11
وتعني الأخرى استخدامها والانتفاع بها.
12
وفي محاورة ثيايتيتوس نجد كلمتين متقاربتين تدلان على التملك والاستعمال (197ب، 199أ) ويرد التصوران السابقان (الحصول والاستخدام أو الملك والاستعمال) لأول مرة في الطوبيقا (5-2، 129 ب34) ثم نجدهما في كتابنا هذا (البروتريبتيقوس أو الدعوة للفلسفة) في الفقرات الآتية: (ب53، 79، 81) كما نجد في الفقرة (83) تنويعا على الكلمة الثانية له أهميته؛ إذ تحل كلمة «الفعل» محل كلمة «الاستخدام»، كما نجد في الفقرة نفسها تشبيه الملك والعمل بالنوم واليقظة على الترتيب، وهي استعارة يتوسع فيها أرسطو في الأخلاق الأويديمية (2-1، 1219أ 9-38). أما التقابل الأساسي بين القوة والفعل فنجده لأول مرة في «الطوبيقا» (4-4، 124أ 32) كما نلتقي به كذلك في كتابنا هذا في الفقرة (79). والواقع أن أرسطو يذكر نظريته الخاصة بالقوة والفعل في كتب الطبيعة (1-8)؛ إذ يقول إن القوة أو الإمكان (الديناميس) هو اللاوجود الذي يمكن أن ينشأ عنه وجود معين هنا والآن، غير أنه لم يتناولها بالتفصيل إلا في مقالة «الثيتا» (من كتاب الميتافيزيقا 6-9) التي تعد متأخرة نسبيا في سياق تطوره الفكري، ومهما يكن الأمر فإننا نراه يعرض أساس نظريته الهامة في الفقرة (81) مبينا أن الفعل أشرف وأعلى قيمة من القوة، وأن الفعل يسمو على الانفعال سمو اليقظة على النوم، وهو يعود إلى تأكيد أفضلية الفعل على القوة في المقالة السابقة من الميتافيزيقا (الثيتا 9، 1051أ 4) حيث يقول إن من الواضح أنه - أي الفعل - أفضل وأشرف من القوة، كما يزيده تأكيدا في كتاب النفس (3-5، 430أ 18)؛ حيث نجد هذه العبارة الحاسمة: «إن الفعل دائما أشرف من الانفعال.»
أما في الفقرتين (ب83-84) فنجد أرسطو يتحدث عن فعل النفس وحياتها، وهو شيء ربما يبدو لنا أشبه بتحصيل الحاصل. ولو تذكرنا ما قاله أفلاطون عن «فاعلية النفس» لاكتشفنا وراءه فلسفة عميقة (الجمهورية 352د-354أ)، ولو نظرنا في بعض كتب أرسطو الأخرى لوجدنا نفس الأفكار تتردد بصورة أو بأخرى (الأخلاق الكبرى 1-4، 1184ب، 22-85أ 1، والأخلاق الأويديمية 2-1، 1219أ 23-35 والأخلاق النيقوماخية 1-7، 1098أ 7-17). وأهم ما يلفت النظر في هاتين الفقرتين وفي سائر أجزاء الكتاب أن فاعلية النفس أو أفضل طريقة لاستخدام أعلى قدراتها هو تأمل الموجودات والنظر الخالص في أصولها ومبادئها؛ لأن هذا في رأي أرسطو (سواء في هذا الكتاب أو في سائر كتبه الأخرى وخصوصا الميتافيزيقا والأخلاق) هو أسمى أنواع الفعل (انظر أيضا الفقرتين ب66، 91)، وهذا يتفق مع فلسفته عن الغاية (التيلوس) أتم اتفاق، أضف إليه أننا نجد التسلسل والتدرج المتصاعد نحو الأعلى والأشرف في عالم التفكير؛ فهناك الفطنة عند بعض الحيوانات الذكية (كالنحل والعناكب وعصافير الجنة)، وهناك القدرة المتزايدة على التفكير عند الطفل والعبد والمرأة، حتى الرجل الحر الناضج الذي يبلغ ذروة التفكير حين يصبح فيلسوفا يطرح المنفعة الأنانية وراء ظهره ويوجه بصره إلى التأمل والبحث الخالص (وهذا هو الجانب النظري) فيغدو أسعد الناس وأفضلهم وأكملهم (وهذا هو الجانب العملي)، ونجد أفكارا مشابهة عن شتى مستويات التفوق الأخلاقي لدى العبيد والأحرار والرعية والحكام في كتاب السياسة (1-13)، وفي نص فقرتنا هذه (ب84) نجد أرسطو يؤكد سلم الأفعال المتدرجة في قيمتها، ثم يبلغ ذروة حجته المسهبة في الفقرة التالية عندما يتكلم عن حياة الحائزين على المعرفة الفلسفية ولا يترك هذه الذروة بعد ذلك أبدا، وليست هذه الذروة العالية غير الحياة الفلسفية التي هي عنده الحياة الحقيقية ومصدر الفرح الحقيقي. ويلاحظ القارئ أنه يجمع الخيوط التي بسطها في الفقرة (ب33) وأحكم نسجها في الفقرات التي نحن بصددها، ثم شدها في نسيج بهيج رائع في الفقرة (ب91) والفقرات الختامية من النص. ولعل شيشرون (في كتابه عن الغايات
