ونريد أن نشرح شرحا بسيطا حال الخطابة والكتابة في العصر الأموي متوخين الاختصار على قدر الطاقة فنقول: (4) الخطابة ومميزاتها
لم تزدهر الخطابة في عصر من عصور الآداب العربية، كما ازدهرت في هذا العصر، لاعتماد الناس عليها في السياسة والدين، وقد جعلها الدين الإسلامي فرضا من الفروض في الدعوة إليه، وفي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد كانت الوسيلة في قمع الفتن ورد البدع، وكانت لسان القائد في جنده يستنهض بها عزماتهم، والوالي في رعيته يستفز بها حميتهم، والزعيم في شعبه يجمع بها شتاتهم، إذ لم يكن غيرها من وسائل التبليغ ميسورا؛ لذيوع الأمية وفقدان وسائل النشر.
وقد وجدت بعد مقتل عثمان رضي الله عنه، بسبب اختلاف المسلمين وتعدد الفرق واختلاف الأحزاب، مجالا واسعا للرقي والسبق، لاعتماد كل حزب عليها في نشر نحلته، وتأييد دعوته.
يميز الخطابة في هذا العصر ما يميز الآداب عامة فيه: من فخامة الألفاظ، ومتانة التركيب، والتباعد عن حوشي الكلام، ويميزها أيضا أنها اقتبست من القرآن كثيرا، ونهجت نهجه في الإرشاد والإقناع، وأنها تبدأ بحمد الله والصلاة على رسوله، حتى قيل لخطبة زياد المشهورة التي خطبها في العراق «الخطبة البتراء»؛ إذ لم يحمد الله ولم يصل على نبيه فيها. وقد كان هذا العصر أحفل العصور بالخطباء، فقد كان جل الخلفاء والقواد وولاة الأمصار وزعماء الأحزاب المختلفة خطباء مصاقع، وفيما يحفظه تاريخ الآداب من آثار الخلفاء ولا سيما الإمام علي، ومن خطب الحجاج بن يوسف، وزياد بن أبيه، وطارق بن زياد، مصداق ما نقول.
ولننقل هنا خطبة الحجاج في أهل العراق بعد دير الجماجم؛ فهي خير مثال لنضج الخطابة في العصر الأموي، قال:
يا أهل العراق، إن الشيطان قد استبطنكم فخالط اللحم والدم، والعصب والمسامع والأطراف والشغاف، ثم مضى إلى الأمخاخ والأصماخ، ثم ارتفع فعشش، ثم باش وفرخ، فحشاكم نفاقا وشقاقا، وقد اتخذتموه دليلا تتبعونه، وقائدا تطيعونه، ومؤمرا تستشيرونه؛ فكيف تنفعكم تجربة أو تعظكم وقعة أو يحجزكم إسلام أو يردكم إيمان؟! ألستم أصحابي بالأهواز حيث رمتم المكر، وسعيتم بالغدر، وظننتم أن الله يخذل دينه وخلافته، وأنا أرميكم بطرفي وأنتم تتسللون لواذا وتهزمون سراعا؟ ويوم الزاوية وما يوم الزاوية؟! بها كان فشلكم وتنازعكم، وبراءة الله منكم ونكوص وليه عنكم، إذا وليتم كالإبل الشوارد إلى أوطانها، النوازع إلى أعطانها، لا يسأل المرء منكم عن أخيه، ولا يلوي الشيخ على بنيه، حتى عضكم السلاح وقصمتكم الرماح. يوم دير الجماجم وما دير الجماجم؟! بها كانت المعارك والملاحم بضرب يزيل الهام عن مقيله، ويذهل الخليل عن خليله.
1
يأهل العراق، أهل الكفرات والغدرات، والثورة بعد الثورات، إن أبعثكم إلى ثغوركم غللتم وخنتم، وإن أمنتم أرجفتم، وإن خفتم نافقتم، لا تذكرون خشية ولا تشكرون نعمة، هل استخفكم ناكث، واستغواكم غاو، واستنصركم ظالم، واستعضدكم خالع إلا وثقتموه وآويتموه ونصرتموه ورضيتموه! هل شغب شاغب أو نعب ناعب أو نعق ناعق أو زفر زافر إلا كنتم أشياعه وأنصاره! ألم تنهكم المواعظ! ألم تزجركم الوقائع؟!
ثم نظر إلى أهل الشام فقال:
يا أهل الشام، إنما أنا لكم كالظليم الذاب عن فراخه، ينفي عنها المدر ويبعد عنها الحجر، ويكنها من المطر. يأهل الشام، أنتم الجنة والرداء، وأنتم العدة والغطاء.
صفحة غير معروفة