مقدمة
لبنان
سورية
مقدمة
لبنان
سورية
ذخائر لبنان
ذخائر لبنان
تأليف
إبراهيم الأسود
صفحة غير معروفة
مقدمة
خير ما في استطاعة كاتب أن يهديه إلى قومه من ثمرات قلمه؛ كتاب يضمنه شيئا من بيان حال بلادهم؛ ماضيها وحاضرها وآثار العمران فيها في كل زمان، وحال من عمرها والنهج الذي نهجوه في تعميرها؛ حتى يكون لهم بذلك سفر يجتنون منه لمستقبلهم ما يصلح به الحال، ويحسن المآل؛ لأن خير العلم الذي ينتفع به المرء إنما هو العلم الذي يبدأ به بنفسه وبقومه، والثمرات التي يجتنيها من مثل هذا العلم لا يتأتى له اجتناؤها من العلم بغيره من بقية الأقوام؛ إذ لكل قوم في عاداتهم وأخلاقهم ومشاربهم وموقع البلاد التي استوطنوها وطبيعة تربتها ومائها وهوائها من المميزات ما يجعلهم في بعض الشئون صالحين لما لا يصلح له غيرهم، حتى يكاد يكون لكل قوم تربية خاصة بهم لا تنطبق على شئون غيرهم كل الانطباق.
فالهدية التي رأيت خير ما في إمكاني أن أهديها إلى اللبنانيين أبناء وطني العزيز؛ سفر أضمنه ثمرات بحث الباحثين، ونظر المحققين المدققين في أحوال جبل لبنان، وما طرأ عليه من طوارئ الحدثان، وأضم إلى ذلك كل ما عن لي من الخواطر، ووصلت إليه من المعلومات عن هذا الجبل القائم عند البحر المتوسط؛ كخطيب كلل الشيب هامته ليحدث عن غير الدهر فيه وفي ما حوله من السهول المطمئنة والآكام والروابي، وهذه كلها مصغية إليه إلا البحر كأنه عاهد الدهر على كتمان الأسرار فجعل يقطع على الخطيب حديثه، فيلطمه بأمواجه فيدفعها الجبل بإسناده، فترتد عنه ممزقة من الغيظ من عناده في إفشاء الأسرار من مفاعيل الأقدار.
إلا أن لغة هذا الخطيب القديمة لغة الطور الحجري أو طور الظران التي تنبئنا عن سكان هذا الجبل أيام كانت شفار الإنسان، ومخارزه، ومقاشطه، ومجارفه، وغير ذلك من أدواته من صوان ومن الخزف صقيلا أو غير صقيل لم تكشف لنا أسرار جميع ذلك الطور؛ إذ لم يتصل إلينا من تلك الأدوات وغيرها من الآثار الناطقة بأحوال الناس يومئذ من مثل عظام الحيوانات التي كانوا يصيدونها أكلا لهم وعظامهم أيضا إلا المتحجرات التي اكتشفها علماء طبقات الأرض من الغرباء في ما اهتدوا إليه من مغاور لبنان وكهوفه. والغريب أعمى ولو كان بصيرا؛ فبقي لذلك كثير من تلك الأسرار مدفونا في قلب تلك الآثار المستورة.
وأما لبنان بعد انقراض ذلك الطور وازدهائه بالطوائف التي عمرته إلى أن سقطت صيدا في منتصف القرن الثالث عشر، فتاريخه لا يعلم منه إلا ما ورد في التوراة، وما بقي من أقوال المؤرخ الفينيقي البيروتي سنكن يتن، والمؤرخ فيلون الجبيلي، وما أذاعته الخرافات والتقاليد.
ثم إن تاريخ لبنان بعد سقوط صيدا تغشاه ظلمات من الجهل كثيفة، وغاية ما ينكشف منه للباحث عن حقيقته ما يستخرج من تواريخ الأقوام التي بلغت بفتحها هذا الجبل أو الأقوام التي لجأت إليه فرارا من وجه الأعداء؛ لأنه كان في الغالب إما ملجأ الفارين أو محط رحال الفائزين.
ولم يذكر شيء من تاريخ هذا الجبل ذكرا مقصودا بنفسه إلا التاريخ الحديث منه، ومع هذا فإن الذين توخوا ذكره من الإفرنج لم يكونوا في مأمن من السقطات الناشئة عن جهل لغة أهل البلاد التي كتبوا عنها وطباعهم وأخلاقهم وعاداتهم، والذين توخوا ذلك من أهل لبنان نفسه لا نبرئهم من العيب التاريخي بما هو ظاهر على كلامهم من مسحة التحزب.
فالمهمة التي انتدبت نفسي لها بإهداء مثل ذلك السفر إلى إخواني اللبنانيين ليست ميسورة الأسباب من كل الوجوه، وأفضل طريق رأيت أن أنهجه في اتقاء تلك العيوب التاريخية أن أكتب عن كل طائفة من طوائف لبنان راجعا في ما أكتب إلى ما رواه علماؤها عنها تاركا بذلك لنظر المطالعين مجالا ولحكمهم مقاما.
وقد جعلت هذا السفر جزأين تسهيلا لتداولهما.
فالمسئول من أهل النظر والتحقيق أن يراعوا ما عرض لي من الصعوبات في التأليف ويقابلوه بالمعذرة.
صفحة غير معروفة
لبنان
لبنان كلمة عبرانية معناها الأبيض، وهو مأخوذ من بياض الثلج الذي يغشى قممه صيف شتاء، وهذه التسمية من قبيل تسمية الشيء بظاهرة من ظواهره كما هو جار في أوضاع أكثر اللغات. فلا شيء يؤثر في نفس الناظر إلى لبنان عندما تقع عينه على قممه أكثر من بياض الثلج الذي يغشاها. وغالب الظن أن التعليل في هذه التسمية على هذه الصورة إنما هو أدنى ما يكون إلى الصحة، فقد سميت جبال كثيرة باسم «الأبيض»؛ لما يكسوها من الثلج؛ مثل جبال حملايا
1
التي هي أعلى جبال الدنيا، وكذلك جبل الشيخ لحرمون الكبير من سلسلة جبال لبنان الدنيا، وكذلك جبل الشيخ لحرمون الكبير من سلسلة جبال لبنان، فإن تسميته بالشيخ - كما قال أبو الفداء - إنما هي لاكتساء قمته بالثلج كاكتساء هامة الشيخ بالشيب. وقد ذهب البعض من المحققين إلى أن تسمية لبنان بهذا الاسم مأخوذة من صنف الشجر الموجود في أرضه كثيرا المسمى باللبني، وقال آخرون: من كلمة فارسية يقرب لفظها من لفظ لبنان، ومعناها فتات الخبز. وقيل أيضا: لبياض صخوره الكلسية. ولكن هذه الأقوال كلها بعيدة بحسب حكم العقل عن الصواب، وما أوردناها إلا من قبيل التوسع في التفصيل. (1) حدود لبنان
لبنان يشتمل على سلسلتي جبال على شاطئ البحر المتوسط تمتدان من الشمال إلى الجنوب، وهما من حيث الموقع وبعض الأحوال الطبيعية لا يصح فصلهما إلى جبلين منفردين، وخصوصا لأن التأريخ القديم يقضي باعتبارهما جبلا واحدا، ولكن لما كانت بغيتنا من هذا الكتاب مقصورة على القسم الغربي، وكان لنا من المميزات الطبيعية ما يمكننا من فصلهما فصلناهما إلى لبنان الشرقي وإلى لبنان الغربي كما هو مشهور عند اللبنانيين اليوم؛ فالغربي تبتدئ سلسلته من وادي قلعة الحصن ودير الحميراء بالقرب من جبال النصيرية شمالا، وتنتهي في وادي الليطاني عند قلعة الشقيف جنوبا، وأعلى رءوسه فم الميزاب فوق طرابلس، وارتفاعه أحد عشر ألف قدم، ثم رأس صنين وارتفاعه تسعة آلاف قدم.
وأما الشرقي، فتسير سلسلته من الشمال على بعد مرحلة من حمص جنوبا بين حسيا وشمسين تجاه آخر جبال النصيرية، ثم تأخذ إلى الجنوب الغربي، وبينها وبين السلسلة الغربية سهول بعلبك وبقاع العزيز، وتعرف عند الأقدمين بأسماء ثلاثة: كيلي سورية ؛ أي سورية المجوفة، وسورية الثانية، وسورية الوسطى. وأعلى رءوس لبنان شرقي جبل الشيخ فوق حاصبيا وارتفاعه عشرة آلاف قدم، وتمتد من هذا الجبل شعبة إلى الجنوب الشرقي، ثم إلى الجنوب البحت، وتنتهي في موضع يقال له: تل الفرس.
ولو أردنا أن نذكر جميع الجبال التي يتناولها اسم لبنان بحسب اصطلاح أبناء القرون الأولى وبعض أبناء القرون الوسطى لامتد لبنان إلى جبل جلعاد - وهو جبل الصلت - وإلى جبل الكرمل وارتفاعه ألف وخمسمائة قدم. ولكن غرضنا من لبنان في تأريخنا هذا إنما هو ما يحده من جهة الشمال جبل تربل فوق طرابلس، ومن الجنوب جبل الريحان فوق صيدا، ومن الغرب البحر المتوسط، ومن الشرق وادي البقاع أو سورية الثانية، وما زاد على هذا فهو خارج عن حد موضوعنا إلا أننا يلزمنا في كثير من الشرح والتفصيل أن نورد هذا القسم متصلا بغيره مما هو مندرج تحت اسم لبنان بحسب التأريخ القديم؛ لأن أبناء تلك القرون القديمة جمعوا في كلامهم على لبنان بين السلسلتين الغربية والشرقية، ووسعوا في نطاقهما كثيرا كما سبق لنا أن أشرنا إلى هذا فيما تقدم. (2) سهول لبنان
يتصل بسلسلتي لبنان ثلاثة سهول فسيحة؛ وهي: السهل الممتد من أمام جزيرة أرواد إلى وجه الحجر شمالي البترون، حيث ينتهي بالجبل والجا في البحر، ويعرف هذا المولج برأس الشقعة أو رأس النورية، ثم يمتد هذا السهل من ناحية البترون إلى بيروت على اختلاف في عرضه، ثم يتناول الشويفات الفسيحة، ويتصل بالمكان المعروف بخلدة على شاطئ البحر فينقطع هنالك قليلا، ثم يبتدئ فيمتد حتى المكان المسمى بالسعديات وراء الدامور، فينقطع هنالك ويلبث منقطعا إلى حد القرية المسماة بقصوبة من قرى إقليم الخروب، ثم يبتدئ آخذا بالانفراج قليلا حتى ما وراء الجية حيث ينتهي في مكان يقال له: زاروط، ومن بعد ذلك يبتدئ من رأس الرميلة بالقرب من بساتين صيدا الشهيرة، ثم يجيء بعد هذا قسم من الأرض المستغدرة في بعض المواضع منها تمتد على شاطئ البحر إلى نهر القاسمية، ومن وراء هذا النهر يجيء سهل صور الذي ينقطع عند رأس الأبيض وهو على بعد سبعة أميال من صور إلى جنوبي الجنوب الغربي، ويلبث منقطعا حتى رأس المشيرفة الذي تشرف منه على سهل عكة المنتهي عند جبل الكرمل، والمعروف بمرج ابن عامر وارتفاعه أربعمائة قدم، وأما السهل الثاني: فهو السهل المسمى بسهل البقاع، تكتنفه الجبال من جميع جهاته، وفي رأسه من جهة الشمال مدينة بعلبك ذات القلعة الشهيرة، وينتهي جنوبا عند جبل الشيخ وطوله نحو سبعين ميلا، وعرضه بين ثلاثة أميال وسبعة، ومساحة أرضه أربعمائة ألف فدان (الفدان ألف وستمائة ذراع مربع) وارتفاعه عن سطح البحر تسعمائة متر.
وأما السهل الثالث: فهو سهل دمشق، يمتد من سفح الجبل الشرقي إلى بادية سورية، وارتفاعه سبعمائة وثلاثون مترا عن سطح البحر.
وهذه السهول عجيبة الخصب في تربتها، ولا سيما السهل الأخير منها، وإننا لم نتصد لذكرها مع عدم اختصاص لبناننا اليوم بشيء منها إلا لنبين فيما يأتي أن لبنان بعيد العهد في الحضارة.
صفحة غير معروفة
وقبل الانتقال من هذا المطلب - مطلب السهول - يجدر بنا أن نذكر ما عراها من التغيير والانقلاب، وأفضى بها إلى ما هي عليه الآن، وذلك على أثر الزلازل الناشئة عما في بطن الأرض من الموارج من النيران، وعلى أثر ما يحدث للأرض من حركات خفيفة بطيئة متتابعة على ممر السنين.
أما الزلازل فقد ذكرها كثيرون من المؤرخين الشرقيين القديمين والحديثين ممن كتبوا في سورية، وقد اهتموا بذكر تلك الحوادث، وبالغوا في وصف آثارها مبالغتهم في كل شيء رأوه في سنتهم فوق العادة من قحط وجوع وظهور نجوم ذات أذناب وغير ذلك، وكثيرا ما شغلهم هول المشهد ورعب الأثر واعتقاد أن ذلك ضربة خفية من يد خفية لا تبلغها نفوس العالم الأدنى بمداركها عن استكناه تلك الضربات، وإننا لنرى العالم منهم بالغا منه حب البحث عن الحقائق ما بلغ يقف عند حد واقع الحال، ولا يتعداه إلى التعليل.
وقد رأينا في العددين 7 و8 من مجلة المشرق مقالة للعالم الأب هنري لامنس اليسوعي في «الزلازل في سورية وبيان نواميسها وسيرها» يتبين منها ما كان لهذه الزلازل من الأثر في بعض الأماكن من تلك السهول؛ مما غير بعض الشيء في وضعها، فرأينا أن نلخص منها ما يتعلق بمطلبنا، وإننا لنأسف كما أسف حضرته على ما فات المؤرخين في أوصافهم المسهبة من مراعاة ما تقتضيه الأبحاث العلمية من التحقيق، ولكن لا غرو أن نرى مثل ذلك صادرا عن أبناء بلاد المعجزات؛ بلاد قام فيها حول العقيدة الخالصة سور منيع.
إن ما يصيب الثغور الشامية من الزلازل جار بين خطين متوازيين على قدر معلوم، ثم ينحرفان إلى ملتقى واحد عند حلب بشكل زاوية حادة، فالخط الأول - وهو الغربي - يبتدئ عند مجرى دجلة السفلي بقرب ديار بكر ويجري إلى الرها «أورفة» فمنبج فحلب فأنطاكية، ثم يميل إلى الجنوب فيمر بساحل البحر إلى عسقلان وغزة حيث ينتهي، وبناء عليه فإن هذا الخط يجتاز جميع ساحل لبنان. والخط الثاني - وهو الشرقي - يبتدئ عند عينتاب، وينحدر مستقيما نحو الجنوب، ويقطع الخط الأول عند حلب، ثم يجوز سائرا في وسط وادي العاصي ووهاد بلاد البقاع إلى غور الأردن.
ففي مواقع الخط الأول من البلاد المجاورة للبحر المتوسط وقع على ما رواه أصحاب الآثار عدة من الزلازل في السنين الآتية للمسيح؛ وهي: سنة 131، و360، و333، و340، و387، و444، و458، و529، و543، و560، و580، و589، و713، و775، و853، و859، و1016، و1033، و1063، و1069، و1109، و1129، و1155، و1204، و1212، و1339، و1402، و1546، و1656، و1783، و1796، و1822، و1859، و1872، و1873.
وحدثت عدة زلازل قبل المسيح منها ما أخبر به إسترابون في عرض الكلام على الموقعة التي جرت في سنة 143 قبل المسيح بين أهل عكة والقائد سربيدون؛ إذ قال: «جاشت مياه البحر بين عكة وصور، وامتدت كما في المد، وأغرقت من فر هاربا من جنود سربيدون، ولما حسرت المياه وجد جيشهم على سيف البحر بين الأسماك الهالكة.»