13
2-13، 40) قد استلهم كتاب الدعوة للفلسفة وهذه الأجزاء من النص بوجه خاص عندما قال: «وكذا يكون الإنسان - كما قال أرسطو - قد ولد لأمرين هما التعقل والفعل، وكأنما هو أشبه بإله فان.» (ب87-92) تتضمن هذه الفقرات نظرات أرسطية حول اللذة والسعادة يختلف الباحثون في تفسيرها، وهي تقوم في هذا الموضع من النص على الإشادة بالفاعلية التي لا يعوقها عائق ولا تتعلق بشيء ولا بهدف تسعى إليه غير الفعل نفسه، فتكون فاعلية منطوية على الفرح والسعادة أو تكون هي نفسها الفرح والسعادة. والواقع أن الفكرة التي تذهب إلى أن كل ما هو جسمي، كل ما يراه الإنسان ويسمعه، وكل ألم أو لذة إنما يعوق فاعلية الإنسان الحقة التي هي مصدر سعادته، هذه الفكرة ترجع لأفلاطون الذي يعرضها عرضا مؤثرا في محاورة «فايدون» بوجه خاص (65ج-66ج). وربما كان أرسطو - في الفقرة (ب88) التي لا تخلو من غموض - يحاول أن يصف الحياة السعيدة التي لا يعوقها عائق خارجي أو قيد عرضي، وهي في النهاية حياة التفلسف (انظر كذلك الأخلاق النيقوماخية 7-13، 1153أ 15)، ويرى بعض الباحثين أن أرسطو في هذا الكتاب يعادي اللذة، ولكن لو قرأنا نص الفقرات التي نحن بصددها قراءة متأنية ووضعناها كذلك في سياق الكتاب كله لوجدنا أنه يقف في صف اللذة التي يمكن أن نصفها - إن جاز هذا الوصف - بأنها لذة نبيلة، ولا بد لتبرير هذا الرأي من الرجوع إلى الفقرة (ب77) التي تبلغ فيها حجة أرسطو في الدعوة للتفلسف ذروتها؛ إذ يصل به الحماس إلى حد القول بأن المعرفة الفلسفية أولى باختيار الإنسان من حاسة البصر، بل أولى من الحياة نفسها؛ لأنها هي «سيدة الحقيقة» ولا بد من تتبع حجته في هذا الكتاب في سلم القيم؛ فهو يعرض هذا التدرج في سلم الموجودات الطبيعية في الفقرات (ب11-21)، ثم نعرف من الفقرات (ب22 حتى 30) أن النظر الخالص هو أعلى شكل من أشكال التفكير، وبعد أن يثبت أن هذا التفكير هو الشرط الذي لا غنى عنه للفعل الأخلاقي «حتى ولو لم يترتب عليه في الظاهر أية منفعة عملية» (من 58 إلى 69) نجده يؤكده أنه يبعث على الفرح (56، 91)، ويصل أخيرا إلى هدفه وصول القائد المنتصر فيؤكد (في الفقرة 77) أن الناس جميعا تسعى إلى المعرفة وتفضلها على أي شيء آخر. وهنا نلاحظ التقارب الشديد بين صيغة هذه العبارة وبين عبارتين أخريين، وردت أولاهما في الأخلاق النيقوماخية (7-14، 1153 ب30) وهي «أن الجميع يطلبون اللذة»، وذكرت ثانيتهما - كما أسلفنا - في مدخل مقالة «الألفا» من كتاب الميتافيزيقا: «إن البشر جميعا يسعون بطبيعتهم إلى المعرفة.» فهل نستنتج من هذا كله أن لأرسطو رأيا واحدا في اللذة أو السعادة وأنها مساوية عنده للنظر والتأمل الخالص، أم أنه غير وجهة نظره بتغير مراحل تطوره الفكري؟ يبدو أننا لن نستطيع القطع برأي واحد في هذه المسألة، وربما كان أرسطو نفسه هو المسئول عن هذا؛ فهو يناقش مشكلة اللذة كما يناقش مشكلة السعادة من زوايا متعددة، ويقدم - على عادته في استعراض الآراء المختلفة في كل مسألة يبحثها - أجوبة وتفسيرات شتى أتعبت علماء العصور القديمة والحديثة! وقد ذهب «ييجر» إلى أن أرسطو غير رأيه في اللذة بعد موت أفلاطون؛
14
وذلك استنادا إلى اعتقاده بأنه (أي أرسطو) لم يستقل بفلسفته إلا بعد موت أستاذه. بيد أن آراء «ييجر» قد تعرضت للنقد والتعديل من جانب علماء عديدين، ويتفق معظمهم الآن على أن رأي أرسطو في اللذة بقي على ما هو عليه؛ فالنصوص التي بين أيدينا تدل على أنه كان متفقا مع رأي معاصره «أويدوكسوس»
15
صفحة غير معروفة