان في مقابل الله والبطل. الإنسان هو ما يصبحه الإنسان في المرحلة الثالثة.
ولكن لكل شعب أكثر من دورة وهو ما يسميه فيكو المسار الثاني للشعوب ويعرض له في الكتاب الخامس. فالإنسانية بين مد وجزر. تكون الدورة الأولى طبيعية، وتكون الدورة الثانية تاريخا. الدورة الأولى حكم والثانية نقض وإبرام! فالمسار الأول ليس له الكلمة الأخيرة لأن تاريخ العالم له الكلمة الأخيرة؛ فتاريخ العالم هو الحكم النهائي والقضاء أخيرا كما هو الحال في عبارة هيجل المشهورة
Welt Geschichte ist Weltgericht . فالمرحلة الأخيرة عند كل شعب لا تدوم إذ لا يلبث الفناء أن يدب إليها، فالترف وحب المال وسيادة الأنانية كل ذلك يسبب ظهور الطبقات الاجتماعية وإفساد النظم السياسية، ولا يقوى المجتمع حينئذ أمام الغزوات الخارجية فينهزم ويعود إلى حالة التوحش والبربرية، ولكنه لا يبدأ من حيث انتهى بل يستفيد من تجاربه السابقة، ويبدأ من نقطة أكثر تقدما من النقطة الأولى التي بدأ منها أولا؛ وبالتالي يكون التقدم عند فيكو دائريا ومستقيما في آن واحد، وهو التصور الحلزوني لتقدم التاريخ، أي التصور الدائري الصاعد إلى أعلى يجمع بين الدائرة والخط، وتعود كل المؤسسات والنظم والعادات والتقاليد واللغات والقوانين تأخذ دوراتها الثلاث من جديد، ولكن هذه المرة تكون المرحلة الإلهية أقصر من الدورة الأولى، وتكون المرحلة البطولية أطول من الدورة الأولى ، وتكون المرحلة الإنسانية أطول بكثير من المرحلة الأولى. ولا يتساءل فيكو: وبعد الدورات الثالثة والرابعة والخامسة ... إلخ هل يمكن أن تتقلص المرحلة الإلهية إلى الصفر، والمرحلة البطولية إلى أصغر مدة ممكنة وتمتد المرحلة الإنسانية كل الوقت؟ أو هل يمكن أن تتقلص المرحلتان الإلهية والبطولية وأن تعيش الإنسانية مرحلة الإنسانية إلى نهاية الزمان؟ يبدو أن المراحل الثلاث ضرورية وحتمية وأنها في كل دورة تبقى في النوع، ويكون الخلاف فقط في طول المدة أو قصرها.
ويعطي فيكو أمثلة لهذه الدورات؛ ففي الحضارة اليونانية تظهر المرحلة الدينية عند هوميروس، والبطولية في إسبرطة والإنسانية في أثينا حيث ازدهرت النزعة الإنسانية والحياة الديموقراطية. وفي الحضارة الرومانية تظهر المرحلة الدينية عند رؤساء العشائر وفي تقديس الآباء، والبطولية عند نشأة الصراع بين العامة والأمراء، والإنسانية عند قيام الجمهورية وإعلان الحقوق الإنسانية العامة. وفي الحضارة الغربية تظهر المرحلة الدينية منذ القرن الخامس الميلادي بعد غزو البرابرة الإمبراطورية الرومانية حيث سقطت روما وعادت إلى مرحلة الدين والتأليه، والبطولية في عصر الإقطاع والفروسية والحرب في العصر الوسيط، والإنسانية في عصر النهضة وظهور النزعة الإنسانية. ولا ينسى فيكو ذكر الشعوب غير الأوروبية أيضا ومراحل تطورها، فتظهر المرحلة الدينية في روسيا نظرا لإيمانها الشديد وتسلط القياصرة بالإضافة إلى بلادة شعوبها وكسلها وتواكلها، ويشاركها بلاد التتار والصين والحبشة ومراكش! وتظهر المرحلة البطولية في اليابان لما عرف عنها من شيم البطولية والتضحية، والإنسانية لدى الشعب البولوني والشعب البريطاني. ويلاحظ أن الشرق عند فيكو هو كل ما ليس بأوروبا بما في ذلك آسيا وأفريقيا والجزيرة البريطانية وبولونيا، وأنه استبعد روسيا وبريطانيا من أوروبا، وأنه وضع الصين والتتار والحبشة ومراكش كل ذلك في الشرق دون تفرقة بين الشرق الآسيوي في الصين والتتار، والشرق الأفريقي في الحبشة ومراكش.
سادسا: خاتمة: حدود فلسفة التاريخ
عند فيكو
بالرغم من أهمية «العلم الجديد» وتأسيس فلسفة التاريخ على يد فيكو قبل لسنج وكانط وهردر في ألمانيا وتورجو وفولتير وكوندرسيه وكورنو في فرنسا، واكتشافه التقدم البشري وتطوره في قانون المراحل الثلاث الذي أصبح نموذجا يحتذى به عند جميع الفلاسفة منذ لسنج حتى كونت، وتأكيده على الإنسان العاقل المستقل كقيمة في ذاته، هدف التطور وذروته، والمساواة الطبيعية بين الأفراد والشعوب، وارتباط المراحل السابقة بالجهل والخوف، وهو الدرس المستفاد من جميع فلاسفة التنوير - بالرغم من هذا كله إلا أن فلسفة التاريخ لديه لها حدود تكشف عن وضع هذا «العلم الجديد» في الحضارة الغربية وإمكانية تطويره وإكماله خاصة وأنه ما زال في البداية عند فيكو لم ينته بعد. وتتمثل هذه الحدود في عدة نقاط أهمها: (1)
غلب على الموضوع التفصيلات الكثيرة التي طغت على التصور العام للتاريخ مما أفقد العلم أساسه النظري التصوري. صحيح أن هذه التفصيلات مهمة ودقيقة ولكنها تكون غير ذات دلالة لغير المتخصص في الآداب القديمة والتاريخ القديم. وصحيح أيضا أن فيكو، مثل بيكون من قبل، أراد اتباع منهج الاستقراء لتأسيس العلم الجديد والانتهاء من الجزئيات إلى الكليات، إلا أن الكليات أيضا قوانين مطردة لا تنخرم وهو ما تحاشاه هيجل بعد ذلك بالتركيز على التصور دون الجزئيات. (2)
كثرة التحديدات الزمانية والمكانية جعل «العلم الجديد» أقرب إلى تاريخ الأدب القديم منه إلى فلسفة التاريخ. وكان هردر أكثر احتراسا وحذرا عندما خصص كتابه الأول «فلسفة أخرى للتاريخ» للعرض النظري، وكتابه الثاني «آراء في فلسفة تاريخ الجنس البشري» للتحديدات الزمانية والمكانية والوقائع والتواريخ بالاعتماد على المراجع والوثائق. ويصعب تأسيس «العلم الشامل» على العلم بالوقائع والجزئيات خاصة وأنه في مجالات الدراسات التاريخية قد تصحح الوقائع والتواريخ وبالتالي يصعب إقامة اليقين الشامل على الاحتمال الجزئي. (3)
تغلب على «العلم الجديد» التحليلات اللغوية والعبارات البلاغية اللاتينية. وقد كان فيكو أستاذا للغة اللاتينية وآدابها، ولم يستطع التخلص من مادة الدراسة إلى موضوع الدراسة كما فعل ابن رشد في «تلخيص الخطابة» عندما أسقط أمثلة اليونان مع الإبقاء على الموضوع ذاته. وقد يصعب على غير العليم بالأساطير اليونانية واللاتينية وبأنساب الآلهة وأسمائها أن يتابع فيكو في براهينه واستدلالاته. (4)
صعوبة قبول التفسيرات الأسطورية لبدايات البشرية ولنشأة النظم الاجتماعية كما يفعل فيكو في تفسيره لنشأة نظام الأمومة ابتداء من الرعد والبرق في السماء واضطرار العمالقة الوحوش إلى الاختفاء في الكهوف والجحور لإتيان الفعل الجنسي في الخفاء بدلا من العراء. كما يصعب تفسير بدايات الجنس البشري بالطوفان وقد عاش نوح أربعين قرنا قبل المسيح، والإنسانية سابقة على هذا بكثير. إن الأسطورة قاموس للذهن البشري كما يقول فيكو ، وتدل على بدايات التفكير البشري وكيف استطاع الإنسان أن يصور ذاته، ولكنها لا تدل على بداية الجنس البشري. هناك فرق إذن بين الفلسفة والعلم أو بين الروح والتاريخ، ولكن يبدو أن فيكو يوحد بينهما كما فعل هيجل بعده. (5)
ظهور التطور من خلال النظم الاجتماعية عند فيكو يعطي لها الأولوية على كل مظاهر الروح الإنساني؛ فالنظام الاجتماعي، مثل الدين عند هيجل، هو كل شيء، يكشف عن الدين والسياسة والأخلاق والقانون والاقتصاد والفن. فالتاريخ عند فيكو أقرب إلى التاريخ الاجتماعي منه إلى التاريخ العام. وفلسفته في التاريخ أقرب إلى فلسفة التاريخ الاجتماعي منها إلى فلسفة التاريخ البشري. وقد تكون النظم الاجتماعية تعبيرا عن نظام أكثر عمقا هو نظام «الروح» بتعبير هيجل أو الروح البشرية عندما تصنع ذاتها. (6)
يبدو أن فيكو لا يعتبر نظم الحكم الشعبية الديموقراطية نهاية المطاف في تطور نظم الحكم من عصر الآلهة إلى عصر الأبطال إلى عصر البشرية. ويصف النظم الملكية والأرستقراطية أحيانا بأنها أيضا تنسب إلى عصر البشر. وأن الملوك والنبلاء قد أفادوا وساهموا في تطور نظم البشرية، فهل كان فيكو يعبر عن روح القرن السابع عشر عصر الملكيات والإمارات أكثر مما يعبر عن روح القرن الثامن عشر عصر الثورات والجمهوريات؟ يكون اسبينوزا بالرغم من أنه عاش في القرن السابع عشر إلا أنه بتصوره للمواطن الحر في الدولة الحرة التي تقوم فيها السلطة على العقد الاجتماعي والتعاقد الحر بين الأفراد أكثر تقدما من فيكو وأكثر تعبيرا عن روح القرن الثامن عشر. بل يكون فيكو أقرب إلى هوبز ومكيافيللي في تبرير سلطة الأمير والحاكم منه إلى الدفاع عن حقوق الشعب والنظم الشعبية. (7)
لم يستطع فيكو التخلص من بعض العقائد اللاهوتية وعلى رأسها عقيدة العناية الإلهية وتحويلها إلى قانون للتقدم؛ فالعناية الإلهية مذكورة من أول «العلم الجديد» إلى آخره، ولا يجد فيكو فرصة إلا وأشار إليها. فالعلم الجديد يدرس الطبيعة المشتركة للشعوب والأمم في ضوء العناية الإلهية، وقانون التطور نفسه من أفعال العناية الإلهية أو يقتضي على الأقل الإيمان بها . بل إن الوثنيين أيضا يدخلون ضمن العناية الإلهية الشاملة، والمحكمة العليا للتاريخ هي محكمة العناية الإلهية التي يتحدد فيها المسار الثابت للشعوب. صحيح أنها لا تدخل ضمن البديهيات التي تعطي المبادئ العامة للعلم لأنها أقرب إلى مادة العلم منها إلى صورته، ولكنها تكون خاتمة «العلم الجديد» حين يضع فيكو نظاما للحكم أبديا طبيعيا تنظمه العناية الإلهية. ويبدو أن هذا النظام الأمثل هو النظام الحقيقي الطبيعي الأرستقراطي الذي تقره العناية الإلهية. ولا عجب أن تكون آخر عبارة في «العلم الجديد» هي: «هذا العلم لا ينفصل عن التقوى. ومن لا يكون تقيا لا يمكن أن يكون حكيما حقيقيا.»
1 (8)
يستبعد فيكو باستمرار في أحكامه على الدين التراث العبراني والمسيحي إما لأنه يعتقد ذلك حقيقة وإما تقية حتى يترك للأجيال التالية تعميم الحكم العلمي على كل تراث ديني كما فعل ديكارت في استثناءاته ثم تطبيق اسبينوزا منهج الوضوح والتميز عليها فيما بعد. ويكون لسان حال فيكو «الكلام لك واسمعي يا جارة.» يدرس «العلم الجديد» تاريخ الشعوب وليس العبرانيين والمسيحيين لأنهم قوم منعزلون منفصلون. كما يبين نشأة أولاد سام من اللاعبرانيين نشأة أسطورية في حين أن العبرانيين لم ينشئوا كذلك. كما استثنى العبرانيين من نظام الرق، ومن كل حكم يراه فيكو منافيا للعقل وللأخلاق. هل هو خوف أم ذكاء؟ اقتناع أم خداع؟ (9)
لا شك أن فيكو يتعامل مع الحضارتين اليونانية والرومانية باعتبارهما ثقافته الوطنية؛ فقد ورثت الحضارة اللاتينية الحضارة اليونانية إبداعا في الأقل وتقليدا في الأكثر. وكان من الطبيعي أن تتحول هذه الثقافة الوطنية من مرحلة إلى مرحلة، من العصور الوسطى إلى العصور الحديثة. ومن طريق هذا التحول، إعادة بناء المحاور والبؤر من الله إلى الإنسان، ومن الرأسي إلى الأفقي؛ ومن ثم فإن فيكو لا يؤسس «العلم الجديد» إلا من خلال إعادة بناء ثقافته الوطنية وليس ثقافات كل الشعوب. (10)
لذلك خرج هذا التميز الشائع في الحضارة الأوروبية باعتبار اليونان والرومان بدايات التاريخ البشري وأن الغرب نهايته وكماله، خاصة في ألمانيا أو فرنسا أو إيطاليا، طبقا لحضارة الفيلسوف التي ينتسب إليها. وكان من الطبيعي أن تتوارى الحضارات الشرقية في مصر والصين والهند وفارس، وحضارات ما بين النهرين. والحديث عن المحمديين على أنهم مؤمنون بإله واحد وبالملاذ الحسية في المعاد، وعن العرب الأميين الذين يجهلون الكتابة ويحفظون تراثهم شفاهيا إلى أن اتصلوا بالبيزنطيين، وعن اعتبار المسيحيين الأتراك (أي المسلمين بمعنى المؤمنين الحقيقيين) كلابا واعتبار الأتراك المسيحيين خنازير نموذج لصورة الشعوب المغلوبة في أذهان الشعوب الغالبة. هذا التمركز على الذات في الغرب وجعله محور التاريخ هو الداء الدفين في كل فلسفات التاريخ الغربية. وقد آن الأوان للشعوب غير الأوروبية تصحيح الوضع وإعادة كتابة تاريخ البشرية بمزيد من العدل والمساواة بين تراث الشعوب.
الاغتراب الديني عند فيورباخ1
ليس في هذا المقال ما يمس ديننا الحنيف بل هو دراسة للمسيحية واليهودية والوثنية أي للأديان السابقة على الإسلام وليس لخاتم الأديان.
كما أنه دراسة لمقالات علماء الكلام وليس دراسة للدين في ذاته ويشبه تحريم فقهاء المسلمين لهذا العلم والتحذير منه.
أولا: مقدمة: جوهر المسيحية
(1)
فيورباخ والهيجليون الشبان:
بالرغم من أن موضوع الاغتراب قد تناوله الكتاب والشعراء الرومانسيون مثل روسو (1713-1778م) وجوته (1749-1832م) وشيلر (1759-1805م) إلا أنه لم يصبح مفهوما فلسفيا إلا عند فشته (1762-1814م). فاغتراب الأنا لديه هو خلقها لعالم مجرد لا حياة فيه ولا صراع، ثم عند هيجل خاصة في أعمال الشباب اللاهوتية، حيث كان اغترابا دينيا طبقا للتصورات المسيحية؛ الخطيئة والسقوط والطرد والحرمان.
ولكنه أصبح مفهوما رئيسيا لدى الهيجليين الشبان؛ شتراوس (1808-1874م) وباور (1792-1882م) وفيورباخ (1804-1872م)، وشترنر (1806-1856م) بمعنى اغتراب الشعور أو العقل أولا، ثم عند ماركس وأنجلز بمعنى الاغتراب الاجتماعي، اغتراب العامل عن عمله، وغربة الإنسان عما ينتج في المجتمع الرأسمالي. وهو المعنى الذي كان سائدا في كتابات الليبراليين الألمان وفلاسفة التنوير نتيجة لضياع الشخصية الإنسانية في علاقات الملكية الاجتماعية. فالاغتراب، بصرف النظر عن معانيه القانونية والطبية والنفسية، يتأرجح بين المعنيين الديني والاجتماعي؛ لذلك جعل الهيجليون الشبان نقد الدين مقدمة لنقد المجتمع. والنقد هنا لا يعني الهدم أو التجريح بل يعني بيان الإمكانيات والوظائف التي يقوم بها الذهن البشري في إدراكه للعالم وتصوره له (فالهيجليون كلهم في نهاية الأمر تلاميذ كانط وشارحو فلسفته النقدية).
ويبدو أن البناء الفلسفي الثلاثي الأبدي قد تحكم أيضا في الهيجليين الشبان. فإذا كانت المذاهب الفلسفية ثلاثة؛ المثالية والواقعية والوجودية أو الفكر والواقع والوجود الإنساني، فالموضوعات الفلسفية ثلاثة؛ الله والعالم والإنسان، فقد ظهر هذا البناء في تاريخ الفكر البشري في كل حضارة. فعند اليونان ظهر أفلاطون وأرسطو وسقراط. وفي الفلسفة المسيحية ظهر القديس بونافنتير والقديس توما الأكويني والقديس أوغسطين (بصرف النظر عن الترتيب الزماني). وفي الفلسفة الأوروبية ظهرت المثالية عند العقليين والواقعية عند التجريبيين والوجودية عند الوجوديين. كما ظهر عند الهيجليين الشبان باور، وفيورباخ، وشترنر. فقد ركز باور على الجانب العقلي المثالي والوعي الذاتي كما اتجه فيورباج نحو الطبيعة والواقع العيني ثم لجأ شترنر إلى الوجود الإنساني، الواحد وصفاته. يمثل الهيجليون الشبان أو اليسار الهيجلي وحدة فكرية، ونسقا واحدا، منذ بدايتهم عند شتراوس أو مركزهم عند باور وفيورباخ وشترنر أو نهايتهم عند ماركس وأنجلز.
ويمثل الهيجليون الشبان بالنسبة لنا أهمية خاصة؛ ففي فكرنا العربي المعاصر قفزنا من هيجل إلى ماركس دون المرور بهذه المرحلة الانتقالية التي يمثلها الهيجليون اليساريون، وهي مرحلة التحول من الفكر إلى الواقع، دون نقد الدين كما فعل فيورباخ أو نقد الفكر كما فعل باور أو نقد الأنا كما فعل شترنر، وكأن النقد الاجتماعي عند ماركس وأنجلز ما هو إلا حصيلة مجهود طويل في نقد الأسس النظرية للبناء الاجتماعي في الدين والفكر والشعور. ما زلنا في فكرنا العربي المعاصر متأرجحين بين هيجل وماركس، بين المثالية والواقعية دون الانتقال من أحدهما إلى الآخر على نحو طبيعي. وأغفلنا التاريخ وحركته لغياب البعد التاريخي في وجداننا المعاصر؛ لذلك لم نصبح لا هيجليين ولا ماركسيين، وأصبح الاختيار بينهما عشوائيا صرفا يتم عن طريق المزاج والتربية دون تحليل للواقع المباشر، والتعرف على اللحظة التاريخية التي نمر بها. إن اكتشاف الهيجليين الشبان باور وفيورباخ وشترنر في جيلنا هو في الوقت نفسه اكتشاف للحلقة المفقودة في تطورنا ، وتأصيل لما نحاوله منذ فجر نهضتنا القومية من تقدم ونهضة وازدهار، وكأن مأساتنا كانت في فقد الحلقات المتوسطة التي تربط بين الأطراف المتباعدة من أجل نظرة تكاملية. وهو ما قام به تراثنا القديم بمحاولته الجمع بين رأيي الحكيمين؛ أفلاطون الإلهي وأرسطاطاليس الحكيم.
1
كان فيورباخ بحق، وعلى ما يقول ماركس «قناة النار» كما يدل عليه اشتقاق الاسم «
Feuer, Feurbach = نار،
Bach = قناة» يتطهر من خلالها كل فيلسوف يريد الانتقال من المثالية إلى الواقعية، ولكن للأسف انتقل البعض منا إلى الماركسية دون أن يتطهر في «قناة النار»؛ ومن ثم تحولت الماركسية إما إلى دجماطيقية من داخلها أو عارضتها الدجماطيقية من خارجها ومنعتها من إحداث الأثر التنويري في أذهان الناس. إن المجتمع النامي الناهض الذي ينتقل من القديم إلى الجديد، ومن التسليم إلى التفكير، ومن الموروث إلى النقد في حاجة إلى تنوير أكثر مما هو في حاجة إلى تثوير؛ فالتنوير شرط التثوير، والتثوير بلا تنوير مجرد تغير اجتماعي أو انقلاب في الأوضاع تحدثه السلطة القائمة في المجتمع ويتغير بتغير السلطة؛ فهو تغير اجتماعي يقوم على أساس نظري متخلف، ولا بقاء له إلا ببقاء السلطة الضامنة له؛ وبالتالي يظل خارجيا لا يحدث أثرا فعليا لا يخلقه وعي ولا يخلق هو وعيا.
إن نقد ماركس للهيجليين اليساريين نشأ بعد أن تمثل الوعي الأوروبي كل القيم الليبرالية في القرن الثامن عشر وحدثت الثورة الفرنسية بشعاراتها الثلاث؛ الحرية والإخاء والمساواة. تصور الهيجليون الشبان أن الأيديولوجية يمكن أن تظل العامل الأول لتحقيق الأهداف القومية مثل الوحدة الألمانية، تحرر الأقليات المضطهدة (اليهود)، إعادة بناء المواطن؛ وبالتالي يمثل نقد ماركس للهيجليين اليساريين تقدما بالنسبة لليبرالية وذلك بعبارته المشهورة: «إن الحزب البروليتاري هو الوريث الوحيد للأفكار.» وذلك لأن أفكار الحرية والعدالة والمساواة والوعي الذاتي والفردية لا تحدث بذاتها تغييرا اجتماعيا دون عمل جماعي يحققها بالفعل. فالحزب البروليتاري هو الذي سيربط الجرس في رقبة القط أي أنه هو الذي سيحقق بالفعل هذه الأفكار في الواقع العملي. (أما بالنسبة لنا فإننا لم نتمثل الليبرالية بعد، ولم نتحقق بمثلها، ولم تحدث الأفكار الأثر المرجو في نهضتنا المعاصرة. لم تحدث لدينا ثورة فرنسية قامت على أكتاف المفكرين الأحرار بل قامت ثوراتنا على أيدي الضباط الأحرار فحدث تغير في الهيكل الاجتماعي دون إحداث تغيير مواز في البناء الفوقي، مما أدى إلى انتكاس معظمها؛ ومن ثم فإن نقد ماركس للهيجليين الشبان يصبح غير ذي موضوع بالنسبة لجيلنا الحالي. ويظل الهيجليون الشبان بالنسبة لجيلنا يعبرون عن لحظتنا التاريخية الراهنة في التحديث وإقامة أسس النهضة.)
ويمتاز فيورباخ عن أقرانه بأنه أوقعهم صدى، وأبلغهم أثرا، وأكثرهم تحديا مثل اسبينوزا في القرن السابع عشر وفولتير في القرن الثامن عشر (وقد يصعب الحديث عن فيورباخ من فيورباخي، وعن الهيجليين الشبان من هيجلي شاب؛ فلذلك ميزة وعيب، ميزة الاتحاد مع الموضوع وفهمه من الداخل، وعيب استحالة التفرقة بين العرض والتحليل، بين فيورباخ الموضوع وفيورباخ الباحث في عصر يحتاج إلى فيورباخ). ومع ذلك فقد تناولت هذه الدراسة عرض «الاغتراب الديني عند فيورباخ» من خلال تحليل مؤلفه الأساسي «جوهر المسيحية»، فالأفكار كلها فيورباخ مسئول عنها وليس للباحث إلا التحليل والشرح والعرض والتأويل (كما فعل فلاسفة المسلمين مع فلاسفة اليونان بوجه عام وكما فعل ابن رشد مع أرسطو خاصة). ولم نشأ عقد مقدمة عن حياة فيورباخ وأعماله فذلك ما سيتم في دراسة مستقلة عن قريب.
2
واقتصرنا على عرض «جوهر المسيحية» للكشف عن الاغتراب الديني الذي هو أساس الاغتراب الاجتماعي. وأكرر وأقول: ليس الباحث مسئولا عن أفكار فيورباخ بل المسئولية تقع على عاتق فيورباخ وحده.
ظهرت الطبعة الأولى لكتاب فيورباخ «جوهر المسيحية» في 1841م والطبعة الثانية في 1843م. وأصبحت مقدمة كل طبعة من الذيوع والشهرة لدرجة أن كلا منهما تمثل عملا فلسفيا بمفرده.
3
وتعني كلمة
Wessen
بالألمانية ماهية أو جوهرا أو وجودا أو حقيقة. وتدل على هذه المعاني الأربع داخل الكتاب. وتترجم بألفاظ مختلفة. يبحث فيورباخ عن ماهية المسيحية أي أساسها وجوهرها وحقيقتها، وهو بذلك يكون سابقا على هوسرل في بحثه عن الماهية وجعل الفينومينولوجيا «علم الماهيات». ولا يبحث فيورباخ عن ماهية المسيحية وحدها بل يعمم أحكامه حتى تشمل الدين بوجه عام.
4 (2)
الكشف عن الاغتراب من خلال فلسفة الدين:
يرى فيورباخ أنه لا يتم الكشف عن الاغتراب إلا من خلال فلسفة الدين؛ فالاغتراب أساسا هو الاغتراب الديني، والاغتراب الديني هو أساس كل اغتراب فلسفي أو اجتماعي أو نفسي أو بدني. فإذا كان الاغتراب هو انقلاب الأنا إلى آخر فإن هذا الانقلاب يحدث أساسا في تحول الإنسان إلى الله قبل أن يتحول الإنسان إلى عمل أو إلى نظام أو إلى مؤسسة أو إلى كون. فالاغتراب الديني هو أسهل اغتراب وأسرعه وأكثره مباشرة. فإذا ما حدث زلزال في كيان الإنسان وخلل في وجوده الشرعي ظهر ذلك في اللجوء إلى الله كسند وتعويض، وأصبح الإنسان في موقف زائف. فلسفة الدين إذن هي الميدان الذي يمكن من خلاله اكتشاف الاغتراب. فما هو الوضع الحالي لفلسفة الدين؟
هناك خطآن أساسيان في الفكر الديني؛ الأول: اعتبار الروايات الدينية والأخبار والقصص والآراء والأساطير وكل ما يرويه الرواة وتقصه النساء حقائق تاريخية تقابل شيئا في الواقع، وهو خطأ الفلسفة الوضعية التي لا تفترق عن الفلسفة العامية الشعبية في شيء؛ والثاني: اعتبار قواعد الإيمان حقائق فلسفية يمكن البرهنة عليها عقلا بالمنطق والدليل، وهو خطأ الفلسفة التأملية التي حولت العقائد إلى نظريات خاصة. وكانت النتيجة أن ضحت الفلسفة الوضعية بالفلسفة من أجل الدين كما ضحت الفلسفة التأملية بالدين من أجل الفلسفة. الأولى تجعل العقل ألعوبة في يد المادية الشعبية، والثانية تجعل الدين ألعوبة في يد التأمل الفلسفي. الأولى تجعل الدين يتحدث بدلا عن العقل، والثانية تسمح للدين أن يقول ما تستطيع هي أن تقوله على نحو أفضل. الأولى عاجزة عن الوصول إلى حقائق الأشياء فتحيل الصور إلى وقائع، والثانية عاجزة عن الخروج عن نفسها والاتصال بالصور فتحيلها إلى أفكار ونظريات.
والحقيقة أن الفلسفة والدين شيء واحد على الرغم مما يبدو بينهما من خلاف لأن هناك وجودا واحدا مفكرا يعبر عن فكره في صور وأشكال مختلفة لا تناقض بينها بل على مستويات مختلفة من التعبير الأدبي. فالقدرة الإلهية المطلقة كفكرة تعني المعجزات كصورة ومثل، كما تعني البعث والنشور. ولا يظهر التناقض إلا بعد الفصل بين الإيمان والعقل وهو ما لا يقبله أي اتجاه مستنير في فلسفة الدين.
ويبدو فيورباخ هنا معتزليا يفسر اليد بالقدرة، والعين بالعلم، ويحول التشبيه إلى تنزيه بشرط أن يكون هذا العقل هو العقل الشامل. العقل الطبيعي الذي يتسق مع نفسه ويتسق مع الطبيعة وليس العقل الخاص عقل الإيمان، العقل هو القاعدة العامة، والإيمان هو الاستثناء الخاص؛ لذلك ارتبط الإيمان بعصر تاريخي معين، وبمكان محدد، وباسم خاص. التوحيد بين العقل والإيمان يذيب الإيمان ويحيله إلى عقل فيتحول الخاص إلى عام؛ فالخطيئة تعني أن الإنسان الطبيعي ليس كما ينبغي أن يكون، وهو ما يسلم به الناس جميعا. لا يؤمن بالخطيئة الأولى إلا المعتقدون بها. مهمة الفكر إذن تحويل مضمون الإيمان إلى عقل. وهنا يبدو فيورباخ هيجليا صرفا. يهدف من «جوهر المسيحية» إلى بيان هذه الحقائق الإنسانية البسيطة وراء الأسرار الخارجة على الطبيعة. ومع ذلك يبقى الدين والفلسفة متمايزين بالصورة. فالدين في جوهره مأساة، والله نفسه وجود مأساوي أي موجود شخصي. ومن ينزع الصورة عن الدين ينتزع منه موضوعه ويتركه جثة هامدة لأن الصورة من حيث هي كذلك صورة شيء. ويعالج فيورباخ هذه الصور لا من حيث هي أفكار أو تدل على أفكار كما هو الحال في الفلسفة التأملية للدين لدى هيجل، ولا من حيث هي أشياء كما هو الحال في اللاهوت بل كصور. والصورة تعكس موقفا نفسيا. فلا يستعمل فيورباخ اللاهوت كعلم عملي صوفي كما هو الحال في الأساطير الدينية أو كأنطولوجيا كما هو الحال في الفلسفة التأملية، بل باعتباره مرضا نفسيا يعبر عن اهتزاز شعوري وارتجاج في المخ وهلوسة واضطراب. لقد استطاعت الحرية والشخصية في العصر الحديث تناول الدين واللاهوت وابتلاعهما كلية. وانتهت التفرقة بين الروح القدس المنتجة والروح الإنسانية المستهلكة. وتم تحويل ما فوق الطبيعة إلى الطبيعة. ومع ذلك ظل العصر الحاضر عاجزا أمام المسيحية كصورة، غير قادر على مواجهة هذا الشبح والحكم عليه بأنه مجرد وهم وخداع ذاتي. إن الأشباح ظلال الماضي؛ وبالتالي فإن تحليل الماضي يهدف إلى علاج الحاضر. يهدف فيورباخ إلى تأسيس علم الأمراض أو علم وظائف الأعضاء كمقدمة لعلم العلاج والعودة إلى طبائع الأشياء؛ إلى ماء الأيونيين عند طاليس وإلى نشأة الأشياء عند شيشرون عن طريق ممارسة شعار سقراط «اعرف نفسك بنفسك.» الاغتراب إذن هو موقف مرضي كما يصفه علم النفس. والقضاء عليه قضاء على المرض وجلب للشفاء. وهنا يبدو فيورباخ محللا نفسيا سابقا على فرويد في كتابه المشهور «مستقبل وهم»
The Future of Illusion . ويسمي فيورباخ منهج الكتاب منهج الكيمياء التحليلية أي تحليل النصوص من أجل إثبات نتائج التحليل وتأسيسها على نحو موضوعي. فإذا صدمت النتائج مشاعر الناس فالمسئولية لا تقع على الباحث فيورباخ بل تقع على عاتق الموضوع ذاته، وكأن فيورباخ يريد تطبيق منهج تحليل المضمون على النصوص الدينية. والرجوع إلى النصوص الأصلية القديمة أفضل بكثير من الرجوع إلى المسيحية المعاصرة؛ فالنصوص القديمة هي الوحيدة الجديرة بالتأمل أما أقوال المعاصرين فسطحية حسية ينقصها الشجاعة، ويغلفها الجبن والنفاق. النصوص القديمة تكشف عن المسيحية وهي عذراء في حين أن أقوال المعاصرين فقدت طهارتها وعفتها. كانت المسيحية القديمة غنية بكنوزها السماوية، فقيرة بممتلكاتها الأرضية، في حين أن المسيحية المعاصرة فقيرة بممتلكاتها السماوية غنية بكنوزها الأرضية. ولا توجد شواهد مسيحية معاصرة إلا هذه الشواهد الفقيرة التي لم توجدها المسيحية ذاتها بل التي أنتجتها العصور. (يحاول فيورباخ إذن الكشف عن الاغتراب عن طريق تحليل النصوص القديمة وإثبات أن الثيولوجيا ما هي إلا أنثربولوجيا مقلوبة وأن ما يظنه اللاهوتي على أنه وصف لله هو في حقيقة الأمر وصف للإنسان؛ فاللاهوتي يصف نفسه ظانا أنه يصف الله. ويقوم بعملية خفية وهي تشخيص صفاته الخاصة ثم إخراجها وتثبيتها على آخر، شخص خاص هو الله.) (يحاول فيورباخ أخذ النصوص القديمة عن الله وإعادة تحليلها تحليلا نفسيا وجوديا ليكشف عن المضمون الإنساني لهذه النصوص. ويقوم بعملية تفسير جديد لها، وذلك بإعادة بناء الموقف الماضي على أساس من الموقف الحاضر؛ وبالتالي يكون فيورباخ سابقا على بولتمان وهيدجر وعلم التفسير الحديث في الكشف عن الواقعة الإنسانية الحية من خلال تحليل النصوص الدينية القديمة. الأنثربولوجيا هي سر الثيولوجيا، وتاريخ العقيدة أو تاريخ اللاهوت هو في حد ذاته نقد للعقيدة في اللاهوت. لقد كانت الثيولوجيا في تاريخها الطويل أنثروبولوجيا، وكان موضوعها وهو الله وصفا للواقعة الإنسانية؛ وبالتالي يكون هيجل على حق في مهمته التاريخية في الكشف عن الروح في التاريخ، ولكن ما حاوله القدماء على نحو بعدي - بناء العقيدة في التاريخ - يحاوله فيورباخ على نحو قبلي بإرجاع النصوص إلى الواقعة الإنسانية. الثيولوجيا إذن اغتراب للأنثروبولوجيا، وعالم اللاهوت مغترب عن عالم الإنسان، والتفكير في الله اغتراب عن التفكير في الإنسان.) (3)
الاغتراب ونفاق العصر:
وفي مقدمة الطبعة الثانية وبعد صدور الكتاب أول مرة، يدافع فيورباخ عن مشروعه الذي قضى به على اغتراب الإنسان، وفند الاتهامات الموجهة إليه وعلى رأسها الإلحاد. لقد أعاد فيورباخ اكتشاف الله كنشاط وفاعلية في العالم، وهو الهيجلي الشاب، وقضى على اغتراب الإنسان وقذفه بنفسه خارجها وتشخيصها في صورة آخر وتأليه إياه. كان من الطبيعي أن تسوء علاقة فيورباخ مع كل المغتربين عن العالم وعن الذات وعن الله، ولكنها في الوقت نفسه كانت علاقة طيبة وصحيحة مع الأصحاء في العالم ومع ذواتهم ومع الله. كان من الطبيعي أن يحدث التمايز بين الحق والباطل، بين الصدق والكذب، بين الصواب والخطأ، بين الصحيح والزائف حتى يمكن إنقاذ المسيحية مما وقعت فيه من خطأ ومما اكتنفها من إظلام وإرجاعها إلى الموقف الصحيح. ومع ذلك نظر إلى فيورباخ على أنه مجرم في حق المسيحية واعتبره اللاهوتيون قد قضى على الدين إلى الأبد، في حين أن فيورباخ قد نقد كل الفلسفات الشائعة في عصره والتي اعتمد عليها اللاهوتيون للدفاع عن الدين أي عن الموقف الزائف للإنسان؛ فقد هاجم الفلسفة التأملية التي ابتلعت الدين، وقضت على خصوصيته لحساب الفكر. كما هاجم الفلسفة الوضعية لإنقاذ الإنسان وعدم تحويله إلى صنم ووثن. وقد كانت الضربة الكبرى هي التي وجهها فيورباخ إلى نفاق العصر، ومزايداته على الإيمان على لسان مدعي العلم في مجتمع طيب، مجتمع الحياد واللامبالاة وغياب الحماس، مجتمع الأوهام والحقائق المزيفة والشائعات (هذا المجتمع الذي يعتبر كل من يقول الحقيقة فيه وقحا، سيئ التربية، عديم الأخلاق. أصبحت الحقيقة هي اللاأخلاقية، واللاأخلاقية هي النفاق الذي ينفي المسيحية ويدعي إثباتها. اللاأخلاقية هو النفي الحقيقي للمسيحية، النفي الذي يعبر عن نفسه كنفي، هو التلاعب التعسفي بالمسيحية والإلغاء الفعلي لقواعد الإيمان وترك البعض الآخر، وكما يقول لوثر: إن قلب كل قواعد الإيمان أفضل من قلب واحدة فقط، هو الإلحاد في الحرية وليس في الله، هو أنصاف الحلول القائمة على الغباء دون يقين ثابت للذات، هو التناقض الفج دون دقة في التحليل وصدق في النتائج، هو التفاهة لأنها تقف عند منتصف الطريق ولا تنتهي إلى جوهر الأشياء ودون وصول إلى النهاية. هو الكذب الذي يخفي الحقيقة وشرها في قلبها والتفكر فيها. وهكذا يصف فيورباخ حال العصر وعدم قدرته على مواجهة الحقائق في حين أن الاعتراف بالحق فضيلة، ولكن مشكلة العصر في أساسها مشكلة أخلاقية في نقص الشجاعة وسيادة النفاق).
بحث فيورباخ عن العلم الحي وليس عن العلم الميت، وأراد حقيقة مكتوبة بدماء القلب على صفحات التاريخ وليس حقيقة مكتوبة بالمداد على ورق أجوف. الحقيقة هي الإنسان وليس العقل المجرد، وعلى هذا النحو يمكن القضاء على الاغتراب الذي هو تضحية بالعياني في سبيل المجرد، وقضاء على الإنسان في سبيل الآخر الذي تم خلقه وهما وخداعا. ليس العلم هو العلم الميت البارد كما هو الحال في علم العصر، بل هو العلم الحي الذي يختلط بلحم الإنسان وبدمه، ويبدو فيورباخ هنا كيركجارديا خالصا. العالم هو الذي يتناول مشاكل العصر ويغوص فيها، ويستقصي جذورها، وينتهي به الأمر إلى حبل المشنقة فيكون شهيد عصره وشاهدا عليه. ولا عجب ألا يستمع العصر إلى نداء «جوهر المسيحية» فيما يتعلق بالإيمان والمعجزة والعناية وفناء العالم وشهادة التاريخ، في حين أن معارك العصر مثل الصراع بين الكاثوليكية والبروتستانتية، والزواج المختلط لا تهم بقدر أهمية ماهية المسيحية التي تثبت أن الزواج الحقيقي هو تآلف الأرواح وأن النسل الحقيقي هو النسل السماوي. وهنا يبدو فيورباخ أفلاطونيا في الفرق بين الحب الإنساني البدني والحب الفلسفي الروحي ولكن على نحو هيجلي باعتبار أن الروح هي العياني والبدني هو المجرد. لقد حاول فيورباخ أن يترجم الصور الذهنية في الدين المسيحي ويعثر على حقائقها العيانية معتمدا على التحليل التجريبي والتاريخي والفلسفي للأسرار المسيحية. كما فسر العقائد وقواعد الإيمان القبلية على أنها موضوعات حسية تاريخية لا شأن لها بالتأملات الخيالية التي تستمد مادتها من ذاتها. وأقام نتائجه على الحس والرؤية ولم يستنبطها بالتأمل استنباط الموضوع من الفكر، واستقرأ الفكر من الموضوعات. فالموضوعات موجودة خارج الفكر. ويصر فيورباخ على أنه مثالي في ميدان الفلسفة العملية وحدها. فلا حدود للإنسانية. والفكرة لها دلالة سياسية واجتماعية وأخلاقية. ويسمي فيورباخ نفسه روحيا وضعيا، صاحب فلسفة إنسانية تجعل الوجود الإنساني هو الوجود الحقيقي، ويقيم فلسفة لا تأملية، فلسفة دون ماهية مسبقة مثل جوهر اسبينوزا أو ذات كانط وفشته، أو الهوية المطلقة عند شلنج أو الروح المطلق عند هيجل، فلسفة وجود واقعي، والإنسان هو أكثر الموجودات واقعية وموضوعية في علاقاته الحسية بالأشياء.
ويبرئ فيورباخ نفسه من كل الاتهامات التي وجهت ضده وفي مقدمتها الإلحاد بأنه لم يقل شيئا على الإطلاق (بل إن الدين هو الذي تحدث عن نفسه وأن فيورباخ قد سمح له بذلك فحسب. لم يبتدع فيورباخ شيئا بل كشف الدين عن ذاته، ورأى فيورباخ هذا الكشف. إنه الدين الذي يؤله الإنسان في حين ينكره اللاهوت. إنه الدين، وليس فيورباخ، الذي يقول بأن الله هو الإنسان الشخصي المنفصل عن الذات المتخارج في العالم، وأن الإنسان هو الله بعد أن دفع بالإنسان بذاته خارجا عنه مغتربا عن نفسه في آخر. إنه الدين وليس فيورباخ، الذي ينكر الله الذي ليس هو الإنسان، ثم يجعله موضوعا للفكر عندما يحيل الله إلى إنسان ثم يستعيد صفات الإنسان وينسبها إلى الله ثم يؤلهه ويعبده. لم يفعل فيورباخ أكثر من إذاعته للسر المسيحي والكشف عن زيف اللاهوتيين وخداعهم وتناقضاتهم). (وإذا كان كتاب «جوهر المسيحية» نافيا، لا متدينا، ملحدا؛ فلأن الإلحاد هو جوهر الدين لأن الدين في جوهره وليس في صورته. وصياغاته هو الإنسان في الوجود والإنسان في إنسانيته وألوهيته. وإن لم يقتنع أحد بذلك فعليه تفنيد حجج فيورباخ العقلية وبراهينه التاريخية وتحليلاته النفسية ولا تهم سفسطة القضاة أو رياء المرائين أو العبارات التأملية البراقة أو قواعد اللاهوتيين الضحلة.) صحيح أن الكتاب ناف، ولكنه ناف للجوهر اللاإنساني للدين وليس نافيا للجوهر الإنساني؛ لذلك شمل الكتاب جزءين؛ جزء مثبت، وجزء ناف، وتناول الموضوع نفسه على نحوين مختلفين؛ الأول يعرض للدين في جوهره، والثاني يعرض للدين في تناقضاته، الأول تطوير وكشف لمفهوم الدين، والثاني جدل وهدم للاهوت. الأول هادئ والثاني عنيف، وفي كليهما معركة. الأول يبين أن المعنى الحقيقي للثيولوجيا هي الأنثروبولوجيا وأنه لا يوجد فرق بين صفات الوجود الإلهي والوجود الإنساني، المحمولات تعبر عن جوهر الموضوع (ويمكن الاستشهاد في ذلك بالتحليلات الأولى لأرسطو أو بمقدمة فورفوريوس)، ولا فرق بين ذات الله ووجوده من ناحية وذات الإنسان ووجوده من ناحية أخرى؛ ومن ثم فلا فرق بين المحمولات الإلهية والمحمولات الإنسانية. يثبت الجزء الأول أن ابن الله هو الابن الحقيقي أي ابن الإنسان وأن الدين يخطئ بتصوره هذه البنوة في الله بالفعل. ويثبت الجزء الثاني أن ابن الله في الدين ليس ابنا طبيعيا؛ وبالتالي يكون معارضا للطبيعة وللعقل. يعطي الجزء الأول البرهان المباشر، ويعطي الثاني البرهان غير المباشر.
الجزء الثاني عود إلى الأول، يبين الثاني الزيف بينما يكشف الأول الحقيقة. الأول عن الدين والثاني عن اللاهوت. ولا يعني اللاهوت هذا المعنى الضيق عند اللاهوتيين الحرفيين بل يشمل أيضا الفلسفة التأملية، وعلم اللاهوت. فالمهم هو الأصل لا الفرع، المبدأ وليس الأشخاص، والعصور والأماكن. لو كان «جوهر المسيحية» به الجزء الثاني فقط لكان نافيا ولكان الله عدما، والثالوث عدما، وكلام الله عدما، ولكنه أثبت أن الدين له أساس في الوجود الإنساني الحق. والحقيقة أن فيورباخ يرفع الأنثروبولوجيا إلى مستوى الثيولوجيا كما ترفع المسيحية الإنسان إلى مستوى الله. إن الدين هو الروح الإنساني ولكن الحلم لا يكون في السماء بل على الأرض. المهم هو قلب النظرة من الداخل إلى الخارج، وفتح على الدين، وتحويل موضوع التمثل إلى موضوع فعلي، ولكن العصر ما زال يفضل الصورة على الشيء، والنسخة على الأصل، والتمثل على الواقع، والظاهر على الوجود. والدين وهم، والحقيقة دنيوية، ولكن العصر لم يحفظ من الدين إلا الغباء. وتجد الكنيسة شرعيتها في هذا المظهر. وتجد الطقوس دلالتها لو تم تفسيرها على نحو أنثروبولوجي خالص. فالخمر والخبز ليسا إلا في التمثل والخيال، والدين والفلسفة التأملية يتعاملان مع الوهم والخيال ولا يتعاملان مع الواقع والحس. لقد طالب لوثر من قبل بالعودة إلى العالم، فالخبز يعني الطعام، والماء يعني الشراب، والعماد يعني الاستحمام. لا يهم الأصل الوثني لهذه الطقوس؛ شرب الدم وأكل لحم الضحايا، بل المهم دلالتها بالنسبة للإنسان. كما لا يهم بيان تناقضات معجزات المسيح بل المهم بيان دلالتها الإنسانية الخالصة. يريد فيورباخ العود إلى ماء الأيونيين عند طاليس، الماء البارد للعقل الطبيعي حيث تنشأ الأشياء؛ فالماء ليس فقط سبب النماء ودورة الحياة بل هو أيضا علاج للنفس والعين. الماء يساعدنا على اكتشاف الطبيعة وسبر غور الوعي الذاتي. الماء يطهر الإنسان من الخوف والأوهام الناشئة عما يأتي من فوق الطبيعة؛
وجعلنا من الماء كل شيء حي (الأنبياء: 30).
وتظهر مآسي العصر أيضا ليس في لاأخلاقيته وحدها بل في غياب الروح العلمية. أصبحت الحقيقة حدا للعلم وليست إطلاقا له من كل الحدود. وعندما يصل العلم إلى الحقيقة ويصبح حقيقة لا يكون علما بل يصبح موضوعا للبوليس. فالبوليس يمثل حدود الحقيقة والعلم، وكأن السلطة السياسية يهمها الإبقاء على الزيف حتى تأمن المعارضة. وبالرغم من أن فيورباخ بوجه عام أعطى تفسيرا لا سياسيا للدين وأعطاه تفسيرا أنثروبولوجيا خالصا طبقا للضرورة الخلقية والفلسفية، إلا أن السياسيين غضبوا عليه لأنهم يعتبرون الدين أسهل وسيلة لاستعباد الإنسان سياسيا ولا يودون زعزعته وفهمه الفهم الصحيح. كما غضب عليه من لا يعطون الدين أية أهمية سياسية، لأن إعادة تفكير الناس في الدين على نحو شرعي وبعد القضاء على الاغتراب الديني يجعلهم أكثر قدرة على الممارسة السياسية فيثورون ضد الحكام، ويدافعون عن حقوقهم. وغضب عليه أيضا أصدقاء التنوير والحرية في مبادئ الصناعة والسياسة وأعداؤها في ميدان الدين؛ لأن التنوير الديني يكشف عن مساوئ الليبرالية والنظام الرأسمالي. ويشير فيورباخ في ملاحظة أخيرة أيضا إلى صلة الدين بالسياسة. فالدين أساس النظم السياسية. ففي الوقت الذي يكون فيه الدين مقدسا نجد تقديس الزواج والملكية وقوانين الدولة. لم تكن الملكية مقدسة لأنها شريعة إلهية بل تم تقديسها أولا باعتبارها شريعة إلهية. لم يطور فيورباخ هذه العلاقة كما طورها ماركس بعد ذلك، وظل بروتستانتيا حرا يؤسس الدين على الأخلاق. (4)
الاغتراب في ماهية الإنسان وجوهر الدين:
يبدأ فيورباخ كتابه «جوهر المسيحية» بتمهيد عن ماهية الإنسان بوجه عام وجوهرية الدين بوجه عام، ويستعمل لكليهما كلمة
Wesen
وهي الثنائية التي سيتبعها فيما بعد في تقسيم الكتاب بين الماهية الحقيقية أي أنثروبولوجيا الدين، والماهية المزيفة أي ثيولوجيا الدين، فيبدأ بالإثبات وهو الإنسان ويثني بالنفي وهو الله.
فما هي ماهية الإنسان بوجه عام؟ يرى فيورباخ أن التدين هو الذي يميز الإنسان عن الحيوان. ويرجع هذا التمييز إلى أن الإنسان لديه شعور أو وعي بالمعنى الدقيق وليس مجموعة الإحساسات والإدراكات والأحكام أي مجموعة الوظائف النفسية. ولا يتأتى الوعي إلا لوجود تكون ماهيته عين موضوعه؛ فالعلم الإنساني هو الوعي بالأجناس في حين أن الحيوان لا يدرك إلا نفسه. عند الحيوان الحياة الداخلية والحياة الخارجية شيء واحد، وعند الإنسان تتميز الحياة الداخلية عن الحياة الخارجية، فالحياة الداخلية هي علاقته بجنسه وماهيته والتعبير عن ذلك بالفكر واللغة. الإنسان هو الأنا والآخر، هو الذات والموضوع، هو الموضوع والمحمول. ليس الفرق بين الإنسان والحيوان في التدين فقط فالدين هو الوعي باللانهائي؛ ومن ثم يكون وعي الإنسان بماهيته لا نهائيا دون أن يكون ذلك وعيا بموجود لا نهائي. الوعي هو وعي باللانهائي، وهو ما يقابل الغريزة عند الحشرات. الوعي باللانهائي هو الوعي بلا نهائية الوعي. وفي الوعي باللانهائي يكون موضوع الوجود الواعي واعيا بذاته. الإنسان بلا موضوع لا يكون شيئا، فهذا ما تؤكده حياة العظماء. يشعر العظيم أن له رسالة عليه أن يحققها وهي الهدف الأسمى من نشاطه. تكون ماهيته وتكون في علاقة جوهرية وضرورية معه. ماهية الإنسان وجوده وغايته وموضوعه، وتتوحد الماهية والوجود كما يتوحد الذات والموضوع في الإنسان. فيصبح الإنسان إذن واعيا بذاته عن طريق الموضوع. والوعي بالموضوع هو وعي بالذات. يمكن معرفة الإنسان إذن ابتداء من الموضوع. وفيه تبدو الماهية، فالموضوع هو الماهية عندما تظهر أنانيته الحقيقية الموضوعية. وهذا ينطبق على الموضوعات الروحية والموضوعات الحسية على حد سواء. وهنا يأخذ شعار سقراط «اعرف نفسك بنفسك.» معنى أنطولوجيا جديدا.
ماهية الإنسان هو جنسه أو الإنسانية؛ العقل، والإرادة، والقلب. العقل وظيفته الفكر، والإرادة للاجتهاد والفعل والسلوك، والقلب هو الحب. وهنا يعود فيورباخ من جديد إلى قوى النفس الثلاث عند أفلاطون دون تمييز بين النفس والبدن أو بين المثال والواقع. العقل والإرادة والقلب ثلاث كمالات أو ملكات سامية تكون الماهية المطلقة للإنسان من حيث هو إنسان، وتكون الغاية من وجوده. فالإنسان يوجد كي يعرف ويحب ويفعل. الغاية من المعرفة المعرفة، ومن الإرادة الإرادة، ومن الحب الحب، وهي نفس الصفات؛ حقيقي، كامل، إلهي. نستعملها عندما نصف الشيء في ذاته. هو الثالوث الإلهي الذي يجمع بين العقل والحب والإرادة كما قال أوغسطين من قبل شارحا التثليث المسيحي. هذه الصفات الثلاث ليست مجرد كمالات يتمتع بها الإنسان بل قدرات إلهية مطلقة لا يمكن للإنسان مقاومتها. كيف يقاوم الحب الحب، والمعرفة المعرفة، والإرادة الإرادة؟ إن الحب يدفع الإنسان إلى الموت في سبيل من يحب، والفكر يدفع الإنسان إلى أن يفكر، والحياة تدفع الإنسان إلى أن يفعل.
الوجود المطلق إذن، وهو إله الإنسان، هو عين ماهيته، وموضوعه ماهيته وقوة ومعرفة وإرادة، حبه هو معرفته وإرادته وحبه. التناهي هو العدم ولا يمكن أن يكون الإنسان واعيا بالتناهي وإلا كان عدما، الوعي هو ظهور الذات، وتأكيد الذات، وحب الذات، والانشراح بكماله الخاص. الوعي علامة مميزة لوجود كامل، والوجود خير. التناهي سقوط وتفاهة وعار وقلق، ثم يمتد التناهي للماهية محوا للعار! ويا للعار!
كل وجود مكتف بذاته، كل موجود له إلهه أي وجوده الأعظم في ذاته. وكل تحديد هو بالنسبة للآخر الخارجي الأعظم منه كما يظهر في مقارنة الحيوانات بالحشرات وكما يفعل دارون في وصف تطور الأحياء فيما بعد. إن الذي يجعل الموجود موجودا هو عبقريته وقوته وغناه وجماله، فكيف يكون الوجود عدما عاجزا؟ وكأن فيورباخ هنا يوحي بلغة نيتشه وبرجسون وبما سيقوله إقبال عن الذاتية فيما بعد. ما يثبته الوجود لا يمكن للذهن نفيه، فمقياس الوجود هو مقياس الذهن. وكلما امتد الوجود إلى ما لا نهاية كان هو الله. ولا يمكن الفصل بين الذهن والوجود إلا على نحو ظاهري تعسفي، وهو الدرس المستفاد من هيجل. فلو فكر الإنسان في اللانهائي فإن ذلك إثبات للانهائي في الفكر. وإذا شعر باللانهائي فإن ذلك إثبات للانهائي في الشعور. موضوع العقل هو العقل موضوعا لنفسه. وموضوع العاطفة هي العاطفة موضوعا لنفسها. إن حوار الفيلسوف هو في الحقيقة مونولوج العقل. الفكر لا يتحدث إلا مع الفكر. فالعقلي وحده هو موضوع العقل.
الإنسان إذن مجموعة من الصفات أو الملكات؛ الصفاء، العقلانية، النزاهة في المسرات والانفعالات، ولكن الإنسان يرى، والعين ترى ماهيتها، وكأن الفلاسفة علماء فلك من أجل العين، فالعين هي الطبيعة السماوية، ولكن العاطفة هي الملكة الأساسية في الدين، ولا تعبر ماهية الله إلا عن ماهية العاطفة. العاطفة هي «العضو الإلهي». العاطفة هي النبل والعظمة أي الإلهي في الإنسان. والله هو العاطفة الخالصة اللانهائية الحرة. العاطفة ملحدة من وجهة نظر الأرثوذكسية لأنها ترفض الله الموضوعي، وتجعل نفسها هو الله. والحقيقة أن نفي العاطفة نفي لله، وهذا هو الإلحاد الديني. وما يقال عن العاطفة يقال على باقي الملكات في الإنسان: العقل والإرادة.
من هذا التحليل الذي يبدو فيه فيورباخ معاصرا للغاية، هيجليا امتدادا لبرجسون ونيتشه وهوسرل وهيدجر، يوحد بين الذات والموضوع ، بين الفكر والواقع، بين الماهية والوجود، يهدف فيورباخ إلى وصف الإنسان الحقيقي قبل أن يتزيف ويغترب عندما يكون واعيا بذاته في وحدته الداخلية قبل أن يفصمها الاغتراب الديني، ويبدأ بالعاطفة وهي نقطة البداية في الاغتراب والتي من خلالها يحدث الانفصام والوقوع في الوهم، وهو ما ظهر بالتفصيل عند شليرماخر في «مقال في الدين».
فإذا كانت ماهية الإنسان هي أنه وعي يتحد الذات فيه بالموضوع فما هو جوهر الدين؟ في ماهية الإنسان بوجه عام تم تحديد علاقة الإنسان بالموضوع بوجه عام، ولكن ما هي علاقة الإنسان بالموضوع الديني بوجه خاص؟ في علاقة الإنسان بالموضوعات لا ينفصل الوعي بالذات عن الوعي بالموضوع، ولكن في حالة الموضوع الديني يتحد الوعي مباشرة بالوعي بالذات. فإذا وجد الموضوع الحسي خارج الإنسان فإن الموضوع الديني يوجد في داخله. وهو كما يقول أوغسطين أسهل في معرفته من الموضوعات الخارجية. الموضوع الخارجي محايد ومستقل عن الاعتقاد والحكم، في حين أن موضوع الدين موضوع اختيار الموجود الأول، الأفضل والأسمى، ويتضمن حكما نقديا يقوم على التمييز بين الإلهي واللاإلهي. وهنا تبدو أهمية قضية أن موضوع الإنسان ليس إلا الماهية الموضوعية ذاتها. الوعي بالله إذن هو وعي الإنسان بذاته، ومعرفة الله هي معرفة الإنسان بذاته. ابتداء من الله تعرف نفسك، والعكس صحيح. كلاهما واحد.
إن الله بالنسبة للإنسان هو روحه ونفسه، والإنسان بالنسبة إلى نفسه هو الروح والنفس والقلب، وهذا إله. الله هو الداخلية التي تظهر في الإنسان. والدين هو ظهور كنوز الإنسان، الاعتراف بأخطاره الزمنية، والإقرار العلني بأسرار الحب.
وقد لا يشعر الإنسان أن وعيه بالله هو وعيه بذاته؛ لذلك يمكن القول بأن الدين هو وعي الإنسان بذاته على نحو غير مباشر؛ ولذلك أيضا سبق الدين الفلسفة وسبق الخارج الداخل. الدين هو ماهية الإنسانية وهي في دور طفولتها.
5
يرى الإنسان ماهيته خارجا عن ذاته؛ لذلك وقع الدين الأول في الوثنية وعبادة الأصنام؛ فقد عبد الإنسان ماهيته، وتموضع الإنسان دون أن يعي ماهيته. ثم تقدم الدين، أي تقدم الوعي بالذات، وعي الإنسان بذاته. فرفض الدين السابق متصورا أنه حصل على موضوع أسمى وأعلى من قوانين الطبيعة، ويتصور أنه من خارج الطبيعة مع أن الطبيعة هي الأساس. يرمي فيورباخ من ذلك إلى بيان أن التعارض بين الإلهي والإنساني مجرد وهم لأن الدين هو علاقة الإنسان بذاته، وذاته كموجود آخر، فالوجود الإلهي ليس إلا ماهية الإنسان مستقلة عن حدود الإنسان الفردي الواقعي الموضوعي المجسم. فكل تحديدات الوجود الإنساني هي تحديدات لماهية الإنسان. ولا يتعلق الأمر بالمحمولات فقط بل يمتد إلى الموضوع ذاته؛ وبالتالي فنفي الذات إلحاد ولا تدين أكثر من نفي الصفات، ولكن إلغاء الصفات إلغاء للذات لأن الصفات هي التي تحدث الأثر والفاعلية وكما تقول المعتزلة: نفي الصفات نفي للذات، والذات بلا صفات موجود غير موضوعي، والموجود غير الموضوعي عدم وجود. وعلى عكس إثبات الصفات ثم إثبات الذات، وكما تقول الأشاعرة، هذا النفي نتاج العصر الحديث.
يتحول الله إلى موضوع عندما لا يصبح موضوعا للمعرفة مع أن هذا العجز نفي لله. كما يمكن نفي صفات الله عن طريق التجسيم والتشبيه وإرجاعها إلى الإنسان، ولكن الفرق بين الله في ذاته والله بالنسبة للإنسان يدمر هذا الموقف الديني، ولكن يظل المتدين سعيدا لأن الله إله له، وهي سعادة وهمية. يود كل دين التوحيد بين الله في ذاته والله بالنسبة للإنسان وإلا ظهر الشك واللاتدين، وكلاهما ضد الدين. لو كان الله موضوعا للعصفور فإنه لن يكون موضوعا إلا من حيث أن له جناحا، فالعصفور لا يعلم وجودا أكثر سعادة من الوجود المجنح!
الصفات الإلهية إذن صفات إنسانية، وعدم الاعتراف بذلك شك وعدم اعتقاد بل جبن وضعف وخنوع. وإذا كانت الصفات إنسانية فالذات أيضا إنسانية. يجعل الإنسان الحب صفة لله لأنه يحب. ويتصور الإنسان الله حكيما خيرا لأن الإنسان يتصور الحكمة والخير أسمى ما فيه. ويعتقد أن الله موجود لأنه يوجد. والفرق بين الاثنين هو أن عزو الصفات لله بالتوسط وللإنسان بالمباشرة. الصفة حقيقة الذات، والذات صفة مشخصة. الذات والصفة مثل الوجود والماهية، ونفي أحدهما نفي للآخر. وماذا يبقى من الذات الإنسانية لو انتزعنا عنها صفاتها؟ كما أننا في لغتنا العادية نستبدل بالذات الإلهية صفاتها. هذا التميز بين الإنسان والله لا يوجد إلا في هذا العالم. ففي العالم الآخر لا يكون للإنسان إرادة أو عقل أو حب مستقل. فالأرض أو وجود الإنسان في العالم هو سبب الاغتراب أي تمايز الذات عن صفاتها ثم تشخيص صفاتها في ذات مستقلة عنها.
إن يقين الإنسان بوجود الله هو يقينه بوجود ذاته، وليس يقينه بوجود ذات الله، كما أن يقين الإنسان بصفات الله هو يقينه بصفاته وليس يقينه بصفات الله. فهو يقين غير مباشر. وحقيقة الذات والصفات الإنسانية هي الضمان الوحيد لوجود الذات والصفات الإلهية. وكل ما يتمثله الإنسان على أنه حقيقي يكون أيضا واقعيا وليس خياليا، حلما أو تمثلا. فالوجود هو الحقيقة. في البداية يقيم الإنسان الحقيقة على الوجود ثم يقيم فيما بعد الوجود على الحقيقة. فالله هو ماهية الإنسان المدرك كحقيقة عظمى. والدين هو الحدس المطابق لوجود الإنسان. الشك في الله إذن شك في الذات. ويتضح تماثل الذات والموضوع بصورة أفضل في تطور الدين المتماثل مع تطور الحضارة الإنسانية. فإذا كانت صفة الإنسانية بدائية كانت صفة الله بدائية كذلك. والملحد العادي هو الذي يلغي صفات الله في حين أن الملحد الحقيقي هو الذي يلغي صفات الإنسان. ليس للدين مضمون خاص به، ولا يوجد في الدين إلا ما يوجد في الإنسان في وعيه بذاته ووعيه بالعالم. ونحن لا نعرف من الله إلا الصفات الإنسانية. أما باقي الصفات التي لا تشابه الإنسان فلا نعلمها. وهذا أيضا سر إنساني ، فالإنسان لا نهاية لصفاته ولغناه. وقد جعل اسبينوزا لله عددا لا نهائيا من الصفات لم يعد منها إلا الفكر والامتداد. والصفات شخصية وليست ميتافيزيقية. والله شخص، مشرع، قديس، عادل، خير، رحيم، أب للبشر. وهي كلها صفات إنسانية. (ولكن اللاهوتي يرفض هذا التوحيد بين الله والإنسان، ويعطي لله ما يسلبه عن الإنسان، ويعطي للإنسان ما يسلبه عن الله. وهذه سرقة ذهنية وسادية نفسية . أما الراهب فإنه يعوض عن حبه الجنسي المفقود وحبه الإنساني حبه لله وللسماء وللعذراء. تغيب عنه المرأة الحقيقية فتحضر له المرأة المثالية، وكلما ضحينا بالحس أصبح الله الذي نضحي لأجله بالحس حسيا. فالراهبة عروس الله، لها زوج سماوي، وكأن فيورباخ هنا يسبق فرويد وما يقوله في الكبت والحرمان والتعويض والإعلاء. يثبت الإنسان لله إذن ما ينفيه عن نفسه؛ وبالتالي يكون الدين تجريدا للإنسان، واغترابا عنه، وتزييفا له. إن أفكار الإنسان عن الله من الأرض وليست من السماء، فالله يقوم بما يقوم به الإنسان، يحب ويعلم؛ وبالتالي يذكر الإنسان ذاته كلما أثبت الله. والحقيقة أن الإنسان هو الرضا الذاتي للأنانية الشخصية. ينكر الدين الخير كصفة للإنسان فالإنسان شرير فاسد، عاجز عن فعل الخير، والله وحده هو الخير. المقدس نفي لخطيئة الإنسان، ونفي الخطيئة فصل للموجود عن الماهية وهما متحدان. والحقيقة أن اعتبار الإنسان عاجز عن فعل الخير يؤدي إلى اعتبار الله كذلك وهو الإلحاد. فالدين مقدمة للإلحاد. وهذا هو معنى الصراع القديم بين أوغسطين وبلاجيوس. فقد جعل بلاجيوس الإنسان إلها في حين جعل أوغسطين الإله إنسانا. والأوغسطينية بلاجية مقلوبة. ما جعله بلاجيوس ذاتا جعله أوغسطين موضوعا. أوغسطين يعطي الله ويسلب عن الإنسان، وبلاجيوس يسلب عن الله ويعطي للإنسان. أوغسطين ممثل اللاهوتي المغترب، وبلاجيوس هو الأنثروبولوجي الفيورباخي. أوغسطين هو اللاهوت المقلوب، وبلاجيوس هو الأنثروبولوجي. أوغسطين هو المزيف، وبلاجيوس هو الصحيح.) (الله هو ماهية الإنسان الذاتية، وكلما كان الله إنسانيا كان ذاتيا. وكما أن الإنسان لا يرى إلا ذاته فإن الله لا يرى أيضا إلا ذاته أي الإنسان، فالإنسان موضوع الله . ثم يغترب الإنسان. وينزع ماهيته ووجوده من ذاته بفعلي الجذب والطرد. ويصبح الله الذي كان يفعل في ومعي وبي وعلي ولي وقد خرج من أحشائي فيغترب الإنسان. لا يعود التقدم للبشرية إلا إذا استرد الإنسان من أحشائه المنشورة خارجه بعد بقر بطنه واسترد صفاته. وهذا هو تطور الدين من اليهودية إلى المسيحية، ونقول أيضا ومن المسيحية إلى الإسلام لدينا أو إلى التنوير لديهم؛ فقد كان الله كل شيء في اليهودية حتى في الطعام ثم أصبح الله في الإنسان في المسيحية ثم أصبح الله هو الإنسان الكامل في الإسلام وعند فيورباخ؛ وبالتالي يكون إلحاد اليوم هو دين الغد.)
