المجلد الأول
كلمة العماد الأصفهاني
مقدمة
الكتاب الأول: عصر بني أمية
1 - تحول المدنية الإسلامية
2 - الجهاد بين الخلافة والملك
3 - سياسة معاوية وخلفائه
4 - ولاية العهد
5 - الحياة العلمية والأدبية للعصر الأموي
الكتاب الثاني: عصر بني العباس
1 - الوجهة السياسية
2 - العصبية والموالي في الدولة العباسية
3 - الدعوة العباسية
4 - أبو العباس السفاح
5 - أبو جعفر المنصور
6 - المهدي
7 - الهادي
8 - هارون الرشيد
9 - الحياة العلمية في العصر العباسي
10 - الحالة الأدبية في صدر عصر بني العباس
الكتاب الثالث: عصر المأمون
1 - محمد الأمين
2 - المأمون
3 - النزاع بين الأمين والمأمون
4 - الخليفة المأمون
5 - الوزارة والأعمال الحكومية في عصر المأمون
6 - خلاصة الحياة السياسية والاجتماعية
7 - شخصية المأمون
8 - الحياة العلمية في عصر المأمون
9 - الحياة الأدبية في عصر المأمون
10 - نماذج لبعض الشخصيات البارزة في العصر المأموني
المجلد الثاني
ملحق الكتاب الأول
باب المنثور
باب المنظوم
ملحق الكتاب الثاني
باب المنثور
باب المنظوم
المجلد الثالث
باب المنثور
باب الرسائل
باب المنظوم
بيان المصادر العربية والإفرنجية الهامة التي عولنا عليها في المراجعة لكتاب عصر المأمون
المجلد الأول
كلمة العماد الأصفهاني
مقدمة
الكتاب الأول: عصر بني أمية
1 - تحول المدنية الإسلامية
2 - الجهاد بين الخلافة والملك
3 - سياسة معاوية وخلفائه
4 - ولاية العهد
5 - الحياة العلمية والأدبية للعصر الأموي
الكتاب الثاني: عصر بني العباس
1 - الوجهة السياسية
2 - العصبية والموالي في الدولة العباسية
3 - الدعوة العباسية
4 - أبو العباس السفاح
5 - أبو جعفر المنصور
6 - المهدي
7 - الهادي
8 - هارون الرشيد
9 - الحياة العلمية في العصر العباسي
10 - الحالة الأدبية في صدر عصر بني العباس
الكتاب الثالث: عصر المأمون
1 - محمد الأمين
2 - المأمون
3 - النزاع بين الأمين والمأمون
4 - الخليفة المأمون
5 - الوزارة والأعمال الحكومية في عصر المأمون
6 - خلاصة الحياة السياسية والاجتماعية
7 - شخصية المأمون
8 - الحياة العلمية في عصر المأمون
9 - الحياة الأدبية في عصر المأمون
10 - نماذج لبعض الشخصيات البارزة في العصر المأموني
المجلد الثاني
ملحق الكتاب الأول
باب المنثور
باب المنظوم
ملحق الكتاب الثاني
باب المنثور
باب المنظوم
المجلد الثالث
باب المنثور
باب الرسائل
باب المنظوم
بيان المصادر العربية والإفرنجية الهامة التي عولنا عليها في المراجعة لكتاب عصر المأمون
عصر المأمون
عصر المأمون
تأليف
أحمد فريد رفاعي
المجلد الأول
كلمة العماد الأصفهاني
إني رأيت أنه لا يكتب إنسان كتابا في يومه إلا قال في غده: لو غير هذا لكان أحسن، ولو زيد كذا لكان يستحسن، ولو قدم هذا لكان أفضل، ولو ترك هذا لكان أجمل. وهذا من أعظم العبر، وهو دليل على استيلاء النقص على جملة البشر.
العماد الأصفهاني
إلى حضرة صاحب الدولة عبد الخالق ثروت باشا
مولاي
لله علي نعمة التوفيق إلى الاتصال بك، والانقطاع لخدمتك، والاستظلال بظلك، فأنا أحد هؤلاء الكثيرين الذين تعهدهم فضلك، وثقفهم نصحك، وهذبهم أدبك، أولئك الذين أنت لهم أب بر، ومثقف حكيم، وأستاذ رشيد.
وكنت قد أخذت نفسي بأن أقف على خدمتك ما أملك من وقت وجهد، ولكن الإنسان طلعة بطبعه، فإذا اتصل بك فلا حد لرغبته في البحث، وحرصه على الجد، وطموحه إلى الكمال، وكذلك أراد الله أن أقتطع من هذا الوقت الذي وهبته لك خالصا ما أمكنني من وضع هذا الكتاب.
فهل تأذن لي يا مولاي أن أرفع إليك «عصر المأمون» على أنه أثر يهدى إلى منشئه، وحق يرد إلى أهله، واعتراف بالجميل من رجل مهما يفعل ومهما يقل فلن يوفيك بعض ما يدين به ضميره لك من حب وإجلال.
مد الله في حياة مولاي، وجعل مستقبلها كماضيها حافلا بالجد والتوفيق في خدمة أمته وعصره ومليكه.
أحمد فريد رفاعي
أول يونيه سنة 1927
مقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسل الله. وبعد، فإني أتقدم بهذا الأثر الضئيل من «عصر المأمون» إلى أمتي، وإلى الناطقين بالضاد من أبناء لغتي، وآمل بفضل إرشاد العلماء والنقاد أن يوفقني الله إلى إكمال النقص، وإصلاح الخطأ، وتلافي التقصير في الطبعات القادمة، معترفا في صدق وإخلاص بأن طبعتي هذه لا تعدو أن تكون «محاولة» لكتابة التاريخ العربي على النظم العلمية الحديثة، وأنت تعلم أن تاريخنا العربي لا يزال - بلا مبالغة ولا إغراق - تعوزه شتى المصادر، كما يعوزه التنظيم والترتيب والتحقيق والاستقراء.
