أقول: حكى الأخفش عن الخليل أنه سمي مديدًا لتمدد سباعييه حول خماسيية، وأوردِ عليه كلُّ بحر تركب من خماسي وسباعي. وقال الزجاج: سمي مديدًا لامتداد سببين في طرفي كل جزء من أجزائه السباعية، وأورد عليه الرّمل وغيره مما فيه جزء سباعي كذلك. وقال غيره سمي مديدًا لامتداد الوتد المجموع في وسط أجزائه السباعية. ويرد عليه ما ورد على الذي قبله، ويجاب بما أسلفناه من أن الاطراد في وجه التسمية غير لازم. وإذا صح النقل في هذه الأسماء الموضوعة لبحور الشعر عن الخليل فلا ينبغي أن يُخالف واضُعها. وهذا البحر مبني في الدائرة من ثمانية أجزاء على هذه الهيئة: فاعلاتن فاعلن فاعلاتن فاعلن فاعلاتن فاعلن فاعلاتن فاعلن كما تقدم. قال:
بحود كليبٍ لا يغرُّ اعلموا أنما ... يعيش بهندىٍ متى مايعِ اهتدا
فمن مخصبن كلّ جونٍ ربابه ... فياليت شعري هل لنا منه مُرْ توى
أقول: الباء إشارة إلى أن هذا البحر هو الثاني من بحور الشعر. والجيم إشارة إلى أن له ثلاث أعاريض. والواو إشارة إلى أن له ستة أضرب. وهو مجزوء في الاستعمال، ولا يقع تامًا. قال بعضهم: لءلا يقع فاعلن في آخره، وهو لا يقع أصليًا آخر شيءٍ من الشعر إلا أن يكون منقولًا من جزء نقص منه، فيوهم وقوعه وقوعه في المديد النقل عملًا بالاستقراء، فيكون حينئذ أصله في الدائرة أزيد من ثمانية وأربعين حرفًا وهو محذور يُتقى. ونقضه الصفاقسي بالبسيط. قلت: هذا منه عجيب، فإن الزّجاج قد استشعر هذا النقص وأجاب عنه، وذلك لأن ابن بري حكى عنه أنه قال بأثر كلامه المتقدم: ولذلك ردّ في آخر البسيط إلى فعلن بحذف الألف ليعلم منه أنه نقص منه شيء، لأن فعلن أيضًا لا يقع في الأواخر أصليًا. ثم قال ابن بري: فإن قيل: فهلاّ جعل آخر المديد فعلن كآخر البسيط وارتفع الإيهام المحذور؟ فالجواب أن فاعلن في البسيط إذا حذفت ألفه لم يكن قبلها ساكن بسبب يعاقبها، وفاعلن في المديد قبله ساكنٌ بسبب يعاقب ألفه، فلو حُذف منه الألف لزم أن لا يحذف الساكن قبله أبدًا، وحينئذ يعود المعاقب غير معاقب. انتهى. وهو كلام حسن فتأمله. قال الصفاقسي وقد شذ استعماله تامًا، أنشد ابن زيدان:
إنه لو ذاق للحب طعمًا ما هجر ... كلُّ عزٍّ في الهوى أنت منه في غررْ
ثم قال: ويمكن أن يقال في هذا إنه من الرباعي فيكونان بيتين. واعترض بأنه لم يلتزم في أوساط بقية الأبيات رويًا لأن بعد البيت:
ليس من يشكو إلى أهله طول الكرى ... مثل من يشكو إلى أهله طول السهر
سحّ لما نفد الصبر منه أدمُعًا ... كجمانٍ خانه سلك عقدٍ فانتثر
لا تلمه إن شكا ما يلاقي أو بكى=وامتحن باطنه بالذي منه ظهر وأما قول السليك:
طاف يبغي نجوةً ... من هلاكٍ فهلك
ليت شعري ضلّه ... أيُّ شيءٍ قتلك
أمريض لم تعد ... أم عدوٌّ ختلك
إلى آخره، فحمله بعضهم على أنه من شاذ تامه، وأن القصيدة مصرعة، وبعضهم على أنه مما ورد من استعماله مرّبعًا. وذهب الزجاج إلى أن هذه القصيدة من الرمل، وعروضها وضربها محذوفان، فجعل للرمل ثلاث أعاريض. وقال بعضهم: هو قياس مذهب الخليل والحملُ عليه أوْلى من الحمل على تام المديد، لأنه يلزم عليه شذوذان: مجيء المديد تاما، والتزام التصريع في القصيدة. وهذا يلزم عليه مجيء عروض الرمل محذوفة خاصة. إذا تقرر ذلك فاعلم أن العروض الأولى من أعاريض هذا البحر صحيحة ولها ضرب واحد مثلها وبيته.
يا لبكرٍ أنشروا لي كليبا ... يا لبكر أين أين الفرارَ
فقوله «لي كليب» هو العروض، وقوله «نلفرارو» هو الضرب، ووزن كل منهما فاعلاتن. وأشار إلى هذا الشاهد بقوله «كليب» . والعروض الثانية محذوفة لها ثلاثة أضرب، الأول مقصور وبيته:
لا يغرنَّ امرأ عيشه ... كلّ عيشٍ صائرٌ للزوال
فقوله «عيشهو» هو العروض ووزنه فاعلن، وقوله «للزوال» هو الضرب ووزنه فاعلانْ. وأشار إلى هذا الشاهد بقوله «لا يغر» . الضرب الثاني محذوف مثلها وبيته:
اعلموا أني لكمْ حافظٌ ... شاهدًا ما كنت أو غائبا
فقوله «حافظن» هو العروض وقوله «غائبن» هو الضرب. ووزن كل منهما فاعلن. وأشار إلى هذا الشاهد بقوله «اعلموا» . الضرب الثالث أبتر وبيته:
1 / 53