ومن أعظم الزلازل الزلزلة التي حدثت أيام يوستينيان الأول في سنة 345، واشتهر ذكرها في التأريخ، وبقيت آثارها إلى أيامنا هذه دالة على ما حدث في بعض الأماكن من تغيير هيئة الساحل. قال المؤرخ ثاوفان: «إن رأس الشقعة موقعه بين البترون وطرابلس، قذف يومئذ إلى البحر، وصار في مكانه خور واسع، وأصبحت الطريق شمالي هذا الرأس متعذرا سلوكها ، وأصبح الساحل صخورا قائمة فوق وجه الماء قياما عموديا.»
ولا غرو، قال الأب هنري لامنس: «إن حادثا من مثل ما تقدم ذكره حدث فغير شكل الأراضي الساحلية، فانخسفت الأرض في عدة أمكنة وساخت، ولا سيما في قيسارية وصور وصيدا وبيروت وجبيل والبترون، وربما كان ذلك هو السبب المانع من تعيين موقع صور قديما وموقع صيدا كذلك تعيينا محكما بالضبط والدقة، وفي كل هذه المدن يرى عند ركود ماء البحر مآثر جليلة ومبان عظيمة قد غمرتها المياه منذ قرون عديدة، ويشاهد عند مصب نهر الكلب آثار مقالع قديمة وهي اليوم تغمرها مياه البحر.»
هذا، ومن مثل ما أشار إليه الأب لامنس من الآثار الدالة على تغيير السواحل يشاهد كثير كما في الرأس الواقع إلى جهة الجنوب من المحلة المعروفة بخلدة، وكذلك في الأمكنة القريبة من الجية.
وفي الخط الشرقي، حدثت زلازل كثيرة خص الأب منها بالذكر ما حدث في السنين الآتية: 738، و746، و992، و1114، و1138، و1157، و1170، و1302، و1307، و1659، و1666، و1759، و1837، و1854.
صفحة غير معروفة
قال تاوفان: «إن زلزال 738 حل في وادي الأردن وفي البرية الواقعة بين القدس وبحر لوط؛ فدمر غالب أديرة تلك الأنحاء.»
وقال ابن الأثير في تاريخ سنة 1170 / 567ه: «أن حدثت في هذه السنة زلزلة لم ير الناس مثلها عمت أكثر بلاد الشام والجزيرة والموصل والعراق وغيرها من البلاد، وكان أشدها بالشام، فخرب كثير من دمشق وبعلبك وحمص وحماة وشيزر وبارين وحلب وغيرها.»
ووصف كمال الدين المعروف بابن العديم في كتاب «زبدة الحلب في تاريخ حلب» الزلزلة التي وقعت في سنة 1138 وصفا هائلا، وقد يظهر من مفاعيل مرج النيران في بطن الأرض في مواقع الخطين، فالزلزلة حينئذ تكون أسوأ عاقبة كما كان في زلزلة سنة 859 / 245ه مما وصفه الطبري؛ إذ قال: «كانت في هذه السنة بأنطاكية زلزلة ورجفة في شوال تقطع بها الجبل الأقرع، وسقط في البحر فهاج وغار منها نهر على فرسخ لا يدرى أين ذهب، وأصاب حمص ودمشق والرها وطرسوس وأدنة وسواحل الشام، وأرجفت اللاذقية، وذهبت جبلة بأسرها.» وحدث مثل هذه الزلزلة واحدة في سنة 1157 / 552ه خربت منها: حماة، وحمص، وأنطاكية، واللاذقية، وطرابلس ، وبيروت، وصيدا، وصور، وعكة.
وأثبت عبد اللطيف البغدادي في كلامه على زلزلة سنة 1202 في كتاب «الإفادة والاعتبار» نسخة كتابين وردا من حماة ودمشق يتبين منهما أن تأثرت من تلك الزلزلة قلعة حماة مع إتقانها وعمارتها، وبارين مع اكتنازها ولطافتها، وبعلبك مع قوتها ووثاقتها. وتساقطت عدة مساكن بدمشق على أهلها، وأن بانياس سقط بعضها، وكذلك صفد وتبنين ونابلس لم يبق بها جدار قائم سوى حارة السمرة، وأما بيت جن فلم يبق منها ولا أساس الجدران إلا وقد أتى عليه الخسف، وكذلك أكثر بلاد حوران غارت، ولم يعرف لبلد منها موضع يقال فيه: هذه القرية الفلانية. وجاء في أحد الكتابين: «يقال إن عكة سقط أكثرها، وصور ثلثها، وعرقة خسف بها، وكذلك صافيتا، وأما جبل لبنان وهو موضع يدخل الناس إليه بين جبلين يجمع منه الريباس الأخضر فيقال عنه: إن الجبلين انطبقا على من بينهما وكانت عدتهم تناهز مائتي رجل.»
وقد سبق لنا أن قلنا: إن الزلازل ليست هي وحدها محدثة التغيير في سواحل لبنان، بل يشترك معها في ذلك ما يحدث للأرض من حركات خفيفة بطيئة متتابعة على ممر السنين، فقد أثبت العالم الأب غدفريد زموفن - مدرس الطبيعيات في كلية القديس يوسف - في العددين 9 و12 من مجلة المشرق، مقالتين في ارتفاع ساحل بيروت وسورية أنتج منهما أن ساحل سورية على طول مداه قد ارتفع، وأن ذلك يظهر خصوصا من قرب غور المياه في المرافئ القديمة: كيافا، وصور، وصيدا، وطرابلس. ومن الرواسب البحرية التي ترى الآن مرتفعة فوق سطح البحر.
وبالجملة، فإنه مما لا شبهة فيه أن جبلا قائما مثل لبنان يناطح بشماريخه السحاب كبرياء فتقشر جلده بقذائفها من ثلوج وسيول جارفة ، وينظر إلى البحر عند مواطئ أقدامه ازدراء، فيرغي البحر ويزبد عليه، ويصدمه بأمواجه صدمات الأبطال المغاوير، وينظر إلى ما حوله من السهول الراقدة المطمئنة فيتلظى قلبه بنيران الحسد لها على سكينتها جبلا مثل ذلك، لا بد أن يعتريه هو وما حوله التغيير والتبديل على ممر السنين. (3) تربة لبنان
إن تربة البنان هي في الغالب طبقة رقيقة مرتكزة على الصخور، وأما في الوديان فسميكة لتراكم الأجراف فيها. ولما كانت الأرض في لبنان شديدة الانحدار عمد أهله إلى معالجتها بالجدران صونا لترابها من السيل، وهنا يجمل بنا أن ننبه اللبنانيين إلى أمر لا يخلو من الفائدة لو وضع موضع العمل به؛ ذلك أن تترك الأرض الشديدة الانحدار بدون حرث منبتا لصنوف الأشجار التي تقوى على النمو فيها بدون حرث تربتها مثل أشجار الآجام المتروكة وشأنها من النماء الطبيعي؛ فإن ذلك أصون لترابها من الجدران. وفي هذه الأشجار منفعة أعظم من غيرها سواء كان من جهة صون التراب لتماسك أجزائه بما يشتبك فيها من الجذور، أو كان من جهة الريع؛ فإن ريعها بطول المدى يجيء أكثر من غيرها، وأما لو حرثت هذه الأرض فإنها لا تكون في مأمن من جرف السيول مهما عولجت بالجدران، فإن المجروف من ترابها بمياه السيل يذهب من خلال الجدران. هذا إذا لم يثغر السيل نفسه تلك الجدران ويذهب بترابها، ففي كل حال لا يمر بتلك الأرض المنحدرة زمن حتى تمسي فاقدة لما عليها من تلك الطبقة الترابية، وينكشف من تحتها صخور لا تنبت شيئا. وقد ذهبت الغرة ببعض الناس إلى أن عمدوا إلى شيء من أراضي تلك الآجام على ما هي عليه من الانحدار فقطعوا أشجارها، واستأصلوا أرومها، وجعلوا يحرثونها ويزرعونها مغترين في أول الأمر بخصبها بسبب المتناثر من أوراقها طبقة فوق طبقة، فأدى بهم الأمر إلى أن رأوا تلك الأرض بعد مدة من الزمان فاقدة لما كان عليها من التراب، غير صالحة للزرع ولا للغرس، مع أنهم لو أبقوها عامرة بأشجارها لانتفعوا بها كثيرا. أما نرى أن اللبنانيين كانوا في القرون الغابرة مشهورين بتجارة الأخشاب من الأرز وغيره مما كان يستعمل في اصطناع السفن والمباني؟ ولكن ربما كانت الحاجة اضطرتهم في ذلك كله إلى اجتناء الثمرات الدانية وإن قل مقدارها، والتغاضي عن الثمرات القاصية وإن كثر مقدارها.
والأرض اللبنانية في كل حال كريمة صالحة للنمو بما يدخل في تراكيبها من الجواهر والأجزاء العضوية الصالحة لغذاء النبات ونموه، وهذه الأرض تختلف ألوانها، فمنها بيضاء وحمراء وسوداء، وما يلامس الصخور منها يكون عذيا تزداد صلاحيته للإنماء بعذاوته المكتسبة من ملامسة الصخور وبما يدخل في تراكيبه من المتحات من بعضها؛ لأن هذه الصخور لا تخلو أن تكون إما من الطباشيري، أو من الجصي، أو الصدفي، أو الرملي، أو الصواني. وبالجملة، فإن أرض لبنان جيدة كثيرا، وإن كان المستعمل منها قليلا؛ بسبب كثرة الصخور فيها. واللبنانيون لولا إقدامهم ونشاطهم لما تيسر لهم إن وسعوا في نطاق المستعمل من أراضيهم حتى بلغ ما هو عليه الآن، وذلك بإزالة تلك الصخور وتغشية البعض منها بطبقة ترابية. ولا غرو فإن افتقارهم إلى الأرض وقلة موارد الاسترزاق من دونها أوجدا فيهم ذلك النشاط؛ فإن المرء ابن الحاجة. (4) هواء لبنان
لبنان واقع بين الدرجة الثالثة والثلاثين من العرض الشمالي والخامسة والثلاثين منه، ومع هذا فإنه يختلف كثيرا من حيث جودة هوائه عن الأماكن الواقعة في هذا العرض نفسه؛ مثل: شمالي إفريقيا، ومكسيكو، والهند. وإن الإنسان ليجد فيه من كل صنف من صنوف الهواء، ويتخير منها ما يوافق مزاجه، فللبنان في هذا مزية على سائر البلدان؛ إذ الحرارة فيه تختلف درجاتها بين سواحله وأعاليه اختلافا منسوقا بحسب درجات الارتفاع لكل مائتي متر من العلو نقصان درجة واحدة من الحرارة، وإنك لو سرت من السواحل المنبسطة عند أقدامه إلى هامته لتيسر لك بمسيرة يوم واحد أن تجتاز جميع تلك الدرجات؛ إذ لو ركبت صباحا من سواحل شماليه، وحر الصيف بالغ معظمه 85 درجة من مقياس فارنهيت لما غربت عنك الشمس إلا وأنت على قمته ترشف الحياة من لطيف نسماته ، وتعلل بصرك ببياض لمته. وبالجملة، فإن هواء لبنان ملائم للأبدان على اختلاف أمزجتها، حتى أصبح يضرب المثل بجودته. والأمراض المزمنة يكاد لا يعرفها اللبنانيون إلا البعض من سكان سواحله الذين يصيبهم الالتهاب الشعبي المزمن، على أن هذا الالتهاب لا يعزى السبب فيه إلى الهواء أكثر مما يعزى إلى التفريط في الوقاية من الأعراض، والإفراط في استعمال التبغ ونحوه إلى حد ليس عليه من مزيد.
أما فصول السنة فأربعة واضحة بمميزاتها، ويظهر وضوحها كثيرا في الأماكن العالية من الجبل والأماكن الوسطى. وقبل أن ننتقل من هذا المطلب إلى مطلب غيره من مطالب جغرافية لبنان نرى من الضرورة أن نذكر أمرا يتعلق بالهواء عظيم الشأن؛ ذلك أنه من المعلوم أن الأشجار تؤثر في الهواء كثيرا، فمنها ما يفسده ومنها ما يصلحه، وذلك بحسبما تتناوله من أجزاء الهواء غذاء لها، ففي الغالب تكون الأشجار العريضة الورق أكثر ضررا من غيرها، فشتان بين شجر التوت والأرز. ومعلوم أن اللبنانيين أولعوا من زمن بغرس أشجار التوت لما لهم فيه من المنفعة ولعلمهم أن هذا الصنف يلزمه من السماد أكثر من غيره، وأن الأرض التي تحيط بالمنازل في القرى تشتمل على السماد بما يطرح فيها اضطرارا من الهوالك والقاذورات؛ فأكثروا من غرس التوت فيها، حتى إنهم لم يدعوا منها قيد ذراع بدون أن يظلله هذا الشجر، وإن كثيرا من القرى فسد لذلك هواؤها بعد أن كان نقيا صافيا.
صفحة غير معروفة
ثم إنه لو تيسر للبنان ما تيسر لغيره من البلدان من أسباب التحسين ومكملات العمران واشتغلت به يد الزراعة والصناعة كما اشتغلت بغيره لكان من أجمل البلدان وأفضلها؛ فإن الطبيعة ما ضنت عليه بشيء من محاسنها بل سخت عليه سخاء بغير حساب، ولكننا مع ذلك لا ننكر أن من تقلد زمام الأعمال فيه من المتصرفين الكرام قد بذلوا ما في وسعهم من تحسين الحال بتمهيد المسالك، وإنشاء المعابر والقناطر لأنهاره وسواقيه كما سيتبين ذلك في بابه. (5) نبات لبنان وشجره
تختلف المنابت في لبنان كثيرا بحسب اختلاف طبيعة الأرض فيه ودرجات الحرارة، حتى يكاد لا يوجد صنف من أصناف النبات إلا وله منبت صالح لغذائه ونموه من منابت أرض هذا الجبل. ومن أجل ذلك كثرت أصناف النبات فيه كثيرا؛ فإن اثنين من علماء النبات - وهما أهرنبرج وهمبريخ - قد تيسر لهما في مدة شهرين أن جمعا منه أكثر من ألف صنف ومائة صنف. وقد علمنا أن غيرهما من المشتغلين بجمع أصناف النبات - مثل الدكتور بوست والمسيو بلانش قنصل فرنسا في طرابلس سابقا - قد جمعا كثيرا من أصناف نبات لبنان، كما يتبين ذلك من كتاب أحدهما الدكتور بوست المسمى «نبات سورية وفلسطين والقطر المصري وبواديها». والسبب في هذا اختلاف طبيعة الأرض من جهة واختلاف درجة الحرارة من جهة أخرى، وقد قلنا إن طبيعة الأرض في لبنان تختلف اختلافا واضحا يعرفه خاصة اللبنانيين وعامتهم، حتى أصبح من المتداول على ألسنتهم أن بين قيد كل شبر من الأرض وشبر آخر طبيعة أخرى وكذلك درجات الحرارة فيه؛ إذ يوجد فيه من المنابت ما يصلح لنبات كل منطقة من مناطق الأرض، ذلك فضلا عن جودة هوائه وما يقع من الندى ليلا مما يلائم النبات في نموه بتلطيف سورة القيظ وبصون مائية النبات من الجفاف بالتعويض عليه من فروعه عما يفقده من جذوره بنقص المائية من الأرض لشدة الحرارة وتسلط الهواء الجاف. وحسبنا دليلا على هذا ما يشاهد من الفرق في نمو الأشجار بين عام يكثر فيه وقوع الندى ويقل الهواء الحار الجاف، وبين عام آخر يقل فيه الندى ويتسلط هذا الصنف من الأهوية.
