وفي قوله: «وادخلوا جبل الأموريين.» هم ولد الأموري الرابع من أبناء كنعان، وجبلهم غربي البحر الميت، ومدينتهم حصاصون تامار، ومعناها مدينة النخيل، والمظنون أنها المدينة المعروفة الآن بعين جدي وهي غربي البحر الميت. تبعد قليلا عن أريحا، وأيضا فإنه مما يثبت ذلك ما ورد في العددين الخامس والسادس من الفصل الثالث عشر من سفر يشوع؛ حيث قال: «وأرض الجبليين وجميع لبنان جهة مشرق الشمس من بعل جاد تحت جبل حرمون إلى مدخل حماة، كل سكان الجبل من لبنان إلى مياه مسرفوت، كل الصيدونيين سأطردهم من وجه بني إسرائيل، وأنت تقسمها بالقرعة لإسرائيل ميراثا كما أمرتك.» والظاهر من هذا القول أن القدماء كانوا يقسمون لبنان إلى الشرقي والغربي كما هو مقسوم اليوم.
أما اسم لبنان، ففي كل حال بقي متداولا على ألسنة الناس منذ القدم، وما انقطعت الألسنة عنه في بعض الأوقات إلا لعلة ما من العلل التي تحدث عادة في تأريخ البلدان من مثل استيلاء أجنبي يبدل الأسماء، ويغير في تقاسيم البلاد، ثم عاد ذلك الاسم إلى ما كان عليه من كثرة التداول على الألسنة.
ثم إذا نظرنا إلى الأسماء التي أطلقت على جبل لبنان مرادفة لاسمه لبنان نجدها كثيرة قد تناوله غالبها في جملة غيره من البلدان، ففينيقيا مثلا كانت على الأصح من أرواد إلى جبل الكرمل مع بعض لبنان، وسورية المجوفة وهي الواقعة بين لبنان الغربي ولبنان الشرقي، وسورية الثالثة وهي الشاملة دمشق وجبل لبنان، ثم آرام وهو الخامس من أبناء سام بن نوح، فإن هذا الاسم كان يضاف إلى أعمال عديدة؛ مثل: آرام النهرين، وآرام دمشق، وآرام صوبة، وآرام معكة. وهي ما يشمل - في غالب الظن - مرجعيون وبانياس. ثم اسم الشام الذي يطلق الآن على بلاد سورية بجملتها، وهذا الاسم قد ذهب علماء التأريخ في مأخذه عدة مذاهب أصحها أنه مأخوذ من سام بن نوح، وأصله في العبرانية والسريانية شام، أو شم. ثم إن اختلاف هذه الأسماء مع عدم تعيين أسمائها تعيينا محكما يجعل المؤرخ في ريب ، ويلجئه إلى أن يطرق أبواب الحدس والتخمين في الأشياء التأريخية، فما ورد في التوراة وأقوال المؤرخين من الكلام على الآراميين والفينيقيين والسوريين والشاميين كان في الغالب يتناول اللبنانيين، وبناء عليه فإن تأريخ لبنان القديم وسكانه القدماء يمتزج بتاريخ من ذكرنا من هؤلاء الأقوام ومواطنهم امتزاجا يتعذر تجريده خلوا من الشوائب، وما جاء منه مختصا ببعض مدن مثل جبيل وبيروت وغيرهما هو مشوب أيضا . ويليق بنا في هذا المقام أن نبين مآخذ الأسماء القديمة وما في هذا من الأقوال. «آرام»: وهو اسم الخامس من أبناء سام على ما ورد في سفر التكوين في العدد الثاني والعشرين من الفصل العاشر من هذا السفر، كان يطلق على الأراضي التي استوطنها الآراميون. وهي الأراضي الواقعة على ضفتي الفرات التي انتزح عنها بعض قبائلهم متجاوزين جبل أمانوس المعروف الآن باللكام إلى الأنحاء الجنوبية من آسيا الصغرى حتى ليكية، وعلى الأراضي الواقعة في شمال سورية والسفح الشرقي للبنان الشرقي بين الجبل والصحراء؛ فانقسم بذلك الآراميون إلى آراميي الشمال بين الفرات وجبل أمانوس، وآراميي دمشق، أو سورية الدمشقية حول مدينة دمشق الكبيرة. والكتاب المقدس أطلق اسم آرام على قسم كبير من سورية، وأضافه كما تقدم إلى أعمال عديدة مثل آرام النهرين، والمراد ما بين النهرين دجلة والفرات. وآرام صوبة، وهي على ما يظن ما بين دمشق جنوبا وحماة شمالا، وآرام رحوب وهي على ما يظن كانت في محل الجولان. ولبث هذا الاسم محفوظا تداوله بين الناس القدماء مدة قرون، حتى إن الشاعرين هومير وهسيود والمؤرخ إسترابون جاءوا على ذكره مختصا بالسوريين، ولم يمح هذا الاسم إلا عند ظهور النصرانية.