وإني أسأله تعالى أن يجعلني ممن يذعن لكلمة الحق فيرعى حرمتها ويهتدي بهديها، غير مفتون بمدح المادح ولا مبتئس بقدح القادح.
كما أسأله أن يرشدني إلى المضي موفقا مسددا فيما أخذت به نفسي من البحث عن عصور «معاوية» و«المنصور» و«الرشيد» و«عبد الرحمن الأندلسي»، وآمل بمعونته تعالى، وبإرشاد العلماء والأدباء ومعونة المستشرقين والباحثين، وبما يهب لي الله من صبر وجلد ومواظبة ومثابرة، ومتابعة للدرس والاستقراء، وبما أوفق إليه من مصادر ونصوص، ومراجع ومظان، أن أكون عند الانتهاء من كتابة ما ارتهنت به - لو كان في العمر بقية - قد وفقت إلى تنظيم دراسة تلك البحوث تنظيما جزئيا يتفق ووسائلي ومقدوري، ويتمشى - إلى حد ما - والطريقة التحليلية الحديثة في كتابة التاريخ، وأن يكون عملي حين ذاك مما يسمح لي أن أقول في ثقة وإيمان: إني قد قمت حقا «بمحاولة» ذات أثر نافع تمكن غيري من اتخاذها أساسا لكتابة تاريخ المدنيات العربية الواسعة المدى، البليغة الأثر في الثقافات الإنسانية عامة، كتابة تاريخية صحيحة.
وقد وقع «عصر المأمون» في مجلدات ثلاثة؛ خصصت أولها بالتاريخ وما إلى التاريخ، وثانيها وثالثها بالأدب وما إلى الأدب، واعتمدت في تلخيصي للشعراء فيهما على أمهات المظان الأدبية، لا سيما كتاب «الأغاني»، وأعترف في صدق وإخلاص أن مهمتي في المجلدين الأخيرين لم تخرج عن مهمة المتخير لما في تلك العصور الزاهية من غرر ودرر، المنقب عما فيها من طرف وملح، الملخص لحياة أدبائها وشعرائها، المحتفظ بعبارات المعاصرين وشيوخ المؤلفين عنها.
وقسمت المجلد الأول إلى كتب ثلاثة عالجت فيها البحث عن عصور بني أمية وبني العباس والمأمون، وقد توخيت الإيجاز في فذلكتي التاريخية عن عصري الأمويين والعباسيين؛ لأنهما بمثابة تكأة وأساس لموضوعنا، كما لاحظت الاستمساك بالحيدة التامة وعدم التطوح مع أولئك المؤرخين والرواة الذين تأثروا بأهوائهم السياسية، ومعتقداتهم المذهبية، والذين نكبت بهم عن محجة الصواب مغالاتهم في الانتصار لفكرتهم الحزبية.
وقسمت المجلدين الثاني والثالث إلى ملحقات للكتب الثلاثة عن العصور الثلاثة، نشرت فيها ما وسعه المقام من المنثور والمنظوم والنصوص الطويلة والمقالات المستفيضة، وعنيت عناية خاصة إلى جانب ذلك بذكر جملة صالحة من آثار كاتب خاص وشاعر خاص على أنهما نموذجان لتمثيل عصرهما، واتخذت من عبد الحميد الكاتب وعمر بن أبي ربيعة نموذجا أمويا، ومن أبي الربيع محمد بن الليث وبشار بن برد مثالا عباسيا، ومن عمرو بن مسعدة وأبي نواس نموذجا لتصوير الحياة الكتابية والشعرية في عصر الأمين والمأمون، إلى غير ذلك من النماذج والآثار مما يستدعيه المقام، فجاء المجلدان الثاني والثالث بذلك مكملين للمجلد الأول.
وأعتقد اعتقادا راسخا أنه لن يعترض علي معترض لعنايتي بالعصر العباسي من وجهتيه التاريخية والأدبية، فلم يعد «عصر المأمون» عن كونه شطرا يحفل به من العصر العباسي، كما أعتقد أنه مما لا مندوحة لنا عنه لتفهم العصر العباسي أن نصور لك العصر الذي قبله بما يسعه المقام، وهذا ما عالجناه لك في كتابنا بصورة متواضعة نأمل أن تكون فيها الغنية والكفاية لما نروم تصويره.
ولقد عدلت عما كنت ذهبت إليه من بيان المصادر والمراجع في نهاية كل صفحة، رغبة في ألا أشغل نظر القارئ بما لا يجدي عليه، وحرصا على توحيد مجهوده في استيعاب الموضوع وتفهم شتى مناحيه، ملحقا في الوقت نفسه نهاية المجلد الثالث بيان مصادر الكتاب لمن أراد توسعا؛ فتراجع ثمة.
وأحمد الله أن أبرز كتابي هذا في عصر النهضة الاستقلالية المصرية التي ازدانت برعاية مولانا المليك «فؤاد الأول» - حفظه الله - كما ازدانت بناصعة خدم أقطابنا وزعمائنا ذوي الصحف البيضاء، والآثار الخالدات الباقيات، وعلى رأسهم أصحاب الدولة الأجلاء، فقيدنا المرحوم المبرور «سعد زغلول باشا»، والقطبان الخطيران: «عدلي يكن باشا» و«عبد الخالق ثروت باشا»، فهؤلاء الثلاثة قد وهب الله لهم أصالة الرأي، ونبالة القصد، وثروة الذهن، وغنى العقل، وحباهم سدادا في سياسة، وتواضعا مع رياسة، وحكمة في كياسة، ونبوغا مع ثقافة، وحزما في حصافة، وأمتعهم بثقوب النظر، ورجاحة الفكر، وأفاض على أشخاصهم لينا ودماثة، وسماحة ووداعة، حتى أجمع القوم على حبهم إجماعهم على الاعتراف بوافر فضلهم، والإشادة بعطر ذكرهم، وتسابقوا إلى الاستفادة من سديد مواقفهم، وحكيم صنعهم، ونزيه أعمالهم، استفادتهم من أفاويق عرفانهم، وفيض بيانهم، ومقنع برهانهم .
