دعوة للفلسفة: كتاب مفقود لأرسطو

عبد الغفار مكاوي ت. 1434 هجري
49

دعوة للفلسفة: كتاب مفقود لأرسطو

تصانيف

وارد في كتاب الطبيعة (1-5، 188ب، 29)، وأجزاء الحيوان (1-1، 642أ 19)، و«الخير ذاته»

8

في الأخلاق الأويديمية (1-8، 1218 ب8) ومقالة الألفا من الميتافيزيقيا (4، 945أ 10). إن أرباب المهن وأصحاب الصنائع يقفون عند محاكاة الطبيعة، ويقلدون صورا منها من الدرجة الثانية أو الثالثة (كما تقول جمهورية أفلاطون 599د)، أما الفيلسوف فهو وحده الذي يتأمل الموجود ذاته على حدة (كما يقول أفلاطون في السياسي 476د، 507ب) وهو وحده الذي يحاكي المبادئ الأولى (ب48 من هذا الكتاب).

هل معنى هذا أن أرسطو يحاكي بدوره أفلاطون؟! الواقع أن الأمر على خلاف هذا، فبينما يحاكي الفيلسوف عند أرسطو المبادئ الأولى كما ذكرنا، نجد عند أفلاطون أن السفسطائي - لا الفيلسوف - هو الذي يحاكي الموجودات (السفسطائي 235أ)، وربما استوحى أرسطو عبارته المشهورة «الفن يحاكي الطبيعة» من قول أفلاطون في محاورة السياسي (274د): إن الصنائع التي تخدم الإنسان وتحافظ على بقائه تعمل على غرار الكون كله وتحاكي نموذج النظام السائد فيه. أما الصورة الجميلة التي يعبر بها أرسطو عن المشرع الفيلسوف ويقول فيها «إنه هو وحده الذي يحيا وبصره مثبت على الطبيعة» فقد أخذها عن نص مشهور في محاورة الجمهورية لأفلاطون (500ج د). وأما استعارته الجميلة التي يشبهه فيها بالملاح فقد استمدها كما يرى ييجر (في كتابه المعروف بإيدايا، الجزء الثالث ص24) من الكتابات الطبية في عصره، وهي التي دونت في رأي بعض العلماء حوالي سنة 350ق.م ونقل عنها أرسطو كثيرا من صوره واستعاراته وتشبيهاته. والفقرة الأخيرة (ب51) تشير إلى نظرية أرسطو المعروفة عن أن الإنسان نفسه هو الذي يخلق أعماله، وهو الأصل الذي يتولد عنه سلوكه الخلقي، وغير الخلقي. وهذا دليل على أن مثل هذا السلوك يسبقه الاختيار الحر،