ثانيا: الجوهر الحقيقي أي
أنثروبولوجيا الدين
يضم «جوهر المسيحية» قسمين أساسيين؛ الأول: الجوهر الحقيقي أي أنثروبولوجيا الدين؛ والثاني: الجوهر المزيف أي ثيولوجيا الدين. يبدأ فيورباخ بالإيجاب قبل السلب، وبالإثبات قبل النفي، فالاغتراب الديني يتمثل في ثيولوجيا الدين، وهو موقف ديني مزيف نتج عن تصوير الثيولوجيا على أنها علم الله يتحدث عن ذات الله وصفاته وأفعاله، ويجعل الله موضوعا مستقلا عن الإنسان، متجسما في وثن نفسي مشخص في الخارج، في حين أن الدين في وصفه الصحيح وهو أنثروبولوجيا الدين، موقف إنساني صحيح يرجع للذات ما سلب عنها من قبل، ويعيد إلى الإنسان أخص خصائصه وهي الصفات مثل الوجود والكمال. يصف فيورباخ الوضع الصحيح أولا ثم الوضع المزيف ثانيا كي يبين الاغتراب الديني أي انحراف الإنسان خارجا عن ذاته ومتعاليا عليها. فالاغتراب طارئ على الصحيح وليس ناشئا منذ البداية كما يقول الوجوديون: إن الإنسان يوجد في العالم مغتربا. ويكون القضاء على الاغتراب والعود إلى الحقيقي هو عود إلى طبائع الأشياء. الصحيح هو الأساس، والاغتراب هو العرض. وإذا كنا جميعا ما زلنا مغتربين فإن تطورنا يشير إلى العودة إلى الأساس. فالأنثروبولوجيا هو علم المستقبل، ومبادئ فلسفة المستقبل.
ويعرض فيورباخ لموضوعات الدين الحقيقي؛ الله كمبدأ وكقانون وكعاطفة وكمال وكوحدة وكصفات مثل الكلام والخلق والعناية والقدرة. كما يتحدث عن الإنسان؛ إيمانه وبعثه وحياته وخلوده، مبينا أن الدين في جوهره هو أنثروبولوجيا أي وصف للإنسان قبل أن يقع فريسة للاغتراب. (1)
الله كموجود ذهني:
لما كان الدين هو قسمة الإنسان على نفسه، فالله غير الإنسان والإنسان غير الله، فالله كامل والإنسان ناقص. لقد قسم الإنسان نفسه إلى وجود وماهية. وأعطى لنفسه الوجود الناقص ولله الماهية الكاملة. وتم ذلك بفعل الذهن. وأصبح موجودا ذهنيا من طبيعة العقل. حدث ذلك عند اليونان والمسلمين والمسيحيين المتأخرين كما حدث في الفلسفة العقلية الأوروبية. يجهل العقل الآلام والقلب والرغبات والوقائع الخاصة ولا يقدم إلا العموميات. أصبح الله لا شخصيا غير مجسم، منزها عن أوصاف التشبيه، لا ينفعل ولا يخضع للأهواء، ماهية مجردة، لا نهائيا، لا ماديا، لا حسيا، لا يمكن تصوره، ولا يعرف إلا بالتجريد، وعن طريق السلب.
الله فكر عام، ضرورة خاصة. الذهن مقياس للواقع، وكل ما يخرج عن الذهن فهو عدم الذهن. هو الأنطولوجيا القديمة التي منها خرج اللاهوت الأنطولوجي الذي يستنبط وجود الله من ماهيته في الذهن كما هو الحال في الدليل الأنطولوجي عند أنسليم وديكارت. لقد كان ذلك نصرا كبيرا على الوثنية الحسية الخارجية، ولكن الصنم الحسي تحول إلى وثن عقلي يعزى إليه الوجود. إن وحدة الله من وحدة الذهن، ولا نهائية الله من لا نهائية الذهن في مقابل التناهي والتعدد. وقد هدم كانط الدليل الأنطولوجي مثبتا استحالة استنباط الوجود من الفكر، والموضوع من المحمول. يقول كانط: عندما أفكر أكون على وعي بأن هناك ذاتا تفكر وليس شيئا آخر؛ وبالتالي فأنا جوهر، أوقد لذاتي دون أن أكون محمولا لموضوع آخر. ويخلص فيورباخ من هذا التحليل بأن الله ماهية الإنسان بعد أن تم تجريدها في الذهن؛ وبالتالي يعني قدرة الذهن على إدراك الماهيات، وهي حقيقة إنسانية متضمنة في نظرية المعرفة. (2)
سر التجسد أو الله كموجود خلقي أو قانون:
الله من حيث هو كامل أخلاقيا ليس إلا الفكرة أو الماهية المتحققة في القانون الأخلاقي، فالله ليس فقط ماهية عقلية مجردة أو مبدأ عقليا خالصا، ولكنه أيضا قانون خلقي أو مبدأ عقلي يظهر في سلوك الإنسان الأخلاقي. فالوجود الأخلاقي للإنسان موضوع كموجود مطلق لأن الله الأخلاقي يتطلب أن يكون الإنسان مثله، والإنسان الأخلاقي يتطلب أيضا أن يكون الله مثله. «الله مقدس ويجب أن نكون مقدسين مثلما هو مقدس.» يقول كانط: يمكن أن يقال إن الله هو القانون الخلقي ذاته ولكن تم تشخيصه بالفكر. ولكن هذا الموجود الكامل يتركنا باردين، فارغين، فنصبح وعيا بلا قلب. الذهن يحكم طبقا للقانون، والإنسان يعيش بالقلب. القانون يخضع الإنسان والقلب يحرره. إن الحب وحده هو الذي يجعل العندليب مغنيا. القانون يقهر الإنسان فيقابله الإنسان بالتوبة والاستغفار. نفي الإنسان إذن هو نفي للدين. ولما كان الإنسان هو حياته الباطنية فإن الله يظهر من خلالها. ولد الإنسان في الألوهية والألوهية وطنه. يوجد حيث نشأ. الله إذن فكرة وقانون أو كما نقول عقيدة وشريعة للإنسان. (3)
الله كموجود قلبي:
ليس الله فقط مبدأ عقليا وقانونا خلقيا بل هو أيضا حب إلهي. فالحب وسيلة التصالح بين الإنسان والله أي بين الإنسان ونفسه. والتجسد هو الظهور الحسي الفعلي للطبيعة الإنسانية لله بفعل الحب. لم يظهر الله كإنسان لنفسه بل لحاجة الإنسان الملحة للحب.
كان الله إلها إنسانيا قبل أن يصبح إلها فعليا، وفعل ذلك بواقع من رحمته نظرا للحاجة الإنسانية وللشقاء الإنساني. التجسد دمعة ساخنة إلهية على وجه العالم، وجود مفعم بالعواطف الإنسانية بل وجود إنساني خالص. كان الإنسان إلها قبل أن يصبح الإله إنسانا وليس كما قال أوغسطين أصبح الله إنسانا حتى يصبح الإنسان إلها؛ فألوهية الإنسان سابقة على إنسانية الله لأن ألوهية الإنسان هي التي جعلت الله إنسانا. يقول اللاهوت: إن الشخص الثاني هو الذي تجسد. والحقيقة أنه الشخص الأول أي الله نفسه وليس الابن أو الروح القدس، ولكن ليس التجسد واقعة مادية تاريخية كما يدعي اللاهوت، فهذه هي المادية الفجة، بل حقيقة إنسانية خالصة، وهذا ما تضيفه الأنثروبولوجيا على الفلسفة التأملية. لا تعتبر الأنثروبولوجيا الصيرورة في الإنسان سرا خاصا مدهشا كما هو الحال في الفلسفة التأملية ذات المظهر الصوفي بل تقضي على السر فوق الطبيعي، وتنقد العقيدة، وتحللها إلى عناصرها الطبيعية المفطورة في الإنسان إلى داخله وبؤرته وهو الحب. (تعني العقيدة أن الله هو الحب، وأن الحب جعل الله يتخارج عن هويته؛ فالحب أقوى من الله. وكما قال القديس برنارد: إذا لم نضح بالله من أجل الحب فإننا نضحي بالحب من أجل الله. الله ليس محايدا، ليس بعيدا، فكل صلاة هي تجسد لله، والله ذو شفقة وعطف وحنان. الصلاة تقرب الله للشقاء الإنساني، فالله يحب الإنسان. له ابن والله أب. علاقة الله بالإنسان في التجسد علاقة الأب بالابن، علاقة حب وعطف وشفقة وليست تناقضا كما تدعي الفلسفة التأملية. الحب وحده هو قلب الإنسان. وإذا كان الله يحب الإنسان فالإنسان هو قلب الله. أليس حب الله للإنسان هو حب الإنسان لنفسه متموضعا ومحدسا كحقيقة مطلقة؟ ولقد أدرك لوثر من قبل أن المسيحية هي دين القلب، فمن يدرك في قلبه هذه الحقيقة أن الله أصبح إنسانا يجب عليه باسم الجسد والدم أن يحب في هذا العالم كل جسد ودم ولا يعادي أي إنسان حتى يكون له مكان في العالم الآخر على يمين الله. سر التجسد إذن هو الله كموجود قلبي.) (4)
سر الله المتألم:
من تحديدات الله الذي يصبح إنسانا أن المسيح هو الألم. الله يتألم من أجل الآخرين وليس في ذاته، وهذا يعني أن التألم من أجل الآخرين إلهي. ولما كان الله هو مجموع الكلمات الإنسانية والله المسيح هو مجموع الشقاء الإنساني فإن الكمال يغطي على الحب، ويتأكد الحب في الألم. الألم خلقي وإرادي كما هو معروف في آلام الحب، قوة التضحية من أجل خير الآخر.
إن تاريخ المسيحية هو تاريخ آلام الإنسانية في حين أن تاريخ الوثنية هو تاريخ الملذات الحسية. والمسيح على الصليب لا يمثل المخلص بقدر ما يمثل المصلوب المتألم؛ ومن ثم صلب الذات ألم في حين أن الصور الدينية في الوثنية كما لاحظ أوغسطين وعدد من آباء الكنيسة تدعو إلى الإباحية. وكما أن سقراط يفرغ الروح من الآلام ويعيش في بهجة الموت فإن المسيحي يصيح «لو كان بالإمكان إبعاد هذه الكأس عني.» كما صاح المسيح على الصليب. الله يتألم يعني أن الله قلب، فالقلب هو الألم، والموجود بلا ألم موجود بلا قلب. سر الله المتألم هو سر الحساسية، والله المتألم هو إله حساسية، إله حسي. الدين إذن هو انعكاس الوجود الإنساني في ذاته، فالله مرآة الإنسان. ولا يستطيع الإنسان أن يعتقد شيئا إلا إذا كان في وجوده الخاص. ففي الإنسان توجد وحدة الطبيعة والروح، وما يعتبره الإنسان روحا هو جزء من طبيعته. الذي يتألم هو الإنسان وليس المسيح. (5)
سر التثليث وأم الإله:
كما كان الوجود الكلي هو الذي يعبر عن الإنسان الكلي فإن وعي الإنسان بشموله هو الوعي بالتثليث. يرجع التثليث إلى الوحدة بين التحديدات أو القوى التي تظن أنها منفصلة. يعني التثليث وحدة الشخصية الإنسانية في مقابل تعدد قواها، ووحدة الجماعة الإنسانية في مقابل تكاثر أفرادها. التثليث صورة لشيء حقيقي واقعي كما قال أوغسطين من قبل، مثل الروح والذهن والذاكرة والإرادة والحب. تموضع الوعي بالذات هو أول شخص في التثليث، فالوعي بالذات الإلهية ليس إلا الوعي باعتباره ماهية مطلقة أو إلهية. التثليث هو الوحدة بين الأنا والأنت. الله الآب هو الأنا، والله الابن هو الأنت، الأنا هو الذهني، والأنت هو الحب. واجتماع الذهن والحب أو الأنا والأنت هو الروح أو الإنسان. والله الذي يستبعد الحب والآخر والجماعة إله متعسف. إن الحياة المشتركة هي وحدها الحياة الإلهية الحقيقية المكتفية بذاتها. وهذه هي حقيقة التثليث على نحو غير مباشر أي مقلوبة من الأنثروبولوجيا إلى الثيولوجيا. الروح القدس هي الوحدة بين الله والإنسان. والحقيقة لا يوجد إلا شخصان، والثالث هو الحس أو العلاقة بينهما. ولما كان الحب هو القلب، والقلب هو الإنسان أصبح الشخص الثاني هو التأكيد الذاتي للإنسان، وهو الذي يشارك في الجماعة. هو الحرارة، والآب هو النور، والنور صفة للابن. الابن هو لوعة الحب والحماس. الابن هو الله المتجسد، إنكار الله الأصلي، نفي الله لله.
فإذا كان الابن متناهيا يكون الله بلا أساس، يستولي الابن على القلب لأن الأب الحقيقي للابن الإلهي هو القلب الإنساني لأن الابن ليس إلا القلب الإلهي، أي القلب الإنساني موضوعا لذاته كموجود إلهي. فالأب والابن في التثليث ليس لهما معنى مجازي بل لهما معنى حقيقي. التثليث إذن تموضع الدين داخل الدين. ولما كان الحب في حاجة إلى شخص أنثوي لأن الروح القدس غامض وعام كانت مريم هي التوسط بين الأب والابن. لم تكن مريم في علاقة مباشرة لأن المسيحيين يتصورون العلاقة بين الرجل والمرأة خطيئة. ولما كان الحب بلا طبيعة وهما وخداعا وسرابا فقد أزاحت البروتستانتية أم الإله جانبا بالرغم من عودتها الآن. لم تكن البروتستانتية في حاجة إلى أم سماوية لأنها استقبلت بالأحضان الأم الأرضية برفضها نظام الرهبنة وعزوبية القساوسة. التثليث لا يعني هذا المعنى إلا في الكاثوليكية، وأم الإله لا تعني شيئا إلا للراهبات والرهبان تعويضا عن الحرمان أو في أحسن الأحوال إعلاء وتساميا بالغريزة. ويعني التثليث بوجه عام الغنى في مواجهة الفقر، والإشباع في مقابل الحرمان، والجماعة كنقيض للعزلة، والحس الذي يعكس المجرد. وكلما كانت الحياة فارغة امتلأ الدين. الفقير وحده له غنى، فالله يكفل نقص الإنسان. ما يغيب عن الإنسان يوجد في الله، وما يحضر في الإنسان يغيب عن الله. هذه هي الدلالة العملية لهذه القضية النظرية. (6)
سر اللوجوس والصورة الإلهية:
إذا كانت الدلالة الجوهرية للتثليث تخص الشخص الثاني فإن المعركة في المسيحية كانت حول ابن الله
Homoiousios
المتحد معه في الجوهر
Homoousios (بفارق
i ). فالله مجرد وبارد بلا صورة. والصورة مصدرها الخيال. والشخص الثاني في الله من قوة الخيال؛ فالابن صورة الله، يتعلق بوجوده. ووجوده صورة الله لتخيل الله. والصورة تحل محل الشيء ثم تأتي عبادة المقدس في صورة كعبادة الصورة كمقدس. فالصورة جوهر الدين. وقد اعترف القديس جرجوار النيسي أن تمثل قربان إسحاق (إسماعيل) جعله يذرف الدمع ويجعل هذا التاريخ المقدس حيا؛ فالابن كلمة الله هي صورة الكلمة
Verbe ، صورة مجردة خيالية تعني الكلمة والتعبير، فالحالم يتكلم، والمجنون يتكلم، والشاعر يتكلم، الكلمة تعني التخارج باللغة. الكلمة ثورة تعبير وإيصال. الكلمة تحرر للإنسان. والذي لا يستطيع أن يتخارج يكون عبدا. الكلمة فعل الحرية، الكلمة حرية. الكلمة حضارة. كلمة الله هي إلهية الكلمة. هكذا تجد العقيدة حقيقتها في الإنسان. (7)
سر المبدأ الخالق للعالم في الله:
طالما أن الله يكشف عن ذاته ويتخارج ويعبر عن نفسه فإن الشخص الثاني يكون هو المبدأ الخالق للعالم في الله. فالعالم ليس هو الله، هو الآخر، ضد الله، ولكن ما يخرج من الله يظل فيه، ويظل الآخر على وعي بانفصاله عن الله، والله على وعي بتخارجه. التمايز الذاتي
Autodifferenciation
في الله هو أساس ما يختلف عنه. ولما كان الوعي بالذات أساس العالم نظرا لوحدة الذات والموضوع، فالله يفكر في العالم عندما يفكر في ذاته، على طريقة أرسطو والفلاسفة المسلمين. التفكير تولد، والتفكير في العالم خلقه. الله يفكر ويضع موضوع تفكيره. فالابن هو الله عندما يفكر في ذاته موضوعيا، صورة الله الأولى. وكما يخلق الفكر موضوعه تضع الأنا الآخر. الوعي بالعالم هو وعي بحدودي، فالإنسان هو الموضوع الأول للإنسان، والإنسان هو إله الإنسان، إذا وجد تحول إلى طبيعة وإذا وجد إنسان آخر فإنه يوجد بفعل الإنسان. يتدفأ الإنسان في شمس الإنسان، ولكن لما كان العامي لا يفهم إلا إذا تكلم بصوت مسموع لذلك كان هوبز على حق في استنباط الذهن من الآذان، فإن الابن هو حكمة الله وعلمه وذهنه أي كل شيء متعلق بالأشياء الروحية. الله والعالم لا يتمايزان إلا على نحو مجرد. (8)
سر التصوف أو سر الطبيعة في الله:
إن نظرية الطبيعة الأبدية في الله، هذه الخيالات الكونية اللاهوتية التي وضعها جاكوب بوهمه والتي أعاد شلنج صياغتها جديرة بالتحليل النقدي. الله روح خالص، وعي واضح بذاته، شخصية خلقية. وعلى الضد من ذلك الطبيعة مختلطة غامضة لا خلقية أو غير خلقية، ولكن من التناقض صدور غير الخالص من الخالص، والغموض من الوضوح؛ وبالتالي فإن النظرية مادية مغلفة بالتصوف. في هذه النظرية الثنائية في الله يكون الموضوع الحقيقي مرضيا
والموضوع المتخيل هو اللاهوت أي أن الباثولوجيا النفسية تحولت إلى ثيولوجيا. فتاريخ المرض الإنساني هو تاريخ المرض الإلهي، وكلاهما مجموعة من الأمراض النفسية والعقلية. وهي نفس الأفكار المختلطة التي تحدث عنها ليبنتز والمأخوذة من جاكوب بوهمه والتي حاول شلنج تحديثها فتعالى عليها. كان بوهمه متدينا ولكن الطبيعة كما وصفها العصر الحديث في مذهب اسبينوزا وفي المادية والتجريبية استولت على شلنج فحاول تفسير الطبيعة على نحو طبيعي . لقد أغنت الطبيعة العواطف الدينية، فالله غني كالأرض، وكل ما في الله في الأرض، وكل ما في الأرض في الله. لقد تصور شلنج العلاقة بينهما عكسية، وهي عند بوهمه طردية. (لقد أرادت نظرية الطبيعة في الله تأسيس التأليه من خلال المذهب الطبيعي، فكل ما يمجده الإنسان ويعظمه هو الله، وما يلومه ويحتقره لا يكون إلها. الدين حكم شعوري أو لا شعوري، والحكم يعبر عن موقف. الوجود الإلهي ما هو إلا ماهية الإنسان بعد أن تحولت بموت التجريد، روح الإنسان، روح الإنسان المنفصل. في الدين يتحرر الإنسان من حدود الحياة، يترك ما يقهره وما يخدمه وما يؤثر عليه أثرا سيئا. لا يشعر الإنسان بالسعادة إلا في الدين، بعبقريته يوم الأحد!) (وحيث تنتهي الطبيعة يبدأ الله لأن الله هو الحد النهائي للتجريد؛ ونتيجة لذلك فكل محاولة لتأسيس شخص الله بواسطة الطبيعة فإنها تتأسس على خلط فاسد وسيئ بين الدين والفلسفة عن لا وعي وعن غياب كلي للنقد. فيما يتعلق بنشأة الله الشخصي في شخص الله يحتفل الإنسان بغياب تحديداته الخاصة الخارجة على الطبيعة والمستقلة عنه، ولكن الذي تصور الله كجوهر مثل اسبينوزا سيرفض الله الشخصي أي الله الموضوعي، في مقابل الله الذاتي؛ لذلك كان جاكوبي على حق في اعتبار الله شخصيا، ولكن شلنج يدخل بدهاء وخبث الطبيعة في الله الشخصي الذي تكون ماهيته هي الشخصية المتحررة التي انفصلت وتم إنقاذها من حدود الطبيعة وبالتالي في التناقض. فإذا كان شلنج قد أراد تفادي الخلق بالتوحيد بين الله والطبيعة فإنه لم يسلم من التناقض والخلط، ونقصه التحليل النفسي والتمييز بين ما هو مرضي وما هو صحيح.) (9)
سر العناية والخلق من عدم:
الخلق هي كلمة الله المنطوقة. والكلمة الخالقة هي الكلمة الداخلية المتماثلة مع الفكر. والنطق فعل إرادة؛ وبالتالي فالخلق نتيجة الإرادة، ولكنها ليست إرادة العقل بل إرادة الخيال، الإرادة الذاتية اللامحدودة. وقمة مبدأ الذاتية هي نظرية الخلق من عدم. وكذلك لا تعني نظرية قدم العالم أكثر من جوهرية المادة، وتعني أيضا الخلق من عدم ، عدم العدم. وكل شيء يبدأ ينتهي كذلك، فبداية الشيء تضع أيضا على مستوى التصور نهايته. بداية العالم هي أيضا بداية نهايته، بمجرد الحصول عليه يتم فقده، أوجدته الإرادة ثم أعدمته. إن وجود العالم وجود زمني مؤقت بلا ضمان أو قيمة. صحيح أن الخلق من عدم تعبير عن القدرة المطلقة، ولكن القدرة المطلقة من خصائص الذاتية التي تتخلص من كل التحديدات الموضوعية ثم تحتفل بهذا التحرر، فتعمل على هواها، طليقة من كل قيد. لقد تحولت الذاتية مع الفعل الحر إلى موجود أسمى كمبدأ قادر قدرة مطلقة للعالم. الخلق من عدم نوع من المعجزة. وكما أن الخلق من عدم مشابه للمعجزة فإنه أيضا مشابه للعناية لأن العناية مشابهة للمعجزة. إن برهان العناية هي المعجزة. والإيمان بالعناية هو إيمان بالقدرة المطلقة التي تعدم أمامها كل قوة أخرى. المعجزة خلق من عدم في حين أن إنتاج الخمر عمل طبيعي. في المعجزة تتأكد العناية ويظهر الله فيها خوارق العادات
Thaumaturge
كما يخرج الساحر الحمامة من كمه أو الموسى من فمه، ولكن العناية في علاقة مع الإنسان، وتقوم بأشياء للإنسان، ولأجله ولتحقيق ما يريده يتم خرق قوانين الطبيعة. المعجزات لا تحدث للجماد أو للحيوان. والله ينقذ كل البشر وبخاصة المؤمنين. العناية تفوق إنساني، تعبر عن قيمة الإنسان وميزته على سائر الموجودات، تنقذه من ارتباطات العالم القاهرة. العناية اعتقاد الإنسان بقيمته على سائر الموجودات الأخرى. الإيمان بالعناية مثل الإيمان بالخلود. هو غرور لأن الله يعتني بي، ويهتم بشأني. مصلحتي هي مصلحة الله وإرادتي إرادته، وغايتي غايته. فحب الله لي ليس إلا حبي لذاتي المؤلهة تعبيرا عن أنانيتي. ثم نقول: إن من ينكر العناية ينكر الله! إن الإيمان بالله هو الإيمان بالكرامة الإنسانية، الإيمان بالمدلول الإلهي لجوهر الإنسان. كل شيء يوجد للإنسان ولا يوجد في ذاته. الله هو الإنسان من أجل الإنسان. إن الإنسان هو غاية الخلق وأساسه. ونحن لا نثبت إلا ذاتنا (لقد حاولت وحدة الوجود التوحيد بين الإنسان والطبيعة وكلما تشخصت فيه عزلته عنها. الخلق علاقة خارجية بين الله والعالم في حين أنه علاقة داخلية بين الذات والموضوع. إن خالق العالم هو الإنسان بوعيه بالعالم، بعمله وإرادته. لا يمكن استنباط الشخصية من الله إن لم تكن فيه من قبل، إن لم يكن الله هو الوجود الذاتي الشخصي). (10)
دلالة الخلق في اليهودية:
عقيدة الخلق لها جذورها في اليهودية وهي من عقائدها الأساسية، ولكن أساسها ليس هي الذاتية بقدر ما هي الأنانية. لقد خلقت الطبيعة من أجل المصلحة، وأصبحت الطبيعة خاضعة للإرادة من أجل المنفعة. لم يصل الوثنيون إلى تصوير الخالق بالرغم من دهشتهم أمام جمال العالم. ظهرت الطبيعة لديهم غاية في ذاتها، ولم تنفصل فكرة الله عن فكرة الطبيعة في وعيهم بالعالم. يتولد العالم ولكنه غير مخلوق. فالحدس النظري في أصله حدس جمالي، والجمال هنا هي الفلسفة الأولى. وكما يقول أنكساجوراس: لقد ولد الإنسان كي يتأمل العالم. والموقف النظري هو التجانس مع العالم والتآلف معه، ولكن لما كانت الذاتية تحتوي على خيال حسي فقد تم تصور الطبيعة خادمة للمصالح الأنانية والتعبير النظري عن هذه الرؤية الأنانية العملية القائلة بأن الطبيعة في ذاتها ولذاتها ليست إلا عدما، فالطبيعة أو العالم مصنوع، إنتاج الإرادة.
المنفعة هي الأساس الأقصى في اليهودية. إن الإيمان بالعناية والإيمان بالمعجزة يقومان أيضا على المصلحة الشخصية، فلا توجد معجزة مضادة لمن يؤمن بها. أصبحت الطبيعة موضوعا للحكم الحر وللفعل الأناني الذي يصدق عليها: تحول الماء إلى جامد، والتراب إلى قمل، والعصا إلى ثعبان، والنهر إلى دم، والحجر إلى ماء، والشمس تقف أو تسير إلى الخلف، كل ذلك يحدث لمصلحة إسرائيل بإمرة «ياهوه» الذي لا يهتم إلا بإسرائيل، أنانية مشخصنة لشعب إسرائيل مستبعدة كل الشعوب الأخرى مع التعصب المطلق لإله إسرائيل. وبينما كان اليونان يدركون الطبيعة بحسهم النظري ويسمعون أنغاما سماوية في حركة الكواكب، لم يتعامل الإسرائيليون مع الطبيعة إلا بحسهم المعوي أي ببطونهم، ولم يدركوا الله إلا بمتعتهم بأكل المن. بينما كان اليوناني يدرس الإنسانيات، الفنون الحرة وعلى رأسها الفلسفة، كان الإسرائيلي يعكف على دراسة الطعام لاهوتيا «بين المساءين يجوز أكل اللحم، وفي الصباح تشبع بالخبز وتعلم أنني الرب إلهك.» ويدعو يعقوب أنه إذا ما حرسه الله وهو في الطريق، وإذا ما أعطاه خبزا ليأكل ولباسا ليلبس، وإذا ما أوصله سالما لأبيه إذن يكون الله ربه. الطعام أهم عمل ديني في اليهودية، وبالطعام يحتفل الإسرائيلي بفعل الخلق «ورأى الإسرائيليون الله، وبعد ذلك أكلوا وشربوا.» وهم على هذا الحال حتى الآن، يعطيهم الله المنفعة، ويتمثلون الأنانية في ثوبها الديني. الله هو الأنانية التي لا تسمح بفناء عبادها. الأنانية في جوهرها توحيد، الواحد الأنا، الإنسان حول الإنسان. لا ينشأ الفن إلا في كنف تعدد الآلهة لأن تعدد الآلهة ضد الأنانية. الطبيعة عند العبرانيين نتيجة لكلمة تسلطية، لأمر مطلق، ولقرار سحري. كل ذلك ضد العقل، وهدم له، وضياع للنظر. أما قدم العالم عند الفلاسفة الوثنيين فيعني أن الطبيعة لها مدلول نظري لأنهم يتأملون الطبيعة ولا ينتفعون منها كما يفعل المسيحيون المعاصرون الذين يأخذون الطبيعة موضوعا لأبحاثهم. إن عبادة الطبيعة هي صورة لتأمل الطبيعة وكلاهما لا ينفصلان، فدراسة الطبيعة عبادة الطبيعة. الوثنية بداية البدائية الطبيعية وبالتالي فالخلق من عدم ليس موضوعا للفلسفة لأنه يقضي على التأمل من أساسه بالإضافة إلى أنها نظرية غير متسقة مع نفسها من الناحية النظرية، وتؤكد المنفعة والأنانية، ولا تحتوي إلا على أمر، ليست موضوعا للتأمل بل موضوع للمنفعة واللذة. هي فارغة بالنسبة للفلسفة التأملية. وخطؤها في أنها ترى الله هو الأول، والإنسان هو الثاني فتغلب الوضع الطبيعي للأشياء. في حين أن الإنسان هو الأول، وماهية الإنسان التي تتموضع أي الله هو الثاني.
يخلق الإنسان الله على صورته ومثاله بغير إرادته وعلى غير وعي منه، ثم يخلق الله الإنسان على صورته ومثاله بإرادته وبوعي منه. قوانين الطبيعة هي قوانين الله لمصلحة بني إسرائيل، والأرض تدور حول التوراة عند فيلون. لقد أعطى الله لموسى قدرة على الطبيعة من أجل الخلاص العام لبني إسرائيل. هو نار الغضب والانتقام المدمر، الله هو الإسرائيلي بقوة الطبيعة في قوة الله أي بقوة الله أي بقوة أناه ووعيه بذاته. الله هو الذات، أنا إسرائيل. الله خلاصنا، الله قوتنا، الله يطيع البطل يشوع لأن الله يحارب مع إسرائيل. فالله إله محارب. أما الله العام، إله يونس فلم يكن يعبر عن دين إسرائيل. (11)
القادر قدرة مطلقة في العاطفة أو سر الصلاة:
إن وعي إسرائيل هو نموذج الوعي الديني باستثناء المصلحة الوطنية. ويكفي إسقاط حدودها حتى ترى الدين المسيحي. اليهودية هي المسيحية الأرضية والمسيحية هي اليهودية الروحية. المسيحية هي اليهودية بعد تطهرها من الأنانية الوطنية وهي في الوقت نفسه دين جديد لأن كل تطهير يعبر عن رؤية جديدة. في اليهودية الإسرائيلي هو الواسطة بين الإنسان والله، ولم يكن «ياهوه» إلا شعور الإسرائيلي بذاته بعد أن تموضع في موجود مطلق وفي وعي وطني وفي قانون شامل وفي مركز سياسي. بعد إسقاط الحدود الوطنية يصبح الإنسان من حيث هو إنسان هو الواسطة بين الإنسان والله. وكما يضع الإسرائيلي ذاته يضع المسيحي ذاته في الإنسان المتحرر، وكما يضع الإسرائيلي احتياجاته كذلك يفعل المسيحي. فهناك معجزات في المسيحية مشابهة للمعجزات في اليهودية، ليس الهدف فيها مصلحة الأمة بل خير الإنسان. المؤمن هو المسيحي فحسب وليس الإنسان العام الحقيقي. لقد دخلت المسيحية الروحانية في الأنانية اليهودية برفعها إلى الذاتية حتى ولو تحولت الذاتية إلى أنانية مسيحية أخرى. حولت المسيحية الخير الأرضي إلى هناء سماوي. لقد تركز إله الشعب السياسي في اليهودية، في التوراة، وهو المطلق الإلهي، ولكن في المسيحية تحول القانون إلى الحب، الحب الذي يقتضي التضحية بكل شيء من أجل الحبيب. الله هو الحب الذي يشبع رغبات الإنسان، هو يقين القلب وتأكيد الذات. ولا توجد حدود في الحب، بل هو المطلق اللانهائي. العاطفة إذن هي إله الإنسان، والله هو تمني القلب. والصلاة هي التي تسمع العاطفة التي تدرك ذاته. هي مدى الأنا الداخلية، يتخارج الألم فيها كما هو الحال مع قيثارة الفنان فيمحو الألم ويتحول إلى لحن، ويصبح الألم ماهية شاملة. ولما كانت الطبيعة لا تستمع إلى آلام الإنسان فإنها تتحول إلى الطبيعة اللامرئية، إلى الطبيعة الباطنية، يشكو إليها الإنسان آلامه، فيتخفف منها بهذا العزاء القلبي، بهذا التعبير عن الألم وهذا هو سر الله. الله دمعة حب تذرف سرا على الشقاء الإنساني. الله تنهد دفين في قرار النفس. وهنا تولد دلالة الصلاة، وهي ليست أقل من دلالة التجسد، صلاة الحب والألم. ففي الصلاة يحادث الإنسان الله ويسميه أنت. فالله هو الآخر المغاير، الأنا الآخر، يعترف الإنسان له كما يعترف أمام ماهيته الخاصة، ويعبر أمامه عن أفكاره الخاصة التي يخجل عن التعبير عنها أمام الناس. الصلاة هي التماثل بين الذاتي والموضوعي. الصلاة هي صلة القلب الإنساني مع ذاته وفيها ينسى الإنسان أن هناك حدودا لرغباته، ويعيش في سعادة بنسيانه هذه الحدود. الصلاة هي قسمة الإنسان لذاته إلى قسمين، انقلاب الإنسان على ذاته، وعلى قلبه. والكلمة اللاتينية
Oratio
تعني ما يئن القلب بحمله. في الصلاة يعبد الإنسان قلبه الخاص. (12)
سر الإيمان، سر المعجزة:
الإيمان هو اليقين بالواقع أي بالشرعية وبالحقيقة غير المشروطة للذات في مقابل حدودها أي قوانين الطبيعة والعقل. موضوع الإيمان هو المعجزة، والإيمان هو الإيمان بالمعجزة، وما هو موضوعي معجزة هو ذاتي إيمانا. المعجزة هي الواجهة الخارجية للإيمان، والإيمان هو الروح الباطني للمعجزة. الإيمان معجزة الروح، معجزة العاطفة التي تتموضع في أن لا شيء يستحيل على الإيمان. والمعجزة هي التي تثبت استحالة هذه الاستحالة. لا يوجد شك في الإيمان؛ ولذلك يتحول الذاتي من خلاله إلى موضوعي، والنسبي إلى مطلق. ليس الإيمان إلا الإيمان بألوهية الإنسان، والشجاعة على كشف ذلك. الإيمان هو يقين الإنسان بذاته. يقين الإنسان الذي لا شك فيه بأن وجوده الذاتي النسبي هو وجوده الموضوعي المطلق. لا توجد حدود للإيمان؛ فالإيمان هو الذاتية المتحررة من حدودها، ولكن بقدر ما يرتفع الإيمان يسقط العالم. الإيمان إذن سقوط فعلي للعالم. ليست المعجزة الأرضية خارقة للعادة قد تحققت، هو نشاط نمائي من أجل عظمة الله. إن فعل المعجزة ليس فعل فكر لأنها نفي للفكر، وليس فعلا حسيا طالما أن المسيحية الحقيقية موجودة وخالية من النفاق والزيف والمساومة. الإيمان بالمعجزات في نهاية الأمر إيمان ميت - والمسيحية دين حي - لأنه إيمان بالتاريخ والأشخاص والواقع، وهو التاريخ الميت، ويكون ذلك خطوة لعدم الإيمان. لا يكفي إذن تفسير المعجزة بالعاطفة والخيال دون الكشف عن أساسها في الإيمان، فالإيمان لا يكون إيمانا إلا بالمعجزات. (13)
سر البعث والولادة الخارقة للطبيعة:
لقد تحولت المعجزات إلى عقائد ولم تصبح فقط مجرد حوادث. فمثلا نجد سر البعث في الرغبة في عدم الموت، وفي غريزة حب البقاء. هذه الرغبة الذاتية تتحول إلى رغبة موضوعية، الرغبة في الأمل. والعقل غير قادر على تحقيق هذه الرغبة. فكل البراهين على الخلود غير كافية. والعقل غير قادر على معرفتها أو البرهنة عليها. العقل لا يعرف إلا البراهين المجردة العامة ولا يمكن إعطاء يقين خاص شخصي. وبعث المسيح هو يقين الإنسان بخلوده بعد الموت، الخلود الشخصي. وأصبح إنكار البعث جريمة في المسيحية. فمن ينكر البعث ينكر بعث المسيح ومن ينكر بعث المسيح ينكر المسيح، ومن ينكر المسيح ينكر الله؛ وبالتالي يتحول الدين المسيحي الروحي إلى دين بلا روح. بل إن الوثنيين استطاعوا الوصول إلى خلود الروح أو النفس ولكن على نحو مجرد لا يكفي المسيحيين. ويضم التاريخ المقدس أيضا الولادة المعجزة، فكلما كان الإنسان غريبا على الطبيعة كانت رؤيته أيضا كذلك. الإنسان الذاتي يعارض قوانين الطبيعة، ويجعل نفسه مقياسا لكل شيء ولما يجب أن يكون. فالأم العذراء ووليدها بين ذراعيها صورة تعجبه، والعذرية تصوره الخلقي الأسمى. ولما كانت العذرية والأمومة متناقضتين فقد أصبحت الولادة المعجزة في قلب المسيحي مأساة ومضمونا للإيمان. يحول المسيحي والفيلسوف الولادة والموت إلى موضوعين صوريين. أما الإنسان الحر فيعترف بهما كصورة طبيعية في حدود الطبيعة وطبقا لقانون الطبيعة في مقابل الخطيئة. وبينما يعظم الكاثوليك هذه العقيدة ويعتبرونها أساسا للحياة وللإخلاص، يقلل البروتستانت من أهميتها ويقيمون الأخلاق على العقل أو القلب؛ ومن ثم فرفض العقيدة فيما بعد كما هو واضح من الخطاب الموجه إلى القديس برنارد الذي يرفضها ليست فقط رأيا لمدرسة بل هو أساس للأخلاق. (14)
سر المسيح أو الله الشخصي:
إن العقائد الأساسية في المسيحية هي رغبات للقلب يتم تحقيقها، فجوهر المسيحية هو جوهر العاطفة. والسلب يتفق مع العاطفة أكثر من العمل، وأن يتم الإنقاذ بواسطة آخر وليس بواسطة الذات، وأن يتوقف الخلاص على الآخر وليس على الذات، وأن يحب بدل أن يصارع، وأن يكون محبوبا من الله أكثر من كونه محبوبا من نفسه. فالعاطفة هي الأنا كمفعول به. لقد وصل فشته إلى النتيجة نفسها ولكن أنا فشته ليس بها عاطفة لأن المفعول به هو الفاعل ولا يمكن تعريفه. العاطفة تقلب الفاعل إلى مفعول، والموجب إلى سالب؛ لذلك تكون السعادة في الحلم، والحلم على الضد من الشعور اليقظ، عند الحالم يكون الفاعل سالبا والسالب فاعلا. الحلم هو مفتاح أسرار الدين. والقانون الأسمى للعاطفة هو الوحدة المباشرة بين الإرادة والفعل، بين الرغبة والواقع. والمخلص وحده هو الذي يحقق هذا القانون. لقد تحدث الفلاسفة جميعا عن التوسط كعامل مهدئ للشعور المتوتر. فاللوجوس عند فيلون معلق في الهواء بين السماء والأرض، مرة كموجود فكري، ومرة كموجود واقعي. ظل فيلون متأرجحا بين الفلسفة والدين، ولكن في المسيحية تجسد هذا اللوجوس؛ وبالتالي تحول الدين نحو الموضوع. الله مخبأ ولكن المسيح كشف عنه. وفي المسيح تكون العاطفة على يقين من ذاتها. وتنفرد المسيحية بذلك لأن التجسد لم يكن له أية دلالة خاصة عند الشرقيين وبخاصة الهنود. المسيحية وحدها هي التي جعلت إنسانية الله شخصيته، فالله موجود شخصي واقعي فالله إنسان. الرغبة ضرورة العاطفة، والعاطفة تريد إلها شخصيا، وهذه الرغبة لا تكون حقيقة إلا إذا كانت رغبة شخص. وآلام المسيح هي اليقين الأسمى، اللذة الذاتية القصوى، العزاء الأقصى للعاطفة لأنه في دم المسيح تنطفئ الرغبة في الإله الشخصي. (15)
التمييز بين المسيحية والوثنية:
المسيح هو الذاتية القادرة، القلب الذي تم خلاصه من قوانين الطبيعية، العاطفة التي تستبعد العالم كي لا تستبقي إلا ذاتها، تحقيق كل رغبات القلب، الصعود السماوي للخيال، عيد بعث القلب. المسيح إذن هو الذي يميز بين المسيحية والوثنية. في المسيحية لا يركز الإنسان إلا على نفسه وبالتالي يشعر أنه موجود لا حدود له، الذات والموضوع، في حين أن القدماء قد جعلوا الموضوع ضد الذات. المسيحيون أحرار أمام الطبيعة ولكن حريتهم ليست حرية العقل بل حرية العاطفة والخيال، حرية المعجزة. المسيحيون يحتقرون العالم ولا يعتبرون إلا الفرد في حين تضع الوثنية الإنسان مع الطبيعة، وتعتبر الإنسان الفرد في علاقته مع الجماعة. الله هو قصور الجنس (المنطقي) واعتباره شخصا في المسيحية، وهو الشامل في الوثنية. يجعل المسيحيون العقل فرديا خالصا ويجعله الوثنيون شاملا. لم تدرك المسيحية الأجناس والأنواع، ويبدو ذلك في فكرة الخطيئة في كل إنسان. لقد جعلت المسيحية الإنسان إله الإنسان. (16)
المعنى المسيحي للرهبنة الإرادية ولحياة الرهبنة:
مع اختفاء فكرة الجنس أو النوع من المسيحية فإنها لا تحتوي في داخلها على مقومات الحضارة ما دام الله هو الفرد، هو الإنسان، والله لكل إنسان على انفراد. الله هو الذاتية المطلقة، الذاتية فوق العالم، منفصلة عنه، متحررة من المادة التي تجردت من حياة الأجناس وبالتالي من التميز بالأجناس والأنواع. غاية المسيحي الأساسية هي القطيعة الأساسية، هي القطيعة مع العالم والمادة وحياة النوع. وتتحقق هذه الغاية على نحو حسي في حياة الرهبنة. وإنه لخداع نفسي أن يرغب الإنسان في أن يحيا حياة الرهبنة. ولم تصدر الرهبنة عن الشرق وحده لأنها تنشأ من الروح ومن طبيعة الغرب بوجه عام. تنبع الرهبنة من الاعتقاد المسيحي الضروري بالسماء الذي تعده المسيحية للإنسانية. فحيث تكون حياة السماء حقيقة تكون حياة الأرض كذبا. وحيث يكون الخيال وجودا يصبح الواقع عدما. تفقد هذه الدنيا قيمتها من أجل السماء، والإيمان بقيمة السماء هو إعدام لقيمة الأرض. لقد فهم القديس أنطونيوس وحده عبارة المسيح «إذا أردت أن تكون كاملا، اذهب وبع كل ما تملك وأعطه للفقراء فسيكون لديك كنز في السماء ثم تعال واتبعني.» وهذه حرية وهم وخداع. يقدس المسيحيون مبدأ العذرية والحمل العذري كمبدأ للخلاص، كمبدأ للعالم الجديد، العالم المسيحي. فإذا قيل: الحياة ازدواج، وقد أمر الدين بالتكاثر ، وبأن ما ربطه الله في السماء لا يمكن حله في الأرض، وبالتواصي بالتزاوج في العهد القديم قيل: الله ذاتي شخصي، والحب كذلك. وهو حب غيور يرفض المشاركة مع آخر. حب الله حب حقيقي وحرفي وشخصي ووحيد. أما حب المرأة فزنا للروح. إن من يهتم بامرأة لا يهتم إلا بأمرها ومن ليس له امرأة يهتم بالله كما يقول بولس. يفكر المتزوج في إدخال السرور على زوجته أما العازب فإنه يفكر في إدخال السرور على الله. فكما أن المسيحي ليس في حاجة إلى حضارة فإنه ليس في حاجة إلى حب. الحب الجنسي حب خادع، حب دنيوي يطرد من السماء، ومن يطرد من السماء يطرد ماهيته الحقيقية. في السماء أفراد بلا جنس، أفراد خلص، ذاتية مطلقة. والحياة الحقة هي الحياة السماوية. (17)
السماء المسيحية أو الخلود الشخصي:
إن حياة العذرية وحياة الزهد بوجه عام هي الطريق المباشر إلى حياة الخلود السماوي. فالسماء هي الحياة الذاتية على الإطلاق والخارقة للعادة مع التحرر من الجنس والنوع. التمييز بين الجنسين خداع لأن الفرد موجود لا جنسي. الخلود هو الإيمان بالشخصية بلا حدود. الله هو السماء الروحي، والسماء هو الله الحي. الله هو السماء الذي لم يتطور، والسماء هو الله المتطور. الله هو مملكة السموات ولكنه في المستقبل هو السماء الذي هو الله. الله هنا في الوجود ولكنه في المستقبل هو المجرد، فالمستقبل هو ملخص السماء. الله هو تصور الجنس (المنطقي) الذي لم ينفرد ولم يتحقق إلا هناك. الله هو الماهية السماوية الخالصة الحرة، هو تصور الماهية للحياة السماوية، هو الحياة المطلقة التي يتم التفكير فيها كسماء، فلا يوجد فرق بين الله والسماء. الله هو وجودي الدفين اليقيني، ذاتية الذوات، شخصية الشخصيات، أن أقيم مستقبلي على حاضري، وأن أحول الفعل إلى مفعول. الله هو الوجود الذي يقابل عواطفي ورغباتي. الله هو القوة التي بها يحقق الإنسان سعادته الأبدية. وعقيدة الخلود هي آخر عقيدة في الدين. إن لم أكن خالدا لما كان الله هو الله ولما كان هناك خلود ، وما كان هناك إله. الخلود إذن حقيقة تحليلية تتضمن حقائق أولية أخرى. لو آمنت بالله لامتلكت الخلود أيضا. ويتطلب الاعتقاد بالسماء المدح والذم، الثواب والعقاب؛ لأنه ذو طبيعة نقدية. الجنة للمسيحيين دون المسلمين، وللمؤمنين دون الكفار، وللأخيار دون الأشرار. ليست الحياة الأخرى إلا حياة الانسجام مع العاطفة، حياة يمحي فيها الشقاق، ويعيش فيها الإنسان في تآلف ووئام مع نفسه. لقد كان الإيمان بالعالم الآخر عند الشعوب البدائية هو إيمان مباشر بالدنيا دون تجريد وعمومية، دون قطع معها. لا فرق إذن بين معتقد المسيحيين ومعتقد البدائيين إلا في أن الأولين ذوو حضارة والآخرين بلا حضارة، أي في درجة التجريد والعمومية. وكما أن الله ليس إلا ماهية الإنسان بعد أن يتم تطهيره من تحديدات الإنسان الفردي سواء من الفكر أو من العاطفة، كذلك فالآخرة ليست إلا الدنيا بعد تحريرها وتخليصها من حدودها. فإذا ما انفصل الإنسان عن ماهيته فإنه سرعان ما يعود إليها. الاعتقاد بالآخرة هو اعتقاد بحرية الذاتية، بخصوص حدودها في الطبيعة، وهي في الحقيقة إيمان الإنسان بذاته. الإيمان بالله هو إيمان الإنسان بماهيته الحقيقية المطلقة بعد أن نقذفها خارج العالم ونجعلها خارقة للطبيعة وفوق طاقة الإنسان. الإنسان هو بداية الدين، والإنسان هو النقطة المتوسطة فيه، والإنسان هو غاية الدين ونهايته.
وهكذا ينتهي فيورباخ من هذا الوصف الصحيح للدين على أنه أنثروبولوجيا، أي وضع الإنسان قبل أن يصفه وهو مغترب زائف في ثيولوجيا الدين.
