وهذا من أبيات مختلفة القوافي بحسب الإعراب، أنشدوها ساكنة النون والخليل يحركها وإن لزم عنه الإقواء، ويرى أنه أولى من إثبات ضرب آخر لكثرة الإقواء في كلامهم، وأيضًا يلزم عليه سكون لام مفاعيلن وهو غير موجود في أوزان الشعر لا الأصول ولا المزاحفة. هكذا قيل. قلت: هو كلام كما تراه غير محرر، وذلك لان أبيات امرىء القيس هذه متى ثبتت روايتها بتسكين الروي ولم يروَ تحريكه من طريق من الطرق المعتبرة تعين إثبات الضرب المقصور، ولم يلتفت مع ذلك إلى قول من قال مفاعيلن لا يسوغ أن تسكن لامه، وإن ثبتت فيه روايةٌ بتحريك الروي فالقول ما قاله الخليل، ولا يضر حينئذ رواية بتسكين الروي من طريق آخر، لأنه يُحمل حينئذ على أنه إنشاد، وليس هو التقييد الذي تختلف به الضروب، والله أعلم. «التنبيه الرابع» قال الزّجاج: سُئل الخليل ﵀: لم الزم في الطويل أن يكون مثمنًا ولم يأت مسدسًا كما جاء في البسيط وكلها من دائرة واحدة؟ فقال: إن الطويل عروضه مفاعيلن وضربه كذلك، فلو سُدّس لسقط من نصفيه أربعة عشر حرفًا، والمديد والبسيط إذا سُدّسا إنما يسقط من بيت كل منهما عشرة أحرف، لأن عروض كل واحد منهما جزء خماسي وهو فاعلن، وضربه كذلك، ولو سُدّس الطويل فحذف منه مفاعيلن بقي قبله فعولن، وليس في الشعر ما يقع النقصان من أجزائه فيكون ما ألغى أكثر حروفًا مما بقي، وإنما يكون ما ألغي أقل مما بقي أو مساويًا له، والمديد إذا سُدس فحذف منه فاعلن بقي قبله فاعلاتن، وكذلك البسيط إذا حذف منه فاعلن بقي مستفعلن. وهنا انقضى الكلام على ما يتعلق بالعروض والضرب. فلنشرع في الكلام على ما يدخل غيرهما من التغييرات، فنقول: لا يخفى أن هذا البحر كما مر مركب من فعولن ومفاعيلن، ففعولن حيثما وقع يجوز قبضه فيصير فعولُ، وإذا وقع أول البيت جاز فيه الثلم والثرم، وقد عرفت معناهما. ومفاعيلن يقبض ويكف على سبيل المعاقبة، فإن قُبض لم يكف، وإن كف لم يقبض. ولا حاجة لنا إلى استثناء مفاعيلن الواقع في الضرب الأول من هذا الحكم وإن كان لا يجوز قبضه ولا كفه، وما ذاك إلا لأن الكلام مفروض فيما عدا العروض والضرب كما تقدم. فبيت القبض:
أتطلب من أسود بيشة دونه ... أبو مطرٍ وعامرٌ وأبو سعدِ
أجزاؤه كلها الخماسية والسباعية مقبوضة إلا الضرب. وأشار إلى هذا الشاهدج بقوله «أسودُ» . وبيتُ الكف والثلم معًا:
شاقتك أحداجُ سُليمى بعاقلٍ ... فعيناك للبين تجودان بالدمع
جزؤه الأول وهو «شاقت» وزنه فعلن، فهو أثلم، والسباعية الواقعة في الحشو مكفوفة. وأشار إلى هذا الشاهد بقوله «أحداج» . وبيت الثرم:
هاجك ربعٌ دارسُ الرسم باللوى ... لأسماء عفى آيه المورُ والقطرُ
جزؤه الأول أثرم وهو «هاج» ووزنه فعلُ. وأشار إلى هذا الشاهد بقوله «المور» . وقد جرت عادة العروضيين بأن يأتوا للأعاريض والضروب بشواهد تختص بها ولا يكون في بقية تلك الشواهد أجزاء مزاحفة. ويتحرون في شواهد الزحاف أن يكون الزحاف الذي يمثلونه داخلًا في كل جزء يصح دخوله فيه من ذلك البيت، أو في أكثره حرصًا على البيان. وقد رأيت ذلك في هذا البحر. ثم اعلم أن القبض في فعولن حسن لاعتماده على وتدين قبليّ وبعديّ. وقال الأخفش: لأن النون فيه زائدةٌ كالتنوين في «ضروبٌ» «وعجولٌ» . واعترض بأن النون تعد في أجزاء التفعيل أصلية إذْ بها يتم الوزن، بخلاف التنوين. وأما القبض في مفاعيلن فصالح لاعتماده على وتد واحد قبليّ، وكفُّه عند الخليل قبيح. وزعم الأخفش أنه من قبضه لاعتماده على وتد بعديّ. ولله درّ الأندلسيين حيث يقول:
كففت عن الوصال طويل شوقي ... إليك وأنت للروح الخليلُ
وكفك للطويل فدتك نفسي ... قبيحٌ ليس يرضاه الخليلُ
المديد
1 / 52