فيستحسن الردف في هذا النوع استكثارًا من المد في الأواخر لأنها محل مدّ وترنم. قاله ابن بري. فإن قلت: حكم العروضيين بلزوم الردف في الضرب الثالث من الطويل مع أنه لا يدخل تحت ضابط اللزوم، فإنه لم يلتق فيه ساكنان وهو ظاهر، وليس المحذوف منه متحركًا أو زنة متحرك، بل المحذوف منه حرفان متحرك وساكن، فما وجه التزام الردف فيه؟ قلت: هو مُشكل على هذه القاعدة، وقد اختلفت الطرق في الاعتذار عنه، فقيل إن الردف عوض من لام مفاعيلن خاصةً لان النون شأنها أن تحذف للزّحاف حشوًا، وما يحذف للزحاف لا تعوض العربُ منه شيئًا، وأكثر العروضيين على هذا الجواب. وزعموا أن سيبويه إليه أشار في الكتاب في أبواب الإدغام بقوله: كل شعر حذف من بنائه حرفٌ متحرك أو زنة حرف متحرك فلا بد فيه من حرف اللين للردف، نحو: وما كلُّ مؤت نصحه بلبيب قالوا فتمثل بمحذوف الطويل فدل على أن النون غير معتبرة. وقدح الصفاقسي في هذا الجواب بأن نون مفاعيلن وإنْ كانت مما شأنه أن يُحذف للزحاف فذاك في الحشو لا في الضرب، لاستلزام حذفها منه الوقوف على المتحرك، وكلامنا في الضرب لأن الردف فيه لا في الحشو. وقيل دخله القبض أولًا ثم حُذفت نونه وأسكنت لامه فعوض منهما لأنهما زنة متحرك. قاله سيبويه في كتاب القوافي له. على هذا تأول بعضهم ما وقع له في باب الإدغام لنصوصية هذا واحتمال ذلك، وبه قال الجرمي والفارسي والشلوبين، وردّه الصفاقسي بأن القول بدخول القبض فيه أولًا يقضى بعدم التزام الردف فيه لأن زنة المتحرك المحذوف منه حينئذ ليس من أتم البناء. قلت: تمام البناء ليس راجعًا عندهم إلى الجزء على ما يظهر من كلامهم، وإنما يرجع إلى البحر نفسه، أي أن البحر إذا كان تام البناء فجاء في الاستعمال كما في الدائرة، إنْ مثمنا فمثمنٌ وإن مسدسا فمسدسٌ، وحذف من ضربه زتة حرف متحرك التزام فيه الردف فلا يرد حينئذ اعتراض الصفاقسسي عليهم، فتأمله. واعترض عليهم أيضًا بأنه لو كان الأمر على ما قالوه لسمي الضرب مقصورًا لا محذوفًا، وأجيب بأنه لمّا دخله القبض أولًا ثم القصر صارت صورته صورة المحذوف فسمي محذوفًا رعايةً للصورة، وفيه نظر. وقيل: لما التزام ففي عروض الطويل القبض صار استعمالها أبدًا على ستة أحرف، فلم ينقص الضرب عنها إلا زنة حرفٍ متحرك، وفيه من النظر ما تقدم. ونسبة العروض إلى الضرب لا تستقيم لأن التعويض في الضرب إنما يقع بالنسبة إلى ما يحذف منه في نفسه لا بالنسبة إلى العروض. قال الصفاقسي: وسبيلُ الجواب عندي عن أصل الإشكال أن يقال: لم لا يجوز أن يكون العربي المستعمل لهذا الضرب، أعني الثالث من الطويل، إنما حذف منه الردف، ثم رأى بعد ذلك ساكنين قد التقيا فحذف أحدهما وسماه العروضي محذوفًا مراعاةً لصورته. وعلى هذا ينبغي أن يحمل كلام سيبويه المتقدم في باب الإدغام. فإن قلت: الردف مسهّلٌ لالتقاء الساكنين كما في الضروب المقصورة فلا وجه لحذف أحدهما، قلت: إنما ذلك إذا أُتي بالردف لأجلهما كما في الضروب المقصورة، وهنا إنما أُتي به للعوض، وبعده التقى ساكنان، فلهذا لم يكن مسهّلًا لالتقائهما، ويجب الحمل على هذا جمعًا بين الكلامين. فإم قلت: هذا التقدير جارٍ في الضروب المحذوفة كلها فيلزمك التزام الردف فيها، قلت: لا نسلم لزوم ذلك لأن العلل في هذا الفن تابعة للأحكام، والله أعلم. انتهى كلامه بنصه، ولا يخفى ما فيه من التكلف، مع أن في تسليمه جريان التقدير المذكور في جميع الضروب المحذوفة نظرًا لا يخفى عليك إن تأملت. «التنبيه الثالث» ما قدمناه من أن للطويل عروضًا واحدةً وثلاثة أضرب هو المشهور، واستدرك بعضهم له عروضًا ثانية محذوفةً لها ضربان، ضربٌ مثلها وبيته:
لقد ساءني سعدٌ وصاحب سعدٍ ... وما طولبا في قتلها بغرامهْ
وضربٌ مقبوضٌ وبيته:
جزى الله عبسًا عبي آل بغيضٍ ... جزاء الكلاب العاويات وقد فعلْ
واستدرك بعضهم لعروض الطويل المقبوضة ضربًا مقصورًا، وأنشدوا عليه قول امرىء القيس:
ثيابي بني عوفٍ طهارى نقيةٌ ... وأوجههم بيض المسافر غران
1 / 51