ثالثا: الجوهر الزائف، أي ثيولوجيا
الدين
يبين فيورباخ في القسم الثاني تناقضات اللاهوت أي الثيولوجيا، مبينا أن الثيولوجيا هي تزييف للأنثروبولوجيا وأن ثيولوجيا الدين هي اغتراب لأنثروبولوجيا الدين. ويكشف عن جوهر الدين، ويبين التناقضات اللاهوتية في إثبات وجود الله وفي وصف ماهيته وفي التصورات الفلسفية لله، وفي التثليث وفي الوحي وفي الطقوس وفي الإيمان والحب وفي الإنسان بوجه عام. ويكشف عن هذه التناقضات لا على نحو جدلي كما هو الحال عند هيجل، بل يكشف عنها في الزمان وفي حياة الإنسان وفي شعور الإنسان. وحل هذه التناقضات بإرجاعها إلى مصادرها الأولية في أنثروبولوجيا الدين أي بالقضاء على الزيف والعود إلى الصحيح. (1)
وجهة النظر الجوهرية للدين:
إن وجهة النظر الجوهرية للدين عملية، أي ذاتية! فغاية الدين هي الخير والخلاص. وسعادة الإنسان وعلاقة الإنسان بالله ليست إلا علاقة الإنسان بخلاصه، والله ليس إلا تحقيق الخلاص أو القوة المتناهية لتحقيق الخلاص وسعادة الإنسان؛ لذلك كانت المسيحية عقيدة في الخلاص أكثر منها عقيدة في الله. ولا يتأتى الخلاص بالحصول على نعيم أرضي لأنه انحراف من الله، بل إن الآلام والبؤس والشقاء والأمراض تعتبر امتحانا من الله ووسيلة للتقرب إليه، فالمؤمن هو المصاب. وبصرف النظر عما في ذلك من ماسوشية اللذة في عذاب النفس، فإن ذاتية الألم تميل إلى موضوعية التأليه كتعويض وسند وحماية. في الألم يحتاج الإنسان إلى الله، ويشعر بالله كأنه حاجة، ويدعوه ساعة الضر فإذا كشف الله عنه الضر كأنه لم يدعه بالأمس، فينبسط الإنسان في السرور والفرج وينقبض في الألم والشقاء. في الألم ينفي الإنسان حقيقة العالم، وكل ما يثير الفنان وخياله يضيع معناه، فيغوص في نفسه، ويلجأ إلى العواطف ويكون مثاليا في العالم، طبيعيا في نفسه، مهتما بخلاصه. ويضع الدين ضمن معتقداته اللعنة والبركة، الإدانة والبراءة، العقاب والثواب. فالسعادة للمؤمن، والشقاء لمن لا يؤمن. ولا يلجأ الدين في ذلك إلى العقل بل إلى العاطفة، عواطف الخوف والرجاء، ولا يعرض المسائل نظريا بل يوجهها عمليا، فالدين سلوك عاطفي. ثم يشخص الدين خارج الإنسان وخارج الطبيعة حاجاته وأوهامه في صورة وجود شخص خاص هو الله. ثم يعزو إليه الإنسان كل الخير، كما يعزو إلى الشيطان كل شر. الشيطان هو الشر اللاإرادي الذي لا يمكن تفسيره، والله هو الخير اللاإرادي الذي لا يمكن أيضا تفسيره. فالله والشيطان قرينان، والله موجب والشيطان سالب. ثم يأتي الفضل الإلهي للوقوف أمام قوى الشيطان وقهرها. فالفضل الإلهي من مخترعات العبقرية الدينية، وهو في الحقيقة المصادفة الدينية لأنه بلا شرط أو علة، مجاني يعبر عن الذات، وليس له تبرير موضوعي. الفضل نفي للعلل الثانية وهي العلل المؤثرة في حين أن العالم مستقل ويخضع لقوانين الطبيعة؛ وبالتالي تكون كل الكونيات الدينية تحصيل حاصل وخداع. ولم يزد الخلق شيئا إلا إضافة قصور آلي للكونيات القديمة. لقد وجدت المعجزات في الماضي ولكنها لا توجد في الحاضر أو في المستقبل، فالله تصور يكمل النقص النظري ويفسر ما لا يمكن تفسيره (الله هو ليل الدين، والليل بحر الدين، والمعرفة تحل كل لغز، وتوضح كل غامض، فيتحول الليل إلى نهار، فتظهر شطآن البحر. والصلاة عمل الدين الأساسي، تعبر عن جوهره، الصلاة قادرة على الإطلاق، وما يرغبه المؤمن التقي في صلاته يعطيه الله إياه. والطلبات ليست روحية بل نفعية مادية. الصلاة وسيلة خارجة عن الطبيعة للسيطرة على الطبيعة التي يعجز الفعل الإنساني عن السيطرة عليها. الصلاة إنكار للعلل الثانية وللحرية وللفعل الإنساني، وإثبات للحصول على الغايات عن طريق الواسطة. وحيث يبدأ الدين تبدأ المعجزات، فكل صلاة صادقة معجزة، وفعل لقوة خارقة للعادة. المعجزة تعبير عاطفي عن الدين، وتشبع حاجات عملية نفعية، وتقع في تناقض مع قوانين الطبيعة التي تفرض نفسها على العقل. المعجزة أنانية دينية أو روحية لإشباع حاجات المحتاج. وباختصار تتمثل وجهة النظر الجوهرية للدين في أن الله هو الأنا الآخر، نصف الأنا المفقود، يجد فيه الإنسان نصفه الضائع، وفي أن الدين قتل للعالم وضياع للفن، وتنكر للواقع اللانهائي وللانهائي الواقعي. يستغرق الدين بالله، وينقص نظريته الجمالية، ويضع في الله غائيته الذاتية). (2)
التناقض في وجود الله:
الدين هو علاقة الإنسان بماهيته الخاصة ولكنها ماهية منفصلة عنه، خارجة منه، غريبة عليه بل ومعارضة له. وهنا يكون الموقف الزائف المعارض للعقل والأخلاق وللطبيعة. وهنا ينشأ الخيال الديني ليصور الموقف الزائف وليحدث كل المآسي الدينية في التاريخ. إن حضور الماهية الإنسانية المنفصلة عنه رؤية إرادية صبيانية ساذجة تميز بين الإنسان والله ثم توحد بينهما. وبمجرد نشأة الفكر وعمل الذهن واستيقاظ الشعور المزيف ينشأ اللاهوت وتتحول الرؤية اللاإرادية إلى رؤية قصدية واعية من أجل تفريغ هذه الوحدة والتمايز خارج الشعور بعد بدايتها فيه. كلما كان الدين في بدايته لم يكن هناك فرق بين الإنسان والله. فكان العبراني القديم يفصل بين الله والإنسان في الوجود ولكنه في الصفات يعطي الله كل صفات الإنسان. وقد تم التغلب على ذلك في اليهودية المتأخرة بالرمز. وقد حدث الأمر نفسه في المسيحية، فلم تظهر ألوهية المسيح إلا متأخرا خاصة عند بولس والكنيسة البدائية. كانت أول محاولة للفصل بين الله والإنسان واعتبار الله خارج الإنسان في وجود الله ومحاولة البرهنة عليه بالبراهين العقلية، ولكن هذه البراهين تناقض جوهر الدين. فالله هو ما لا يتصور الإنسان أعظم منه كما هو الحال في الدليل الأنطولوجي أي ما يعبر عن الإنسان (وما يعتبره الإنسان أسمى وأعظم ما هو إلا هاد للعقل وأخلاق للعاطفة والتمني والرغبات. فعواطفه اعتقاده هو الله بالنسبة له في حين أن الوجود هو الوجود الحسي العياني الذي لا يمكن استنباطه؛ ومن ثم يجعل فيورباخ الأحمق على حق وأنسيلم على خطأ في المعركة بين أعداء الدليل الأنطولوجي وأنصاره. الدليل الأنطولوجي مجرد إسقاط ورغبة تولد المرغوب فيه، وتمن يتحول إلى وجود. الله هو نفس القلب الحسي، وما السماء إلا المسرح الحر للانفعالات، ولكن الدين لا يعي هذا القياس اللاشعوري. إن مهمة البراهين على وجود الله إخراج الداخل، وتخريج الانفعالات، وتشخيص العواطف خارج الإنسان وليست إثبات أي موجود واقعي في الخارج. ومن نتائج هذا التناقض أيضا الإلحاد، وهي تهمة لا توجه للمحلدين بل للمؤمنين الذين ينكرون وجود الله الفعلي، ويؤمنون بماهية الإنسان المتموضعة خارجه على أنها إله وهو وهم. وينتج عن الإلحاد نفي لكل المبادئ الخلقية، ونفي وجود الله هو نفي لكل أساس للتمييز بين الخير والشر، بين الفضيلة والرذيلة. ويقوم الخيال بدور كبير في الإيقاع في الوهم. وقد بدأت دلائل أخرى على وجود الله، وهي التي سماها كانط الدلائل البعدية أو الكونية أو الفيزيقية ابتداء من العالم والحقائق التجريبية والمادية المزدهرة في العصر ولكنها أيضا تبدأ من العالم الحسي ثم تتحول إلى وهم عن طريق تخيل موجود في الخارج. والحقيقة أنه إذا ما تم التوحيد بين الاعتقاد بالله والاعتقاد بالعالم تم القضاء على الزيف وينتهي الاغتراب). (3)
التناقض في الوحي الإلهي:
الوحي هو البرهان الوحيد على وجود الله؛ فالله يكشف عن نفسه من خلال الوحي، ويرسل دليلا حسيا ملموسا على وجوده. فالوحي شهادة من الله على نفسه بأنه موجود. الوحي هو البرهان الوحيد الموضوعي في حين أن البراهين العقلية ذاتية خالصة. الله يتحدث، ويكلم الإنسان، فالوحي هو كلام الله للإنسان، صوت يخلب اللب، ويستولي على المشاعر. الإيمان بالوحي هو ذروة الموضوعية الدينية، يتحول فيه اليقين الذاتي إلى واقعة تاريخية خارجية لا يمكن الشك فيها. لقد برهن الله بنفسه على وجود ذاته. وظهر على أنه إله موضوعي. لم يعد الله إلها لي، بل إله في ذاته له وجوده المستقل عني. الله هو الرابطة المشخصة بين الماهية والجنس (المنطقي)، وبين الطبيعة الإنسانية والشعور الإنساني. وبالرغم من ذلك فإن الوحي يضم عدة تناقضات؛ أولا: أن الإنسان لا يمكنه معرفة شيء عن الله، وأن كل معرفة عبث، وأن الإنسان لا يمكن أن يعلم شيئا عن الله إلا ما يعلمه الله إياه عن نفسه من خلال الوحي. المعرفة الإنسانية مجرد ظن ورأي في حين أن الوحي حقيقة ويقين، وهكذا يتم التنكر للمعرفة الإنسانية والحط من قيمتها والشك فيها وهدمها. ثانيا: الله يفكر في الإنسان ولأنه يرسل إليه وحيا، فالإنسان مقصد الله ومحدثه. ولكن يقع اللاهوتي في خطأ شنيع عندما يجعل الإنسان يفكر في الله، ويجعل الله مقصد الإنسان ومحدثه أي قلب الأنثروبولوجيا إلى ثيولوجيا في حين أن سر الثيولوجيا في الأنثروبولوجيا. ثالثا: الإيمان بالوحي إيمان صبياني، مرتبط بالمراحل الأولى لتطور البشرية. الوحي تربية للجنس البشري من الطفولة إلى المراهقة إلى الشباب. ويختفي بمجرد استقلال الإنسان عقلا وإرادة. وهي الفكرة التي ورثها فيورباخ من فلاسفة التنوير الألمان وعلى رأسهم كانط ولسنج. رابعا: الوحي قضاء على الحس والتذوق الخلقي والجمالي للفضيلة، بل هو قتل وتسميم للحس الإلهي للإنسان، حس الحقيقة والإحساس بها. الوحي حقيقة خاصة محدودة وليس حقيقة عامة وشاملة في كل زمان ومكان، مسطورة في الطبيعة، يدركها الذهن الإنساني؛ لذلك يجب تدوين الوحي في لغته الأولى حتى يتم حفظه في صورته الأولى. خامسا، يعارض الوحي العقل بما فيه من معجزات وخرافات وأساطير. ولما كان الحق لا يعارضه بل الحق يوافقه ويشهد له لزم تأويل نصوص الوحي حتى تتفق مع العقل وتحل التناقضات. سادسا: لما كان الوحي مكتوبا فقد حدث فيه بالضرورة خطأ في النقل والرواية أي في الوحي الموضوعي. ولما كانت الحقيقة أيضا معطاة ذاتيا في الإيمان، حدث تناقض بين الوحي المكتوب والوحي الروحي، وانشطر الإنسان. (4)
التناقض في ماهية الله بوجه عام:
الله هو ماهية الإنسان التي تتحول إلى ماهية فوق إنسانية
Surhumain . الله ماهية خالصة وكائن شخصي في آن واحد، عام وخاص، كلي وجزئي، شامل ومحدود، هذا هو التناقض. فما يجب أن يكون ينفي بالضرورة ما هو كائن. والله الذي لا يسمع لصلواتنا ولا يرعانا ولا يعتني بنا لا يكون إلها وبالتالي تتحول الإنسانية إلى صفة لله. ولما كان ذلك لا يكفي نسب إليه الإنسان صفة ما فوق الإنسان وما فوق الطبيعة. فالله تأليه. والوحدة هنا جزء لا يتجزأ من الله. ثم أتى اللاهوت وأغرق ذلك في خضم من الأوهام والخيالات والتناقضات والسفسطات. فمثلا يقول اللاهوت: «إن الله يتجاوز حدود الفهم وسر لا يمكن النفاذ إليه.» وينقل صفة معروفة إلى صفة أخرى غير معروفة، وصفة طبيعية إلى صفة أخرى فوق الطبيعية للإيهام بأن الله مخالف للإنسان. وعدم الفهم هذا موقف انفعالي يتدخل فيه الخيال الذي هو العضو والماهية الأصلية للدين. لا نهائية الله لا نهائية كمية لأنها صفة إنسانية مقلوبة، الإنسان كم. الله موجود حسي سلب منه الحس، وحل محله الخيال، وهو حس بلا حدود. فالله خالد مطلقا وعالم مطلقا أي حس مدفوع إلى آخر حدوده. فالخلود والحضور على الإطلاق صفات حسية. ووظيفة الخيال توسيع أفق الحس. الأنا المحدود والنسبي المحدود يتم إطلاقهما بالخيال، وهكذا الحال في باقي الصفات. فالبداية هي الحس والواقع الجزئي (وبالتالي كانت الوثنية أقرب إلى الدين الصحيح . الله إذن هو ضرب الإنسان في نفسه إلى ما لا نهاية فيصبح الله كل شيء، كل خير وكل وجود، ويكون الخلاف بين الله والإنسان مجرد خلاف في الكم لا في الكيف. ليس الدين في حاجة إلى عقل بل في حاجة إلى خيال. الدين نفسه تعويض عن نقص الحضارة، فالمتدين ليس في حاجة إلى ثقافة. هو سعيد بخياله، ولا يحتاج إلى الخروج عن ذاته. المسيحية بماهيتها لا تفهم مبدأ الحضارة. لذلك كان العبرانيون على عكس اليونان). (ومثل ثان لتناقضات اللاهوت هو مفهوم النشاط أو العمل أو الصنع أو الخلق؛ ففي الفعل يجد الإنسان نفسه حرا سعيدا بلا حدود في حين أنه يجد نفسه في الانفعال محدودا، مقهورا، شقيا. الفعل هو الشعور الإيجابي للذات. ويحدث الشيء نفسه بالنسبة لله. فالله هو السرور أو الفرح اللامحدود نتيجة للفعل، فيخلق كل شيء. ونجاح الفعل ودقة الصنع إنما ينشآن من أننا نحب ما نفعل. الخلق إذن نظرية سهلة لتفسير العالم تدل على عدم تحمل الذهن وسيادة العاطفة لسد نقص غياب نظرية فيزيقية للعالم في الدين.) (لقد وضعت المسيحية أمام الوثنية التي تفسر نشأة العالم على نحو طبيعي نظرية ذاتية عاطفية عملية بل أقرب إلى الأسطورة منها إلى النظرية وهي الخلق. ولما كان من الضروري التمييز بين عمل الإنسان وعمل الله فتم تصور الخلق من عدم لنفي أي تشابه أو تماثل بينهما.) (ومثال ثالث هو توليد الابن من الآب، توليدا خارقا للعادة من فوق الطبيعة وتمييزه عن التوليد الطبيعي، توليدا ليس له حدود، ضد العقل وضد الطبيعة من فعل الخيال، وهما خداعا، بالرغم من محاولته تفسير البعيد بالقريب، والأسمى بالأدنى، وما فوق الطبيعي بالطبيعي. ومثال رابع، تصور الفردية أو الاستقلال أو الشخصية. فالله شخص يرسل وحيا، وصفاته صفات الإنسان، والشخص ضد وحدة الوجود الذي هو في قلب المسيحية. فاللوجوس هو الإنسان السر، المتضمن، الخفي. والإنسان هو اللوجوس الظاهر المتجلي. الله حي مثل الإنسان، والدين هو الإنسان قاسما نفسه قسمين بفعل الخيال.) (5)
التناقض في النظرة التأملية لله :
وهي نظرية المثالية الألمانية سواء في صورتها الصوفية عند جاكوب بوهمه أو في صورتها الفلسفية الميتافيزيقية عند اسبينوزا وكانط وهيجل وشلنج. وهي النظرية التي تجعل الله تصورا عقليا، وأنه لا يوجد إلا من خلال الإدراك الإنساني كما أن الإنسان يوجد من خلال الإدراك الإلهي، ولكن الدين يجعل من الشخصية الإلهية الوسيلة التي يقلب الإنسان بها تحديداته وتمثلاته لماهيته الخاصة إلى تحديدات وتمثلات لموجود آخر خارجه. فالشخصية الإلهية ليست إلا إخراج الشخصية الإنسانية من موضعتها. لقد حول هيجل الشعور الذي لدى الإنسان عن الله إلى شعور الله بذاته. فأصبح الله موضوع ذهننا وتصوراتنا. وأصبح هذا الموضوع الفكري هو الموضوع الفكري لله. يذهب التأمل إذن أبعد مما يذهب الدين؛ لأن الله كموجود فكري ليس هو الله كموضوع خارجي. الله موجود داخلي روحي فكري شعوري، فعل داخلي محض. هذه الموضوعية التأملية تعني شيئين: الأول أن الله موضوع لفكرنا والثاني أن الله موضوع لفكر نفسه. أصبح الله في الفلسفة التأملية شعورا ذاتيا خالصا، يفكر في ذاته، كإله اليونان. وهذه هي النزعة الوجدانية الإنسانية في الدين. وطالما أن الله لا يعرف إلا من خلال الإنسان، فهو إنسان مشخص. الإنسان لا شيء بدون الله، والله لا شيء بدون الإنسان. في الإنسان وحده يصبح الله موضوعا كإله، وتصبح كل تحديدات الإنسان وصفاته الفيزيقية والعاطفية تحديدات وصفات لله. لقد بدأ جاكوب بوهمه بالكشف عن عواطف الإنسان ثم أخرجها وشخصها فأصبحت إلها (ومع أن الله عند شلنج يجمع بين قوى عديدة إلا أنه غير قادر بالفعل. الشعور الديني أكثر عقلانية منه لأنه يكشف عن ذاته ويتحقق من خلال الإنسان الواقعي بالطبيعة الفعلية. الإنسان هو الدم الذي ينطق بمدائح الله. فالعاطفة التي يشعر بها الإنسان تجاه الله هي نفس العاطفة التي يشعر بها الله تجاه ذاته. وعند هيجل أيضا، شعور الإنسان بالله هو شعور الله بذاته. فالشعور الإنساني هو شعور إلهي، واغتراب الإنسان عن شعوره هو جعله إياه شعورا إلهيا موضوعيا. فلماذا يوصف الله بصفات الإنسان؟ لماذا يكون الله شعورا في الإنسان وللإنسان ماهية الله؟ لماذا يكون لله ماهية وللإنسان شعور؟ لأن المعرفة التي عند الإنسان عن الله هي نفس المعرفة التي عند الله عن ذاته؛ وبالتالي يصبح كل اتجاه تأملي في الدين اغترابا، فالدين لا يجعل الإنسان متأملا في الكون بل يجعله فاعلا فيه. ويكون موقف هيجل بفلسفته التأملية موقفا مغتربا). (6)
التناقض في التثليث:
لا يموضع الدين أو اللاهوت ماهية الإنسان أو الله فقط باعتباره موجودا شخصيا، بل يعطي أيضا تحديدات أساسية لهذه الماهية في أشخاص. فالتثليث ليس إلا مجموع الفروق الجوهرية الأساسية التي يراها الإنسان في ماهيته. وهي تماثل التحديدات في الشخصية الإلهية. فتغترب الشخصية الإنسانية عن ذاتها بإدخالها هذه التحديدات في الشخصية الإلهية. الشخصية الإلهية لا توجد إلا في الخيال ولا توجد أيضا تحديداتها إلا بالخيال. التثليث تناقض من حيث إنه يضع تعدد الآلهة في تصور الإله الواحد، فيضع الخيال في العقل، ويدمج الأسطورة في الواقع. يفترض العقل وحدة الأشخاص ولكن الخيال يضع التثليث. وفي حكم العقل، هذه التمييزات من صنع الخيال، أي مجرد وهم في حين أنها في نظر الخيال وجود. يقتضي التثليث أن يفكر الإنسان عكس ما يتخيل، وأن يتخيل عكس ما يفكر، يقتضي التفكير في أشباح وكأنها موجودات حقيقية، فالعقل يستبعد تعدد الآلهة من الألوهية (ففي سر الثالوث المقدس بقدر ما هو حقيقة مستقلة عن ماهية الإنسان كل شيء فيه ينتهي إلى خداع وخيال وتناقض وسفسطة. وكأن فيورباخ هنا يرد على إعلاء الرومانسيين من شأن الخيال والحلم). (7)
التناقض في الطقوس:
وكما يتضمن الجوهر الموضوعي للدين تناقضات واضحة كذلك يتضمن الجوهر الذاتي تناقضات أوضح. وتناقضات الجوهر الذاتي للدين هي الإيمان والحب اللذان يتخارجان في الشعائر وطقوس العماد والمشاركة؛ فطقس الإيمان هو العماد، وطقس الحب هو المشاركة. الإيمان والحب هما عنصرا الدين الذاتيان. الإيمان هو الأمل بالنسبة للمستقبل ولكنه يتشخص ويتحول إلى وجود خاص كما تحولت من قبل ماهية الإنسان وتشخصت في الله. يتحول الماء من ماء طبيعي إلى ماء فوق طبيعي
Surhumain . وكما يوقعنا الدين في اغتراب عن ماهيتنا الخاصة وكما نغترب عن ذواتنا يغترب الماء عن ذاته ويتم ذلك أيضا بفعل الخيال. وكما يغترب الخمر فيصبح دما، ويغترب الخبز فيصبح جسدا إذ يتم ذلك بفعل المعجزة. لا يمكن فهم العماد بدون المعجزة، كما لا يمكن أن يحصل الإيمان بدون المعجزة إذ لا يعتمد على الذات ولا على النشاط المستقل أو على حرية الحكم والاعتقاد. المعجزة هي التي تجعلني أومن بحقيقة فاعل الأعاجيب
Thaumaturge . والملحد ينكر الله لأنه لا يجده في التجربة، ولا يريد الاعتماد على المعجزة. وإذا كان العماد للأطفال فالمشاركة للكبار، غرضها المشاركة في جسد المسيح، الجسد الحقيقي. فالمسيحي قبل الإفطار في الصباح وهو صائم يتمثل جسد المسيح بالتناول، بالفعل وليس بالروح وحده. الحقيقة أن ذلك لا يتم إلا في الخيال مثل تحويل الخمر إلى دم، والخبز إلى جسد. الإيمان قوة الخيال التي تحول الواقع إلى لا واقع، واللاواقع إلى واقع، وهو ما يعارض شهادة الحس وبرهان العقل. ينكر الإيمان ما يثبته العقل، ويثبت ما ينكره العقل. لقد استطاعت البروتستانتية أن تقيم مشاركة أفضل تتم بالكلام وباللغة وليس بالخمر والخبز. ومع ذلك فالنتيجة واحدة: الخرافة واللاأخلاقية. (8)
التناقض في الإيمان والحب:
بعد أن تكشف الطقوس عن التناقض بين المثالية والمادية، بين الذاتية والموضوعية، وهما يكونان ماهية الدين، فإن الطقوس ليست شيئا بدون الإيمان والحب. فالتناقض في الطقوس يؤدي بنا إلى التناقض في الإيمان والحب. ماهية الدين هي التوحيد ولكن الظاهر هو التفريق. فالله ماهية الإنسان المتوحد مع وجود ولكنه يعرف في الدين باعتباره آخر منفصلا. الحب يكشف عن ماهية الدين المتحدة بمضمونه، والإيمان يكشف عن وضعه وصورته (الحب يوحد بين الإنسان والله، والإيمان يفرق بينهما) ولما كان الله هو التصور الجنسي (المنطقي) الصوفي للإنسانية، فالتفرقة بين الإنسان والله تفرقة بين الإنسان ونفسه، وقضاء على الخير المشترك. بالإيمان يتناقض الدين مع الأخلاقية ومع العقل ومع الحس الإنساني بالحقيقة. والحب اتفاق مع الأخلاق والعقل والحس. الإيمان يعزل الله ويجعله موجودا خاصا آخر، والحب يفحم ويعارض هذه التناقضات ويجعل الله موجودا عاما. الإيمان يقسم الإنسان إلى قسمين؛ داخل وخارج، والحب يشفي جراح الإيمان في قلب الإنسان. الإيمان يجعل حب الإنسان لله قانونا، والحب يجعله حرية. ولا يدين الملحدون لأنهم ملحدون. ولأنهم يلغون على الأقل عمليا، إن لم يكن نظريا، وجود إله خاص معارض للإنسان. الإيمان يفصل، وبالتالي فهو خاطئ، يضع صورته في شكل عقائد صحيحة في مقابل أخرى خاطئة. والحب يجمع ويجد المضمون المشترك بين العقائد المتباينة. الإيمان نفي لا يسمح بقبول شيء داخله
Exclusive ، والحب إثبات وضم وحنان. الإيمان يتعامل مع شيء خاص، ومع وحي خاص، ومع إله خاص، ولا يعرف ما هو عام ومشترك، والحب على عكس ذلك. الإيمان يحدد الإنسان ويقيده، ينزع منه حريته وقدرته على تقدير الآخر المنفصل عنه، والحب الضد من ذلك. الإيمان مغلق على نفسه. واللاهوتي سجين مذهبه، ويصوغ الإيمان موضوعه على أساس من المصلحة والأنانية بدعوى البحث عن السعادة في وجود شخص خاص. المؤمنون أرستقراطيون وغير المؤمنين من العامة، والله هو تشخيص المؤمنين على حساب غير المؤمنين. الإيمان مغرور بل وأعتى من الغرور الطبيعي لأنه يعتمد على موجود أسمى، المخلص والمنقذ، والكريم وصاحب الأيدي والنعمة. تواضع المؤمن إذن غرور مقلوب، تواضع ظاهري. الإيمان محدود، ومن خلال هذا التحدد يكون الله غير المحدود. الإيمان أمر ضروري ومن ثم فهو عقيدة. الإيمان أناني لا يبحث إلا عن خلاص المؤمن ولو غرق الآخرون. الإيمان كراهية (من ليس مع المسيح يكون ضده). الإيمان عداء للآخرين، موالاة للمؤمنين، ومعاداة لغير المؤمنين. الإيمان يعارض نصوص الكتاب المقدس باسم العقيدة ومن أجلها. الإيمان يكفر ويدين الذين لا يؤمنون ، ويلغي ويطرد من الرحمة باسم حب المؤمنين وبغض الكافرين. الإيمان مجتمع مغلق، والمؤمن لا يعاشر إلا المؤمن. الإيمان عماد الحب وتحويله إلى طقس. الإيمان يقضي على الصلات الطبيعية للإنسانية، ويقيم بدلا عن العلاقة الشاملة علاقة خاصة بين الناس. الإيمان نفاق وادعاء، الإيمان تحيز ومحاباة. سبب الحروب الدينية والمذابح الطائفية، واضطهاد الفرق (المخالفة في الرأي). الإيمان تعصب لا يعرف التسامح، ومرتبط بالوهم والجنون والطائفية. الإيمان نقيض الحب، والحب صنو العقل (الإيمان تناقض في كل شيء. الإيمان واجبات أمام الله مناقضة للواجبات أمام الإنسانية. الإيمان تشخيص تمحي فيه الفضائل والأوامر الخلقية وتصبح شخصية خاصة. الإيمان معارض للأخلاق بالرغم من إيحائه للإنسان بالسعادة وهي في حقيقة الأمر سعادة وهمية. الإيمان على أقصى تقدير، لا يقدم إلا أخلاقا سلبية مثل الصبر، والتوكل، والتضحية، والعذرية، مظاهر فضيلة. هكذا يتناقض الإيمان مع نفسه ويتعارض مع الحب. الحب هو الأخلاق والإيمان هو الدين. الحب صفة والإيمان موضوع. الحب بلا إيمان، والإيمان بلا حب. الحب لكل الناس والإيمان لشخص خاص. الحب قانون شامل للعقل والطبيعة، جعله فيلون الفضيلة الأولى، كما جعل أرسطو الصداقة، وهي إحدى صور الحب، توحد بين السيد والعبد وكما جعل الفلسفة، وهي صورة أخرى للحب، توحد بين البشر، وعند الرواقيين يوجد الإنسان للآخر، ويدعو سنيكا لحب الجميع). الحب مباشر بلا واسطة مثل العقل في حين أن الإيمان في حاجة إلى توسط. الإيمان اغتراب لا يقضى عليه إلا بالحب. (9)
تطبيق أخير:
بعد هذه التناقضات يجب تجاوز ماهية المسيحية وماهية الدين بوجه عام. لقد برهن فيورباخ على أن مضمون الدين وموضوعه إنساني كلية، وأن سر الثيولوجيا هو الأنثروبولوجيا، وأن سر اللوجوس الإلهي الماهية الإنسانية، ولكن الدين ليس على وعي بالطبيعة الإنسانية بل يعارض كل ما هو إنساني، ولا يعترف بمضمونه الإنساني. إن تحويل مجرى التاريخ إنما هو في هذا الاعتراف العلني بأن الوعي الإلهي هو الوعي بالجنس (المنطقي)، وأن الإنسان يستطيع بل يجب أن ترتفع حدوده وفرديته وشخصيته ولكن ليس فوق القوانين والتحديدات الجوهرية لجنسه. لا يستطيع الإنسان أن يوجد أو يشعر أو يتخيل أو يريد أو يحب إلا ماهيته الخاصة باعتبارها مطلقة وإلهية. ويحدد فيورباخ موقفه من الدين بأنه ليس سلبيا بل نقديا، وأنه ليس هادما بل بناء. الدين هو الشعور الأول للإنسان بذاته لأنه شعور الإنسان بذاته، حب الإنسان لذاته، لذلك كانت علاقات الدين هي علاقات الأخلاق، وكانت علاقات الزواج علاقة مقدسة في ذاتها بطبيعة العلاقة وليس لأنه ديني. ويفكر الإنسان المتدين في الله لأن الله يفكر فيه، ويحب الله لأن الله يحبه. وكما أن الله غيور من الإنسان فإن الدين غيور من الأخلاق. إننا عندما نؤسس الأخلاق على اللاهوت والقانون على الشريعة الإلهية يمكننا في الوقت نفسه تبرير أكثر الأشياء ظلما وعارا وتأسيس اللاأخلاقية. إننا لا يمكن أن نؤسس الأخلاق على اللاهوت إلا إذا تم تأسيس الوجود الإلهي أولا على الأخلاق، وإلا استحال الحصول على مقياس للأخلاق واللاأخلاق، وتركنا الأمر للعبث والتعسف، وكأن فيورباخ هنا يعيد مشروع كانط للسلام الدائم بتأسيس السياسة على الأخلاق. إننا لسنا في حاجة إلى شريعة الدولة المسيحية بل في حاجة إلى شريعة الدولة العقلية العادلة الإنسانية. فالعادل والخير الحقيقي يحتوي على أساسه في ذاته وهو القادر على هدم الزيف والخداع الذي يفسد الإنسانية والذي يقتل في الإنسان قواه الحيوية. يجب علينا قلب العلاقات الدينية، وتفسير الوسائل على أنها غايات؛ فالماء ليس هو الماء المقدس في العماد بل الماء في الطبيعة. والخبز ليس هو الخبز المقدس بل هو خبز الجوعى. والجسد ليس الجسد المقدس بل جسد الإنسان العادي. والدم ليس هو الدم المقدس بل دم الشهداء والضحايا. إن الطبيعة في حاجة إلى الإنسان كما أن الإنسان في حاجة إلى الطبيعة. الطعام والشراب، هذا هو سر المشاركة!
وهكذا ينتهي فيورباخ من محاولته لإعادة الدين إلى الموقف الإنساني، وإعادة ملكوت السموات إلى ملكوت الأرض وهو ما حاوله الإسلام قبل ذلك بثلاثة عشر قرنا، وكأن الفلسفة الغربية كلها منذ الإصلاح الديني وعصر النهضة وفلسفة التنوير حتى فيورباخ والهيجليين الشبان ما هي إلا محاولة للاقتراب من إنسانية الإسلام وواقعيته ورفضه للكهنوت والأسرار وتأكيده للعقل والتوحيد. فسهام فيورباخ موجهة إلى الدين قبل أن يكتمل وليس بعد اكتماله وتحققه؛
اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا (المائدة: 3).
ثورة الجماهير عند أورتيجا إي جاسيه1
أولا: الكتاب، والأسلوب، والمنهج،
والنسق
يعتبر أونامونو وتلميذه أورتيجا أشهر ممثلين للوجودية الإسبانية وللفلسفة الإسبانية على الإطلاق منذ سواريز
Suarez
في القرن السادس عشر. جعل الأستاذ فلسفته كلها تدور حول الفرد كما يتصوره كيركجارد ونيتشه وبسكال مأساة تنتهي في حشرجة الموت.
1
كما يعتبر أورتيجا أشهر فيلسوف إسباني معاصر. قال عنه كامو: «ربما يكون أورتيجا إي جاسيه بعد نيتشه هو أعظم كاتب أوروبي وفي الوقت نفسه يصعب أن يوجد كاتب أكثر إسبانية منه.»
ولد أورتيجا عام 1883م في مدريد. وبعد دراسة جادة للفلسفة في إسبانيا سافر إلى ألمانيا، ودرس الفلسفة، وتأثر بالفلسفة الحيوية عند دريش ودلتاي وكذلك بعلم الاجتماع الحيوي عند زمل
Zimmel
ونيتشه. كما تأثر بمدرسة ماربورج والتي كثيرا ما يشير إلى أعلامها مثل بول ناتورب وهرمان كوهين وإن لم يشر إلى كاسيرر. وبعد رجوعه إلى مدريد عين أستاذ كرسي للميتافيزيقا في الجامعة المركزية وظل يشغله حتى أتت الهجمة الدكتاتورية على الجامعة لإذلالها والقضاء على حريتها واستقلالها.
ثم أسس عام 1915م مجلته «إسبانيا» وجعلها منبرا له يعبر من خلالها عن فكره، ويقوم بدوره كباعث للفكر الإسباني سواء في ميدان الفلسفة الخالصة أو في ميدان العلوم الاجتماعية والسياسية. ثم أسس عام 1924م «مجلة الغرب» فأصبحت أكثر المجلات تعبيرا عن الحياة العقلية في إسبانيا كما فعل جان بول سارتر الشيء نفسه في «الأزمنة الحديثة». وبجوار المجلة قام بنشر مؤلفات عدة تضم مقالاته التي نشرها في المجلة من قبل مع مقدمات جديدة. وفي عام 1918م قبل دعوة للذهاب إلى بوينس آيرس بالأرجنتين لإلقاء عدة محاضرات في الجامعات الأرجنتينية لاقت رواجا ضخما خاصة في عامي 1928-1929م. وبعد سقوط الدكتاتور بريمودي ريفيرا عاد أورتيجا إلى إسبانيا ليشغل كرسي الفلسفة الذي تركه من قبل بسبب عدائه للدكتاتورية . وبدأ في كتابة سلسلة من المقالات تتعلق بالحياة العامة في مجلة «الشمس» وتركز كلها على نقد صريح للنظام الملكي، ومقالات أخرى حتى آخر ديسمبر 1930م كان لها أبلغ الأثر في إسبانيا ما قبل الثورة. ومنذ ذلك الحين أصبح أورتيجا شخصية سياسية عامة، وكون مع الدكتور مارانون
Maranon
والكاتب بيريز دي أيالا
جماعة سياسية بعنوان «في خدمة الجمهورية». وقد كان لهذه الجماعة حوالي عشرة نواب في البرلمان الدستوري، ومن بينهم أورتيجا نفسه، ومنذ ذلك الوقت عرف أورتيجا خطيبا، وكاتبا، وسياسيا، ومفكرا، ورجل دولة. وبعد رفضه تولي كل المناصب التي عرضتها عليه الحكومة آثر أن يظل أستاذا جامعيا، ومفكرا حرا، كاتبا وناقدا. وتوفي أورتيجا عام 1955م.
وكتاب «ثورة الجماهير»
La Révolte des Masses
2
هو أشهر كتاب لأورتيجا. ولا يكاد يذكر اسم أورتيجا إلا ويذكر معه أنه هو مؤلف «ثورة الجماهير». وإذا ما أراد الناشر التعريف بكتاب أقل شهرة منه فإنه يشير إلى أن صاحبه هو مؤلف «ثورة الجماهير» حتى أصبح الكتاب نقطة إحالة لكل مؤلفات أورتيجا مثل «الإنسان والناس»، «الإنسان والأزمنة»، «موضوع عصرنا الحديث»، «رسالة الجامعة». ويعتبر، على حد قول إحدى المجلات الأمريكية بالنسبة للقرن العشرين بمثابة «العقد الاجتماعي» لجان جاك روسو بالنسبة للقرن الثامن عشر و«رأس المال» لماركس بالنسبة للقرن التاسع عشر. وهو ليس كتابا مؤلفا منذ البداية، يحتوي على مذهب متسق، بل هو مجموعة من المقالات نشرها أورتيجا في جريدة يومية تصدر في مدريد عام 1926م كما هي العادة مع كثير من الفلاسفة المعاصرين الذين استعملوا أساليب المقال واليوميات والتأملات والرواية والقصة والمسرحية ... إلخ، دون اللجوء إلى الأسلوب العقلي التقليدي القائم على تحليل التصورات والمفاهيم وبناء الأنساق. استعمل أورتيجا الكتابة الصحفية كأداة للتعبير. فالقدر الأعظم من مؤلفاته إن لم تكن كلها قد نشرت في الأصل في صحف إسبانية، خاصة في المجلة التي أسسها وهي «مجلة الغرب» التي ذاعت واشتهرت بفضل كتاباته. لم يكتب أورتيجا كتابا واحدا ذا أبواب وفصول. ولم يدرس موضوعا واحدا دراسة تصورية محضة أو تاريخية صرفة للجمهور الخاص بل كتب في معظم الموضوعات العصرية بأسلوب المقال للجمهور العريض. فهو بهذا المعنى كاتب
Essaiste
أكثر منه فيلسوفا. خاطب أورتيجا عامة الناس لا خاصتهم، أساتذة كانوا أو رهبانا. ربما استطاع أورتيجا أن يجمع بين الأدب والفلسفة والصحافة في أسلوب جديد أعطاه شعبية كبيرة، وجعله أقرب إلى فلاسفة الشارع ومفكري الرصيف منه إلى أستاذ الجامعة وفيلسوف الرواق. كما أنه ربما استطاع الجمع بين أساليب الأدب والخطابة وبين طرق الفلسفة والبرهان بغية التأثير على الجماهير وكسبها في صف تياره الجديد. وهذا النوع من الكتابة يعطي صاحبها شهرة فائقة وجمهورا عريضا داخل وطنه وخارجه. وقد تصيب هذه الشهرة صاحبها ببعض الغرور فيتكلم في كل شيء، ويعرض الأفكار اعتمادا على مجهودات الآخرين. يكتب أي شيء؛ فالصحيفة موجودة، والقراء ينتظرون اعتمادا على سلطة الكاتب وبصرف النظر عن تحليل الموضوع. ونتيجة لقوة الدفع التي تتولد عن اتصال الكاتب بجمهوره قد تنشأ لديه رغبة لتملق الجماهير واكتساب ولائهم متنازلا عن الدقة الفلسفية والتحليل العلمي الرصين. وهنا يتحول الكاتب إلى فنان يحرص على جمهوره حتى وإن تنازل عن فنه، فيصبح الجمهور هو الذي يوجه الكاتب كما أن شباك التذاكر هو الذي يوجه الفنان. وقد يصبح الموضوع ذاته غامضا في الذهن بحيث لا يستطيع القارئ المتخصص أن يعرف ماذا يريد أورتيجا أن يقول فينتقل بين عديد من الموضوعات، يسهب في البعض دون البعض، ويغيب التركيز على صلب الموضوع. وتكثر أسماء الأعلام والشخصيات والدول والعواصم طلبا للعصرية وإيحاء بالأمثلة التي تصور تحليلات نظرية غامضة أو غائبة؛ لذلك غلبت على كتابات أورتيجا التحليلات السريعة، والانتقال من موضوع إلى موضوع بلا تعمق كاف. يذكر القارئ بما قيل سالفا وبما سيقال آنفا. ثم يعود ويرجع إلى الموضوع الأول بعد استطراد طويل وكأن ما يخطر بباله يعبر عنه دون ما بنية للموضوع أو تصور له؛ ومن ثم كانت كتاباته أقرب إلى الأدب الصحفي منها إلى المقال الفلسفي. مهمتها تنوير القراء وتثقيف العامة وخلق تيار فكري سياسي عن طريق الفلسفة واعتمادا عليها. فكانت أشبه بكتابات رسل المتأخرة عن السعادة والجنس والتربية والسلطة والفرد والحرب والسلام والبلشفية ... إلخ بعيدا عن الدراسات المتخصصة لجمهور متخصص. ومن جراء التعامل مع الفلسفة باعتبارها محاولات
Essais
فقد غاب المقال الفلسفي الذي يعتمد على مقدمات وينتهي إلى نتائج ويقوم على براهين واستدلالات، تطبيقا لخطوات منهج وانتقالا طبيعيا من فكرة إلى أخرى. ومع أن معظم الموضوعات المدروسة ملموسة وعصرية ويمكن الوصول فيها إلى نتائج محددة، إلا أن أورتيجا تعامل معها على نحو مجرد واسع وشامل بالرغم من انتسابه إلى المنهج الظاهرياتي لوصف الموضوعات باعتبارها تجارب شعورية حية، فردية واجتماعية مثل «ثورة الجماهير»، ولكن ليست كل كتابة وصفية ظاهريات. فالظاهريات للماهيات لا للوقائع، وإدراك للدلالات لا للأحداث، وذلك من أجل الوصول إلى بنيتها أو إلى مناطقها الوجودية.
وتعبير «ثورة الجماهير» يلقى هوى في النفوس خاصة لدى شعوب العالم الثالث في مرحلتها الراهنة وبعد الثورات الإسلامية في إيران وثورات السودان وهايتي والحركات الشعبية في كوريا الجنوبية ومظاهرات الطلاب والانتفاضات الشعبية في مصر والعالم العربي والإسلامي في السنوات الأخيرة والتي قد تستمر في التسعينيات ردا لاعتبار ثوراتها في الخمسينيات والستينيات وبعد انحسار الثورة المضادة في السبعينيات والثمانينيات. فالعنوان «ثورة الجماهير» مبهر؛ إذ إننا نعيش في عصر الجماهير. ومن منا لا يود ثورة الجماهير؟ ولكن العنوان البراق قد يخفي موضوعا أقل بريقا وأكثر غموضا. ونتيجة لإعطاء الأولوية للأسلوب على الموضوع أصبح الموضوع غامضا مسطحا، وأصبحت معظم العناوين خادعة، عناوين براقة وموضوعات عادية مثل «ثورة الجماهير» «الإنسان والأزمنة»، «الإنسان والناس»، «التاريخ باعتباره نسقا»، «التطابق والحرية»، «ما هي الفلسفة؟» «نشأة الفلسفة». وقد يكون أهم ما في الكتاب هو العنوان الذي أثار في الغرب الأذهان من قبل منذ الثورة الفرنسية وثورة 1848م في ألمانيا، وثورات الشباب في العالم كله في 1968م والذي ما زال يشد الانتباه بالنسبة للشعوب المقهورة غير المنظمة التي تسيطر عليها النظم الحاكمة بأجهزة الأمن والجيش والشرطة والأمن المركزي وأجهزة المخابرات العامة والخاصة.
ويبدو أن تعبير «ثورة الجماهير» تعبير اشتباهي يوحي بالإيجاب والسلب في آن واحد. فهل «ثورة الجماهير» ظاهرة سلبية ، وقد يكون هذا هو المعنى الذي يقصده أورتيجا، أم ظاهرة إيجابية وهو المعنى الذي يثير هوى النفس أشجانا وأحزانا؟ تعني «ثورة الجماهير» بالمعنى السلبي الجماهير في مقابل الفرد، والأغلبية في مقابل الأقلية، والدهماء في مواجهة الصفوة، والديماغوجية نقيض الأرستقراطية، التسطيح والتفاهة، الإنسان الآلي الأصم في مقابل العميق والنبيل، الإنسان العظيم الحركي الحر. في حين تعني «ثورة الجماهير» لدى شعوب العالم الثالث أملا وحركة وحياة. إذا كان المعنى السلبي هو المقصود فهل يجعل ذلك أورتيجا من دعاة النظريات العنصرية والفاشية والنازية والقائمة على الصفوة المختارة، القادرة بما تتمتع به من مزايا أن تقود الجماهير الصماء؟ هل هو من أعداء النظم الاشتراكية بوصفه للعامة بأنها دهماء آلية صماء؟ وماذا عن «ثورة الجماهير» التي طالما تغنت بها شعوب العالم الثالث في مرحلة التحرر من الاستعمار في القارات الثلاث؟ هل يقصد الوضع الراهن للجماهير في البلاد النامية وصلة طبقات الشعب الكادحة بالطبقات الجديدة في عصر ما بعد التحرر وبدايات الحركات الشعبية منذ أواخر السبعينيات حتى الآن؟ يمكن الإجابة على هذه الأسئلة بالبحث عن الظواهر الاجتماعية والسياسية التي يراها أورتيجا حاملة لثورة الجماهير. هناك احتمالان؛ الأول: أن ثورة الجماهير يشير أورتيجا بها إلى ثورات الشعوب في القرن العشرين، البلشفية في روسيا، وصعود النازية (الفاشية) في ألمانيا. وهو الاحتمال الأرجح نظرا إلى إشارات أورتيجا الدائمة إلى هاتين الثورتين دون الإشارات إلى ثورات سابقة مثل الثورة الفرنسية أو ثورة 1848م في ألمانيا. وبهذا المعنى يشير أورتيجا إلى ظاهرة أوروبية صرفة هي الفاشية والبلشفية دون الحديث صراحة عن النازية. ويدعم هذا الاحتمال نقد الاتحاد السوفياتي والدفاع عن الليبرالية الفردية، صراحة أو ضمنا دون أي نقد لأمريكا والغرب، باستثناء نقد أخلاقي شائع بالخواء الروحي والأخلاقي والمعروف عند برجسون وشيلر وغيرهما ممن بينوا «قلب القيم» في الوعي الأوروبي المعاصر. والاحتمال الثاني: هو ثورة الجماهير في الحرب الأهلية الإسبانية خاصة وأن أورتيجا عرف بأنه مفكر الجمهوريين وناقد الملكية في إسبانيا. والغريب أنه لا توجد شواهد على ذلك من نصوص أورتيجا. بل لا يكاد يشير إلى الحرب الأهلية الإسبانية وموقفه من الجمهوريين ضد الملكيين. أما كتابه «إسبانيا بلا عمود فقري»
The lnvertebrate Spain
فقد كتب قبل الحرب الأهلية دفاعا عن وحدة البلاد. فإذا كان أورتيجا مفكر الجمهوريين فإنه يكون لثورة الجماهير معنى إيجابي والحال ليس كذلك. في حين ألهبت ثورة الجمهوريين خيال المفكرين والأدباء كما هو الحال في رواية «لمن تدق الأجراس» لهمنغواي. حتى هذان الاحتمالان غير واضحين في «ثورة الجماهير». بل إن السؤال النهائي في الفصل الختامي «إلى أين ينتهي السؤال الحقيقي» والذي هو أشبه بخاتمة للكتاب كله لا يتضح منه غرض الكتاب، ولا يحتوي على الإجابة الرئيسية على: ماذا تعني ثورة الجماهير؟ أية ثورة وأية جماهير؟ وبالنسبة لنا في العالم الثالث لا نجد أيضا إجابة لهمومنا وهي حركات التحرر الوطني وما تولد عنها من ثورات مضادة في القرن العشرين. وماذا عن انتحار الشعوب وموتها جوعا وعطشا كما هو حادث في أثيوبيا وتشاد والسودان؟ وماذا عن نقل الشعوب خارج أوطانها ووضع شعوب أخرى محلها كما هو حادث في فلسطين؟
ومهما يكن من شيء، هل يمكن العثور على نسق موحد يمكن على أساسه فهم ماذا تعني «ثورة الجماهير»؟ إن نقطة البداية في فلسفة أورتيجا هي «العقل الحيوي» في مقابل العقل المجرد أو العقل النظري كما تصوره المثاليون. العقل الحيوي يثبت الفرد وواقع الأشياء في حين أن العقل النظري يقضي على واقعية الأشياء، هو العقل الرياضي الذي يحيل العالم إلى معادلات أو العقل الطبيعي الذي يحيله إلى رموز أو العقل الفلسفي الذي يحيله إلى تصورات. في مقابل هذا العقل التقليدي يضع أورتيجا العقل الحيوي، وهو أسلوب في التعامل، طريقة في الحياة أو الحياة نفسها. هو الفعل
Le Faire
أو تحقيق الحياة باعتبارها مشروعا. العقل الحيوي هو «الأنا في موقف»، يختار بين الممكنات، مهمته إدراك هذا العالم السابق على الحكم الذي حاول هوسرل في «التجربة والحكم» الكشف عنه وإعادة تكوينه. بل إن العقل المجرد نفسه هو إحدى صور العقل الحيوي. على هذا النحو يشير أورتيجا مع معظم الفلاسفة المعاصرين الذين يجعلون من الحياة انطلاقا لهم كما هو الحال عند برجسون، ووليم جيمس، وماكس شيلر، واشبنجلر، وجويو، وفوييه استمرارا لهذا التيار الذي بدأه دلتاي ودريش من قبل في القرن الماضي وجولد شتين في هذا القرن. والحياة هي الموضوع المشترك بين جميع الفلاسفة المعاصرين - كما كانت الرياضة هي العامل المشترك بين فلاسفة القرن السابع عشر - بصرف النظر عن أسمائها: «تصور العالم» عند دلتاي، «العضو» عند جولد شتين، «الدافع الحيوي» أو «التطور الخالق» أو «الذاكرة» أو «المعطى البديهي للوجدان» عند برجسون، «الإحساس الدرامي» عند أونامونو، «عالم الحياة» عند هوسرل، «الشخص» عند شيلر ومونييه، «الجسم» عند ميرلو بونتي، حتى الحرية أو العدم عند سارتر، والوجود أو الموت عند هيدجر هي أيضا بعض صور الحياة. وقد يبدو الجمع بين العقل والحياة مستحيلا طبقا لمنطلق «إما ... وإما ...» على التبادل كما هو الحال عند كيركجارد ومعظم اتجاهات الفلسفة المعاصرة. إلا أن أورتيجا يشير بالعقل الحيوي إلى شيء أشبه بالدافع الحيوي على ما يقصده برجسون وكأنه يريد الإبقاء على لفظ العقل تحت تأثير مدرسة ماربورج ودراسته للفلسفة الألمانية. يكفيه ربطه بالحياة ودون اللجوء إلى تراجيديا الحياة كما فعل أستاذه أونامونو. والحقيقة أن إحساس العصر بالحياة كنقطة بداية عند معظم الفلاسفة المعاصرين إنما نشأ بسبب حربين عالميتين كان مصير الإنسان فيهما معلقا بين الحياة والموت، ومن رغبة البحث عن معنى الأشياء بالعودة إليها بعد رفض عصر النهضة والفلسفات العقلية وعصر التنوير كل قيم مسبقة، وبعد انهيار القيم البديلة التي وضعها القرن التاسع عشر؛ إذ تحول العلم إلى آلة، والتقدم إلى غزو، والقوة إلى استعمار، والإنتاج إلى استغلال، والتضخم إلى حروب، والوفرة إلى انتحار، والتقدم إلى يأس.
ونتيجة لذلك، أعطى أورتيجا الأولوية للعقل العملي على العقل النظري كمعظم الفلاسفة المعاصرين. فالأفكار
ldées
لديه أقرب إلى العقائد
Croyance
منها إلى التصورات النظرية، والفكر
أقرب إلى الحياة منه إلى المعرفة المجردة
Connaissance
3
وهنا يبدو أورتيجا مثل معظم الفلاسفة المعاصرين مع التحليل الوجودي الشائع الذى بدأه كيركجارد والقائم على تعارض الفكر والوجود. كلما فكرت ابتعدت عن الوجود أي عن الحقيقة، وكلما اقتربت من الوجود ابتعدت عن التفكير أي عن الزيف، وهو الموقف الذي لخصه كيركجارد في عبارته المشهورة «أنا أفكر فأنا إذن غير موجود»، ردا على عبارة ديكارت الأكثر شهرة «أنا أفكر فأنا إذن موجود». ولما كان كل فيلسوف معاصر يثبت موقفه المقابل للعقل بأخذ فيلسوف عقلي والجدال معه حول وظيفة العقل وضرورة الحياة كما هو الحال في الجدال بين كيركجارد وهيجل، هيدجر وكانط، سارتر وديكارت، هوسرل وديكارت، برجسون وكانط فإن أورتيجا سار على المنوال نفسه في حواره مع ليبنتز حول «فكرة المبدأ».
4
فكل فكرة فشل للحقيقة، وكل تصور خيانة للأشياء، والحياة العامة ليست فقط عقلية بل هي حياة خلقية وسياسية واجتماعية واقتصادية. إنما العقل محاولة للتقريب والفهم وليس بديلا عن العالم. إن التقابل بين العقل والوجود مثل التقابل بين الوهم والحقيقة. والمثل على ذلك أنه في رأي العقلانيين وأصحاب دوائر المعارف الله مجرد تصور أو تصور مجرد في حين أن أصحاب العقائد يرون أن التاريخ هو المطلق الحقيقي، وأن التاريخ هو واقع الإنسان، والله هو هذا التاريخ لأن التاريخ هو كل شيء، الماضي والمستقبل، الأول والآخر، البداية والنهاية؛ ومن ثم كان إنكار الماضي تناقض ووهم. فالماضي هو طبيعة الإنسان، يفرض نفسه عليه ولا يستطيع له دفعا؛ لذلك نشأت الحركات الدينية الإصلاحية وكأنها عود إلى الماضي وعود إلى البدائية والشيوع وكما هو الحال في الإسلام الأول والمسيحية الأولى.
ثم طبق أورتيجا نقطة البداية لديه وهي «العقل الحيوي» على الفرد والجماعة، الأنا والآخر، الإنسان والناس، الليبرالية والاشتراكية ... إلخ، كما انتقل هوسرل من الذاتية إلى العلاقات بين الذوات والتجارب المشتركة، وكما انتقل سارتر من تحليل الشعور الفردي في «الوجود والعدم» إلى تحليل الشعور الجماعي في «نقد العقل الجدلي». بل إن «حياة الحوار» في لغة الأنا والأنت أصبحت من أهم الموضوعات في الفلسفة المعاصرة عند جابريل مارسل، ومارتن بوبر، وندونسل ... إلخ. واختلفت الآراء حول الآخر بين «الآخر هو الجحيم» وبين «الآخر هو النعيم». ويبدو أن أورتيجا من أنصار الرأي الأول وكما يتضح ذلك من «ثورة الجماهير» وتأكيده على الفرد في مقابل الجماعة، وعلى الذات ضد الإنسان الجماهيري، وعلى الليبرالية في مواجهة النظم الجماعية. ولا وسيلة للانتقال من الفرد إلى الجماعة، من الأنا إلى الآخر، ومن العزلة إلى المشاركة إلا عن طريق اللغة بالرغم من قصورها وحدودها وعدم استطاعتها التعبير عن المعاني وإيصالها إلا على وجه التقريب. يخرج الفرد من عزلته ويتصل بالآخرين عن طريق اللغة التي هي في حقيقتها جدل وحوار ولكنه حوار خفي يجد الفرد فيه نفسه وليس حديثا لكل الناس. ليست وظيفة اللغة إعطاء تعريفات منطقية فهذا يستحيل في حياة الجدل والحوار. فكل تعريف إن لم يكن خاطئا فإنه يدعو إلى السخرية إذ يتضمن بعض التحفظات في الإعلان عن الأشياء الضمنية والتي لا يمكن الإفصاح عنها. تحديد مفردات الألفاظ في اللغة إذن مدعاة للسخرية لأن وظيفة اللغة التعبير والإفصاح، ووظيفة التعريف التغطية والإضمار. يعارض أورتيجا التعريف التقليدي للحصول على التصورات نظرا لأن وظيفة اللغة ليست في إعطاء معلومات بل في فك الحصار عن الفرد من أجل مشاركته مع الآخرين. لا تخضع اللغة لمنطق البرهان بل لمنطق الجدل أي الحوار بين الأنا والآخر، بين الإفصاح والإضمار، وبين الجلاء والخفاء، خطوة إلى الأمام وخطوة إلى الخلف. واللغة بطبيعتها قادرة على التعبير عن المحكم والمتشابه، والظاهر والمؤول، والمقيد والمطلق، والمبين والمجمل على ما يقول الأصوليون وعلى ما هو معروف في علوم البيان والبديع والبلاغة. تفترض اللغة وجود المتكلم ووجود السامع ثم تأتي الكلمات بالمصادفة وقد يخون التعبير، ويساء استعمال اللغة بالحديث عن الكل ولا شيء أو الحديث للكل وليس لأحد كما هو في ظاهرة الثرثرة. اللغة جدل وحوار، ولكنه حوار خفي يجد الفرد فيه نفسه. لا يوجد حديث لكل الناس بل لفرد عين. والحديث عن الإنسانية والعموميات والأقطار أقرب إلى ديماغوجية عصر التنوير ومثاليات المفكرين الأحرار والرومانتيكيين مثل كانط ولسنج الذين لا يدركون حدودهم، ويتجاوزون مصيرهم، ويخلدون فناءهم.
وكتاب «ثورة الجماهير» هو أشهر مؤلف لأورتيجا ضمن مؤلفات جاوزت الثلاثين . ويمكن تصنيفها جميعا ومن خلال المترجمات الإنكليزية والفرنسية إلى مجموعات ثلاث يدور كل منها حول موضوع رئيسي وبصرف النظر عن ترتيبها الزماني.
5
المجموعة الأولى تدور معظمها حول الاجتماع والسياسة. وتأتي في مقدمتها «ثورة الجماهير» 1930م، «الإنسان والناس» 1940م، «موضوع عصرنا الحديث» 1928م، «الإنسان والأزمة»، «إسبانيا بلا عمود فقري» 1928م.
والمجموعة الثانية تدور حول الفلسفة، وتأتي في مقدمتها «ما هي الفلسفة» 1929م، «نشأة الفلسفة» 1943م، «بعض دروس الميتافيزيقا» 1923م، «التطابق والحرية» 44-1945م، «التاريخ باعتباره نسقا» 1941م، «تفسير التاريخ الشامل»، 48-1949م، «فكرة المبدأ في فلسفة ليبنتز وتطور النظرية الاستنباطية»، «كانط» 1930م.
والمجموعة الثالثة حول الفن والحضارة. وفي مقدمتها «محاولات إسبانية»، «في الحب»، «القضاء على إنسانية الفن» 1926م، «تأملات في دون كيخوت» 1914م، «ظاهريات الفن»، «فالاسكويز، جويا»، «رسالة الجامعة» 1931م.
ويمكن أيضا تصنيف أعمال أورتيجا على مراحل ثلاث في حياته. طبقا لتطور فلسفته. المرحلة الأولى «الموضوعية» وتشمل الكتابات قبل 1914م وهي تطابق أعماله الأدبية والفنية والتي فيها حاول أورتيجا التخلص من موضوعية القرن التاسع عشر التي سادت العلوم الإنسانية الاجتماعية. والمرحلة الثانية «المنظور»
، وتشمل الكتابات بين 1914-1923م وتضم مرحلة الفلسفة. وهي المرحلة التي تميز فيها أورتيجا بفلسفة خاصة مؤكدا فيها أن الإنسان موجود ظرفي
Circonstancial
أي أنه ابن ظروف عصره، وأن الحياة موقف والتزام معرفي وأخلاقي. المنظور ضد المعرفة المطلقة والنظريات المسبقة، وتعبير عن موقف إنساني محدد. والمرحلة الثالثة «العقل الحيوي» وتشمل الكتابات بعد 1924م، وتشير إلى مؤلفاته الاجتماعية والسياسة.
6
وكتاب «ثورة الجماهير» يضم خمسة عشر مقالا تسبقها «مقدمة للقارئ الفرنسي» مثل مقدمة «ظاهريات الروح» لهيجل بالرغم من البون الشاسع بين العملين من ناحية البنية الفلسفية والإحكام النظري والأهمية التاريخية. وقد نشرت مادة هذه المقدمة من قبل في «إسبانيا بلا عمود فقري» عن الوحدة والتنوع في أوروبا، وتظهر فيها المركزية الأوروبية. وهي ثاني الأقسام من حيث الحجم. أما المقالات الخمسة عشر فهي على النحو الآتي: (1) «واقعة التجمهر»
Agglomération ، ويعرض فيها أورتيجا لثنائية الجماهير والصفوة أو العامة والخاصة وهي إحدى سمات العصر. (2) «الصعود إلى المستوى التاريخي »، ويعني بذلك ظهور الجماهير كمادة تاريخية وكحدث رئيسي من أحداث العصر وكمحرك لأحداث التاريخ. (3) «قمة الزمان»، ويعني بذلك تعبير ظاهرة الجماهير عن روح العصر وكونها إحدى لحظات التطور في الزمان وتراكم الأحداث في التاريخ حتى لحظة الانفجار في الثورات. (4) «نماء الحياة»، ويعني بذلك رؤية العصر من خلال حركة الجماهير ومن خلال العقل الحيوي مما يجعل أورتيجا قريبا من إقبال وبرجسون وباقي فلاسفة الحياة. (5) «معطى إحصائي»، ويقصد به أورتيجا الواقع الإحصائي لحركة الجماهير من حيث تعداد السكان في أوروبا وأمريكا خاصة كإحدى سمات العصر أو ما يسمى بالكثافة السكانية. (6) «أين يبدأ الفصل بين الإنسان والجماهير؟» والقصد من هذا السؤال إثبات صعوبة الفصل بين الإثنين؛ فالإنسان جماهيري، والجماهير لها سمات الشعور الجمعي. (7) «الحياة النبيلة والحياة التافهة أو الجهد والخمول»، وهي إحدى الثنائيات التي يظهر فيها العقل الحيوي. فالحياة النبيلة والجهد لدى الصفوة والتفاهة والخمول لدى الجماهير! (8) «لماذا تتدخل الجماهير في كل شيء، ولماذا لا تتدخل إلا بعنف»؟ والقصد من السؤال اتهام الجماهير بممارسة العنف وكأن الصفوة لا تمارس عنفا! (9) «البدائية والتقنية»، وهي ثنائية تميز بين الفطرة والاكتساب، بين بدائية الجماهير والتحكم فيها من خلال التقنية وتحققاتها في التصنيع والإنتاج. (10) «البدائية والتاريخ»، وهي ثنائية أخرى تميز بين الحاضر والماضي، بين غياب الذاكرة وتراكم الخبرات. فالإنسان كائن تاريخي يحمله الوعي الفردي، والجماهير عود إلى البدائية! (11) «عصر الإشباع الحسي»، والغاية منه نقد مجتمع الاستهلاك وكأن الجماهير وحدها هي التي تستهلك دون الصفوة على عكس ما تشير به الإحصائيات من نسبة استهلاك الصفوة إلى استهلاك الجماهير. (12) «بربرية التخصص»، وذلك من أجل نقد روح التخصص في العلم الحديث وفقدانه للتصور الشامل حتى ضاع منه المنظور. (13) «أكبر خطر، الدولة»، وذلك من أجل نقد الدولة لما تمثله من خطورة على حرية الفرد، وكأن أورتيجا يعيد ثورة باكونين وشترنر ضد هيجل دفاعا عن الفرد ضد السلطة وثورة كاسيرر ضد الدولة النازية في «أسطورة الدولة». (14) «من الذي يقود العالم؟» وهي أطول المقالات من أجل عرض قضية قيادة العالم الآن، من الغرب أم من خارج الغرب، الصفوة أم الجماهير؟ (15) «إلى أين ينتهي السؤال الحقيقي؟» وهي أشبه بخاتمة الكتاب كله لا يتضح منها غرض الكتاب، ولا تحتوي على الإجابة على السؤال الرئيسي وكأن أورتيجا يصف الظاهرة ولا يصدر حكما عليها.
وهكذا يبدو أن دراسة أورتيجا «ثورة الجماهير» وكما يقول هو عن نفسه؛ هي دراسة من مثقف مستنير لا من سياسي متخصص. يقدم لونا جديدا من ميتافيزيقا السياسة لدراسة ما وراء المشاكل السياسية. بل إن أورتيجا يرى أن مهمة المثقف ومهمة السياسي متعارضتان. مهمة المثقف توضيح المشكلة ومهمة السياسي زيادة غموضها. الثقافة السياسية تكشف الحاضر وتوضح الحقائق أما سياسة السياسيين فهي على الضد من ذلك التمويه والخداع. وهذا هو أحد معاني «ثورة الجماهير» أي عمل السياسيين الذي يفرغ الجماهير من حياتها الداخلية.
وتدور الفصول الخمسة عشر كلها حول موضوعين رئيسيين: «الإنسان الجماهيري» و«انهيار الغرب». والظاهرتان متداخلتان لأن الأولى علامة على الثانية، والثانية إحدى نتائج الأولى. وتعني ظاهرة «الجماهير» في العصر الحاضر سيادة الأغلبية وامحاء الفردية، وظهور العقل الجمعي والرأي العام والنظم الجماعية حتى إنه ليقال إن العصر الحاضر هو عصر الجماعة سواء في البحث العلمي أو في العمل السياسي. ويعني «انهيار الغرب» هذا الخواء الروحي الذي طالما نبه عليه معظم الفلاسفة المعاصرين بصرف النظر عن التسمية: قلب القيم عند ماكس شيلر، ضياع عالم الحياة
LebensweltverIoss
عند هوسرل، والعدمية عند نيتشه، والانهيار الحضاري الشامل عند اشبنجلر.
ثانيا: الإنسان الجماهيري
L’homme-Masse
الإنسان الجماهيري على وجه التحديد هو أحد أفراد الجماهير أو الإنسان العامي الذي سماه هيدجر «السين» من الناس
Das Mann
هو نوع من البشر يتكون تكوينا سريعا، يتكرر باستمرار، ويتشابه مع غيره، لا تاريخ له ولا رغبة له، يقبل أي نظام ويتشكل كما يطلب منه، له كل الحقوق، ولا واجبات عليه، فارغ من تاريخه، وطيع لكل النظم السياسية والدولية. ينقصه الداخل، وتغيب فيه الذاتية. وقد يكون اليوم نموذج العامل في الطبقة العاملة أو الفلاح في جماهير الفلاحين. هو المغلق على نفسه، لا صلة له بالآخرين، ولا يعرف الحوار . يعادي الليبرالية، ولا يمارس الحرية، ولا يختار بين البدائل. هو إنسان الدهماء. الإنسان الجماهيري عدو للاتجاه التحرري لأنه يعلم أن التحرر عود إلى الأصالة وهو يود البقاء في مجال الزيف. التحرر تأكيد على الفردية والإنسان الجماهيري غوص في الدهماء. هذا النوع من البشر موجود في المجتمعات المتطورة وفي المجتمعات النامية على حد سواء. ففي المجتمعات المتطورة حذر المفكرون من قبل من الإنسان الآلة
L’homme-Robot ، وهو ترس في مجموعة من التروس، لا فردية له ولا كيانا مستقلا. وهو ما يذكرنا بآراء ماركس الشاب في وضع العامل في المجتمع الصناعي وتحوله إلى شيء يساوي إنتاجه. وفي المجتمعات النامية هو أحد أفراد العامة الذي تسيره القادة كما تشاء، تشير له فيصفق، وتشير له ثانيا فيكف، تجمعه ليستقبل، وتدعوه ليوافق. بل إن أورتيجا يرفض الإنسان أيضا كما تصوره عصر التنوير، الإنسان العام الذي يمثل الإنسانية كلها أو مواطن العالم
Le Citoyen du Monde ، إنسان يتكرر. أما إذا ظهر من بين هذا الخضم إنسان فريد فإنه يكون الفرد الأوحد كما ظهر جيفارا من جماهير أمريكا اللاتينية. هذه الجماهير في ثورة ولكنها أشبه بحركات التاريخ وانفعالات الدهماء ومشاغبات العامة. والحقيقة، وعلى غير ما يعتقد أورتيجا، إن ثورة الجماهير الآن سواء في المجتمعات المتطورة أو في المجتمعات النامية تدل على وعي بمشاكل العصر. فقد نشبت ثورات الشباب في العالم في 1968م في المجتمعات المتطورة ضد مساوئ النظام الرأسمالي ومجتمع الاستهلاك الداعي للحروب. وفي المجتمعات النامية نشبت الثورات للتخلص من بقايا الاستعمار القديم أو من براثن الاستعمار الجديد أو من سيادة الطبقات الجديدة، فالثورة الآن ضد مظاهر الطغيان الاقتصادي في الدول المتطورة أو السياسي في الدول النامية، هي ثورة على نظم حكم الفرد المطلق، وثورة الطبقات الكادحة التي لم تحصل بعد على مزايا التحرر والتحول الاشتراكي. الثورة مفهوم فلسفي، وتجربة فردية واجتماعية، وليست مجرد حركة أو انقلاب يرمي إلى تغيير الواقع. الثورة علم وليست مجرد انفعالات أو ضربات عمياء. وثورات الشعوب علامة على تقدمها وحيويتها وليس على تأخرها وسكونها.
ويعيد أورتيجا عرض القضية ، الإنسان الجماهيري في مقابل الفرد الحر في صورة تقابل آخر بين الأغلبية والأقلية، بين الجماهير والصفوة، بين العامة والخاصة. الجمهور هو الأغلبية في مقابل الصفوة وهي الأقلية. تعبر الأغلبية عن الإنسان المتوسط أو الإنسان العادي
L’homme-Moyen
الذي لا يختلف عن غيره، بعكس الأقلية التي تقوم على أفكار ورغبات لأنها تتطلب الكثير من نفسها لأن الأغلبية لا تتطلب من نفسها شيئا. هذه الثنائية بين الأغلبية والأقلية وبين العامة والخاصة موجودة في كل الأديان وفي كل الملل والنحل. هي طبقية بشرية لا طبقية اجتماعية لأن العامة والخاصة موجودتان في كل طبقة اجتماعية. وبعد أن كان الخاصة هم أصحاب السلطة وكان للصفوة المختارة الحق في تسيير الجماهير أصبحت العامة الآن صاحبة الأمر؛ لذلك يمتاز العصر الحاضر بسيادة العامة على الخاصة وانتصار أنصاف المثقفين على المثقفين وغير المتخصصين على المتخصصين بعد أن قررت الجماهير أخذ مصيرها بأيديها، وأخذها مركز الصدارة الاجتماعية، وتمتعها بمزايا الصفوة المختارة، وحلولها محلها. وهذا ما تؤكده التغييرات السياسية المعاصرة. فقد كانت النظم الديمقراطية القديمة تسمح بقدر كبير من الليبرالية، وكان باستطاعة الصفوة المختارة أن تفعل ما تشاء. والآن ظهر نوع جديد من الديمقراطيات العليا
Hyper-Democratie
فيها تحكم الجماهير حكما مباشرا.
ويعيد أورتيجا صياغة القضية نفسها مرة ثالثة في علاقة الفرد بالجماعة. فعلى الرغم من تركيز أورتيجا على الإنسان الجماهيري كسلب إلا أنه يحلل الإنسان الذاتي أو الفرد كإيجاب، كما فعل كيركجارد في الفرد، ومونييه وشيلر في الشخص، أو حتى شترنر في الفرد الأوحد. وتبدو الفردية كلما انتقلنا من الطبقة الدنيا إلى الطبقة الوسطى ثم إلى الطبقة العليا. الفردية تقود إلى الصفوة كما تؤدي الجماعية إلى الجماهير. وفي الفرد يتجلى العقل الحيوي، ويختفي في الجماعة، يبدع في الصفوة، ويتوارى في الجماهير، يظهر في الأقلية ويضيع في الأغلبية، وكأن أورتيجا أقرب في تفسير الظواهر الاجتماعية إلى بارتيو في تركيزه على دور الصفوة في القيادة وفي الوقت نفسه ينقد البلشفية والفاشية على أنها حركات جماهير مع أنها أيضا ترى الصفوة ممثلة في قيادة فعالة نشطة أخلاقية ومبدعة. بل إنه يكون أيضا أقرب إلى الفكر الديني الذي يركز على دور الأنبياء في التاريخ، وعلى ضرورة وجود الأقلية المؤمنة
Le Petit reste
والباقيات الصالحات التي بفضلها يتم إنقاذ الأغلبية الكافرة وعامة الناس
La Foi des Simples
على الرغم من غياب الدين في فكره كمحور أساسي وعلى عكس أستاذه أونامونو في «احتضار المسيحية» باستثناء مواقف قليلة ينقد فيها أورتيجا رفض الجماهير - وهي في ثورتها - التدين والمعرفة النظرية من أجل الدراسات السياسية وتحركات الدهماء! أليس الدين أيديولوجية الجماهير كما هو واضح في لاهوت الثورة ولاهوت التحرر في أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية؟ ألا يتحول الدين تحولا طبيعيا إلى العلوم الاجتماعية وهذه بدورها إلى الأيديولوجيات السياسية على ما يصف جويو في «لا دينية المستقبل»
L’Irreligion de l’Avenir .
ولكن ظروف العصر تمنع أن يعيش الإنسان فرديته نظرا لتضارب مشاريع الفرد مع مشاريع الجماعة. ومع ذلك فالفرد يعيش بالضرورة في جماعة، والحياة الاجتماعية تتطلب بالضرورة الاشتراك مع الآخرين في فعل الجماهير. فالجماهير شر لا بد منه! وهنا يبدو أورتيجا أقرب إلى جان بول سارتر في أن «الجحيم هو الآخر» مع أن الفرد قد يقوى بفعل الجماهير، وتتأكد فرديته وينمو مشروعه من خلال مشاركة الآخرين. وإذا اعترف أورتيجا بأن الجماهير شر لا بد منه ما دام الإنسان الجماهيري لا يستطيع أن يعيش حياة فردية نظرا لتعارض مشروعه مع مشروعات الآخرين، فإنه أيضا يعترف بضرورة الإبقاء على حياة الجماهير، ونمط سلوكها، ولكن حتى في هذه الحالة تتحول أية مشاريع مشتركة بين الفرد والجماعة مثل العدالة الاجتماعية إلى رومانسية خطابية باسم التضامن الاجتماعي
Solidarisme . ثم يبرز الديماغوجيون فيقضون على الحضارة كلها إذ ان الديماغوجية هي عدم شعور بمسئولية الديماغوجي عن آرائه وأفكاره التي لم يبدعها هو بل تلقفها من الصفوة. الديماغوجية عند أورتيجا هي إحدى صور الانحطاط العقلي. هي شر مركب في الطبيعة الإنسانية، تظهر في الإنسان الجماهيري. والحقيقة أن هناك فرقا بين الديماغوجية والثورة. الأولى تحريض للجماهير والثانية تحقيق علمي لحركاتها. إن ثورات العصر ليست مجرد تحريض ديماغوجي أو تمرد وعصيان بل هي ثورات لها أصولها التاريخية في الأوضاع الطبقية للطبقات الكادحة في البلاد النامية في هذا القرن وردود فعل على المجتمعات الصناعية المتقدمة في النظم الرأسمالية خاصة في القرن الماضي. ومهمة الحزب الشعبي أو التنظيم السياسي أو طلائع الجماهير تحويل التمرد إلى ثورة وإعطاء البعد التاريخي لحركة الجماهير.
وينكر أورتيجا على الفكر الاجتماعي مفهوم المجتمع أو الجماعة. فقد خلط الفكر الحديث، في رأيه، بين المجتمع
Société
وبين المشاركة
Association . فنحن لا نعيش في مجتمع بل في مشاركات، وهي نفس التفرقة المشهورة عند تونيس
Tönnies
بين المجتمع
Geselchaft
والجماعة
Gemeinschaft . الأولى عامة مجردة، لا شخصية، والثانية خاصة وعيانية وشخصية. كما يرفض أورتيجا نظرية العقد الاجتماعي عند اسبينوزا وروسو باعتباره اجتماع إرادات لأن المجتمع مشاركة في كيان الفرد دون تنازل عن إرادته وسلطته. وهنا يبدو أورتيجا رافضا للتصور الاستقرائي للعقد الاجتماعي، أي الصعود من إرادات الأفراد إلى إرادة الجماعة مفضلا التصور الاستنباطي، أي وجود المجتمع المسبق في صورة مشاركة في بنية الفرد. الجمهور بعد للفرد. كما أن القانون ليس تعبيرا عن إرادة جماعية بل هو تعبير عن العقل الحيوي في الأفراد. بهذه التحليلات الجديدة يحاول أورتيجا المساهمة في تقدم العلوم الاجتماعية التي تخلفت عن العلوم الطبيعية في الغرب.
وينتقل أورتيجا من علم الاجتماع إلى علم السياسة وتتحول القضية من الفرد والجماعة أو الصفوة والجماهير إلى قضية الليبرالية والنظم الجماعية وفي مقدمتها الاشتراكية وبنفس التمايز والتقابل والتضاد. وقد ظهر كلا المذهبين في الوعي الأوروبي؛ فالليبرالية الفردية تنتمي في رأي أورتيجا إلى القرن الثامن عشر. وهي التي ألهمت الثورة الفرنسية وانتهت بنهايتها. أما الجماعية
Collectivisme
فقد ظهرت أيضا ابتداء من القرن الثامن عشر ثم تحولت إلى اتجاه رجعي محافظ على أيدي دي بونالد
De Bonald ، ودي ميستر
De Maistre
حتى سان سيمون
Saint-Simon
وبلانش
Blanche
وكومت
Comte
في القرن التاسع عشر. ثم أتى آمار
Amar
وتحدث عن الجمعية
Collectism
في مقابل الشخصانية
، وجعلها ضد الفردية؛ وبالتالي استقر في الوعي الأوروبي هذا التعارض بين الفردية والجماعية، بين الليبرالية والاشتراكية. والحقيقة أن أورتيجا بهذا التاريخ المبتسر للفكر السياسي الأوروبي قد أغفل تطورات عديدة له ومذاهب أخرى فيه ومحاولات الجمع بين الاثنين. فقد استمر الاتجاه التحرري الليبرالي في القرن التاسع عشر عند مل
J. S. Mill ، وتحدث سبنسر
Spencer
عن الفرد باسم الجماعة. وماذا عن ماركس والمذاهب الاجتماعية التي أعطت للمذاهب الجماعية طابعا تقدميا؟ ولا يخفي أورتيجا تأييده للمذاهب الفردية ضد المذاهب الجماعية لأن الجماهير عاجزة عن أن ترتقي إلى حياة الفردية والشخصانية. يعادي أورتيجا الاتجاهات الجماعية لأنها في رأيه تمنع الاتجاه التحرري. وهو النقد الشائع الذي توجهه الرأسمالية إلى النظم الاشتراكية والذي يمكن لأجله وصف بعض فلاسفة الوجود بالرجعية والتعبير عن النظم الرأسمالية وحب الغرب. والحقيقة أن الجماهير ما زالت مسيرة للنظام الرأسمالي في الغرب تحسب الصفوة حسابها. وكثيرا ما تنفجر الجماهير في النظم الرأسمالية فتتكيف هذه طبقا لها، وكما حدث في ثورات الشباب في العالم في مايو 1968م وكما حدث في الحركات الشعبية في النظم الرأسمالية التابعة في إيران 1979م، والسودان 1986م، والفلبين 1986م، وكوريا الجنوبية 1987م.
وتتميز جماهير العصر الحاضر بخصائص ثلاث:
أولا:
التجمع
Agglomération
أو الملاء
فكل مرفق يفيض بالبشر: المنازل، والشوارع، والفنادق، والقطارات، والمركبات، والمقاهي، والمستشفيات، ودور اللهو ... إلخ، حتى أصبحت مشكلة اليوم هي إيجاد «المكان الخالي». ولم يحدث للجماهير من قبل أن تحولت إلى مثل هذه التجمعات الكبيرة إلا في المعارك والحروب القديمة. «الجماهير» إذن لفظ من علم الاجتماع الدينامي يعبر عن الناس من حيث كونهم ظاهرة كمية مرئية. يقصد أورتيجا بواقعة التجمهر الجماعات الكمية المتراصة التي يتم التبادل بينها بلا تفرد أو خصوصية كقطع غيار آلة لا وظيفة لها إلا سير الآلة ودوام حركتها.