إن ما اشتهر به لبنان من الأشجار في القرون الغابرة إنما هو الأرز، وهي كلمة معناها في العبرانية متين ومادتها في العربية من معانيها الثبات، وقد ورد ذكره في الكتاب المقدس في عدة مواضع، ومنه بني قصر داود وهيكل سليمان، ومنه خشب الهيكل الثاني الذي جدد في أيام زربابل، وكان من هذا الصنف من الشجر في أيام سليمان آجام كثيرة؛ إذ قيل إن سليمان شغل ثمانين ألف رجل بقطع الخشب منها، غير أنه لم يبق منها إلى الآن إلا شيء يسير؛ وهو أجمة فوق قرية معاصر الفخار، تشتمل على مائتين وخمسين شجرة تعرف عندهم وعند أهل القرى المجاورة لهم باسم «الأبهل»، وأجمة كبيرة فوق قرية الباروك، وأجمة فوق قرية عين زحلتا، وهذه كانت قد أحرقت لاستخراج القطران منها، ثم عادت فنمت وهي أكبرها شجرا ، وواحدة بين أفقا والعاقورة، وواحدة بالقرب من بشري يقصدها السياح من كل صقع؛ لضخامة أشجارها التي يبلغ عددها ستمائة وثمانين شجرة بين كبيرة وصغيرة قائمة بسفح الجبل في مكان يرتفع ستة آلاف قدم عن سطح البحر، وكانت الكبيرات منها في سنة 1550 بالغة 28 شجرة، وأما الآن فعددها 12 شجرة، وبعض الناس يحسبها مقدسة، وقد بني معبد إلى جانبها وفي قلب شجرة منها معبد لناسك، وقد أقام لهذه الأجمة المغفور له رستم باشا ثالث متصرفي لبنان سورا، وأجمة أخرى بين قرية تنورين وبشري صغيرة الشجر، وعدد شجراتها نحو عشرة آلاف.
والأرز من الفصيلة المخروطية، وهو عدة أنواع أصلها نوع الأرز اللبناني وهو أفضل الأنواع، يبلغ طول الساق منه أكثر من مائة قدم، ودائرته عند القاعدة تبلغ من 24 قدما إلى 30.
ومن أشجار لبنان السنديان بأنواعه، والسرو، والصنوبر، وأكثر ما يكون منه في قضاء المتن، والشربين، والأزدرخت، والجميز، والبطم، واللبنى المشهور باستعمال صمغه كاستعمال البخور كما هو وارد في نشيد الأنشاد، والنخل في سواحله ولا سيما الجنوبية منها، وقد كان عند الفينيقيين رمزا مقدسا، حتى إنه رسم على كثير من معابدهم مثل قلعة بعلبك وقلعة بزيزا في لبنان وشجر المقساس بالسواحل أيضا، ومنه يستخرج الدبق. ومن أشجاره: الزيتون، والعنب، والتوت. ويستحصل معظم رزقه من هذه الأنواع الثلاثة من الشجر، ولا سيما التوت منها فإن ما يصدر من الحرير في العام تزيد قيمته عن ثمانية ملايين فرنك، وينتفع بحطبه وثمره وكذلك بورقه علفا للمواشي، وأما الزيت المستخرج من الزيتون فمن أجوده ما يستخرج منه بإقليم الخرب من أقاليم لبنان، والسبب في جودته طريقة استخراجه، وطبيعة تربة منبته فإن الأرض البيضاء يكون في الغالب زيتها أجود من غيره.
ومنها اللوز والجوز وأشهره في شمالي لبنان والزعرور والخروب والصفصاف والطرفاء والتين والتفاح والمشمش بأنواعه، ويستخرج من نوى المرمنة زيت والكمثرى والخوخ والدراقن والليمون بأنواعه، والكرز والدلب والحور والزيزفون، واللزاب والدردار والقيقب والقطلب والزمزريق، والخروع والعناب والحناء والسفرجل. وأكثر ما يكون منه في قضا الكورة والفستق، ويطعمون شجر البطم منه والبندق والكستناء والعوسج والميس. ويوجد فيه كثير من الغراس والأنجم؛ كالدفل والصبير والموز، والورد والياسمين والآس، وقصب السكر والقصب الفارسي والغزار. ويستعمل لتربية دود القز والريحان والوزال، والقندول والبيلسان، والفل والياسمين، وكثير من النبات العطري؛ كالبنفسج والقرنفل والمردكوش، والحبق والنعنع والأقحوان، والمنثور والمضعف. ومن الحاصلات النباتية التبغ، وهو من أعظم موارد رزق اللبنانيين، وأجود ما يكون من هذا النوع إنما هو الذي يزرع في جبل الريحان وجبيل وبعض أنحاء الكورة، وأجود من ذلك كله ما يحصل من أرض دير البلمند. وقد أخذ بعض اللبنانيين في زرع الصنف الإسلامبولي من التبغ فلم يجئ على حسب المرغوب من حيث الجودة، كأن الأرض اللبنانية تشتمل تربتها على جواهر في تراكيبها لا تصلح لهذا الصنف، وخصوصا في القسم الجنوبي من الجبل، وأما القسم الشمالي فقد جاء بمحصول يقرب كثيرا في الجودة من الأصناف الإسلامبولية كالحاصل منه من قرية جوار الحوذ من أعمال قضاء المتن، والسبب لذلك في الغالب إنما هو كثرة البوتاس في الجنوب وقلته في الشمال ثم التنبك؛ فإن بعض اللبنانيين قد أخذوا في هذه الأيام يعتنون بزراعته، ولكن لم يأت بالفائدة المطلوبة إلا في بعض الأماكن مثل زحلة والجرمق من أعمال قضاء جزين؛ فإن الحاصل منه فيهما يقرب كثيرا من التنبك العجمي، ومن الحاصلات اللبنانية: الحبوب من قمح وشعير، وعدس وماش، وكرسنة وحمص، وفول وذرة، وسمسم وبيقة (باقية)، وفصة وبرسيم، وشوفان وحلبة، وبازلاء ولوبياء. وكثير من الخضراوات: كالخيار والكوسا، والملفوف والكرنب، والقثاء والقرع، واللفت والجزر، والفجل والخس، والبطيخ والبندورة، والباذنجان والبطاطة، والقلقاس البلدي والخرشف (أرضي شوكي)، والشمندور (البنجر)، وغير ذلك.
ومن الحاصلات اللبنانية أيضا «النبيذ»، وأكثره صرف غير مشوب بشيء؛ مما يدخله غير اللبنانيين في نبيذهم. فمنه الأسود والأصفر، فأما الأسود فهو في الغالب ذو عفوصة، وأما الأصفر فهو في الغالب حلو، كان في الأيام السابقة استخراجه خاصا بنواحي كسروان وما يليها إلى معاملة طرابلس ولا سيما سبعل التي قيل في نبيذها:
كل النبيذ محرم
إلا النبيذ السبعلي
ثم كثر استخراجه في جميع الأنحاء اللبنانية، وأجود ما يستخرج منه في هذه الأيام نبيذ قرية زكريت إحدى قرى قضاء المتن في لبنان، و«العرق»؛ وهو صنف من المسكرات يكاد يكون استخراجه خاصا باللبنانين، وأكثر ما يستخرج منه في مدينة زحلة، وقد اشتهر بالجودة منه ما يستخرج في قرية زوق ميكائيل إحدى قرى قضاء كسروان.
صفحة غير معروفة
و«الدبس» بنوعيه ما يستخرج من العنب أو الزبيب، ومن الخرنوب وهذا يطبخ به اللبنانيون التين كما تطبخ المربيات بالسكر، ويطبخون التين كذلك بالدبس المستخرج من التين نفسه وبالسكر أيضا.
و«الصابون» وأجود أنواعه ما كان حيث يكثر الزيتون، أي في جنوبي لبنان وشماليه، وقد اشتهرت كفرشيما في المتن بصنعه، ويتجر به مع كثير من مدن سورية وأوروبا.
و«ثمر الليمون» بأنواعه وخصوصا الكباد، والحامض منه يكثر في السواحل ويتجر به أيضا مع مدن أوروبا.
و«الإسفنج» ومغاصه يمتد من البترون إلى طرابلس، ومنه يستخرج أفخر الأصناف، وفي مغاص لبنان 120 قاربا يديرها 550 رجلا كانوا يكسبون في العام من 4000 ليرا إلى 6500 ليرا، وأما اليوم فقل الكسب من هذا الصنف لكثرة المتجرين به من دون اللبنانيين.
و«ماء الورد» ويكثر استخراجه في السواحل من أزهار الورد، و«ماء الزهر» ويكثر استخراجه في السواحل أيضا من زهر الليمون. (6) معادن لبنان
إن لبنان لا يخلو من المعادن مما يمكن الانتفاع به، ولكن ربما كان في استخراج البعض منها صعوبات تستلزم من النفقات والعمل ما يضيع دونه النفع، ومن أجل هذا كان الفينيقيون يقصدون البلاد السحيقة لاستخراج المعادن، وما كانوا ليغفلوا عن معادنهم ويسعوا إلى غيرها لولا ما في استخراجها من الصعوبات، وربما كان ما يرى من نفاية المصهور من المعادن في بعض الأماكن من لبنان دليلا على أنهم اشتغلوا بالحفر فيها وسعوا في استخراجها. ففي لبنان من معادن الحديد معدن فوق العاقورة، وآخر بالقرب من المروج القريبة من الشوير، وتعرف بآبار مرجبا.
وفيه أيضا الفحم الحجري يتخلل طبقات أراضيه؛ فقد اكتشف المغفور له إبراهيم باشا ابن محمد علي باشا سنة 1835 منجما من هذا الفحم بالقرب من قرنايل بقضا المتن، واستخرج منه قدرا كبيرا، وترك هذا المنجم وشأنه بعد مزايلته للديار الشامية، ويوجد الفحم الحجري أيضا في نواحي الشوير، وبكفيا، وفي حارة حمزة، وترشيش، وكفر سلوان من أعمال قضاء المتن، وفي بعض الأنحاء من قضاء جزين، وفي عين طورين من قضاء البترون، وفي عين الرجمة من قضاء كسروان. ويوجد أيضا في لبنان معادن أخرى؛ كالنحاس والتوتيا والفضة.
2
ولكن لجهل أهله بصناعة استخراج المعادن، وضيق ذات اليد، وعدم اعتيادهم على الصبر في الأعمال الخطيرة على اجتناء الثمرات البعيدة، ولغير ذلك من الأسباب؛ لم يطرقوا هذا الباب من أبواب الرزق الحلال. (7) حيوانات لبنان
إن الحيوان الداجن منه والآبد في لبنان كثير الأنواع؛ فمنها: العنز الطويل الآذان، وهو لا يوجد في غيره من البلدان، والخيل كريمة وغير كريمة، والجمال والبغال والحمير، والأبقار والجاموس، والأغنام ذوات الأليات الكبيرة يأتي بها التجار إلى لبنان من الخارج ويبيعونها من اللبنانيين، فيعلفونها حتى تبلغ مبلغا من السمن كبيرا فينحرونها، ويذخرون لحمها إلى آونة الشتاء، ومنها: الغزال والأرنب، والثعلب وابن آوى، والذئب والضبع، والنمس والقنفذ، والدب في بعض الأماكن كجبل صنين وجبل الشيخ، والخنزير البري في جبل الريحان وما يليه، ومنها النمر، وقد كان في السنين الماضية كثير العدد لكثرة الآجام في الجبل، وأما الآن، وقد قلت تلك الآجام ولم يعد لهذا الصنف ولغيره من أصناف حيوانات القنص عرن تتقي بها فتكات القانصين، فقل عددها كثيرا، كما قلت أنواع الطيور الأوابد كالحجال وغيرها. ومن طيور لبنان الأوابد الحجال، والحمام والغربان، والنسور والحسون والدوري. أما القواطع التي تجتازه في فصول من السنة معلومة؛ كالإوز العراقي والبواشق، والخطاطيف والسنونو، واليمام «الترغل » والسماني، والفري والدجاج الأرضي، والهدهد والشحرور والعقبان إلى غير ذلك من صغار الطيور. فكثيرة، وهكذا الحشرات والهوام فإنها كثيرة جدا، منها دود القز والنحل وعسله مشهور في القديم، ولكن تربية هذا الصنف في السواحل لا تصلح كثيرا لفقد الأزهار القائمة بغذائه في قسم كبير من السنة؛ ولذلك عول المربون له في عدة أماكن على نقل خلاياه في الشتاء إلى السواحل وردها في الصيف إلى الصرود «الجرود»، وخير النحل ما كان في العاقورة وفاريا، ومزرعة كفر ذبيان وأفقا من أعمال كسروان، وفي بعقلين والمعاصر من الشوف، وفي بزبدين وكفر سلوان وأرصون من المتن، وفي حصرون وبزعون وبشري من البترون. وأجود العسل ما كان من نحل يكون مرعاه ذا نبات عطري، وهذا في الغالب في العذي «البعل» من الأرض.
صفحة غير معروفة
وقد يسطو الجراد في بعض السنين على حقول لبنان - ولا سيما حقول السواحل منها - بعدد يحجب عين الشمس، محمولا على أجنحة الرياح من مهاب بعيدة فيجتاح الزرع، وكثيرا ما ينقف الأرض التي يقع عليها فينتج منه بعد ذلك الجراد المسمى بالزحاف، فيأخذ في الزحف وتكون وجهته في الغالب نحو الصرود.
وقد يسطو في بعض الأحيان على الجراد طائر يقال له: السمرمر. ويهلكه، وكثيرا ما يسوقه بصوته إلى البحر حيث يهلك عن آخره. وفي لبنان أنواع كثيرة من الحية منها ما له سم ناقع يقتل الملدوغ حالا إذا لم يبادر إلى علاجه في موضع ما ينجع فيه العلاج، ومنها ما ليس يؤذي لدغه، وفيه العقرب ولسعه لا يقتل إلا فيما ندر. (8) أنهار لبنان
إن مياه لبنان المنفجرة من منحدريه الشرقي والغربي تتكون منها أنهار تصب في البحر المتوسط، وتختلف أسماء هذه الأنهار في بعض الأماكن من مجاريها كما هي العادة الغالبة في تسمية الأنهار في سائر أجزاء الأرض؛ فمنها:
نهر قديشا (أي: المقدس)؛ وهو نهر كبير يجري في واد ضيق يقال له: وادي قديشا، أصله عينا ماء إحداهما منفجرة من مكان تحت بشري، والأخرى تحت دير قزحيا. تلتقيان عند أسفل الوادي حيث ينصب إليهما جداول ومياه وينابيع عديدة، فيجتمع من ذلك نهر كبير منبعه الأعلى عند أسفل أرز لبنان، ومصبه في البحر المتوسط عند مدينة طرابلس، وهناك يكنى بأبي علي وتوزع مياهه بقنوات لسقي بساتين هاته المدينة.
نهر الجوز
نهر صغير يجري في وادي الجوز ويمر بالجنوب من قلعة المسيلحة، ومن هناك تذهب منه قناة إلى البترون فتسقي ما حولها من البساتين، أصله عين ماء غزيرة بمغارة فوق كفر حلدا، وهو يصب في بحر الروم بالقرب من البترون وطوله خمسة عشر ميلا، وعلى إحدى ضفتيه آثار قنوات محكمة الوضع جرت فيها مياهه إلى البترون.