وهؤلاء الثلاثة قد نجحوا في تكوين الأمة من الوجهة السياسية نجاحهم في تكوينها من الوجهة القومية.
فاللهم رحمة واسعة لزعيمنا الراحل الكريم، وعوضنا اللهم من خسارتنا الفادحة في فقده، أحوج ما كنا إلى عظيم جهوده، وهب اللهم حياة طويلة لقطبينا محط الآمال ومعقد الرجاء.
وأحمده تعالى على أن دخلت البلاد عهدا جديدا من حياتها العلمية بزعامة وزير معارفنا الهمام، مرهف العزمات، مسدد الوثبات، صاحب المعالي «علي الشمسي باشا»، ومدير جامعتنا المصرية العالم الجليل الأستاذ «أحمد لطفي السيد بك»، وغيرهما من رجالات العلم والأدب في هذا الجيل.
وإنني أنتهز هذه الفرصة لأشيد بما للمرحوم الأستاذ محمد الخضري بك من فضل عظيم، ومعترفا بما لصديقي الدكتور طه حسين، الأستاذ بالجامعة المصرية، من معونة قيمة في غير موضع من الكتاب، كما أنتهزها لأشكر لسادتي العلماء والأدباء ورجال الصحافة والمجلات حسن استقبالهم لكتابي، كما أحمد لحضرات النقاد الأجلاء جميل تشجيعهم، وحكيم أخذهم الأمور بهوادة ورفق، معترفا بصادق رغبتهم في الأخذ بناصر العلم والعلماء، قادرا أعظم قدر روحهم العالية فيما دبجوه فأجادوه، وكتبوه فارتفعوا بعلم النقد عندنا عما وصم به أخيرا من التطاحن والرماء، والجلاد والشحناء، والعمل على الهدم لا على البناء، كما أشكر لسادتي الأستاذين الجليلين: محمد عبد الوهاب النجار وعبد الخالق عمر، والكاتبين الأديبين: محمد الههياوي ومحمد صادق عنبر، حسن صنيعهم في تهذيب «عصر المأمون»، معترفا بعظيم جهد ثانيهما اللغوي. أحسن الله جزاءهم.
وإني أخص بالشكر رجال دار الكتب المصرية، وعلى رأسهم حضرات الأساتذة محمد أسعد برادة بك، مدير الدار ذي الخلق الوديع والهمة الشماء، وأحمد زكي العدوي أفندي، رئيس القسم الأدبي بالدار وصاحب الهوامش الحسان، وعبد الرحيم محمد أفندي ومحمد عبد الجواد الأصمعي أفندي المصححين به وصاحبي الأثر الطيب الجليل، ورجال هذا القسم كافة؛ فلهم الفضل الكثير، بهمة رئيسهم الفاضل، في ضبط الكتاب وتصحيح مسوداته، كما أشكر حضرة الفاضل محمد نديم أفندي ملاحظ الطباعة بالدار المشهور بالدقة والإتقان، ويلوح لي أن الله - تعالى - أحسن جزاء المأمون على حدبه وكبير عنايته بدور الحكمة «دور الكتب» العديدة في عصره، بأن وفق دار الحكمة في مصر - في هذا العصر - إلى رعاية عصره بهمة وإخلاص وتدقيق وتحقيق.
25 سبتمبر سنة 1927
أحمد فريد رفاعي
الكتاب الأول
عصر بني أمية
الفصل الأول
تحول المدنية الإسلامية
(1) توطئة
حمل الفتح الإسلامي الذي فتحه الخلفاء الراشدون في سبيل الدعوة الدينية من العناصر المادية والاجتماعية والسياسية ما كانت له نتائجه وآثاره، فبعد أن كانت الأموال في أيام النبي
صلى الله عليه وسلم
نحو أربعين ألفا بين إبل وخيل، وبعد أن كان عمر بن الخطاب دهشا مرتابا حينما أبلغه أبو هريرة عند قدومه من البحرين، أنه أتى بخمسمائة ألف درهم، فاستكثرها عمر وقال: أتدري ما تقول؟ قال: نعم، مائة ألف خمس مرات. فصعد عمر المنبر وقال: «أيها الناس، قد جاءنا مال كثير، فإن شئتم كلنا لكم كيلا، وإن شئتم عددنا لكم عدا» - بعد أن كان دهشا من هذه الثروة أصبحنا نرى بعد عهده بقليل جسامة الهبات مما لا تعد هذه الأموال في جانبه شيئا مذكورا.
ونحن لا نعرض الآن للقول فيما وصلت إليه الثروة الإسلامية في أيام المأمون، ولا نعرض لفنون المدنيات العديدة التي سادت في عهده، لأننا رسمنا لأنفسنا خطة من لا يريد استباق الحوادث وآثارها، ولا التاريخ ونتائجه، وإنا نجتزئ الآن بكلامنا عن عصر قريب من عصر النبي
صلى الله عليه وسلم
القريب العهد بتأثر الأذهان بالمثل العليا ...
من أبي بكر الذي مات ولم يجدوا عنده من مال الدولة إلا دينارا واحدا سقط من غرارة، والذي أوصى حينما دنا أجله بأن تباع أرض كانت له ويدفع ثمنها بدلا مما أخذه من مال المسلمين.
ومن عمر بن الخطاب الذي حرم على المسلمين اقتناء الضياع والزراعة؛ لأن أرزاقهم وأرزاق عيالهم وما يملكون من عبيد وموال، كل ذلك يدفعه لهم من بيت المال، فما بهم إلى اقتناء المال من حاجة، وليس للمال في نفوسهم من إغراء، ولا إلى ضمائرهم من إفساد.
هذه حال المسلمين المادية والمعنوية في عهد النبى
صلى الله عليه وسلم
وصاحبيه، نظر بينها وبين ما جد بعد ذلك من كثرة في المال وإسراف في الترف، مما كان له أعمق الأثر في تغير أحوال المسلمين الاجتماعية والمعيشية والخلقية.
