أقول: يعني أن الحرف الأول من الحروف التي يرمز بها يجعله للبحر دالًا على مرتبته الخاصة من البحور الخمسة عشر، ثم الحرف الثاني يجعله رمزًا لعروض ذلك البحر دالًا على كميتها، ثم الحرف الثالث يجعله رمزًا لضروب ذلك البحر، وغايةُ هذه الحروف المرموز بها للبحور هي السين. وذلك لأن البحور كما عرقت خمسة عشر، والسين عند الناظم رمزٌ للخامس عشر، فهي منتهى ما يرمز به للبحور. وغاية الأحرف المرموز بها للأعاريض هي الدال لأنها للأربعة. وأكثر ما يكون للبحر من الضروب تسعةٌ، فلذلك كان منتهى ما يرمز به للضروب من الأحرف هو الطاء لأنها للتسعة. وقد استبان لك أن في كلام الناظم لفًا ونشرًا على الترتيب، فالسين راجعة إلى البحر، والدال راجعة إلى الأعاريض، والطاء راجعة إلى الضروب. ثم قد يتفق للناظم أن يأتي بأحرف الرمز متتاليةً من غير فاصل يفصل بينها، وقد يفصل بحروف أجنبية، أو يأتي بعد الأحرف المتتابعة المجموعة المرموز بها بما هو أجنبي عن الرمز فيكون ذلك ملغىً لا يقع به إلباس، كما ستراه قريبًا. قال: فخذ منه ما فيه الزحاف وسالمًا وما حشوه ملغىً دناه ارع لا القصا أقول: يحتمل أن يكون معنى هذا الكلام فخذ مما رمزت به في البحور من الكلمات المشار بها إلى أبيات الشواهد ما هو شاهدٌ على ما فيه الزحاف، وما هو شاهدٌ على السالم من الزحاف، وأنك إذا وجدت لفظًا دخيلًا بين الكلمات المرموز بها للشواهد وهو بينها حشو ليس مستشهدًا به على شيءٍ فارْع القريب من ذلك لا البعيد، أي لا تراع في ذلك إلا اليسير دون الكثير، فإنه لا يأتي في ذلك من الكلمات التي هي ملغاة في الحشو إلا بالنزر القليل. ألا ترى أن البيت الآتي لبحر الطويل ليس في حشوه من الكلمات النلغاة غير قوله أولًا «أم»، وثانيًا «أم قد عفا»، وهذه كلماتٌ يسيرة غير مشارٍ بها إلى شيء من الشواهد وما بقي من البيت كله رمز. وفهم الشريف ﵀ هذا الموضع على وجه آخر. وأنا أورد كلامه برمته لينظر فيه. قال: وقوله «وما حشوه ملغىً دُناه ارع لا القصا» الدني جمع الدنيا أي القربى، والقصى جمع القصوى أي البعدى، ويريد بذلك ما يتخلل حروف الرمز من الحروف الملغاة، كقوله في بحر البسيط: «جرت جوْلة، فالجيم للبحر، والجيم الثانية أفادت أن عدد الأعاريض ثلاثة، والواو من «جولة» أفادت أن الضروب ستة بحساب ما يذكره بعد، والراء والتاء من «جرت» ماغاتان ليستا في حروف الرمز، فمراد الناظم بالحشو الملغى ما كان مثل هذا. وقوله: «دناه ارع لا القصا» معناه أن الرمز هنا لا يرعى منه ولا يعتد به إلا الأدنى من العدد، وهو الذي لا يتجاوز الغاية التي ذكر قبل أن الأعاريض والضروب تنتهي إليها، وذلك أربع في الأعاريض وتسعة في الضروب، وأما العدد البعيد الذي يجاوز ذلك فلا يراعى ولا يعتد به، فحروفه الدالة عليه ملغاة، وكذلك في البحور لا يراعى العدد الذي يجاوز خمسة عشر وهو غايتها، فلذلك أُلغيت الراء والتاء من «جرت» لأن كل واحد عليه ملغاة، وكذلك في البحور لا يراعى العدد الذي يجاوز خمسة عشر وهو غايتها، فلذلك أُلغيت الراء والتاء من «جرت» لأن كل واحدة منهما لا تدل إلا على العدد البعيد الذي يجاوز غاية عدد الأعاريض والضروب، وهذه هي ثمرة ذكره لتلك الغايات قبل حيث قال: «وغايتها سينٌ فدالٌ تلت فطا» فتأمله. قلت يلزم من اعتبار تلك الحروف والوقوف عند ما يقتضيه إلغاء ما ليس منها، فليس في قوله إذنْ: «وما حشوه ملغىً» إلى آخره كبير فائدةٍ إذا فهم على الوجه الذي ذكره الشريف. وأما إذا جعل راجعًا إلى كلمات الشواهد كان ذلك مُفْهمًا لأمر لم يتقدم هو ولا ما يلزم منه فهمه فانظر. ثم قال الشريف: ووجدت هذا البيت في نسخة ثانية وقعت بيدي بعد شروعي في هذا التقييد والفراغ من الكلام على هذا البيت مقيدًا على لفظ آخر، ونصه:
مُحرّفُه المرعىّ نيف زحافه ... وما حشوه ملغىً دناه ارع لا القصا
1 / 47