ثانيا:
الوعي التاريخي؛ إذ تقوم الجماهير اليوم بنفس الدور الحيوي الذي كانت تقوم به الصفوة المختارة من قبل. بل إنها تتجاوز قيادة الصفوة وتعصاها. تتمتع اليوم بما كان محرما عليها بالأمس. لقد عرف الشعب قديما أن السيادة له ولكنه لم يعتقد ذلك إلا اليوم، ولم يحول اعتقاده إلى حقيقة فعلية إلا بسيادة الجماهير بعد تحرر الإنسان العادي وشعوره بشخصيته المستقلة وخاصة أن عصر التنوير لم يحرر إلا طبقة المثقفين فحسب. والآن يخشى الديموقراطيون نتيجة هذا التحرر بعد أن أصبح عبد الأمس سيد اليوم. للجندي نفس الحق الذي للقائد، وللمواطن نفس الحق الذي للحاكم، وللابن نفس الحق الذي للأب، وللطالب نفس الحق الذي للأستاذ لأن عصرنا هو عصر التسوية
Nivellement ، مساواة كل فرد للفرد الآخر. ويحلل أورتيجا هذه الخاصية من جانبين؛ الأول: الدور الحيوي الذي تقوم به الجماهير، وهو الدور الذي كان حكرا على الصفوة. والثاني: تمرد الجماهير على الصفوة وكرهها لها من أجل أن تحل محلها. ويمثل هذان الجانبان جدل السيد والعبد المعروف عند هيجل وفي صورة الجدل بين الصفوة والجماهير. وبعد هذا التحول، أصبح الإنسان العادي محور التاريخ . يبدو ذلك في الفن وأخذ الفن الشعبي كمصدر للفنون الراقية، في الموسيقى والرسم والنحت، وكما هو واضح في الأنظمة السياسية الجديدة المعروفة باسم «الديموقراطيات الشعبية» أو «الجمهوريات الشعبية» أو «الجماهيرية الديموقراطية الشعبية». تعبر ثورة الجماهير إذن عن مدى ارتباطها بالتاريخ القديم لأن الثورة لا تقوم إلا على «العقل التاريخي». لذلك تدين أوروبا أكثر ما تدين لاثنين من مفكريها؛ ديكارت مؤس الاتجاه العقلي الحديث؛ وكوندرسيه واضع مفهوم التقدم. ثم ظل العقل طيلة ثلاثة قرون عقلا رياضيا طبيعيا بيولوجيا حتى ظهر العقل التاريخي في القرن الماضي في فلسفات التاريخ والذي عبر عنه دلتاي في فلسفة تصورات العالم
Weltanschaunung . هذا هو الفرق بين التاريخ الطبيعي والتاريخ الإنساني. التاريخ الطبيعي لا ذاكرة له، أما التاريخ الإنساني فيعيش في الذاكرة، ولا يبدأ مطلقا بداية جديدة. وقد أثبتت تجارب كوهلر
KöhIer
أن الفرق الوحيد بين الشمبانزي والإنسان هو تميز الإنسان بالذاكرة، الإنسان ذاكرة والحيوان مادة على ما يقول برجسون. ويكون ثراء الإنسان هو مدى استفادته من محاولات الصواب والخطأ؛ لذلك يعرف نيتشه الإنسان الأسمى بأنه الموجود الذي يتمتع بأطول ذاكرة. وهذا هو السبب في جعل الشعب الإنكليزي قانونه قانونا تاريخيا يكون حكم الواقعة الحاضرة في الحالة السابقة. أما الثورات المتقطعة المنفصلة عن تاريخها (الثورة الكمالية في تركيا مثلا) فهي ثورات مرضية أو انقلابات عسكرية أو تمرد طبقي. الثورة حركة الجماهير وليست انقطاعا عن الماضي، تكسر خط مستمر، وقفز في مسار واحد، وهذا أيضا ما تتميز به أوروبا بحسها التاريخي عن أمريكا بلد الرخاء. فهناك قصر نظر في السياسة الأمريكية وتركيز على رؤية الحاضر والواقع المباشر دون أي حس تاريخي بحركات الشعوب. ومن يتصور أن أمريكا بلد المستقبل ينسى انعدام حسها التاريخي.
ثالثا:
العيش على مستوى العصر، ويدل هذا التعبير على أن الجماهير اليوم تعيش على مستوى الأحداث والمسئولية، تعيش زمانها الحيوي، وتعاني مشاكل عصرها. وهو ليس الزمان الذي تبينه عقارب الساعة أو نتائج الحائط السنوية، بل هو عصرها الذهبي الذي تشعر فيه بتحققها أي أنه زمان المعاصرة. وهو تعبير مغاير لتعبير السقوط أو الانهيار لأن العيش على مستوى العصر هو العيش في سمت الزمان
Le hauteur du temps
وعلى هذا النحو تشعر الجماهير بالأحداث. وكثيرا ما يرى الناس قمة الزمان في العصر الذهبي أو العصر القديم كما هو الحال عند دعاة الكلاسيكية أو التقليديين. وهي الفترة التي يشعر فيها الناس باكتمال الزمان أو انتهائه كما حدث للمسيحيين الأوائل بظهور المسيح أو عند هيجل بتحقق المطلق. وفي هذا العصر يكون الاكتمال في الإشباع أو في النجاح أو في الوفرة. إن المعاصرة هي أن يعيش الإنسان حياة عصره وأن يشعر أن حاضره أفضل من ماضيه. ومن خصائص هذا العصر أنه عصر الجماهير، ولا ترى أحداثه إلا من خلال الجماهير. لقد صعدت الجماهير إلى مستوى التاريخ، وظهرت كمبادرة تاريخية وكأنها في موعد مع القدر. قررت أن تتقدم إلى الصفوف الأولى وتحتل مكان الصدارة وأن تستعمل طرقا وأساليب وأدوات متنوعة، وأن تتمتع بمناهج كانت من قبل حكرا على عدد قليل. لقد ورثت الجماهير الصفوة، دون أن تلغي نفسها كجماهير. عصر الجماهير هو عصر الفخامة والعظمة على ما يقول اشبنجلر. وكل تفسير للعصر لا يظهر الدلالة الإيجابية المختفية لسيطرة الجماهير فإنه تفسير خاطئ. تبدو أصالة الجماهير في مدى ارتباطها بالتاريخ وتحملها مسئوليته؛ وبالتالي فإن عظمة العصر تأتي من عظمة الحاضر لا من عظمة الماضي. بل إن من سمات العصر تلك الهوة السحيقة بين الماضي والحاضر، العصر الحاضر لا يحتضر كما هو الحال عند أونامونو بل هو قمة الزمان، روح العصر، ما يطلق عليه كل جيل زماننا، عصر ازدهار الحضارات، عصر الملاء الحيوي بصرف النظر عن الإشباع أو النجاح أو التحقق. العصر الحاضر هو عصر الثورات سواء في البلاد المتطورة أو في البلاد النامية، ومن يعيش معاصرا هو من يعيش ثائرا، ومن يؤثر الاستكانة أو النكوص عن ثورة الجماهير فإنه يتخلى عن عصره، ويعيش معزولا في عصره الخاص كما يفعل كثير من علماء البلاد النامية الذين يقضون حياتهم في الخارج مؤثرين عصر التكنولوجيا واليسر على عصر ثورة الجماهير ؛ لذلك كان الالتزام بقضايا العصر هو العمل الفلسفي الأول، والمساهمة في ثورة الجماهير هو السلوك الوحيد الممكن. بل إن وحدة الثورة العالمية أصبحت ممثلة لحركة الجماهير.
تدل هذه الخصائص الثلاثة على نماء الحياة
La Croisssance de la vie
إذ يعيش كل فرد حياته بكامل قواه، لا يظهر النماء في ازدياد السرعة في الزمان أو في تخطي المكان بل في محاولة الهدم والبناء المستمرة وفي النشاط الحيوي الزائد. إذ يقدم العصر الحاضر في البلاد المتطورة إمكانيات واسعة للاختيار. وفي هذه الحالة يكون النماء هو شعورنا بالقدرة على الاختيار بين الممكنات التي تحتم نفسها علينا، وتكون الحياة هي العيش تحت ظروف معينة أو في العالم. وهو المعنى اللغوي للفظ عالم
Mundus
أي مجموع الإمكانيات الحيوية، والعالم بهذا المعنى، أي مجموع إمكانياتنا، أوسع نطاقا من مصيرنا وهي حياتنا الفعلية. يدل العصر الحاضر على زيادة إمكانيات الحياة الإنسانية في شتى الميادين الثقافية والعلمية على عكس إمكانيات الحياة البدائية. ولا تستطيع هذه الحياة الاتجاه إلى الماضي بل ترى مصيرها في نفسها. حياتنا لا تتجه إلى الوراء بل تكشف عن نفسها وقدرها. ولما كان الإنسان مقذوفا في الزمان، والعالم موجودا من قبل فالإنسان موجود في العالم وهي إحدى المقولات الرئيسية في الفلسفة الوجودية. لا تختار الحياة عالمها بل على العكس يجد الإنسان نفسه حيا في عالم محدد لا يمكن استبداله، أي في هذا العالم الواقعي . عالمنا هو جزء من المصير الذي يشمل حياتنا. هذا المصير الحيوي ليس مصيرا آليا بل هو مصير يتطلب اختيارا بين الممكنات. لم نقذف في الوجود مثل طلقة بندقية تحدد مسارها من قبل بل فرضت علينا مسارات عدة تضطرنا إلى الاختيار. أن يحيا الإنسان هو أن يشعر حتما باضطراره ممارسته حريته، يقرر ماذا يريد أن يكون في هذا العالم. ولو كنا يائسين فقد قررنا ألا نقرر. ومن الخطأ التسليم في الحياة بأن الظروف هي التي تقرر نيابة عنا، بل على العكس الظروف هي التي تكون بنود المأساة التي تتجدد باستمرار والتي تدفعنا إلى أخذ موقف. شخصيتنا هي التي تقرر في الموقف. وهذا تماما ما انتهى إليه عديد من فلاسفة الوجود المعاصرين مثل ياسبرز في «المواقف المحددة»، ومثل قول سارتر المشهور: «إن الإنسان قد حكم عليه بالحرية.» ومثل نظرية برجسون في الجبر الذاتي، واضطرار الإنسان أن يكون حرا. أن يحيا الإنسان هو أن يوجد في الظرف أي في العالم. والعالم مجموع إمكانياتنا، والفرد هو اختيار أحدها ثم تحقيقها. بل إن أسوأ الإمكانيات هي إحدى الإمكانيات؛ لذلك كان الموقف والقرار هما أهم عاملين في الحياة. الظرف هو مجموع الإمكانيات، والقرار هو اختيار إحداها، الموقف لا يقرر بل الحرية هي التي تقرر. وهذا كله مرهون بالإنسان الفرد. أما الإنسان الجماهيري فإنه باعتباره فردا يحمل في طياته إمكانيات خالصة، خيرا كانت أم شرا، ولكنه باعتباره جماهيريا فإنه ليس صاحب القرار. الجماهير لا تقرر شيئا لأن دورها قاصر على الموافقة على قرار الأقلية التي تقدم برنامجا يعبر عن الحياة الجماعية في النظم الديمقراطية. وفي الغالب يعيش ممثلو السلطة العامة دون برامج. ويحكمون يوما بيوم طبقا للمنفعة العاجلة وكما تحتم الظروف تبعا لضغط الجماهير عليهم؛ لذلك لا تخلق الجماهير شيئا بالرغم من إمكانياتها الواسعة. ويستطرد أورتيجا معبرا عن هذا الموقف الوجودي الذي يشترك فيه جميع فلاسفة الوجود وهو أن وجودنا في هذا العالم رسالة ومشروع، وأن هذا المشروع لا يكون من المعرفة وحدها بل من السلوك أولا ، وأن المعرفة تكون ضرورية فقط بقدر ما يتطلبه السلوك. أن يحيا الإنسان هو أن يكون في علاقة بالعالم، وأن يصطدم بمشكلات، ويجابه أخطارا، ويحمل مسئوليات، كل ذلك وهو في مواقف محددة تجعله أقرب إلى التبعية أو الاستقلال. أن يحيا الإنسان هو أن يشعر بمحدوديته وأن يتعامل مع المحددات بحيث يتم تجاوزها والتحرر منها فيتخلق الإنسان بنفسه معتمدا على نفسه دون أن يلجأ إلى عون خارجي. وإذا كان شعار الحياة قديما هو أن يشعر الإنسان بحدوده والاعتماد على ذاته فإن الحياة الآن هي أن يشعر الإنسان بقدرته على تجاوز هذه الحدود والاعتماد مطلقا على ذاته. إن الإنسان الممتاز يتطلب الكثير من نفسه، أما الإنسان العادي فإنه يرضى بوضعه، ويقنع بظرفه، ويستسلم للموقف. العالم موجود بالفعل، والإنسان موجود في العالم. والسؤال الذي وضعته الفلسفات المثالية عن وجود العالم لا معنى له لأن العالم موجود بالفعل قبل السؤال عنه. وما دام إنسان هناك فالعالم جزء منه.
ويسمي أورتيجا هذه الفردية المتميزة النبل
La Noblesse
وإذا كان النبل قديما قاصرا على الصفوة المختارة، وكان النبيل هو من يتطلب من نفسه الكثير لأنه يتمتع بإمكانيات أكثر مما يتمتع به الإنسان العادي، فإن الإنسان العادي اليوم يكون نبيلا أيضا لأنه يتمتع بإمكانيات واسعة ف «النبل يستلزم»
Noblesse oblige . النبيل في اللغة هو الإنسان المعروف في مقابل الإنسان النكرة. ولا تتم هذه المعرفة عن طريق الطبقة كما هو الحال عند الصفوة المختارة بل عن طريق العمل. النبل هو الجهد، والتفاهة هي الاستكانة. والنبلاء حقا هم الذين يبذلون أقصى جهدهم، وهم الصفوة المختارة. يتحدد النبل بالالتزامات وليس بالحقوق، بالعطاء وليس بالأخذ. النبل هو العيش طبقا للقانون عند الصفوة، وعلى السجية عند الجمهور. وإذا كان النبل هو حياة المشقة والجهد والإبداع في مقابل حياة التفاهة والاستكانة، فإن أورتيجا هنا يكون أقرب إلى فلاسفة الجهد مثل مين دي بيران
Main de Biran
وبرجسون، بل وعودا إلى فشته وفلسفة المقاومة. وإذا كنا نعيش الآن في عصر التفاهة، تسوية كل شيء بكل شيء فإن الفرد المتميز قادر على الخروج على هذا العصر متمثلا النبل في حياة الجهد وخلق الذات بالذات؛ وبالتالي يكون النبلاء هم الفلاحون الذين يفلحون الأرض، وهم العمال الذين ينتجون بأيديهم، وهم الشهداء الذين يبذلون حياتهم، وكل من تتصبب جباههم عرقا، وكما قال الشاعر العربي قديما:
إن الفتى من يقول ها أنا ذا
ليس الفتى من يقول كان أبي
ونظرا لطول انغلاق الإنسان العادي على نفسه تنشب ثورة الجماهير في جو من العنف، تبدو الجماهير عاصية متمردة خاصة وأنها تشعر بالكمال الذي يؤدي إلى الغرور. ولا يدل ذلك على غباء الإنسان الجماهيري بل على يقظته. يقوم بالثورة دون أساس عقلي بل اعتمادا على اعتقادات وتقاليد وتجارب وحكم وأمثال. صحيح أن الإنسان اليوم يحاول أن يكون لنفسه نظرية أو مجموعة من الأفكار عن الأشياء، وأن يعطي إجابات على كل ما يعرض له من مسائل، ولكن الخطورة أن تكون هذه الأفكار خاطئة. كل فكرة فشل للحقيقة، ومن يبحث عن الأفكار تبتعد عنه الحقائق. والحضارة ما هي إلا مجموعة من القوانين والقواعد التي تنظم هذه الأفكار. فإذا غابت هذه القوانين تحولت الحضارة إلى بربرية وعنف. ويعطي أورتيجا أمثلة على ذلك في الحركات النقابية والفاشية دون أن يذكر النازية والصهيونية، متجنيا على الحركات النقابية التي تحاول رفع الظلم عن العمال ضد أصحاب رءوس الأموال. فعنفها عنف مضاد وليس عنفا أوليا، عنف محرر وليس عنفا قاهرا؛
1
لذلك لا يتحدث أورتيجا إلا عن أحد جوانب العنف وهو العنف المضاد ناسيا العنف الأول أي مصدر العنف. ولا يميز بين العنف المشروع وهو العنف المضاد والعنف اللامشروع وهو العنف الأساسي. ويكتفي بالقول بما تردده أجهزة الإعلام تسطيحا للأمور ودفاعا عن السلطة من أن العنف هو عدم اعتراف بأن الآخرين على حق، والتأكيد على أن الإنسان وحده على حق فارضا إرادته على الآخرين. فالآراء ليست مجرد نظريات بل هي رغبات وإرادات وقوى. ويزيد العنف رفض الجماهير أساليب الحوار لأن الحوار جدل الأفكار. بذلك ينتهي النقاش، ويشتد العنف، ويبدأ العمل المباشر
L’action directe . يدل العنف على إفلاس العقل ويأسه . وقد كان يسمى قديما العقل الأخير
Ultima Ratio
وكما قال الشاعر العربي:
السيف أصدق أنباء من الكتب
في حده الحد بين الجد واللعب
والحقيقة أن العنف ليس قاصرا فقط على الجماهير بل هو ممتد أيضا إلى الصفوة. وليس فقط أحد مظاهر البدائية ولكنه أيضا أحد مظاهر المدنية. فكلما تطورت المجتمعات وزادت رفاهية ظهر فيها العنف لإعادة توزيع الثروات ولرفض قيم مجتمع الرفاهية. هناك مجتمعات بأكملها قائمة على العنف سواء في نشأتها أو في استقرارها، مثل المجتمع الأمريكي في استئصاله للهنود الحمر في الداخل وقمعه للشعوب في الخارج، في استجلابه الأفريقيين كعبيد في الداخل وانتشار الرجل الأبيض في الخارج. أصبح العنف في المجتمعات المتطورة أحد أنماط السلوك في الحياة اليومية كوسيلة للتعامل مع الأفراد وكدافع لحركة التصنيع وكدعوة للحرب.
ولثورة الجماهير وجهان؛ وجه انتصار ووجه هزيمة، وجه حياة ووجه موت. تستطيع ثورة الجماهير أن تؤدي إلى تنظيم جديد للإنسانية ولكنها أيضا تستطيع أن توقع النوع الإنساني كله في كارثة. ثورة الجماهير إذن قد تسير في خطين محتملين متعارضين دون حتمية الوقوع في مسار واحد. لقد آمن فلاسفة التاريخ بالتقدم الحتمي الذي يسير في خط واحد إلى الأمام مع أن التقدم قد يكون إلى الوراء أي نكوصا. وإنها لتقدمية عمياء سواء من النظم الليبرالية أو النظم الاشتراكية تلك التي ترى أن مسار التاريخ ينتهي حتما إلى واحد منها. لا يوجد مسار حتمي للتاريخ بل توجد مجموعة من اللحظات، كل واحدة منها مستقلة عن الأخرى، لا تتحرك من مكانها. وهكذا يقترب أورتيجا من نظرة كيركجارد والبروتستانتية للتاريخ. فالتاريخ يتكون من مجموعة من اللحظات المستقلة التي يهبط فيها الخلود هبوطا رأسيا. ومجموع هذه اللحظات يكون هو التاريخ. إن التقدم يحتوي على عناصر فنائه في داخله. كلما تقدمت المدنية احتاجت إلى تطهير نفسها لما علق بها من ثقل يفقدها كل حياة، فكل دافع حيوي يتوقف، ويتحول إلى ثقل مادي كما يقول برجسون.
هذه التعرية المستمرة للتقدم والمدنية تدل على أن مصير التكنولوجيا هو البدائية
. وقد تنبأ آينشتين من قبل بأن الحرب التالية للحرب الذرية المقبلة ستكون من جديد عود إلى حرب «النبال» التي كان يستعملها الإنسان البدائي. إنسان اليوم إنسان بدائي أو إنسان طبيعي
Nutermensch
يظهر في عالم متمدين، ويظن أن المدنية هي نتاج الطبيعة مع أنها اصطناع العصر. التكنولوجيا وحدها لا تضمن شيئا، والدولار لا يؤسس معرفة على حد قول أورتيجا وإلا «لبسنا قشرة الحضارة والروح جاهلية.» كما يقول الشاعر العربي الحديث. وينطبق هذا التحليل حتما على المجتمعات النامية التي ما زالت تتعثر في بدائيتها. لقد حاولت بعض المجتمعات النامية نقل بعض أساليب التكنولوجيا الحديثة دون تغيير أساسي في بنائها النفسي. فهناك مصانع للثلاجات في بلد يشرب ثلاثة أرباعه الماء العكر، أو نافورة ماء تضيء ليلا وترقص مياهها على أنغام الموسيقى في ميدان عام ليتبول فيها الأطفال لأن الميدان خال من دورات المياه، أو الأنفاق الحديثة التي يعيش فيها الباعة المتجولون أو ناطحات السحاب التي يسكن في ظلها من لا مأوى لهم، أو المساحات الخضراء في الشوارع التي يربي فيها الناس الطيور، أو المسارح والمدرجات التي تتجول فيها القطط والكلاب ... إلخ. كل مدنية إذن مهددة بالضياع. يحرق الآلاف في أفران الغاز، وتلقى القنابل الذرية على مدن بأكملها. فالمدنية تهدد نفسها بالدمار. لقد سقطت الإمبراطورية الرومانية لنقص في التكنولوجيا. واليوم يسقط الإنسان المعاصر بسبب تقدم التكنولوجيا! سقط الإنسان القديم لأنه تخلف عن المدنية، وسقط الإنسان المعاصر لأنه فاق تقدم مدنيته!
ويضرب أورتيجا المثل بالحركة الفاشية والثورة البلشفية على الوجه العادم لثورة الجماهير متناسيا كالعادة النازية والعنصرية. والواقع أن الفاشية ليست ثورة للجماهير بل حركة عنصرية تقوم على أسطورة الجنس الراقي وعلى أمجاد القدماء ومفاخر الحاضر. ويستغل دعاتها حركة الجماهير بالأسلوب الديماغوجي. أما الثورة البلشفية فالأمر مختلف إذ إنها تعتمد على حركة الجماهير دفاعا عن مصالح الطبقات الشعبية الكادحة واستنادا على الوعي الطبقي للحزب. وهي ثورة تاريخية وليست مجرد حركة معاصرة. صحيح أن التاريخ كان دائما تاريخ النبلاء والأشراف والملوك والأمراء، فهم بناة القصور والكنائس، ومؤسسو الإمبراطوريات، وواضعو القوانين ، ولكن الشعوب الكادحة تكمن وراء ذلك كله؛ عمال القصور، وجنود الحروب، وفلاحو الأرض. وهي قديمة بقدم الأرض، أهملها التاريخ ولم تظهر إلا في ثورات العصر وكأنها انفجار بعد طول غياب. فإذا كانت الثورة الروسية قد انفصلت عن تاريخ روسيا القيصري فإنها تعبر عن تاريخها الإنساني الطويل. وإن لم تستمر الحركة الفاشية أكثر من خمسة عشر عاما، وهو العمر الذي يحدده أورتيجا للحركات المنفصلة عن تاريخها، فإن الثورة البلشفية قامت منذ أكثر من نصف قرن، وما زالت مستمرة.
وبطبيعة الحال عندما يتحدث أورتيجا عن العصر الحاضر فإنه يقصد التجربة الأوروبية أي الغرب المعاصر. فقد أصبحت الحياة الجديدة ممكنة فيه بفضل ثلاثة عناصر: الديمقراطية الليبرالية، والتجربة العلمية وما ينتج عنها من تقنية، والتصنيع. ويبرز أورتيجا خلاصة هذه التجربة الأوروبية مبينا كيف كانت ثورة الجماهير في العصر الحاضر ردا على التجربة الأوروبية الماضية والتي استغرقت ثلاثة قرون. وقد انتهت هذه التجربة إلى الحقائق الثلاث الآتية: (1)
إن الديمقراطية الليبرالية القائمة على التكنولوجية هي أفضل أنماط الحياة. (2)
إن أفضل نمط للحياة الممكنة يوجب المحافظة على هذين العاملين؛ الديمقراطية الليبرالية والتكنولوجيا. (3)
إن كل محاولة للرجوع إلى الوراء إلى النظم السياسية السابقة هي محاولة انتحارية.
ولقد ساعد هذان العاملان؛ الديمقراطية الليبرالية والتكنولوجيا (مجموع الخبرة العلمية والتصنيع) الإنسان العادي على تسهيل الحياة المادية له ورفع مستوى معيشته. كما أعطياه قسطا وافرا من الراحة حتى أصبح العصر الحاضر خاليا من كل عقبات مادية. كما سهلت له حياته المدنية والأخلاقية. وإذا كان القرن التاسع عشر عصر الثورات فإن الثورة ليست تمردا بل وضع نظام جديد محل النظام القديم. وبذلك يمتاز الإنسان المعاصر بالتوسع في رغباته الحيوية وفي الوقت نفسه بعدم رضاه عما يسهل له حياته. وهذان هما العاملان النفسيان اللذان يحددان سلوك الطفل المدلل الذي لا يشبع مهما استجيب إلى طلباته والذي يعتبر كل ما يحصل عليه حقا مكتسبا. كذلك الوعي الأوروبي يشعر بأن ما وصلت إليه القرون الماضية خاصة القرن الماضي، وإنما أصبح حقا طبيعيا مكتسبا له. إن ما يشغل الجماهير الآن هو رخاؤها، ولكنها في الوقت نفسه تثور لطلب الخبز فتحطم المخابز، تثور على المدنية التي تنعم بها فيصيح هيجل: «الجماهير تتقدم.» ويعلن أوجست كونت: «عصرنا عصر ثوري تتولد عنه الكوارث.» ويصرح نيتشه: «أرى مد العدمية يقترب.» ومع ذلك يتميز العصر الحاضر بسهولة الحياة المادية، يقضي فيه الفرد حاجياته، ويرضى عن نفسه. إنه عصر إشباع الحواس، عصر التخمة، يفرض إرادته بالعمل المباشر. ومن هنا أتت نغمة الانتصار. تبدو له حياته العقلية والخلقية مرضية تماما، هذا الرضا عن النفس يجعل الإنسان المعاصر أصم عن كل ما يقال له فلا يملك إلا أن يفرض إرادته بالعمل المباشر . إن هذه الوفرة لا تسمح له بأن يعيش حياته لأن الحياة صراع الإنسان من أجل البقاء ومحاولته أن يكون ذاته. أما إنسان العصر التعايشي الذي يريد راحة بدنه وإشباع رغباته وسكينة نفسه فهو من بقايا الأرستقراطية الوراثية؛ إنه عصر عبادة الجسد (كما هو واضح في الأفلام، والاعتناء بالمظهر، وغياب الرومانسية في العلاقة مع الجنس الآخر). يتحدث أورتيجا عن العصر في مجتمع الاستهلاك الذي يشبع كل فرد فيه رغباته والذي يفيض منه الإنتاج عن حاجاته. وهو العصر الذي لم تعشه بعد المجتمعات النامية التي تهدد المجاعة بعض شعوبها وسوء التغذية البعض الآخر. بل إن هذه الموجة من التسهيلات التي تعم المجتمعات المتطورة أثارت جيلا من الشباب الغاضب فاجتاحت ثورة الغضب كثيرا من الأعمال الأدبية والفنية، وأنشأت حضارة مضادة
Conter-Culture
في مواجهة حضارة العصر السائدة. لقد شعرت أخيرا المجتمعات المتطورة بالوجه الآخر للعملة وهو فقدان الإحساس بالحياة أمام التسهيلات الجمة وتحويل الإنسان إلى عبد للآلة بعد أن كانت الآلة عبدا للإنسان. وما وصلت إليه المجتمعات المتطورة وشعرت بأوجه نقصه هو ما تحاول المجتمعات النامية الحصول عليه الآن وكأن التاريخ يعيد نفسه ولكن بصورة أقسى؛ لأن المجتمعات المتطورة تستهلك ما تنتجه في حين أن المجتمعات النامية تستهلك ما ينتجه غيرها. وإذا كانت المجتمعات المتطورة قد خسرت الآخرة فقط فإن المجتمعات النامية قد خسرت الدنيا والآخرة.
وقد امتازت التكنولوجيا الأوروبية على التكنولوجيا البدائية بأنها قائمة على العلم؛ لذلك أفسحت المجال للتقدم بلا حدود. لم تعد الجماهير من الطبقة العاملة وحدها بل تعدتها إلى طبقات التكنوقراط والعلماء. فإذا فرضت البرجوازية القائمة أو الناشئة روحها على العصر فإن التكنوقراط يكونون جماعات داخل البرجوازية ويفرضون عليها روحهم. والعالم على رأس جماعة التكنوقراط ولكنه يقع في التخصص ويصبح تكنوقراطيا متخصصا لا عالما مفكرا. وتصبح سمة التخصص هي سمة العصر الحاضر. وهو ما يعارض روح القرن الثامن عشر عند فلاسفة التنوير ومثلهم الأعلى في المعرفة الشاملة التي حاول فلاسفة دائرة المعارف تنسيقها. يؤدي التخصص إلى تضييق مجال الرؤية وإلى الخلط بين الاستقصاء والفحص وجمع المعلومات من ناحية، وبين روح العلم والإبداع العلمي من ناحية أخرى. فمجرد جمع المعلومات والتعامل معها بالعمليات الرياضية ليس علما بل العلم هو موقف الإنسان من الطبيعة وعمل العقل في ظواهرها. كان الناس قديما إما علماء أو جهالا. واليوم هناك وسط بينهما وهم المتخصصون الذين هم علماء نظرا وجهلة عملا، والذين يسلكون في الحياة العامة وكأنهم جهال. لقد ساعد التخصص العلوم التجريبية على تقدمها في القرن الماضي، ولكنه اليوم عاجز عن أن يعطيها دفعات أخرى إلى الأمام. وهنا يتفق أورتيجا مع برجسون في رفضه للتخصص وفي دعوته إلى المعرفة الشاملة. التخصص هو سبب أزمة علم النفس في النصف الأول من هذا القرن، وكذلك سبب الخلط في العلوم الإنسانية. وإذا كانت دعوة أورتيجا وبرجسون دعوة شرعية في المجتمعات التكنولوجية، فإنها لا تصدق على المجتمعات النامية التي تعاني من روح الشمول ونقص التخصص، ووضع كل شيء في كل شيء.
وكما أن العلم مهدد بالتخصص فكذلك الحياة مهددة بالدولة. لم تكن للدولة في القرن الثامن عشر الأوروبي أهمية تذكر. ثم بدأت الرأسمالية ومؤسساتها الصناعية القائمة على التكنولوجيا الجديدة في توسيع نشاطها. فظهرت طبقة اجتماعية جديدة وهي البرجوازية التي كان لديها من القدرات العلمية والعملية ما ساعدها على القيام بدور المنظم حتى إن الدولة نفسها كانت تدور في فلكها. لم تكن الدولة حينئذ إلا جنودا وبيروقراطيين وثروة خلفها نبلاء العصر الوسيط. وكانت هذه الطبقة قد انتهت لأنها كانت ذات عقل محدود. وكانت تسلك طبقا لغرائزها وعواطفها وانفعالاتها. وكان العامل اللاعقلي هو السائد؛ لذلك لم تستطع تطوير التكنولوجيا التي تقوم على التنظيم. ونظرا لوجود هذه الهوة الشاسعة بين ضعف الدولة وقوة الطبقات الاجتماعية استولت البرجوازية على السلطة. وبدأ المد الثاني للبرجوازية في القرن التاسع عشر، ونشأت دول قوية، وانتهى عصر الثورات لاتحاد سلطة الطبقة الاجتماعية مع سلطة الدولة، ولم يبق إلا الانقلاب. أصبحت الدولة جهازا ضخما يسير كل شيء، تعجب بها الجماهير وتنسى أنها نتاج إنساني فتنجرف داخلها. إن أخطر ما يهدد المدنية اليوم هو «تدويل الحياة»
L’Etatisation de la vie ، والقضاء على تلقائية الأفراد وحركة الجماهير. يسود العقم، ويعيش المجتمع للدولة، والفرد لجهاز الحكم. تعم البيروقراطية حتى تبتلع جهاز الدولة والجيش، وتصبح الجماهير مجرد مادة لتغذية جهاز الدولة كما هو الحال في النظام الفاشي وشعاره «كل شيء للدولة، ولا يوجد شيء خارج الدولة، ولا يوجد شيء ضد الدولة.» تظهر قوة البوليس، وتتضخم أجهزة المخابرات، وتصبح الدولة التي خلقها الفرد أخطبوطا تمتد أطرافه في كل مكان وكأنها عين الله الساهرة. لقد كانت الدولة في القرن التاسع عشر الأوروبي، خاصة عند هيجل، أمل الجماهير حتى إنه اعتبرها الحقيقة نفسها مجسمة على الأرض (المطلق نفسه) بعد أن تحقق في التاريخ، والله نفسه بعد أن انتقل من ملكوت السموات إلى ملكوت الأرض، ولكنها اليوم تخلت عن مهمتها، وعادت الجماهير التي دعتها من قبل. وينطبق وصف أورتيجا على الدولة في العصر الحاضر سواء في النظم الاشتراكية أو في النظم الرأسمالية أو في أنظمة الحكم في البلاد النامية. فكثيرا ما تعادي الدولة في النظم الجماعية حرية بعض الأفراد رعاية لمصلحة الجماهير. ودائما ما ترعى الدولة في النظم الرأسمالية مصالح الطبقات المستغلة ضد مصالح الجماهير. وفي بعض الأحيان تجمع بعض أنظمة الحكم في البلاد النامية في دكتاتورية الطبقة الجديدة والحكم لصالحها بين عيوب الأنظمة الجماعية والأنظمة الفردية على السواء. وكما يبدو ذلك في «عسكرة » المجتمع أو في قول الرئيس «الدولة هي أنا». ومن ثم يكون أورتيجا أشبه بباكونين
Bakunin
الثائر على دولة هيجل وبروليتاريا ماركس على حد سواء رافضا ولاء الفرد لأية سلطة خارجة عنه سواء كانت سلطة الدولة أم سلطة الطبقة ودون أن يصل إلى حد الفوضوية كما هو الحال عند شترنر وبرودون وكروبتكين
Kropotkin
في القرن الماضي، وإما جولدمان
Emma Goldman
في هذا القرن.
ثالثا: انهيار الغرب
وإذا كنا نعيش في عصر الجماهير فإننا أيضا نعيش في عصر انهيار الغرب. وإذا كانت ظاهرة ثورة الجماهير سلبية فإن ظاهرة انهيار الغرب أيضا سلبية، ويكون الجدل بين الظاهرتين جدلا بين سالبين أو لا جدل. أما إذا كانت ظاهرة ثورة الجماهير إيجابية فإن الجدل يكون بين الإيجاب والسلب، وهو الأقل احتمالا. ومما يدل على ذلك أنه يستحيل أن تتعاصر ظاهرتان متناقضتان إحداهما نفي للأخرى. فإذا كانت فكرة انهيار الغرب لا خلاف عليها فإن ظاهرة الجماهير تكون أيضا سلبية وإلا وجد الغرب بعثا له في حيوية الجماهير ودورها في العصر.
يحاول أورتيجا التعرف على سمات الحاضر للتحقق من صدق هذه القضية: «انهيار الغرب»، تلك التي أعلنها اشبنجلر صراحة في كتابه المشهور «أفول الغرب» والتي لمسها معظم مفكري العصر، هوسرل، وشيلر، ونيتشه، وبرجسون، وتوينبي، وسولوفييف على عكس ما قيل في القرن الماضي من بلوغ الذروة والكمال عند هيجل أو ماركس. ومظاهر هذا الانهيار عديدة مثل الضياع، والمدنية الزائفة، وغياب المسئولية، وضعف الروح المعنوية، وفقدان الحياة، وقلب القيم، وضياع الأخلاق ... إلخ. يشعر العصر الحاضر شعورا خرافيا بالقدرة على التحقق ولكنه لا يدري ماذا يحقق. يسيطر على كل شيء ولكنه لا يسيطر على نفسه. يشعر بأنه مفقود ضائع في وفرته التي ابتدعها. يحاول أورتيجا أن يدرس موقف الأوروبي العادي أمام ظاهرة انهيار الغرب، أي قياس قدرة الإنسان العادي على استمرار المدنية الحديثة ودرجة التحامه بالحضارة. ويتساءل عن المدنية والحضارة والعلم والديمقراطية الليبرالية وكل ما أبدعه الغرب من تنظيمات. فإذا كان العالم مجموعة من الإمكانيات تتجدد باستمرار، اليوم أفضل من الأمس، والغد أفضل من اليوم، فماذا يعني انهيار الغرب إذن مع زيادة إمكانياته وتجددها؟ هل الانهيار في الحضارة أو في التنظيمات السياسية، في الروح أم في تجلياتها المدنية؟ وإلى أي حد يجوز هذا التعميم؟ إن الانهيار لا يكون إلا في نقص الحيوية، وهذا لا وجود له. ولكل عصر قدرة على الحيوية لا يجوز قياسها على قدرة عصر آخر. إن العصر الحاضر عصر اكتمال وملاء بل عصر غرور وخيلاء لأنه يعتبر نفسه أفضل من أي عصر مضى. ومع ذلك يشعر بالفقد في وفرته، وبالضياع في جوده، وبالشقاء في نعيمه، ويسير نحو المنحدر. وإذا كان كل شيء ممكنا فالشر ممكن كذلك بما في ذلك النكوص والسقوط والبربرية. وقد غابت عن أوروبا المسئولية العقلية للمثقفين؛ وذلك لارتباط الثقافة بالنظام الرأسمالي ولأن المثقفين أوروبيون أولا ومثقفون ثانيا. كما تعاني أوروبا اليوم من انخفاض الروح المعنوية حتى أصبحت بلا أخلاق أو قيم أو مثل أو معايير وتكافأت الأدلة، وأصبح كل شيء حقا وباطلا في آن واحد، صوابا وخطأ في نفس الوقت. المشكلة إذن أن أوروبا بلا أخلاق، والعصر الآن عصر الادعاءات الكاذبة
Chantage
تستعملها الحكومات لتسكين الشعوب. لا تعني الأخلاق هنا القيم الحسنة والمبادئ القوية ولكن تعني المثل والغايات وتحقيق الرسالات العالمية. وقد لاحظ الأوروبيون أنفسهم ظاهرة السقوط، وتصوروا أنها أزمة تنظيمات سياسية دون الذهاب إلى ما وراء هذه الأزمة في الوعي الأوروبي نفسه. وكان دافعهم على ذلك أن أول ما يندرج تحت هذه الظاهرة هو مجموعة الصعوبات الاقتصادية التي تقابل كل شعب والتي لا تؤثر عادة في إمكانياته على الخلق، ولكن يظهر السقوط في نمط الحياة العامة التي تتحقق فيها القدرات الاقتصادية أو في عدم التناسب بين القدرات الحالية والتنظيمات السياسية. قد تكون الأزمة في حصر القوميات، كل داخل حدودها لأن أورتيجا لم يشهد عصر الشركات المتعددة الجنسيات التي تتجاوز حدود القوميات والتي ظهرت منذ السبعينيات. وقد تكون أزمة السياسة الداخلية وإفلاس المؤسسات الديمقراطية وبرامجها مثل: عدم فاعلية المجالس النيابية، عدم تعرضها للموضوعات تعرضا سليما. إلا أن السبب المباشر للسقوط هو أن الفرنسي أو الألماني يشعر بأنه العالم كله، ويصوغ المصلحة العامة في إطار المصلحة القومية بالرغم من المناداة بالوحدة الأوروبية أو بما تم بعد ذلك باسم السوق الأوروبية المشتركة. والحقيقة أنه لا يمكن إصلاح نظام بال لا يسمح بالتطور نظرا للحس القومي الدفين في كل شعب أوروبي وعدم قدرة الشعور القومي على تجاوز حدود القومية إلى مستوى العالمية. وأشهر مثل على ذلك صناعة السيارات الأوروبية أمام صناعة السيارات الأمريكية أو ميل أوروبا إلى تحقيق الوحدة بين قومياتها المختلفة مصطدمة بالروح القومية. ولم يعش أورتيجا ليرى أمثلة أخرى من صناعة السيارات اليابانية والحاسبات الآلية اليابانية تغزو مثيلاتها الغربية والأمريكية.
وبصرف النظر عن مدى دقة تحليلات أورتيجا لوصف مظاهر الانهيار فإنه يشارك معظم الفلاسفة المعاصرين في التنبيه على نفس الظاهرة وإن اختلفت أوجه تعبيرها. فأورتيجا مثل برجسون يعيب على العصر الحاضر غياب «الروح» والالتصاق بالواقع المادي حتى أصبح مجال الرؤية محدودا للغاية. وهو النقد الشائع الذي يوجه عادة إلى المادية الأوروبية. والمقصود بالروح هنا ليس الموجودات المتعالية أو المفارقة على حد تعبير العصر الوسيط إلا من حيث دلالتها على العموم والشمول والقدرة على تجاوز الحدود والتناهي. كما أن المقصود ليس هو غياب الأخلاقيات بالمعنى الساذج بل غياب نسق للقيم عام وشامل لا يتحدد بحدود الطبقات الاجتماعية أو الحدود القومية. إنما المقصود عادة هو المعنى الفنومينولوجي أي غياب عالم الحياة
Lebenswelt
أو التجربة الحية
Enlebeniss . لقد كان كثير من الفلاسفة المعاصرين أكثر وضوحا وتعبيرا من أورتيجا في وصف ظاهرة الانهيار. فهي انهيار حضاري شامل ونهاية فترة في تاريخ العالم عند اشبنجلر، وهي عدمية مطلقة وضياع كل شيء عند نيتشه، وهي آلات تخلق آلهة عند برجسون، وهي قلب مطلق؛ قلب كل شيء رأسا على عقب عند شيلر، وهي احتضار للروح عند أونامونو ... إلخ.
ويحاول أورتيجا تجاوز هذه العموميات ويضع بنية للشعور الأوروبي وتطورا له.
1
فالوعي الأوروبي له صورتان: سلمية ونضالية. من الأولى يأتي السلام ومن الثانية تندلع الحرب، ولكن أورتيجا لا يفصل في البنية أكثر من ذلك ولا يحدد اتجاهات الوعي الأوروبي نحو الطبيعة ونحو التعالي ونحو الإنسان. مع أن هوسرل كان قد كتب رائعته عن «محنة العلوم الأوروبية» سنة 1935م مفصلا بنية الشعور الأوروبي وواصفا لمساره، ولكن أورتيجا يعطي تفصيلات أكثر عن تطور الشعور الأوروبي منذ أصوله الأولى عند اليونان والرومان حتى تطوره الأخير ووصوله إلى مرحلة الانهيار في ثورة الجماهير التي يعتبرها أحد مظاهر السقوط باعتبارها انهيارا معنويا للإنسانية كلها. ويضع أورتيجا تقابلا بين الوعي الأوروبي الدينامي الحركي وبين الوعي اليوناني الروماني الثابت الساكن. فلم يكن سهلا على الفكر اليوناني الروماني إدراك الواقع باعتباره حركة فتصور الطبيعة ثابتة، والله محركا لا يتحرك، والإنسان قوى متناسقة. أما الدينامية الأوروبية فإنها ترجع في الحقيقة إلى عصر النهضة ورفض كل مصدر للقوى الطبيعية خارج العالم، ورفض كل تصور للعالم لا يصدر عن الإنسان نفسه برؤيته للأشياء وتعقله لها؛ لذلك أصبحت قوة العالم منه وإليه. ويعتبرها أورتيجا مثل هوسرل وديكارت بداية الوعي الأوروبي في مساره الحديث. استمر العقل الديكارتي ثلاثة قرون، وهو عقل رياضي طبيعي بيولوجي مما جعل الوعي الأوروبي في البداية وعيا عقليا يصعب فيه الفصل بين العقل والوعي، وهذا ما يقوله هوسرل وفيبر
M. Weber
عن قدرة الوعي الأوروبي على التنظير وتصور الواقع تصورا عقليا رياضيا صرفا حتى أخرج هوسرل كل حضارات الشرق القديم من حسابه في تطور التاريخ لارتباطها بالدين والأساطير والتكيف مع الحياة. وقد كان أفلاطون وسقراط أكثر فلاسفة اليونان تأثرا بالشرق في الإشراقيات الدينية عند أفلاطون والأخلاقيات العملية عند سقراط. يبدأ تاريخ العلوم الأوروبية بنقطة أرشميدس. ويجعل فيبر سيادة العامل العقلي السبب المباشر في تفوق الجنس الأوروبي وعلى ظهور البروتستانتية كفكر عقلاني حر ولد الرأسمالية من براثن الكاثوليكية الرومانية التي كانت ركيزة الإقطاع.
2
وقد تميز القرن الخامس عشر بنهضة الآداب تحت أثر العلم والعقل. ومنذ القرن السابع عشر والوعي الأوروبي يعيش تجربة مشتركة. ثم ظهرت إنسانية الوعي الأوروبي في فلسفة التنوير في القرن الثامن عشر حيث إن الحصول على دساتير مماثلة حق طبيعي لكل الشعوب. وبصرف النظر عن مدى دقة هذا الوصف لتاريخ الوعي الأوروبي فإن ما يبقى هو هذا الدافع نحو التقدم منذ بدايات عصر النهضة والبحث عن الحقيقة بعد أن تم إسقاط الأغطية النظرية القديمة حتى أصبح هذا البحث مرادفا للحقيقة نفسها على ما يقول لسنج.
3
يكشف تاريخ الوعي الأوروبي عن قدرته على التحرر من الماضي ثم وضع بدائل متعددة بدلا من الاختيارات القديمة. وقد لاحظ جيزو
Guizot
من قبل أنه لم تنتصر أية جماعة أو أي مبدأ أو أية فكرة أو أية طبقة اجتماعية على نحو مطلق، ولم تحسم المعركة لصالح أحد في الوعي الأوروبي. وهذا هو السبب في أنه في تطور دائم وفي تقدم مستمر. إنما قد يخف الدافع، ويبطؤ المسار حتى ينتهي إلى التوقف التام بعد الانتهاء إلى الحيرة والشك وتكافؤ الأدلة وعدم الاستقرار والتطرف وأحادية النظرة والتجزئة.
ويركز أورتيجا على موضوع الوحدة والتنوع في الوعي الأوروبي متسائلا: هل الشعور الأوروبي وحدة متجانسة أم شتات من قوميات متعددة؟ يرى أورتيجا أن الشعور الأوروبي حقيقة متجانسة مهما اختلفت الظروف التي تكتنف بوحداته الصغرى كما تبدو في القوميات. الشعور الأوروبي حقيقة واقعة أو ظاهرة ملموسة تتميز بخصائص فريدة أهمها التنوع في الوحدة والوحدة في التنوع، وذلك كوحدة الدين المسيحي وتنوع نظام الكنائس ووحدة الإمبراطورية الرومانية وتعدد شعوبها، وكوحدة العقل الخالص وتنوع الأنساق الرياضية، ووحدة الفلسفة وتعدد مذاهبها، ووحدة شعوب أمريكا اللاتينية بالرغم من تعدد لهجاتها، ووحدة الشرق وتنوع الدول الشرقية. وهذا ما لم تدركه فلسفة التنوير التي تصورت العالم كله إنسانية واحدة متجانسة عاقلة، حرة ومستقلة. ولم تستطع الحروب الطاحنة بين الشعوب الأوروبية النيل من وحدتها وتجانسها. فلكل شعب أوروبي خاصيتان؛ الأولى: عبقريته الخاصة المتمايزة عن عبقرية الشعب الآخر، والثانية: اشتراكه في خصائص عامة تجمعه مع باقي الشعوب. فأوروبا أمة
Nation
مكونة من عدة شعوب
peuples
على ما لاحظ مونتسكيو من قبل. الوحدة المتجانسة مصدر قوة وباعث حركة، والتنوير والتعدد مصدر خلق وإبداع وتخصص وتفرد. أوروبا حقيقة اجتماعية أولا قبل أن تكون حقيقة تاريخية، أي مجموعة من العادات والنظم والتقاليد تكون مجتمعا واحدا دون أن يكون بالضرورة مترابطا اجتماعيا. المجتمع موجود طبيعي. أما الترابط الاجتماعي فاصطناعي بناء على عقد إرادي. ولا يوجد الترابط الاجتماعي قبل أن يوجد المجتمع المترابط. القانون نتاج طبيعي للمجتمع وليس سابقا عليه. فأورتيجا من أنصار الحق الطبيعي مثل هيجل لا من أنصار العقد الاجتماعي عند اسبينوزا وروسو. يتكون المجتمع الأوروبي من دول، وكل دولة ممثلة في سلطة تعبر عن الرأي العام. هناك رأي عام أوروبي وإن لم توجد دولة أوروبية. قد تكون الدول الأوروبية المتحدة محض خيال ولكن وحدة المجتمع الأوروبي موجودة بالفعل كما هو الحال في الأمة الإسلامية التي تجمع وجدانيا وفكريا وعقائديا وتنظيميا وتشريعيا الدول الإسلامية. ويقول أورتيجا إنه بالرغم من أنه قاوم المثالية طيلة حياته وكرهها إلا أن الواقعية التاريخية تثبت أن وحدة أوروبا ليست مثالا بل واقعة قديمة جدا في الحياة اليومية مثل ضفائر الصيني عندما تطل من وراء الأورال أو «المجمع» الإسلامي! إن الدولة الأوروبية التي تتجاوز حدود الأوطان هو تصور يرجع إلى طريقة الإدراك اليوناني الروماني التي لا تستطيع أن ترى إلا الوقائع الثابتة لا الوقائع المتحركة. أما التصور الأوروبي فإن الأشياء فيه قوى كامنة تكشفها وتكون حقيقتها. والسلطة العامة الأوروبية قوة حركية تحكمها قوانين الميكانيكا وأهمها قانون توازن القوى. وبهذا المعنى تكون هناك وحدة أوروبية سلطتها العامة ميزان تعادل القوى والذي يرجع الفضل في وجوده إلى هذه الخاصية، الوحدة والتنوع في الوعي الأوروبي. وما قاله أورتيجا عن أوروبا كميزان للقوى قاله فيشته من قبل على ألمانيا كتوازن للقوى بين شرق أوروبا وغربها بوجه خاص، وبين الشرق والغرب بوجه عام.
ويكثر أورتيجا من الحديث عن أوروبا والغرب كمترادفين ولو أن الحديث عن أوروبا أكثر من الحديث عن الغرب وإن كانت المجلة التي أسسها عنوانها «مجلة الغرب». ويشعر بأوروبيته شعوره بإسبانيته إن لم يكن أكثر. ويتضح ذلك صراحة في كثرة استعماله لألفاظ مثل فلسفتنا، عصرنا، جيلنا، حضارتنا، تاريخنا ... إلخ. هناك شعوب أوروبية وأخلاق أوروبية ، وأعراف أوروبية، وعلم أوروبي، وقانون أوروبي ... إلخ. وفي داخل أوروبا يكثر من الحديث عن فرنسا وإنكلترا وألمانيا وإسبانيا. ويشخص كل دولة أوروبية في ثقافتها ثم يشخص ثقافتها في أهم علم فيها جسد روحها وعبر عن شخصيتها؛ هوجو في فرنسا، وشكسبير في إنكلترا، وجوته في ألمانيا، وسرفنتس في إسبانيا، والإنسانية جمعاء في بلاد ما بين النهرين! وهنا تبدو سخرية أورتيجا من النظريات العامة والمثاليات غير المشخصة والتي يصفها بالديماغوجية.
ويبدو أن أورتيجا قد وقع ضحية المركزية الأوروبية
Eurocentrisme . ففي «ثورة الجماهير» تتردد ألفاظ أوروبا، وأوروبي، والمغرب، وإسبانيا، وفرنسا، وإنكلترا، وأمريكا، وروما، واليونان عشرات المرات.
4
أوروبا مركز الصدارة ومحور تاريخ الشعوب . ويستشهد أورتيجا بالمؤرخ الفرنسي
Guizot
الذي يضع الحضارة الأوروبية في كفة وباقي حضارات العالم في كفة أخرى! فالحضارة الأوروبية استطاعت منذ خمسة قرون، ابتداء من عصر النهضة حتى الآن إعادة بناء التفكير الإنساني من جديد وتأسيس قواعد التفكير العلمي وما نتج عن ذلك من تطبيقات عملية أفادت الإنسانية جمعاء. وينسى أورتيجا أن أوروبا في عصورها الحديثة إنما استفادت من تراكم خبرات طويلة، من حضارات الشرق القديم في الهند والصين وفارس ومصر ومن خلال الحضارة الإسلامية وترجمات علومها عبر إسبانيا وإيطاليا وتركيا. وإن مؤامرة الصمت التي يضربها الوعي الأوروبي على مصادره القصد منها الإيهام بالعبقرية الخاصة وبالنموذج الذي على غير منوال كأحد مكونات العنصرية وهي الداء الدفين فيه. وفي الوقت نفسه يطبق الوعي الأوروبي منهج الأثر والتأثر ويكشف عن المصادر التاريخية للثقافات غير الأوروبية حتى يقضي على إبداعاتها ومساهمتها الأصيلة في تاريخ الثقافة الإنسانية. هذه الازدواجية والمعيار المزدوج والكيل بمكيالين هي إحدى خصائص الوعي الأوروبي. فالإنسانية لديه إنسانيتان، والمبادئ لديه نوعان، واحد لأوروبا وآخر لغير أوروبا!
وقد يكون أحد مظاهر الانهيار هو تحول قيادة العالم من أوروبا إلى خارجها. ويعطي أورتيجا لسؤال: من الذي يقود العالم اليوم؟ أهمية بالغة ومكانة بارزة في «ثورة الجماهير» إذ إن من أهم خصائص العصر انتقال السلطة الذي يدل أيضا على تحول في الروح. فمن الذي يقود العالم اليوم ؟ أو بتعبيرنا لمن الحكم اليوم؟ منذ القرن السادس عشر قادت أوروبا الإنسانية إبان ما نسميه بالعصور الحديثة. كما قادت روما من قبل منذ أوائل العصر الوسيط. ولا تعني هنا القيادة المادية القائمة على القوة. فهناك فرق بين العدوان والقيادة. قد يعتدي أحد دون أن يقود، وقد يقود أحد دون أن يعتدي. القيادة هي الممارسة الشرعية للسلطة القائمة على الرأي العام وهو اليوم القوة الموجهة للقيادات. وقد قال تاليران
Talleyrand
من قبل لنابليون: «سيدي، إن العصا تستطيع أن تفعل كل شيء سوى الجلوس فوقها!» فالقيادة لا تعني الاستيلاء على السلطة بل ممارستها في هدوء ووعي. ومع أنه في المجتمعات الحالية يصعب وجود رأي عام موحد إذ ينقسم المجتمع إلى فئات، ولكل فئة رأي، فإن السلطة تأتي لتحل محل جميع الآراء، ولكن لا يمكنها القيادة ضد مجموع الرأي العام لأن القيادة هي سيادة فكر أي القيادة الروحية كما مثلتها الكنيسة من قبل، ولكن كيف تأتي الفكرة ومعظم الناس في عصر الجماهير لا أفكار لهم؟ إذن تأتي الفكرة من الخارج. وهذا بالضبط هو معنى تحول قيادة العالم من أوروبا إلى خارجها. منذ الحرب العالمية الثانية يقال إن أوروبا لم تعد قائدة للإنسانية. لقد قادت طيلة ثلاثة قرون ولكنها لا تستطيع اليوم أن تقود. بدأت هي نفسها تشك في قيادتها كما بدأ الآخرون يشكون في قيادتها لهم. وهذا هو ما عناه اشبنجلر بأفول الغرب، وما قصده آخرون بسقوطه. لقد بدأت الاتجاهات الوطنية داخل أوروبا وخارجها رفض قيادتها، وعمت الثورات سائر الشعوب التي تمت السيطرة عليها إبان قيادة أوروبا، وبعد سيادة الجماهير ورفضها أي مظهر من مظاهر السلطة بل واستردادها حق السلطة لنفسها. وإذا كانت الجماهير دون برنامج حياة حتى على الرغم من ظهور أجيال جديدة فمن الذي سيحل محل أوروبا في القيادة؟ إذا كان المعنى الاشتقاقي للقيادة هو القيام بمهمة، فالقائد هو الذي يقوم بمهمة، فإنه دون القيادة يكون الفراغ. فالحياة هي القيام بشيء وأداء شيء. إن أوروبا اليوم لا تستطيع تكليف الشعوب الأخرى بالقيام بالمهام نيابة عنها. وإن انتصار الماركسية في بلد غير صناعي لا يدل على انتصار لأن الشعب يظل يعيش في تاريخه القديم. وأمريكا لا تقود بل الذي يقود فيها هو التكنولوجيا. وماركس والتكنولوجيا خرجا من أوروبا، وهي بدائل أوروبية تحمل الفناء نفسه الذي تحمله أوروبا. وإذا كانت السلطة مغتصبة في دولة - كما هو الحال في إسبانيا - فإن هذه الدولة لا يمكن أن تقود. لم تعد هناك بدائل داخل أوروبا لقيادة العالم. وهذا هو السبب في أن أوروبا تسير في مكانها لا تتحرك.
وهنا يأتي دور العالم الثالث وما يمثله من وعي جديد لشعوب القارات الثلاث والتي تكون أكثر من ثلاثة أرباع سكان العالم. ولقد بدأ المفكرون في العالم الثالث من قبل دراسة الوعي الأوروبي كظاهرة مستقلة، فأصبح المدروس هو الدارس، والملاحظ هو الملاحظ، والموضوع هو الذات، طبقا لتبادل الأدوار بين السيد والعبد. لقد استطاع العالم الثالث تحقيق إنجاز ضخم في هذا القرن ألا وهو التحرر من الاستعمار واستطاع تكوين رأي عام جديد مناهض للعنصرية وللتفاوت بين الأغنياء والفقراء، وللتسلح النووي وللحرب الباردة، مقاوما الدخول في الأحلاف العسكرية وحالا محل أوروبا كميزان للثقل في العالم بين الشرق والغرب فيما عرف باسم «عدم الانحياز» أو «الحياد الإيجابي». استطاع العالم الثالث أن يبلور وعيا إنسانيا جديدا ناشئا في مقابل الوعي الأوروبي القديم الآفل. ونظرا لأن شعوب العالم الثالث شعوب تاريخية كما هو الحال في الصين والهند ومصر، فإن ريادتها اليوم إنما هو لحاق بريادتها الأولى وكأن التاريخ يكرر نفسه مرتين، وكأن الإنسانية ترى نهضة جديدة لشعوب الشرق بعد أفول الغرب.
5
إن أزمة الغرب ليست أزمة القيادة السياسية وحدها بل أزمة حضارية في أساسها، أزمة تصور وسلوك، أزمة نظر وعمل بعد أن جرب الوعي الأوروبي كل شيء وانتهى إلى لا شيء. إن شعوب العالم الثالث بما تملكه من وعي إنساني جديد يمثل إنسانية جديدة قادرة على أن تقوم بدور القيادة محل الغرب، فهي التي ما زال لديها مشروع جديد بدلا من المشروع الأوروبي القديم الذي انتهى إلى الفشل: مزيد من الإنتاج لمزيد من الاستهلاك لمزيد من السعادة. أما المشروع الجديد فهو التنمية في مواجهة التخلف، والتحرر في مواجهة الاستعمار، والحرية ضد القهر، والعدالة الاجتماعية في مواجهة الاستعمار، والحرية ضد القهر، والعدالة الاجتماعية في مواجهة التفاوت الطبقي بين الأغنياء والفقراء، بين من يملكون كل شيء ومن لا يملكون شيئا، والتأكيد على الهوية في مواجهة التغريب، والدعوة إلى الوحدة في مواجهة التجزئة، وتجنيد الجماهير ومبادرات الشعوب في مواجهة القيادات البيروقراطية والحاسبات الآلية وتحليل المعلومات.
إن انخفاض الروح المعنوية في الغرب إنما هو إحساس طبيعي نتيجة لانتقال القيادة من أوروبا إلى غيرها. لم تعد أوروبا واثقة من قيادة نفسها أو غيرها. تبعثرت سيادتها التاريخية في عصر البعثرة والتفكك، وتفككت عرى الروابط بين الأوروبيين. وقد حاولت تغطية ذلك بإحياء العواطف القومية التقليدية ولكن المحاولة انتهت إلى طريق مسدود في عصر الكيانات الكبيرة. أما الشيوعية فلم يتمثلها أحد لأنها تصطدم بالفردية. قد تستطيع البلشفية تغيير الروح الأوروبية وإنعاش الوعي الأوروبي وإعطاء أمل جديد ولكنها أيضا تقع في البيروقراطية وتصبح فريسة للطبقات الجديدة ولجهاز الدولة باسم السيطرة المركزية والسلطة الواحدة. أما ثورات الشباب فقد كانت الوهج الأخير قبل انطفاء الشمعة، حشرجة الموت. لم تحقق شيئا وتحولت الثقافة المضادة إلى برامج الإعلام في الثقافة والفن.
والسؤال الآن بالنسبة لإسبانيا: إلى أي عالم تنتسب؟ إلى العالم الأول كفرنسا وإنكلترا وألمانيا واليابان وأمريكا وروسيا، أم إلى العالم الثالث ومجموع شعوب القارات الثلاث، أم إلى العالم الثاني ومجموعة البلاد المصنعة حديثا مثل كوريا الجنوبية وتايوان وهونغ كونغ وسنغافورة، أم إلى العالم الرابع، أثيوبيا وتشاد الذي يئن من أخطار المجاعة والقحط أو الذي يعيش تحت مستوى خط الفقر؟ واضح أن أورتيجا يعتبر إسبانيا بلدا أوروبيا ينطبق عليه ما ينطبق على ألمانيا وفرنسا وإنكلترا وسائر البلاد الأوروبية. لم يتحدث أورتيجا عن خصوصية البحر المتوسط وقرب شاطئيه الشمالي والجنوبي كما فعل فرناند بروديل
F. Braudel
فلربما وجد إسبانيا هناك كحلقة اتصال بين الشاطئين؛ الشمال والجنوب.
وختاما، ما هي الدلالة السياسية لكتاب أورتيجا «ثورة الجماهير»؟ في حقيقة الأمر يظل الكتاب محيرا ومثيرا بعض التساؤلات والاشتباهات التي يصعب الإجابة عليها. هل القصد هو نقد جماهيرية القرن الماضي وثوراته دفاعا عن فردية هذا القرن؟ هل القصد هو نقد الماركسية دفاعا عن الديمقراطية الليبرالية؟ هل القصد هو النقد المبطن للاشتراكية دفاعا عن الرأسمالية؟ هل ثورة الجماهير ضد ذاتها أم ضد الآخر؟ هل هي مفهوم إيجابي أم مفهوم سلبي؟ هل هو حكم واقع أم حكم قيمة؟ ألم يفصل أورتيجا بين السياسة والاقتصاد وجعل كل تحليلاته سياسية أكثر منها اقتصادية بل في الفلسفة السياسية أكثر منها في النظم السياسية؟ هل هناك طبقات بشرية أم طبقات اجتماعية وإلا كان المقصود النقد المبطن لماركس؟ أليس أورتيجا فيبرا آخر مهمته وضع بديل للماركسية مرة بالتركيز على العقل الحيوي ومرة أخرى بالتركيز على العقل النظري أو التنظير؟ وماذا عن نقد الدكتاتورية المسيطرة على إسبانيا ونظام الملكية؟ وماذا عن الجمهوريين الذين كان أورتيجا مفكرهم الأول؟ لماذا لا تصدق ثورة الجماهير على ثورة الجمهوريين في مقابل الملكيين إبان الحرب الأهلية الإسبانية؟ ولماذا لا تكون ثورة الجماهير ديمقراطية بدلا من التقابل بين الجماهير كنظام جماعي وبين الديمقراطية الليبرالية كنظام فردي؟ أليست الديمقراطيات الجماهيرية المباشرة أكثر فعالية من الديمقراطيات الصورية القانونية؟ يصعب الإجابة على ذلك كله؛ إذ إن معرفة المقاصد أصعب بكثير من معرفة الألفاظ. يبدو أن أورتيجا يرفض كل شيء ويميع كل المتناقضات. فلا التاريخ يسير حتما نحو الليبرالية الديمقراطية ولا هو يسير حتما نحو الاشتراكية. لا اليمين بقادر على القيادة ولا اليسار نظرا لأن كل فريق يلعب لعبة الآخر ويزايد عليه. اليمين واليسار كلاهما نصف شلل خلقي، يطمس معالم الواقع، اليمين يعد بالثورات واليسار يقدم الدكتاتوريات! إن مجموع هذه الاشتباهات التي تحوط بأورتيجا تجعله أقل وضوحا من أستاذه أونامونو الذي أخذ موقفا واضحا وناقدا من الغرب. أورتيجا بنياته المعلنة قد يكون أقرب إلى الوجودية اليسارية مثل سارتر وكامو وميرلو بونتي، وبأهدافه غير المعلنة قد يكون أقرب إلى الوجودية اليمينية مثل جابريل مارسل وكارل ياسبرز.
6
وفي النهاية يبدو أن موقف أورتيجا، مفكر الجمهوريين الأول، لا يختلف كثيرا عن مصير الحرب الأهلية الإسبانية!