يحدثنا ابن خلدون عن عامل أموي ليس بملك ولا خليفة، يحدثنا عن خالد القسري أمير العراق في أيام هشام، فيقول: إن غلته بلغت ثلاثة عشر ألف ألف درهم، ويثبت لنا ابن الأثير دليلا ليس بأقل مما ذهب إليه ابن خلدون قيمة وخطرا؛ إذ يقول ما نصه: «إن طارقا خليفة خالد على الكوفة لما ختن ولده أهدى إليه خالد ألف وصيف ووصيفة سوى الأموال والثياب»، وذكر اليعقوبي أن خالدا فرق أموالا عظاما مبلغها ستة وثلاثون ألف ألف درهم.
أجل! لقد تحولت الاعتبارات الاجتماعية وفاقا للتغيرات المادية، فبعد أيام الورع وغلبة سلطان الدين والعدل في أعطيات المسلمين، بعد أيام عمر وصحابة عمر التي نعلم الشيء الكثير من وجهة نظر عمد الدين الإسلامي فيها إلى المال - وهو عنصر حيوي شديد الأثر في تحول النظم المعيشية والاجتماعية والسياسية أيضا - وإلى ضرر اختزانه، فقد قال قائل لعمر بن الخطاب: «يا أمير المؤمنين، لو تركت في بيوت الأموال شيئا يكون عدة لحادث إذا حدث!» فزجره عمر وقال له: «تلك كلمة ألقاها الشيطان على فيك وقاني الله شرها! وهي فتنة لمن بعدي. إني لا أعد للحادث الذي يحدث سوى طاعة الله ورسوله، وهي عدتنا التي بلغنا بها ما بلغنا.»
بعد هذه النظرات التقشقية البريئة، نظرات الورع والزهد، سرعان ما حملت الفتوح معها ومع تلك الثروات الطائلة التي أتت بها ما غير عناصر عدة، فاختزن المال، وكانت الفتنة كما تنبأت نظرات عمر الصائبة إلى المال واختزانه، وذهبت في آثارها إلى ما هو أعمق وأخطر، ذهبت إلى الكيان الخلقي للعرب، فبدلت من سيرة قادتهم وسيرة شعبهم؛ كانت سيرة قادتهم عدلا وإنصافا، وسيرة شعبهم أنفة وانتصافا، فتبدل الحال غير الحال حتى أتيح لمصعب بن الزبير مثلا - وهو من بيت يناوئ بني أمية وينافسهم في الملك - أن يبذل ألف ألف درهم في زواجه من سكينة بنت الحسين، ومثلها في زواج عائشة بنت طلحة، في حين كان جند المسلمين يتضورون مسغبة وجوعا حتى كتب عبد الله بن مصعب إلى عبد الله بن الزبير؛ لمناسبة ما يعانيه الجند وترف شقيقه زعيم الجند:
بلغ أمير المؤمنين رسالة
من ناصح لك لا يريد خداعا
بضع الفتاه بألف ألف كامل
وتبيت سادات الجنود جياعا
لو
1
لأبي حفص أقول مقالتي
وأبث ما سأبثكم لارتاعا
صدق الشاعر في قوله؛ إن تلك الحال ليرتاع منها عمر حقا، وليفرق من ذكرها أبو بكر، ويلتاع من سماعها علي، ولكن الحال تغيرت إلى مدى بعيد، حتى أصبح المال غرضا تشرئب لحيازته الأعناق، وتنزع نحو تملكه النفوس، إلى أن رأينا فيما بعد أن الحجاج بن يوسف لما حاصر الكعبة وفيها ابن الزبير، وتردد جنده في ضربها بالمنجنيق؛ جاء بكرسي وجلس عليه وقال: «يا أهل الشام، قاتلوا على أعطيات عبد الملك»؛ ففعلوا.
ذلك هو أثر المال في الأخلاق والأحوال والنفوس طبقا للتغيرات الاجتماعية.
ولنحاول فيما سنعقده من الفصول الآتية تبيان حال الدولة العربية أيام عثمان، وكيف وصل الأمر إلى معاوية، وكيف خرج الملك من بني أمية حتى وصل إلى بني العباس، ولنحاول بعد هذه التقدمة دراسة الحياة الأدبية إلى جانب دراستنا السياسية الاجتماعية؛ فإن ذلك ينفعنا كثيرا فيما نرومه من التكلم ببسطة في القول وتصوير صحيح لعصر المأمون الذهبي، ولا سيما الحياة الأدبية والعلمية فيه، ملاحظين في ذلك كله جانب القصد والإيجاز، مارين سراعا على جل الحوادث الكبار في ذاتها، والتي لا تعنينا كثيرا في موضوعنا - مثل عصر معاوية - مما نرجو أن نوفق في المستقبل القريب فنكتب عنه وعما فيه من أسرار وثورات. (2) نظام الحكم في عهد الصحابة
الناس من حيث ميولهم ومعتقداتهم، دينية كانت أو سياسية، لا يكادون يعدون طبقة من ثلاث: محافظين، ومعتدلين، ومتطرفين.
ولسنا آخذين بسبيل من التوضيح لأحكام هذه الجماعات أو الأحزاب في حياة عثمان، ولا نظر كل فئة منهم إلى سياسة حكومته، وإنما يكفينا أن نقول: إن هذه الفئات التي تكون دائما قوة الرأي العام الذي كان له في حكومات الصحابة صوت يؤبه له وإرادة تحترم، مع مراعاة طبيعة النفسية العربية البدوية الشديدة الإباء والأنفة، هذه الفئات لم يكن شبابها ولا كهولها، زهادها ولا النفعيون فيها، براضين عن حكومة عثمان.
