فلنتكلم على شرحه الآن على هذا اللفظ، فنقول: قوله «محرفة الرعى» يريد به أن الذي وضع الحروف عليه رمزًا عند ذكر البحور في أول كل بحر هي الأعاريض والضروب، وهي التي يجب أن تُرعى في رجوع الشواهد إليها، فإذا رددت إليها الأبيات المنبه عليها جعلت ما نيف على عددها من الشواهد شاهدًا على الزحاف. وأراد بمحرفه ما جعل الحرف عليه رمزًا دالًا على عدده، فلفظه مشتق من الحرف. وبيان ما ذكرته أن الطويل له عروض واحدة وثلاثة أضرب. نبّه على ذلك بالهمزة الثانية والجيم من قوله «أأجرى» ثم أتى بقوله «غرورًا» إشارة إلى شاهد الضرب الأول، وبقوله «ستبدى» إلى شاهد الضرب الثاني، وبقوله «صدوركم» إلى شاهد الضرب الثالث، فقد فرغ من شواهد الضروب، وهي التي وضع الحروف عليها رمزًا، ثم جاء بقوله «أسودٌ وأحداجٌ» و«المور» مقتطعات من أبيات، ولما كانت قد زادت على عدد الضروب علمنا بعد أنها شواهد على الزحاف لكومها نيفت على عدد الضروب. وقوله «وما حشوه ملغى» إلخ قد شرحته قبل.
الطويل
أقول سمي طويلًا لأنه تام الأجزاء سالمٌ منالجزء. قاله الخليل، ومعناه أنه طال بسبب تمام الأجزاء. وقال الزّجاج لأنه أكثر الشعر عدد حروفٍ لمجيئه على أصله في الدائرة إلا نقصان حرف واحد. وربما صرّع فجاء على أصله ثمانيةً وأربعين حرفًا. وقيل: لوقوع الأوتاد أول أجزائه، وهي أطول من الأسباب. ونقضه الصفاقسي بالوافر والهزج والمضارع. وجوابه أن الاطراد في وجه التسمية ليس بلازم. وهذا البحر مبني في الدائرة على هذه الصورة: فعولن مفاعيلن فعولن مفاعيلن، فعولن مفاعيلن فعولن مفاعيلن كما تقدم. قال:
أأجرى غرورًا أم ستبدى صدوركم ... أسودٌ وأحداجٌ أمٍ المور قد عفا
أقول: الألف الأولى من قوله «أأجرى» إشارة إلى أنه الأول من البحور، والألف الثانية إشارة إلى أن له عروضًا واحدة، والجيم إشارة إلى أن له ثلاثة أضرب. فالعروض مقبوضة وزنها مفاعلن، ولها ثلاثة أضرب كما قلناه. الضرب الأول صحيح وبيته:
أبا منذر كانت غرورًا صحيفتى ... ولم أعطكمْ في الطوع مالي ولا عرضي
فقوله «صحيفتي» هو العروض، ووزنه مفاعلن: وقوله «ولا عرضي» هو الضرب، ووزنه مفاعيلن، وأشار إلى هذا الشاهد بقوله «غرورا» الضرب الثاني مقبوضٌ مثلها وبيته.
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلًا ... ويأتيك بالأخبار من لم تزود
فقوله «تجاهلن» هو العروض، وقوله «تزوودي» هو الضرب. ووزن كل منهما «مفاعلن» وأشار إلى هذا الشاهد بقوله «ستبدى»، الضرب الثالث محذوف ووزنه فعولن. أُسقط السبب الخفيف من مفاعيلن فصار مفاعي فنقل إلى فعولن،. وبيته:
أقيموا بني النّعمان عناّ صدوركم ... وإلا تقيموا صاغرين الرّووسا
فقوله «صدوركم» هو العروض وقوله «الرؤوسا» هو الضرب. وأشار إلى هذا الشاهد بقوله «صدوركم» . وهنا انتهت شواهد ما رمز له أولًا، ثم أخذ في ما ناف على ذلك وهي شواهد الزحاف. فإن قلت: حكمت بقبض العروض في هذا البحر وقد جاءت غير مقبوضة كما في قول امرئ القيس:
ألا عمْ صباحًا أيها الطلل البالي ... وهل يعمن من كان في العصر الخالي
فقوله «لللبالي» هو العروض، ووزنه مفاعيلن، فهي سالمة لا قبض فيها. وكما في قول الآخر:
لمن طللٌ أبصرته فشجاني ... كخطّ زبورٍ في عسيب يماني
1 / 48