مدرسة «تاريخ الأشكال الأدبية»1
أولا: المقدمة
نشأت مدرسة تاريخ الأشكال الأدبية في العشرينيات من هذا القرن بعد تطور طويل للوعي الأوروبي منذ بداياته في الإصلاح الديني في القرن الخامس عشر؛ فقد ظهرت من ثنايا البروتستانتية في آرائها في الإيمان والزمان والوجود الإنساني أولا، ثم كانت تطويرا للبروتستانتية الحرة، واللاهوت الحر، واللاهوت الجدلي وأخيرا لمدرسة توبنجن. كما ورثت الاعتزاز بالعلم الحديث وبأولوية الإنسان، وبنقد النظم الموروثة كما هو الحال في عصر النهضة في القرن السادس عشر. واعتمدت على العقل والتحليل اللذين ميزا القرن السابع عشر. وكانت أثرا من آثار التنوير في القرن الثامن عشر وبدايات النقد التاريخي للكتب المقدسة، وضرورة إخضاعها للنقد والتحليل حتى اكتمل هذا النقد في علم مستقل. وبفضل المدرسة التاريخية في القرن التاسع عشر وعلم تاريخ الأديان المقارنة وإدخال المسيحية في إطار الديانات القديمة والاستفادة من نتائجه فيما يتعلق بالتشابه بين الكتب المقدسة والآداب القديمة خاصة اليونانية والعبرية، ظهرت مكونات المدرسة الجديدة في النقد، متنقلة من «نقد المصادر» إلى «نقد الأشكال»، أو بتعبير علماء مصطلح الحديث من نقد «السند» إلى نقد «المتن»؛ لذلك استعارت المدرسة الجديدة الأشكال الأدبية من النقد الأدبي طبقا للنظرية الشائعة بأن تاريخ الأدب هو تاريخ الأشكال الأدبية. واعتمدت على دراسات «الأنواع» الأدبية في الآداب القديمة. بل استطاعت تطوير النقد الأدبي وتحويله من دراسة النص الثابت في المكان، لغة، واصطلاحا، وعبارة، ومعنى إلى دراسة النص المتحرك في الزمان أي نشأة الأنواع الأدبية وتطورها، وتغير المعاني اللغوية للألفاظ والعبارات. كان الشائع أولا دراسة الحكاية والشعر. ثم تحول الاهتمام إلى الرواية كإحدى صور الخطاب الديني في شكل رواية وفعل يعاد تمثيله. ثم انتقل الاهتمام من الرواية إلى الأمثال كما هو الحال في الأدب الشعبي. ثم تحول الاهتمام من الأمثال إلى كتابة التاريخ كأحد الأشكال الأدبية كما هو الحال عند اليونان والعبرانيين وتحوله إلى فعل وتمثيل عند المسيحيين. كما ظهرت «الرؤية» كأحد الأنواع الأدبية كرمز للنهاية. وأخيرا انبثقت المدرسة من ثنايا المثالية الألمانية واعتبار الشعور محور العالم ومركز الكون. فقد كان بولتمان، وهو أحد زعيمي المدرسة مع ديبليوس من الكانطيين الجدد، مؤسسي مدرسة ماربورج التي قامت لدراسة الصور الكانطية على أساس حيوي شعوري؛ وبالتالي فإن المدرسة تقوم على موقف فلسفي محدد، وهو أنه لا يحدث شيء في الواقع ما لم يحدث في الشعور أولا، وأن الشعور يعبر عن موقف حياتي للجماعة؛ ومن ثم فهو شعور جماعي، يكشف عن علاقات بين الذوات، وتوجهه بواعث، وله صور، يتعامل مع الواقع، ويوجد في التاريخ، ويعبر عن نفسه في لغة ومن ثم كانت المدرسة أحد آثار «الفينومينولوجيا».
1
ثانيا: نشأة «نقد الأشكال الأدبية»
استرعى انتباه كثير من النقاد تعدد الروايات حول تاريخ عيسى، وحاولوا التأليف بينها لرؤية ما بينها من اتفاق واختلاف. قام بذلك طيطيانوس في القرن الثاني في «الدياطسرون» أي «الرباعي» ثم أوزياندر
A. Osiander
في القرن السادس عشر. واستمرت المحاولات حتى اليوم وانتهت إلى نتائج عدة وأولها أن الاتفاق بين الأناجيل الثلاثة الأولى (متى ومرقص ولوقا) أكثر من الاختلاف بينها؛ ولذلك سميت الأناجيل المتفقة أو المتقابلة
synoptic
في مقابل الإنجيل الرابع، إنجيل يوحنا الذي يمثل رواية مستقلة، الاختلاف بينها وبين الروايات الثلاث الأولى أكثر من الاتفاق بينها. ثم بدأ الاهتمام بتفسير أسباب الاتفاق والاختلاف بين الأناجيل المتقابلة قبل القرن التاسع عشر بزمن طويل. وكان أوغسطين أول من لاحظ العلاقات الأدبية بين الأناجيل، وفسرها بتتابعها ونظامها (متى، مرقص، لوقا، يوحنا)، وأن اللاحق كان على علم بالسابق. فمتى هو أقدم الأناجيل، ومرقص مختصر له، والإنجيلان الآخران معتمدان على الأولين. وبالرغم من وجود نظريات أخرى مخالفة في القرن التاسع عشر إلا أن نظرية أوغسطين كانت تعبر عن الموقف الرسمي. بل إن شتراوس في «حياة عيسى» قد سلم بها.
ثم توصل النقاد في القرن التاسع عشر إلى نظرية أخرى وهي أن مرقص أقدم الأناجيل وكان متى ولوقا على علم به، وهو ما يفسر التشابه بينهما وبينه. ثم استعملا مصدرا آخر مفقودا يرمز إليه بالحرف
Q
اختصارا لكلمة الألمانية
Quelle
التي تعني «منبع» أو «مصدر» لتفسير وجود روايات في إنجيلي متى ولوقا غير موجودة في مرقص؛ ومن ثم أصبحت نظرية المصدرين هي السائدة في الدراسات النقدية. ولما كانت هناك روايات لا يمكن تفسيرها بالمصدرين افترض شتريتر
BP. H. Streeter
وجود مصادر أربعة: مرقص
L, Q «مادة لوقا»
M «مادة متى». وزادت الافتراضات إلى ستة مصادر وإلى عشرة وإلى اثني عشر، وكلها تدور حول المصدر الكتابي.
ثم لاحظ النقاد مثل فلهاوزن
Wellhausen
أن مرقص نفسه ليس أقدم الروايات وأن المصادر الكتابية مجموعات مركبة أصلها وحدات صغيرة متعددة ليس لها عدد معين، مستقلة عن بعضها البعض، تم التأليف بينها فيما بعد لخدمة أغراض عقائدية، وتلبية لحاجات الجماعة المسيحية الأولى، جعلها فرده
Werde «السر المشياني»
Messianic
وأيده في ذلك شفيتزر
A. Schweitzer . فقد احتفظ عيسى عن قصد بهذا السر وكشف عنه تدريجيا، ولم يدركه التلاميذ إلا بعد بعثه. ثم أثير سؤال؛ وما مصادر هذه الوحدات المستقلة الأولى؟ افترض فيس
Weiss
أنها ذكريات بطرس. وسرعان ما أدى هذا الافتراض البسيط إلى نظرية أعمق وأشمل وهي نظرية المصدر الشفاهي. إذ إن وراء هذه الوحدات المستقلة تراثا شفاهيا نبه عليه من قبل كروماخر، وجيزلر، وشليرماخر، وسابق على مرحلة التدوين.
ثم جاء جونكل
H. Gunkel
وصاغ نظرية المصدر الشفاهي وطبقها على «سفر التكوين» ليرصد هذه الوحدات المتفرقة، ويبين نشأتها وتطورها، ويقارنها بالآداب الشعبية في عصرها، ويضعها في إطار حياتها. فالأسفار الخمسة تشبه الأناجيل في نسبة الأولى إلى موسى والثانية إلى عيسى، ولكن الدراسات النقدية تؤكد أنها أخذت أشكالها الحالية على فترة طويلة، وأنها تشكلت طبقا لعديد من الوثائق المفقودة. وقبل نهاية القرن الماضي انتهى الباحثون إلى رصد هذه الوثائق والتعرف عليها وإن لم ينتهوا إلى الوقائع المروية ذاتها في الأسفار الخمسة. وفكروا في بعض الوسائل للذهاب إلى ما وراء النصوص المكتوبة، وكان في مقدمتهم جونكل. فقد بدأ بالتسليم بنقد المصادر ونتائجها، وهو أن سفر التكوين (وباقي الأسفار الخمسة) نشأت من مصادر سابقة عليه وهي: (Jahwist) J
من القرن التاسع قبل الميلاد، (Elohist) E
من النصف الأول من القرن الثامن، (Priestly Writer) P
بين 500-444ق.م.، وقد تم تجميعها كلها من قبل كاتب متأخر لتكون الكتب الحالية. كما تم توحيد
E + J
في نهاية مملكة يهوذا (587ق.م.)، ثم دخلت مع
أيام عزرا (444ق.م.). وقبل هذه الوثائق كانت هناك روايات مكتوبة وجدت أولا في صورة شفاهية ثم وضعت فيما بعد في مجموعات لها أبنية وأشكال، وكانت وحدات مستقلة منقولة شفاها قبل مرحلة التدوين تم التأليف بينها فيما بعد. هذه المصادر الشفاهية تطورت خلال حياة بني إسرائيل على فترة طويلة، والبعض منها نشأ في أقطار مجاورة وتكيف حسب كل قطر، كما تغيرت جيلا بعد جيل. فبتغير الظروف والأفكار والأخلاق والعادات لا يمكن أن تبقى الحكايات الخيالية الشعبية على المنوال نفسه. وصنف جونكل هذه الروايات طبقا لأهدافها، فمنها الهدف التاريخي الذي يعكس ظروفا تاريخية خاصة ولكن معظمها كان يهدف إلى شرح شيء ما يريده رواتها. وانتهى جونكل إلى تصنيف رباعي: حكايات إثنية
EthnoIogical Legends
لشرح علاقات الأسباط، وأخرى لغوية لبيان مصادر معاني الأجناس والجبال والأنهار والمدن، وثالثة طقوسية
Ceremonial
لشرح الاحتفالات الدينية مثل السبت والختان، ورابعة جيولوجية لتفسير نشأة المكان. كما قارنها بالنصوص المشابهة عند الشعوب المجاورة خاصة تلك التي تتعلق بالقوانين من أجل التعرف على مصادرها التاريخية وأساليبها الأدبية والنظرات العقائدية والبواعث الموجهة لتكوين النص مثل الميثاق والوعد ودور الكاهن في التدوين. ثم انتقلت نتائج جونكل من العهد القديم إلى العهد الجديد. وانتهت الدراسات في أوائل القرن العشرين على الأناجيل المتقابلة إلى قبول نظرية المصدرين كأصلين لمتى ولوقا وإلى الاعتراف بتأثر النظريات اللاهوتية للكنيسة الأولى على تكوينها وإلى احتواء مرقص على مواد متأخرة أصلها في وحدات مستقلة وجدت في تراث شفوي قبل التدوين. وانتهى نقد المصادر إلى هذا الحد.
1
وفي نهاية الحرب العالمية الأولى ظهرت مجموعة من الدراسات تعبر عن اتجاه واحد، وتبشر بميلاد المدرسة وفي مقدمتها خمسة كتب: (1)
ب. ديبليوس: تاريخ الأشكال الأدبية للأناجيل، توبنجن، 1919م. (2)
ك. ل. شميت: الإطار لقصة عيسى، برلين، 1919م. (3)
ر. بولتمان: تاريخ الأناجيل المتقابلة، جوتنجن، 1921م. (4)
م. البرتز: أحاديث الصراع المتقابلة، برلين، 1921م. (5)
ج. برترام: تاريخ آلام عيسى ودين المسيح، جوتنجن، 1922م.
قبل شميت النتائج العامة لنقد المصادر وأهمها نظرية المصدرين، ولكن أضاف أن مرقص يتكون من عدة مقاطع قصيرة مرتبطة فيما بينها بفقرات انتقالية تعطي بعض التحديدات الزمانية والمكانية لتاريخ حياة عيسى وبشارته الأولى. ومرقص هو واضع الإطار أو البناء الشكلي فحسب. هذا الإطار يكشف عن حياة الكنيسة وأفكارها وبواعثها وحاجات الجماعة المسيحية الأولى. وقد انتقلت هذه المقاطع المتعددة في صورة شفاهية ثم تحولت إلى مقاطع مكتوبة طبقا لحاجات الكنيسة باعتبارها مجتمع عبادة.
ولكن ديبليوس (1883-1946م) هو أول من طبق «نقد الأشكال الأدبية»، وهو واضع المصطلح. أراد أن يشرح بطريق التركيب مصدر تراث عيسى والرجوع إلى فترة شفاهية سابقة على تدوين الأناجيل مع توضيح قصد التراث واهتمامات الجماعة الأولى ووظائفها وكتابها. ويصنف دعاتها مثل المبشرين والوعاظ الذين يعتمدون على بعض المواقف الدرامية في وعظهم، والرواة الذين هم مصدر الروايات التفصيلية للجماعة، والمنشدين الذين يؤلفون الروايات من أجل التهذيب والتربية الدينية، ومؤلفي الأساطير أو الروايات اللاهوتية.
ولكن اسم المدرسة قد ارتبط ببولتمان (1884-1976م) الذي حاول بعد سنتين اكتشاف هذه الوحدات الأولى قبل الأناجيل بل وقبل الأقوال والروايات وإقامة سياقها التاريخي سواء كانت تنتمي إلى تراث أولي أو ثانوي أو كانت نتيجة لنشاط التدوين. يرفض بولتمان البناء الصوري عند ديبليوس، ويفضل تقطيع النصوص إلى وحدات أولية ومعرفة مدى تشابهها مع الوحدات المماثلة في البيئات المجاورة، وتاريخ كل فقرة، والبواعث على نشأتها وتكوينها. فإذا كان منهج ديبليوس استنباطيا بنائيا فإن منهج بولتمان استقرائي تحليلي بالرغم من اعتماده على بعض المبادئ الفلسفية العامة مثل التفرد والرغبة في التصوير.
وبينما يرتد ألبرت إلى الجماعة الأولى وإلى البيئة التي نشأت فيها الأناجيل ويرجع الاختلاف بينها إلى مناقشات عيسى مع الكتبة والفريسيين، فإن برترام يرى أن العبادة
kult
هي البيئة الوحيدة التي نشأت فيها الأناجيل وتكونت، ولا يعتمد كثيرا على تاريخ الأديان المقارن كما يفعل بولتمان؛ وبالتالي يظل التأرجح قائما في المدرسة بين «نقد المصادر» واللجوء إلى البيئة وبين «نقد الأشكال» والاعتماد على الأشكال الأدبية.
2
والحقيقة أنه يصعب ترجمة مصطلح
Formgeschichte
فهو يعني في الوقت نفسه ثلاثة أشياء: (أ) «تاريخ الأشكال الأدبية»، أي تتبع الأشكال الأدبية للكلام نشأة وتكوينا وتطورا، هي المعروفة في علوم النقد باسم «الأنواع» الأدبية، ومقارنتها بمثيلاتها في الآداب القديمة. وهي أقرب الترجمات إلى المعنى الحرفي للمصطلح، والشائع عند معظم الدارسين. (ب) «تاريخ تكوين الإنجيل»، فالصورة هنا تعني التكوين
formation
أو عملية «التشكيل» فالمهم هو عملية تكوين الإنجيل ابتداء من الوحدات المستقلة المتفرقة شفاها أو تدوينا وتاريخا وليست الأشكال النهائية للأناجيل والتي هي المظاهر الخارجية لعملية التكوين، وهو معنى أوسع من المعنى الأول، وبمصطلح علوم اللغة والأنثروبولوجيا يريد المعنى الأول تحليل الصور في المعية الزمانية
synchronic
بينما يريد الثاني تحليلها في التتابع الزماني
Diachronic . (ج) «صور الشعور التاريخي»، فالأشكال الأدبية قد تخلقت في شعور الجماعة الأولى وبالتالي فإنها في حقيقة الأمر صور للشعور التاريخي لدى الجماعة الأولى. النص من وضع الشعور، والصورة للشعور قبل أن تكون للنص. والشعور هو الذي يدرك العالم ويتصوره ثم يعبر عنه في صورة مثل أو قصة أو حكاية خيالية أو أسطورة، وتحركه بواعث وغايات قصدية، وهو المعنى الأعمق والذي يربط المدرسة برافدها الأساسي في علم الظواهر أو «الفينومينولوجيا». طبقا للمعاني الثلاثة للفظ يتكلم؛ اللفظ والمعنى والشيء أي الصورة والمضمون والموضوعية. وللمدرسة ثلاثة جوانب سنقتصر منها على الجانب الأول فقط وهي: (1)
دراسة الأشكال الأدبية المختلفة التي تم فيها تدوين أقوال عيسى وأفعاله ابتداء من التراث الشفاهي حتى التراث المدون، وطرق صياغتها ابتداء من الأشكال المماثلة في الآداب القديمة اليونانية والعبرية والشرقية القديمة، وكيفية تشكيل الوحدات الصغيرة والربط بينها حتى أصبحت الأناجيل. ومهمة هذا الجانب هو الكشف عن هذه الأشكال الأدبية وتصنيفها وبيان نشأتها وتطورها قبل أن تبدأ عملية الفهم أو التفسير أو التأويل. وهو البديل عن النقد التاريخي القديم لإثبات صحة النصوص إلا أنه لا يتعلق بالسند ولكن بالمتن. (2)
دراسة تكوين الأسطورة
Demythologisation : مثل أساطير الميلاد أو الموت أو البعث. وقد نشأت ابتداء من عملية التأليه التي حدثت في شعور الجماعة المسيحية الأولى ابتداء من الإعجاب بأقوال عيسى وأفعاله حتى التأليه المطلق لشخصه. وقد تم نسج الأسطورة طبقا لمثيلاتها الموجودة لدى الشعوب المجاورة وعلى منوالها مثل ديانة مترا في فارس أو آلهة اليونان والرومان أو بعض معارج الأنبياء عند بني إسرائيل. (3)
تأويل الأسطورة
Demythisation : لما كان تكوين الأسطورة هو مجرد الكشف عنها في شعور الجماعة المسيحية الأولى فإن تأويل أسطورة هو إرجاعها إلى مصدرها في الوجود الإنساني العام وليس في الشعور التاريخي للجماعة الأولى وحدها. التواضع والتضحية والإخلاص يدركها كل إنسان. والحياة والموت والألم مكونات للوجود الإنساني. والذنب والمغفرة والثواب والعقاب تتعلق بأفعال الإنسان. ومن هنا أتت أهمية فلسفات الوجود خاصة عند هيدجر وتحليله لأبعاد الوجود الإنساني الذي هو الأساس والمصدر لتأويل الأسطورة. ومن هنا أيضا تأتي أهمية الهرمنيطيقا
Hermeneutics .
3
ثالثا: المبادئ الأولية والمسلمات العامة
وتقوم المدرسة على عدة مبادئ أولية أو مسلمات عامة بصرف النظر عن الفروق الفردية بين زعمائها وعن عددها وعن مدى تكوينها لخطوات منهج محكم، وأهمها: (أ)
نقد المصادر:
يقبل زعماء المدرسة الأوائل النتائج التي انتهى إليها نقد المصادر إذ إن الاعتماد الأدبي المتبادل بين الأناجيل يمد المدرسة بمادة للبحث يسهل بعد ذلك العمل عليها ومعرفة كيف استخدم متى ولوقا ومرقص المصدر
Q
وكيف استخدم مرقص والمصدر
Q
المصادر الأولى. والحقيقة أن نقد المصادر مجرد مقدمة لنقد الأشكال (وهو الاسم المفضل لدى النقاد الأنجلوسكسون) لأنه إذا تمت بعد ذلك معرفة الوحدات الأولى بعد نقد الأشكال وتحديد التاريخ الأول لهذه الوحدات فإنه يسهل بعد ذلك معرفة الروايات المكتوبة.
1 (ب)
الوحدات المستقلة:
تكون المصدران؛ مرقص،
Q
من وحدات مستقلة صغيرة كانت موجودة أولا شفاهيا قبل أن تدون. ويمكن التعرف عليها في مرحلتها الشفاهية بالاعتماد على علم النفس وعلم الاجتماع وعلم الأنثروبولوجيا. وكتاب الأناجيل هم الذين جمعوا بينها في أطر مصطنعة وربطوا بين أجزائها في مجموعات أكبر. ومهمة الباحث معرفة هذا الربط المتأخر بعد الكشف عن هذه الوحدات الصغيرة السابقة على تكوين الأناجيل. وقد أثبت شميت وجود هذه المجموعات ، وتعرف عليها ديبليوس في المرحلة الشفاهية كما هو واضح من قصة يائير وشفاء المرأة، والبعض منها كان سابقا على تجميع كتاب الأناجيل. ويؤكد بولتمان على أن هناك حدودا طبيعية لمثل هذه المجموعات في الفترة الشفاهية حتى لو لم يتم تحديدها تماما، وهي حدود يمكن تجاوزها بعد ذلك في مرحلة التدوين. هناك جزء واحد استثناء من القاعدة وهو «رواية الآلام»، فقد وجدت كوحدة واحدة غير مجمعة عن حياة عيسى في الفترة الأولى، ومتشابهة في الأناجيل الأربعة، لا توجد فيها مواقف أو حوار أو أقوال كثيرة، وتعبر عن شهادة عيانية. ومع ذلك فرواية مرقص ليست أقدم الروايات. وهي عند بولتمان وديبليوس نتيجة لعملية مبكرة لنقل التراث. لم تكن نواتها الأولى - لو تم العثور عليها - تاريخا خالصا؛ لأن الروايات الحالية في الأناجيل تنقل الحوادث في سياق أوسع. هي أقدم روايات الأناجيل، ووحداتها الصغيرة، إن وجدت، لا معنى لها إلا في سياقها وزمانها ومكانها. فقد أتت إجابة على سؤال الكنيسة الأولى: كيف تم إحضار عيسى إلى الصليب من الناس الذين باركهم وأجرى عليهم معجزاته وآياته؟ (ج)
تكوين الأناجيل:
هذه الوحدات الصغيرة المستقلة لها حياتها منذ نشأتها في الشعور التاريخي للجماعة الأولى ونقلها شفاهيا ثم تدوينها ثم الجمع بينها في وحدات أكبر حتى جاء كتاب الأناجيل وربطوا بين الأجزاء في إطار وتصور واحد لخدمة أهداف معينة. مهمة الباحث إذن الصعود أو الرجوع إلى الأشكال الأولى لكل تراث ورصد التغيرات التي طرأت عليه ثم المقارنة بين نصوص الأناجيل والنصوص المشابهة المحيطة في الآداب الشعبية القديمة أو في أدب الأحبار. كتاب الأناجيل ليسوا إذن مؤلفين بل هم مجمعون ومحررون لمادة موجودة سلفا نسقوا بينها. وكل مادة لها تاريخ سابق استعملتها الجماعة الأولى تحقيقا لمصالحها، لها قلب أو نواة أو محور ثم حدثت إضافات عليها فيما بعد طبقا لقوانين تطور العمل الأدبي ونقل الرواية الشفاهية، وأهمها قانون الإيجاز والإطناب. فالإيجاز هو الأصل، ثم تضاف الأسماء والتفاصيل كما هو الحال في قصة الغني الباحث عن عيسى (مرقص، 10: 17-22). فهو عند لوقا رئيس وعند متى شاب، وفي إنجيل الناصريين
Nazaréens
أن أحدهما هز رأسه بعدما سمع مطلب عيسى. ويبين إنجيل العبرانيين أن الرجل صاحب اليد الجافة كان بناء، يكسب قوته من عمل يديه، ويتمتم بصلاة متكيفة مع الموقف؛ وبالتالي تكون عملية النقد هي تخليص الرواية من هذه الزيادات من أجل الحصول على النواة الأولى. كل مقطع له نقطة مركزية مثل مسح بطانيا (مرقص، 14: 3-9). كما أن نداء التلاميذ (مرقص، 1: 16-20) مقطع تحول في لوقا (5: 1-11) إلى حكاية خيالية ابتداء من قول عيسى «سأجعلكم صيادي بشر.» ويعترف كل من ديبليوس وبولتمان أن المقاطع لم يتم حفظها في حالتها الأصلية بل زادت عليها التحديدات الزمانية والمكانية فيما بعد. وقد لاحظ جونكل القانون نفسه وطبقه على روايات العهد القديم. وقد لا تخضع جميع المقاطع للقانون ذاته؛ إذ قد ينطبق الإيجاز على أحدها بينما ينطبق الإطناب على آخر. (د)
الموقف الحياتي
Sitz im Leben :
هذه الوحدات الصغيرة نشأت في بدايتها كمواعظ تبشيرية لخدمة إيمان الجماعة الأولى ونشر عقائدها. فهي في الأصل مواعظ وليست تاريخا، هدفها التبشير، وليس رصد الوقائع؛ ومن ثم فهي وحدات تعيش في شعور الجماعة، ولا يمكن فهمها إلا في وضعها الحياتي في إطار البواعث والوظائف والأهداف والمصالح التي تحرك الجماعة. فالجماعة تحركها عواطف وانفعالات، ولها تصوراتها للعالم، وعقائدها وولاءاتها المتباينة والتي يمكن على أساسها معرفة كيفية تكوين الأناجيل والربط بين الوحدات الصغيرة والبواعث على خلق الروايات ومصالح الجماعة وتفسير الاختلافات بينها. فقد كان هدف متى إثبات عيسى كمخلص
Messia
وإثبات شرعية الكنيسة. وكان هدف مرقص تصوير عيسى على أنه أحد الفقراء
Ebionit
حتى يحظى بإيمان اليهودية. وقد تدخلت هذه البواعث في طريقة صياغة الأناجيل والربط بين الوحدات الصغيرة في مجموعات أكبر. بل لقد استقل هذا الموضوع في نقد مستقل سمي «نقد التدوين»
Redaction criticism
في كيفية تدوين الإنجيل وبواعث الكاتب وأهداف الجماعة. فالأناجيل ليست تواريخ حياة لعيسى بل تحتوي على عقائد وآراء متأخرة ظهرت في الجماعة المسيحية المتأخرة، وتم تدوين الأناجيل طبقا لها بحركة ارتدادية
Retrograde
عن طريق قراءة الحاضر في الماضي وترائيه فيه كما يقول برجسون. لقد لبى التراث حاجات الكنيسة وحقق أغراضها. وهذه إحدى مسلمات ديبليوس الرئيسية التي على أساسها يعيد بناء الأناجيل طبقا لحاجات الجماعة المسيحية الأولى. وبالرغم من أن بولتمان يبدأ بتحليل النص ويذهب منه إلى الكنيسة، إلا أنه يؤكد عدم الاستغناء عن الصورة المؤقتة للجماعة المسيحية الأولى وتاريخها حتى يمكن تفصيلها بعد تحليل النص النهائي. وهنا تبدو أهمية تاريخ الأديان المقارن واعتماد «تاريخ الأشكال الأدبية» على ما يقدمه من مقارنات بين الأديان. يرى ديبليوس أن الحركة المسيحية بدأت من دائرة آرامية فلسطينية حول عيسى. ثم أتت بعد ذلك مسيحية هلينية سابقة على بولس وقريبة من اليهودية؛ إذ كانت الكنائس المسيحية السابقة على بولس في مناطق تتحدث اليونانية دون أن تقطع صلاتها باليهودية. ثم أتت بعد ذلك كنيسة بولس أقل ارتباطا باليهودية. فالأناجيل المتقابلة عند ديبليوس لم تحصل على شكلها من الكنيسة الفلسطينية التي تتحدث الآرامية أو من كنيسة بولس المتأخرة بل من الكنائس الهلينية السابقة على بولس والمرتبطة ارتباطا وثيقا باليهودية. وقد أكدت هذه الكنائس أن إيمان اليهودية وآمالها قد اكتملت بقدوم المسيح؛ عيسى المسيح. فقد اهتمت هذه المسيحية بتراث عيسى من وجهة نظر أن الخلاص المنتظر طويلا قد أتى. لم يكن الهدف إذن تاريخيا بل مشيانيا
Messianic . وقد قام المبشرون والوعاظ والمعلمون بنقل هذا التراث. فالتبشير هو أساس التراث ومصدر التاريخ وعلى أساسه تم تكوين المواد وتوجيهها طبقا للأغراض التي تهدف إلى تحقيقها من أجل خدمة التبشير والوعظ طبقا لحاجات الكنيسة. ولهذا السبب كتب ديبليوس «الرسالة والتاريخ»
Botschaft und Geschichte . ولم يستغن بولتمان عن هذه الصورة المؤقتة لحياة الجماعة المسيحية الأولى قبل تحليل الوحدات الصغيرة في الأناجيل المتقابلة ولكنه اقتصر على تقسيم المسيحية الأولى إلى قسمين رئيسيين؛ المسيحية الفلسطينية والمسيحية الهلينية. ولهذا كتب بولتمان «المسيحية الأولى في إطار الديانات القديمة». (ه)
تصنيف الأشكال:
إن أية قراءة فاحصة للأناجيل تبين أن كتابها أخذوا وحدات من المواد كانت لها أشكال أدبية خاصة بها قبل أن تتشكل. ولا يعني ديبليوس بذلك المستوى الجمالي لفن روائي صاغه عبقري، بل يعني الأسلوب الأدبي، أسلوب الصورة التي خلقتها الجماعة المسيحية الأولى على منوال الأشكال الأدبية الموجودة في شعورها من تراثها الديني القديم أو من الآداب الشعبية الموروثة. فاستعمال الوحدة يحدد صورتها وليست نظرية نقدية مسبقة. وقد تطورت الأشكال ذاتها ابتداء من الحياة المسيحية الأولى وعبر حياتها في الكنيسة. لم تكن كاملة في البداية بل كانت ذكريات مليئة بالانفعالات حول التوبة ولنشر الدين والإكثار من المؤمنين. ثم أخذت أشكالا كي تصبح أكثر قدرة على جلب التوبة والإيمان الأكثر تأثيرا في النفوس. واعتمادا على هذه المسلمات كلها أصبح الهدف الرئيسي لتاريخ الأشكال الأدبية هو تتبع تاريخ هذه الأشكال وتصنيفها اعتمادا على مبادئ النقد الأدبي وبتحليل البيئة الشعبية والآداب القديمة، ولكن يظل الهدف الأساسي هو تحديد الأنواع الأدبية بصرف النظر عن مضامينها.
2
ويختلف زعماء مدرسة تاريخ الأشكال الأدبية حول تصنيف الأشكال وأسمائها، ولكن أشهر التصنيفات هي تلك التي أوردها زعيما المدرسة ديبليوس وبولتمان. كما يصعب التمييز بين مقاييس التصنيف والعوامل التي ساعدت على تحديد الأنواع الأدبية مثل طريقة عرض المادة (صورة ومضمونا)، والباعث على وجودها الحالي (البيئة الحياتية التي ولدت فيها)، وأوجه الشبه بينها وبين الآداب الأخرى. كما يصعب تحديد الأنواع الأدبية من حيث الشكل فحسب دون أخذ المضمون في الاعتبار؛ إذ يمكن تحديد النوع الأدبي كما هو الحال في الأمثال التي لها ما يشابهها في العهد القديم وفي أدب الأحبار. فأمثال الرب لها شكل محدد؛ عبارة جبرية، صيغة استفهامية، خطاب أمري، تعجب نبوي، ولكن المضمون وحده هو القادر على تحديد نوع الفقرة أو المقطع أو أغلب الروايات التي ليس لها شكل واضح مثل الحكايات الخيالية أو الأساطير. ويكون هذا التصنيف مثاليا لو أن النص الأدبي يطابقه تماما، ولكن الحال ليس كذلك. فالتصنيف يعطي الشكل الأدبي في حالته الخالصة، ولكن في أغلب الحالات تكون الأشكال متداخلة
Mishform .
رابعا: الأشكال الأدبية عند ديبليوس
يحدد ديبليوس الأشكال الأدبية في خمس، هي: (1)
النموذج
Das Paradigm :
وهي رواية حية جامعة تحتوي على مفارقات قصيرة وتهدف إلى إبراز جملة لعيسى أو عمل له في غياب التفصيلات التي لا فائدة منها وغياب أسماء الأعلام والمواقف المعينة في الزمان والمكان، وغياب رسم التشخيصات، وعدم وجود جوقة تسترعي انتباه المستمعين والمشاهدين. وكل ذلك بهدف التركيز على شخص عيسى، فقوله وفعله في صلب الإيمان الكنسي. ثم تنهي الجوقة الرواية برد فعل الجماعة على المشهد. ويتخلل النموذج حواران أو ثلاثة حول موضوع واحد. وكل منها يتكون من رواية مستقلة مركزة حول قول لعيسى الذي يحول السؤال الخاص في موضع خاص إلى إجابة مبدئية عامة. وأحيانا يجعل عيسى إجابة المحاور إجابته الخاصة كما هو الحال في قصة امرأة كنعان. وأحيانا يسبق القول إعلان تمهيدي لتأكيد المعنى وتقويته. ويختم عيسى الحوار بقول له أو تعليق لتعليم التلاميذ أو لتكملة المثال. ولا يشار إلى المحاورين إلا بطريقة غير شخصية مثل «البعض» أو باسم جمع مثل «الفريسيين» أو «الكتبة». وإذا كان المحاور متحدثا رسميا باسم جماعة يجيبه عيسى مخاطبا الجماعة كلها (باستثناء فقرة الغداء عند شمعون والحوار حول أعظم الوصايا). وإذا كانوا أصدقاء عيسى فتغيب التفصيلات مثل أقواله حول مارته ومريم. النموذج إذن شكل أدبي وعمل فني له منظر
setting ، وبه فعل
action ، وينتهي إلى حكمة أو قول مأثور. ويحدد ديبليوس للنموذج خمس خصائص: الاستقلال عن السياق الأدبي، الإيجاز والبساطة بسبب استعماله في الوعظ، الأسلوب واللون الديني دون الأدبي، الأسلوب التعلمي الذي يبرز أقوال عيسى، النهاية بفكرة مفيدة للوعظ أو حكمة لعيسى أو فعل منه أو رد فعل للمشاهدين. وهي مناظر قصيرة (من خمس إلى ثماني آيات) أطولها مناقشة عيسى مع الفريسيين وأقصرها رفضه إجراء المعجزات. وتحتوي على أقدم أسلوب للرواية المسيحية لذلك يسميها الأولى. ولما كان التبشير شهادة عيان تظل قيمتها التاريخية كبيرة. ويضع ديبليوس قانونا عاما لضبط صحتها التاريخية كالآتي: «كلما كانت الرواية قريبة من الوعظ كانت صحيحة تاريخيا.» ومن المستبعد تغييرها إلى روايات أدبية رومانسية خيالية خالصة. ويضرب المثل على ذلك بروايات الجزية (مرقص، 12: 13-17).
1 (2)
القصة (Tale, Novel) Die Nouvelle :
وهي رواية مختلطة تفصل عن قصد ردود فعل الدهماء تجاه عيسى الذي يعيد ابنة زائير إلى الحياة. فتعطي الرقم الصحيح بمناسبة تكاثر الخبز. كما أنها تصوغ حوارا بين عيسى ومساعديه، ولكن أقوال عيسى تفقد أهميتها أمام الرواية ذاتها ووصف المناظر وسرد الحوادث. وهي تدور حول معجزات عيسى في معظمها. ولم تنشأ في صورتها الحالية من الوعاظ بل من الرواة والمعلمين الذين رووا قصة حياة عيسى بمزيد من التصوير وإن لم يكن بفن. ومع ذلك يظهر الأسلوب الأدبي في الرواية أكثر مما يظهر في النموذج. تأتي أولا قصة المرض ثم «تكنيك» المعجزة، وأخيرا نجاح الفعل المعجز. فالقصة تنتمي إلى أسلوب أدبي أرقى من النموذج. وهي تشبه النموذج فقط في أنها روايات فردية كاملة في ذاتها، ولكنها تختلف معها بعد ذلك. فالقصة أطول من النموذج، وتحتوي على وصف تفصيلي موسع من وضع الراوي أو المعلم الذي يعشق فنه ويحب ممارسته. ولا يوجد بها مواعظ دينية لأنها في رأي ديبليوس لم تكن في التبشير، ولم يكن لها وضع مركزي في الكنيسة، وكانت أقرب إلى الروايات الدنيوية ذات الطابع البراجماتي. لم تكن غايتها تعليمية مثل النموذج؛ ولذلك تتناقض فيها أقوال عيسى ذات القيمة العامة أو لا تنتهي إلى أي نتيجة. وقد نشأت القصة كشكل أدبي عند ديبليوس من ثلاثة طرق؛ الطريق الأول: تطويل النماذج خارج سياق الوعظ؛ فقد اعتاد الرواة والمعلمون القصص طبقا لروايات المعجزات أو بأسلوب المفارقات الشائعة. فقدموا مضمون المعجزة وجعلوه أكثر غنى من النموذج، واستعملوا كل عناصر الرواية لجعل القصة أكثر حياة وغنى. والثاني: تقديم بواعث خارجية ربما غريبة على النماذج الأولى إذ يشعر ديبليوس مثلا أن قصة سير عيسى على الماء (مرقص، 6: 45-52، متى، 14: 22-23) ربما نشأت من دخول باعث التجلي الإلهي على الأرض في رواية بدائية عن عيسى وهو يساعد الناس في موقف صعب مثل هبوب عاصفة وشدة الرياح وهياج الأمواج. أما الطريق الثالث: فاستعارة مواد خارجية من الآداب الشعبية أو الدينية القديمة، وفي هذه الحالة كانت تؤخذ القصة كلها. وفي الأدب الهليني هناك قصص مشابهة تم استبدالها بالأساطير وتختفي فيها الحدود بين الله والمبعوث الإلهي. وأول قصة في مرقص شفاء الأبرص (مرقص، 1: 40-45).
2 (3)
الحكاية الخيالية
Die Legende :
وهي رواية دينية حول قديس اهتم الناس بأعماله وبمصيره. ظهرت في الكنيسة تلبية لرغبة مزدوجة؛ الرغبة في معرفة شيء عن الفضائل الإنسانية وعن كثير من القديسين رجالا ونساء في قصة عيسى؛ والرغبة التي تطورت بعد ذلك لمعرفة عيسى ذاته على هذا النحو كما هو واضح في قصة المسيح عندما كان عمره اثني عشر عاما (لوقا، 2: 41-49) التي تكشف بوضوح عن سمات الحكاية الخيالية. وهي تربط بين النموذج والقصة كنقيضين. فبينما النموذج صياغة مسيحية من أجل التربية الدينية، والقصة تعبير عن العالم المحيط بأسلوب دنيوي، فإن الحكاية الخيالية مقولة من الأدب الشعبي ومن العالم المحيط أيضا ولكنها ليست دنيوية تماما بل تهدف إلى التربية الدينية، أي أنها قصة دينية تروى في موالد القديسين والأولياء، يظهر فيها الاهتمام بالأسباب مثل الاهتمام بالحياة الشخصية وهو ما يفرقها عن الحكايات الخيالية في الأدب الشعبي. ويتضح ذلك في رواية الآلام فهي حكاية خيالية للعبادة بالمعنى السببي من أجل تمثيل الحوادث المؤلمة لإدانة عيسى وموته، يجد فيها المستمع أو القارئ التعبير عن الإرادة الإلهية التي هي السبب في تعظيم المسيحيين لهذه الآلام. تطورت القصة وأصبحت قصة خيالية شخصية تروي أعمال إنسان وتجاربه التي بسببها يعظمه الله ويخصه بقدر خاص. يقوم بالمعجزات، ويصالح الأعداء، ويستأنس الحيوانات، وتقوده الأزمات والمخاطر في النهاية إلى الخلاص. وفي شهادته تظهر آيات الفضل الإلهي. فإذا كان النموذج يتميز بنقص في التصوير، والقصة بمزيد من التفصيلات حول الأفعال دون تصوير الشخصيات، فإن الحكاية الخيالية تتناول المصير البشري، والإنسان آية من آيات الله. وإذا كان النموذج والقصة يتعاملان مع الله بعد أن أصبح إنسانا فإن الحكاية الخيالية تتعامل مع الإنسان الذي في طريقه لأن يصبح إلها. ومن الطبيعي أن الحكاية الخيالية لم تقع تاريخا. ويعترف ديبليوس أن اهتمامات الراوي الدينية قد تؤدي إلى التركيز على المعجزة على نحو لا تاريخي وإلى تعظيم البطل وإلى تحولات أشكال حياته
transfiguration
ومظاهر تجليها. ومع ذلك من الخطأ إنكار المضمون التاريخي لكل حكاية خيالية على الرغم من عدم اهتمام الراوي بالتأكيد التاريخي وعدم معارضته لأية زيادة في المادة عن طريق الأمثلة المتشابهة في الأدب اليهودي وفي آداب الشرق القديم، مثل قصة بوذا. وفي كل هذا النوع من الأدب تنطبق قوانين «البيوجرافيا».
3 (4)
القول (saying, exhortations) Die paranese :
بالرغم من تأكيد ديبليوس على مادة الرواية في الأناجيل المتقابلة فإنه يتناول أيضا أقوال عيسى نظرا لحاجة التبشير له في التعليم الديني. وكما أخذ اليهود الحياة العصرية في زمان عيسى قواعد لهم للحياة والعبادة على نحو أكثر جدية من أخذهم التراث التاريخي واللاهوتي، كذلك تناول المسيحيون أقوال عيسى بجدية أكثر مما تناولوا الروايات. كانت الأقوال مهمة لتناولها الحياة المسيحية وطرق العبادة. نقل المعلمون الأوائل البشارة الأولى مملوءة بأقوال عيسى، فقد كانت معتبرة إلهاما من الروح القدس أو من الرب، وكانت البشارة كلها في الرب إن لم تكن من الرب. ثم اعترتها بعض التغيرات عندما ركز التراث على طابع الوعظ والإرشاد والتعليم للأقوال. فتغيرت معاني الكلمات التي لم يكن لها هذا الطابع من قبل. كما ظهر ميل جديد لإدخال أقوال حول طبيعة المسيح من أجل الحصول من الأقوال ليس فقط على قواعد الحياة الشخصية لحياة الإنسان، بل لاستنباط بعض الإشارات حول طبيعة الشخص الذي تفوه بها. وسارت الكنيسة في هذا التيار إلى أبعد حد. هذه الأقوال هي التي فضلها مرقص في إنجيله دون الروايات. وهنا تأتي الأمثال
parables
لتصوير معاني الأقوال.
4 (5)
الأسطورة
Der Mythus :
هي رواية تقص أفعالا من طرف واحد، وهو الله، على عكس النموذج الذي يحتوي على أقوال المعلم دون أقوال الله أو أفعاله. وتصوغ حياة الشخص في صورة إلهية فيأتي التألم بأمر إلهي ويبعث من جديد بأمر إلهي إلى عظمة إلهية جديدة. والأساطير في الأناجيل المتقابلة قليلة يحددها ديبليوس في ثلاث؛ معجزة العماد (مرقص، 1: 1-11)، وامتحان عيسى (مرقص، 1: 12-13)، والتجلي الإلهي (مرقص، 9: 2-8). وتختلف الأناجيل فيما بينها فيما يتعلق بهذا الجانب الأسطوري. فإنجيل مرقص أسطوري من حيث الشكل وليس من حيث المضمون. ولم يظهر نص بعث المسيح في الأناجيل حتى ظهور إنجيل بطرس. بل إن هناك نقصا في التمثيل الأسطوري فيما يتعلق بقدوم المسيح على الأرض، إذ إن له أما وأسرة وميلادا وأقارب وأصدقاء. ولا يعني ذلك أن عيسى أسطورة، فالنماذج لا تتحدث عن بطل أسطوري. ويؤكد ديبليوس أن قصة عيسى ليست أسطورية في نشأتها لأن النماذج الأولى وهي أقدم الشواهد على عملية تكوين التراث، لا تعطينا أي بطل أسطوري. بل نشأت الأساطير حول المسيح متأخرة عن تكوين الأناجيل وتحت أثر رسائل بولس؛ فبولس هو مؤسس أسطورة المسيح. ولها ما يشابهها في العهد القديم مثل صعود إلياس إلى السماء، وفي التراث الهليني في فداء الله أو نصف الإله. وقد تحول كثير من هذه الأساطير إلى أساطير مسيحية مثل ابن الإله والبعث.
5
خامسا: الأشكال الأدبية عند بولتمان
قدم بولتمان تحليلا مفصلا لكل مواد الأناجيل المتقابلة داخل إطار التمييز بين أقوال عيسى والرواية. وقسم الأقوال إلى مجموعتين رئيسيتين؛ المقاطع وأقوال الرب. ثم تناول على نحو مستقل أقوال الأنا والأمثال بالرغم من انتمائهما إلى أقوال الرب من حيث المضمون ثم قسم مادة الرواية إلى مجموعتين رئيسيتين؛ قصص المعجزات، والروايات التاريخية مع القصص الخيالية. (1)
المقاطع
Apothegma :
وهي تشبه النماذج عند ديبليوس وتتضمن أقوالا قصيرة لعيسى في سياق مختصر. ولما كان بولتمان لا يوافق على أن هذا الشكل نشأ من التبشير في كل حالة لذلك يفضل استعمال كلمة «مقطع» بدلا من «نموذج»، وهي كلمة من الأدب اليوناني تفيد القول القصير البليغ التعليمي، «قصة مشافهة»
والبرتز «مناقشة»
Controversy ، وفاشر
Fasher «حوارا». ويقسم بولتمان المقطع إلى ثلاثة أنواع، لكل منها سياقها وأسبابها المختلفة عن الأخرى. الأول: حوار الصراع
Streitgespräche
وينشأ من النقاش حول موضوعات مثل شقاء عيسى أو سلوكه وسلوك تلاميذه، كما هو الحال في شقاء الرجل ذي اليد اليابسة يوم السبت (مرقص، 3:1-6). وهو أسلوب أدبي نشأ في الكنيسة وهي في نقاشها مع معارضيها حول موضوعات الشريعة. والثاني: حوار المدرسة
Schulgeschpräche
وينشأ من الأسئلة التي يوجهها الخصوم مثل السؤال الخاص بأحد الكتبة (مرقص، 12: 28-34). وبالرغم من وجود أوجه تشابه بين الاثنين إلا أن حوار المدرسة لا يبدأ بالنقاش بل في معظم الأحيان بسؤال موجه إلى المعلم من أحد الباحثين عن المعرفة. والثالث: المقاطع البيوجرافية، وهي تقارير أو روايات تاريخية مثل قصة لوقا (9: 57-62). وقد سميت هكذا لأن المقطع يحتوي فيما يبدو على معلومات حول عيسى، تبدأ بالموعظة لأنها أفضل الأساليب والنموذج الأمثل في التربية الدينية، وتساعد على تقديم المعلم كمعاصر حي، وتطمئن الكنيسة على أملها فيه. والأنواع الثلاثة أبنية مثالية نشأت داخل الكنيسة وليست تقارير تاريخية. صحيح أن عيسى قد دخل في نقاش وفي صراع، وكان موضع تساؤل حول أسلوب الحياة وأعظم الوصايا وغيرها. وصحيح أيضا أن بعض المقاطع قد تحتوي على بعض البقايا التاريخية، وأن قول عيسى المباشر قد يرجع إليه شخصيا ولكنها كما هي الآن أبنية كنسية من الكنيسة الفلسطينية، كما يدل على ذلك مقارنتها بأدب الأحبار المشابه. ويتفق بولتمان مع ديبليوس في أن المقطع قد تطور وأصبح قصة تبعا للاهتمام بالتاريخ وبرواية التاريخ. فبمجرد ما يقابل المقطع أهمية في التاريخ أو رواية في التاريخ فإنه سرعان ما يتطور إلى عبارات أكثر دقة فيوصف السائلون، على وجه الدقة، بأنهم أعداء عيسى أو من تلاميذه بينما كانوا في البداية مجهولين.
1 (2)
أقوال الرب
Herrenworte :
ويقسمها بولتمان بدورها إلى ثلاث مجموعات رئيسية طبقا لمحتواها بالرغم من وجود بعض الفروق في أشكالها وهي: (أ)
الحكم (Proverb) Logein :
وفيها يظهر عيسى على أنه معلم الحكمة مثل معلمي الحكمة في إسرائيل وفي الشرق كله، ويميز بولتمان بين ثلاثة أشكال تكوينية للحكم مشروطة بالأقوال ذاتها موجودة كلها في أدب الحكمة، وليس فقط في أقوال الحكمة في الأناجيل المتقابلة، الأول: الشكل الإعلاني
Declarative
والتأكيدي
Assertive
يضع مبدأ ويعلن عنه ويتعلق بالأشياء المادية أو بالأشخاص مثل: «وإنما يتكلم الفم من الفضل ما في القلب» (متى، 12: 34)، «فلا تهتموا بشأن الغد فالغد يهتم بشأنه، يكفي كل يوم شره» (متى، 6: 34)، «لأن العامل مستحق أجرته» (لوقا، 10-7)، «لأن المدعوين كثيرون والمختارون قليلون» (متى 22: 14)، «فإنه حيث تكون الجنة فهناك تجتمع النسور» (متى، 24: 28)، والثاني: الشكل الأمري
lmperative
أو المقارن
Comparative
للحث على شيء والنداء عليه مثل «أيها الطبيب، اشف نفسك» (لوقا، 4: 23)، «دع الموتى يدفنون موتاهم» (متى، 8: 22)، والثالث: الشكل التساؤلي
Interrogative
الذي يضع الإجابة في صيغة سؤال مثل: «ومن منكم إذا صمم يقدر أن يزيد على قامته ذراعا واحدة» (متى، 6: 27)، «هل يستطيع بنو العرس أن يصوموا ما دام العروس معهم» (مرقص، 2: 19). وقد حدث تطور لهذه الحكم حتى بعد تدوينها؛ وبالتالي يكون السؤال: هل ترجع كلها إلى عيسى التاريخ؟ وتصعب الإجابة إذا عرفتا أن هذه الحكم لها ما يشابهها في أدب الحكم عند اليهود (قارن لوقا، 14: 7-12 مع كتاب الحكم، 25: 6-7). ويضع بولتمان ثلاثة احتمالات؛ الأول: أن عيسى نفسه قد صاغ بعضها في الأناجيل المتقابلة، والثاني: أنه قد استغل البعض الآخر المعروف في عصره، والثالث: أن الكنيسة الأولى قد وضعت على لسان عيسى كثيرا منها من مخزونها في الأدب الشعبي اليهودي. وينتهي بولتمان إلى القول بأن أقوال الحكم أقل الأقوال صحة في أقوال عيسى؛ وبالتالي فهي أقلها دلالة على عيسى التاريخ. ويتفق مع ديبليوس في رصد هذا التشابه بين الأنواع الأدبية في الأناجيل وفي الأدب اليوناني وفي أدب الأحبار وفي كتابات آباء الكنيسة الأوائل مثل
Charia
التي تعني قولا أو مثلا لشخص في موقف معين،
Gnome
التي تعني مثلا أو حكمة. وقد وجدت هذه الأنواع في أدب الأحبار «الحلقة»
Halakah
خاصة بسؤال التلميذ بالرغم من وجودها في سياق خاص، وعدم صلتها بالسياق الخلقي، أو إدخالها في سياق بعد ذلك لاهتمام خاص، ولها ما يشابهها في العهد القديم في حكم سليمان وحكم عيسى ابن شيراخ وفي حكم الشرق.
2 (ب)
الأقوال النبوية والأخروية:
وهي الأقوال التي يعلن فيها عيسى قدوم ملكوت الله ويحث على التوبة ويعد بالخلاص للتائبين وبالهلاك لغير التائبين مثل: «قد تم الزمان واقترب ملكوت الله، فتوبوا وآمنوا بالإنجيل» (مرقص، 1: 25)، «طوبى للعيون التي تنظر ما أنتم تنظرون فإني أقول لكم إن كثيرين من الأنبياء والملوك ودوا أن يروا ما أنتم راءون ولم يروا، وأن يسمعوا» (لوقا، 10: 23-24)، «طوبى لكم أيها المساكين فإن لكم ملكوت الله. طوبى لكم أيها الجياع الآن فإنكم ستشبعون. طوبى لكم أيها الباكون فإنكم ستضحكون» (لوقا، 6: 20-21). ويرى بولتمان في الرؤية الأخروية لمرقص (13: 5-27) شاهدا على أن مادة من الأدب اليهودي قد نسبتها الكنيسة إلى عيسى وبالتالي يكون السؤال: وماذا عن باقي المواد؟ توحي بعض الأقوال بأن الوعي الأخروي مختلف عن التراث اليهودي وبالتالي يكون عيسى مصدره (لوقا، 10: 23-24، متى، 11: 5-6، لوقا، 11: 31-32، لوقا، 12: 54-56)، ولكن بعض الأقوال الأخرى لا تحتوي على أي عنصر مميز لعيسى ومن ثم توحي بمصدر يهودي (متى 24: 37-41، 43-44، لا 45-51، متى، 24: 10-12، لوقا، 6: 24-36، لوقا، 6: 20-21). ولا يعني ذلك أن كل الأقوال التي لم تأت من اليهودية أنها من أقوال عيسى لأن الكنيسة قد صاغت بعضها؛ فبعض الأقوال النبوية كانت من وضع آباء الكنيسة الأولى ثم تمت نسبتها فيما بعد إلى عيسى التاريخ. ويبدو هذا المصدر الكنسي أكثر احتمالا كلما كانت هناك صلة بين قول عيسى وشخصه أو إشارة إلى مصير الكنيسة ومصلحتها بالرغم من وجود بعض الكلمات الصحيحة لعيسى التاريخ. ومع أن الجماعة الكنسية ذاتها قد صاغت كثيرا من الأقوال النبوية فإن المسيحيين الأوائل مدينون بعواطفهم الأخروية إلى ظهور عيسى التاريخ كنبي. وكثير من أقوال عيسى في نهاية الأمر تشبه أقوال أنبياء بني إسرائيل ضد المظاهر الخارجية للتقوى.
3 (ج)
الشرائع والأخلاق اليهودية والقواعد التنظيمية للجماعة الأولى:
ومثالا على ذلك: «لا شيء مما هو خارج من الإنسان إذا دخله يمكن أن ينجسه بل ما يخرج من الإنسان هو الذي ينجس الإنسان» (مرقص، 7: 15)، «أخير يحل أن يفعل في السبت أم شر، أن تخلص نفس أم تهلك؟» (مرقص، 3: 4)، «إذا خطئ إليك أخوك فاذهب وعاتبه بينك وبينه على انفراد. فإن سمع لك فقد ربحت أخاك، وإن لم يسمع لك فخذ معك واحدا أو اثنين لكي تقوم على ضم شاهدين أو ثلاثة كل كلمة، فإن أبى أن يسمع لهم فقل للبيعة، وإن لم يسمع من البيعة فليكن عندك كوثني عشار» (متى، 18: 15-17).
يرى بولتمان أن النص يمكن أن نضيفه بوضوح ضمن المواد التشريعية، ويؤكد أن الكنيسة كانت تملك مخزونا من الأقوال الأصلية لعيسى ومنها الأقوال الموجزة لصراعه ضد التقوى اليهودية (مرقص، 7: 15، 3: 4، متى ، 23: 16-19: 23-24: 25-26). ويرى أن هذه هي المرة الأولى التي يمكن فيها الحديث عن أقوال عيسى من حيث الشكل والمضمون في آن واحد. وقد جمع التراث هذه الأقوال الأصلية ثم أعطتها الكنيسة شكلا جديدا ورسمتها وطورتها. وجمعت أقوالا يهودية أخرى، وهذبتها وكيفتها بحيث تدخل ضمن كنوز التعاليم المسيحية. وأنتجت أقوالا جديدة من وعيها بامتلاك شيء جديد ثم وضعتها على لسان عيسى.
وينسب بولتمان إلى الكنيسة شواهد العهد القديم الموجودة دائما في أقوال الصراع والأقوال التي تحتوي على القواعد التنظيمية للجماعة والأقوال الخاصة برسالتها والأقوال التي عبرت فيها الكنيسة عن إيمانها بعيسى وعمله وشخصه ومصيره.
4 (د)
أقوال الأنا
Ich-Worte :
وهي الأقوال المنسوبة لعيسى والتي يتحدث فيها عن نفسه وعمله ومصيره بضمير المتكلم مثل : «لا تظنوا أني أتيت لأجل الناموس والأنبياء. إني لم آت لأحل لكن لأتمم» (متى، 5: 17)، «فإن ابن البشر لم يأت ليخدم بل ليخدم، وليبذل نفسه فداء عن كثيرين» (مرقص، 10: 45).
ويرى بولتمان أنه من المستحيل البرهنة على أن عيسى لم يتحدث عن نفسه بضمير المتكلم ومع ذلك تواجه هذه الأقوال شكوك خطيرة تجعل الإنسان عاجزا عن الوثوق بها، وذلك لأن الأقوال في مجموعها تعكس رؤية ارتدادية
retrospective
للكنيسة. فكثير منها يأتي من الكنيسة في فلسطين (يشير مثلا متى، 5: 17 إلى المناقشات القانونية التي حدثت في الكنيسة الأولى كما يشير متى، 15: 24 إلى المناقشات حول رسالة الوثنيين
Gentiles ). ومع ذلك فإن أقوال الأنا من وضع الكنائس اليونانية.
5 (ه)
الأمثال (Parables) Gleichnisse :
هي قصة مركزة تشبه القصة الشعبية بلغتها، الحسية واستعمالها للغة الجدلية وأحاديث النفس
Soliloquy
والتكرار، القصد منها إصدار أحكام على المستمع نفسه في موضوعات تخص الشئون الدنيوية والعلاقات الاجتماعية وأحيانا الحياة الروحية. تحدث عيسى بطبيعة الحال بأسلوب الأمثال ثم نقلتها الكنيسة واستعملتها لصالحها الخاص. فتغير الشكل، وأضيفت زيادات على الأمثال لتكون أكثر اتصالا ودلالة على الكنيسة المتأخرة. وتتضح هذه التغيرات في طريقة استعمال متى ومرقص لمصادرهما المكتوبة. ولكن التغير الحاسم قامت به الكنيسة؛ فقد وضعت الأمثال في سياقات خاصة وأضافت عليها مقدمات تؤثر على معنى القصص، بل وضعت أمثلة جديدة موازية للقصة القديمة، وصاغتها طبقا للخط العام لتدل على نفس التعاليم أو لتغيير التعاليم القديمة. وضخمت الكثير منها وزادت عليها حكايات رمزية
Allegories
وتفسيرات أضافتها من مصادر يهودية. ويتضح من تاريخ الأمثال أن المعاني الأصلية لكثير منها لا يمكن العثور عليها وأن البعض الآخر لا يرجع إلى عيسى بل إلى الكنيسة.
ويعطي بولتمان قاعدة للتعرف على الأمثال التي ترجع لعيسى وهي الآتية: عندما يكون لدينا من ناحية التقابل بين الأخلاق اليهودية والمزاج الأخروي الذي يميز تعاليم عيسى، ومن ناحية أخرى تعاليم ليس بها أي سمات مسيحية.
6 (3)
قصص المعجزات
Wundergeschichten :
وهي التي سماها ديبليوس من قبل القصة؛ أي قصص الشفاء ومعجزات الطبيعة والتي تكون فيها المعجزة الموضوع الرئيسي. وتحتوي على تفصيلات كثيرة ، وتوجد وسط المقاطع لخدمة غرضها الخاص. وهي تضم كما هو الحال عند ديبليوس ثلاثة أجزاء؛ الأول: وضع المريض وتقديمه والإشارة إلى طبيعة المرض وفشل المحاولات السابقة للشفاء. والثاني: قصة الشفاء وخصائص الشافي ووصف الشفاء مع ذكر بعض التفصيلات. والثالث: الشهادة على الشفاء بسلوك المريض، فالكسيح يأخذ جبيرته ويسير إلى المنزل، والمجذوب يلبس ملابسه ويعقل، ويصيح المشاهدون ويعبرون عن دهشتهم وإعجابهم ويرون الشياطين المطرودة وأعمالهم الهدامة، وتعليقهم «لم نشاهد مثل هذا من قبل».
ويقسم بولتمان المعجزات إلى نوعين؛ معجزات شفاء ومعجزات طبيعية؛ الأولى: لها صورة واحدة تتجاوز بيئة الأناجيل، وكما تثبت دراسات
Weinreich, Fiebig
فقد كان الأحبار يقومون بالشفاء وإن لم يجروا القدر الكافي منها، وإن لم يشتهر بها كبار الأحبار ذوي التعاليم المعروفة بل صغارهم. والثانية: ليس لها سوابق في الأدب الهليني أو اليهودي بالرغم من المحاولات لإقامة مثل هذا التشابه.
ويقارن بولتمان بين قصص المعجزات في الأناجيل المتقابلة بمثيلاتها في الأدبين اليهودي والهليني، ويكتشف تشابها في الأسلوب، وأن معظمها تمت إضافته فيما بعد من الكنيسة الفلسطينية مثل هبوب العاصفة (مرقص، 4: 35-41) وقصص الطعام (مرقص، 6: 34-44، 8: 1-9) وشفاء الأبرص (مرقص، 1: 40-45). وقد يرجع القليل منها إلى مصدر هليني دون التراث الأصلي المبكر للأناجيل.
7 (4)
القصص التاريخية والحكايات الخيالية
Geschichteerzählung und Legende : وهي روايات دينية تربوية وليست بالضرورة قصص معجزات بالرغم من احتمال قيامها على بعض الحوادث التاريخية. ويضع بولتمان القصص التاريخية والحكايات الخيالية معا لأنه يصعب التمييز بينهما، بعضها خيالي تماما مثل قصة امتحان عيسى (مرقص، 1: 12-13) وتشبه امتحانات القديسين مثل بوذا وزرادشت والقديسين المسيحيين المتأخرين الذين يمتحنهم الشر ويخرجون منتصرين عليه. فالبعض الآخر له أسس تاريخية ولكن تسيطر عليه أيضا الحكايات الخيالية مثل قصة تعميد يوحنا المعمدان لعيسى التي تروي واقعة تاريخية، ولكن في صورة حكاية خيالية، ليس بهدف التاريخ ولكن من أجل التربية الدينية: تنصيب عيسى المسيح المخلص. ويضع بولتمان القاعدة الآتية: عندما يكون السياق الإيمان أو عبادة الجماعة تكون النتيجة حكاية خيالية، وعندما يكون السياق حياة بطل ديني تكون النتيجة حكاية خيالية بيوجرافية. ويلاحظ بولتمان أن بواعث الحكايات الخيالية في الروايات تأتي من مصادر عديدة. والبعض منها يكشف عن آثار العهد القديم واليهودية، والبعض الآخر يكشف عن عناصر هلينية، والبعض الثالث نما داخل الكنيسة ذاتها. أما مادتها فقد أتت من بيئات فلسطينية أو يهودية هلينية أو هلينية خالصة. وبصرف النظر عن المصدر النهائي وقت استعمال الكنيسة لها فإن هذه المواد قد استعملت تلبية لحاجات الإيمان والحياة المسيحية.
8
سادسا: تاريخ الأشكال الأدبية وحياة
عيسى
أثرت مسلمات ديبليوس وبولتمان وتحليلاتهما للأناجيل المتقابلة على طريقة تناول حياة عيسى؛ وذلك لأن طبيعة المصادر الحقيقية الوحيدة لحياته، وهي الأناجيل المتقابلة، تجعل كتابة تاريخ حياته مستحيلة. لم تهتم الجماعة المسيحية الأولى التي كان لها أثرها البالغ على تكوين التراث بكتابة تاريخ حياة لعيسى من أجل التاريخ، ولم تضع إطارا زمانيا أو مكانيا ولم تصف بيئة جغرافية أو بشرية لحياته، بل نقلت أقوالا متفرقة وروايات متباينة باستثناء رواية الآلام. أما الوحدات المتفرقة فإنها لا ترجع إلى عيسى، بل كونتها الكنيسة لأغراضها الخاصة. فهل يمكن حذف الإضافات هنا وهناك والرجوع إلى الأشكال الأولى لزمان عيسى التي نشأت في الكنيسة والتي من خلالها يمكن معرفة عيسى التاريخ قدر الإمكان؟ وللإجابة على هذا السؤال كتب كل من ديبليوس وبولتمان كتابا عن عيسى. وابتداء من مسلمات متشابهة ينتهيان إلى نتائج مختلفة ، خاصة فيما يتعلق بطريقة استعمال التراث لكتابة حياة عيسى، ومقدار الصحة التاريخية التي يعزوها كل منهما للأشكال الأدبية.
ولكتابة تاريخ حياة لعيسى يقترح بولتمان أولا ثلاثة مقاييس لصحة النصوص تقوم كلها على معيار واحد هو التمييز
Distinctiveness ، الأول عند معارضتها للأخلاق والتقوى اليهودية، والثاني عندما تكشف عن المزاج الأخروي الذي يميز بشارة عيسى، والثالث عندما لا تكشف عن تعاليم مسيحية خاصة. ويزيد
O. Cullman
عليه مقياس الاتفاق أو الاختلاف مع اليهودية أو مع الكنيسة المتأخرة آخذا في الاعتبار نشاط الكنيسة في صياغة الوحدات أو خلقها. كما يقترح جرمياس
Jeremias
مقياسين آخرين معتمدا على المعيار اللغوي البيئي؛ الأول: عندما تكشف النصوص خصائص آرامية؛ صيغة شعرية، مترادفات، ألفاظا عكسية، ترجمة من الآرامية إلى اليونانية . والثاني: عندما تكشف عن بيئة فلسطينية. ويقترح بوركت
F. C. Burkitt
مقياس الاتفاق بين الوحدات المختلفة في إنجيل مرقص ومتى باعتبارهما أقدم الأناجيل. ويقترح كارلستون
C. E. Carlston
مقياس الاتساق
Consistency
أي الاتفاق مع تعاليم عيسى أو الاختلاف معها. بل ويمكن تطبيق هذه المقاييس كلها في كل مرحلة من مراحل تدوين التراث. يطبقها شميت
K. L. Schmidt
على مرحلة التدوين ابتداء من نقد المصادر والتعرف على منهج التدوين التاريخي. كما يمكن تطبيقها على المصادر الأولى وحدها كنقد للمصادر فحسب دون الانتقال إلى كيفية التدوين. ويمكن تطبيقها على مرحلة التراث الشفاهي الهليني والفلسطيني كما فعل دود
C. H. Dodd
ويمكن تطبيقها أخيرا على تراث عيسى وحده خاصة مقياس التمييز. أما مقياس الاتساق فإنه يمكن تطبيقه في كل مرحلة من مراحل التدوين.