كان نظام الحكم في عهد الصحابة من حيث توزيع السلطات نظاما تيوقراطيا - إذا صح لنا هذا التعبير، وهو صحيح لا محالة - ذلك لأنهم بإيمانهم وتقواهم وكامل إسلامهم جعلوا الله تعالى مصدر السلطات الدينية والدنيوية، فكل شيء لله؛ المال مال الله، والجند جند الله.
ومن هذه الناحية توافرت الشورى، وتوافرت الكرامة الدينية، وربما كان المحافظون من رجال الدين يتبرمون من هذه الناحية أيضا بمنهج حكومة عثمان، التي لا نشك أن حزبها أيام عثمان لم يكن بذي خطر، اللهم في ماضيه من حيث الزعامة والسيادة وما إلى ذلك في العصر الجاهلي، ولكنه فاز أخيرا ولعبت الجماعة العثمانية، ومنهم الأمويون، دورهم المعروف ذا الأثر الكبير في العقلية العربية والمدنية الإسلامية. (3) حكومة عثمان ونظر الجماعات العربية إليها
وبعد، فماذا نقم الشباب والشيوخ من حكومة عثمان؟
أما نحن فلا يطلب منا أن نبدي رأينا في عثمان، فهو صحابي جليل، وله أثره الخالد في جمع القرآن وغير القرآن، وله دينه السمح الذي لا تشوبه شائبة، وما كان الدين ليحتم على الناس جميعا أن يكون نظرهم إلى الحياة الدنيا نظر التقشف والزهد، ولا يطلب منا أن نثبت ضعف الحكومة العثمانية، وإنما يطلب منا أن نسرد الحوادث بإيجاز، ولنا في تسلسل هذه الحوادث ودراستها وتقييد آثارها ما قد يسمح لنا بالتعرض له حين معالجتنا الكلام عن عصرنا فيما بعد.
نعود فنتساءل: ماذا نقم الشباب والشيوخ من حكومة عثمان؟
يقول اليعقوبي: «إن عثمان آثر القرباء، وحمى الحمى، وبنى الدار، واتخذ الضياع والأموال بمال الله والمسلمين، ونفى أبا ذر صاحب رسول الله وعبد الرحمن بن حنبل، وآوى الحكم بن أبي العاص وعبد الله بن سعد بن أبي سرح طريدي رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، وأهدر دم الهرمزان ولم يقتل عبيد الله بن عمر به، وولى الوليد بن عقبة الكوفة فأحدث في الصلاة ما أحدث ولم يمنعه ذلك من إعاذته إياه.»
ويذكر اليعقوبي - في مكان آخر - ما كان من إغضاب عثمان لعائشة أم المؤمنين، ومكانة عائشة مكانتها، وأنه نقص ما كان يعطيها عمر بن الخطاب، وأنها تربصت بعثمان حتى رأته يخطب الناس فدلت قميص رسول الله
صلى الله عليه وسلم
ونادت: «يا معشر المسلمين، هذا جلباب رسول الله لم يبل، وقد أبلى عثمان سنته.» وليس أدل على شدة حفيظتها عليه من امتناعها أن تقوم بالصلح بينه وبين الخارجين عليه حين اشتد عليه الأمر وصار إليها مروان فقال لها: يا أم المؤمنين، لو قمت فأصلحت بين هذا الرجل وبين الناس!
قالت: قد فرغت من جهازي وأنا أريد الحج.
قال: فيدفع إليك بكل درهم أنفقته درهمين.
قالت: «لعلك ترى أني في شك من صاحبك! أما والله لوددت أنه مقطع في غرارة من غرائري، وأني أطيق حمله فأطرحه في البحر.»
قلنا: إن نظام الحكم في عهد الصحابة من حيث توزيع السلطات كان نظاما تيوقراطيا في إرجاعه كل شيء إلى الله تعالى، وأن المال مال الله، والجند جند الله، وأن الحكم لله لا للناس.
ويقول لنا التاريخ: إنه كان بين عثمان وخازن بيت المال في عهده مشادة ومنافرة، وإن جل النقاد اتخذوا من هذه المشادة مطعنا في سياسته المالية، وثلمة يتهجمون منها عليه، وكانت هذه المشادة بينه وبين خازن بيت المال في أمر عطائه، حتى قال له عثمان: «إنما أنت خازن لنا؛ إذا أعطيناك فخذ، وإذا سكتنا عنك فاسكت»، فقال: «كذبت والله! ما أنا لك بخازن ولا لأهل بيتك، إنما أنا خازن المسلمين»، وجاء بالمفتاح يوم الجمعة وعثمان يخطب، فقال: «أيها الناس، زعم عثمان أني خازن له ولأهل بيته، وإنما كنت خازنا للمسلمين، وهذه مفاتيح بيت مالكم.» ورمى بها، فأخذها عثمان ودفعها إلى زيد بن ثابت.
وليس من شك في أن شباب العرب عامة، وقريش خاصة، لهم آمالهم ولهم مطامعهم وهم في مقتبل عمرهم حين يكون الطموح إلى اعتلاء المراتب الرفيعة مصطدما بالوازع الديني، وأنهم تألموا أن ينال عبد الله بن خالد بن أسيد خمسين ألف درهم، ومروان بن الحكم خمسة عشر ألفا، مع أن عثمان استردها منهما لما عوتب ونوقش، وتألموا أن يذهب آل عثمان بمناصب الدولة وهم يرون في أنفسهم من الكفايات والمواهب، ومن الحسب والنسب ما لا يقل عما لهؤلاء. •••
وما لنا نذهب بعيدا في الاستدلال على نظريتنا هذه والنفس الإنسانية هي هي الطموح إلى زينة العاجلة وزخرفها، وقد جاء في الأغاني في معرض كلامه عن أبي قطيفة الشاعر:
إن ابن الزبير مضى إلى صفية بنت أبي عبيد، زوجة عبد الله بن عمر، فذكر لها أن خروجه كان غضبا لله تعالى ورسوله عليه السلام والمهاجرين والأنصار من أثرة معاوية وابنه وأهله بالفيء، وسألها مسألته أن يبايعه، فلما قدمت لزوجها عشاءه ذكرت له أمر ابن الزبير واجتهاده، وأثنت عليه وقالت: ما يدعو إلا إلى طاعة الله - جل وعز - وأكثرت القول في ذلك، فقال لها: أما رأيت بغلات معاوية اللواتي كان يحج عليهن الشهب! فإن ابن الزبير ما يريد غيرهن.