نهر إبراهيم
نهر كبير لقبه القدماء بنهر أدوني
3
وهذا النهر يخرج من مغارة أفقا بالقرب من العاقورة، ومجراه إلى الجنوب الغربي، ومصبه في بحر الروم إلى الجنوب من مدينة جبيل، وبينه وبينها نيف وخمسة أميال وطوله ثمانية عشر ميلا، وأما ينبوع تلك المغارة، فيقال إنه من بحيرة اليمونة في لحف المكمل يجري إليه الماء من منفذ في غورها في قلب الأرض، واستدلوا على ذلك بأن التغييرات التي تحدث في تلك البحيرة تؤثر في نبع أفقا، وأما مياه هذا النهر فلا ينتفع منها إلا متى دنت من جبيل. وفي سنة 695ب.م بنى له سابع أمراء المردة الأمير إبراهيم ابن أخت القديس يوحنا مارون قنطرة كبيرة لا نظير لها بين قناطر هذه البلاد في الطول والارتفاع وهي باقية إلى الآن، ومن أجل هذا لقب النهر بنهر إبراهيم؛ نسبة إليه. وإلى جانب هذا النهر قناة ذات قناطر متينة متقنة البناء تسمى قناطر زبيدة تجري عليها المياه التي كانت تؤخذ إلى جبيل، وقد درست ولم يبق منها إلا رسومها، وأما احمرار مائه فهو من فيضها وتعاليها حتى تتصل بأراض حمراء وانصباب سواق متعكرة مياهها إليه، وبنى رابع المتصرفين بلبنان المرحوم واصه باشا قنطرة لهذا النهر فهدمتها المياه، ثم عاد فبنى له نعوم باشا خامس المتصرفين جسرا من حديد في سنة 1894.
صفحة غير معروفة
نهر الكلب
وقد سماه اليونان «ليقوس» ومعناه ذئب، وهو نهر كبير بينه وبين نهر إبراهيم ثمانية أميال، وأصل مياهه عين خارجة من مغارتين في سفح جبل جعيتا جارية إلى فم الوادي هناك؛ حيث تختلط بها مياه نبع العسل
4
ونبع اللبن
5
آتية من نحو عشرة أميال من الجبل، ثم يمر هذا النهر تحت صخر مقور من أسفله يحسبه الناظر إليه أنه قنطرة من صناعة الأيدي للعبور عليها ، وهو يسمى جسر الحجر، ثم تجتمع إليه عيون حتى يصل إلى مصبه، وهو يجري إلى الجنوب الغربي، ويصب في بحر الروم إلى الجنوب من جونية كسروان. وزعم البعض أن سيزوستريس وهو رعمسيس الثاني ملك مصر لما فتح فينيقية نقر تاريخ الفتح في صخور بقرب النهر، ويقال إنه لما فتح سنحاريب ملك الآشوريين فينيقية أمر بنقر صورته، وذكر أعماله في تلك الصخور، وذلك لم يزل باقيا إلى الآن.
وفي سنة 250ق.م، بنى له أنطيوخوس ملك سورية جسرا عظيما بالقرب من شاطئ البحر؛ فهدم باعتراض أشجار اقتلعها السيل، فجدد بناءه الملك أنطونيانوس قيصر الذي تولى الملك برومية سنة 140ب.م، وأصلح البرج هناك، ومهد الطريق، ولقبه بالطريق الأنطونياني، ونقر ذلك في صخرة جنوبي الجسر، ونصب فيه القدماء قائمة من حجر كبير بهيئة كلب، وربطوه بسلسلة من حديد إلى صخرة أخرى جعلوا له فيها نقيرا للطعام؛ زعما منهم أنهم إذا طرقتهم الأعداء نبح فحذرهم منهم؛ فسمي لذلك نهر الكلب، ثم طرح تمثال ذلك الكلب إلى البحر، وهو لم يزل باقيا حتى الآن ولكن بدون رأس، ثم هدم ذلك الجسر. وفي سنة 1292ب.م جدد سيف الدين ابن الحاج أرقطاي المنصوري بناءه، وفي سنة 1750 أنشأ الأمير حيدر الشهابي قناة إلى الجانب الشمالي من النهر، وغرس في الوطا تحت القناة أغراسا من التوت لتسقى منها، ثم هدم أيضا فجدد بناءه الأمير بشير عمر الشهابي حاكم الجبل يومئذ، ثم هدم أيضا فبنى الأمير نفسه في سنة 1809 جسرا جديدا بمكان قريب منه، وهو ثابت إلى الآن. وفي سنة 1889 بنى المغفور له واصه باشا جسرا آخر بالقرب منه تمر العربات عليه؛ وذلك لأنه رأى الجسر القديم لا يصلح لذلك، ولكن لم يكد يتم بناءه إلا هدمته المياه، فعاد فبناه ثانية واكلا أمر الملاحظة على البناء وترتيبه إلى فارس أفندي الخوري وأنطون أفندي قيقانو مهندس المتصرفية اللبنانية يومئذ، فجاء جسرا منيعا متقنا لا نظير له في البلاد السورية، ونقر فيه باللغات الثلاث - العربية والتركية والفرنسية - تاريخا هذه صورته: «في ظل السلطان الغازي عبد الحميد خان، أنشئ هذا الجسر وهذا الطريق بعناية صاحب الدولة واصه باشا متصرف جبل لبنان سنة 1889.» وسماه «جسر الشوكتية»، وقد نقر فيه أيضا تاريخان؛ أحدهما للمؤرخ والآخر لأنطون أفندي قيقانو.
نهر أنطلياس
نهر صغير يبعد نحو ثلاثة أميال عن نهر الكلب إلى الشمال من مدينة بيروت يصب في البحر المتوسط مارا بالقرب من دير القديس إلياس المسمى باسمه؛ لأن كلمة أنطلياس لا تخلو أن تكون منحوتة، إما من أنطون وإلياس، وإما من أنطش إلياس، وإما من أيقونة إلياس، وهذا الأخير هو الأرجح، وأقبل ما يكون للتحريف حتى يجيء منه أنطلياس لما أن اللفظ العامي لأيقونة هو قونة. ومعلوم ما بين القاف والهمزة من الملابسة في اللفظ عند العامة، ومخرج هذا النهر من ينابيع أعلاها يبعد ساعة عن البحر المتوسط، ومن هذه الينابيع ما هو دائم الجريان؛ مثل ينبوع التنور والحاووز، ومنها ما يغيض ساعات قليلة كينبوع الصفصافات الذي يخرج فوارا من بئر احتفرها في الأرض وهو أغزر ينابيع هذا النهر ماء، وبه تدور رحى المطاحن على ضفتي النهر وهو يغيض بضع ساعات في بعض السنين كما حدث في صيف سنة 1897 وفي شتاء سنة 1898، فلبث غيضه في المرة الأخيرة ست ساعات متوالية فتلونت الأحاديث عنه وتكاثرت الأقوال، ولما عادت مياهه إلى فيضها في مجراها كانت معتكرة محمارة، ومنها ما يغيض ماؤه في بعض من السنة، ثم يعود في الربيع إلى فيضه كينبوعي الزيتونة والمغارة، ومنها ما لا يغيض أبدا.
وجميع هذه المخارج قد احتفرت منهرا واحدا تنصب فيه وتجري مسافة ساعة حتى تبلغ مصبها من البحر، وعلى الضفتين رحى كثيرة وعلى مقربة من البحر معمل للورق تديره مياه النهر، وليس يوجد معمل للورق غيره في سورية جميعها، وأما الأراضي التي تستقي من مياه هذا النهر فمن حدود ضبية شماليه إلى برج حمود جنوبيه على مسافة ساعة ونصف ساعة، وأما السر في غيضه فهو انهيال التراب في مجرى مياهه إلى حدان يستد المجرى فتنقطع المياه حتى تخترق السد وتذيبه.
صفحة غير معروفة
وقد يعلل عن غيض بعض الينابيع وعودها إلى مجاريها في أوقات معلومات بأن لمثل هذه الينابيع أحواضا طبيعية في طبقات الأرض، تتحلب إليها المياه من أماكن كثيرة أوشالا وتتجمع فيها لتنفذ من منفذ على شكل الممص الذي تفرغ به السوائل من وعاء إلى وعاء أي على شكل قوس، فمتى امتلأت الحياض من تلك المياه المتحلبة إلى حدان يصير سطح المياه فيها موازيا لنقطة يجتمع عندها انعطاف القوس اندفعت نافذة في الممص حتى تبلغ في هبوطها سطحا يكون تحت تلك النقطة فينقطع؛ إذ ذلك جريها، وهكذا تكون ذات فترات تارة منتظمة وتارة غير منتظمة، وزمن فيضها يكون غالبا في الربيع لما أن السيول تملأ نخاريب الصخور والثلج يغشى قمم الجبال فيكثر تحلب المياه، وتمتلئ أحواض الينابيع، فيجري الماء منها عدا، ثم برضا، ثم يغيض غيضا كما يشاهد ذلك في ينبوع الأربعين شهيدا
6
المنصب في بحيرة اليمونة (أي اليم الصغير) وينبوع دير الحميراء في قضاء حصن الأكراد التابع لمتصرفية طرابلس.
ولنهر أنطلياس بالقرب من دير النبي إلياس جسر صغير بناه المغفور له رستم باشا سنة 1883.
نهر بيروت
بينه وبين نهر أنطلياس ميلان، وقد سماه بلين بحسبما اتفق عليه جمهور العلماء ماغوراس، وأصله نهران أحدهما مخرجه بالقرب من ترشيش وكفر سلوان، والآخر مخرجه بالقرب من فالوغا وحمانا، وهما يلتقيان في واد تحت دير القلعة، وقيل: مخرجه من أعلى جزيرة ابن معن، وأصله ينبوع منفجر بين صخرين في أصل واحد طوله أربعة أميال، ويسمى نبع القصير مصغرا من قصر بني هناك، ويؤخذ منه قنوات تسقي أراضي ساحل بيروت، وكان في ما سلف من الأيام القديمة يذهب منه قناة على قناطر تسمى قناطر زبيدة عجيبة الأساس والبناء.
ويقال إن الباني لها زبيدة أرملة أودناتوس؛ المسماة عند العرب بزينب
7
ومن هذه القناة ينفذ الماء في ثقب داخل صخر عظيم إلى قناة أخرى كبيرة حتى يبلغ بيروت، ولكن الآن لم يبق من تلك القناة إلا أثرها، وله جسر طويل بالقرب من البحر، وفي سنة 1291ه أنشأ عليه المغفور له رستم باشا جسرا شديد البناء مستكمل الإتقان، وذلك في مكان قريب من الحازمية يبعد مسافة ساعة عن الجسر القديم، ونقر فيه تاريخا وسماه الجسر الجديد، وكان قد أنشأ إلى جانبه حديقة كبيرة يأتيها الناس كل يوم تنزيها للخواطر، وهذا النهر يجري إلى الغرب، ثم يرتد إلى الشمال وينصب في بحر الروم بالقرب من خليج مار جرجس الواقع في مكان شرقي بيروت يبعد عنها نحو كيلو مترين وربع كيلو متر ومياهه تسقي سهل بيروت بقنوات عديدة.
نهر الغدير
صفحة غير معروفة
وهو نهر لا يجري الماء فيه إلا شتاء عندما يهطل المطر غزيرا، فيجتمع فيه عند قرية كفرشيما من الأودية هناك، ويخترق السهل المسمى صحراء الشويفات، ويصب في بحر الروم، وله بالقرب من كفرشيما جسر تمر عليه العربات، بناه المغفور له فرنقو باشا سنة 1870.
نهر الدامور
دامور هو بحسب الخرافات القديمة بعل دمر، وبعل باللغة الفينيقية معناه إله، ودمر محام، وهو ابن زوجة السماء، وبوليب سماه داموراس وإسترابيون سماه تاميراس من بعل تمر؛ أي إله النخل، ودامور بالسريانية معناها العجب، وبالعربية معناها المخرب
8
وهو نهر كبير بينه وبين نهر بيروت عشرة أميال وهو مجموع من نهر الغابون الخارج من ينبوع بخشتيه، أو من عين الدلم القريبة منه ومن نهر الصفا وينبوع القاع الذي جر منه الأمير بشير عمر الشهابي إلى قصره ببيت الدين قناة تصب ماءها في وادي دير القمر؛ وذلك سنة 1815.
وقد استغرق إنشاء تلك القناة اثنين وعشرين شهرا، وكانت جميع أهل البلاد تشتغل يومين من كل سنة بتلك القناة على وجه الإعانة للأمير؛ فبلغت النفقة على إنشائها ما ينيف عن مائتي ألف درهم. وقد نظم أحد المقربين إلى الأمير المرحوم المعلم بطرس كرامة الحمصي الشاعر الشهير في هذه القناة موشحه المشهور الذي يقول في مطلعه:
صاح قد وافى الصفا يروي الظما
بشراب كوثري العس
وأفاض الشهد في روض الحما
لجلا الغم وبرء الأنفس
صفحة غير معروفة
ولكن يظهر أن ضرورة الشعر والمحسنات الشعرية قضت على الأستاذ أن يشذ عن الحقيقة التاريخية؛ لأنه يقول إن الماء وافاه من الصفا، والحال أنه من ينبوع القاع، أو أنه أراد من الصفا نهر الصفاء متناولا الينبوعين معا، ويضم إلى ذلك ينبوع عين داره، وتجتمع إليه أيضا عيون كثيرة فيصير نهرا كبيرا يجري في واد طوله اثنان وعشرون ميلا. ومن هذا النهر جر الحاكم يومئذ الأمير منصور حيدر الشهابي قناة تسقي البساتين التي هي في الجانب الأيسر من النهر، وقبل أن يبلغ سهل الدامور ينضم إليه جدول آخر له قنطرة عند قرية الجاهلية مخرجه من ينبوع الحمام بالقرب من قرية غريفة من قضاء الشوف. وينضم إلى هذا الفرع عدة ينابيع قبل أن يلتقي بنهر الدامور شمالي قرية البوم.
ولهذا النهر جسران؛ الأول في الوادي الكبير الذي بين عبيه ودير القمر. بناه الأمير زين الدين التنوخي الملقب بالقاضي فسمي جسر القاضي،
9
ثم جدد بناؤه سنة 1886 / 1303ه المرحوم واصه باشا رابع متصرفي لبنان بناء متقنا، وجعله صالحا لمرور العربات عليه بالطريق التي أتمها من سوق الغرب إلى بيت الدين؛ حيث تستقر حكومة لبنان صيفا. وقد نظم له المؤلف تاريخا نذكر منه بيت التاريخ؛ وهو:
وجعلت ذا الجسر الجديد يقول في
تاريخه إني بفضلك أشهد
والجسر الثاني في مكان يقال له ياروطي، بالقرب من البحر، وهو يسمى جسر الدامور. بناه الأمير بشير عمر الشهابي سنة 1230 للهجرة فهدمته المياه، وإلى الآن لم يزل بعض قواعد قوائمه مرتكزا في النهر وفي سنة 1869 وسنة 1870 أنشئ شرقي هذا الجسر على بعد بضع خطوات منه جسر آخر من حديد بعناية المغفور لهما داود باشا أول المتصرفين بلبنان وفرنقو باشا ثاني المتصرفين. وهذا النهر يجري إلى الغرب منحرفا إلى الجنوب، ويصب في بحر الروم بالقرب من معلقة الدامور بعد أن يسقي سهل الدامور.
نهر الأولى
بينه وبين نهر الدامور عشرة أميال. إن تعريف هذا النهر بالأولى إنما هو حديث العهد من يوم أن صارت مدينة صيدا قاعدة الشطر الجنوبي من لبنان في أوائل القرن السادس عشر أي المدينة الأولى، وأما قبل ذلك فإن العرب كانوا يعرفونه بنهر الفراديس (جمع فردوس )؛ لما حول صيدا من البساتين الشهيرة، وفي الزمن القديم كان يقال له: النهر البسري؛ وذلك نسبة إلى بسري، وهي قرية واقعة بالقرب من ملتقى النهر الجزيني بهذا النهر. ومعنى بصرة في العبرانية محصن، وإنه لا يزال يوجد في تلك الأنحاء آثار حصن يسمونه اليوم أهل تلك الناحية قلعة أبي الحسن. وهذا النهر أصله ينبوع ماء غزير معروف بينبوع الباروك
10
صفحة غير معروفة
جر منه الشيخ بشير جانبلاط قناة إلى داره بقرية المختارة سنة 1222ه.