1
وبعد وضع هذه المقاييس نشر ديبليوس كتابه عن عيسى في 1939م على أساس عمله السابق عن تاريخ الأشكال الأدبية ورأى أنه من الضروري التمييز بين الصدق التاريخي للوحدات المتعددة للتراث على أساس أشكال هذه الوحدات، باستثناء قصة الآلام فهي الوحيدة التي يعزو لها الصدق التاريخي. فالنماذج أكثر الأشكال اقترابا من التاريخ لأنها مثل قصة الآلام نشأت مبكرا بفضل شهود عيان بإمكانهم التصحيح والمراقبة للتراث، ويؤكد صدقها التاريخي مكانتها في الكنيسة فقد نشأت مع التبشير. وطبقا للقاعدة، بقدر قرب الرواية من الوعظ تكون أقرب إلى الصدق وأقل مدعاة للشك، وأقل احتمالا للتغيير أو المؤثرات الرومانسية أو الخيالية
legendary
أو الأدبية. ومع ذلك فهي صحة تاريخية نسبية لأنها تخدم غرض التبشير؛ ولهذا فإنه لا يمكن قص الروايات بطريقة محايدة بل لا بد من تلبية مطالب المستمعين، وتدعيم الرسالة والبرهنة عليها؛ ومن ثم فقد تم تقديمها بناء على باعث موجه وتحقيقا لغرض خاص.
أما القصص والحكايات الخيالية فإنها أقل قيمة من الناحية التاريخية من النماذج بسبب طبيعتها الخاصة. تختلف فيما بينها من حيث درجة الصدق. ولما كانت نشأتها بطرق ثلاث؛ بتطوير النماذج أو بإدخال بواعث خارجية أو بإدخال مواد خارجية، فإن الحكم التاريخي على قصة يعتمد على مصدرها. يمكن افتراض الصحة عندما تتطور القصة عن نموذج، ويمكن الشك في الصحة عندما يكون للقصة مصدر غير مسيحي. ولا يجب استبعاد الحكايات الخيالية كحوامل للتاريخ لأنها في نواتها تحتوي على بعض المضامين التاريخية. يثق ديبليوس بوجه عام بالصدق التاريخي للأقوال. فقد تم نقلها بأمانة بفضل ذاكرة أتباعه وتعظيمها لأقوال المعلم. ويمكن الشك في صحتها عندما تتدخل ظروف الكنيسة القائمة ومشاكلها واستعمالها ونقلها لهذه الأقوال لحسابها الخاص. ولما كانت الأقوال تتعلق بتجربة عيسى وحياته ومصيره فإنه يجب الحذر من الأقوال تاريخيا لأن الجماعة لا يمكنها أن تعبر عن نفسها تجاه قدره ومصيره دون أن تعبر عما تعتقده الآن وتعرفه بعد الواقعة بفضل الإيمان بالقيامة. ومع أنه يمكن الاعتماد على الأقوال باعتبارها صحيحة تاريخيا إلا أن على المؤرخ أن ينظر إلى التراث ككل وليس إلى قول واحد يتفق أو يختلف مع مجمل التراث. وينتهي ديبليوس إلى أنه يمكن استعمال الروايات والأقوال بعد نقدها لكتابة تاريخ حياة عيسى. ويقوم بذلك بالفعل بعد مناقشته للخلفية التاريخية والدينية والبيئية التي نشأ فيها عيسى ويفحص السمات العامة للحركة بين الجماهير التي قادها رجل مقدس ونبي من الجليل. ثم يتناول تعاليم عيسى فيما يتعلق بشخصه وعلاقته بالله، وبمبادئه الأساسية الخاصة بالحياة وملكوت السموات، والقوى المضادة لعيسى والتي أدت إلى موته، وشهادة الكنيسة على بعثه. يستعمل ديبليوس تاريخ الأشكال الأدبية لكتابة تاريخ حياة عيسى وهو على ثقة كاملة بوجود عيسى في التاريخ.
2
أما بولتمان فقد نشر كتابه عن «عيسى» في 1926م وأضافت الترجمة الإنكليزية له في العنوان «الكلمة» في «عيسى والكلمة» تأكيدا على استعمال منهج تاريخ الأشكال الأدبية في كتابة تاريخ حياة عيسى دون العقيدة وابتداء من تصنيف الأقوال. ويبدأ بولتمان بالشك في إمكانية وجود أي بحث تاريخي حول عيسى ووضع اعتراضات رئيسية وإثارة شكوك أساسية حول شرعية مثل هذا البحث؛ وبالتالي فلا يمكننا معرفة شخصية عيسى، حياته أو مماته، فلا توجد كلمة واحدة يمكن البرهنة على صحتها. إن كل ما يمكن معرفته عن شخص عيسى هو أننا لا نعلم عنه شيئا! ومع ذلك يحاول بولتمان كتابة تاريخ حياة لعيسى ابتداء من تحليله لمدى الصحة التاريخية للأشكال الأدبية. فنظرا لطبيعة الرواية يشك بولتمان في صحتها التاريخية. وبطبيعة الحال فإنه لا يشك في أن عيسى قد عاش، وقام بعديد من الأعمال التي ينسبها إليه التراث، ولكنه يشك في أن تكون الرواية التي ترصد حياته صحيحة تاريخيا؛ لذلك لا يمكن إعطاء تاريخ حياة لعيسى أو رسم صورة لشخصه. ولا يمكن معرفة شيء عن شخص عيسى وحياته نظرا لأن الكنيسة الأولى لم تكن تهتم بهما. وما تبقى لدينا مجرد شذرات أو حكايات خيالية. لا توجد مصادر أخرى لحياة عيسى؛ ومع ذلك لا يشك أحد في وجود عيسى كمؤسس لحركة ظهرت أولا في جماعة فلسطين بالرغم مما يثار من شك حول موضوعية الصورة وصدقها التي رسمتها الجماعة له في تراثها. ولا يشك بولتمان في الأقوال قدر شكه في الروايات. وبمقدار القليل الذي لدينا عن حياته وشخصه فإننا نعلم أكثر عن رسالته من خلال أقواله، وذلك يسمح لنا بعمل صورة له. ومع ذلك ترجع الأقوال والروايات إلى الجماعة المسيحية الأولى التي نقلت أقوال عيسى أو وضعتها على لسانه، ولكن كيف يمكن التمييز بين الاثنين؟ إن العلم بأن الأناجيل المتقابلة قد تم تأليفها باليونانية في الجماعات الهلينية بينما عاش عيسى مع الجماعة المسيحية الأولى في فلسطين وتكلم الآرامية قد يساعد على الإجابة على السؤال. فكل شيء في الأناجيل المتقابلة يبدو وكأنه نشأ في المسيحية الهلينية - سواء في اللغة أو في المضمون - يجب استبعاده كمصدر لتعاليم عيسى.
إن كل ما تم نقله في التراث لا يرجع إلى عيسى لأنه كانت هناك كنيسة فلسطينية تتحدث بالآرامية حتى بعد زمان عيسى. يجب إذن التمييز بين مستويات عدة من المنقول الفلسطيني. كل مادة تكشف عن مصلحة خاصة أو آراء كنيسية محددة أو ما يميز التطور المتأخر يجب استبعادها كمصدر ثانوي. وبهذه الطريقة يمكن تحديد المستوى الأول قدر الإمكان. حتى هذا المستوى قد لا يرجع إلى عيسى ذاته بل قد يكون نتيجة لعملية تاريخية معقدة تمت في شعور الجماعة المسيحية الأولى. إن كتاب بولتمان عن «عيسى» هو في حقيقة الأمر دراسة لرسالته. ويشير عيسى هنا إلى مجموعة من الأفكار في المستوى الأول للأناجيل المتقابلة. يقول التراث إن عيسى حامل لرسالة؛ ومن ثم احتمال وجوده كبير. وكل إنسان حر في أن يضع عيسى «بين قوسين» أو كاختصار لظاهرة تاريخية ارتبطت به.
3
سابعا: تطور المدرسة والردود على
الاعتراضات
تطورت مدرسة تاريخ الأشكال الأدبية بعد مؤسسيها الأوائل وتشعبت إلى جناحين رئيسيين؛ الأول: يريد المحافظة على مكتسبات المنهج الجديد مقتفيا آثار ديبليوس وبولتمان وما أكثر ممثليه في الجماعات ومراكز البحوث والمعاهد الدينية دون إبداع جديد ولكن بإعطاء مزيد من التطبيقات والبراهين على صحة المسلمات. والثاني: محافظ يريد الإبقاء على المنهج مع التقليل من أخطاره بالنسبة للعقيدة والتاريخ واستعماله لحسابه الخاص. إذ أصبح من المستحيل التنكر لقيمة المنهج وإن كان من الممكن تغيير بعض النتائج والتخفيف من حدتها أو استعمال ألفاظ ومسميات أخرى حفاظا على الإيمان في قلوب الناس والتخلي عن الصدق العلمي ومجافاة الشجاعة الأدبية. وقد اتجه الجناح المحافظ لإثبات عدة نتائج هي في الحقيقة مسلمات مضادة لمسلمات المدرسة بدعوى نتائج البحث والدراسة، وعلى رأسها إثبات الصحة التاريخية لمرقص وللأناجيل المتقابلة بل وتاريخية النصوص، وإمكانية العودة إلى عيسى كمصدر لهذه النصوص القديمة، والإقلال من تدخل الكنيسة في وضع التراث وخلق الأقوال وتفسير النصوص، وصياغة العقائد وربط المسيحية باليهودية أكثر منها بالتراث اليوناني تحقيقا للاستمرار ومنعا لآثار الوثنية، والاعتماد على بولس ويوحنا والربط بينهما وبين الأناجيل المتقابلة وعدم استبعاد العقائد نهائيا من نقد النصوص.
استمر بعض ممثلي هذا الجناح في استعمال «نقد المصادر» وحدها دون «نقد الأشكال» والعودة بالنقد إلى القرن الماضي والدراسات التقليدية فهي أقل خطرا على العقيدة مما كان يظن من قبل. واستمروا في تحليل نصوص الأناجيل الأربعة لإثبات صحتها التاريخية ضد نزعات النقد كما فعل شتريتر
B. H. Streeter ، وهيدلام
Headlam .
1
كما حاول البعض الآخر تحدي «نقد الصور»، فأنكر دود
C. D. Dodd
أن يكون الإطار العام للوحدات المستقلة بناء مصطنعا. وميز بين الوحدات المستقلة والمجموعات الكبرى والخطة العامة لرسالة عيسى. وجعل هذه الأخيرة من وضع عيسى نفسه وليست من وضع كاتب الإنجيل. كما حاول مانسون
T. W. Manson
إثبات الصحة التاريخية للأناجيل معتمدا على نقد المصادر ورافضا خلق الكنيسة للتراث. أما مؤسسا المدرسة الإسكندنافية ريزنفلد
H. Riesenfeld
وجرهاردسون
B. Gerhardsson
فقد أثبتا أن عيسى أعطى مادة ثابتة سواء في الأقوال أو في الروايات إلى تلاميذه لنقلها إلى الآخرين. فقد وجدت هذه الوحدات أولا في صورة شفاهية ثم دونت بعد ذلك، ولكن ترجع بداياتها كلها إلى عيسى ذاته، وقد حدث ذلك أيضا في نقل التراث اليهودي. وكان بولس ذاته حاملا لتراث الأناجيل بالإضافة إلى علمه بالتراث المسيحي.
2
وقد آثر فريق ثالث من الباحثين الإنكليز والأمريكيين الاستعمال الحذر لنقد الأشكال، وعدلوا من بعض تصنيفات ديبليوس وبولتمان. فالبعض منها في رأيهم لا يساعد على شيء، والبعض الآخر يخرق قاعدة التصنيف ذاتها. واعتبروا أن نقد الأشكال هو نقد تاريخي وأن الروايات والأقوال ترجع إلى عيسى نفسه. وهذه هي نتيجة دراسات إيستون
B. S. Easton ، أما تيلور
V. TayIor
فقد حاول إثبات الصحة التاريخية للأناجيل بأنها ترجع إلى شهود عيان، لم تخلق الكنيسة شيئا منها. كما أنه لا يمكن تحليل المواد كلها ابتداء من الأشكال. ولا يوجد تبرير كاف عند بولتمان لتصنيف أقوال عيسى إلى حكم وأقوال نبوية وأخروية، وقوانين تشريعية وقواعد تنظيمية للجماعة. أما ليتفوت
R. H. Lightfoot
فإنه ركز أبحاثه على الكشف عن أهداف كتاب الأناجيل وآرائهم وعقائدهم وأصبح مؤسس «النقد التدويني»، وتحول إلى موضوع مستقل عن «نقد الأشكال».
3
وقام فريق رابع باستعمال منهج لنقد الأشكال في دراسة الأمثال التي كان الناس يظنونها قبل النقدحكايات رمزية
allegories . ولكن ابتداء من يولشر
A. Jülcher
وضع الناس والحوادث والموضوعات داخل القصص ضمن الوقائع التاريخية. وأصبحت القصص والمقارنات وأوجه الشبه من عمل عيسى نفسه استقاها من الحياة اليومية لجعل رسالته أكثر حيوية ووضوحا وفسرها بأوسع المعاني وأشملها. وتابعه دود
C. H. Dodd
وأنكر أن تكون حكايات رمزية، وأنه يجب تفسيرها في ظروفها الخاصة دون إطلاق للمعنى، وداخل إطار رسالة عيسى وقدوم ملكوت السموات. أما جرمياس
J. Jeremias
فقد نسب لها صحة تاريخية وأرجعها إلى عيسى نفسه.
4
ولقد حاول هذا الجناح المحافظ إعادة النظر في أثر نقد الأشكال على إمكانية كتابة تاريخ عيسى واستحالة مثل هذا المشروع إذ لا يوجد إلا «عيسى الإيمان»، أما «عيسى التاريخ» فلا يمكن الوصول إليه، ولكن كيزيمان
E. Käsemann
لا يريد استبعاد «عيسى التاريخ» وإمكانية معرفته بالرغم من تسليمه بأن الأناجيل لم تكتب لإعطاء تاريخ حياة عيسى وبأنها تعبر عن عيسى الجماعة الأولى. كما حاول فوكس
E. Fuchs
إثبات اتصال بين عيسى التاريخ والتبشير. وبالرغم من استحالة تحويل التبشير إلى تاريخ إلا أن التبشير يفترض التاريخ، وبدون التاريخ لا يكون هناك تبشير. كما حاول روبنسون
I. Robinson
إثبات علاقة وجودية بين عيسى التاريخ والمؤرخ، وبالرغم من أنها علاقة تتم من خلال التبشير إلا أنها تثبت إمكانية فك الحصار الذاتي والخروج إلى موضوعية التاريخ. أما بيران
N. Perrin
فإنه ميز بين ثلاثة أنواع من المعارف؛ الأول: المعرفة التاريخية الموضوعية بعيسى التاريخ، ولادته وحياته ومماته، وهي مستحيلة، والثاني: المعرفة التاريخية التي لها دلالة بالنسبة لنا مثل المعرفة الأخلاقية وبشارة عيسى، وهي ممكنة، والثالث: المعرفة الإيمانية التي لها دلالة بالنسبة للإيمان المسيحي وحده مثل الخلاص والفداء والخطيئة وهي أيضا مستحيلة. ومن ثم يجد حلا وسطا بين موقف نقد الأشكال الأول وبين موقف الكنيسة الثاني.
5
وقد حاول جرمياس
J. Jeremias
إعادة النظر في مسلمات المدرسة واقترح معيارين للتمييز بين المواد الصحيحة والمواد غير الصحيحة تاريخيا؛ الأول: سمات اللغة الآرامية، وهو معيار لغوي لفظي. والثاني: سمات العالم الفلسطيني، وهو معيار جغرافي بيئي. وكلاهما يشابهان معيار التمايز عند بولتمان.
6
وقد حاول فريق آخر إعطاء نماذج من تطبيق نقد الأشكال على تاريخ حياة عيسى. فبين برونكام
G. Bronkamm
أنه بالرغم من أن الأناجيل المتقابلة لا تعطي صورة لعيسى التاريخ فإنها تشير إلى التاريخ وتحتوي على تاريخ. كما حاول فولر
R. H. Fuller
إثبات الصحة التاريخية لبعض الأقوال والروايات بالرغم من وجود «مناظر مثالية» في الأناجيل لأن تحول الواقع إلى مثال لا يخلق شيئا بل يكون أقرب إلى تعميم الذكريات عن عيسى. وحذر من التشكيك في دور الكنيسة، واكتفى بدور النقد، وانتهى إلى أن عيسى قد فهم نفسه كنبي مثل أنبياء بني إسرائيل، وتلك هي نواة التاريخ. أما بيران
N. Perrin
فإنه بالرغم من اعترافه باستحالة كتابة تاريخ حياة لعيسى إلا أنه يمكن التركيز على محاور أساسية في رسالته مثل ملكوت الله والأخرويات.
7
وقد وجهت اعتراضات كثيرة إلى المدرسة من أعدائها من الخارج، يرفضون مسلماتها ونتائجها على حد سواء، ويدافعون عن المواقف التقليدية للكنيسة، ويتنكرون لنتائج العلم والبداهات الأولية. منها أن تحديد الأنواع الأدبية شيء تقريبي، فالشكل الخالص نادر. وربما لا وجود له إلا في ذهن الباحث. وهل يمكن تصنيف الواقع بناء على تصنيف هندسي؟ وما الدافع الذي يجعل كاتبا يستعمل هذا الشكل دون الآخر؟ وهل يمكن الانتهاء من تشابه أشكال إلى تشابه في المضمون؟ كما رفضوا قصر دور كتاب الأناجيل على التجميع باعتبارهم كتبة، وطالبوا لهم بدور شهود العيان والملهمين بالروح القدس؛ وبالتالي يمكن الدخول في علاقة مباشرة مع عيسى ويمكن معرفة التاريخ؛ ومن ثم يجب إعادة النظر في دور الجماعة وخلقها. لأنه بعد استبعاد شهود العيان واستحالة معرفة شخص عيسى تصبح الجماعة هي الخالقة للمسيحية.
8
الحقيقة أن مثل هذه الانتقادات لا تزيد على مجرد صيحات أو طبل أجوف لا تمنع من تقدم العلم، ولا توهن من عزم الباحث على الإعلان عن النتائج واستخدام كل ما لديه من مناهج البحث عن الحقيقة.
قراءة النص1
أولا: مقدمة: من النقل إلى الإبداع
يستطيع الباحث من جيلنا وفي عصرنا بالنسبة لمصادره العلمية أن يعتمد على طرق ثلاث:
الأولى:
الاعتماد على التراث الغربي مستمدا منه مادته العلمية، وما أكثرها في الفلسفة المعاصرة في علم الهرمنطيقا. وقد قام الباحث بذلك مرات عديدة في كتب مستقلة أو في مقالات خاصة.
1
ويؤيد ذلك أن علم الهرمنطيقا في صياغاته الحالية علم غربي ارتبط بالفلسفة المعاصرة ثم استقل عنها وعن باقي العلوم الإنسانية والاجتماعية، وإن كانت مادته العلمية وبعض صياغاته الأولى موجودة في كل تراث ديني وفي كل حضارة غربية أم شرقية، ولكن عيب هذه الطريقة هو الابتسار الحضاري، أي جعل علوم التفسير مقصورة على التراث الغربي دون غيره باستثناء بداياتها الأولى ثم تعميمها على كل تراث مع تعميم ظروفها الخاصة وطمس معالم أية ظروف مغايرة في حضارات أخرى تنشأ علوم التفسير منها. مع العلم بأن واضعي أصول هذا العلم في التراث الغربي المعاصر يعترفون بأنه كذلك وليس علما عاما للبشرية جمعاء على ما يدعيه المستغربون أنصار التراث الغربي كممثل وحيد للثقافة العالمية.
2
وفي علوم التفسير هناك مدارس فرنسية وألمانية وبريطانية، وهناك مادة إسلامية ومسيحية ويهودية وبوذية.
3
وتكون نتيجة هذا الابتسار الحضاري هو إطالة مرحلة النقل وتأخير مرحلة الإبداع طالما أن معدل الإنتاج الثقافي في الغرب أعلى بكثير من معدل نقله إلى خارج الغرب، وتصبح حضارة واحدة هي المبدعة والرائدة والمركز والحضارات الأخرى الناقلة والتابعة والمحيط.
والطريقة الثانية:
الاعتماد على تراثنا القديم وما أفرزه من مادة علمية تكشف عن مناهج واتجاهات في التفسير. وقد قام الباحث بذلك أيضا في مؤلفات مستقلة أو في دراسات خاصة.
4
وصعوبة هذه الطريقة أن الباحث قد يكرر ما قاله القدماء دون قراءة جديدة، وإن قرأ فإنه قد يعتمد في قراءته على علوم التفسير المعاصرة في الغرب فيسيء التأويل للتراثين معا. كما تؤدي كثرة المصادر وتعدد الإحالات إلى إيثار تراث على آخر بالضرورة مع إغفال الظروف القديمة أو المعاصرة التي نشأ منها كل تراث مع أن ظروف عصرنا قد تغيرت. وهذا من شأنه أن يجعل النقل مجرد إضافة معلومات على واقع لم تنشأ منه وبالتالي لا تؤثر فيه. كما يجعل الدراسة الجديدة مجرد مراجعة للأدبيات القديمة أو الحديثة، عرضا أو نقدا لها وربما إضافة عليها دون التعامل مع الواقع ذاته الذي يظل في حاجة إلى تنظير مباشر ينبع منه ويقدر على التأثير فيه.
والطريقة الثالثة:
الاعتماد على منطق العقل الخالص وتحليل التجارب الإنسانية المشتركة لكل المشتغلين بموضوع النصوص أيا كان نوعها دون الإحالة إلى تراثنا القديم أو إلى التراث الغربي، وهما زاخران بالمادة العلمية بهدف تجاوز مرحلة النقل إلى مرحلة الإبداع؛ فالاعتماد على المصادر كنقطة بداية تفقد العمل الفكري وحدته الداخلية وبناءه العضوي ، وتجعل الباحث مجرد جامع لمادة أو شارح وملخص لها، وفي أحسن الأحوال يكون ناقدا لها. ويظل الموضوع ذاته خارج دائرة الاهتمام. تتجاوز هذه الطريقة المداخل الحضارية، حضارة الذات وحضارة الغير
5
وتتجه نحو الموضوع ذاته لاكتشاف بنيته كما فعل القدماء والمحدثون على حد سواء. وفي هذه الحالة لا توجد إحالة إلى مراجع لا في الهوامش ولا في نهاية المقال ولا ذكر لأسماء أعلام أو مذاهب أو حضارات أو نماذج سابقة في صلب الدراسة. ويكون المرجع الأول والأخير هو شعور الباحث وشعور القارئ والتجربة المشتركة بينهما. والقدرة على التعميم في النهاية هي إحدى سمات الإبداع، والقدرة على إخفاء المصادر وعدم الإحالة إلى الخارج والاعتماد على البنية الداخلية للموضوع هي إحدى مواصفات الإبداع، والوصول إلى قدر من الصورية الخالصة هي إحدى لحظات الإبداع. وباكتشاف القانون الطبيعي، وفي حالة قراءة النص القاعدة اللغوية النفسية الاجتماعية التاريخية، تتتابع وقائعه، وتنتظم حوادثه المتفرقة. لقد تأخر الإبداع في فكرنا المعاصر، وطالت مرحلة النقل لعدم ثقة بالنفس ولطول الألفة لموقف المتعلم ونسيان لموقف الأستاذ المترسب في الوعي التاريخي. والثقة بالذات شيء، والتواضع أو الغرور شيء آخر. لا يعني الوضوح السطحية، ولا تعني التعميمات العموميات. ومع ذلك، هي مغامرة محسوبة العواقب، مخاسرها أقل من مكاسبها في حين أن مخاسر النقل أكثر من مكاسبه.
والحقيقة أن هذه الطرق الثلاث قد لا تستبعد بعضها بعضا. ويمكن الجمع بينها من أجل الاستفادة بميزة كل طريقة والإقلال من عيوبها. وهي تعبر عن الجبهات الثلاث في موقفنا الحضاري الحالي، الموقف من التراث القديم، والموقف من التراث الغربي، والموقف من الواقع ذاته.
6
كما يمكن إلى حد ما الإشارة إلى بعض المصادر حتى لا يشعر القارئ أنه في فراغ وحتى يمكن ربط الإبداع بالنقل، والحاضر بالماضي، والبنية بالتطور على الأقل كمرحلة متوسطة بين النقل التام والإبداع الخالص. صعب إيجاد موقف متوازن ومتعادل بين هذه الطرق الثلاث ومع ذلك تظل الطريقة الثالثة هي المثلى وهي الطريق الأفضل في مرحلتنا الحالية. وتبقى الطريقتان الأوليان مجرد عاملين مساعدين توجيها للقارئ وتأكيدا لوحدة فكره بين نقل متعارف عليه وإبداع يخشى منه.
ثانيا: ماذا تعني قراءة النص؟
لا تعني القراءة المعنى الشائع لها الوارد في مناهج التعليم والكتب المدرسية، أي إصدار الأصوات طبقا لمخارج الحروف وكما هو الحال فيما بعد في الجامعات في علم الأصوات، ولكن القراءة هنا تعني الفهم. والنص هو موضوع الفهم. إذن قراءة النص تعادل نظرية المعرفة في الفلسفة التقليدية تحديدا للعلاقة بين الذات والموضوع؛ فالقراءة هي الذات والنص هو الموضوع. وإن أول سورة نزلت في القرآن هي
اقرأ
كفعل أمر. ولما كانت الإجابة «ما أنا بقارئ» أي القراءة بمعنى مخارج الحروف وإصدار الأصوات بالفم بعد التعرف على الحروف بالعين تم تصحيح هذا المعنى الصوتي بمعنى آخر في:
اقرأ باسم ربك الذي خلق (العلق: 1) أي افهم وأدرك وتصور. فالقراءة نطق، والنطق بداية الوعي باعتباره فهما.
وقراءة النص بمعنى فهمه تتضمن تفسيره وتأويله. الفهم المباشر بغير ما حاجة إلى تفسير أو تأويل. فإذا استعصى الفهم البديهي المباشر نشأت الحاجة إلى التفسير أي إلى فهم من الدرجة الثانية اعتمادا على منطق اللغة أو توجه النص (السياق) أو ضرورة الموقف أو روح العصر. فإذا ما اصطدم التفسير بمنطق اللغة، وقوي توجيه النص، وفرضت ضرورة الموقف نفسها، وعمت روح العصر ظهرت الحاجة إلى التأويل باعتباره إخراجا للفظ من معناه الحقيقي إلى معنى مجازي لشبهة أو قرينة. أما الشرح فإنه يتضمن كل ذلك: الفهم والتفسير والتأويل. الشرح هو العلاقة بين القراءة والنص، بين الذات والموضوع باعتبارها موقفا معرفيا شاملا.
والنصوص متعددة. فقد يكون النص أدبيا من الأعمال الأدبية أو قانونيا من مجموعات الدساتير والقوانين أو تاريخيا من الوثائق والسجلات والموسوعات أو دينيا من الكتب المقدسة. وبالرغم من هذا التعدد إلا أن هناك قضية مشتركة تجمع بين هذه الأنواع كلها وهي قضية قراءة النص أو تفسيره؛ فالتعدد في الدرجة لا في النوع. ومع ذلك فالنص الديني أكثر النصوص تشابكا نظرا لأنه يفرض مشاكل أكثر مثل الصحة التاريخية للنص التي لا يفرضها النص الأدبي باستثناء ملاحم الأدب الشعبي وكما هو معروف في قضايا الانتحال في الشعر اليوناني (هوميروس) وفي الشعر الجاهلي (المعلقات) أي الخلق الجماعي للنص. أما النص القانوني والنص التاريخي فلا يفرضان مسألة الصحة التاريخية إلا في أقل الحدود فيما يتعلق بالحفريات والآثار القديمة، كما أن النص الديني أكثر توجيها للواقع وتأثيرا في السلوك من النص الأدبي أو التاريخي نظرا لإيمان الناس به كموجه للسلوك وكمصدر للقيم، كمعيار للعلم وميزان للعمل؛ ومن ثم تتعدد التفسيرات بتعدد المصالح، وتتصارع مناهج التفسير بتصارع القوى الاجتماعية والسياسية بل وتقع الحروب وتحدث الانشقاقات، وتسيل الدماء، وتطير الرقاب بسبب تفسير النصوص الدينية أو تأويلها في صالح فريق ضد فريق؛ لذلك أتت هذه الدراسة أساسا ابتداء من النص الديني نظرا لأنه أكثر النصوص اتساعا وتشابكا. يمكن تعميم النتائج على باقي النصوص الأدبية والتاريخية والقانونية لأنها أقل تشابكا واتساعا وكأنها حالات خاصة داخل الإطار العام.
1
ومن هنا أتت التفرقة الشائعة المشهورة بين الهرمنطيقا العامة والهرمنطيقا الخاصة أو الهرمنطيقا المقدسة، الأولى تضع القواعد العامة لتفسير أي نص والثانية تضع القواعد الخاصة لتفسير النصوص الدينية والكتب المقدسة وحدها.
2
وقد تكون القراءة من فرد لفرد، ينتسب كلاهما إلى نفس الحضارة، قراءة الحاضر للماضي، تواصلا للتراث مثل قراءة ابن رشد للفارابي وابن سينا، وقراءة أرسطو لأفلاطون، وقراءة الكانطيين فشته وهيجل وشلنج وشوبنهور لكانط، وقراءة الهيجليين، شترنر وباور وشتراوس وماركس لهيجل، وقراءة هيدجر لكانط ونيتشه وهوسرل ... إلخ. وفي هذه الحالة تكون القراءة تصحيحا وتجديدا لروح العصر عن طريق التأويل. وقد تكون القراءة من فرد ينتسب إلى حضارة لفرد آخر ينتسب إلى حضارة مغايرة أيضا قراءة الحاضر للماضي وتواصلا بين الحضارات مثل قراءة ابن رشد لأرسطو وقراءة برجسون لأفلاطون ... إلخ. القراءة إذن عمل فردي وعمل جماعي. عمل فردي داخل كل حضارة وعمل جماعي بين الحضارات من أجل إكمال الموقف وإظهار البناء. فقراءة الفارابي لأفلاطون وأرسطو وقراءة ابن رشد لأرسطو هي قراءة الحضارة الإسلامية للحضارة اليونانية. وقراءة هيدجر للفلاسفة قبل سقراط هي قراءة روح العصر الحاضر للحضارات القديمة ، وقراءة ميرلو بونتي لجولدشتين هي قراءة الروح الفرنسية للروح الألمانية، وقراءة كانط لهيوم هي قراءة الروح الألمانية للثقافة الأنجلو سكسونية وقراءة جوزيا رويس لهيجل هي قراءة المزاج الأمريكي للروح الألمانية ... إلخ، وقراءة المسيح للتوراة هي قراءة أسينيه
Essenian
للعقلية الفريسية
. وهذا هو معنى قول المسيح «خمر جديد في أوعية قديمة».
وفي كلتا الحالتين، القراءة الفردية والقراءة الجماعية، ليست القراءة مجرد شرح أو تفسير أو تأويل للمقروء بل هي إعادة بناء له طبقا لتصور القارئ فردا أو جماعة. هي قراءة وتحليل ونقد وتصحيح وإعادة بناء من أجل إكمال البنية أو اكتشاف القانون. فقراءة برجسون لكانط نقد للعقل الخالص وللأمر الجازم، وقراءة كيركجارد لهيجل قلب له وكشف عن الجانب الآخر للعقل والاتساق أي الحياة والتناقض والموجودات والموت بعد أن طواه هيجل داخل المذهب. وقراءة الكانطيين لكانط هي كشف للمستور ورفع الحجاب عن الشيء في ذاته، الأنا عند فشته والتصور أو الفكرة عند هيجل، والروح عند شلنج، والإرادة عند شوبنهور. وقراءة الفارابي لأفلاطون وأرسطو هي جمع لرأيي الحكيمين من أجل التعبير عن التصور الإسلامي الشامل الذي يجمع الصورة والمادة، المثال والواقع، الجوهر والعرض، الروح والبدن، الآخرة والدنيا، الأخلاق والطبيعة، الله والعالم، القلب والعقل، الإشراق والحكمة، العقل والحس، الاستنباط والاستقراء، المنهج النازل والمنهج الصاعد ... إلخ. قراءة ابن رشد للتراث اليوناني كله هو اكتشاف لقانون تطوره، من الواقع عند الطبائعيين الأوائل إلى المثال عتد أفلاطون إلى الجمع بين الواقع والمثال عند أرسطو. وقراءة الإسلام لتطور الوحي هي جمع بين الشريعة اليهودية والعفو المسيحي؛ لذلك كان أرسطو والإسلام متشابهين لأن كلا منهما أكمل البنية في تراثه الخاص، أرسطو في التراث اليوناني والإسلام في تطور الوحي وتاريخ الأديان.
3
وقد تكون القراءة مزدوجة أي قراءة لقراءة مثل قراءة التوسر لقراءة ماركس للاقتصاد الكلاسيكي عند ريكاردو وآدم سميث من أجل اكتشاف منهج جديد من خلال المنهج القديم. فقد اكتشف التوسر البنيوية من خلال الماركسية كما اكتشف ماركس من قبل - الماركسية - من خلال الليبرالية والاقتصاد الحر. والقراءة المزدوجة ترى ما رأته القراءة الأولى وما لم تره، وتجد ما وجدته وما لم تجده؛
4
وبالتالي فإن القراءة ليست فنا بل علم، ليست نظرية في اللعب والحوار الفكري الخالص وأساليب الجدل بل هي عملية إكمال من خلال التراكم المعرفي من أجل اكتشاف البنية التي هي أصل النص سواء تم تشكيله مرة واحدة أو على فترات.
5
فالقراءة في الزمانين الوجودي والتاريخي من خلال شعور الفرد والجماعة وتراكم الخبرات فيهما معا. وبعد كل تراكم معرفي يأخذ النص أبعادا جديدة لم تكن مقروءة فيه من قبل ولا موجودة في النواة الأولى للنص.
6
وهذا هو معنى إنزال القرآن على سبعة أحرف أي مستويات تفسير النص طبقا لأعماق الشعور وطبقا لتراكم المعرفة من عصر إلى عصر.
ثالثا: ما هو النص؟
النص هو تدوين لروح عصر من خلال تجارب فردية وجماعية في مواقف معينة متعددة ومتباينة. والغاية من تدوين التاريخ توريث كل جيل خبراته للأجيال التالية، استمرارا لسلطانه أو على الأقل ترشيدا للمستقبل وتوجيها له. النص هو تحول إرادي من الشفاهي إلى الكتابي حرصا على تسجيل المواقف وسرعة تقنينها انتقالا من التعدد إلى الوحدة، ومن الاختلاف إلى الاتفاق. فالنص بهذا المعنى قضاء على التعددية في الحاضر وإيثار لوحدة المستقبل، تضييق على الحاضر وامتداد في المستقبل حتى تبقى الروح في التاريخ، وتتوارث الأجيال الفكر جيلا بعد جيل. النص إذن ليس وثيقة مدونة أقرب إلى المرويات أو السجلات القديمة بل هو كائن حي في حالة سكون يبعث بالقراءة فيحيا من جديد وبأشكال جديدة كما هو الحال في تناسخ الأرواح عندما تظهر نفس الروح، وهو المعنى، في أجساد جديدة، وهي مجموعة القراءات. النص هو الميت الحي أشبه بعبادة الأسلاف وأرواح الأجداد. حدث ذلك في كل حضارة بانتقالها من العصر الشفاهي إلى عصر التدوين. فقد ظهرت عدة أناجيل متباينة وتم حفظها كتابة كنوع من الذكرى الجماعية في القرن الثاني الميلادي حتى وقع بينها التضارب والاختلاف نظرا لتباين القراءات طبقا للبيئات الثقافية المتعددة حتى تم تقنينها في القرن الرابع إيثارا لوحدة القراءة على تعددها. وحدث ذلك بدرجة أقل في عصر تدوين القرآن بلهجة قريش حرصا على وحدة القراءة أي وحدة الفهم منعا للاختلاف والتعدد. وفي هذه الحالة يكون التفسير للشهادات الإنسانية المحفوظة عن طريق الكتابة.
1
ثم يدخل التفسير كجزء من النص، ويمحي الفرق بين البداية والنهاية، بين الوحدات الأولى والمقاطع الأخيرة، ويصبح القارئ مؤلفا كما كان المؤلف قارئا، ويتحول العمل الفردي إلى عمل جماعي كما هو الحال في المأثورات الشعبية. النص إذن إبداع مستمر وخلق جماعي لا فرق بين تأليفه وقراءته، بين وضعه وانتحاله، بين فهمه وشرحه؛ لذلك ظهرت «مدرسة الأشكال الأدبية» للبحث عن الوحدات الأولى التي تكون منها النص وذلك من خلال أشكالها الأدبية، وأصبح نقد الأشكال الأدبية أحدث فروع نقد النصوص.
2
والنص ليس مجرد تدوين للحفظ والتسجيل ولكنه يمثل سلطة توجيه وتقنين وتشريع؛ فالنص الأدبي يؤثر في أجيال الأدباء الشبان ويكون أحد مصادر الإلهام في التشريعات وفي تكوين القادة والأبطال. والنصوص التاريخية تعبر عن روح الأمة وتكشف عن مسارها في التاريخ. والنصوص القانونية هي أساس الدولة ودعامة مؤسساتها. والنصوص الدينية هي بالأصالة سلطة تصدر عن الوحي وطاعة الأنبياء، تعطي شرعية للسلطان ضد معارضيه كما تشرع للثورة ضد السلطان. يظهر النص كسلطة في النصوص الدينية أكثر من ظهورها في النصوص الأدبية أو التاريخية أو القانونية. وتقتضي النصوص الدينية والقانونية الطاعة أكثر مما تقتضيه النصوص التاريخية والنصوص الأدبية؛ لذلك تستعمل النصوص كشواهد في الخطاب في المجتمعات النصية التي لا يزال النص يمثل فيها سلطة؛ ومن ثم انقسمت الحجج قسمين؛ حجة سلطة وحجة عقل بتعبير المعاصرين أو حجة نقلية وحجة عقلية بتعبير القدماء.
3
لا يحتوي النص إذن على مجرد فكرة أو تصور نظري بل هو أمر أو نهي، خطاب يقتضي الطاعة بإتيان فعل أو بالإمساك عن فعل. يتضمن النص توجها عمليا أكثر مما يتضمن معرفة نظرية؛ فهو أقرب إلى الأخلاق منه إلى المعرفة؛ لذلك ارتبطت علوم التفسير بعلوم النفس والأخلاق وكأن مهمة النص هي الإصلاح والتغيير، التخلي عن العادات السيئة واكتساب العادات الحسنة. النص دعوة إلى الإصلاح في الأرض دون الإفساد فيها؛ لذلك كثرت قراءة النصوص في الخلايا والجمعيات السرية.
4
رابعا: ضرورة النص
وبالرغم من عيوب استخدام النص كحجة سلطة طبقا لأهواء جماعات الضغط وأغراض الفئات الاجتماعية، فإن النص له قوة سحرية في الاستشهاد به كقول مأثور أو حكمة شعبية أو مثل عامي أو بيت شعر، وكأن الخطاب العقلاني المعاصر لا يكفي للإقناع إلا بعد تطعيمه بسلطة النص. فإذا استطاعت الخاصة فهم الخطاب العقلاني فإن العامة في حاجة إلى المثل والحكمة الشعبية والنص الديني أو الأدبي أو القول المأثور أو سير الملاحم والأبطال للإيحاء بالمعنى وإقناع الجمهور العريض. وإذا كان البرهان وسيلة لخطاب الخاصة فإن الخطابة هي الطريق إلى قلوب العامة؛ لذلك كثرت في كتب الديانات الأمثال والحكم والأشعار والأناشيد والأقوال المأثورة والمزامير وسجع الكهان نظرا لقدرتها على التخييل والتعبير بالصور الفنية عن المعاني لأكبر عدد ممكن من الناس بصرف النظر عن مستويات ثقافاتهم.
1
وفي مرحلة الانتقال من مجتمع النص إلى مجتمع العقل يتم استخدام النص من قبل الخاصة والعامة على درجات متفاوتة بناء على ضرورة خارجية، أي ضرورة تأتي من خارج النص متمثلة في طبيعة المجتمع ومستواه الثقافي، ويكون للنص في هذه الحالة وظائف ثلاث: (1)
الاعتماد على حجة السلطة في مجتمع للنص فيه سلطة . فالنص هنا سلاح أيديولوجي وحجة جدلية ضد الخصوم، سلاح مزدوج يستعمله كل فريق لنصرة مذهبه ولنقد المذهب المخالف. النص هنا أشبه بالشرطة والجيش وأجهزة الأمن على مستوى الفكر والثقافة
2
وفي ميدان القيم الأخلاقية والعقائد الدينية. (2)
إيجاد التواصل بين الماضي والحاضر استمرارا لتاريخ الأمة وثقافتها، وحفاظا على الأمة من الوقوع في خطأي المحافظة والعلمانية، النص المغلق على نفسه وكأنه حقيقة في ذاتها، ورفض النص كلية بداية بالعقل والطبيعة. (3)
إكمال الخطاب العقلاني بالنسبة للقارئ لنقص في اتساقه ومنطقه الداخلي اعتمادا على سلطة خارجية لتقوية منطق البرهان بكسره ونقله من مستوى الاتساق إلى مستوى الأمر، وجمعا لمنطق العقل ومنطق العاطفة، للخطاب العقلاني والإحساس الوجداني، لمنطق البرهان وأساليب الخطابة. (4)
إيجاد جمهور أوسع ونشر للفكر على نطاق عريض نظرا لوجود جمهور مؤمن إيمانا مسبقا بالنص يستعمله كأساس نظري لفهم العالم وكموجه عملي للسلوك.
وبالإضافة إلى هذه الضرورة الخارجية في مجتمع النص هناك ضرورة أخرى داخلية في بنية النص ذاته وفي تكوين الشعور. فالنص ضروري لأن التدوين واقع بشري متمثل في كتب مقدسة وأعمال أدبية ووثائق تاريخية وموسوعات قانونية. قراءة النص إذن ضرورة يحتمها الإيمان الديني والحسي الجمالي والمعرفة التاريخية ومحاجات الخصوم. استخدام النص هنا ينبع من ضرورة داخلية في بنية الفكر والواقع وليس مجرد سلاح خارجي في مجتمعات نصية تراثية. وقد تكون سلطة الماضي أحيانا أكثر إقناعا من سلطة الحاضر. وقد يكون سلطان الآباء والأجداد أكثر مدعاة للطاعة من سلطان الأبناء والأحفاد.
ويأتي سحر النص من عدة وظائف تقوم بها اللغة من خلال النص المدون سواء للتعبير عن المعنى أو إيصاله، كما هو الحال في ألواح موسى والتوراة والقرآن كنماذج من نصوص محفوظة تصل قدسيتها إلى الأحبار والأوراق. ويمكن إجمال هذه الوظائف في ثلاث: (1)
البعد الجمالي للصورة الفنية:
فاللغة قبل أن تكون ألفاظا وعبارات هي صورة وتعبيرات، أشكال ورموز تتوجه إلى الخيال قبل أن تخاطب العقل، توحي بالمعاني من خلال طرق للتعبير تقوم على شتى أنواع المجاز والاستعارة والكناية والتشبيه وضرب الأمثال مما يعطي اللغة قدرة أكثر على التعبير وجمهورا أوسع في الإيصال وتخفيفا لحدة منطق البرهان وصورية الجدل. البعد الجمالي للغة يعطي للمعنى إمكانيات إيحائية أكثر مما يعطي البرهان الصوري؛ لذلك ارتبط المعنى بالدين منذ نشأته، وكان الفن أحد مظاهر التعبير عن الدين منذ بدايات التعبير البشري حتى أكثرها تطورا في آخر الكتب المقدسة المدونة. البعد الجمالي للغة حلقة متوسطة بين النص كموضوع وبين الذات كفهم، تكشف عن ميدان الخيال. الصورة الفنية في النص تخاطب الخيال في الذات وتوقع التخييل في النفس. يعيش الإنسان في الحياة شاعرا حتى ولو لم يقرض الشعر، ويتذوق الجمال حتى ولو لم يمارس أيا من الفنون الجميلة. بل إن الواقع ذاته خيال كما يبدو ذلك في الخيال العلمي والخيال السياسي والخيال العسكري.
3 (2)
المستوى الاشتباهي لمعاني الألفاظ:
وذلك أن النص قد يحتوي على معنيين ليس فقط للمجاز والإيحاء بالمعنى ولكن أيضا للسلوك والتوجه العملي داعيا الأفراد والجماعات للفعل وتاركا لهم حرية الاختيار في فهم عموم النص أو خصوصه، إطلاقه أو قيده، اعتمادا على المواقف المحددة لهذا المعنى أو ذاك. النص بهذا المعنى إمكانية ذات وجهين ثم تأتي القراءة فتحدد هذا الوجه أو ذاك. النص بلا قراءة إمكانية بلا تحقق. ذخيرة بلا إطلاق. ولا يمكن أخذ الإمكانيتين معا لأن النص لا يتركز إلا على جانب واحد حين قراءته. فمثلا لا يمكن أخذ الجانب الإلهي والجانب الإنساني معا في نص واحد يضم الإرادتين معا لأن الإنسان هو القارئ وليس الله. وأخذ الجانب الإلهي هو ادعاء للإنسان وخروج عن حقه الشرعي وانحراف عن وضعه الطبيعي. وهذا هو ما سماه القدماء المحكم والمتشابه؛ فالمحكم هو الذي يحتوي على معنى واحد والمتشابه هو الذي يوحي بمعنيين طبقا لاختيار الإنسان الذي يحدده وضعه في العالم. (3)
التوجه السلوكي نحو الأفراد والجماعات:
وذلك أن النص هو اقتضاء فعل إيجابا في صيغة الأمر «افعل» أو سلبا في صيغة النهي «لا تفعل»؛ ومن ثم تنشأ الحاجة إلى تحديد عموم اللفظ وخصوصه. النص صورة بلا مضمون، روح بلا جسد، والقراءة هي التي تعطيه مضمونا وجسدا، تجعله يضم هذا الفرد أو هذه المجموعة، هذه الأمة أو البشرية جمعاء. القراءة هي التي تحدد مضمون الخطاب وتشير إلى من يتوجه إليهم النص. كما أنها هي التي تحدد نمط السلوك قولا أو عملا، فكرا أو وجدانا؛ لذلك كان الخطاب الديني أمرا أو نهيا، إعلانا أو بشارة، دعوة إلى العمل أو الخلاص.
4
خامسا: هل هناك معنى موضوعي للنص؟
بالرغم من أن النص مكتوب بلغة معينة، مقروءة ومفهومة، حتى ولو كانت لغة قديمة إلا أن النص، على غير الاعتقاد الشائع، لا يحتوي على معنى موضوعي وكأنه شيء. النص عمل إنساني خالص منذ تدوينه الأول حتى قراءته الأخيرة. النص قول صامت، نطق ساكت، حروف مرئية، مدونة حرفية، ورق ومداد . والقراءة هي التي تحيله إلى معنى وتجعله قولا معلنا. ونطقا مسموعا، وتوجيهات عملية، ومعارك سياسية واجتماعية.
يخضع تدوين النص إذن لعدة عوامل كلها ذاتية مثل رؤية الوقائع، وقراءتها على نحو معين، وتوجيهها في اتجاه معين. النص عمل أيديولوجي صرف. وقد كان تدوين النصوص الدينية في العصر المسيحي الأول جزءا من الصراعات المذهبية حول أقوال المسيح وأفعاله. ثم ظهر التدوين لتقنين هذه الأقوال والأفعال ضد التعدد والتضارب، كل فرقة تدون عقائدها لتعطي نفسها شرعية تاريخية وصيغة قانونية ضد المذاهب الأخرى. وكان تدوين علم العقائد وتاريخ الفرق الإسلامية خاضعا أيضا لتوجيهات الفرقة الناجية وتدوينا لتاريخ فرق المعارضة من خلال فرقة السلطة. وتواريخ مصر القديمة كانت لفرعون مصر وأمجاده وليس للسابقين عليه. يبدأ التاريخ من كل فرعون وينتهي إليه! التدوين قراءة واختيار. وإن تدوين تاريخ الأنبياء في آخر مرحلة من تطور الوحي إنما هي قراءة الماضي من خلال الحاضر، ورؤية للتطور من خلال البناء؛ وبالتالي أصبح كل الأنبياء مسلمين منذ إبراهيم حتى آخر الأنبياء. وهذا يسمى «التفسير النمطي» للنصوص وكما حدث في استعمال الشواهد النقلية من العهد القديم في العهد الجديد واختيار نصوص قديمة تتفق في معانيها ووصفها للحوادث مع رؤية العصر وحوادثه، فكل نص يشير إلى نبي يدخل مدينة على راكبة وبيده غصن زيتون يكون هو المسيح داخلا القدس. فتدوين نصوص العهد القديم داخل الجديد ليست قراءة موضوعية لنصوص العهد القديم بل تفسير لها من منظور العهد الجديد.
1
وقد يستعمل الإطار التاريخي الموضوعي كبداية أو أرضية أو خلفية من أجل التعبير عن الرؤية الذاتية. وقد حدث ذلك في تسجيل حياة المسيح، أقواله وأفعاله، خاصة المعجز منها وإعطاء تحديدات زمانية ومكانية للولادة والصلب والبعث من أجل مزيد من الإقناع وإيحاء بصحة الوقائع؛ وبالتالي كان استعمال الحفريات في التفسير لا يدل على معنى النصوص. فليست الحقيقة في قراءة النص تطابق المعنى مع الواقع طبقا للتعريف التقليدي للحقيقة وما يتفق مع الموضوعية التاريخية والعلمية التي ذاعت في القرن التاسع عشر الأوروبي بل تطابق المعنى مع التجربة البشرية بصرف النظر عن الزمان والمكان الحسيين اللذين يستخدمان كإطار مسرحي للخلق الفني وتدوين النص والذي يعرف في تاريخ النصوص باسم «الانتحال».
2
ولذلك يصعب التمييز بين «مسيح التاريخ» و«مسيح الإيمان»؛ فالأول لا وجود له إلا من خلال الرؤية أي إيمان المؤمنين به. المسيح التاريخي افتراض ومسيح الإيمان واقعة. والأناجيل الأربعة لا تتحدث عن مسيح التاريخ ولكنها تعبر عن مسيح الإيمان.
3
وظهور العذراء يتوقف على مدى الإيمان به. فالإيمان هو الذي يخلق الواقعة كما أن العقيدة هي التي تخلق النص.
وقراءة النص ثانيا لا تختلف عن تدوينه أولا حيث إن كل قراءة إنما هي اختيار للمقروء وإعادة بناء له بصرف النظر عن المواقف الأولى التي منها نشأ وعليها قام. فالنص في تدوينه وفي قراءته سلاح أيديولوجي خاصة في مجتمعات سلطوية فكريا وسياسيا، كل جماعة ترى نفسها في النص، وتسقط أمنياتها عليه. ترى فيه دفاعا عن مصالحها وهجوما على خصومها. ومهما أوتي الإنسان من معلومات وافرة عن الظروف التاريخية الأولى التي منها نشأ النص فإنها تكون محدودة وناقصة ولا يمكن الاعتماد عليها في تفسير النص. وإذا حدث فإن التفسير يكون قائما على النزعة التاريخية التي تحيل النص إلى موضوع تاريخي صرف، نشأته ومكوناته ومصادره كما هو الحال في النقد الأدبي القائم على هذه النزعة وكذلك في نقد الكتب المقدسة لمعرفة مصادرها التاريخية. أما قراءة النص في ظروف جديدة قد تتشابه مع الظروف القديمة التي منها نشأ وقد تختلف معها فإنها إعادة تدوين وخلق غير معلن بإعادة توظيفه وقراءته. القراءة خلق جديد للنص واكتشاف لمكونات فيه ربما لم تكن مقصودة في نشأته الأولى. وهكذا يصبح النص حاملا لخبرات عدة أجيال من خلال التفسيرات والشروح. وقد يمحي الفرق بين الأصل والشرح، يصبح كلاهما أصلا واحدا. فلا فرق بين أصل صحيح وزيادة منتحلة. النص عمل جماعي وخبرة مشتركة وراء وحدة العمل الأدبي ووحدة النص الديني.
4
وقد حدث نفس الشيء في تاريخ الفلسفة في قراءة فيلسوف لاحق لفيلسوف سابق حيث تكتشف قراءة اللاحق معاني ومقاصد لم تكن في نص السابق. فالحاضر هو الذي يخلق الماضي ويعيد بناءه. والأمثلة على ذلك كثيرة من قراءة برجسون لأفلوطين، وقراءة هيدجر للفلاسفة السابقين على سقراط ولكانط ونيتشه، ومثل قراءة هيجل لتاريخ الفلسفة وقراءة ماركس لديموقريطس. وقد سمى ذلك برجسون «ترائي الحاضر في الماضي» أو «الحركة المتراجعة للحقيقة» وسماه هوسرل «المنهج ذو الآثار الرجعية».
5
سادسا: متغيرات النص
وعند قراءة النص، لا يذهب القارئ إلى تاريخ النصوص منذ تدوينها الأول ليفهم معانيها التاريخية وتطور معاني الألفاظ قاضيا الأيام والسنين في بطون المراجع وأمهات المصادر وقواميس اللغة والموسوعات بل يقرأ النص وفي غمضة عين يفهم معناه ويستعمله كحجة. النص بهذا المعنى ليست له ثوابت بل هو مجموعة من المتغيرات، يقرأ كل عصر فيه نفسه. فالعصر هو الذي يفسر النص في القراءة كما أن النص هو الذي يفسر العصر في التدوين. ولما كانت العصور متغيرة جاءت التفسيرات متغيرة طبقا لها. وقد تبعد المسافة للغاية بين النواة الأولى للنص وبين قراءته الأخيرة كما من حيث حجمه وكيفا من حيث معناه. ولا يستطيع التفسير الحرفي للنص الأول الحفاظ على معنى وحيد للنص لأن التفسير الحرفي موت للنص، وإيثار للفظ على المعنى، وللثبات على التغيير، وللسكون على الحركة. التفسير الحرفي للنصوص هو محاولة لتثبيت الزئبق بالأصبع فيفر المعنى منه خارج القصد. وقد يتغير معنى النص حسب الأحوال النفسية للقارئ الواحد وحسب الفروق بين الأفراد وتبعا للبيئات الثقافية والحضارات والعصور. وقد يأخذ النص الواحد معاني مختلفة طبقا لمراحل العمر للفرد الواحد وطبقا لتجاربه المكتسبة حتى ليبدو النص مساوقا وتابعا لتطور الفرد في مراحل عمره، وكأن أعماق الشعور تطابق موضوعيا مستويات النص، والحقيقة أن النص مجرد قالب يتشكل طبقا لمستويات الشعور؛ لذلك لا يوجد تفسير صحيح وتفسير خاطئ بل يوجد تفسير قصدي سواء في انتقاء النص أو في موضوع تطبيقه أو ما سماه القدماء «المناط». وليست مناهج التفسير إلا تبريرات للذات أمام النفس وأمام الجماعة وأمام التاريخ.
1
قراءة النص بهذا المعنى هو إيجاد تطابق بين الحاجة والنص ، بين الذات والموضوع. فالمعنى يأتي من النفس أولا كحاجة أو رغبة أو أمنية ثم تجد ما يقابلها في النص فتتطابق معه وتتشبث به على أنه التفسير الصحيح. في الظاهر يبدو أن المعنى الموضوعي قد انتقل من النص إلى الذهن، وفي الحقيقة ينتقل المعنى الذاتي من الشعور إلى النص. القراءة إذن هي إيجاد ما ترغب فيه النفس متحققا في الخارج فتقع في وهم الحقيقة بمعنى تطابق الرغبة مع النص، واتفاق الحاجة الشخصية مع السلطة الشرعية.
هذه المتغيرات هي السبب في وجود النصوص المتشابهة. فالمتشابهات هي النصوص التي تتضمن تفسيرات متعددة طبقا لمختلف العصور؛ إذ يختار كل عصر أحد التفسيرات فيرتكن النص عليها كما يرتكن المضلع على أحد جوانبه. ثم يأتي عصر آخر فيرتكن النص على جانب آخر. وهكذا يتقلب النص على جوانبه المختلفة طبقا لتغير العصر. فالمتغير هو الجانب والعصر، والثابت هو إمكانية تأويل النص طبقا لكل عصر، وكأن هذا التطابق بين النص والعصر هو الثابت الوحيد.
سابعا: ثوابت النص
ومع ذلك، وبالرغم من هذه الحقائق الموضوعية التي تكشف عن ذاتية النص تدوينا وقراءة فإنه توجد بعض الضمانات لقراءة «موضوعية» وشاملة للنص تتجاوز الذاتية بمعنى الفردية والنسبية وتضارب وجهات النظر والشك في المعاني وإنكار الماهيات المستقلة؛ وهو ما سماه القدماء «المحكمات» في مقابل «المتشابهات»؛ أي المعاني الثابتة للنصوص في مقابل المعاني المتغيرة. ولا تعني الموضوعية هنا إرجاع النص إلى ملابساته التاريخية التي منها نشأ بل إيجاد معنى له عام وشامل وثابت، مطرد في الطبيعة البشرية، يدركه كل إنسان ببداهته العقلية، يظهر في كل موقف، ويوجد في كل حضارة. الموضوعية هنا تطابق النص مع تجربة إنسانية عامة ومشتركة بين عدد من الأفراد والجماعات والعصور والحضارات. وهذا هو الذي يسمى في التراث الغربي المعاصر «الجانب الشمولي للهرمنطيقا» أو «القيمة الشاملة» أو «المعيارية في التفسير».
1
ويمكن تخصيص ذلك على النحو الآتي: (1)
بداهة العقل:
فالعقل البديهي قادر على رؤية معنى النص بوضوح وتميز؛ خاصة إذا كان الشعور في حالة البراءة الأصلية دون أية دوافع إلا باعث الحق لاكتشاف تطابق المعنى مع الحاجة. يطرد هذا الحدس العقلي المبدئي للنص عند عديد من الأفراد، ويظهر لدى كل الشعوب، ويوجد في كل الحضارات. وكما قيل: «إن العقل هو أعدل الأشياء قسمة بين الناس.» وقد قيل أيضا في تراثنا القديم: «أول ما خلق الله خلق العقل.» لا يعني العقل هنا العقل الصوري المجرد بل العقل المرتبط بالحس والوجدان؛ أي بداهة الشعور والإحساس الطبيعي. وهي بداهة فطرية ما قبل التعلم وما بعده، عند الأمي والمتعلم على حد سواء. وأحيانا تفوق العلم المكتسب وقد تكون بديلا عنه. (2)
اطراد التجربة البشرية:
لما كانت المواقف الإنسانية واحدة تتكرر باستمرار من عصر إلى عصر فإن هذا الاطراد يصبح كالثوابت بالنسبة إلى المتغيرات، وكالعموم بالنسبة إلى الخصوص. هناك قراءات متشابهة للنصوص في كل عصر وعلى مدى العصور ولكل النصوص بصرف النظر عن نوعياتها. في كل عصر ثورة على العبودية، ورفض للظلم، ودفاع عن الحرية، ودعوة إلى المساواة. وهذا ما سمته الكتب المقدسة «التوحيد» وما أطلق عليه الفلاسفة «القيم» أو «المثل». (3)
منطق اللغة:
لما كان النص منطوقا مدونا بلغة معينة، وكان لكل لغة فقهها ومنطقها فإن معرفة فقه اللغة التي كتب بها النص تكون أحد المداخل لقراءته وفهم معناه. وتكون قراءة النص عامة بقدر عموم فقه اللغة التي كتب بها بصرف النظر عن المدارس اللغوية حول تعليلات فقه اللغة كالإعراب مثلا. وفي قراءة النصوص القديمة يشترط الاعتماد على معاجم تاريخ اللغة وتطور معانيها لمعرفة معاني الألفاظ الأولى في عصورها القديمة.
وإذا كان لكل لفظ ثلاث معان؛ الاشتقاقي والاصطلاحي والعرفي فإن البداية في فهم النص هو للمعنى الاشتقاقي الذي يربط بين اللغة والواقع والفكر. فاللغة تحيل إلى الوجود، والوجود تجربة معاشة توحي بالمعنى؛ لذلك كان التفسير اللغوي بداية التفسير الاصطلاحي. وكلاهما محكوم بالتفسير العرفي أي باستعمال اللفظ. المعنى الاشتقاقي هو الثابت لأنه أصل اللغة والمعنى العرفي هو المتغير نظرا لتغير الأعراف والاستعمالات المختلفة للفظ عبر العصور. والمعنى الاصطلاحي هو محاولة الجمع بين المعنيين، بين الثابت والمتغير، الأصل والفرع. وهنا تبدو أهمية نقد النصوص والعثور على الوحدات الأولى للنص بلغتها الأصلية. فالترجمات قراءات جديدة تفقد المعاني الاشتقاقية للألفاظ الأصلية. والعرف بدون لغة مجرد استسلام للاستعمالات الجارية. ونقد النصوص باللجوء إلى العرف هو ترك طرف وتمسك بطرف آخر، تضحية بالأصل من أجل الفرع نظرا لضياع الأصل وعدم تدوين الأقوال الأولى بلغتها الأصلية.
2
وبالإضافة إلى منطق الألفاظ هناك منطق السياق أو كما قال القدماء فحوى الخطاب ولحن الخطاب ومفاهيم الموافقة والمخالفة. فالمعنى لا يظهر فقط في اللفظ ولكن في علاقات الألفاظ وتركيب الجملة وأساليب التعبير في التقديم والتأخير والاختيار بين المترادفات. فللألفاظ أصوات وأشكال ومعان وتراكيب، ولكل منها فرع في علوم اللغة.
3 (4)
الموقف الأولي:
لما كان النص تدوينا لموقف وتسجيلا لحدث ورد فعل عليه فإنه لا يفهم إلا بإرجاعه إلى الموقف الأول الذي منه نشأ وعنه صدر. فالنصوص مواقف فكرية، واتجاهات جماعات بشرية نحو الأحداث التي مرت بها، رد فعل عليها أو توجيه لها، تقدم حلولا لمشاكلها. إذن لا يمكن فهم النصوص إلا بالرجوع إلى هذه المشاكل الأولى التي استدعت حلولا تم تدوينها في النص. وهذا ما سمي في تراثنا القديم «أسباب النزول». النص بلا موقف صورة بلا مضمون، غطاء بلا آنية، لفظ بلا معنى، روح بلا جسد. تعني أسباب النزول أولوية الواقع على الفكر أي أولوية الموقف على النص. فالموقف سابق على النص لأنه مصدره، والنص تصوير وتدوين له؛ وبالتالي يفسر النص بالرجوع إلى هذه المواقف الأولى. ليس النص تعبيرا بلا أرض ولا وطن بل هو تسجيل موقف، وإفراز عصر. وهو ما يسمى في علم الأخلاق الغربي «أخلاق المواقف» أو في الفلسفة الغربية المعاصرة «المواقف المحددة». ويكون العيب الرئيسي في المناهج التقليدية في التفسير هو اعتبار النصوص مكتفية بذاتها، مغلقة على نفسها، لا تحتاج إلى واقع تشير إليه؛ وبالتالي تقع في الحرفية والقطعية والشيئية.
4
ثامنا: الإحالة إلى الذات
إن نظرية المعاني الأربعة للكتاب المقدس التي اشتهرت في العصر الوسيط الأوروبي من خلال التراث المسيحي الكنسي إنما تدور كلها حول الصراع بين المعنى الظاهري الحرفي والمعنى الباطني الروحي للنص مثل الصراع الذي نشأ بين التنزيل والتأويل، بين الفقهاء والصوفية في تراثنا القديم. فالتفسير الحرفي تضحية بالمعنى من أجل الحفاظ على اللفظ مما أدى إلى الوقوع في التجسيم والتشبيه. والتفسير الرمزي هو حفاظ على المعنى والتضحية باللفظ كرد فعل على التفسير الأول حرصا على التنزيه. أما المعنى الصوفي الإشراقي فهو المعنى الذي يهدف إلى الارتقاء بالروح والعروج بها إلى أعلى من أجل رؤية الحقائق في الملأ الأعلى والتي تتحول إلى أشياء وعقائد بديلة عن العالم. وأخيرا، المعنى الأخلاقي أو الموضوعي فهو المعنى الأكثر ارتباطا بالإنسان وسلوكه وقيمه، يحاول العودة بالنص إلى العالم. فإذا كان المعنيان الأوليان الحرفي والرمزي يمثلان جدل التشبيه والتنزيه فإن المعنيين الأخريين، الصوفي والأخلاقي يمثلان جدل الملأ والإنسان، العقائد والأخلاق.
1
أما التفسيرات العقائدية فإنها أيضا تجعل النص مصدرا لحقائق قطعية منغلقة على ذاتها، منفصلة عن العالم، تخلق عالما بديلا من الوهم وتخلق موقف الاغتراب؛ فالعقائد ليست أشياء أو وقائع بل هي أسس لتصورات العالم وبواعث على السلوك. ليست بديلا عن العالم بل تنظير له، كما هو الحال في النظريات والمذاهب والأيديولوجيات. يهدف التفسير العقائدي للنصوص إلى الخروج من العالم الطبيعي إلى عالم ما فوق الطبيعة وبالتالي يتحول الواقع إلى وهم والحقيقة إلى زيف. وقد حدث ذلك في التفسيرات الكاثوليكية، والأشعرية.