هذا رأي كبير من رجال العصر في خروج ابن الزبير يكشف لك ما كان يخالج نفوس الشباب من طموح إلى السلطان ولذاته، مع أن ابن الزبير كان خارجا على أهل بيت يرى جل الناس في ذلك العصر أنهم اغتصبوا الملك من أهله اغتصابا، ويظهر أن معاوية نفسه كان قد اقتنع بأنه لم يكن على الحق حتى كاد يتجنب مناجزة علي الحرب والعداء حين ذكره علي بكلام للرسول
صلى الله عليه وسلم ، لولا مقالة ولده له: «كلا! ولكنك رأيت سيوف بني هاشم حدادا تحملها شداد»، فثارت ثائرته وقال: «ويلك! ومثلى يعير لجبن! هلم إلي الرمح!» وأخذ الرمح وحمل على أصحاب علي.
فمعقول أن يغضب هؤلاء الشباب وأمثالهم من حكومة عثمان وهم يرون الغنائم والثروات تكتسح بلادهم - وللمال حكمه وسلطانه - ومعقول أيضا أن يغضب منها أمثال عمرو بن العاص الذي قال له عثمان - يوم ندبه ليعذره عند الناس فما كان منه إلا أن أضرم جذوة الحقد عليه: «يا ابن النابغة، والله ما زدت أن حرضت الناس علي ... يا ابن النابغة، قمل درعك مذ عزلتك عن مصر.»
هذا من ناحية النفعيين وفيهم المتطرفون، وهناك المعتدلون، وهؤلاء قد نأوا بجانبهم عن الفتنة، واعتزلوا الناس من شرها وآثارها، وهم لها كارهون، ومنها ناقمون، وهناك المحافظون الأتقياء حقا أمثال أبي ذر ورافع بن خديج وغيرهما من صحابة الرسول الذين نعلم من تقواهم وزهدهم، ومن حبهم للآخرة وإعلاء كلمة الدين الشيء الكثير، والذين يقول فيهم الجاحظ في رسالته عن بني أمية:
2 «إنهم كانوا على التوحيد الصحيح والإخلاص المحض.»
ولنوضح قليلا هذا النوع من المتقشفين حقا والمخلصين في عقيدتهم الدينية صدقا، ولنضرب مثلا بأبي ذر الغفاري، ولننظر ما يحكيه لنا ابن الأثير في هذا السبيل، فهو معتدل مستقر للحقيقة أكثر من سواه، يقول ابن الأثير: إن أبا ذر كان يذهب إلى أن المسلم لا ينبغي له أن يكون في ملكه أكثر من قوت يومه وليلته، أو شيء ينفعه في سبيل الله أو يعده لكريم، وكان يأخذ بظاهر القرآن:
والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم
فكان يقوم بالشام ويقول: «يا معشر الأغنياء، واسوا الفقراء، بشر الذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله بمكاو من نار تكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم.» فما زال حتى ولع الفقراء بمثل ذلك، وأوجبوه على الأغنياء، وشكا الأغنياء ما يلقونه منهم؛ فأرسل معاوية إليه بألف دينار في جنح الليل فأنفقها، فلما صلى معاوية الصبح دعا رسوله الذي أرسله إليه، فقال: اذهب إلى أبي ذر فقل له: أنقذ جسدي من عذاب معاوية؛ فإنه أرسلني إلى غيرك وإني أخطأت بك. ففعل ذلك، فقال أبو ذر: يا بني، قل له: والله ما أصبح عندنا من دنانيرك دينار، ولكن أخرنا ثلاثة أيام حتى نجمعها. فلما رأي معاوية أن فعله يصدق قوله كتب إلى عثمان: إن أبا ذر قد ضيق علي، وقد كان كذا وكذا - للذي يقوله الفقراء - فكتب إليه عثمان: «إن الفتنة قد أخرجت خطمها
3
وعينيها ولم يبق إلا أن تثب، فلا تنكأ القرح، وجهز أبا ذر إلي وأبعث معه دليلا، وكفكف الناس ونفسك ما استعطت.» وبعث إليه معاوية بأبي ذر، فلما قدم المدينة ورأى المجالس في أصل جبل سلع، قال: بشر أهل المدينة بغارة شعواء وحرب مذكار. ودخل على عثمان فقال له: ما لأهل الشام يشكون ذرب
4
لسانك. فأخبره، فقال: يا أبا ذر، علي أن أقضي ما علي، وأن أدعو الرعية إلى الاجتهاد والاقتصاد، وما علي أن أجبرهم على الزهد. ثم انتهت المحاجة إلى أن خرج أبو ذر من المدينة ونزل الربذة
5
فهذا النوع من التقشف المتبرم بحكومة عثمان، وذلك النوع من الشباب الطامح بعينيه إلى ما أصاب سواه منها، وتلك الجماعة المعتزلة التاركة الحبل على الغارب - كل هذه العوامل تجعلنا نقنع بنجاح الفتنة ضد حكومة عثمان وانتهائها بتلك المأساة المروعة التي كان فيها ما كان مما يحكيه لنا أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ: من قتل عثمان رضي الله عنه، وما انتهك منه، ومن خبطهم إياه بالسلاح، وبعج بطنه بالحراب، وفري أوداجه بالمشاقص،
6
وشدخ هامته بالعمد، مع ضرب نسائه بحضرته، وإقحام الرجال على حرمته، مع اتقاء نائلة بنت الفرافصة
7
عنه بيدها حتى أطنوا
8
أصبعين من أصابعها.