9

كما أن الهدف من الفعل تحدده المعرفة بالخير؛ ولهذا يربط أرسطو بين المعرفة النظرية والأخلاقية في سياق متكامل ويؤكد العمل كما يؤكد النظر في وقت واحد. (ب52-57) الفقرة الأولى مأخوذة من كتاب ليامبليخوس (غير شذرات نصوصه التي تحمل نفس عنوان كتابنا الحالي)، وهو كتابه عن العلم الرياضي بالإجمال، 79 (طبعة ن، فستا، تويبنر 1891) ولهذا يستبعد بعض العلماء (مثل ديرنج وشنيفايس) أن تكون مقتطفة من كتابه الحالي «الحث على الفلسفة» وإن كانا مع ذلك يدمجانها في النص لقربها من لغة أرسطو ومن الفقرة السابقة عليها مباشرة. والملاحظ أن أرسطو يعتمد على حجته عن سهولة التفلسف لتأييد دعوته إليه وحث القارئ عليه، بل إن الكلمات التي يختم بها الفقرة (56) لتشهد على إيمانه القوي بإمكان التوصل إلى الحقيقة ذاتها كما تعبر عن ذلك أيضا بعض كتبه التعليمية (قارن أجزاء الحيوان 1-1، 642أ 18 والطبيعة 1-5، 188 ب29). والغريب حقا أنه يثني على الفلسفة ويؤكد سهولتها بكلمات وحجج ليست سهلة على الإطلاق! (كما ترى مثلا في الفقرتين 55، 103) ويلجأ في هذه الحجج كما أشرنا مرارا إلى أسلوب المبالغة الخطابية الذي كثيرا ما تتصادم فيه الأدلة وتتعارض وتتناقض. (ب58-77) يتردد في هذه الفقرات أكثر من تعبير عن أداء الفعل وعن الواجب وما ينبغي عمله، وكلها أفكار أفلاطونية نجدها في محاورتي جورجياس (503ه) والجمهورية (346ه) حيث يتحدث أفلاطون عن أصحاب الحرف والصنائع الذين يضعون عملهم نصب أعينهم، وتقوم نفس الفكرة بدور كبير في فلسفة أرسطو، ويكفي أن يطبقها على الطبيعة في عبارته المشهورة التي سبق ذكرها أكثر من مرة: إن الطبيعة لا تصنع شيئا عبثا، والموضوع هنا هو العمل الذي يقوم به العقل، ويبدو من بداية النص المفاجئة أنه كان مسبوقا بجزء مفقود، والمهم أن الفقرات (59-61) تنتهي إلى أن العقل هو الجزء المتحكم في النفس، وأنه هو وحده - أو في المقام الأول - ذاتنا الحقيقية، هذا الانسجام بين الانفعال والعقل وبين العاطفة والمنطق، ركن أساسي في الأخلاق الأرسطية. بل إنه (على حد تعبير الأستاذ دير لماير في تعليقه على كتاب الأخلاق الكبرى، دار مشتات وبرلين 1958، ص412-419) هو التحول الكوبرنيقي أو الثورة الكوبرنيقية في فلسفة الأخلاق (نسبة إلى كوبرنيقوس الذي قال بمركزية الشمس؛ وبذلك بدأ التحول التاريخي في النظرة الكونية والحضارية الذي نقل الإنسان من العصر الوسيط إلى عصر النهضة والعصر الحديث)، وسواء أكانت فكرة هذا التجانس ذات أصل أفلاطوني (كما يرى ديرلماير) أم فكرة أرسطية خالصة، فإنها علامة هامة على النزعة الإنسانية في الأخلاق.

وكلام أرسطو عن جزء النفس الذي يحقق فضيلته الخاصة به أو عمله الخاص به (ب60 وكذلك 65، 70) يقوم على الفلسفة التي صاغها أفلاطون في الجمهورية (352أ-353ه)، أما كلامه اللاحق (ب61، 62) عن الارتباط بين فضيلة هذا الجزء العاقل من النفس وبين الشرف والقيمة فهو يعبر عن تفكير أرسطو ووجهة نظره الخاصة التي تؤكد أن الرقي على سلم الغايات ملازم للتصاعد في سلم القيم، وهو أمر لا ينفصل عن فلسفته الغائية بوجه عام، وبقية الكلام الذي يؤكد أن الجزء المذكور هو ذاتنا الحقيقية يأخذ تعبير «الجزء الصغير» من جمهورية أفلاطون (442ج)، ولكنه يترجم بعد ذلك عن أفكار أرسطية أصيلة تجد ما يشبهها في كتاب الميتافيزيقا، مقالة الإيتا (3-1042 ب2)، ومقالة الزيتا (10، 1036أ 17). وهذا الجزء نفسه - وهو الجزء العارف الذي يعد وحده أو مع أجزاء النفس الأخرى أكثر قيمة من بقية النفس مجتمعة - يذكرنا أيضا بمحاورة السياسي لأفلاطون (258-260)، ومع أنه لم يرد في سائر كتابات أرسطو بهذه الصيغة، فهو مرادف عنده للعقل (نوس)، ولما كان النظر عند أرسطو لا ينفصل كما قلنا عن العمل، فإننا نجده يذكر «المعرفة المنتجة» (في الفقرة 69)، وقد كان تقسيمه للمعرفة إلى معرفة نظرية وأخرى عملية مثارا لسوء الفهم الطويل، وربما أوحى أرسطو نفسه بذلك في بعض الأحيان عند حديثه عن المعرفة النظرية حديثا يفهم منه أنها رؤية سلبية، مع أن الحياة الفلسفية في رأيه وبكلماته نفسها «فعل مستمر» (قارن الأخلاق النيقوماخية 10-12047 ب25-32) وليست نوعا من التهدئة أو الراحة من متاعب الحياة؛ فلقد كان أرسطو نفسه رجل عمل، ومن الطبيعي أن يكون العمل شعاره في الحياة، وكلامه عن الحياة النظرية لا يراد به الحياة الموهوبة للتأمل الخالص (كما تصور ييجر وجوتييه في كتاب الأول عن أرسطو وكتاب الثاني عن الأخلاق النيقوماخية - لوفان 1958-1959) وإنما يراد به حياة الدرس والبحث العلمي التي لا تنفصل عن حياة الفعل والعمل، ولو لم يكن الأمر كذلك لما كان هنالك معنى لربطه بعد ذلك بين الحياة الفلسفية التي تتسم بالحكمة والتبصر وبين الفضيلة والسعادة، ولما استطعنا أن نجد في أنفسنا هذا التعاطف الشديد مع الفقرة الختامية من الكتاب.