2
أما التفسير الطبيعي الذي يعتمد على نتائج العلوم الطبيعية ويقرأ من خلالها النص فإنه يقوم على إحساس بالنقص أمام العلم الطبيعي، فالظن لا يغني عن اليقين، والأهواء والانفعالات لا تقاس بالوقائع والحقائق. كما أنه نوع من الدعاية الخطابية بأن الدين يختلف عن العلم وبالتالي تطمئن العامة إلى جهلها وينشأ فريق للتكسب بالبرامج الدينية العلمية. الحقيقة أن هذا التفسير يجعل القيادة والريادة للعلم، والدين مجرد لاحق وتابع. تضيع ثوابت الأديان أمام متغيرات العلم، ويقضى على وحدة الأديان أمام اختلاف العلماء. ويظل العلم متميزا بمنهج الاكتشاف ويقتصر الدين على منهج التبرير. التفسير الطبيعي للنصوص الدينية لا هو علم ولا هو تفسير بل مجرد خداع وهم يكون الدين فيه هو الضحية. العلوم الطبيعية مستقلة بذاتها من حيث هي علوم ونظريات ولو أن قراءة النص الديني أو الأدبي قد تكون باعثا على التوجه نحو الطبيعة أو مثيرا للخيال العلمي. وقد تكون قراءة الطبيعة قراءة مباشرة باعتبارها آيات أكثر علمية من العلوم الطبيعية لأن هذه القراءة تحيل إلى المعنى والمعنى مقروء في النص. فالآية واحدة، آية نصية أو آية طبيعية.
3
لقد استطاعت العصور الغربية الحديثة منذ رتشل وشليرماخر ودلتاي حتى بولتمان وهيدجر وإيبلتج وفوكس وأوط وبابنبرج اكتشاف عالم الذات، وأصبح علم التفسير جامعا لعدة علوم مثل علم النفس وعلم اللغة وعلم الاجتماع، كما أصبح عصبا لنظريات المعرفة والوجود والقيم على حد سواء. أصبحت مهمة علم التفسير إقامة جسور بين الله والإنسان، بين الماضي والحاضر، بين الذات والموضوع، بين اللفظ والمعنى، بين العلم والدين، بين الأسطورة والواقع، بين الكتاب المقدس والدعاية، لا فرق في ذلك بين نص أدبي أو نص ديني. تم اكتشاف الوجود الإنساني باعتباره تفسيرا يرجع إليه تفسير النص، كما تم اكتشاف العالم الذاتي باعتباره موطن التفسير القادر على تأويل الأساطير.
4
ولقراءة النص مراحل عدة تبدأ بالذات وتنتهي بالموضوع، تبدأ بالداخل، وتنتهي بالخارج على النحو التالي: (1)
الالتزام بموقف:
كل قراءة تبدأ بمعرفة شيء ما، معرفة ما يحتاجه القارئ أولا، ماذا يريد أن يقرأ في النص، وماذا يريد النص أن يقول له. فالقارئ هو الذي يقرأ النص، وهو الذي يعطيه دلالته. والنص يتجاوب معه نظرا لاشتباهاته وأوجهه؛ وبالتالي فإن القراءة غير الموجهة تحصيل حاصل لا تؤدي إلى معنى لأن القارئ يقرأ من غير أن يوجه النص نحو معنى معين لتحقيق هدف. فالمعنى هدف قبل التحقق، والهدف معنى متحقق. القراءة إذن موقف، والقارئ صاحب موقف. وفي هذه الحالة يصبح النص دالا ذا معنى. قراءة النص بلا موقف والتي تؤدي إلى تحصيل الحاصل هي القراءة الغالبة على معظم الخطاب الديني الرسمي لأنها مجرد ملء فراغ وإشغال وقت وتنفيذ مهمة رسمية وأداء وظيفة حكومية. هي إيهام الناس بأن القارئ يقول شيئا وهو لا يقول شيئا. وهو خداع للمصلين بأن ما يقوله يأتي من النص الموضوعي وهو لا يأتي منه لأنه في هذه الحالة لا شيء يأتي من الذات أولا باستثناء أهواء مثل الخوف والجبن والتكسب بالدين. هذه المعرفة المسبقة الضرورية لتفسير النص ليست أحكاما مسبقة ولا أهواء بشرية ولا آراء شخصية، بل يمكن أن يكون لها قدر من العموم والموضوعية تتجاوز النسبية والشخصية، أشبه بالمصالح العامة وبداهات العقول.
5 (2)
التعبير عن مصالح الناس:
إذا كانت القراءة تستحيل دون الالتزام بموقف، فإن السؤال بعد ذلك: بأي موقف يكون الالتزام ولصالح من؟ ولما كان النص موضوعا لصالح الغالبية العظمى من الناس - خاصة النص الديني والنص القانوني - فإن تفسيره يكون لصالح هذه الأغلبية نفسها. وإذا كان النص سلطة، وكانت السلطة نوعين؛ سلطة الحاكم وسلطة المحكومين، وكانت سلطة الحاكم مستمدة من سلطة المحكومين لكونها عقدا وبيعة واختيارا فإن تفسير النص يكون بالضرورة لسلطة المحكومين مصدر سلطة الحاكم. وإذا ما اختلفت السلطتان، وعبرت سلطة الحاكم عن إرادته المشخصة أو عن فئته أو طبقته فإن سلطة المحكومين تتمايز عنها وتقف أمامها. فتكون في المجتمع سلطتان، كل منها تدعى الشرعية وتقرأ النص لصالحها. ولما كان الحاكم له فقهاؤه يفسرون النص لحسابه ظهر فقهاء المحكومين يقرءون النص دفاعا عن مصالح الناس. فالصراع بين فقهاء السلطان وفقهاء الجمهور هو في الحقيقة صراع بين سلطتين؛ وبالتالي تكشف معارك التفسير للنصوص عن المعارك السياسية والاجتماعية في الدولة، وكما هو واقع حاليا في الصراع الدائر بين علمانية الحاكم ودينية المحكومين. ومن هذه القاعدة العريضة نشأت في تراثنا القديم قواعد فقهية مساندة مثل: «ما رآه المسلمون حسن فهو عند الله حسن.» «لا ضرر ولا ضرار.» «المصلحة أساس الشرع.» «درء المضار مقدم على جلب المنافع.» ... إلخ. لذلك ارتبطت مناهج التفسير بالحركة الإصلاحية والحركات الاجتماعية فظهرت قراءات للنص الديني متمركزة حول الإنسان والطبيعة لصالح الناس في مقابل قراءة أخرى له متمركزة حول الله والكنيسة لصالح الحاكم.
6 (3)
لغة الواقع الإحصائي:
قد تكون القراءة تفسيرا للنصوص ولكنها قد تكون أيضا تفسيرا للظواهر الاجتماعية والطبيعية طبقا للمعنى الاشتقاقي لكلمة «آية» التي تعني نصا لغويا مسموعا وظاهرة طبيعية مرئية. وكلاهما قراءة، قراءة النص لغويا، وقراءة المجتمع سياسيا، وقراءة الطبيعة علميا. هنا تحيل اللغة إلى المجتمع وإلى الوجود. ويتحول النص من منطوق مدون إلى واقع مرئي. ويتم الفهم عن طريق تطابق النص والواقع في التجربة المعاشة فتتحدد الدلالتان، دلالة النص اللغوية ودلالة الواقع المرئية. فالواقع هو المفسر للنص والمحدد لأوجهه التي يرتكن عليها. والواقع الإحصائي أقرب إلى تحديد العلل الاجتماعية الطبيعية من الوجود ككل خشية الوقوع في الميتافيزيقا الخالصة والتأملات النظرية. فالنص اقتضاء فعل، وأمر يتطلب طاعة، وتوجه نحو العالم لا خارجا عنه؛ لذلك ارتبطت قراءة النص بالعلوم الاجتماعية لأنها هي التي تعطي معارف العصر وحركة المجتمعات. كما ارتبطت القراءة بالأيديولوجيات باعتبارها نظريات الحركة الاجتماعية ومناهج التطور الاجتماعي.
7
وتلك آخر مراحل التفسير، التفسير العملي بمعنى تحول النص إلى واقع، واللغة إلى حركة، كما يسمى لاعب الكمان «مفسرا» عندما يعزف النوتة الموسيقية، وكما سمت عائشة الرسول عندما كان يتهجد قائما ليلا «مؤولا» للقرآن.
تاسعا: خاتمة: القراءة إبداع
تبدو قراءة النص وكأنها تفكير على الماضي، وشروح على متون، وتهميش على نصوص قديمة؛ وبالتالي فهي أقرب إلى التقليد منها إلى الإبداع وكأن الإبداع يتم وهو مقطوع الصلة بالجذور. والحقيقة أنه لا إبداع دون مصادر، ودون تطوير لبذور أولى، ودون تنويع على أشكال سابقة. فلولا سقراط لما كان أفلاطون، ولولا أفلاطون لما كان أرسطو، ولولا هيجل لما كان ماركس أو فيورباخ، ولولا هايدن لما كان موتسارت، ولولا موتسارت لما كان بيتهوفن، ولولا الفارابي لما كان ابن ماجة، ولولا ابن سينا لما كان ابن طفيل؛ لذلك يبدأ المبدعون بتقليد سابقيهم حتى يستقلوا بأسلوبهم، ويتميزون بأدائهم فيما بعد.
وإن لم ينشأ الإبداع من شيء ما ولم يكن قراءة للقديم وتدريبا عليه، فإنه يتحول إلى تقليد لنص آخر من تراث آخر فينشأ التقليد مع وهم الإبداع؛ وبالتالي تقع الازدواجية في فكر الأمة وفنها وقوانينها بل وتاريخها. يظل الفكر والفن والتاريخ والقانون القديم تقليديا محافظا وينغلق على نفسه لأنه لم يخضع للتطوير عن طريق القراءة، ويتجاور معه تقليد آخر بوهم الإبداع وباسم التجديد.
لذلك، كانت قراءة النص أفضل منهج للتربية والمران في الفكر والفن، يعكف من خلالها المبدع على روحه المدون في النصوص ويتعرف على تاريخه، ويكتشف قانون مساره. فعندما يدرك تطور ماضيه ويشعر بنقص حاضره يقرأ النص فيرى رواسب الماضي في الحاضر، ويرى مكونات الحاضر في الماضي. في القراءة يحدث التفاعل بين القديم والجديد، بين المبدع وعصره، فتنشأ إبداعات لا نهاية لها، ويتم الحفاظ على وحدة الأمة في التاريخ.
1
علم المستقبليات
(عالم الغد بين الأمس واليوم)
1
أولا: مقدمة
لقد آن الأوان للأمة أن تكشف مسارها في التاريخ، وأن تنتقل من الرجوع إلى ماضيها إلى الاتجاه نحو مستقبلها دون أن يكون ذلك الانتقال تنكرا إراديا لحاضرها وتناسيا مقصودا له أو تعويضا لا شعوريا وهروبا وجدانيا من أزمات العصر. والرجوع إلى الماضي أو الاتجاه نحو المستقبل قد يكون موقفا مرضيا إذا كان فيه تجاهل للحاضر وهروب منه وعزاء عنه ونسيان له وتعويض عنه. وقد يكون موقفا صحيحا إذا كان الغرض منه البحث عن الجذور التاريخية لأزمات العصر حتى يمكن حلها من أساسها، أو التخطيط للمستقبل والإعداد له حتى لا نقع في التخبط والعشوائية والتردد والحيرة، فنقدم رجلا ونؤخر أخرى، نكون مثل رجل ديكارت التائه في الصحراء الذي يغير اتجاهه دوما دون أن يصل إلى غايته فيهلك.
1
وإن كثيرا من مشاكلنا اليوم لتتعقد أكثر فأكثر نظرا لتراكمها واشتدادها لعدم قدرتنا على التنبؤ بها قبل وقوعها والإعداد لها. فكثيرا ما تركنا المشاكل تتفاقم حتى تحولت إلى أزمات ومصائب وبلاء وكرب، وطلبنا العون والغوث. لم تكن لدينا خطط طويلة الأمد قادرة على احتواء المشاكل وتدارك الأزمات؛ لذلك تعثرت الحلول، وضاقت السبل، ولم يعد الناس يصدقون الخلاص القريب. في نفس الوقت يواجهنا عدو يخطط منذ أمد بعيد لاحتلال الأرض لحوالي قرن من الزمان منذ نشأة الصهيونية السياسية حتى احتلال فلسطين كلها. وقد كنا أقدر على ذلك التخطيط والإعداد للدفاع عن البلاد ولدينا تاريخ الأنبياء، ونزول الوحي على فترات، ولكننا عشنا خارج التاريخ وخارج الزمان، نطلب الخلاص منه إذا وجدنا أنفسنا فيه سواء بالوعود أو التمنيات أو بالتعويض والإيهام.
إن أهمية «الدراسات المستقبلية» في حياتنا لا ترجع إلى تقليدنا للغرب وإلى اقتفائنا لأثره وإلا كنا مقلدين ننقل آخر صيحات «الموضة» الفكرية، إذا تركها الغرب تركناها وإذا أخذ الغرب غيرها أخذناها. وتكون الدراسات المستقبلية في هذه الحالة أشبه بما روجنا له من قبل من مذاهب ومناهج غربية مثل الوجودية والبنائية والمنهج العلمي والمنهج الاجتماعي ... إلخ؛ وبالتالي لن تؤثر في حياتنا ولن تساعدنا على التحول من الماضي والاتجاه نحو المستقبل إعدادا وتخطيطا ومسارا. إنما ترجع الدراسات المستقبلية إلى ضرورة ملحة في حياتنا وهو حساب المستقبل والتنبؤ بمشاكله وتوقعها وإعداد الحلول لها قبل تفاقمها وعصيانها من أي حلول وتحولها إلى أزمات طاحنة تعصف بأجيال بأكملها وتحول مجرى التاريخ. وهذا يأتي بزرع الدراسات المستقبلية واكتشاف جذورها، والقضاء على معوقاتها وتأصيلها، وبعثها من تاريخ الأمة وحضارتها حتى تكون لها فاعليتها وأثرها في وجدان العصر.
والدراسات المستقبلية تدخل في إطار أعم وأشمل وهي «الاستراتيجية الحضارية» وإلا تحولت الأولى إلى مجرد حسابات عن نضوب الثروات، وتراكم رءوس الأموال، وبحث عن أسواق الجديدة لمد الغرب بأكبر قدر ممكن من المعلومات عن مصادر الطاقة والمواد الأولية في المناطق خارج حدود الغرب التي يعيش عليها الغرب تاريخيا واقتصاديا وسياسيا. إنما الاستراتيجية الحضارية هي التي تضعها الشعوب غير الأوروبية بفضل علمائها الوطنيين لتحديد مسارها التاريخي والتعرف على مكونات ماضيها الحضاري سلبا وإيجابا من أجل العودة إلى أصالتها التاريخية ومنطقتها الحضارية، ووضع خطة للتنمية الحضارية الشاملة في مواجهة الغرب وليس لحسابه، لمصالح الشعوب التي استعمرها الغرب طويلا وليس ضدها.
2
ثانيا: الاتجاه نحو الماضي والإعداد للمستقبل في تراثنا
القديم
لما كانت الدراسات المستقبلية لا تنشأ في فراغ فقد ارتبطت في التراث الغربي بفلسفة التاريخ، فإنها أيضا لا يمكن أن تنشأ في وجداننا المعاصر من فراغ حيث لا يوجد بعد الزمان أو التاريخ في وعينا القومي. كما أنها لا يمكن أن تنشأ من تقليد الغرب ونقل اتجاهاته وترجمتها لأنها حينئذ تكون مجتثة الجذور، تنتهي بانتهاء الموضة، ولا تحدث أي أثر في حياتنا بل وقد تحدث الأثر المضاد وهو الإيهام باكتشاف المستقبل، وهو في الحقيقة غائب وضائع. وكما استطاع الغرب اكتشاف المستقبل وصياغة مفهوم التقدم وفلسفات التاريخ ابتداء من البحث في الماضي واكتشاف أصوله فيه، فإننا أيضا إذا أردنا البحث من جذور للاتجاه نحو المستقبل في تراثنا القديم حتى يمكننا تنحيتها وتطويرها إلى دراسات مستقبلية فإنه يمكن العثور عليها في علومنا القديمة خاصة العلوم النقلية العقلية مثل أصول الدين وأصول الفقه وعلوم الحكمة وعلوم التصوف، وفي بعض العلوم النقلية مثل علوم القرآن والحديث والتفسير والسيرة والفقه، أو في العلوم العقلية الخالصة مثل الحساب والهندسة والموسيقى والفلك، أو في العلوم الطبيعية مثل الطبيعة والكيمياء، أو في العلوم الإنسانية مثل اللغة والأدب والجغرافيا والتاريخ.
1 (1)
ففي علم أصول الدين إذا كان الاتجاه نحو الماضي قد ظهر في مبحث النبوة فإن الاتجاه نحو المستقبل قد ظهر في مبحث المعاد، وكلاهما من السمعيات إجابة على سؤال: ماذا يحدث للإنسان بعد الموت؟ وكانت الإجابة بطبيعة الحال فناء الأبدان وبعثها وبقاء الأرواح ومعادها نظرا لتمايز النفس عن البدن. لقد شغل القدماء أنفسهم بكيفية وضع حد لنهاية الزمان وكيفية موت الإنسان بالسيف أو بانتهاء الأجل الذي يأتي بغتة دون أي إمكانية لحسابه. وهذا يجعل الإنسان على استعداد دائم للرحيل «اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا.» فالنهاية ليست نهائية بل هناك استمرار نحو المستقبل، وحياة مستقبلية لا تنتهي بانتهاء الحياة الدنيا بل تستمر في الحياة الأخروية،
بل تؤثرون الحياة الدنيا * والآخرة خير وأبقى (الأعلى: 16-17). كما شغل القدماء أنفسهم بعذاب القبر وضغطته، وبحساب الملكين منكر ونكير، وبتحلل الجسد كله إلا «عجب الذنب» التي تبقى بلا تحلل ومنها يبدأ البعث والنشور وحياة المستقبل! كما فصل القدماء في شرائط الساعة وعلاماتها مثل نزول المسيح الدجال وقتل المسيح عيسى ابن مريم له، وشروق الشمس من المغرب وغروبها من المشرق، وخروج الدابة من جحرها، والحرب بين يأجوج ومأجوج مما يدل على اضطراب قوانين الطبيعة وعجز الإنسان عن السيطرة عليها والتنبؤ بمسارها لما كان موقف الإنسان في العالم هو السيطرة عليها والتنبؤ بحوادثها. فإذا حان الحساب يقدم الإنسان أفعاله ويجد كل ما قدم أمامه محضرا. فالحاضر يمهد للمستقبل، والماضي لم يمت بل يحيا من جديد في المستقبل ويحكم على حاضر الإنسان الأبدي، وحياة الإنسان مستمرة لا توقف فيها، يحدد ماضيها حاضرها ومستقبلها. فإذا كانت المحصلة النهائية لعمر الإنسان إنما تتحدد نتيجة لأعماله إيجابا أم سلبا، خلاصا أم هلاكا فإن ذلك يدفع الإنسان لحسن الاستعداد للمستقبل، ويجعل المستقبل همه الأول ولكنه لسوء الحظ مستقبل خارج الدنيا يتجاوز الزمان. إن عملية الحساب ذاتها تتم وفقا لقانون وليست طبقا للأهواء والانفعالات مما يجعل موقف المعتزلة، أهل العدل والتوحيد، أكثر قدرة على تأصيل الاتجاه نحو المستقبل من الأشاعرة الذين يؤمنون بالشفاعة. ويغلب على هذه القوانين نفسها الطابع الحسابي الرياضي العقلي مثل قوانين الإحباط والتكفير، والاستحقاق والعوض مما يجعل حساب الاحتمالات ممكنا. وكان الميزان رمز الحساب. وينكر المعتزلة الصراط الذي يسير عليه من تتساوى حسناتهم مع سيئاتهم فيسقطون في الجنة أو في النار عشوائيا ومصادفة بلا قوانين للاحتمال أو للترجيح.
2
كما ظهر بعد المستقبل في تصور أوصاف الله وصفاته، فالله بالإضافة إلى أنه قديم هو باق، وهو كل الزمان لا أول له ولا آخر، لا بداية له ولا نهاية، يعلم ما يكون وما لا يكون، يضم الماضي والحاضر والمستقبل. بل إن الكرامية تصورته على أنه محل للحوادث، متجدد باستمرار، «كل يوم هو في شأن» مما يوحي بإمكانية إعطاء الأولوية للجديد على القديم، وللمستقبل على الماضي في وجداننا القومي. وظهر المستقبل أيضا في الحسن والقبح العقليين عندما تصور المعتزلة العالم الإنساني يسير طبقا لغاية ووفقا لقانون الصلاح والأصلح أو اللطف، وأن العالم ليس عشوائيا لا يخضع إلا لإرادات مشخصة مطلقة بلا قانون وبلا هدف. كما ظهر المستقبل أيضا في الطبيعيات في نظرية التوليد عند المعتزلة ومسئولية الإنسان عن نتائج أفعاله في المستقبل مما دفع علماء المسلمين إلى حساب المستقبل وحركات القذائف. فالإنسان لديه استطاعة ليس فقط قبل الفعل أو مع الفعل بل أيضا بعد الفعل. كما ظهر الاتجاه نحو المستقبل في نظرية الإمامة عند الشيعة والسنة في خطين متمايزين ومتعارضين. فبينما الإمامة عند الشيعة اتجاه نحو المستقبل، وانتظار للإمام الغائب على ما هو معروف في تاريخ الأديان باسم المشيانية
Messianism
هي عند أهل السنة تدهور وانحطاط من النبوة إلى الخلافة إلى الصحابة إلى التابعين إلى تابعي التابعين. فالتاريخ يسير من الوحدة إلى التفرق، ومن الإيمان إلى الكفر، والخلف أفضل من السلف
فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات (مريم: 59)، كما أن «خير القرون قرني ...» كما قوى ذلك التصور للتاريخ المنهار حديث الفرقة الناجية الذي يشكك في صحته ابن حزم «ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة، هي ما أنا عليه وأصحابي.» وهم أهل السنة والجماعة أي الدولة السنية الأشعرية، أو بلغة العصر كل الاجتهادات على خطأ وكل اتجاهات المعارضة على باطل ولا يوجد إلا رأي واحد صائب حق هو رأي الحكومة! ومن ثم ضاعت فرصة ظهور المستقبل على أنه ازدهار وانتصار بالرغم من وجود إمكانيات لذلك في الآيات والأحاديث مثل الآيات التي تحث على الأمل وترفض اليأس والقنوط، ومثل حديث المجددين «إن الله يبعث على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها».
3 (2)
وفي علم أصول الفقه إذا كان شرع من قبلنا لم يعد ملزما لنا؛ وبالتالي أمكن فك إسارنا من الماضي والاتجاه نحو الحاضر، وبدأنا شعورنا القومي على البراءة الأصلية فإن المصادر الأربعة للتشريع توحي بالزمان وبالمستقبل انتقالا من القرآن إلى السنة إلى الإجماع إلى الاجتهاد، فكل مصدر يوحي بتقدم في الزمان عن المصدر السابق: السنة تعين أول للقرآن، والإجماع تعين ثان له، والاجتهاد تعين ثالث ومستمر له. فإذا تركنا القرآن والسنة للعلوم النقلية فإن الإجماع يضع مشكلة العصور والأجيال وإمكانية عدم التزام العصر اللاحق بأحكام العصر السابق نظرا لتغير الظروف والأحوال واختلاف المصالح والحاجات، ولكن الذي يشير بصراحة ووضوح إلى بعد المستقبل هو المصدر الرابع للتشريع وهو الاجتهاد. فقد أعطى المصدر الأول المبادئ العامة الصالحة لكل زمان ومكان. وأعطت السنة أول تحقق لهذه المبادئ العامة في التاريخ، في زمان ومكان معينين، وفي عصر معين ولأمة بعينها. كما أعطى الإجماع إمكانية الاتفاق على التطبيق العملي باسم مصالح الأمة ووحدتها. والآن يعطي الاجتهاد إمكانية احتواء كل الحوادث المستقبلة والتشريع لكل الظروف الآتية ابتداء من جهد الإنسان العقلي وقدراته على الاستنباط والاستقراء، وبعد أن ميز الشاطبي بين تحقيق المناط وتنقيح المناط وتخريج المناط جعل الأول لا ينقطع إلا بانقطاع التكليف في حين أن الثاني والثالث مشروطان بوجود المجتهد. الأول مستمر إلى ما لا نهاية طالما أن هناك إنسانا عاقلا وقادرا مكلفا، باق مع الإنسان إلى ما لا نهاية. ولما كان تحقيق المناط هو وجود علة الحكم في الواقع كان على الإنسان أن يبحث باستمرار عن هذا المناط. فالاجتهاد هو عصب الشريعة، وهو كما يسميه إقبال «مبدأ الحركة» في الإسلام. فالمستقبل وارد في الشريعة، وحساب المستقبل موجود في الاجتهاد. المستقبل ليس هما أو إشكالا أو تأزما بل هو حاضر معاش يدخل في نظرية قادرة على أن تعطيه حكما يحل الإشكال ويقضي على الأزمات. فالمجتهد هو العالم المناط به تطوير الشريعة ونقل الماضي إلى الحاضر. والعلماء ورثة الأنبياء، والفقهاء أمناء الرسل. ولما كان الله هو عالم الغيب والشهادة ظهر ذلك في أحد جوانب المنهج الأصولي. وهو قياس الغائب على الشاهد. فمعرفة الغائب ممكنة وذلك بقياسه على الشاهد. ولما كان المستقبل أحد مظاهر الغيب أمكن معرفته.
كما نجد في مباحث الأصول الأخرى حضور المستقبل وإن كان مغلفا في أطر اللغة والتشريعات. فمثلا المبادئ اللغوية التي وضعها الأصوليون لتفسير النصوص مثل: الحقيقة والمجاز، الظاهر والمؤول، المحكم والمتشابه، المجمل والمبين، المطلق والمقيد ... إلخ، كلها تهدف إلى احتواء الحوادث المستقبلة مثل الاجتهاد تماما عن طريق تأويل الألفاظ؛ وبالتالي يظل النص صالحا باستمرار متحركا في الزمان والمكان، ممتدا من الماضي إلى الحاضر، ومتجها من الحاضر نحو المستقبل. وفي مباحث الأحكام وتحليل المقاصد نجد أن الوحي مقصد، والقصد اتجاه وغاية. فقد قامت الشريعة من أجل تحقيق مقاصد وأهداف ابتداء وهي المصالح العامة، وأفهاما حتى يعقلها الناس، وامتثالا حتى يطيعونها، وتكليفا حتى يطبقونها. وفي سلوك الفرد ارتبط الفعل بالنية، والعمل بالهدف. والغاية والقصد من بدايات الاتجاه نحو المستقبل.
4 (3)
وفي علوم الحكمة التي يضرب بها المثل في التجريد والصورية ظهر الاتجاه نحو المستقبل في التركيز على العلة الغائية من العلل الأربعة في الإلهيات والطبيعيات، وأن العلة الغائية هي العلة الفاعلة الحقة وكأن العالم كله يتحرك نحو غاية بالعشق. والله هو العلة الغائية للعالم، المحرك الذي لا يتحرك الذي ينزع العالم نحوه بالعشق. وفي الطبيعيات ظهرت القوة كامنة في الطبيعة، انتقال من القوة إلى الفعل، والنفس كمال أول. وفي الإلهيات يظهر الاتجاه نحو المستقبل في نظرية الاتصال حيث تتصل النفس المفارقة بالعقل الفعال. فالنفس قادرة على كشف غياهب المجهول واختراق الحجب، لا فرق في ذلك بين الفلسفة الإشراقية عند الفارابي وابن سينا وبين الفلسفة العقلية الخالصة عند ابن رشد. بل إن الفلسفة الإشراقية خاصة عند ابن سينا قاربت علوم التصوف ، وتناولت مقامات العارفين، ووصفت طريق الحكمة على أنه طريق إلى الله يرتقي فيه الحكيم من مقام إلى مقام، ترتفع روحه صعودا، والأعلى في الفكر الديني هو الأمام في الفكر العلماني. فالمفارقة أو العلو قد يكون إلى أعلى وقد يكون إلى الأمام. كما ظهر الاتجاه نحو المستقبل في علوم التنجيم وما يتعلق بها من علم وقراءة المستقبل مثل الطير والفأل التي وصل إليها الحكماء عن طريق حساب دورات الأفلاك وآثار ذلك على ما يقع على الأرض من حوادث وإمكانية التنبؤ بها إذا ما تم حساب الدورات، فلا شيء يقع على الأرض لا يحدث بفعل دورات الأفلاك. وبالرغم من تحذير القرآن من هذه العلوم وتحريمه للأزلام والأنصاب إلا أن الحكماء تابعوا في ذلك علوم التنجيم القديمة دون ما مراعاة لتكذيب الحديث للمنجمين «كذب المنجمون ولو صدقوا.» بل إنهم وضعوا علوما لقراءة الطالع - واستمر ذلك حتى الآن - من اليد والفنجان وضرب الودع وخط الرمل ورمي الحصى للتطير. كل ذلك يدل على كشف حساب المستقبل ولكن بطريق السحر والتنجيم.
5 (4)
وفي علوم التصوف ظهر الاتجاه نحو المستقبل في تحليل المقامات والصعود فيها من مقام إلى مقام حتى الوصول إلى آخر الطريق، والانتقال من مرحلة إلى مرحلة، ومن فترة إلى فترة حتى الوصول إلى الغاية. ويبدأ الصوفي من البداية في الوقت حتى يصل إلى النهاية في الأبدية. وعادة ما يتحول الأعلى إلى الأمام في عمليات النهضة الحضارية، ويتم اكتشاف التقدم. وقد غلب على الصوفية تحليل اللحظة الحاضرة وهو الوقت، ما بين الحاضر والمستقبل ولكن لسوء الحظ كل ما يحدث فيه متوهم وليس حقيقيا مما يجعله ظاهرا لا حقيقة؛ ومن ثم يصبح الزمان كله هباء وتوهما، ولا يبقى إلا الفناء في الأبدية حيث لا زمان ولا تقدم. كما ظهر الاتجاه نحو المستقبل في وصف الصوفية لمراحل النبوة التي توازي مراحل التجلي الإلهي كما فعل ابن عربي في «فصوص الحكم» والتي توازي أيضا مراحل الكشف بل ومراحل الخلق ابتداء من آدم حتى آخر الأنبياء. فالتقدم هنا من الماضي إلى الحاضر، من أعلى إلى أسفل، من الخلف إلى الأمام. بل إن ابن عربي قد وضع مرحلة أخيرة للكشف الصوفي وهي المرحلة ما بين محمد بن عبد الله ومحمد بن سنان، وهي مرحلة مستمرة لا تنتهي، وهي مرحلة الولاية، فالأولياء ورثة الأنبياء، والإلهام استمرارية للنبوة. فإذا كانت النبوة تنقطع فإن الولاية لا تنقطع. كان لدى الصوفية إمكانية ظهور المستقبل ولكنه كان كشفيا نظريا فرديا وجدانيا وهميا خياليا صاعدا إلى أعلى.
6 (5)
وفي العلوم النقلية ظهر الاتجاه نحو المستقبل في علوم القرآن في موضوع النسخ، ورفع الحكم السابق بحكم لاحق طبقا للتطور في الزمان، وتغير الظروف والأحوال، وحسب الأهلية والقدرة. كما ظهر أيضا في نزول الوحي على فترات ونزول القرآن ذاته منجما على مدى ثلاث وعشرين عاما وقسمته إلى مكي ومدني، تصور ونظام، عقيدة وشريعة، أيديولوجية ودولة. وهما مرحلتان ضروريتان لبناء أي نظام جديد. ومن دلائل الإعجاز عند البعض إخبار القرآن بالغيب والتنبؤ بالمستقبل وإن كان القرآن ذاته قد حرم جميع أنواع السحر والفأل والطيرة والتنجيم. إنما التنبؤ بالمستقبل يكون ممكنا فقط باستقراء أحوال الأمم الماضية، واستعراض حوادث التاريخ، واستنباط قوانينه العامة التي تكمن وراء قصص الأنبياء.
7
وفي علوم الحديث تكشف الرواية عن انتقال الخبر في الزمان، جيلا بعد جيل، والانتقال من التراث الشفاهي إلى التراث المدون حرصا على صحة الخبر وحماية له من الزيادة أو النقصان أو من التحريف والتغيير والتبديل. ونشأ معه علم «ميزان الرجال» أو علم «الجرح والتعديل» لمعرفة سير الرواة جيلا بعد جيل. وأصبح من شروط التواتر التجانس في الزمان أي تجانس انتشار الخبر عبر الأجيال منعا للتكتم على الخبر الصحيح أو ذيوع الخبر الكاذب. كما تنتشر في الإصحاحات أبواب بدء الخلق وعلامات النبوة مما يوحي ببداية الزمان ونهايته وأبواب الهجرة والخلاص، وتقبل الحوادث المستقبلة كضرورة لا مفر منها، والدعوات، والوعود، والنذور وكلها تكشف عن أن المستقبل مطوي في الحديث تتناوله السنة دون أن ينكشف في وعينا التاريخي.
8
وقد اعتمدت علوم التفسير على الرواية عن السابقين، وتناولت أخبار الأمم السابقة وانتشار الدعوة في الزمان وبدايات التاريخ حتى الصحابة والتابعين وتابعي التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، فكان التفسير بالمأثور اتجاها نحو الماضي. ولم ينشأ تفسير لحاضر الأمة أو لمستقبلها ينفعها وهي في الزمان وفي التاريخ. ودخلت الإسرائيليات التي تروي أخبار الأمم الغابرة دون ما سند من رواية أو منطق أو حس. في حين هاجم القرآن التقليديين والمقلدين واقتفاء آثار الأمم السالفة حتى يجعل كل أمة متجهة نحو مستقبلها لا نحو ماضيها.
9
وتناولت علوم السيرة علامات النبوة وظهورها قبل ميلاد النبي وقبل البعثة وما أوتي النبي من قدرات خاصة لقراءة الماضي والمستقبل، مثل الإسراء والمعراج وتبشير أهل الجنة والحكم على أهل النار والكرامات. وقد ارتبطت كلها بشخص النبي. ولم يتحول المستقبل منها إلى تيار في وعينا القومي يجعلنا أكثر قدرة على رؤية المستقبل باستثناء ما يستشري فينا من الرؤى والأحلام.
10
وبالرغم من تناول علوم الفقه الموضوعات العملية إلا أنها تعرضت أيضا لبعض الموضوعات التي تكشف عن المستقبل فيما يتعلق بأحكام السوق وماذا يحدث في الأسعار والتسويق نتيجة التلاعب والاحتكار أو فيما يتعلق بأنظمة الحكم وما قد يعتريها من وهن وضعف إذا ما حادت عن الشريعة. ووقد ورد لفظ «التدبير» في بعض كتب الفقه السياسي والتي تعني الإعداد والتخطيط لرعاية الأمة ومصالح الدولة.
11
فالعلوم النقلية كلها على هذا النحو بالرغم من أنها تعتمد على النقل إلا أنها لم تسقط المستقبل من حسابها وأخذته ضمن موضوعاتها وإن كان مغلفا بطابع فقهي. (6)
وبالرغم من أن العلوم العقلية ذات طابع رياضي خالص إلا أن حساب اللامتناهي والواحد واكتشاف الصفر، والمكان اللامتناهي، والخط اللامتناهي، والدائرة اللامتناهية الحركة: كل ذلك يجعل اللامتناهي بداية اكتشاف الإنسان للاتجاه نحو المستقبل في المكان والزمان والعدد وإطلاق قوى الخيال العلمي الرياضي لحساب اللامتناهي كما هو واضح في العلوم الرياضية الإسلامية مثل الجبر والمقابلة وجداول «اللوغاريتمات» و«تقدمة المعرفة».
12
وفي العلوم الطبيعية ظهرت الغائية في علوم الحياة وعلوم الطب. كما ظهرت مفاهيم للتحول والتغير والقوة والفعل في علوم الطبيعة . ارتبطت العلوم بالحياة العملية وكان الهدف منها السيطرة على قوانين الطبيعة لتسخيرها لمصلحة الإنسان ومنفعته تعبيرا عن تصور الوحي لعلاقة الإنسان بالطبيعة، وكأن الطبيعة عاقلة حية مريدة فاعلة واعية وهو معنى التسبيح بحمد الله.
13 (7)
وفي العلوم الإنسانية، خاصة في علم التاريخ، كان الاهتمام واضحا ببدايات التاريخ وقصص الأنبياء. كما وضح الاهتمام بالحوليات وتوالي السنين وتتابع الأجيال والطبقات وإن لم يظهر قانون لحركة التاريخ أو تصور لتقدم الأجيال وعلاقات بعضها بالبعض الآخر؛ وبالتالي خلا التاريخ من فلسفة التاريخ، وخلت الوقائع من قانون عام يضمها.
14
حتى أتى ابن خلدون وحاول صياغة قانون عام لتطور الدول نشأة ونموا واكتمالا ثم اضمحلالا وانهيارا. فقد ظهر ابن خلدون في نهاية الطور الأول للحضارة الإسلامية من القرن الأول حتى القرن السابع ولم يعاصر فترتها الثانية من القرن الثامن حتى القرن الخامس عشر؛ ولذلك غلب على «المقدمة» النهاية أكثر من البداية. وتكون مهمتنا نحن هو إكمال فلسفة التاريخ التي تركها لنا ابن خلدون مكملين قانون التطور بإضافة قانون النهضة وربما التنبؤ بمسار الأمة في المستقبل بناء على رصد دورتيها في الماضي. كما لم ينس ابن خلدون التطرق إلى «حقيقة النبوة والكهانة والرؤية وشأن العرافين وغير ذلك من مدارك الغيب» معتمدا على نظريات الفلاسفة في الاتصال والنظريات الفيزيولوجية في عمل الدماغ. كما تحدث عن أهمية النبوة في الأمة ومبينا «أن العرب لا يحصل لهم الملك إلا بصبغة دينية من نبوة أو ولاية أو أثر عظيم من الدين على الجملة.» فالنبوة هي التي تعطي خبرة الماضي وتؤسس الحاضر وتستبصر المستقبل. كما تحدث عن «علم تعبير الرؤيا» بناء على قصة يوسف وتفسير الأحلام والإعداد والتخطيط لخير مصر وتجنب المجاعة. كما تعرض لعلوم السحر والطلسمات كعلوم قديمة مهمتها التأثير في قوى الطبيعة والتنبؤ بالغيب.
15 (8)
ولكن يرجع الفضل إلى المصلحين الدينيين والمفكرين المحدثين وزعماء الإصلاح ورواد النهضة ودعاة التمدن إلى التفكير في أسباب انهيار المجتمعات الإسلامية وشروط النهضة الجديدة؛ فقد حاولوا تأسيس العلوم الاجتماعية، وصياغة قوانين لتطور الأمم ترجمة أو اقتباسا أو تحليلا أو علما. فظهرت فلسفات التاريخ تتحدث عن النهضة والتقدم والترقي، وتبحث عن سنن الله في الكون أو القوانين العامة للتاريخ، وتحاول التنبؤ بمستقبل الأمة على مستوى التمني، وتبين إمكانية تحقيق هذا الهدف على الأقل على مستوى الخطابة والوعظ وشحذ الهمم على طريقة الدعوات الإصلاحية ولم تختلف في ذلك التيارات الرئيسية الثلاث في فكرنا الحديث؛ التيار الديني الإصلاحي، والتيار العلمي العلماني، والتيار الوطني الليبرالي. فطريق التقدم هو الانتقال من الجهل إلى العلم، ومن الخرافة إلى العقل، ومن التفرق إلى الوحدة، ومن الفتور إلى شحذ الهمم وتجنيد الجماهير. وهو أيضا الطريق من علوم القدماء إلى علوم المحدثين، من العلوم الكلامية إلى العلوم العصرية، من العلوم الدينية إلى العلوم الاجتماعية. إن الدين حركة تقدمية في التاريخ لإذكاء الوعي وإكمال العقل واستقلال الإرادة. وهو قادر على الدخول في عصر العلم والمدنية لأنه يوفي بمقتضياتهما. إن الأمم تسير وفقا لقوانين حتمية ذكرها الأنبياء ووصفها الوحي، وهي سنن الله في الكون. وقد اختارت كثير من الجمعيات الإصلاحية اسم «الترقي» للدلالة على هدفها في التقدم والعصرية. كما ركز التيار العلمي العلماني خاصة على الترقي من خلال العلوم الطبيعية وإرساء قواعد لنظم اجتماعية جديدة تقوم على الحرية والعدالة والمساواة. وأخيرا ركز التيار الوطني الليبرالي على أن «حب الوطن من الإيمان»، وأنه لا فرق هناك بين الدين والوطنية والعصرية. وما زلنا حتى الآن ندرس موضوع التقدم، ونتحدث عن شروط النهضة، ونتلمس أسباب الرقي.
16
ثالثا: التحول من الماضي والاتجاه
نحو المستقبل وصياغة التقدم في التراث الغربي
لم تظهر الدراسات المستقبلية في التراث الغربي في فراغ بل سبقتها جهود عديدة لاكتشاف المستقبل في صورة تقدم وحركة وتغير وثورة وقانون. ولم يحدث هذا الاكتشاف فجأة وفي عصر واحد بل مهدت له شروط وساعدت عليه عوامل وتراكمت فيه خبرات. وحدث ذلك على مراحل مختلفة حتى كمل مفهوم التقدم الإنساني العام الذي يشمل القدرات الذهنية والمعارف الإنسانية والإنجازات البشرية. (1)
فقد انتقلت الحضارة الأوروبية كلها من التمركز حول الله
Theocentrism
إلى التمركز حول الإنسان
Anthropocentrism
وقد ظهر ذلك في عصر الإحياء في القرن الرابع عشر عندما تم بعث الآداب القديمة التي تعلي من شأن الإنسان في مواجهة الآلهة. كما استمر ذلك الإصلاح الديني في الخامس عشر بدخول الإنسان في علاقة مباشرة بينه وبين الله، وإيمانه في اللحظة دون توسط الكنيسة، وحريته في الفهم والتفسير للكتاب المقدس. وقوي ذلك في عصر النهضة في السادس عشر حين أصبح الإنسان هو الموضوع الأول للعلوم. فنشأت العلوم البيولوجية مع العلوم الطبيعية والرياضية، بل ونشأ الاتجاه الإنساني
Humanism
عند أراسم (1469-1536م). فقد كان يستحيل ظهور مفهوم التقدم أو التاريخ في عالم يطويه الله بين يديه، ويضعه تحت إبطيه دون أن يكون للعالم استقلاله ووجوده الخاص، ودون أن يكون له حركته وتطوره وقانونه؛ ومن ثم تم اكتشاف الحركة في الدراما والارتقاء في العلوم البيولوجية قبل اكتشاف التقدم في العلوم التاريخية. (2)
كما انتقلت الحضارة الأوروبية الحديثة من التصور الدائري للزمان، ذلك التصور الذي كان سائدا في الحضارات القديمة إلى التصور التقدمي للزمان. كان التصور الأول مرتبطا بالخلود، وبالعود على بدء، وبالبداية والنهاية من أجل حل قضية الصلة بين الزمان والخلود. وفي هذا التصور تكون الأولوية فيه للخلود على الزمان. في حين ارتبط التصور الثاني بالزمان دون الخلود، وبمراحل الزمان وفترات التاريخ وتعاقب الأجيال وتوالي العصور والأزمان. هذا التصور الأول جعل التقدم يسير إلى الوراء طبقا لقانون القهقري
Recoursi
لحاقا بالفردوس المفقود، وهروبا من هذه الأرض الخراب، ورجوعا إلى العصر الذهبي، وابتعادا عن عصر الفساد والانهيار. في حين أصبح التقدم في التصور الثاني تقدما مستمرا، اليوم أفضل من الأمس، والغد أفضل من اليوم. لا رجوع إلى الوراء، ولا عودة بالزمن، فالزمان يسير في خط مستمر إلى الأمام. لا انتكاس فيه ولا نكوص؛ لذلك انتقل الوعي الأوروبي من التشاؤم إلى التفاؤل، ومن الإحجام إلى الإقدام، ومن الخوف والشك ومن والترقب إلى الثقة بالنفس واليقين والعمل.
1 (3)
ولما كان الدين هو ينبوع الحضارة ومركزها فقد تمت عدة تحولات في تصور العقائد الدينية من المحور الرأسي إلى المحور الأفقي. حدث ذلك في تصور عقيدة العناية الإلهية التي تحفظ العالم وتعتني به بعد الخلق من خارجه وليس من داخله، وتحوله إلى تصور آخر جعلها قانونا لتطور التاريخ ولتحديد مساره من داخله وليس من خارجه. كما تحولت عقيدة التثليث؛ الأب والابن والروح القدس من قبل في القرن الثاني عشر عند يواكيم الفيوري (1130-1203م) إلى قانون لتطور التاريخ ذي ثلاث مراحل؛ مرحلة الآب وهو الذي يمثل السلطة، ومرحلة الابن وهو الذي يمثل المعارضة، ومرحلة الروح القدس وهو الذي يمثل استقلال الإنسان وعيا وعقلا وإرادة.
2
وظهر ذلك بوضوح في فلسفة التاريخ عند هيجل (1770-1831م) حيث تحول ملكوت الآب وملكوت الابن وملكوت الروح القدس إلى جدل التاريخ، إلى مسار حضاري شامل يتجلى فيه الروح المطلق. كما تحول تطور النبوة من اليهودية إلى المسيحية إلى التنوير إلى قانون عام لتربية الجنس البشري كما هو الحال عند لسنج (1729-1781م) ابتداء من مرحلة الحس والتشبيه الحسي وإله الغضب والعقاب والخوف إلى مرحلة العاطفة والوجدان وإله المحبة والعفو والتسامح والغفران إلى مرحلة العقل والحرية والطبيعة ودين التنوير، دين الإنسانية الجديد، خاتم الأديان، ونهاية التطور وكمال الإنسانية. ولم تعد المعجزة خرقا لقوانين الطبيعة ونفيا لاستقلالها بل حادثة تقع طبقا لقانون طبيعي نجهله. وتقدم العلم يمكن اكتشافه والتنبؤ بمسار الحوادث.
3
أصبح مستقبل الإنسان في هذه الدنيا وليس في الآخرة؛ وبالتالي بدأ الاهتمام بالعالم وبالإنتاج وبالإبداع وبتعمير الأرض وليس فقط بإذكاء الروح وتربية النفس استعدادا للآخرة. اعتمد الإنسان على عقله وإرادته دون الاعتماد على الكتاب المقدس كمصدر للعلم أو على الإرادة الإلهية كوسيلة للتنفيذ. وتم الانتقال من الإرادة الخارجية المشخصة إلى الإرادة الإنسانية الفعلية، ومن الحكمة الإلهية إلى إرادة الشعوب. لم تعد الطبيعة البشرية فاسدة بفعل الخطيئة الأولى لا تقوى على النهوض، ولا تنهض إلا لكي تتعثر من جديد دون منقذ أو مخلص ولكنها أصبحت طبيعة خيرة قادرة على النهوض بذاتها وعلى التقدم بنفسها. وهكذا بدأ مفهوم التقدم في الظهور ابتداء من إعادة تفسير العقائد حتى يمكن الكشف عن الوعي بالتقدم في وعي التاريخ. (4)
وقد استطاع العلم اكتشاف قانون تطور الأحياء. وقد بلغ هذا الاكتشاف الذروة في نظرية النشوء والارتقاء عند دارون (1809-1882م) في القرن التاسع عشر. وقد أعطى ذلك مفهوم التقدم أساسا علميا طبيعيا ماديا حيويا. وامتد ذلك إلى هذا القرن، وظهرت الأنطولوجيا العامة الشاملة عند بيير تيار دي شاردان (1881-1955م)
Chardin
وتصوره لتطور العالم على حرف أوميجا
W
وبالتالي إمكانية التنبؤ بتطور المستقبل وبمسار حوادثه. أصبح من منجزات العلم الإيمان المطلق به وبقدرة القانون العلمي على التنبؤ بالمستقبل نظرا لاطراد قوانين الطبيعة وثباتها وحتميتها. وقد جاء هذا الإيمان بالعلم نتيجة لجهاد طويل استغرق عدة أجيال منذ قيام روجر بيكون (1214-1294م) في القرن الثالث عشر بإصلاح التعليم العالي وإعادة بناء الجامعات على أساس ليبرالي بالاعتماد على المواد العلمية والدراسات العلمانية في «الكتاب الكبير»، والاعتماد على المنهج التجريبي في «الكتاب الرئيسي». ظهر علماء جدد ينقدون الأنساق العلمية القديمة، كوبرنيقس (1473-1543م) ضد بطليموس، فساليوس (1514-1564م) ضد جالينوس، تلزيو (1508-1588م)، وبرونو (1548-1600م)، وراموس (1515-1572م) ضد أرسطو. كما ركز فرنسيس بيكون (1561-1626م) على أن تقدم العلم ليس فقط في علوم الطبيعة بل أيضا في الذهن البشري وإقامته على أسس يقينية بعيدا عن الخرافة والأساطير. وفي نفس الوقت ظهر حساب الاحتمالات، وحساب الإمكانيات، وبانت إمكانية التنبؤ بالمستقبل من خلال الأعداد والعلوم الرياضية وظهور فروع جديدة للرياضة. كما نشأت الجمعيات العلمية ليدافع فيها العلماء عن حقائق العلم ضد العقائد الدينية والتقاليد الموروثة ولتأسيسه على التجربة البشرية والترويج للعلم ونتائجه كي يحل محل العقائد الدينية القديمة في وجدان الشعوب.
4 (5)
ونشبت معركة القدماء والمحدثين، بين أنصار القديم وأنصار الجديد، بين دعاة الرجوع إلى الماضي وأنصار التوجه نحو المستقبل، وانتصار المحدثين على القدماء، أنصار الجديد على أنصار القديم، ودعاة المستقبل على دعاة الماضي مما جعل الوعي الأوروبي يثق بالتقدم، ويتصور الزمان والتاريخ على أنهما عنصر إيجابي فعال، ويترك وراءه التصور القديم القائم على أن السلف لم يتركوا للخلف شيئا، وأن التاريخ في انهيار مستمر. وقد بدأت هذه الحركة في الأدب أولا وبوجه عام وفي الشعر بوجه خاص لتحرير قواعد النقد الأدبي وإعادة الثقة إلى الطبيعة في مقابل نظرية النكوص والقهقرى، والإيمان بالتقدم المستمر للجنس البشري وقدرته على الخلق والإبداع. وبالرغم من أن المعركة بدأت في فرنسا إلا أن الذي أشعلها هو الشاعر الإيطالي تاسوني (1565-1635م). فما دام الفن يعتمد على التجربة يكون المحدثون بالضرورة أفضل من القدماء. وتبعه ديماريه دي سان سورلاف إيثارا للمسيحية على الوثنية القديمة. كما دافع عن المحدثين شارل بيرو (1628-1703م) في مقابل دفاع بوالو (1636-1711م) عن القدماء ودفاعا عن روح العصر. فلكل عصر تجربته، وكل تجربة لاحقة تكون بالضرورة أغنى من التجربة السابقة وهذا لا يمنع من حصول لحظات انكسار وتوقف سرعان ما يندفع التقدم بعدها في لحظات الثورة والتغير الكيفي. أهم شيء إذن هو فك إسار الماضي لحساب الحاضر وإن لم يظهر المستقبل. وقامت نفس المعركة في إنكلترا. فهاجم جورج هيكويل نظرية النكوص أو القهقرى القائلة بالتدهور الدائم والمستمر والحتمي للطبيعة البشرية لأنها ضارة بنشاط الإنسان إذ تولد فيه اليأس والخمول، فالإيمان بالتقدم شرط التقدم. ظهر إذن مفهوم التقدم كأحد مكاسب هذه المعركة، وظهر فلاسفة التقدم ومفكروه يرونه محورا للحياة الإنسانية الفردية الاجتماعية وأساسا لحركات الشعوب. فدافع بيير بيل (1647-1706م) عن تطبيق منهج ديكارت (1566-1650م) في التقاليد الاجتماعية والعقائد الموروثة. كما دافع فونتنل (1657-1707م) عن المحدثين وتطبيق منهج ديكارت في العلوم والروح الهندسية في المعرفة الإنسانية كلها في «حوار بين الأموات» مبينا أهمية النظريات العلمية الحديثة عن الدورة الدموية وحركات الأرض وأسباب التأخر في النظم السياسية والاجتماعية والأوضاع العامة. فالإعجاب بالقدماء لديه أحد عقبات التقدم. ثم نقل الخوري سان بيير التنوير العقلي إلى التغيير الاجتماعي وانتقل من رفض التقاليد القديمة والعقائد الموروثة إلى رفض مظاهر الطغيان والقهر السياسي والتسلط الاجتماعي. وقد استمرت المعركة في إنكلترا للتخلص من سلطة القدماء عند سير وليم تمبل (1628-1699م) وعند وتون وسويفت (1667-1745م) مع التركيز على التقدم في ميدان الفنون لأن العلم واحد ومقاييسه عامة وشاملة.
5 (6)
وقد تأسست العلوم التاريخية التي ركزت اهتمامها أساسا على تطور المجتمعات محاولة العثور على قانون له يشابه قانون تطور الأحياء. وقد ظهر ذلك بوضوح عند فيكو (1667-1744م) وتأسيسه للعلم الجديد: فلسفة التاريخ، وتوحيده مع هيكويل وهردر بين العناية الإلهية وتقدم التاريخ. فقد حاول إخضاع الطبيعة البشرية إلى قانون واحد يماثل القانون الطبيعي في العلوم الطبيعية؛ ومن ثم كان هم الفلاسفة هو صياغة هذا القانون وتحديد مراحله وكيفية الانتقال من مرحلة إلى أخرى. وقد تفاوتوا في هذه الصياغة بين قانون ثنائي أو رباعي (مضروب في نفسه) أو ثلاثي أو تساعي (مضروب أيضا في نفسه). فالقانون الثنائي يحدد انتقال الإنسانية من طور إلى طور، ومن مرحلة إلى مرحلة تكون الثانية أكثر تقدما ورقيا بالضرورة من الأولى؛ إذ تنتقل من عهد الفطرة إلى عهد المدنية عند فولتير (1694-1778م) وروسو (1712-1778م). وفي هذا التصور لا تخلو الحالة الأولى من بعض الخير كما لا تخلو الحالة الثانية من بعض الشر الذي يمكن التغلب عليه بالعقد الاجتماعي، ولكن الصياغة الرباعية للقانون كانت أكثر شيوعا حتى عند القدماء. فقد قسم أفلاطون مراحل التطور إلى أربعة؛ الزراعة ثم نشأة المدنية على سفوح الجبال ثم تأسيس المدن في السهول والوديان ثم إقامة المدن الساحلية. وتقابل هذه المراحل الاجتماعية الأربعة مراحل أربعة أخرى تمثل تطور النظم السياسية من الحكم السعيد إلى حكم الأقلية إلى الحكم الديموقراطي وأخيرا إلى الحكم التسلطي. ثم انتقل هذا التقسيم الرباعي القديم بعد اكتشاف التقدم إلى مراحل أربعة لتطور التاريخ من الشرق إلى الغرب، من العصر البابلي إلى الفارسي إلى المقدوني وأخيرا إلى الروماني. وظل الحال كذلك حتى بودان (1530-1596م) في القرن السادس عشر. ولما دخلت العصور الحديثة، وفرضت نفسها على التاريخ أصبحت المراحل الأربعة من الشرق (الكلدانيون والمصريون) إلى اليونان إلى الرومان وأخيرا إلى بترارك كما هو الحال عند هيكويل. وأخيرا أعطى هردر هذا التقسيم الرباعي أساسه الحيوي مشبها إياه بدورات الحياة من الطفولة إلى الشباب إلى الرجولة إلى الشيخوخة. (7)
وبالرغم من محاولة ماركس في شبابه صياغة قانون خماسي؛ من قطف الثمار والصيد إلى الزراعة إلى الإقطاع إلى الرأسمالية إلى الشيوعية إلا أن الصياغة الشائعة هو القانون الثلاثي منذ لوكريس حتى أوجست كونت (1798-1757م). فقد تصور لوكريس أن الإنسانية قد تطورت في ثلاث مراحل؛ العهد الحجري حيث كان الإنسان يعيش سعيدا على الطبيعة، العهد البرونزي حيث قلت السعادة وبدأت الحروب، والعهد الحديدي حيث كثرت الحروب وعم الشقاء. وبإدخال دورات الشعوب عند بودان، تنتقل الدورة من سيادة شعوب جنوب الشرق إلى سيادة شعوب الوسط إلى سيادة شعوب الشمال. وكل مرحلة تتميز بأحد الإبداعات البشرية من الدين إلى الحكمة العملية إلى المهارات اليدوية الخلاقة وفنون الحرب. واستمرت هذه الدورة الثلاثية عند بيكون من العصور القديمة إلى العصور الحديثة (اليونان والرومان) إلى العصر الحاضر، وكل عصر يمثل تقدما بالنسبة إلى العصر السابق. وهي نفس الدورة عند فيكو من المرحلة الدينية حيث يسود الخوف والاستبداد كما هو الحال في الشرق القديم إلى المرحلة البطولية حين حكم الأباطرة والملوك كما هو الحال عند اليونان إلى المرحلة الإنسانية حين يصبح كل إنسان عاقلا وحرا ومساويا للإنسان الآخر. وقد تبنى ترجو (1727-1781م) الدورات الثلاث نفسها من المرحلة الدينية إلى المرحلة الفلسفية إلى المرحلة التجريبية. وهو القانون نفسه، قانون الحالات الثلاث الذي صاغه كونت من المرحلة الدينية إلى المرحلة الميتافيزيقية إلى المرحلة الوضعية، والدورات الحضارية نفسها التي تصورها هيجل من الشرق القديم إلى اليونان والرومان حتى تصل قمة الحضارة في النهاية لدى الشعوب الأوروبية وفي مقدمتها الشعب الجرماني. وقد أخذ هذا التصور صورة حيوية تمثل أدوار البشرية بأدوار العمر من الطفولة إلى الشباب إلى الرجولة كما هو الحال عند فونتنل (1657-1757م). ففي الأولى تسود الرغبات والحاجات، وفي الثانية تظهر فنون البلاغة والشعر وطرق الاستدلال وأساليب التضامن الاجتماعي، وفي الثالثة تظهر الإنسانية المستنيرة العاقلة لولا اصطدامها ببشاعة الحروب. وهو التصور نفسه عند لاموته من الطفولة والشباب إلى الرجولة والنضج إلى الاكتمال في إنسانية جديدة. وقد عبر عن ذلك أيضا لسنج في «تربية الجنس البشري» وتصوره الإنسانية أيضا تسير في مراحل ثلاث هي نفسها مراحل النبوة، من الطفولة إلى الصبا إلى الشباب، من اليهودية إلى المسيحية إلى التنوير.
6 (8)
بل لقد استطاع الوعي الأوروبي تجاوز فلسفة الدورات الحضارية إلى فلسفة التقدم المستمر الذي لا رجعة فيه. فالدورات الحضارية في النهاية تقوم على تصور دائري للحضارات البشرية بداية وتطورا واكتمالا ونهاية حتى ولو بدأت الدورة الثانية من خطوة إلى الأمام وليس من الصفر كما هو الحال عند فيكو في التصور اللولبي الذي يجمع بين التصور الدائري والتقدم في الزمان. فالغائية عند كانط جوهر التاريخ إذ تسير الإنسانية نحو غايتها من الغريزة إلى الحس إلى العاطفية حتى تصل في النهاية إلى العقل، ولا رجعة إلى الوراء مثل الطفل تماما الذي ينتقل من مرحلة الغريزة إلى المعرفة الحسية إلى المعرفة الوجدانية ثم إلى المعرفة العقلية في النهاية. وفي كل مرحلة تكتشف الإنسانية مقومات التقدم مثل الحرية وإقامة المجتمع المدني المستنير وإقامة دستور سياسي شامل للشعوب كلها. وكان الفلاسفة قبل كانط قد ركزوا على هذا التقدم المستمر دون دورات ورجوع إلى الوراء بروح التفاؤل الخالص كما هو الحال عند فرنسيس بيكون ولاموته. فكل قرن يتضمن بالضرورة تقدما عن القرن الماضي دون خسائر ودون شيخوخة. فالتقدم نتيجة طبيعية وحتمية لتكوين العقل الإنساني. (9)
كما ظهر المستقبل كأحد مراحل تطور البشرية لم تبلغها بعد. فقد رفض فونتنل فكرة النكوص أو قانون القهقرى والعود إلى العصر الذهبي. وتصور مرحلة رابعة مستقبلية بعد الطفولة والشباب والرجولة وهي مرحلة النضج
Virility ، وفيها تبلغ الإنسانية قمة التقدم. فالتقدم لا حدود له من ناحية المستقبل. ليس للإنسان عصر قديم يرجع إليه، فالإنسانية العاقلة في تقدم مستمر. وهو تقدم حتمي ضروري بصرف النظر عن الأفراد. فلو لم يولد ديكارت لولد إنسان غيره ليقوم بنفس المهمة. والتقدم شامل لا يحدث في العلوم والمعارف وحدها بل يحدث في المجتمع والتاريخ. كما رفض خوري سان بيير تصور إنسانية منهارة من العصر الذهبي إلى العصور الفضية والبرونزية والحديدية بل إنه قلب الآية وتصور إنسانية متقدمة ناهضة من العصر الحديدي وهو عصر طفولة الإنسانية حيث كانت فقيرة جاهلة بالفنون، عصر أفريقيا وأمريكا إلى العصر البرونزي وهو عصر الأمان والقانون والفنون إلى العصر الذهبي الذي لم تقطعه أوروبا بعد. وتصور العصر الذهبي الرابع، عصر المستقبل وهو العصر الذي تحكمه الأكاديمية السياسية مع الأكاديمية العلمية. وقد ظهرت هذه المرحلة المستقبلية أيضا عند كوندرسيه (1743-1794م) إذ جعل المراحل التسع الأولى لتطور البشرية في الماضي والمرحلة العاشرة للمستقبل. فقد عاش الإنسان أولا على طبيعته الحسية ثم استأنس الحيوان واعتمد على الرعي ثم عرف الزراعة الثابتة، وبعد ذلك بدأت المرحلة الرابعة؛ المرحلة اليونانية وازدهار العلوم والفنون ثم المرحلة الرومانية ثم مرحلة العصور الوسطى من سقوط روما حتى الحروب الصليبية. ثم تأتي المرحلة السابعة منذ الحروب الصليبية حتى اختراع المطبعة ثم من اختراع المطبعة حتى ديكارت ثم من ديكارت حتى الثورة الفرنسية وهي المرحلة التاسعة. أما المرحلة العاشرة فهي مرحلة المستقبل، وهو العصر الذهبي الذي لم تبلغه الإنسانية بعد ولكن الإنسان قادر على التنبؤ به باستقرائه للعلوم الطبيعية والاجتماعية. وتتحقق في هذا العصر أمور ثلاث؛ المساواة بين الأمم وزوال الفوارق بين الشعوب وتساوي الجميع في الحقوق والواجبات، والمساواة داخل كل أمة وزوال الفوارق بين الطبقات، وارتقاء الإنسان في ذاته وزوال تشتته وتحقيق وحدته. كما تصور ماركس المرحلة الخامسة في تصوره لتطور البشرية من مرحلة الصيد والقنص وقطف الثمار والرعي إلى مرحلة الزراعة إلى مرحلة الإقطاع إلى مرحلة الرأسمالية، وجعل مرحلة الشيوعية التي ستبلغها الإنسانية في المستقبل.
كما ظهرت فلسفات آخر الزمان وعقائد آخر الزمان ونظريات الخلاص التي تتصور الإنسانية في المستقبل. فقد كتب فولني
Volney (1757-1875م) رواية «الأطلال» يتصور فيها البشرية وقد حكمتها نظم الطبيعة الأبدية وقوانينها مثل حب الذات والرغبة في السعادة وكراهية الألم، وتقرير الإنسان لمصيره وثقته بقدراته وتطلعه إلى عالم أفضل. كما كتب ستيف دي لابريتون (1757-1820م) رواية سماها «سنة 2000» يتنبأ فيها بمستقبل الإنسانية. كما ألف سباستيان مرسييه (1740-1825م) كتابه «سنة 2440» متصورا الأمم وحدة واحدة لا حرب بينها، ويصف مستقبل العالم متأثرا بليبنتز في أن الحاضر حامل للمستقبل؛ وبالتالي فإن مستقبل الإنسانية تطور طبيعي لحاضرها. وكان قد بدأ بكتابه «المتوحش» واضعا مقياس الأخلاقية في قلب الإنسان البدائي ثم رأى المستقبل البعيد حيث لا حرب ولا رق ولا ربا ولا سجون ولا مهور. يعيش الإنسان حياة بسيطة صحية يتذوق الفنون من كل حضارة، يعمل ولا يترهب، ويتربى على مبادئ روسو. (10)
كما ظهر أيضا الفكر الطوباوي الذي يحدد فيه الأفراد والمجتمعات رؤيتهم لبشرية جديدة ستأتي في المستقبل كرد فعل على مآسي الحاضر؛ فالفكر الطوباوي رفض للواقع ورؤية للمستقبل على مستوى التمني والآمال وإن لم يكن على مستوى التحقيق والتخطيط؛ فاليوتوبيا تدل على السلب والرفض. فقد كتب مور (1478-1535م) يوتوبيا، وكتب فرنسيس بيكون «أطلانطا الجديدة»، مدينة يترأسها العلماء كما ترأس الفلاسفة جمهورية أفلاطون. وكتب كامبانيللا (1568-1639م) ونظرا لغياب المستقبل كبعد «مدينة الشمس» وهارنجتون «أوسيانا». بل إن الحالة الطبيعية التي وصفها روسو، والجماعة الاشتراكية التي تعيش وفقا للطبيعة التي وضعها مورلي
Morelly
حيث لا ملكية ولا ظلم ولا طغيان، والاشتراكية الطوباوية في القرن الثامن عشر والتاسع عشر كلها رؤى لمستقبل البشرية تكمن وراء تحويل المستقبل إلى علم كمي حسابي مضبوط دون حركة الشعوب ودون التاريخ.