كانت تلك المأساة المروعة التي تفتت القلوب الجلامد، وتنفجر لها العيون الجوامد، فلنقف عند ذكراها والهين آسفين.
هوامش
الفصل الثاني
الجهاد بين الخلافة والملك
(1) توطئة
نحن الآن مقبلون على فترة جهاد عنيف بين الخلافة والملك، فترة لا يصح أن تعتبر الجهاد فيها جهادا بين علي ومعاوية، أو بين علي وغير معاوية من منافسيه في الخلافة أو من الخارجين عليه، وإنما يخلق بنا أن نعتبرها بمثابة جهاد عنيف بين وجهات النظر العربية في الحياة؛ فإن موت عثمان رضي الله عنه لم يمت الفتنة، بل أذكاها وزادها ضراما واشتعالا.
وإنه لمن الميسور للناقد أن يلتمس العلة في أن الأحزاب العربية حين ذاك لم تجمع على سيدنا علي؛ ذلك بأن الجماعة الراغبة في الوظائف والأموال لم تجد فيه طلبتها وسؤلها، ولم تعثر فيه على أنشودتها ورجلها، بل على النقيض قد لقيت منه حاكما صلبا لا تلين قناته، سار فيهم سيرة الحق لا تأخذه في الله لومة لائم، وكانت حركاته وسكناته رضي الله عنه جميعها لله وفي الله، لا يغمط بها حق أحد، وكان لا يأخذ ولا يعطي إلا بالحق والعدل، حتى إن أخاه عقيلا، وهو ابن أبيه وأمه، طلب من بيت المال شيئا لم يكن له بحق، فمنعه رضي الله عنه وقال: يا أخي، ليس لك في هذا المال غير ما أعطيتك، ولكن اصبر حتى يجيء مالي وأعطيك منه ما تريد، فلم يرض عقيلا هذا الجواب، وفارقه وقصد معاوية بالشام. وكان لا يعطي ولديه الحسن والحسين أكثر من حقهما، فانظر إلى رجل حمله ورعه على هذا الصنيع بولديه وبأخيه من أبويه! فلما سار فيهم هذه السيرة ثقل على بعض الناس فعله، وكرهوا مكانه.
هذه خطة هؤلاء معه، أما خطة الشيوخ؛ فمنهم من آثر العزلة وترك حبل الأمة على غاربها تتطاحن أحزابها بين طلاب الخلافة، ومنهم الخوارج الذين غضبوا على علي كما غضبوا على معاوية، وندبوا من بينهم عبد الرحمن بن ملجم ليقتل عليا، والبرك بن عامر ليخلصهم من معاوية، وعبد الله بن مالك الصيداوي ليريحهم من حليف معاوية عمرو بن العاص، هؤلاء الخوارج كانت كلمتهم: «الحكم لله لا للناس»، فنقموا من علي خضوعه للتحكيم، وما خضع إلا مكرها معنتا. (2) كلمتنا عن علي رضي الله عنه
كان علي إماما دينيا، كان موئلا للشريعة، ومثالا للورع والاستمساك بأحكام الكتاب، كان مصدرا خصيبا من مصادر الفقه والتشريع، وكان في حكومته وحروبه على السواء مؤثرا رضا الله، ومغضبا شهوات الناس، وقادعا أطماعها، وكان عنوانا كاملا لأسمى صفات الخلق الإسلامي من حيث: النجدة والشجاعة لا الحذق والسياسة؛ كان مصلحا دينيا على أتم ما يكون عليه مصلح ديني، يتفانى في هذا الإصلاح ويؤثر الآخرة على الأولى، فيعمل لإرضاء الله لا إرضاء الناس، وكان كما وصفه عدي بن حاتم لمعاوية : «يقول عدلا، ويحكم فصلا، تتفجر الحكمة من جوانبه، والعلم من نواحيه، يستوحش من الدنيا وزهرتها، ويأنس بالليل ووحشته، وكان والله غزير الدمعة، طويل الفكرة، يحاسب نفسه إذا خلا، ويقلب كفيه على ما مضى، يعجبه من اللباس القصير، ومن المعاش الخشن، وكان فينا كأحدنا ... كان يعظم أهل الدين ويتحبب إلى المساكين، لا يخاف القوي ظلمه، ولا ييأس الضعيف من عدله؛ فأقسم لقد رأيته ليلة وقد مثل في محرابه وأرخى الليل سرباله وغارت نجومه، ودموعه تتحادر على لحيته وهو يتململ تململ السليم، ويبكى بكاء الحزين، فكأني الآن أسمعه وهو يقول: يا دنيا أإلي تعرضت أم إلي أقبلت! غري غيري لا حان حينك، قد طلقتك ثلاثا لا رجعة فيها.»
هذا هو علي حقا، علي الذي بالغ في التدقيق في محاسبة عماله حتى أغضب أكثرهم، وحتى خسر نصرتهم، وفي جملتهم مصقلة بن هبيرة الشيباني، وابن عمه عبد الله بن عباس بعد أن كان أكبر نصير له، والذي أغضب الزبير وطلحة وكان في مقدوره أن يضمهما إليه، والذي لم يكتسب إلى جانبه عمرو بن العاص، ولم يقبل نصيحة ابن العباس ولا المغيرة بن شعبة في إقرار معاوية وابن عامر وعمال عثمان على أعمالهم حتى تأتيه بيعتهم ويسكن الناس، ثم يعزل منهم من يشاء، وقال: «لا أداهن في ديني، ولا أعطي الدنية في أمري»، فقيل له: انزع من شئت واترك معاوية؛ فإن في معاوية جرأة، وهو في أهل الشام يستمع منه، وله حجة في إثباته بما كان من عمر بن الخطاب إذ قد ولاه الشام. فأبى وقال: لا والله لا أستعمل معاوية يومين، فلم تكن الحيل والخدع من مذهبه، ولم يكن عنده غير مر الحق؛ والذي يقول لأصحابه بعد أن أثخنوا في أعدائه: «لا تتبعوا موليا، ولا تجهزوا على جريح، ولا تنهبوا مالا»، فجعلوا يمرون بالذهب والفضة في معسكرهم فلا يعرض له أحد، إلا ما كان من السلاح الذي قاتلوا به والدواب التي حاربوا عليها، فقال بعض أصحابه: يا أمير المؤمنين، كيف حل لنا قتالهم ولم يحل لنا سبيهم وأموالهم؟!
