فقوله «شجاني» هو العروض، ووزنه فعولن فقد جاءت محذوفة لا مقبوضة، قلت: المراد أن عروض هذا البحر مقبوضة حيث لا تصريع، وأما إذا كان مع التصريع فتجيء سالمةً مع الضرب الأول ومحذوفةً مع الضرب الثالث كما في هذين البيتين. قال الصفاقسي: التصريع تبعية العروض للضرب قافيةً ووزنًا وإعلالًا. وسمي البيت الذي له قافيتان مصرعًا تشبيها له بلمصراعي باب البيت المسكون. وحكى أبو الحكم أن بعضهم قال: اشتقاقه من الّصرعين وهما نصفا النهار، فمن غدوةٍ إلى انصاف النهار صرعٌ، ومنه إلى سقوط الشمس صرع والأول أقرب. وحكى الزّجاج إجماع العروضيين على أنه إنما وقع ليدلّ على ابتداء قصيدةٍ أو قصة: قال الأخفش: شبهوه في إعلامهم به أخذهم في بناء الشعر قبل تمام البيت يجعلهم الشك في أول الكلام في نحو قولهم: «رأيت إما زيدًا وإما عْمرًا» لئلا يظن المخاطب أن أحدهما أولى. ويجوز استعماله في مواضع من القصيدة الواحدة لإرادة الخروج من قصة إلى أخرى، ومن وصف شيءٍ إلى وصف غيره، ليؤذن بالانتقال من حال إلى آخرى، وهو مستحسن متى قل، فإنْ كثر كان مستهجنًا. ويكون إما بزيادة في العروض حتى تصير كالضرب مثل ما صنع امرؤ القيس، وإما بنقص منها حتى تعود كالضرب كما في البيت الثاني، فإن قلت فما تصنع في مثل قول الحارث بن حلزة:
آذنتنا ببينها أسماء ... ربّ ثاوٍ يملّ منه الثّواء
فصرع ولم يتبع العروض الضرب، بل جعلها مفعولن وهو فاعلاتن؟ قلت: اعتذر منه أبو الحكم بأن الشاعر همّ بتشعيث الضرب إلحاقًا لها به اعتمادًا على أنه شعثه فنسى. قال الصفاقسي: فكأنه يشير إلى أن هذا من الإشارة إلى التصريع كما قاله الشيخ أبو بكر القللوسي. قلت: وهذا الاعتذار إنما احتيج إليه لتفسيرهم التصريع بما تقدم وهو تبعية العروض للضرب في القافية والوزن والإعلال. ولو قيل: التصريع هو جعل العروض كالضرب وزنًا ورويا مع إخراجها عن حكمها إلى حكمه لم يحتج إلى شيءٍ من هذا، وذلك لأن العروض اواقعة في بيت الحارث قد جعلت كالضرب رويا وهو واضح، وقد أُخرجت عن حكمها وهو السلامة من التشعيث إلى حكم الضرب بأن جعلت مثله في عروض التشعيث لها، ولا يضرّ كون الضرب لم يشعث فإن تشعيثه جائز لا لازم، فجعلت العروض بمثابته حكمًا فدخلها التشعيث بالفعل ولم يدخل الضرب فعلًا مع جواز دخوله فيه، فإلحاق العروض بالضرب في الحكم متحقق وإن تخالفا لفظًا، فتأمله. وعلى هذا فالفرق بين التصريع والتقفية ثابت، فإنها اتفاق العروض والضرب في الوزن والروي مع إبقائها على ما تستحقه في نفسها من الحكم الثابت، كقول امرىء القيس:
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل ... بسقط اللّوى بين الدّخول فحومل
فإن قلت قد جاءت العروض مع عدم التصريع تامةٍ كقوله:
ونحن جلينا الخيل يوم نهاوندٍ ... وقد أحجمتْ منّا الخيول الصوارم
ومحذوفةً كقوله:
تراها على طول البلاء جديدًا ... وعهد المغاني بالحلوم قديمُ
قلت: هو عندهم من الشذوذ ولا يقاس عليه، وهو عيب يسمى عندهم بالتجميع. «تنبيهات» الأول: قبض فعولن قبل الضرب الثالث المحذوف أولى من سلامته ويسمى اعتمادًا كما سبق، وبيته:
وما كلُّ ذي لبّ بمؤتيك نصحه ... وما كلذ مؤتٍ نصحه بلبيبِ
1 / 49