هوامش
سورية
قال العالم مسبيرو: «إنه من يوم أن أتى تطمس الأول ابن أمانوثيب بالمصريين إلى آسيا لافتتاحها كانت البلاد التي تجاوزها فيما وراء خليج السويس تدعى سورية، وذلك قبل المسيح بألف وسبعمائة سنة ونيف.» وقال بروغش: «إن اسم سورية مخفف أسيرية؛ سميت كذلك بعد استيلاء تجلت فلا صر الثاني على أعمال سورية وذلك (من سنة 745 إلى 727ق .م)، ثم استيلاء سرغون عليها (من سنة 722 إلى 705ق.م).» وقال هيرودوت (الذي ولد سنة 484ق.م): «إن لفظ السوري مختصر من الآشوري، أو الآسوري بالسين المهملة.» وقال الأب دي كارا: «إن الأولى باسم سورية أن يكون مأخوذا من أسور، أو أسوريم ابن داوان بن يقشان بن إبراهيم من قطورة بدليل أن الذين أتوا فينيقية وأسسوا مدينة صور، كانت مهاجرهم بشمال بلاد العرب، وأن الاسم آشور أو آسور سمي به أحد أعمال بلاد العرب.
وقد جاء في الآثار المصرية ذكر قوم اسمهم آسور حالفوا الحثيين سكان شمال سورية يوم محاربة رعمسيس الثاني ملك مصر في القرن الرابع عشر قبل الميلاد.» وقال أيضا: «إنه وجدت صفيحة بمصر كتب عليها بالهيروغليفية: روثانو، وباليونانية: سورية، وبلغة الشعب المصرية: أساراواسور.
ومعلوم أن الروثامو يطلق على سكان سورية الشمالية.» وقال أيضا: «إن هذا الاسم مدروج في عداد الذين قهرهم رعمسيس أحد ملوك الدولة التاسعة عشرة في مصر مكتوبا على جدار هيكل إدفو بمصر، وذلك كله يدل على أن تسمية البلاد بسورية هي أقدم عهدا من عهد علماء اليونان المعروفين، وقيل إن أول من نقل الاسم آرامي إلى سوري هم اليونان؛ فانتشر هذا الاسم في جميع العالم بسبب انتشار اللغة اليونانية، وقد محي اسم الآرامي بعد افتتاح الإسكندر البلاد، وحل محله اسم السوري؛ فإن اليونان كانوا يبدلون في الحروف الهجائية، ويغيرون في أوضاع الألفاظ بحسبما يوافق لغتهم ويسهل عليهم لفظه؛ فجعلوا آشورية أسورية، ثم سورية. وقال بعض إن اليونان اتخذوا اسم سورية من صور؛ لأن أهل صور كانوا معروفين عند أهل إغريقية أكثر من غيرهم من سكان سواحل لبنان، وذلك عند ظهور اسم سورية، وكيفما كانت البواعث على هذه التسمية فإن الاسم أجنبي لا وطني.» (1) كنعان
هو كنعان بن حام بن نوح، كما ورد في سفر التكوين في العدد الثامن عشر من الفصل التاسع من هذا السفر، وفي العدد العاشر من الفصل السادس منه، وقد سمي سكان جانب كبير من لبنان باسم كنعانيين؛ فإن القبائل الكنعانية - على ما قال مسبيرو - قد انقسمت بعد الفتح المصري إلى فريقين: فريق منهما استوطن في الوديان الكائنة في داخل البلاد بين أمانوس (اللكام) وسعير، وفي السهول الممتدة من جنوب الكرمل إلى الصحراء وإلى تخوم مصر، والفريق الآخر استوطن السواحل بين الكرمل ومصب العاصي وبين جبل لبنان والبحر. وقد اختلف الفريقان في العادات والأخلاق باختلاف مواطنهما، فالمقيمون في داخل البلاد كانوا أهل زراعة ورعاة بحسب أماكنهم؛ فافترقوا إلى عدة قبائل، كل قبيلة منها تحارب الأخرى، وكانت نار الفتن بينهم دائمة الاضطرام، وأما كنعانيو السواحل فلانحصارهم بين الجبل والبحر لزموا صناعة الملاحة والتجارة.
وأما انتجاع الكنعانيين سورية فقد كان قبل أن يأتيها إبراهيم من أور الكلدانيين؛ إذ جاء في سفر التكوين في العددين الخامس والسادس من الفصل الثاني عشر منه «وأتوا أرض كنعان، فاجتاز إبرام في الأرض إلى موضع شكيم وإلى بلوطة ممرا، والكنعانيون حينئذ في الأرض.» فكان انتجاعهم ذلك قبل القرن الحادي والعشرين قبل الميلاد؛ وهو القرن الذي جاء فيه إبراهيم من أور الكلدانيين، أو بعده بقليل. وقد ذهب لانورمان إلى أن انتجاعهم ربما كان في أواسط القرن الثالث والعشرين ق.م؛ لأنه في ذلك الزمان ثار العيلاميون على الكوشيين في بابل وأنحائها، فانتزح الكنعانيون عن مواطنهم في جوار ولد عمهم كوش، وأما هيرودوت المؤرخ اليوناني فقد جاء في تأريخه ما يفيد أنه كان للكنعانيين أثر في سورية قبل ذلك العهد بكثير، وهو هيكل ملكرت الشهير في جزيرة صور، فإنه بني فيما رواه هذا المؤرخ نحو سنة 2750ق.م، وأما العالم الفرنسي شباس فقد ترجم البابير
صفحة غير معروفة