وعندما يبلغ هذا النهر السهل المعروف بسهل بصرى يلتقي بالنهر الآتي من جزين، فيكون منهما نهر واحد توزع مياهه بالقرب من صيدا لسقي بساتينها، وله غربي تلك القناة جسر، وهو يجري إلى الجنوب الغربي، ثم يرتد إلى الغرب ويصب في بحر الروم بالقرب من صيدا، وطول مجراه ثلاثون ميلا.
نهر الليطاني
ليطاني كلمة سريانية معناها الملعون والحرام، وهو معروف بهذا الاسم في جميع مجراه في سهل البقاع وجنوبي لبنان، ولا يسمى بالقاسمية إلا عند مصبه، وتسميته هذه حديثة العهد دالة على معنى الفصل بين إيالة عكة وصيدا، وأما اليونان والرومان فسموه لاونتوس. وهذا النهر يخرج من المنحدر الشرقي للبنان من ينبوع العليق لا من عين الشمس فوق مدينة بعلبك كما يزعم البعض من الناس؛ لأن مياه هذه العين تنصب فيما جاورها من الحقول، ولا ينفذ منها شيء إلى الليطاني، ولكن ينضم إليه في السهل عدة أمواه منها أمواه نهر البرذوني وغيرها من جهة الشرق أيضا، ومتى اجتاز هذا النهر سهل البقاع نفذ من شعاب لبنان وجبل الشيخ مارا تحت قلعة الشقيف ويصب في بحر الروم بين صور وصيدا، أما نهر البرذوني فمخرجه قرية قاع الريم من أعمال قضا المتن يسقي بساتين زحلة والمعلقة وضواحيهما، ويدير عددا كبيرا من أرحاء المطاحن، وعلى ضفتيه بزحلة عدة فنادق وحدائق غناء يقصدها طلاب التنزه من أبناء البلدة والغرباء من كل صوب؛ لما بها من ترويح النفس وتعليل الخاطر بكل منظر بهيج، وقد بنى له نعوم باشا في سنة 1897 قنطرة متقنة الوضع متينة. (9) أقسام لبنان
إننا لو أردنا أن نقسم لبنان بحسبما كان مصطلحا على قسمته في القرون القديمة والقرون المتوسطة للزمنا أن نوسع في نطاقه كثيرا؛ لأن لبنان في تلك القرون كان يمتد إلى جبل الصلت وإلى جبل الكرمل، كما أثبتنا ذلك في فصل حدود لبنان. وهب أننا طرقنا في ذلك باب التوسع؛ فإنه يتعذر علينا إثبات وجه الصحة فيه لما هو معروف من أن تلك البقعة التي كان يطلق عليها اسم لبنان كانت تشتمل على عدة ممالك غير مستقرة على حال واحد؛ لأن الآشوريين واليونان والرومان بدلوا كثيرا في هيئة التقسيم لتلك البقعة عندما ضربوا سلطتهم عليها، وبناء على هذا وعلى أن غرضنا مستوعب في أقل مما تقدم ذكره، فإننا نلتزم في تقسيم لبنان الحالة الإدارية الحاضرة غير أننا قبل أن نضيق علينا مجال البحث بالتزام الحدود الواردة في تقسيمه الإداري رأينا من الواجب أن نستوفي الكلام عن أحواله أيام كان متسع النطاق فسيح الأرجاء لنعلم شيئا من أمر من عمره من أبناء الخلق في القرون الخوالي، وما ناله من حوادثهم في تلك القرون، وإلا لما تيسر لنا بعد تقيدنا بتلك القسمة الإدارية أن نتناول شيئا من تأريخه القديم إلا ما كان متعلقا بمدينة جبيل والبترون وغيرهما من بعض الأماكن مما لا تستوفى بذكره بغيتنا من تفصيل الأحوال. ومن أجل هذا قد أفردنا لهذا البحث المقالة الآتية: (10) مقالة في تاريخ لبنان القديم
يسرنا أن نرى العقول السامية من عقول بني الإنسان سالكة سبيل الارتقاء في المعارف مستطلعة من أسرار الخلق ما لا ينكر نفعه في معرفة الإنسان نفسه في كل طور من أطوار وجوده على وجه البسيطة من يوم أن كان ساذجا فطريا حتى اليوم، فلولا تلك المعرفة لما تيسر له إصلاح المختل من أمره، واستكمال الناقص من شئونه؛ فمستقبله مقيس على ماضيه.
ومن ذلك الارتقاء الارتقاء في علم طبقات الأرض وما انطوى فيها من أسرار التكوين ومن آثار الآدميين الأول الذين كانت معايشهم من الصيد ومآويهم المغاور.
فقد كان للبنان ومغاوره وكهوفه حظ من سكنى تلك القبائل الفطرية التي أبقت لنا من آثارها ما هو ناطق بجهلها استخدام المعادن لقضاء حاجاتها في معايشها، واقتصارها على قطع من الظران والصوان المنحوت وما خرشبته أيديها من عظام وخزف في الاستعانة على قضاء تلك الحاجات، وأبقت من عظامها وعظام مأكولاتها ما يدلنا على طريقة معاشها.
فذلك الطور هو الطور الحجري، أو طور الظران، وقد بحث في ما كان منه بلبنان بعض السياح من علماء طبقات الأرض بحثا كشفوا به شيئا من أسراره، وبقيت أسرار كثيرة غير مكشوفة، إما لامحاء الآثار الدالة عليها، وإما لما هو معلوم من جهل الباحثين لمواقع تلك الآثار؛ لأنهم غرباء «والغريب أعمى ولو كان بصيرا.» ومما يزيد هذا البحث صعوبة هو أن كثيرين ممن يعرفون تلك المواقع، أو يحسبون أنهم يعرفونها لا يدلون عليها طمعا في كنوز المال لا كنوز العلم، أو أنهم قلبوا رسومها وبددوا أرومها في سبيل البحث عن تلك الكنوز.
وبالجملة، فإنه يتبين مما وصلوا إليه من البحث الجيولوجي في مغاور عدلون بين صور وصيدا، وفي ناحية عقبيه وهو جدول ينصب في البحر المتوسط في شمالي شرقي عين القنيطرة وفي مغاور نهر إبراهيم وفي كهف عند نهر الجوز، وفي مغاور وادي أنطلياس، وفي الضفة اليسرى من نهر بيروت على مقربة من الجسر الحالي، وفي ضواحي طرابلس وفي مغاور جعيتة، وفي مغارة حراجل ما بين ميروبا وفاريا، وفي الرأس المجاور لمصب نهر الكلب، وفي رأس بيروت، وفي ناحية نهر الزهراني على بعد ساعة من صيدا، وفي ناحية المعاملتين أن سكان لبنان قبل طور المدنية تركوا لنا آثارا مستحجرة من شفار للقطع ومخارز ومقاشط ومجارف وغير ذلك من صوان ومن أدوات من الخزف صقيلا، أو غير صقيل ومن عظام الحيوانات مما كانوا يصيدون أكلا لهم
صفحة غير معروفة
11
ومن عظامهم أيضا.
ثم إن لبنان بعد ذلك الطور مثل سائر البلدان يغشى تأريخه القديم (نريد تاريخ نشأة الطوائف التي عمرته إلى الزمن الذي سقطت فيه صيدا؛ وهو منتصف القرن الثالث عشر) ظلمة كثيفة لا نستطيع أن نستشف من ورائها شيئا من الحقيقة إلا أن نستعين بما ورد في التوراة، وما بقي لدينا من أقوال سنكن يتن المؤرخ الفينيقي البيروتي وفيلون الجبيلي، وبما ذاع من الخرافات والتقاليد، وإن كانت في حد نفسها لا يصح الاستناد إليها بوجه من الوجوه، ولكنها كثيرا ما يستدل بها الناظر المحقق على أمر من الأمور يصح درجه في جملة الحقائق التاريخية. وسنكن يتن هو في رأي غالب العلماء بيروتي، وذهب بعضهم إلى أنه من صيدا، وآخرون إلى أنه من صور.
أما عصره فقال البعض إنه كان في القرن العشرين ق.م، وقال آخرون إنه كان معاصرا لموسى النبي، وآخرون لجدعون، وآخرون لحيرام ملك صور، وبعضهم زعم أنه كان في أيام تداعت العبادات الوثنية إلى الاضمحلال، وكيفما كان هذا الرجل فإنه لا ينكر أنه كشف بعض أمور من التأريخ القديم يمكن الاستناد إليها في استطلاع كثير من الحقائق.
أما التوراة، فقد ذكر فيها لبنان في عدة مواضع يظهر منها أنه كان داخلا في بقعة أرض نسل إبراهيم أي أرض الميعاد؛ فقد جاء في الفصل الخامس عشر من سفر التكوين في العدد (18 و19 و20 و21): «لنسلك (نسل إبراهيم) أعطي هذه الأرض من نهر مصر إلى النهر الكبير نهر الفرات، وسأمكنكم من القينيين والقنزيين والقدمونيين والحثيين والفرزيين والرفائيين والأموريين والكنعانيين والجرجاشيين واليبوسيين.»
12
وجاء في سفر العدد في الفصل الرابع والثلاثين منه (عدد 3-12) يبتدي لكم الحد الجنوبي من برية صين على جانب أدوم (وهو جبل سعير الذي يمتد إلى الشرق والجنوب من البحر الميت، وقد انتقل إليه عيسو بعد افتراقه عن أخيه يعقوب بسبب ضيق الأرض على مواشيهما كما يتبين من الفصل الخامس والثلاثين من سفر التكوين، وقال بعضهم إن عيسو سمي أدوم؛ نسبة إلى احتلاله في هذه البلاد التي كانت تسمى أدوم قبله على ما يظهر من بعض الآثار.
وقد ورد في التوراة في الإصحاح الخامس والعشرين من سفر التكوين عدد 29 و30: «وطبخ يعقوب طبيخا، فأتى عيسو من الجبل وهو قد أعيا، فقال عيسو ليعقوب: أطعمني من هذا الأحمر؛ لأنني قد أعييت.» لذلك دعي اسمه آدوم
13
بمعنى الاحمرار) فيكون من طرف بحر الملح شرقا، ثم يستدير لكم من جنوب عقبة العقارب ويمر إلى صن (وهي واقعة بحسب ما رأته اللجنة الإنكليزية العلمية التي أرسلت لبرية سينا تحت رئاسة العالم هنري بلمر سنة 1868 في عين قادش في جبل معرة) وينفذ من الجنوب إلى قادش برنيع، ثم ينفذ إلى حصرادار، ويمر إلى عصمون، ثم يستدير الحد من عصمون إلى نهر مصر نافذا إلى البحر، وأما الحد الغربي فيكون لكم البحر الكبير تخما. هذا يكون لكم تخم الغرب، وهذا يكون لكم التخم الشمالي، تخطون لكم من البحر الكبير إلى جبل هور، ومن جبل هور تخطون إلى مدخل حماة، ويكون منفذ الحد إلى صدد (وهي قريبة من حمص في بادية تدمر)، ثم ينفذ إلى زفرون (وهي في برية حمص) وينتهي إلى حصر عينان، هذا يكون حدكم الشمالي، وتخطون لكم التخم الشرقي من حصر عينان إلى شافام، ثم يهبط من شافام إلى ربلة شرقي العين، وينحدر ويماس جانب بحر كنارة شرقا، ويهبط إلى الأردن، وينفذ إلى بحر الملح. وجاء أيضا في سفر تثنية الاشتراع في العددين السابع والثامن من الفصل الأول منه ما يثبت دخول لبنان في بقعة أرض الميعاد؛ حيث قال: «فتحولوا وارتحلوا وادخلوا جبل الأموريين وكل ما يليه من القفر والجبل والسهل والجنوب وساحل البحر أرض الكنعانيين ولبنان إلى النهر الكبير نهر الفرات، انظروا إني قد جعلت الأرض بين أيديكم فادخلوا واملكوا الأرض التي أقسم الرب لآبائكم إبراهيم وإسحاق ويعقوب أن يعطيها لهم ولنسلهم من بعدهم والأموريين .»
صفحة غير معروفة
وفي قوله: «وادخلوا جبل الأموريين.» هم ولد الأموري الرابع من أبناء كنعان، وجبلهم غربي البحر الميت، ومدينتهم حصاصون تامار، ومعناها مدينة النخيل، والمظنون أنها المدينة المعروفة الآن بعين جدي وهي غربي البحر الميت. تبعد قليلا عن أريحا، وأيضا فإنه مما يثبت ذلك ما ورد في العددين الخامس والسادس من الفصل الثالث عشر من سفر يشوع؛ حيث قال: «وأرض الجبليين وجميع لبنان جهة مشرق الشمس من بعل جاد تحت جبل حرمون إلى مدخل حماة، كل سكان الجبل من لبنان إلى مياه مسرفوت، كل الصيدونيين سأطردهم من وجه بني إسرائيل، وأنت تقسمها بالقرعة لإسرائيل ميراثا كما أمرتك.» والظاهر من هذا القول أن القدماء كانوا يقسمون لبنان إلى الشرقي والغربي كما هو مقسوم اليوم.
أما اسم لبنان، ففي كل حال بقي متداولا على ألسنة الناس منذ القدم، وما انقطعت الألسنة عنه في بعض الأوقات إلا لعلة ما من العلل التي تحدث عادة في تأريخ البلدان من مثل استيلاء أجنبي يبدل الأسماء، ويغير في تقاسيم البلاد، ثم عاد ذلك الاسم إلى ما كان عليه من كثرة التداول على الألسنة.
ثم إذا نظرنا إلى الأسماء التي أطلقت على جبل لبنان مرادفة لاسمه لبنان نجدها كثيرة قد تناوله غالبها في جملة غيره من البلدان، ففينيقيا مثلا كانت على الأصح من أرواد إلى جبل الكرمل مع بعض لبنان، وسورية المجوفة وهي الواقعة بين لبنان الغربي ولبنان الشرقي، وسورية الثالثة وهي الشاملة دمشق وجبل لبنان، ثم آرام وهو الخامس من أبناء سام بن نوح، فإن هذا الاسم كان يضاف إلى أعمال عديدة؛ مثل: آرام النهرين، وآرام دمشق، وآرام صوبة، وآرام معكة. وهي ما يشمل - في غالب الظن - مرجعيون وبانياس. ثم اسم الشام الذي يطلق الآن على بلاد سورية بجملتها، وهذا الاسم قد ذهب علماء التأريخ في مأخذه عدة مذاهب أصحها أنه مأخوذ من سام بن نوح، وأصله في العبرانية والسريانية شام، أو شم. ثم إن اختلاف هذه الأسماء مع عدم تعيين أسمائها تعيينا محكما يجعل المؤرخ في ريب ، ويلجئه إلى أن يطرق أبواب الحدس والتخمين في الأشياء التأريخية، فما ورد في التوراة وأقوال المؤرخين من الكلام على الآراميين والفينيقيين والسوريين والشاميين كان في الغالب يتناول اللبنانيين، وبناء عليه فإن تأريخ لبنان القديم وسكانه القدماء يمتزج بتاريخ من ذكرنا من هؤلاء الأقوام ومواطنهم امتزاجا يتعذر تجريده خلوا من الشوائب، وما جاء منه مختصا ببعض مدن مثل جبيل وبيروت وغيرهما هو مشوب أيضا . ويليق بنا في هذا المقام أن نبين مآخذ الأسماء القديمة وما في هذا من الأقوال. «آرام»: وهو اسم الخامس من أبناء سام على ما ورد في سفر التكوين في العدد الثاني والعشرين من الفصل العاشر من هذا السفر، كان يطلق على الأراضي التي استوطنها الآراميون. وهي الأراضي الواقعة على ضفتي الفرات التي انتزح عنها بعض قبائلهم متجاوزين جبل أمانوس المعروف الآن باللكام إلى الأنحاء الجنوبية من آسيا الصغرى حتى ليكية، وعلى الأراضي الواقعة في شمال سورية والسفح الشرقي للبنان الشرقي بين الجبل والصحراء؛ فانقسم بذلك الآراميون إلى آراميي الشمال بين الفرات وجبل أمانوس، وآراميي دمشق، أو سورية الدمشقية حول مدينة دمشق الكبيرة. والكتاب المقدس أطلق اسم آرام على قسم كبير من سورية، وأضافه كما تقدم إلى أعمال عديدة مثل آرام النهرين، والمراد ما بين النهرين دجلة والفرات. وآرام صوبة، وهي على ما يظن ما بين دمشق جنوبا وحماة شمالا، وآرام رحوب وهي على ما يظن كانت في محل الجولان. ولبث هذا الاسم محفوظا تداوله بين الناس القدماء مدة قرون، حتى إن الشاعرين هومير وهسيود والمؤرخ إسترابون جاءوا على ذكره مختصا بالسوريين، ولم يمح هذا الاسم إلا عند ظهور النصرانية.