ويحتمل أن يكون يامبليخوس قد تدخل بالتغيير أو الحذف في الفقرات السبع الأخيرة (من ب70 إلى ب77) التي تعرض حجة متسقة متماسكة، ويلاحظ التقارب الشديد بين الفكرة الواردة في العبارة التي تبدأ مع الفقرة (71) وبين الفكرة التي جاءت في جمهورية أفلاطون (7-1، 1323ب 13-16). ويقارن «ييجر» في كتابه عن أرسطو (ص69) بين الفقرة (72) وبين نص في مقالة الألفا من كتاب الميتافيزيقا (ألفا 1-980أ 21-28) ويقول: إن العبارة المشهورة التي يبدأ بها هذا الكتاب الأخير «إن البشر جميعا يسعون بطبيعتهم إلى المعرفة» تعد صورة مكررة من العبارة «الكلاسيكية» الواردة في هذه الفقرة من «البروتريبتيقوس»، وإذا كانت هذه الملاحظة توحي بأن مقالة الألفا قد كتبت قبل كتابنا هذا فإن الأستاذ «ديرنج» يرجح أن يكون الاثنان قد دونا في نفس الوقت .

وترد في الفقرة (74) عبارة تتكرر بعد ذلك بقليل: «إن الحياة تحدد ب «القدرة» على الإحساس.» ويمكن التوسع بالنظر إلى كتاب أجزاء الحيوان (3-4، 666أ 35). ولعل تعريفه للإحساس في الفقرة التالية (75) بأنه القدرة على معرفة شيء عن طريق الجسم لعله كان تعريفا شائعا في الأكاديمية (قارن الفقرة (ب24) من هذا الكتاب، وكذلك الجمهورية 532أ). أما أن الناس جميعا يسعون في طلب المعرفة ويفضلونها على كل شيء آخر (ب77) فهي عبارة أساسية يدور حولها أرسطو في كتابنا هذا، ولعله قد استوحاها من محاورة أفلاطون «أويثيديموس» (278ج-282ح)، لا سيما أن الحجة هنا وهناك متطابقة (كما أثبت الأستاذ ديالماير في تعليقه على الأخلاق الكبرى 1-3، 1883أ 3-14 ص192). (ب79-87) في هذه الفقرات عرض مبسط ودقيق لنظرية أرسطو المشهورة عن الإمكان والتحقق أو الوجود بالقوة والوجود بالفعل، وقد كان أرسطو أول من استخدم كلمة الفعل «أنيرجايا»

10 (التي لا نجدها في الكتابات الطبية المجموعة تحت اسم أبقراط). ويمكن تتبع هذين المفهومين المتقابلين - اللذين يعبران عن تصور أساسي في تفكير أرسطو - تتبعا يلمس جذورهما في مؤلفات أفلاطون وأرسطو نفسه؛ ففي محاورة أفلاطون «أويثيديموس» نجد كلمتين متقابلتين تفيد إحداهما تحصيل المعرفة أو اكتسابها وتملكها،

صفحة غير معروفة