7
رابعا: حيرة الحاضر في وجداننا القومي، في أي مرحلة من
التاريخ نحن نعيش؟
ونظرا لغياب المستقبل كبعد أصلي في تراثنا القديم وفي وجداننا المعاصر واتجاهنا نحو الماضي في تراثنا القديم وانطباع ذلك الغياب في وجداننا المعاصر حوصر الحاضر بين الماضي والمستقبل ولم يعد له وجود مستقل؛ فهو إما رجوع إلى الماضي أو دنو إلى المستقبل ولكنه لا وجود له بذاته. وأصبحت اتجاهاتنا الفكرية والسياسية إما رجوعا إلى الماضي كما هو الحال في الحركة السلفية وفي الفكر الديني التقليدي الذي تمثله الأشعرية أو قفز إلى المستقبل كما هو الحال في الحركة التقدمية وفي الفكر العلماني التقليدي الذي تمثل الماركسية أحد روافده؛ وبالتالي غاب الحاضر في كليهما، وحوصر بين الماضي والمستقبل. والحقيقة أن كليهما يخضع لمنهج واحد وهو النقل؛ إما النقل عن القديم المتمثل في تراثنا القديم أو النقل عن الجديد المتمثل في تراث الغرب؛ ومن ثم ساد النقل في حياتنا سواء كان نقلا مباشرا من القديم أو نقلا عقلانيا من الجديد. وإذا كان الحاضر هو الواقع، وغاب الحاضر، غاب الواقع أيضا. فأصبحنا معلقين في الهواء بلا زمان وفي الفضاء بلا مكان؛ لذلك لم نعد نعلم في أي مرحلة من التاريخ نحن نعيش؟ بقينا خارج مسار التاريخ، ولم نعرف منه إلا الماضي العتيد أو المستقبل البعيد؛ الأول مضى وانقضى إلى غير رجعة والثاني لن يتحقق في جيلنا؛ وبالتالي أسقطنا من الحساب ما هو ممكن التحقيق في الزمان وفي جيلنا وفي عصرنا. ونظرا لغياب الحاضر والمستقبل القريب جاءت حيرتنا أمامه: في أي لحظة من التاريخ نحن نعيش؟ ومن هنا جاء التخبط في التخطيط، والعشوائية في القرارات، والتضارب في القوانين، والعزلة عن الواقع، والنقل فوقه من كل اتجاه ومذهب بلا نهاية لمحاولات التجربة والخطأ بلا تعلم من التجارب، ومن غير اعتراف بالحقائق، ودون وعي بدروس التاريخ وعبر الأمم.
ولما كان الاتجاه نحو المستقبل لا يبدأ إلا من الحاضر، وكان المستقبل خطة شاملة ذات مراحل يتم الانتقال فيها فإن السؤال يكون: في أي مرحلة من التاريخ نحن نعيش؟ ما هي اللحظة الحاضرة التي يعيشها جيلنا؟ ما هي مهمة هذا الجيل بالنسبة للجيل الماضي والجيل القادم؟ ما هو الدور الذي يقوم به جيلنا حتى لا يقوم بأدوار أجيال مضت أو بأدوار أجيال قادمة؟ وطبقا لتجارب الأجيال الحاضرة، وتمهيدا للمرحلة التاريخية التي نمر بها الآن فإنه يمكن رصد المهام الآتية التي تم تشخيصها وتحديدها من مفكرينا ومصلحينا وعلمائنا إبان نهضتنا الحديثة التي شارفت على المائتي عام:
1 (1)
هل نحن جيل الإحياء نعيش عصر الإحياء ونقوم بدور الإحياء؟ في حقيقة الأمر لقد مررنا بعصر الإحياء، وهو معروف في أدبنا الحديث بهذا الاسم ممثلا في البارودي أولا ثم في شوقي في «نهج البردة». وكان القصد منه إحياء الآداب القديمة والنسج على منوال القصيدة العربية، وإحياء المعارك العربية القديمة. وما زلنا نقوم بذلك حتى الآن، نطبع المعلقات السبع ونشرحها ونتناقش في صحتها وانتحالها، ونعيد النظر في المناقضات بين جرير والفرزدق، ونهاجم الأدباء الشبان الذين خرجوا على القصيدة العمودية، وندعو إلى أدب القدماء حتى انتصر القدماء على المحدثين، واستولوا على أعنة الأدب فهاجر المحدثون إلى الخارج أو إلى الداخل ريثما يوافي القدماء الأجل؛ وبالتالي لم ينشأ الاتجاه نحو المستقبل في حاضرنا نظرا لسيطرة القدماء على المحدثين، وامتداد الماضي على الحاضر والمستقبل. لقد استطاع الإحياء ولا شك بعث الماضي، وبث العزة القومية في لحظات الضعف والهوان أمام الاستعمار والاحتلال، تجاوزا لمظاهر التخلف والانهيار الحضاري وباعثا للنهضة الحديثة. كما استطاع ربط الحاضر بالماضي عن طريق الأدب خاصة في الشعر، وتحقيق التواصل الحضاري، وتثبيت الهوية القومية في اللغة والأدب، وتحقيق التجانس في الزمان عبر التاريخ. كما استطاع شعراء الإحياء تأسيس إبداع الحاضر على إبداع الماضي، والتعبير عن تجارب العصر في قوالب الماضي كما هو الحال في شعر البارودي وشوقي وحافظ على اختلاف النسبة بينهم بين الماضي والحاضر إذ إنه أقرب إلى الماضي عند شوقي وأقرب إلى الحاضر عند حافظ ووسط بين الاثنين عند البارودي. وأخيرا استطاع شعراء الإحياء المساهمة في الحركة الوطنية، سواء في الثورة العرابية كما هو الحال عند البارودي أو في الثورة الوطنية كما هو الحال عند حافظ، ومن ثم أصبح الشعر منبرا للروح الوطنية ومعبرا لها. ومع ذلك فقد اقتصر الإحياء على الأدب عامة والشعر خاصة دون باقي مظاهر الإبداع الحضاري في الفلسفة والعلم. فسبق الشعر وتأخرت الفلسفة. ولم يحدث حتى الآن إبداع ذو شأن في العلم. كما استمرت فترة الإحياء مدة أطول مما ينبغي بل إنها لم تنته حتى الآن. فما زلنا ندعو إلى إحياء التراث، نشرا وتحقيقا وبعثا وقراءة، ونجد فيه أنفسنا وهو بيننا. يدل على ذلك رواج كتب التراث دون غيرها. كما أن الإحياء في حد ذاته أقرب إلى القديم منه إلى الجديد بدليل ثورة الأدباء الشبان على شعراء الإحياء بالرغم من إبداعهم وقدراتهم الشعرية، ووجود صور أدبية جديدة ليست عند القدماء مثل المسرحية والرواية. وما زالت تصور دعوات الإحياء وكأنها فيها خلاصنا من مآسينا الحاضرة وتظهر مجلات الإحياء وصحف الإحياء. بل إن هذه الدعوة بالرغم من حدودها ما زال واقعنا التقليدي بنزوعه نحو الماضي وباستخدام الأنظمة السياسية لهذا النزوع تدعيما لها، فإنها ما زالت تمثل خطرا على الأنظمة السياسية. فإذا ما كانت الأنظمة القائمة نسبة الحاضر فيها أكثر من الماضي، والدعوة إلى الجديد أقوى من الدعوة إلى القديم، وأنصار المحدثين فيها أكثر من أنصار القدماء أصبحت مهددة بدعوى الإحياء الذي يكون في هذه الحالة ردة إلى الماضي ودعوة إلى القديم. وإذا كانت الأنظمة القائمة نسبة الماضي فيها أكثر من الحاضر والدعوة إلى القديم فيها أقوى من الدعوة إلى الجديد وأنصار القدماء فيها أكثر من أنصار المحدثين استغلت الإحياء واستعملته تدعيما للنظام ضد دعاة الجديد، وأصبحت دعوة الإحياء نفسها دعوة للرجعية والتخلف. وفي حقيقة الأمر لقد تجاوز جيلنا عصر الإحياء، ولم يعد إحياء الآداب القديمة يحتل بالنسبة له تلبية لكل حاجاته وتحقيقا لكل مطالبه في العقلانية والعلمية والثورة. بل إن مكتسبات الإحياء ذاتها مثل تذوق القديم قد افتقدناها فأصبح الشبان اليوم لا يتذوقون القديم ويقلدون الجديد؛ ومن ثم انتهى الإحياء إلى قطيعة في جيلنا واقتصر بعث القديم على النشر والتحقيق والطبع دون تذوق أو فهم أو تطوير.
2 (2)
هل نحن جيل الإصلاح، نعيش في عصر الإصلاح ونقوم بدور الإصلاح؟ وهي المرحلة التي اشتهرت في حياتنا المعاصرة باسم الإصلاح الديني والتي نتحدث عنها دائما والتي نربط أنفسنا بها باستمرار إذا ما أعيتنا الحيل، وتخبطت بنا السبل، وأرادت الأنظمة السياسية أن تجد لها شرعية تاريخية من الماضي أو تحديثية من الحاضر خاصة أن البعض منها كون رصيدا له في جيلنا من مناهضة الاستعمار والاحتلال وتحقيق الاستقلال الوطني للبلاد، لكن الإصلاح ما زال حركة نسبية على مستوى العقائد وعلى مستوى الممارسة في سلوك الأفراد وفي النظم الاجتماعية والسياسية تجاوزها واقعنا بمراحل وهو الذي في حاجة إلى إحكام نظري وإلى عمل ثوري جذري. فالإصلاح يدعو إلى ملكية مقيدة أو ملكية دستورية أو نظام المستبد العادل في إطار النظم القائمة، وإلى العدالة الاجتماعية في إطار توزيع الدخل القائم على أساس أخلاقي ديني. كما سادته بعض الجوانب التقليدية المحافظة في العقائد مثل الهجوم على النزعة المادية في «الرد على الدهريين»، في حين أن المنطق الإسلامي، كما بدا في علم أصول الفقه، منطق مادي يبحث عن العلل المادية الفاعلة والمؤثرة في السلوك الفردي والاجتماعي، ويقوم على الدفاع عن مصالح الأمة. لم يحدث تفسير ثوري للعقائد يتفق مع متطلبات العصر مما جعل المصلحين يبدءون ثوارا وينتهون مرتدين كما هو الحال مع محمد عبده والثورة العرابية. لم تتحول الشريعة إلى أيديولوجية سياسية شاملة، وغلبت العبادات على المعاملات، والواجبات على الحقوق. كما سادت الحركة بعض الجوانب الصوفية كما هو الحال عند إقبال في «تجديد التفكير الديني في الإسلام» وعند محمد عبده في «رسالة الواردات»؛ وبالتالي لم يتم التغلب على التصوف كأحد مظاهر التخلف الاجتماعي في حياتنا المعاصرة. لم يستقل العقل كلية بل كان عمله محدودا في نطاق العقليات، ولكنه في الشرعيات ما زال في حاجة إلى وصي وهو النبي مما جعلنا ما زلنا ندعو للعقلانية واستقلال العقل. ونظرا لحدود حركة الإصلاح وتجاوز واقعنا لها، فإن مكتسبات الإصلاح ذاتها التي بدت للجيل الماضي قد ضاعت في هذا الجيل، وتسربت منجزاته من بين أيدينا، وانهارت تحت أقدامنا، واختفت نداءاته من وعينا فعدنا إلى مرحلة ما قبل الإصلاح وعيا وواقعا. انتهت العقلانية المحدودة التي كانت في العدل دون التوحيد، وتحولت إلى صوفية إلهامية. وساد التصوف على الأشعرية بعد أن ازدوجا في وعينا القومي منذ ألف عام منذ هجوم الغزالي على العلوم العقلية في القرن الخامس الهجري. وانتهى التجديد النسبي إلى محافظة وتقليدية، وسادت روح المحافظة كتيار أساسي وجذري في التاريخ على روح المعاصرة التي تعبر عن متطلبات جيل واحد. وخمدت الروح الثورية لمناهضة الاستعمار والتسلط وتحولت إلى نقيضها من موالاة للاستعمار وقبول لمظاهر الطغيان. وتفتتت الأمة وقضي على الوحدة الشاملة ابتداء من وحدة مصر والسودان، وحدة وادي النيل ، أو وحدة مصر والشام، أو وحدة المغرب العربي أو وحدة الأمة العربية أو الجامعة الإسلامية أو الجامعة الشرقية، وحلت محلها الروابط والمؤتمرات والجامعات الشكلية بل ومصالح المتجرين بالدعوات. توقفت الدعوة إلى العلم وسادت الخرافة وأعطيت الأولوية المطلقة للإيمان على العلم. وانتهت الدعوة إلى القوة والصناعة، وتحولت إلى الاعتماد على الغير واستيراد المصنوعات، وتوارت الصناعات الوطنية، وخبا من وعينا الاستقلال الوطني وعدم الانحياز للشرق أو للغرب، وقبلنا الدخول في سياسة الأحلاف ومناطق النفوذ والمعسكرات والتكتلات. فنحن إذن جيل الإصلاح الذي لم يتم، نشاهد نهاية الإصلاح وانقلابه إلى الضد مما يجعلنا في حاجة إلى إصلاح أكثر جذرية وشمولا وعمقا وتأثيرا، يبقى ويدوم، ويتأصل في نفوس الجماهير، وتحميه بسواعدها، يرضي جماهير المثقفين، ويشبع فيهم الطموح النظري، ويكون قادرا على تحدي الأيديولوجيات المعاصرة بإحكامه النظري وتأصيله التاريخي، وقدرته على تلبية مطالب العصر، والاستجابة لحاجاته، والتأثير في الناس، وتجنيدهم له. لقد تجاوزنا جيل الإصلاح حتى قبل أن ينتهي، هذا الجيل الذي تركناه وراءنا بأربعة أجيال.
3 (3)
هل نحن جيل النهضة، نعيش عصر النهضة، ونقوم بدور النهضة؟ لقد ظهر هذا المفهوم في حياتنا منذ رفاعة رافع الطهطاوي وتأسيسه لحركة النهضة الحديثة وبناء الدولة العصرية كما وضح ذلك في «مناهج الألباب المصرية في مباهج الآداب العصرية». وقد استطاعت النهضة ولا شك إرساء قواعد الإصلاح الشامل في السياسة والاقتصاد والاجتماع والقانون. كما استطاعت أن تبني الدولة الحديثة صناعة وزراعة وتجارة، وأن تكون لها الكادر الفني المؤهل لها، وأن تستمر هذه الدولة حتى جيلنا. كما قامت على الولاء الوطني وإذكاء الروح الوطنية وتربية المواطنين على أن «حب الوطن من الإيمان»، لا فرق في ذلك بين البنين والبنات. كما قامت على الحرية والعدل والمساواة وانتشار هذه الأفكار مما سبب قيام حركة تنوير حديثة. ومع ذلك ظلت هذه الحركة نسبية في حياتنا دون أن تحدث أثرا فعالا مستمرا. ظلت في نطاق المثقفين، ولم تتحول إلى حركة جماهيرية عامة، وظلت قاصرة على أيديولوجية الصفوة. ظلت في إطار الدولة القائمة التي استفادت منها ولكنها سرعان ما انقلبت عليها دفاعا عن الحاكم الذي استبد. ظلت أشعرية في تصورها للعالم، ولم تستطع تأصيل نهضتها من خلال التنوير القديم الذي مثله الاعتزال، وكانت في كثير من الأحيان وعلى ما يبدو أثرا من آثار الغرب بوجه عام والثورة الفرنسية بوجه خاص؛ لذلك سرعان ما انتهت من حياتنا، وخبت من وجداننا القومي، حتى إن إيجابياتها ومكتسباتها وإنجازاتها قد تحولت إلى نقائضها. فقد تحولت النخبة المثقفة إما إلى طبقة حاكمة تركت الثقافة إلى الحكم، وتحولت إلى طبقة من الفنيين أو إلى مجموعات منعزلة لا أثر لها في الحكم، تعيش من الثقافة على هامش الدولة. ونادرا ما وجد المثقف المؤثر الذي سرعان ما يصطدم بالنظام وينتهي إما بالاستشهاد أو الهجرة إلى الداخل أو الهجرة إلى الخارج. انتهت النهضة الشاملة، وحدث انفصام بين التحديث والنهضة، وكلما زاد التحديث الخارجي قويت المحافظة الداخلية نظرا للجذور التقليدية التي تكمن وراء النهضة. كما انتهت الدولة الحديثة وتحولت إلى دولة تقوم على حكم الفرد، وحكومة العسكر، سوقا للأسواق العالمية، ومنحازة للغرب، تستجدي السلاح بعد أن كانت تصنعه، وتستورد التحديث بعد أن كانت من رواده. كما ضاع الولاء للوطن وحل محله الولاء للأجنبي. وانتهت مثل الحرية والعدالة والمساواة، وانقلبت إلى نقائضها مثل التسلط والظلم والتفاوت الطبقي. وظلت النهضة حاليا مجرد أمل يحدو البعض، وكلمة ترددها الألسن، وأصبح أقصى آمالنا أن نلحق بنهضة الأجيال السابقة مع أن واقعنا قد تجاوزها بمراحل بعد ضياع الأرض والثروات ويأس الجماهير وخوفها وضياع كرامة الفرد وإنسانيته.
4 (4)
هل نحن جيل العقلانية، نعيش عصر العقلانية، ونقوم بدور العقلانية؟ تتمثل الدعوة العقلانية في كل التيارات الفكرية الحديثة في حياتنا المعاصرة. فهي القاسم المشترك بين الإصلاح الديني والفكر العلماني والتيار الليبرالي. أحيانا يكون العقل مرتبطا بالدين، وتكون العقلانية فهما مستنيرا للدين، وتكون فيه الأولوية للعقل على النقل. وقد يضم العقل إلى الوجدان فيكون مثالية وجدانية مثل «الجوانية» تطويرا للإيمان الديني. وقد يرتبط العقل بالحس والمشاهدة والاستدلال والاستنباط والاستقراء والبحث عن العلل، فهو أساس التفكير العلمي. وقد يتوجه نحو التجربة الإنسانية فيكون دعوة إلى التأمل والتفكير وتحليل التجارب البشرية لمعرفة ماهياتها والواقع من خلالها. وما زالت الدعوة قائمة فينا حتى اليوم لإقامة مجتمع عقلاني، وتأسيس حياتنا العامة على العقلانية. وبالرغم من صحة الدعوة وصدقها على مستوى النظر إلا أنها أصبحت شماعة سهلة لتعليق كل أخطاء العصر على غيابها، ومفتاحا سحريا يحل كل أزمات العصر حتى تحولت إلى مجرد كلمة تتناقلها الألسن، وتتراشق بها الأفواه. دخلت في أجهزة الإعلام، وتحولت إلى شعارات فلسفية واجتماعية، ومقالات صحفية حتى فقدت أي أثر لها، وتحولت إلى تجارة ودعاية مثل كل الدعوات الحديثة. كما أنها اقتصرت على التوجيه العام دون أن تتحول إلى برامج تفصيلية وتخطيط لمظاهر الحياة العامة على أساس عقلاني. فماذا يعني الاقتصاد العقلاني؟ والسياسة العقلانية؟ والاجتماع العقلاني؟ والقانون العقلاني؟ والفن العقلاني؟ ولم تخل الدعوة من بعض تقليد للغرب دون أن تكون تأصيلا لعقلانية التراث وتطويرا لها. والعقلانية في نهاية الأمر ابتسار للنهضة لأن العقلانية أحد مظاهر النهضة، والنهضة أوسع منها وأشمل، ولا يمكن رد الكل إلى الجزء. ومع ذلك فقد ضاعت منا مآثر العقلانية ومنجزاتها في حياتنا الفكرية والسياسية. وتحولنا إلى الإشراقية والإلهامية والكشفية والمعارف اللدنية. وتحولنا من عقلاء إلى دراويش، ومن علماء إلى أولياء، ومن طلاب وأساتذة إلى مريدين ومشايح. وما زالت الدعوة قائمة تتكرر كل يوم ولا تؤدي إلى شيء. والعقل المبتسر من الواقع الحسي والنقد الاجتماعي والتغيير الفعلي والثورة الشعبية فإنه عقل فارغ صوري يؤدي إلى الهروب أكثر مما يؤدي إلى الاقتحام. إن مهمة جيلنا قد تجاوزت الدعوة إلى العقل والعقلانية نظرا لضرورة توجيه العقل إلى الماضي في نقد الموروث وإلى الحاضر في نقد المجتمع وإلى المستقبل في الإعداد للثورة.
5 (5)
هل نحن جيل التنوير، نعيش عصر التنوير، ونقوم بدور التنوير؟ والتنوير هو العمل الشامل للعقل، وامتداده في شتى نواحي الحياة، وأثر من آثار العقل، وأحد نتائجه، وتطبيق لمبادئه، وتوسيع لدائرة نشاطه، وتحقيق لمنجزاته. وقد كانت الدعوة إلى التنوير مواكبة للدعوة إلى العقل وأحد مظاهرها. وقد اشتدت بعد الهزائم العربية الأخيرة، وكثر الداعون لها بل ونشأت حركة تنوير فعلية عامة تضم كافة الاتجاهات الفكرية والوطنية في تاريخنا الحديث. وبالرغم من أهمية الدعوة وجدواها، والخروج بالعقل من المنهجية العلمية إلى الحياة العامة إلا أنها محدودة الأثر، مغلقة الحدود، تتمثلها مجموعة من الأفراد، وليست تيارا حضاريا عاما يعبر عن روح العصر أو حركة جماهيرية شعبية تحدد مسار التاريخ. هي رد فعل على هزائم العصر أكثر منها فعلا إراديا فرديا وجماعيا خاصة بعد هزيمة أيديولوجيات التقدم؛ الماركسية والناصرية والقومية التي سادت جيلنا وإحساسها بنقصها في عدم العقل والحرية. هي دعوة مجتثة الجذور عن الجماهير خاصة وأن كثيرا من دوائرها تتركز خارج العالم العربي في الغرب، حيث يسهل الدعوة إلى التنوير في العالم الثالث. ففي الغرب تكون الحرية وتتمركز جماعات الحرية حتى لقد اتهمت بتأييد الغرب لها إذ رآها الغرب بديلا وحليفا. هذا بالإضافة إلى غياب برامج مفصلة. ماذا يعني التنوير في الاقتصاد والسياسة والاجتماع، وكأنها مجرد دعوة ثقافية إصلاحية عامة؟ لم تتأصل الدعوة في تراثنا الاعتزالي الذي كان يقوم بمهمة التنوير في مواجهة الأشعرية التقليدية المحافظة. ومع ذلك فالدعوة إلى التنوير الشامل وإطلاق العقل من عقاله وتسليط نوره على النظم السياسية والاجتماعية والعادات والعرف والتقاليد والعقائد الموروثة، مرحلة تاريخية يمر بها كل مجتمع يتجه من التقليد إلى التحرر؛ فهي تجعل العقل والبرهان معيار الصدق، وتواجه الرأي بالرأي، ولا تواجه الرأي بالسيف، والفكرة بالمقصلة، والدليل بالاعتقال، والبرهان بالتعذيب. تحترم الآراء الأخرى، وتدافع عن حريات الآخرين. فحرية الفكر قيمة في ذاتها، أحد حقوق الإنسان. لا بد من تحول التنوير إلى نظرة إلى الحياة اليومية، ونظرة تقدمية إلى الأوضاع الاجتماعية حتى يتحول بعد ذلك إلى ثورة فعلية. ومع ذلك ضاعت منجزات التنوير النسبية، ووقع جيلنا في التعتيم والإظلام، فلا يحتكم إلى العقل، وتسيطر على حياته الإرادة المشخصة للحكام أو العرف والعادات والتقاليد. وتظهر المحافظة التقليدية كوريث وحيد للتاريخ. وقد تجاوز جيلنا التنوير كحركة ثقافية إلى التنوير كحركة اجتماعية نقدية تمهد للثورة وترسي قواعدها ، وتهيئ ظروفها، وتضع شروطها. فالتنوير في هذه الحالة يكون وعيا اجتماعيا لحركة التاريخ.
6 (6)
هل نحن جيل العلم، يعيش عصر العلم، ويقوم بدور العلم؟ كانت الدعوة إلى العلم مثل الدعوة إلى العقل والتنوير قاسما مشتركا بين الاتجاهات الرئيسية الثلاثة في حياتنا المعاصرة. وكان العلم هو العلم الطبيعي الذي قدم إنجازات رائعة في الغرب في اكتشافه قوانين الطبيعة والسيطرة عليها والتنبؤ بحوادثها. كان العلم في الإصلاح الديني نسقا للعقل، وتصورا للطبيعة، وتحكما في قوانينها وتسخيرها لصالح الإنسان. وكان في التيار العلماني العلم الطبيعي المادي خاصة علوم الحياة ونظرية النشوء والارتقاء. وكان في الفكر الوطني القومي العلم الاجتماعي الذي يدرس الحياة الاجتماعية والسياسية. ومنذ أكثر من أربعة أجيال، منذ رؤية علماء الأزهر للتجارب العلمية التي أجراها علماء الثورة الفرنسية في حملة نابليون على مصر، والدعوة ما زالت قائمة، ولم تتحول مجتمعاتنا إلى مجتمعات علمية، ولم يحدث لدينا أي تصور علمي للعالم باستثناء لحظات فريدة في تاريخنا مثل حرب أكتوبر، ودفعا لعار الهزيمة. وما زالت الدعوة مجتثة الجذور لا صلة لها بتصور العلم في تراثنا القديم وتعبيره عن التوحيد كشرط لحصول تصور علمي للطبيعة. هي دعوة مقلدة للغرب بعد انتصارات العلم الطبيعي في القرن الماضي ودون معرفة بأزمة العلم في هذا القرن. كما أنها تخلط بين العلم كقانون طبيعي أو كاكتشاف علمي وبين التصور العلمي للعالم واستعماله المنهج العلمي، فقد يحدث تطبيق لمنجزات العلم في مجتمع تسوده الخرافة ولا يتحول المجتمع بذلك من مجتمع خرافي إلى مجتمع علمي. بل إنه قد ينظر إلى العلم على أنه خرافة أو سحر قادر على فعل المعجزات. والعلم لا ينشأ في فراغ بل هو حركة نضال طويل محفوف بالمخاطر ضد السلطة؛ سلطة رجال الدين وسلطة العقائد الموروثة بل والسلطة السياسية في نظم التسلط والطغيان. وغالبا ما يقوم بهذه الدعوة العلمانيون المسيحيون حيث يصعب عليهم الدعوة إلى الإصلاح الديني، ويسهل عليهم الاقتباس من الغرب المسيحي الذي ينتمون إليه بالولاء، مما جعل الدعوة محدودة الأثر، تصطدم بتراث الأمة، وتهددها بنزع هويتها واستلابها لصالح الغرب. ومع ذلك لم تستمر هذه الدعوة طويلا. فسرعان ما اقترن بها الإيمان في جيلنا؛ وبالتالي الوقوع في ازدواجية المعرفة: «العلم والإيمان». والإيمان أصيل والعلم أجنبي مما يجعل الدعوة إلى الأصالة تشجب العلم وتنفر منه. فقل الجانب العلمي في حياتنا، وازداد الجانب الإيماني. وتصورنا العلم مفتاحا سحريا نهزم به الأعداء، ونعمر به الصحراء، ونحل به المشاكل المستعصية. وأصبح غياب العلم شماعة نعلق عليها جميع الأخطاء. ثم تحول العلم إلى أسطورة خاصة بإنجازاته في التكنولوجيا الحديثة في مجتمع لم يتم فيه بعد القضاء على الأساطير حتى أصبح شعار «العلم والتكنولوجيا» أضحوكة يتندر بها الناس. إن مهمة جيلنا هو الإعداد للعلم والتمهيد له وذلك بإحكام عمل العقل وتوجيهه نحو الطبيعة واكتشاف الصلة الضرورية بين العلة والمعلول، وتصوير عالم يحكمه القانون.
7 (7)
هل نحن جيل التصنيع، نعيش عصر الصناعة، ومهمتنا تحويل مجتمعاتنا الزراعية إلى مجتمعات صناعية؟ فقد اقترنت دعوة العلم بدعوة أخرى للتصنيع أي لمنجزات العلم وآثاره. فالتصنيع هو القادر على تحديث المجتمعات والانتقال بها من عقلية الريف إلى عقلية الحضر، من حضارة الزراعة إلى حضارة الصناعة؛ وبالتالي ترك القدرية إلى الفعل الحر، والسكون إلى الحركة، والخلود إلى الزمان. فالمجتمع الصناعي يفرض قيمه، ويفرز ثقافته، وإن كل دعوات الإحياء والإصلاح والنهضة والعقل والتنوير والعلم لهي دعوات مثالية فوقية لا تحدث أي أثر في الواقع. وإن كان لهذه الدعوة ما يبررها حتى يتحول المجتمع من مجتمع زراعي إلى مجتمع صناعي لزيادة الدخل القومي واكتساب عادات جديدة إلا أنها محددة الأفق تقوم على تقليد الغرب الصناعي، وما حدث في المجتمع الغربي في القرن الماضي. كما أنها تقوم على افتراض خاطئ في علم الاجتماع الغربي وهو أن قيم الريف أقل شأنا وتطورا من قيم الحضر، وأن التطور الطبيعي للمجتمعات ومسار تقدمها هو الانتقال من الأولى للثانية. فالقيم الزراعية لا تعبر بالضرورة عن التخلف. وهناك مجتمعات زراعية متقدمة مثل المجتمعات الصينية والمصرية القديمة ونهضة فيتنام والصين الحالية، وثورات الفلاحين في أمريكا اللاتينية. كما أن القيم الصناعية لا تعني التقدم بالضرورة. فبالإضافة إلى قيم الزمان والوقت والإيقاع والضبط والدقة والعمل والإنتاج والوفرة هناك أيضا قيم الآلة وضياع الإنسان وفقدان الترابط الاجتماعي والاستهلاك والاستغلال والاحتكار وكل مظاهر الفساد والرشوة والتهرب من الضرائب والمنافسة والقتل والاغتيال. كما أن تحول المجتمع من نمط الإنتاج الزراعي إلى نمط الإنتاج الصناعي لا يؤدي بالضرورة إلى تغير في نسق القيم، فقد يتم التصنيع بعقلية الزراعة، وقد تقام الزراعة بعقلية الصناعة. ومع ذلك وبعد محاولة التصنيع الأخيرة لمجتمعاتنا ضاعت منجزاتها ولم تستمر مكاسبها؛ فقد أخذ العمال حقوقهم دون نضال كاف، كهبة من الدولة، ودون وعي عمالي، ودون تصور للعمل الدقيق. كما تمت إدارة المصانع بالعقلية البيروقراطية وليس بعقلية التصنيع والاكتفاء الذاتي وسرعة المبادرة. وأحيانا يسوء الإنتاج نظرا لغياب قيم الصناعة مثل الدقة والضبط. إذ قامت الصناعة على القيم التقليدية والعادات الموروثة مثل الإهمال والتكاسل والتهرب والاحتيال والنهب والسلب وحرق المخازن وسرقة المواد الخام. ولما كان التصنيع قرارا من السلطة السياسية وليس تطورا طبيعيا للمجتمع سرعان ما ضاعت الصناعات الوطنية أو توقفت، عاد الاستيراد من المنتجات الأجنبية فتوقف التصنيع. إن جيلنا هو الجيل الممهد للصناعة الوطنية وذلك بتنمية روح الانتماء للوطن، وببث التصور العلمي للعالم، وبالوعي بالطبيعة والأرض والاستثمار، وبالعمل المنتج. فلا صناعة بدون شروطها في الوعي القومي.
8 (8)
هل نحن جيل التغير الاجتماعي، نعيش عصر التغيير الاجتماعي؛ وبالتالي يكون دورنا هو المساهمة في صياغة عمليات التغير وتحقيقها؟ وهي آخر الدعوات التي قام بها جيلنا والتي قام بتحقيقها بالفعل والمساهمة فيها. وقد سادت حياتنا في الثلث قرن الأخير لإحداث تغيرات هيكلية في مجتمعاتنا، وبث أفكار جديدة تعبر عن واقعنا وتحقق مصالح غالبية الأمة؛ لذلك يعتبر البعض منا نفسه جيل التحولات الاجتماعية وأحيانا جيل الثورة. ففي هذا الجيل تم القضاء على الملكية والاستعمار والفساد، كما تم تحقيق الاستقلال الوطني للبلاد ومناصرة جميع قضايا التحرر العربي والإفريقي والعالمي. وصدرت قوانين الإصلاح الزراعي والتأميم لتحقيق أكبر قدر ممكن من العدالة الاجتماعية ووضع حد لنهاية الإقطاع ورأس المال، وتذويب الفوارق بين الطبقات. كما بعثت الروح القومية وتمت أول محاولات الوحدة العربية، وأنشئت حركات عدم الانحياز، وتم اكتشاف الدوائر الحضارية الجديدة للشعوب المستقلة مثل باندونج. كما تم تصنيع البلاد، وتحولت من الإنتاج الزراعي إلى الإنتاج الصناعي. وتأسس القطاع العام، وسيطر الشعب على وسائل الإنتاج. ومع ذلك فقد كانت المخاسر كبيرة. فقد حدثت تغيرات هيكلية في بناء المجتمعات دون أن توازيها تغيرات جوهرية في الأبنية الفوقية، أي المقولات والتصورات والمفاهيم والأبنية النفسية وأنساق القيم. فسرعان ما حدثت الانتكاسات والردة بغيات القيادة السياسية الثورية، وسيادة المفاهيم التقليدية التي تضرب بجذورها في التاريخ. ولقد تم استعمال هذه المحافظة التقليدية لتدعيم النظام الجديد وإيقاف التحولات الاجتماعية والهجوم على المعارضة السياسية التي تبغي مزيدا من التقدم ومزيدا من التأصيل. كان الفكر الحامل لهذه التغيرات الاجتماعية شعارات سطحية خطابية مجتثة الجذور عن ثقافة الشعب، وبينها وبين الواقع مسافة شاسعة جعلتها صعبة التصديق. كما غابت حرية الرأي والمعارضة، واصطدمت الشعارات الجديدة بالتيارات الأصيلة الدينية والعلمانية في المجتمع. وتشخصت الزعامة، وغابت المؤسسات، وتهرأت التنظيمات الشعبية. صحيح أن بعض الأفراد كان على مستوى الثورية ولكن الكوادر ونظم الدولة كانت محافظة مما أدى إلى نهاية التجربة بنهاية الأفراد. بل إن هذه المكتسبات الأولى قد ضاعت، فضاع الاستقلال الوطني للبلاد، ووقعت في التبعية، وتحالفت مع القوى الاستعمارية، وقام الحكام بدور الملوك والأباطرة الجدد، واستشرى الفساد في الحزب الحاكم دون معارضة أو نقد، وزادت الفروق بين الطبقات، واحتجبت مصر عن الوطن العربي، وتقطعت أوصاله، وانتهى التصنيع، وبدأ الاستيراد. كان يمكن لجيلنا أن يكون جيل التحولات الاجتماعية لولا عزلته وعدم مشاركته وحسرته وألمه وأحزانه وضياعه وبكاؤه على الماضي وضياع حريته.
9 (9)
هل نحن جيل الثورة الشاملة، نعيش عصر الثورة، ومهمتنا ممارسة الثورة نظرا وعملا، فكرا وتنظيما؟ لا تعني الثورة هنا مجرد تغيير الهياكل الاجتماعية والأنظمة السياسية علنا أو سرا. فقد تم ذلك في الدعوة السابقة دون أن تحدث ثورة، ولكن هذه الدعوة تعني الثورة الشاملة التي تضم إنجازات الإحياء والإصلاح والنهضة والعقلانية والتنوير والعلم والتصنيع والتغير الاجتماعي. تبدأ بتنوير المفاهيم والتصورات والقوالب الذهنية والأبنية النفسية، أي إحداث ثورة في الأذهان وفي العقول وفي النفوس وفي المشاعر، ثورة في الحياة اليومية وفي أساليب السلوك. فالثورة ليست منجزاتها بل مقدماتها، وليست نتائجها بل شروطها. ليست الثورة الفرنسية هي اقتحام الجماهير سجن الباستيل في 14 يوليو 1789م، بل إعداد الوعي القومي لذلك بفضل جهود مفكري الثورة الفرنسية وفلاسفة التنوير في القرن الثامن عشر. فلا شيء يتغير في الواقع ما لم يتغير في الوعي أولا. لا شأن لهذه الثورة الشاملة بتغيير النظم السياسية القائمة. ولا تقوم على استعمال العنف بل تعتمد على إعمال العقل، وتحليل الواقع، والتعبير عن الرأي، ومقارنة الحجة بالحجة، ومقابلة البرهان بالبرهان. وهو الطريق الذي سلكه الأنبياء في محاجة أقوامهم. فالثورة الشاملة هي ثورة الأنبياء، يقوم بها علماء الأمة، فالعلماء ورثة الأنبياء. وتمتاز هذه الثورة بأنها الأبقى والأدوم، والأرسخ والأعمق، والآمن والأسلم دون ردة أو نكوص، ودون تغيرات على السطح، ودون مخاطر ومخاسر. يستمر فيها تاريخ البلاد، وترث حركات التجديد، وتتسم بالأصالة، وتربط الماضي بالحاضر فلا يحدث انقطاع أو تغريب. تبدأ بالجذور، في الأذهان قبل الأعيان. فالوقائع هي تصورات متحققة، والتصورات وقائع ممكنة. تجري حوارا شاملا بين كل الآراء والاتجاهات، وتحقق الوحدة الوطنية دون أن تكفر أو أن تخون أحدا. لا شأن لها بتنظيم الحكم ولا تقوم إلا على النصيحة والرأي، والتعبير الصادق عنه، ودون عنف، ودون استعمال للقوة. ليست موجهة ضد أحد بل تهدف إلى دفع حركة التاريخ إلى الأمام. فقد أثرت أفكار دون سلطة ولم تؤثر سلطة دون أفكار. ترعى مصالح الأمة، وتحقق مطالب الأغلبية الصامتة. تهدف إلى التغيير والإصلاح وتحقيق التقدم وتنحو إلى ما هو أفضل على طريق النبوة وبهدى الوحي. ولا يعاب عليها أنها مثالية، تبدأ بالفكر، فهذه المثالية لدى شعوبنا هي الواقعية، وحصيلة التجارب الطويلة لأجيالنا المتلاحقة. لا تنقل مراحل الغرب بل تشخص مهام أجيالنا. وتحدد مهمة جيلنا بتحليل مباشر للواقع وبوصف لمكاسب الأجيال ومخاسرها. ليست تصورا آليا للتطور لأنه يمكن القيام بهذه المهام كلها في آن واحد مع تغلب مرحلة على مرحلة طبقا لروح العصر. ولا خوف من هز العادات والتقاليد في النفوس، فالهدف هو رعاية مصالح الأمة، والأبنية الفوقية ذاتها إنما هي تراكم طويل لخبرات السنين يؤولها كل جيل من أجل تحقيق هذه المصالح. تلك مهمة جيلنا التي يمكن من خلالها القضاء على الحيرة في الحاضر حتى يمكن كشفه والإعداد للمستقبل.
10
خامسا: حساب الماضي، وأزمة الحاضر،
وهموم المستقبل في الوعي الأوروبي
وفي الوقت نفسه الذي يحاول فيه جيلنا تحديد مهمته ومرحلته التاريخية المحددة وذلك لاستئناف النهضة الحديثة بالرغم مما اعتراها من عثرات، فإن الوعي الأوروبي اليوم ومنذ جيل أو جيلين يحاول أيضا نفس الشيء أي تحديد مهمته الحالية، وعمل كشف حساب للماضي ولتشخيص أزمته الحاضرة، والتعبير عن هموم المستقبل. وكما كان لديه إحساس بالبداية الثانية إبان عصور الإحياء والإصلاح والنهضة لديه هو الآن إحساس بالنهاية لهذه البداية كما كان لدى ابن خلدون بالنسبة لنهضتنا الإسلامية الأولى. والوعي الحضاري عندما يبدأ يؤرخ لنفسه يكون ذلك مؤشرا لبداية النهاية كما كان الحال عند أرسطو مؤرخا وعند ابن خلدون مؤرخا وعند نيتشه، وشيلر، وهوسرل، وبرجسون، واشبنجلر، وتوينبي مؤرخين للوعي الأوروبي ومعلنين نهايته و«أفول الغرب». إذ يكاد يجمع فلاسفة الغرب في هذا العصر على أن الوعي الأوروبي قد شارف على نهايته بعد أن بدأ في عصر النهضة وتحدد مساره من البداية إلى النهاية. فإذا كانت نقطة البداية في الكوجيتو عند ديكارت، تكون نقطة النهاية في الكوجيتو عند هوسرل، أو الزمان عند برجسون، أو الشخص عند شيلر ومونييه، أو الوجود الإنساني عند الفلاسفة الوجوديين، أو الحياة عند فلاسفة الحياة، أو الفعل عند بلوندل، أو الإرادة عند نيتشه أو العمل عند ديوي وجيمس.
بدأ الوعي الأوروبي في لحظته الحاضرة يعمل حساب الماضي، ويشخص أزمته في الحاضر، ويعبر عن هموم المستقبل. فوجد أنه من هذه البداية في فجر النهضة الأوروبية خرج تياران؛ الأول: التيار العقلي الذي بدأ من ديكارت وسار فيه الديكارتيون؛ بسكال واسبينوزا وليبنتز ومالبرانش ثم كانط من بعدهم. ثم بدأ الكانطيون في تطوير العقل وضم الواقع إليه أو نقده لحساب الوجدان حتى انقلب إلى الضد في الحركة الرومانسية ولدى فلاسفة الحياة والوجود انتهاء بهوسرل، نقطة النهاية، في نقده لصورية العقل. والثاني: التيار الحسي الذي خرج أيضا من ديكارت يمثله الحسيون والتجريبيون؛ لوك وهوبز وهيوم وبداية من بيكون، ابتداء من الحس والتجربة، ناقدين الأفكار القبلية وجاعلين العقل مجموعة من الانطباعات الحسية. تم رفع هذا التيار بنقد المعرفة الحسية ونقد الوضعية بفضل هوسرل وشيلر وبرجسون ومعظم الفلاسفة المعاصرين وعلى رأسهم الوجوديون. فتلاقى التيار الثاني مع التيار الأول في نقطة النهاية، في الكوجيتو عند هوسرل حيث تم نقد التجربة ونقد الصورية، وتحقيق وحدة الشعور بين العقل والتجربة. الوعي الأوروبي إذن له بداية ونهاية ومسار، وله بناء ثلاثي؛ الصورة والمادة والشعور، الرفع والخفض والاستواء، الأعلى والأدنى والداخل.
1
بدأ الوعي الأوروبي يراجع ذاته، ويقدم لنفسه كشف الحساب لكل من تياراته الثلاثة، ولبنائه وتطوره، مبينا مكاسبه ومخاسره فلعله يراجع ماضيه، ويحول مخاسره إلى مكاسب جديدة إن لم يكن الأوان قد فات، وانتهت الدورة الحضارية الأوروبية الثانية إذ كانت دورتها الأولى قد تمت لدى اليونان والرومان، لعله يراجع ماضيه، يعرف عيوبه وسبب أزماته الحاضرة، وغموض مستقبله الذي شارف على التقلص والاحتضار. فوجد هذا الحساب كالآتي: (1)
بالرغم من انتصارات العقل ونقده للموروث وصراعه ضد السلطتين الدينية والسياسية، وإخضاعه النصوص الدينية للنقد، وتأسيسه علما جديدا وهو النقد التاريخي للكتب المقدسة، ورفضه للتقاليد، ونبذه للتقليد، وأخذ الوضوح والتميز مقياسين للصدق، وطلب الدليل للبرهان، وصياغته للتفكير المنهجي ولخطوات المنهج العقلي إلا أن العقل بعد جهاد دام خمسة قرون قد انتهى إلى الصورية والتجريد حتى أصبح فارغا بلا مضمون بالرغم من محاولة هيجل التوحيد بينه وبين الواقع. ويتضح ذلك جيدا في صورية كانط وحساب ليبنتز مما جعله ينقلب إلى الضد في الحركة الرومانسية وثورة الوجود عليه في الفلسفة الوجودية المعاصرة، واعتباره مضادا للحياة لدى فلاسفة الحياة مثل أونامونو ونيتشه وبرجسون. أصبح غير قادر على إدراك العنصر الحركي في الحياة، ولا يتجاوز إدراك العناصر الثابتة فيها، فغابت الحركة منه، وأصبح أقرب إلى الآلية مما سبب رد فعل الرومانسية عليه. كانت وظيفته أحيانا تبرير المعطيات المسبقة الدينية أو الفلسفة أو الواقعية. يفهم كل شيء، ويجد أسبابه ومبرراته. فالدين والعقل شيء واحد عند العقليين، والطبيعة والعقل شيء واحد عند الحسيين، والعقل والواقع شيء واحد عند الهيجليين، ما دامت وظيفة العقل هو الفهم، والفهم هو إيجاد الاتساق الداخلي للموضوع. وتظهر خطورة الأمر إذا ما انتقل العقل إلى تبرير المعطيات القديمة الموروثة أو النظم السياسية القائمة مما جعل ماركيوز يجعل من العقل مقدمة للثورة وباعثا عليها. اقتصر العقل على السطحي والخارجي دون أن يكون قادرا على الدخول إلى جواهر الأشياء وإدراك مضامينها الداخلية والاتحاد بحقائقها حتى جعله برجسون أقرب إلى جهاز التصوير الخارجي الذي لا يعلم بواطن الأمور، مما دفع بالفكر المعاصر إلى الواقع في رد الفعل المضاد، أعني الاشتباه والاقتباس والتأويل والظلام والليل والإيحاء والتصوف أحيانا. كما انتهت المثالية الناتجة عن العقل إلى مبادئ عامة شاملة أحدثت ثورات، لكنها لم تستطع تجاوز حدود القوميات، فالشمول للوعي الأوروبي دون غيره، بل والوقوع أحيانا في نطاق القوميات الضيقة، الألمانية أو الفرنسية أو الإنكليزية مما دفع الوعي الأوروبي إلى الانقسام على ذاته والوقوع في أسر العنصرية والشوفينية. كما أمكن استخدام العقل لخدمة مصالح الطبقات المتوسطة لقدراته على تنظيم العمل، وكشف قوانين السوق، وتنظير العالم، فأصبحت العقلانية دعامة للرأسمالية الناشئة مما أدى إلى اتهامه بعد ذلك بأنه قادر على فهم العالم دون تغييره، وقدرته على صياغة العالم وعجزه عن تغييره، واستعماله للدفاع عن الطبقات العليا دون الدفاع عن الطبقات الكادحة؛ لذلك كان الحزب البروليتاري عند ماركس هو الوريث الوحيد للأيديولوجية الألمانية.
2 (2)
وبالرغم من انتصارات التيار التجريبي، واعتبار التجربة مقياسا للصدق، وإعادة الثقة بالمعرفة الحسية، ونشأة العلم، واحترام الطبيعة، واستقلال قوانينها واطرادها، وكشف أخطاء المعارف المسبقة التي تعتمد على السلطة والعقائد الموروثة والثقة بالعالم الخارجي والاعتراف بوجوده إلا أنه انتهى أيضا إلى إنكار كل المعارف المسبقة وكل المعطيات القبلية، ورفض الاتساق العقلي، وبداهات العقل وقوانينه الثابتة حتى أصبحت التجربة نوعا من التحيز المسبق والحكم المبتسر مما أضر بالعلم ذاته. كما أنه تصور كل معطى على أنه ظاهرة مادية مرئية تقاس في المكان، وأغفل الظواهر الكيفية الخالصة واستحالة تحولها إلى ظواهر كمية. وقع في التصور الكمي للعالم الذي يعتمد على القياس، وأغفل الكيفيات الخالصة، ولم تنفعه الرياضيات البحتة في الحصول على الكيف بل وقع في حساب الكم، مما دفع بعض المعاصرين إلى وضع العلم الكيفي في مقابل العلم الكمي كما فعل برجسون وهوسرل. وقد قام هذا التيار على إيمان لا حدود له بالتطور والتغير مما جعل الثبات يتوارى. بل إن العلم الحديث يقوم كله على الاحتمال وليس على الثبات، وعلى حساب الاحتمالات وليس على ثبات قوانين الطبيعة. وبلغ الحد من الإيمان بقدرة العلم على اختراع كل شيء إلى أن تحول الطبيعي إلى صناعي والغائب إلى الشاهد؛ لذلك تم استخدامه في الصناعة إلى أقصى حد، وحول المجتمع كله إلى مجتمع صناعي بكل عيوب هذا المجتمع التي تدخل حاليا في أزمة الحاضر وهموم المستقبل. كما تم استخدامه في الحروب وصناعة السلاح من أجل التدمير والفناء. وأصبح التقدم العلمي مرادفا للخراب. هذا بالإضافة إلى ما سببه العلم من تخزين للمعلومات وإضرار بالعقل البشري الطبيعي وبقدراته على الخلق والتخطيط والإبداع بعد أن تنازل عن وظائفه هذه كلها إلى الحاسبات الآلية؛ ومن ثم تحول الذهن البشري إلى مسطح يخلو من العمق، وتحول العلم إلى جهل. وكثيرا ما كان التيار الحسي التجريبي أقرب إلى النظم المحافظة الرجعية في السياسة كما لاحظ ذلك ماركيوز على الوضعية التي تؤمن بالوضع القائم دون تغييره والثورة عليه.
3 (3)
وبالرغم من نجاح الفلسفات المعاصرة الإنسانية والوجودية والبراجماتية والشخصانية والظاهراتية في اكتشاف الإنسان من جديد والدفاع عن وجوده وحريته والكشف عن عيب الاتجاهين الرئيسين في الوعي الأوروبي الصوري والمادي، العقلي والتجريبي، وبدايات النقد الاجتماعي لروح العصر، والتعبير عن هموم المستقبل إلا أنها انتهت أيضا إلى الوقوع في العبث واللامعقول والتناقض وهي بصدد نقد صورية العقل، وإعلان عجز العقل كلية عن إدراك أي اتساق في الواقع، والإيمان بالعنصر اللاعقلي، وإعطاء الأولوية المطلقة له على أي عنصر عقلي في الحياة كما اتضح ذلك خاصة عند كيركجارد وكامو. كما تم الرفض التام للعلم باعتبار أن الذاتية شيء مخالف للموضوعية، وبأن الإنسان ليس ظاهرة علمية أو واقعا ماديا أو موضوعا يخضع لملاحظة العلم وقوانينه. الإنسان ذاتية خالصة، إمكانية وحركة، ومشروع يتحقق، وحرية كامنة لا يمكن التنبؤ بمسارها. فوقعت في النزعات غير العلمية وأحيانا في النزعات الصوفية الإشراقية. كما انتهت معظم هذه الفلسفات إلى نوع من العدمية النسبية أو المطلقة بعد تحليل تجارب الموت والهم والحصر والغثيان والرغي وحب الاستطلاع والنفي والتساؤل، والدعوة إلى الانتحار وتصور الإنسان في الحياة مثل سيزيف يعيش بلا أمل ومحكوم عليه بالشقاء. وقعت في التشاؤم واليأس، وضاعت روح الأمل والتفاؤل التي كانت سائدة في بداية الوعي الأوروبي والتي ظهرت في فلسفة التاريخ، وانتفت الغائية ، وسادت العشوائية والاحتمال وعدم القدرة على التنبؤ بأي شيء. وأصبح المجهول أكثر إغراء من المعلوم، والليل أكثر دلالة من النهار، والغموض يوحي أكثر مما يوحي الوضوح. اشتدت النزعة الفردية التي تغفل دور الجماعة بالرغم من «ثورة الجماهير» عند أورتيجا و«نقد العقل الجدلي» عند سارتر، و«العقل والثورة» عند ماركيوز، وبالرغم من محاولات التوفيق بين الوجودية والماركسية خاصة عند لوكاتش واكتشاف الوعي الطبقي في التاريخ. اشتدت أزمة العلوم الإنسانية بعد أن احتارت بين مناهج العلوم الرياضية أولا بعد نجاحها في القرن السابع عشر وبين مناهج العلم الطبيعية بعد نجاحها في القرن التاسع عشر، وعودتها إلى الرياضة البحتة أو إغراقها في تحليلات الشعور والتجارب الحية.
4 (4)
وهكذا تحدد بناء الشعور الثلاثي الأوروبي بين الصورية والمادية والشعور وظل يتأرجح منهجيا بينها، يجرب كل منها مرة ثم يعاود التجربة من جديد حتى لم يعد يستقر له حال، وأصيب بداء التردد والحيرة، وتحول ذلك إلى بحث دائب مستمر دون الوصول إلى شيء مما أدى في النهاية إلى الوقوع في النسبية والشك. واتسم الوعي الأوروبي بطابع التجريب المستمر، والحيرة والقلق والتردد وعدم الثبات والاستقرار مما جعل الجديد فيه باعثا دائما ضد القديم ومطلبا ملحا ضد الشائع. يصيبه الملل باستمرار، ويرنو إلى الآخر والبعيد، ويتطلع إلى المستقبل دائما. غاب المركز الذي يبعث على الاستقرار والثبات، وضاع أي غطاء نظري مسبق وأي تصور دائم يضمن للإنسان الحد الأدنى من اليقين النظري. وقد يمر على المركز مرات عدة ويعتبره أحد نقاط المحيط. (5)
لقد مر الغرب بمراحله كلها، ولم يعد له رؤية مستقبلية محددة للمرحلة المقبلة التي هو في الطريق إليها. لقد مر بعصر الإحياء في القرن الرابع عشر، إحياء الآداب القديمة عند بوكاتشيو وبترارك فلعله يجد في أدب القدماء ما يبحث عنه من تأكيد للإنسان وقدرته أمام الآلهة في صراعه مع الطبيعة وفي الإيمان بحريته. ثم مر بالإصلاح الديني في الخامس عشر حتى يمكنه البداية من جديد من الجذور الأولى للوعي في الدين بعد الأدب. وقد حصل على ما ينبغي من تأكيد لحرية المسيحي في الفعل والسلوك وفي التفسير والفهم، والصلة المباشرة بين الإنسان والله دون توسط، والإيمان في اللحظة دون ما حاجة إلى التاريخ المقدس أو تاريخ الكنيسة، وإثبات الكتاب المقدس وحده كمصدر للإيمان دون التراث الكنسي، والتأكيد على القومية واللغة الوطنية، ودحض جميع مظاهر النفاق والاتجار بالدين. ثم مر بعصر النهضة بعد أن نجح الإصلاح، وبدأ يضع الإنسان محور الكون، يتوجه بعقله نحو الموروث القديم ناقدا لنظرياته، ومحررا وجدانه من تقاليده وآثاره، يتجه بإرادته وحسه نحو الطبيعية يستلهم منها معارف جديدة يستطيع بها أن يسيطر على قوانينها، ويتنبأ بمسارها. وظهر المذهب الإنساني عند أراسم ليؤكد الإنسان كقيمة مستقلة مطلقة بدنا وعقلا. ثم أتت العقلانية في القرن السابع عشر لتعلن أن العقل له سلطان على كل شيء، وأنه منهج قادر على أن يصل إلى حقائق الأشياء وأن الطبيعة عاقلة، والله عقل، والعالم كله يحكمه قانون عقلي، والحياة كلها تنتظم طبقا لقوانين عقلية. بعدها بدأ التنوير في القرن الثامن عشر، ليفجر العقل في النظم الاجتماعية والسياسية، ويتحول من حرية الفرد إلى حرية المجتمع، ومن حرية السلوك إلى الديموقراطية في النظم السياسية، وإقامة المجتمع الجديد على أساس من الحرية والإخاء والمساواة. وكانت من إنجازات التنوير الثورة الفرنسية والثورة الأمريكية. ثم أتى التصنيع، والانقلاب الصناعي في القرن التاسع عشر، وانتصارات العلم الطبيعي، وتحويل المجتمع المستنير إلى مجتمع صناعي، يسيطر فيه العقل على الطبيعة، ويستثمر فيه الإنسان بإرادته ثروتها. وتحققت المكتشفات العلمية وتمتع الإنسان بنتائج جهده الطويل منذ الإحياء حتى العلم. بل إن الوعي الأوروبي من وجهة نظره استطاع الخروج خارج حدوده بحثا عن الأسواق، والأيدي العاملة والمواد الأولية، والنقاط الاستراتيجية للسيطرة على العالم. وأخيرا وصل الوعي الأوروبي إلى الثورة الصناعية الثانية، ثورة التكنولوجيا في القرن العشرين. وأصبح قادرا على حساب الماضي والحاضر والمستقبل بالحاسبات الآلية، وغزو الفضاء واستثمار قاع المحيطات، والاستشعار عن بعد لما في باطن الأرض، ولم يعد يقف أمامه أي عائق أو مستحيل.
5 (6)
وفي أوج انتصار ثورة القرن العشرين بدأت أزمة الحاضر تتكشف سواء على المستوى المادي في نقد المجتمع الصناعي أو على المستوى المعنوي في نقد الحضارة الحديثة. وقامت الفلسفات الاجتماعية والسياسية والأخلاقية المعاصرة على هذا النقد المزدوج مثل فلسفات هوسرل وبرجسون وشيلر ورسل وتوينبي. ولم تخل العلوم الإنسانية مثل الاجتماع والأنثروبولوجيا وعلم النفس الاجتماعي وعلوم الحضارة من تناول هذا الموضوع بالتحليل والوصف. فقد سادت الآلة على الحياة، وتحول الإنسان إلى آلة، وأصبح شيئا يماثل الآلة، يتكرر، لا فردية له، يساوي قدر إنتاجه من البضائع، لا حياة له ولا كيان. ضعف العقل بعد اعتماده المستمر على الحاسبات الآلية حتى ضاعت منه قدراته على الخلق والإبداع بعد أن تحول عمل العقل إلى عمل الآلة. بل وضاع أخذ زمام المبادرة بعد أن تحولت إرادة القرار إلى حاسبات القرار. عم الاستغلال، استغلال الأفراد والجماعات والشعوب، وتراكم رأس المال لدى الشركات المتعددة الأجناس التي حلت محل الاستعمار القديم. كثرت الحروب الناتجة عن الصناعات العسكرية في أيدي الشركات الصناعية الكبرى. ضاعت الحقيقة بسبب توجيه أجهزة الإعلام للرأي العام، وصياغة حقائق أخرى بديلة نمطية حتى سلب الإنسان حرية التفكير، والقدرة على الحكم، والاختيار الحر بين البدائل حتى أصبح الإنسان كما يقول ماركيوز «ذا بعد واحد» موجه التفكير والسلوك. زادت العنصرية، فالملونون غير مواطنين أو مواطنون من الدرجة الأولى في البلدان الأوروبية لا تنطبق عليهم حقوق الإنسان. عظم استغلال الشعوب غير الأوروبية، واستغلال مواردها الأولية وأسواقها وعمالتها، ونهب عقول البشر واستدراجها في البلدان الصناعية، وتفريغ الشعوب غير الأوروبية من عقولها وإبداعها، وسلب حضارتها وتاريخها. تفاقمت مشاكل المجتمع الصناعي مثل تلوث البيئة والاعتداء المستمر على الطبيعة، وتدمير المحاصيل الزراعية، والإسراف في الاستهلاك. زادت حوادث الانتحار، وعم الشقاء، ولم يعد الإنسان سعيدا بالرغم من الوفرة ومجتمع الاستهلاك، وكثرت الأمراض النفسية، وأصبح لكل مواطن طبيب نفسي معالج لشفائه من أمراض العصر. زادت الأمراض البدنية، واستشرى السرطان في كل أعضاء المجتمع الصناعي نظرا للتدخل المفتعل في تطور الخلايا في المزروعات أو في الحيوانات مما تسبب عنه تطور مصطنع لخلايا الكائن الحي في الإنسان نتيجة للمواد الكيميائية التي أصبحت خالقة لطبيعة ثانية بديلة عن الطبيعة الأولى. ضاع الولاء للأوطان والقضايا العامة وتحول الانتماء إلى المصلحة الشخصية والكسب الفردي. سادت قيم مجتمع الرفاهية والوفرة والاستهلاك بحيث لم يعد الإنسان قادرا على التفكير في أي شيء، أو الانتماء إلى أي شيء، أو التضحية في سبيل أي شيء. انقلبت القيم رأسا على عقب، ولم يعد للوفاء والإخلاص والشجاعة والصدق والصراحة أي معنى. ظهرت قيم جديدة رافضة وثقافة مضادة لا تضع جديدا، بل تثور ضد القديم، وتهدم ما هو قائم، وتجعل الضياع واللانظام واللامألوف أسلوبا للحياة. عمت الحيرة والتردد والشك بعد الوعي بعيوب المجتمع الرأسمالي الصناعي، وبعيوب المجتمعات الاشتراكية الشمولية، وبعيوب مجتمعات العالم الثالث التي لم تتمثل مميزات المجتمعات القائمة مثل الحرية والاشتراكية والوطنية بل تمثلت عيوبها جميعا، التسلط والاستغلال والخيانة والعمالة. وانتشر في الروح الموت، وتأصل في النفس الغثيان. وكثر الحديث عن أزمة العصر، وكرب الزمن، وزلزلة الأرض، وتهتك السماء، وانقراض البشر.
6 (7)
ثم بدأ الوعي الأوروبي يعبر عن هموم المستقبل بعد أن استعصت عليه أزمة الحاضر، وشارف على النهاية. بدأ يخشى سباق التسلح، وخطر الحرب الذرية، وتدمير البشرية. تحدث الفلاسفة عن مستقبل البشرية، وضرورة نزع السلاح، ووضع المعاهدات، وإبرام الاتفاقيات لمنع انتشار السلاح النووي. وظهرت الأعمال الأدبية والفنية تصور العالم بعد أن حل عليه الدمار، يبدأ من جديد باكتشاف النار باحتكاك حجر الصوان، وبداية الإنسانية من مرحلة الصيد والقنص وجني الثمار! بدأ الحديث عن أزمة الطاقة، واكتشاف موارد جديدة وبديلة للنفط، والحرب من أجل ضمان تأمين الطاقة التي اكتشف الوعي الأوروبي أنها ليست لديه، وأنه عاش أسطورة التفوق وعناصر التفوق كلها ليست ملكه، وفي غفلة من الزمن. وبدأ البحث عن الموارد الأولية في حالة نفاد المواد الحالية الموجودة في معظمها خارج القارة الأوروبية. وبدأ يخشى من آثار التضخم، ورفع الأسعار والأجور، وازدياد البطالة، والتنافس في الأسواق بين الدول الصناعية، وحماية المنتجات الصناعية لكل دولة، وظهور التناقضات داخل المجتمعات الرأسمالية الصناعية الكبيرة. وظهر التطرف الديني والسياسي في المجتمعات الديموقراطية، وأصبح استعمال العنف هو الوسيلة لضمان مستقبل أفضل، كما أصبح العالم يسير فوق حافة الجنون؛ جنون القيادة وجنون الجماعات المغلقة. لقد أحس الوعي الأوروبي بنهاية المشروع الغربي وإفلاسه القائم على أكبر قدر ممكن من الإنتاج لأكبر قدر ممكن من الاستهلاك لأكبر قسط ممكن من السعادة والرفاهية دون أن يجد مشروعا بديلا آخر لحاضره ولمستقبله؛ ومن ثم تكشف لديه حسرة الماضي، ضياع الحاضر، وغيوم المستقبل.
7
سادسا: خاتمة
إن الدراسات المستقبلة ليست مجرد حسابات كمية لإمكانيات المستقبل والتخطيط لحياة أفضل تقوم على تنبؤ أكبر بالقدرة على استغلال الموارد، بل هي رؤية تقوم على تصور للزمان وعلى فلسفة في التاريخ. لم تنشأ في فراغ ولكنها ارتبطت بالحضارة الغربية في تاريخها الطويل خاصة في دورتها الثانية الحالية التي شارفت على الانتهاء والتي بدأت منذ أكثر من خمسة قرون. لا يمكن نقلها وتقليدها والتبشير بها والنسج على منوالها والدعاية لها والإعجاب بها في كل حضارة، لدينا أو لدى غيرنا دون تأصيل لها، وقيامها على احتياجات فعلية، ومناهج محلية. إذ لا يمكن قيام دراسات مستقبلية دون إحساس بالزمان والتاريخ والتقدم. كما لا يمكن أن تكون تعويضا عن أزمات العصر ودواء مسكنا لاحتياجاته الملحة. إن التحول من الماضي والاتجاه نحو المستقبل في وعينا القومي، والوعي بتجارب الآخرين في نشأة الدراسات المستقبلية من خلال فلسفة التاريخ أي التحول عن الماضي واكتشاف مفهوم التقدم، وكذلك الوعي بالمرحلة التاريخية التي يعيشها جيلنا اليوم، والعلم بالحالة الراهنة للوعي الأوروبي وأزمته، كل ذلك هي الشروط المؤهلة لنشأة الدراسات المستقبلية لدينا تأصيلا ووعيا وإبداعا.
إن الوعي بالموقف الحضاري التاريخي الشامل للعالم وهو ما يسمى بنظام العالم الجديد على مستوى العلوم السياسية لهو الشرط لتصور عالم الغد بين الأمس واليوم. وهو الذي يمكن وصفه كالآتي: أزمة المجتمعات الحديثة في الشرق والغرب على السواء، وأزمة النظم السياسية والاقتصادية في المجتمعات الرأسمالية والاشتراكية، ثم بزوغ تجارب العالم الثالث وأهمية المجتمعات التراثية تأصيلا لذاتها وتحديثا لمجتمعاتها مع اكتشاف أدوارها التاريخية بعد انتصارها في معاركها الوطنية من أجل الاستقلال والسيادة. تعطي مثلا جديدا لعالم جديد، منذ باندونج حتى عدم الانحياز، في عالم لا عنصري، يقوم على المساواة، وعلى مساهمة جميع الشعوب في صنع حضارة إنسانية واحدة، دون أن يكون أحدها المركز والأخرى الأطراف. تحتوي على إمكانيات اقتصادية هائلة في الموارد الطبيعية والاستثمارات المصرفية والقدرات العقلية الإبداعية والتجارب النضالية الحية الناجحة في مصر والصين والجزائر وفيتنام وإيران، واكتشاف دوراتها الحضارية الحالية ودوائرها التاريخية التي تضمها من جديد إلى الشرق؛ وبالتالي تكون أجيالنا بداية لتحول جذري في تاريخ العالم وفي مسار التاريخ.
1
صفحة غير معروفة