هوامش
سورية
قال العالم مسبيرو: «إنه من يوم أن أتى تطمس الأول ابن أمانوثيب بالمصريين إلى آسيا لافتتاحها كانت البلاد التي تجاوزها فيما وراء خليج السويس تدعى سورية، وذلك قبل المسيح بألف وسبعمائة سنة ونيف.» وقال بروغش: «إن اسم سورية مخفف أسيرية؛ سميت كذلك بعد استيلاء تجلت فلا صر الثاني على أعمال سورية وذلك (من سنة 745 إلى 727ق .م)، ثم استيلاء سرغون عليها (من سنة 722 إلى 705ق.م).» وقال هيرودوت (الذي ولد سنة 484ق.م): «إن لفظ السوري مختصر من الآشوري، أو الآسوري بالسين المهملة.» وقال الأب دي كارا: «إن الأولى باسم سورية أن يكون مأخوذا من أسور، أو أسوريم ابن داوان بن يقشان بن إبراهيم من قطورة بدليل أن الذين أتوا فينيقية وأسسوا مدينة صور، كانت مهاجرهم بشمال بلاد العرب، وأن الاسم آشور أو آسور سمي به أحد أعمال بلاد العرب.
وقد جاء في الآثار المصرية ذكر قوم اسمهم آسور حالفوا الحثيين سكان شمال سورية يوم محاربة رعمسيس الثاني ملك مصر في القرن الرابع عشر قبل الميلاد.» وقال أيضا: «إنه وجدت صفيحة بمصر كتب عليها بالهيروغليفية: روثانو، وباليونانية: سورية، وبلغة الشعب المصرية: أساراواسور.
ومعلوم أن الروثامو يطلق على سكان سورية الشمالية.» وقال أيضا: «إن هذا الاسم مدروج في عداد الذين قهرهم رعمسيس أحد ملوك الدولة التاسعة عشرة في مصر مكتوبا على جدار هيكل إدفو بمصر، وذلك كله يدل على أن تسمية البلاد بسورية هي أقدم عهدا من عهد علماء اليونان المعروفين، وقيل إن أول من نقل الاسم آرامي إلى سوري هم اليونان؛ فانتشر هذا الاسم في جميع العالم بسبب انتشار اللغة اليونانية، وقد محي اسم الآرامي بعد افتتاح الإسكندر البلاد، وحل محله اسم السوري؛ فإن اليونان كانوا يبدلون في الحروف الهجائية، ويغيرون في أوضاع الألفاظ بحسبما يوافق لغتهم ويسهل عليهم لفظه؛ فجعلوا آشورية أسورية، ثم سورية. وقال بعض إن اليونان اتخذوا اسم سورية من صور؛ لأن أهل صور كانوا معروفين عند أهل إغريقية أكثر من غيرهم من سكان سواحل لبنان، وذلك عند ظهور اسم سورية، وكيفما كانت البواعث على هذه التسمية فإن الاسم أجنبي لا وطني.» (1) كنعان
هو كنعان بن حام بن نوح، كما ورد في سفر التكوين في العدد الثامن عشر من الفصل التاسع من هذا السفر، وفي العدد العاشر من الفصل السادس منه، وقد سمي سكان جانب كبير من لبنان باسم كنعانيين؛ فإن القبائل الكنعانية - على ما قال مسبيرو - قد انقسمت بعد الفتح المصري إلى فريقين: فريق منهما استوطن في الوديان الكائنة في داخل البلاد بين أمانوس (اللكام) وسعير، وفي السهول الممتدة من جنوب الكرمل إلى الصحراء وإلى تخوم مصر، والفريق الآخر استوطن السواحل بين الكرمل ومصب العاصي وبين جبل لبنان والبحر. وقد اختلف الفريقان في العادات والأخلاق باختلاف مواطنهما، فالمقيمون في داخل البلاد كانوا أهل زراعة ورعاة بحسب أماكنهم؛ فافترقوا إلى عدة قبائل، كل قبيلة منها تحارب الأخرى، وكانت نار الفتن بينهم دائمة الاضطرام، وأما كنعانيو السواحل فلانحصارهم بين الجبل والبحر لزموا صناعة الملاحة والتجارة.
وأما انتجاع الكنعانيين سورية فقد كان قبل أن يأتيها إبراهيم من أور الكلدانيين؛ إذ جاء في سفر التكوين في العددين الخامس والسادس من الفصل الثاني عشر منه «وأتوا أرض كنعان، فاجتاز إبرام في الأرض إلى موضع شكيم وإلى بلوطة ممرا، والكنعانيون حينئذ في الأرض.» فكان انتجاعهم ذلك قبل القرن الحادي والعشرين قبل الميلاد؛ وهو القرن الذي جاء فيه إبراهيم من أور الكلدانيين، أو بعده بقليل. وقد ذهب لانورمان إلى أن انتجاعهم ربما كان في أواسط القرن الثالث والعشرين ق.م؛ لأنه في ذلك الزمان ثار العيلاميون على الكوشيين في بابل وأنحائها، فانتزح الكنعانيون عن مواطنهم في جوار ولد عمهم كوش، وأما هيرودوت المؤرخ اليوناني فقد جاء في تأريخه ما يفيد أنه كان للكنعانيين أثر في سورية قبل ذلك العهد بكثير، وهو هيكل ملكرت الشهير في جزيرة صور، فإنه بني فيما رواه هذا المؤرخ نحو سنة 2750ق.م، وأما العالم الفرنسي شباس فقد ترجم البابير
صفحة غير معروفة
1
المندرج فيه كتاب العامل المصري إلى مولاه منيمهات الأول من ملوك الدولة الثانية عشرة في مصر الذي أرسله إلى بلاد أدوم وجرار وغيرهما من الأعمال في جنوبي فلسطين؛ ليتجسس أمورها ويستكشف أحوالها، ولم ير في ذلك الكتاب ذكر الكنعانيين واردا في جملة من كانوا في تلك الأيام أيام الدولة الثانية عشرة ساكنين في تلك البلاد من الساثيين والجبابرة. والساثيون هم من القبائل السامية، وأما مهاجر الكنعانيين فهي على ما رواه هيرودوت مأخوذا عن التقاليد الفينيقية وما تلقاه إسترابون من تقليد سكان بلاد العرب الجنوبية، وفيما أخذ من الآثار القديمة واقعة على شاطئ خليج العجم في جوار ولد عمهم كوش. وقد قال بلين إنه كان في أيامه عمل على ذلك الشاطئ يسمى بلاد كنعان، وذكر إسترابون جزيرتين هناك كانتا تسميان صور وأرواد، وقال إن بهما هياكل تشبه هياكل الفينيقيين، أما أسباب ارتحالهم فقد اختلف المؤرخون فيها، فقال هيرودوت إن السبب هو حدوث زلزلة شديدة في البلاد التي هاجروا منها، وقال مؤرخو العرب - فيما رواه العالم برسفال في كتابه تأريخ العرب قبل الإسلام - إن السبب في انتزاحهم حرب اضطرمت نيرانها بينهم وبين سلالة نمرود. وروى لانورمان أن الكنعانيين هجروا مواطنهم؛ بما وقع لهم مع الملوك الكوشيين من النزاع.
ينتج من كل ما تقدم أنه مهما تضاربت آراء المؤرخين فيما يتعلق بمهاجر الكنعانيين، والأسباب التي بعثتهم على المهاجرة قد اتفقت على أن هؤلاء الأقوام أتوا سورية من بلاد أخرى، وأن سورية كانت قبلهم قد أهلت بأقوام آخرين. (2) فينيقية
إن الكنعانيين سكان السواحل قد سموا فيما رواه مسبيرو فينيقيين، وإن هذه التسمية بحسب التقاليد اليونانية مشتقة من فينكس ابن أجنور، وأجنور مرادف بيل إله الفينيقيين. وقد ذهب جمهور من المؤرخين إلى أن فينكس إنما يراد بها الشعب الأحمر؛ وهذا إما لأن الفينيقيين استوطنوا وقتا طويلا سواحل البحر الأحمر (الأريتره)، وإما لأنهم أنشأوا معامل للمنسوجات الأرجوانية في محالهم التجارية، وإما لاحمرار لون وجوههم. وإن الرأي المتبع حتى هذه الأيام الأخيرة هو أن فنيكس يراد به النخل، وفينكسية يراد بها بلاد النخل. وقال مسبيرو أيضا إن فنيكس لفظ توسع فيه مأخوذا من فون أو بوني، اسم قديم أتى به الكنعانيون من منازحهم، وصحبهم في جميع البلدان التي استقروا فيها، فإن أقدم الآثار المصرية قد جاء فيها ما يدل على إطلاق اسم بوني على الأقاليم الشرقية لبلاد العرب؛ فكنعانيو الخليج العجمي أتوا باسم فينيقية إلى سورية، وفينيقيو سورية أتوا به إلى إفريقية ، وفينيقيو إفريقية نشروه حتى أبلغوه قواصي مستعمراتهم.
إن الأسفار المقدسة التي كتبت باللغة العبرانية لم يرد فيها اسم فينيقية بل جاء فيها اسم كنعان وبلاد الكنعانيين، وأما سفر المكابيين وأسفار العهد الجديد فقد ورد فيها اسم فينيقية؛ لأنها كتبت باللغة اليونانية. والظاهر من ذلك أن الاسم فينيقي يوناني، وقد قيل إن تأويله النخل؛ لكثرة النخل في البلاد التي سميت بهذا الاسم، ودليله وجود صورة النخل على المسكوكات
2
القديمة في فينيقية وبعض مستعمراتها.
وقد أفرغ العلماء جهدهم في التنقيب عن أصل لهذا الاسم في اللغة السامية فلم يدركوا المرام، وقد وهم العالم بوشار أن فنيق مشتق من لفظ «بني عناق»؛ وهم قوم من الجبابرة الكنعانيين وجدهم الإسرائيليون بأرض حبرون كما يتبين ذلك من سفر العدد في العدد الثالث والعشرين والتاسع والعشرين من الفصل الثالث عشر منه، ومن سفر يشوع في العدد الحادي والعشرين من الفصل الأول منه. والحقيقة أن هذا الاشتقاق بعيد الاحتمال بما في ذلك من مباينة الحروف بين اللفظين، وأن اسم فينيقي في غالب الظن أطلق على سكان السواحل الذين كثر في أرضهم النخيل، وانتشرت معامل منسوجاتهم الأرجوانية.
وجملة القول أن هذا الاسم قد تسمى به سكان سواحل لبنان زمنا مديدا كانوا فيه بالغين أقصى درجات العمران والحضارة بين أمم تلك القرون الخوالي، وكانت سفنهم تتهادى فوق أمواج البحار، وما لغيرهم من سائر الأمم والشعوب خشبة طافية فوق الماء؛ لأن أول سفينة جرت في البحر (بعد سفينة نوح) إنما هي سفينة فينيقية؛ فعدوا لذلك أصحاب اكتشاف
3
صفحة غير معروفة
الملاحة في البحار، وقد بلغت تجارتهم مبلغا من النجاح عظيما، وراجت عندهم الصناعة بما كان يتيسر لهم من نقل سلعها إلى غيرهم من الأمم، وقد كثر عدد سفنهم كثيرا، حتى قيل عن صور إنها مليكة البحار وربة التجارة.
وقد اتجر الفينيقيون بصنوف كثيرة، ومما رواه النبي حزقيال تتبين هذه الصنوف والبلدان التي امتدت التجارة الفينيقية إليها، فقد جاء من كلام النبي على صور (والمراد بها مملكة صور؛ أي: فينيقية) في الفصل السابع والعشرين في العدد الثاني عشر منه «ترشيش (يريد إسبانيا) متجرة معك في كثرة كل غنى، وبالفضة والحديد والقصدير والرصاص أقامت أسواقك.» ثم ذكر في العدد الثالث عشر ياوان وتوبل وماشك (وياوان بحسب التقليد العام جد اليونان في آسيا وأوروبا، وتوبل وماشك وردا في الآثار المسمارية باسم تابالي وماشكي، فمساكن التاباليين - فيما قال يوسيفوس - بين بحر قزبين والبحر الأسود حيث هي كرجستان، وأما مساكن الماشكيين فحسب رأي الأقدمين كانت في الشمال من آشور) فقال: «ياوان وتوبل وماشك متجرون معك وبنفوس الناس، وآنية النحاس أقاموا موسمك.»
وفي العدد الرابع عشر: «آل توجرمة بالخيل والفرسان والبغال أقاموا أسواقك.» والمراد بآل توجرمة الأرمن، فمن تقليدات الأرمن أن جدهم يسمى ترجموس، أو ترجوم.
وفي العدد الخامس عشر: «وبنو ددان متجرون معك، وجزائر كثيرة تجار يدك، وقد أدت قرون العاج والأبنوس قياضا لك.» والمراد ببني ددان أهل الجنوب من العربية وجزائر البحرين.
وفي العدد السادس عشر: «آرام متجرة معك في كثرة صنائعك، وبالبهرمان والأرجوان والوشي والكتان والمرجان والياقوت أقامت أسواقك.» والمراد بآرام آرام الشمال، وآرام الجنوب بسورية وما بين النهرين.
وفي العدد السابع عشر: «يهوذا وأرض إسرائيل متجرتان معك وبحنطة منيت والحلاوى والعسل والزيت والبلسان أقامتا موسمك.» والمراد بيهوذا وأرض إسرائيل بلاد فلسطين.
وفي العدد الثامن عشر: «دمشق متجرة معك بكثرة صنائعك من أجل كثرة كل غنى لك بخمر حلبون (حلب) وبالصوف الأبيض.»
وفي العدد التاسع عشر: «دان وياوان بالغزل أقامتا أسواقك، وكان في موسمك حديدهما المصنوع وقصب الذريرة.» (وهو يستعمل، إما للصبغ وإما للتداوي به) وربما كان المراد بدان لضمها إلى ياوان جزائر البحر المتوسط.
وفي العدد العشرين: «ددان متجرة معك بالنمارق.»
وفي العدد الحادي والعشرين: «العرب وجميع رؤساء قيدار هم تجار يدك بالحملان والكباش والتيوس، فإنهم بهذه اتجروا معك.»
صفحة غير معروفة
وفي العدد الثاني والعشرين: «تجار شبا ورعمة متجرون معك وبأفضل كل طيب، وبكل حجر كريم، وبالذهب أقاموا أسواقك.» والمظنون أن المراد بشبا قوم استوطنوا على شاطئ بحر عامان، وبرعمة قوم سكنوا على الشاطئ الغربي من خليج العجم.
وفي الثالث والعشرين والرابع والعشرين: «حاران وكنة وعادان وتجار شبا وآشور وكلمد متجرون معك؛ هؤلاء يتجرون معك بالأنسجة الفاخرة بأردية من السمنجوني والوشي وبالنفائس من الثياب المبرمة المشدودة بالحبال المعكومة بين بضائعك.» وقد جاء في أقوال هوميروس أن الفينيقيين كانوا يتجرون بالرقيق كما قال النبي حزقيال.
