وليعلم من وصل إليه كتابنا هذا في ذكر درك النفس أن فلاسفة الروم ، يزعمون : أن للنفس دركا ليس بدرك الحواس ولا درك الوهوم. ولا سيما عندهم إذا كانت النفس معراة من الأجسام ، ومبرأة مما هي عليه من أوعية الأجرام (1).
أو يدرك من وهم جائل (2)، فيكون كمتوهم بالمخايل (3).
أو يكون دركه سبحانه بظن ، فيكون دركه كالمتظنن (4)، الذي يصيب فيه الظن مرة ويخطي ، ويسرع المتظنن بظنه فيه ويبطئ.
أو يدرك من دليل مبين ، فيكون مدلولا عليه ببت يقين.
أو يكون مدركا سبحانه بحال واحدة دون أحوال ، أو بما (5) يمكن اجتماعه من كل ما وصفنا من الخلال.
أو مدركا بجميع ما قلنا وحددنا ، ووصفنا من الأمور كلها وعددنا.
والإمام القاسم هنا ينقد الفلاسفة اليونان في تعريفهم للنفس حيث ذهب بعضهم إلى ((أنها ليست بجسم ، وإنما هي جوهر بسيط محرك للبدن))، وهو أفلاطون ، وطالما أنها ليست جسما فهي لا تدرك ، كما أن أدوات الإدراك الحسي والعقلي ليست مما تدرك به النفس الأشياء ، وإذا هي تدرك بشيء خارج عن ذلك ، وهو ما يرفضه الإمام القاسم ، فالإدراك إما حسي أو عقلي ، أو حسي عقلي معا ، وليست هناك طريق أخرى للإدراك سوى ذلك ، أما الإدراك الباطني الإلهامي الحدسي الذي يطبع في النفس الإنسانية فهو ظني وغير قطعي ، وهو طريق لا يستقل بذاته عند المعرفة ، ولا يصلح أن يكون طريقا لمعرفة الله. يبقى هنا الإشارة بنقد الإمام القاسم للفلاسفة اليونان ، وهو دليل قاطع على معرفته ، وهضمه للفلسفة القديمة ، ونقده لها في مقابل ما يملكه من معرفة إسلامية راسخة ، لها قواعدها ومفاهيمها آن ذاك ، والتي في ضوءها رفض كون النفس جوهرا ليس بجسم ، لأن الأشياء إما أجسام أو غير أجسام ، والأجسام هي العالم والكون بما فيه ، وكل محدث ، وغير الجسم هو الله ، والأجسام لا تدرك إلا عن طريق أدوات معرفية محددة ومقننة ، أثبتها الله في النفس الإنسانية هي المدارك الحسية والعقلية ، وليس غير ذلك.
صفحة ١٩٦