وقد بحث العلماء في المحال التي ذكرها النبي حزقيال بحثا طويلا، وفندوا ذلك تفنيدا ليس من شأننا استيعابه في هذا المقام؛ فإن الذين كتبوا تأريخ سورية كالعلامة المطران يوسف الدبس وغيره قد استوعبوا ذلك بالتفصيل، وحسبنا أن نقول إن الفينيقيين اتجروا مع أهل آسيا ومع أهل أفريقيا ومع أهل أوروبا تجارة كبيرة في اليابسة والبحار، فقد احتكروا التجارة في مصر مدة أربعة قرون بجزية كانوا يدفعونها إلى الفراعنة، فحمتهم الفراعنة
4
فاتسع نطاق تجارتهم البحرية في ظل تلك الحماية، فإن الفينيقيين قد انتفعوا من الفتح المصري خلافا لسائر الشعوب السورية، ولم يمسهم شيء من الضرر والأذى في أثناء المحاربات؛ لبعد مواطنهم عن ممر العساكر التي كانت تسير من غزة إلى أشدود، فمجدو (وهذه كانت محطة الحروب بين المصريين والسوريين) ومن هنالك إلى قادش الجنوبية، ثم بين اللبنانيين إلى قادش الشمالية، فحماة فحلب حتى كركميش.
وقد لبث سكان جبيل وبيروت وصيدا وصور دائنين لسلطة الأجانب من الفراعنة منذ عصر تطمس الأول إلى عصر رعمسيس الثاني، وكان لهم امتياز أن يتجروا مع مصر، وبواسطة ذلك الامتياز قد تسنى لصيدا بعدما حلت من حيث السيادة بين الفينيقيين محل جبيل إن وسعت في نطاق فن الملاحة وبلغت ذروة المجد والغنى.
لما كان الفينيقيون قد كلفوا بجمع الثروة من أبواب التجارة والصناعة مدفوعين إلى ذلك بمقتضى حال مواطنهم نزعت نفوسهم إلى الاستعمار، ولا سيما في أيام سؤدد صيدا، فكانت جالياتهم في قبرس ورودس، وقد وجد في كريت آثار لهم تدل على أنهم استوطنوا هذه الجزيرة مدة من الزمن، وكذلك في بلاد اليونان. فقد قال هيرودوت عن أهل تابس ذات الأبواب السبعة إنهم فينيقيون من القوم الذين صحبوا قدموس إلى بواتسيا، وعلموا أهلها حروف الهجاء الفينيقية. وقد ذهب جماعة المؤرخين مذهب هيرودوت، ووافقهم لانورمان، وخالفهم الأب دي كارا؛ فإنه رأى أن الذين أتوا بواتسيا هم حثيون لا فينيقيون. وقد كانت للفينيقيين محال تجارية في شطوط الأبير وجنوبي إيطاليا وفي صقلية وقرطاجنة وبلاد العرب والكلدان وأرمينية، وكانت سفنهم تجتاز بوغاز الدردنيل وبحر مرمرا والبوسفور إلى البحر الأسود، وتسير فيه حتى تبلغ جنوب جبل قاف، فتأتي من هنالك بالمعادن الثمينة ولا سيما الذهب، وقد انتشرت معارف الفينيقيين وآدابهم وعبادتهم في جميع الأماكن التي داستها أقدامهم كما يدل على ذلك ما بقي من آثارهم، أما مدن فينيقية السورية فهي أرواد عاصمة الأرواديين من بني كنعان، وكان موقعها في الجزيرة المعروفة حتى الآن باسم أرواد وماراتوس المعروفة الآن بعمريت
5
وسمييرا عاصمة الصماريين، وقال لانورمان إنها في الجنوب من عمريت بالقرب من مصب النهر الكبير، وعرقة عاصمة العرقيين وهي معروفة باسمها حتى اليوم، وأرتوسيا وهي طرسوس، أو بلدة أخرى تقرب منها، وطرابلس وهي التي سماها اليونان تريبوليس أي المدن الثلاث، وقلموس والمظنون أنها كانت في محل القلمون اليوم، وجيفارتوس وترياريس ولا يعلم موقعهما حتى الآن، والبترون
6
صفحة غير معروفة
وجبيل، وهي من أقدم المدن وبانيها بحسب التقليد الإله إيل، وبيروت وهي قد أسسها أهل جبيل وخلدوا، وموقعها يظن أنه في محل خلدة الآن، ويورفيريون ويظن أن موقعها في المحل المعروف اليوم بالجية، وصيدون القديمة وهي صيدا وسربتا المعروفة الآن بصرفند، وصور وأوس واسمها إسكندرونة كما سماها اليونان، وكيكينا وكان اسمها في أيام السلوقيين اللاذقية والآن تسمى أم العواميد، وأكزيب وهي المعروفة اليوم بالزيب، وعكة وهي التخم الجنوبي لبلاد الفينيقيين. وقد انقسمت هذه المدن على غير تساو بين القبائل على اختلافها، فأفضى الأمر إلى أن تألفت منها ممالك صغيرة، كل مملكة منها مستقلة عن أخواتها؛ فكانت مملكة الصيدونيين ومملكة الجبليين ومملكة العرقيين ومملكة السينيين ومملكة الصمريين، وفي بادئ الأمر كان للجبليين على جميع الفينيقيين سلطة حقيقية، وكان لهم مملكتان مملكة جبيل ومملكة بيروت؛ فجبيل كانت تفتخر بأنها أقدم مدينة في العالم، وأنها قد بناها الإله إيل في صدر الخليقة في مكان غير المكان الذي وجدت فيه بعدئذ، وقد افتخرت بيروت بأن بانيها الإله إيل أيضا، وهاتان المملكتان كانتا ضعيفتين لا تستطيعان حفظ استقلالهما؛ فاندرستا وأخذت مدنهما وأراضيهما، وإذ ضعفت جبيل فلم تلبث صيدون أن أصبحت من أعظم المدن الفينيقية مع أنها في أول نشأتها كانت بلدة حقيرة لصيد السمك كما يدل عليه اسمها، وكانت في المنزلة دون صور وجبيل وبيروت، والذي أنشأها بحسب التقاليد إنما هو إيل الذي أنشأ صور؛ وهو أجنور اليونان.
إن الأسباب التي بعثت الفينيقيين على أن يلتمسوا الكسب من أبواب التجارة هي التي بعثتهم على إتقان الصناعة، فبينما كان غيرهم من الأمم يسعى إلى إعلاء شأنه بقوة السلاح في ميادين القتال إذا هم كانوا مشتغلين بإتقان الصناعة والبحث عن محسناتها، فقادهم الاتفاق إلى اكتشاف اللون الأرجواني واستخراج مواده من حيوانات بحرية من ذوات الصدف، مما كان يوجد على شاطئ البحر بين حيفا وصور وعلى بعض الشواطئ اليونانية، فكانوا يستخرجونه لصبغ البرفير الذي رغب فيه القدماء واتخذه ملبسا كثير من الملوك، ولا سيما ملوك آشور وآرام وبابل وفارس ومدين كما يتبين لنا ذلك مما ورد في نبوات حزقيال وأرميا ودانيال. وكانت الملابس من هذا الصنف ينفق في أثمانها أموال كثيرة، حتى قيل إن أحد قياصرة الروم لما سألته زوجه أن تلبس البرفير أبى ذلك عليها؛ لما أن الدولة تتحمل به نفقة كبيرة. وقد مهر الفينيقيون في صناعة الصبغ على اختلاف أنواعها وتوفرت لديهم مواد الصبغ، فكانوا يأتون بنوع من النبات من بلاد العرب لونه كالأرجوان.
ومن أشهر المصنوعات الفينيقية الزجاج، وقد قيل إن المصريين سبقوهم إلى استنباطه، ولكن الزجاج الذي كان يصنعه المصريون لم يكن شفافا كالزجاج الفينيقي، وأما معامل الزجاج الفينيقي فكانت في صيدا وصرفند، ويوجد في متاحف أوروبا كثير من مصنوعاتها؛ مما يتبين منه مهارة الفينيقيين في هاته الصناعة. وقد اشتهر الفينيقيون بصناعة النقش والحفر وعمل الآنية الخزفية والمصنوعات المعدنية، ولا سيما الصفر (النحاس الأصفر). ويؤيد ذلك ما جاء في الفصل السابع من سفر الملوك الثالث؛ إذ قيل: «وأرسل الملك سليمان، فأخذ حيرام من صور؛ وهو ابن أرملة من سبط نفتالي وأبوه رجل من صور صانع نحاس، وكان ممتلئا حكمة وفهما ومعرفة في عمل كل صنعة من النحاس، فوفد على الملك سليمان وعمل كل صنعته.» وما جاء أيضا في الخطوط الهيروكلفية على عهد الدولتين الثامنة عشرة والتاسعة عشرة في مصر من ذكر آنية النحاس من صنع الفينيقيين موصوفة بكونها بديعة الصناعة مستكملة الإتقان. وجاء في كتاب إسترابون أن الفينيقيين كانت تجارهم تبعث إلى جزائر بريطانيا أسلحة من الصفر وآنية خزفية، وقد وجد في جزيرة قبرس وفي تسكانا من أعمال إيطاليا كئوس مصوغة من معادن ثمينة بأيدي الصاغة الفينيقيين. وذكر النبي حزقيال أن الصوريين كانوا بارعين في صنع العاج، ومعلوم أنه لم يكن عسيرا عليهم استجلاب أسنان الأفيال، وقد بلغوا بتجارتهم الهند وشمالي أفريقيا، وقد اشتهر الفينيقيون بصنع الأطياب أيضا.
تبين لنا مما تقدم أن أرض الفينيقيين لم تكن خصبة وسهلة المراس مثل أرض غيرهم من أقربائهم الكنعانيين والآراميين، ومع ذلك فإنها كانت متقنة زراعتها. ولم تزل آثار الإصلاح بادية فيما اشتغلت به أيديهم منها، كما يتبين هذا في أرض سواحل لبنان ولا سيما الجنوبية منها، فإنها مقطعة بجدران تقطيعا يصون ترابها، ويسهل مراسها لنصب الكروم فيها. ومهما غيرت الحوادث الطبيعية من حالتها، وقلبت سيول الأمطار من وجهها المتحدر، وغيرت أشجار الغابات من وضعها فإنه لا يغرب عن الناظر المحقق أثر ذلك التقطيع بتلك الجدران؛ لأنه لم يعف بل هو باق ينطق بمهارتهم واجتهادهم. وذكر لانورمان كثرة كروم العنب للفينيقيين في ضواحي صور وصيدا وبيروت وجبيل، وأنهم كانوا يعصرون منها ومن عنب لبنان خمرا جيدة فاقت بشهرتها في أيامها جميع أصناف الخمر، حتى رغب أهل رومة وبلاد اليونان فيها كثيرا، وقال رنان إنه اكتشف في ضواحي صور آلات للحراثة بالغة في المتانة والإتقان مبلغا تفوق به غيرها من الآلات المستعملة اليوم. وليس بكبير على الفينيقيين أن يصلحوا أرضهم ويصنعوا لها مثل تلك الآلات، وقد اشتهروا في فن الكسب من أبواب التجارة والصناعة، ونما فيهم الميل إلى الاقتصاد والتدبير؛ فلا غرو أنهم لم يدعوا شيئا لهم ربح منه إلا أتوه، واستدروا المنافع منه بقدر ما وصل إليه إمكانهم.
إن الفينيقيين - فيما أجمع القدماء عليه - هم أول من وضع الكتابة بالحروف وجاءوا بها اليونان، وقيل إنهم أخذوها عن الخطوط الهيروكليفية. وأثبت هذا العالم شمبوليون الذي اشتهر بحل الرموز الهيروكليفية. وروى هيرودوت أن الفينيقيين الذين صحبوا قدموس إلى اليونان أدخلوا بين هؤلاء علوما مختلفة، منها علم حروف الكتابة. وأثبت هذه الرواية ديودور وتاسيت وميلا ويوسيفوس وكلامانس وألكسندريتوس وأوسابيوس. وقال رنان إن حروف الفينيقيين كانت صنفا في جملة أصناف البضائع التي كانوا يشحنونها، وجاء في كتاب لانورمان أن الحروف الفينيقية هي أم لجميع الحروف، فمن هذه الحروف ما تفرع عنها مباشرة، ومنه ما تفرع عن فروعها، والسبب في ذلك كله أسفار الفينيقيين للاتجار؛ فإنهم أذاعوا حروفهم في معظم المعمور من الأرض كما نشروا تجارتهم فيه. أما لغة الفينيقيين فسامية وإن كانوا كنعانيين، وهي أخت اللغة العبرانية التي تكلم بها العبرانيون من الساميين وأخت اللغة العربية التي تكلم بها العرب من الساميين أيضا، أما علوم الفينيقيين فلا شك أنها كانت أوسع نطاقا من علوم جميع الأمم في تلك الأعصر القديمة؛ لأنه يستحيل أن يبلغ هؤلاء القوم ما بلغوه من إتقان التجارة والصناعة ما لم يكونوا قد برعوا في العلم؛ فإن الحركة الفكرية التي دفعتهم إلى استيفاء معدات الحضارة ساقتهم إلى مباحث العلم. ولكن لم يبق لنا من آثار علومهم ومن كتبهم شيء يذكر إلا ما ترجمه فيلون الجبيلي من كتاب سنكن يتن البيروتي وما نقله أوسابيوس وبرفير والدمشقي من بعض المقاطيع منه، وهو يشتمل على الكلام في أصل العالم وموالد الآلهة ألفه سنكن يتن، وأتحف أبيبعل ملك بيروت به. أما ديانة الفينيقيين
7
فلا يعلم من أمرها إلا ما دلت عليه أقوال سنكن يتن وما وجده الباحثون من المسكوكات والأصنام الصغيرة في قبرص.
قال أوسابيوس: «إنه من المعلوم الثابت أن الفينيقيين والمصريين هم أول من جعل الألوهية في الشمس والقمر والكواكب، وصرح بأنها علة للحياة والموت.» أما المصريون فكانوا يسمون معبودهم الشمس رع، أو عمون رع، والكنعانيون يسمونه بعل شمائيم أي رب السماوات، وأما الاسم الذي انتشر أكثر من غيره من جميع الأسماء فهو إيل أي القوي، والأول وهو الذي كان الجبليون يسمون به أخص آلهتهم، وقد جرى هذا الاسم على ألسنة الآراميين والكنعانيين والعرب، ونطق به يسوع المسيح وهو على الصليب؛ حيث قال: «إيلي إيلي لماذا شبقتني؟» يعني: إلهي إلهي لماذا تركتني؟ وهو أقدم من غيره من الأسماء، وربما كان آراميا، نطق به الجبليون القدماء قبل سؤدد الفينيقيين. والاتفاق في هذه التسمية بين العبرانيين وسائر قبائل الآراميين وبين الجبليين يدل على وحدة أصلهم من سام. وقد اتخذت العشائر الآرامية والكنعانية أسماء أخرى؛ كل اسم منها يدل على صفة من صفات الألوهية، فالحثيون الشماليون سموا الإله ست أو ستخ، وأرادوا به القدير على كل شيء، وبعض الآراميين هدد وأرادوا به الواحد الأحد، والعمونيون ملوك (ملوخ) وأرادوا به الملك والمتسلط وغير ذلك كثير مثل عليون أي العلي، وبعل أي السيد، وأدوني أي سيدي، وأيون أي الأزلي، وكبير أي الكبير، وقدم أي القديم. أما اليهود فهم وحدهم الذين حفظوا للإله الأسماء بمعانيها الحقيقية المطلقة، خلافا لجميع القبائل الكنعانية والآرامية؛ فإنهم عددوا الآلهة بتعداد الصفات، وجعلوا منها ذكورا وإناثا يتزوجون ويتوالدون، ولم يكتفوا بذلك بل خصصوا الآلهة بالأمكنة؛ فكان مثلا بعل صيدا وبعل صور وبعل لبنان وبعل حرمون وبعل دامور وبعل فاغور وبعل زبوب وبعل بيريث وبعل ترز وبعل ترسوس وبعل جاد وبعل حامون وبعل شاليشا، وكان كثير منهم يضيفون أسماءهم إلى بعل تبركا به، كما كانوا يضيفون أسماءهم إلى إيل.
أما الحكايات التي أذيعت عن إيل فكثيرة، قال سنكن يتن إن إيل طاف جميع الآفاق ووزع ممالك الأرض على أبناء خاصته كافة، وقد نسبت له غزوات كثيرة، وكانت له زوج اسمها سميرام، فولد له منها بيك فسمياه زوس (زفس) أي المشتري، فلما بنى إيل أسوار بابل عهد بالحكم إلى زوجه سميرام، وسار هو بجيش جرار ليفتح المغرب، وقد كان له ذلك، وأخضع جميع العالم لسلطته، وأنشأ المدن، وأقر السلطات، وهذب العالم. ومن أعظم ما بناه من المدن مدينة نصيبين فيما وراء الفرات، ومعناها بالفينيقي الأعمدة، ثم بنى مدينة كرونية وهي المعروفة اليوم بمنبج، وبلغ أرمينية وضم إلى مملكته جزيرة رودس وأكريت، وانتصر على سواحل إفريقية، وتجاوز شطوط إسبانيا حتى بلغ إيطاليا، ثم انتهى إلى صقلية حيث مات ودفن. وجملة القول أن إيل الذي كان له المظهر الأول والشأن الأعظم في مدينة جبيل تسلط على عالم الأقدمين تسلط الإله والملك. ومن جملة معبوداتهم أدوني، وهو تموز، وله حكاية ذكرها عدة من المؤرخين، وقد سبق لنا أن أثبتناها في ما تقدم؛ فنجتزئ الآن بالإشارة إليها. وقد عبد الفينيقيون عشتروت أيضا، وهي قد اتخذت لها - فيما رواه سنكن يتن - رأس الثور رأسا؛ وهذا إشارة إلى ملكها. ولم تنحصر عبادة عشتروت في الفينيقيين، بل سرت إلى غيرهم من الأمم القديمة، فعبدوها بأسماء مختلفة، قيل إن أحد المؤلفين القدماء عد من هاته الأسماء ما ينيف عن ثلاثمائة اسم تداولتها ألسن الشعراء.
يؤخذ من أقوال لانورمان أن الفينيقيين كان عندهم نوع من الثالوث، فكان في صور ملكرت
صفحة غير معروفة
8
وبعل وعشتروت، وفي صيدا بعل وعشتروت وأشمون، وفي قرطاجنة حيث كانت جالية منهم تانيت وبعل حمون وأشمون، وفي جبيل إيل وأدونيس وبعلة جبيل، وكان كذلك في مصر فكان في تاب أمون رع وهو الإله الأعظم، وموت زوجه، وخنسو ابنه. وكان الثلاثة إلها واحدا. ثم إن الفينيقيين قد حفلوا أكثر من سائر الأمم بأمر القرابين، وتغالوا فيها حتى إنهم كانوا يضحون بأبناء نوعهم للآلهة، قال برو في كتاب له في تأريخ الصناعة في القدم: «ليس في آثار المصريين، أو الكلدان ما يدل على أن هؤلاء الأقوام أكرموا الآلهة بالضحايا البشرية، بل انفرد السوريون بذلك، ونقلته جالياتهم إلى قرطاجنة، وكان يسوغ لهم أن يستبدلوا الضحايا البشرية بحيوانات وطيور من الأوالف والدواجن، أو أن يعتاضوا عنها بشيء من النصب أو التماثيل، إكراما للآلهة أو بخدمة هياكلها مدى العمر أو شطرا منه.» وقال بعض الباحثين في أحوال الفينيقيين: «إن العشائر الكنعانية لم يكن لها في أقدم أيامها هياكل ومعابد، بل كانت تعبد آلهتها على قمم الجبال والمشارف، فتنصب عمودا أو صخرا تسميه بيت إيل.» والحال أن صناعة إشادة الهياكل قديمة في الفينيقيين بدليل قدم عهد الهيكل الذي شادوه في صور، وهو هيكل ملكرت، واستدعاء سليمان المهندسين الفينيقيين إليه لبناء هيكله. وأما إيل وبيت إيل وغير ذلك مما يختص بإيل فلا يبعد أن يكون مأخوذا أمر العبادة فيه عن الآراميين أسلاف الكنعانيين في بعض المدن الفينيقية مثل جبيل وغيرها، ومما يثبت هذا احتفاء الآراميين بهذا الاسم وتبركهم به أكثر من غيرهم من جميع القبائل، كما يدل عليه إضافة أسماء ملوك الشام إليه وشيوعه بين إخوانهم بني إسرائيل، ثم إنهم - كما أخذوا عن الكلدان وعن المصريين شيئا من عبادتهم - فكذلك أخذوا عن الآراميين. وقد جاء في سفر الملوك وصف كهنة بعل وعشتروت عند الفينيقيين كيف كانوا في أعيادهم يلبسون ملابس النساء، ويخضبون وجوههم، ويزججون حواجبهم، ويكحلون عيونهم، ويعرون أيديهم إلى الكتف، ويشهرون السيوف، ويتنكبون الحراب، ويتأبطون الدفوف، ويرقصون، ويضجون، ويلوثون شعورهم بالأوحال، ويخدشون جسومهم بالسيوف والحراب، وكيف فتك إيليا النبي في ثمانمائة وخمسين منهم، جمعهم آخاب ملك إسرائيل ليبلوا عبادتهم لبعل، فذبحهم النبي عن آخرهم حذاء نهر قيشون عند الكرمل. وأما ما بقي لنا من آثار الفينيقيين من حيث المباني فهو قليل جدا بالنسبة إلى ما بلغوه من الترقي في الصناعة والتقدم في سلم الحضارة، وربما كان السبب في ذلك أمور منها أن هؤلاء الناس لم يكونوا يحفلون كالمصريين وأهل ما بين دجلة والفرات بالمباني الفخمة الضخمة لكثرة الحجر عندهم وندوره عند هؤلاء، والنادر عزيز في كل آن ومكان، أو لأن الفينقيين قوم عملوا على مسالمة الناس لينصرفوا بجملتهم إلى التجارة وجمع الثروة فحصروا افتخارهم في هاته الوجهة ، فلم يقم فيهم ملوك يطرقون أبواب الجاه بتوسيع نطاق المملكة بالغزوات والحروب وتكليف الأسرى تشييد الأهرام وما شاكلها من المباني الضخمة حفظا لآثارهم وإحياء لجاههم، وإما لأن المتسلطين على البلاد الفينيقية على اختلاف أجناسهم وتباين مذاهبهم عمدوا إلى تدمير تلك المباني لعلة دينية أو لعلة أخرى؛ كأن الحاجة اضطرتهم إلى إقامة الأسوار من حجار تلك المباني. ومما بعث على قلب الآثار الفينيقية - ولا سيما ما كان منها في المدافن من المصنوعات البديعة - الطمع في الكنوز؛ فقد قال لانورمان: «ليس في جميع الأقوام من يحاكي الفينيقيين في دفن الأشياء النفيسة مع موتاهم. ويتبين مما كتب على مدفن ملكين من ملوك صيدا، وهما تبنيت وابنه أشمون عازار، من الدعاء على من يمس قبريهما بأذى. إن سرقة الكنوز من تلك المقابر كانت قديمة العهد، وقد استفحل أمرها كثيرا في هذه الأيام، ورب سرقة كنز من تلك الكنوز أفقدت العلم بأحوال الأمم السالفة كنوزا لا تقدر قيمتها، وأما مدافن الفينيقيين فقد وجد منها كثير في صور وصيدا وجون وبرجا، وهما قريتان في إقليم الخروب وبيروت وجبيل وغيرها من المدن والقرى، وهي منقورة في صخور منها ما يشتمل على قبر واحد، ومنها ما يشتمل على أكثر من قبر.»
قد أسهبنا في الكلام على الفينيقيين؛ لأنهم هم الذين عمروا سواحل لبنان في الأعصر القديمة، وكان لهم المقام الأول في الحضارة والتمدن، ولكن لما كان غرضنا مقصورا على لبنان بحسب تحديده الإداري في الحال الحاضرة، وكان الذين كتبوا تاريخ سورية قد استوعبوا في كتبهم ما يشفي الغليل من بيان أحوال الفينيقيين وما حدث لهم مع الآشوريين والمصريين والفرس واليونان والرومان والعرب؛ رأينا من اللازم أن نتقيد بهذا الغرض وأن لا نخرج عنه إلا لما يلتحم به من المواد التحاما مكينا.
لقد عجب بعض المؤرخين كيف أن اسم لبنان بقي من العهد القديم إلى الآن خلوا من شوائب التحريف والتبديل مما عرا غيره من الأسماء؛ مثل سورية وفينيقية وغيرهما من الأسماء التي أطلقت على ما أطلق عليه لبنان من الأرض، وعندنا أن السبب في ذلك البقاء أمران عظيمان في جملة أمور أخرى أقل عظما منهما، أحدهما يتعلق بالأحوال الدينية، والآخر بالأحوال السياسية، أما الدينية فلأن ذكره وارد في الكتاب موارد الأذكار المقدسة؛ فقد جاء في العدد السادس عشر من المزمور 103: «تروي أشجار الرب أرز لبنان التي غرسها.» وقال النبي حزقيال وغيره من رجال الله في الكتاب أقوالا يؤخذ منها أن لبنان كان ينظر إليه بعين التكريم والاحترام، وزد على ذلك أنه كان مظهرا للإله الذي كان له المقام الأول بين آلهة القدماء، نريد الإله إيل الذي استغاث به يسوع وهو على الصليب، وأما السياسية فلأن دماء الناس بالغزو والفتح لم تغسل بياض لمته الذي أكسبه ذلك الاسم، فإنه كان في غالب الأحيان والأحوال كجزيرة في بحر من الدماء؛ فالاسم الذي وضع له إنما وضع لمزية بادية فيه لا يمحوها كر الأيام وتوالي الأعوام، وأيضا فقد كان لخشبه في عالم الدين وعالم الحضارة أثر ذاع أكثر من غيره من الآثار، وبقي مدى الأدهار مصونا، فصان بذلك الاسم ووقاه، فلو سكتت الألسنة عن ترديده لنطق به هيكل سليمان ونشرته سفن الفينيقيين في جميع الأقطار.
أما ادعاء بعض اللبنانيين المسند إلى ما لديهم من التقاليد أن مهد الإنسان الأول في لبنان وأن الفردوس فيه؛ فهو مما لم يقم عليه دليل، ولم يثبته برهان، ومما ينفيه حكم العقل بداهة؛ لأنه يتعذر التصديق بأن الإنسان في حال الفطرة يستطيع أن يعيش في مكان من مثل ما يدعي اللبنانيون أن جنة الفردوس كانت فيه كوادي أهدن المسماة وادي قديشا، ولكن هو الميل إلى المفاخرة بالأصل يحمل الإنسان على ادعاء أمور كثيرة لا تنطبق على الواقع، فإن الهنود يدعون أن الفردوس إنما كان بسفح مهاترو من جبال حملايا. وقد قال يوحنا الدمشقي فيما يتعلق بتلك التقاليد: «إن عدنا الإلهي وضع أولا بنوع غير معروف في مكان مرتفع عن الأرض بأسرها في جهة كثيرة الاعتدال لا يعتريها أدنى تقلب في الأزمنة، أو الفصول. أما هواؤه فصاف ولطيف، ونوره معتدل، وروائحه ذكية، وربيعه وخضرته دائمان، وأزهاره لا تنقطع، وبالجملة فإنه يفوق بالبهجة والجمال جميع ما يقع تحت الحس، أو يخطر في المخيلة.»
وقس على ما تقدم جميع التقاليد اللبنانية فيما يتعلق بالآباء الأولين من مثل قايين وشيت وهابيل وغيرهم. والذي ذهب إليه غالب العلماء أن الفردوس كان في جوار ما بين النهرين، ولم يعينوا المكان تعيينا صريحا.
وقد سألنا أحد الأفاضل أن نتوخى في كتابنا هذا بيان سكان لبنان القدماء من أي الأصول الثلاثة كانوا، أمن سام أم حام أم يافث، وسألنا أن نبين أيضا حقيقة سكانه الحاليين أهم من بقايا السكان الأقدمين، فيتبين لنا مما مر حتى الآن أن الذين توطنوا لبنان بحسبما كان عليه في تلك الأعصر القديمة من سعة النطاق هم من الأبوين سام وحام، وهم الآراميون سكان دمشق وما حولها وسورية المجوفة، وربما امتدوا إلى شاطئ البحر فتوطنوا جبيل قبل الكنعانيين، والكنعانيون وهم سكان السواحل اللبنانية، وأما سكان لبنان اليوم فهم طوائف مختلفة يعسر إلحاق كل طائفة منها بالسكان الأصليين؛ فإن هذه البلاد كانت قديما - كما قلنا - موطن الكنعانيين وغيرهم من نسل سام وحام، ثم أتاها الآشوريون والمصريون وبنو إسرائيل والماديون، ثم استقلت مدة من الزمان، ثم أضيفت إلى مملكة مكدونية، ثم إلى المملكة الرومانية، ثم افتتحها العرب، وبعد ذلك غشيتها جيوش الصليبيين، ثم تملكها التتر والدولة العثمانية فصار سكانها من كثرة تعاقب الاستيلاء عليها وحلول الأقوام المختلفة فيها طوائف من أصول مختلفة، كما سيتبين ذلك.
إن أقدم ما اتصل بالمؤرخين من حوادث فينيقية إنما هو استيلاء الآشوريين عليها، فإن ديودورس قال: «إن فينيقية كانت من مملكة نينوس زوج سميرميس الشهيرة وهو ملك آشور في القرن الثاني والعشرين ق.م.» وقيل: في القرن العشرين. ورأى موفرس أن في الآثار ما يدل على اجتياز الآشوريين سورية وفلسطين مرتين؛ مرة قبل المسيح بألفي سنة، ومرة قبل المسيح بألف وثمانمائة سنة، وليس فيما وراء ذلك شيء ذكره المؤرخون أو دلت عليه الآثار القديمة، ثم عقب ذلك تسلط المصريين على فينيقية من أواسط القرن السابع عشر ق.م إلى آخر القرن الثالث عشر، وقيل: من أواسط الخامس عشر إلى أواسط الثاني عشر، فإن لانورمان يقول: «إن المصريين، وقد اشتدت عليهم وطأة ملوكهم الرعاة
9
وذاقوا تحت نير سلطتهم مرارة القسوة والعنف؛ أتوا آسيا الوسطى بعدما تيسر لهم طرد ملوكهم الرعاة الغرباء، وافتتحوها بقلوب ملؤها الحقد ونفوس ميالة إلى الانتقام، وأبلغ تطمس الفتح حتى الفرات. وآثار فراعنة مصر بادية على صخور نهر الكلب، وفي قرية عدلون بالقرب من صور، وفي المتحف البريطاني ورقة بابيروس تتضمن ما يدل على أن مستسفرا مصريا طاف المدن الفينيقية طوفة أرباب الحل والعقد؛ فأتى جبيل وبيروت وصيدا وسرابتا (أي صرفند)، ثم صور، ثم حاصور (وموقعها فيما يظن فوق بحيرة الحولة إلى جنوبي جبل الشيخ).» وكانت صيدا في هذا الزمن ذات سلطة على أكثر المدن الفينيقية، وأما جبيل فكانت مستقلة بنفسها منفردة في أعمالها جالياتها في سائر الأقطار منفصلة عن جاليات الصيدونيين، وهي فيما رأى موفرس أقدم منها أيضا.
صفحة غير معروفة