فقال علي رضي الله عنه: «ليس على الموحدين سبي، ولا يغنم من أموالهم إلا ما قاتلوا به وعليه، فدعوا ما لا تعرفون وألزموا ما تؤمرون.»
أجل! هذا هو علي حقا، الذي أبت رأفته وأبي دينه أن يمنع أهل الشام من الماء كما منعوه أثناء منازلتهم حتى كاد يهلك جنده عطشا، والذي منع شيعته وأنصاره من شتم معاوية ضاربا صفحا عن آثار استغلال ذلك في الدعوة السياسية لتأييد خلافته، والحط من ملك منافسه؛ فإنه لما بلغه أن حجر بن عدي وعمرو بن الحمق يظهران شتم معاوية ولعن أهل الشام أرسل إليهما: أن كفا عما بلغني عنكما، فأتياه فقالا: «يا أمير المؤمنين، ألسنا على الحق وهم على الباطل؟! قال: كرهت لكم أن تكونوا شتامين لعانين، ولكن قولوا: اللهم احقن دماءنا ودماءهم، وأصلح ذات بيننا وبينهم، واهدهم من ضلالتهم حتى يعرف الحق من جهله، ويرعوى عن الغي من لهج به.»
هذا هو علي حقا، الشديد في محاسبة نفسه وعماله، أما محاسبة نفسه فظاهرة خلقية واضحة الوضوح كله، وأما محاسبته عماله؛ فإن تاريخه مفعم بمئات الأدلة والشواهد مما أفاد منه معاوية أيما فائدة.
وكان من آثار هذه المحاسبة هرب مصقلة بن هبيرة الشيباني من علي وانضمامه إلى معاوية، وكذلك يزيد بن حجبة التيمي الذي كان قد استعمله علي على الري فكسر من خراجها ثلاثين ألفا، فكتب إليه علي يستدعيه فحضر، فسأله عن المال قال: أين ما غللته من المال؟ قال: ما أخذت شيئا. فخفقه بالدرة خفقات وحبسه، ووكل به سعدا مولاه، فهرب منه يزيد إلى الشام، فسوغه معاوية المال، فكان ينال من علي، وبقي بالشام إلى أن اجتمع الأمر لمعاوية، فسار معه إلى العراق، فولاه العراق.
فهذه الشواهد وأمثالها فيها أقطع الدلالات على شدة محاسبته لعماله وإغضابه آل بيته تدينا وورعا وعملا للآخرة، لا لبناء ملك في الدار الأولى.
فلنحفظ هذه الصورة جيدا، ولنذكر أنها لم يتح لها الفوز والنجاح في ذلك الجهاد السياسي، وأن الكفة الراجحة في سياستنا الدنيوية كانت لمنازله الذي يجدر بنا أن ندرسه بإيجاز واقتضاب. (3) تحول الرأي العام
صور الشاعر العبقري «شكسبير» في روايته «يوليوس قيصر» تأثر الرأي العام ببلاغة زعمائه التي يستغلون بها سذاجة موقفه، ويتملكون بها عقول قومهم التي بها يفكرون، ويسحرون بها عيونهم التي بها يبصرون، فلا يصدرون إلا عن إرادتهم، ولا يفكرون إلا بعقولهم، وقد أبدع أيما إبداع في موقفي «بروتس» قاتل قيصر ومنقذ الرومان، و«أنطونيوس» مؤبنه وراثيه، وأظهر إلى أي مدى افتتن بهما الجمهور، وإلى أي مدى تناقض في حبه وبغضه، وإكباره وتألبه.
شكر الرومان «بروتس» قاتل قيصر لأجل الرومان وفي سبيل الرومان، فأسلس له قيادهم وطلبوا منه أن يتبوأ العرش مكانه، وحمل على الأعناق بعد أن تبوأ منهم حبات القلوب، ثم استمعوا إلى «أنطونيوس» يرثي قيصر، وما استمعوا له لأن «بروتس» طلب منهم أن ينصتوا؛ لأن قيصرا الطاغية غير قيصر الراحل، فأنصتوا وتكلم «أنطونيوس»، فحرك من شئونهم وأنساهم أنفسهم، واستغل في موقفه ما بثياب قيصر من دماء وثقوب، وما بجسمه من طعنات وجروح، حتى اضطرمت الفتنة، وكان نصيب «بروتس» ما تعلم بعد حمله على الأعناق!
هكذا فعل معاوية في جهاده وجلاده عليا، فقد صدع بما أشار به عليه عمرو بن العاص؛ إذ طلب إليه إظهار قميص الدم الذي قتل فيه عثمان وأصابع زوجته، وأن يعلق ذلك على المنبر ثم يجمع الناس ويبكى عليه عازيا قتل عثمان إلى علي، مطالبا بدمه مستميلا بذلك أهل الشام وغيرهم من عامة المسلمين. أخرج معاوية القميص والأصابع وعلقه على المنبر، وبكى واستبكى الناس، وذكرهم بمصاب عثمان، فانتدب أهل الشام من كل جانب، وأيدهم الأشراف وذوو النفوذ كشرحبيل بن السمط وسواه، وبذلوا له الطلب بدم عثمان والقتال معه على كل من آوى قتلته، ثم خلق لعلي معضلة سياسة لا يهون على السياسي حلها؛ ذلك بأن بعث برسالة إلى جماعة علي، وهذه الرسالة تحتوي على أسس المبادئ العثمانية وتقول: «أما بعد، فإنكم دعوتم إلى الطاعة والجماعة؛ أما الجماعة التي دعوتم إليها فمعنا، وأما الطاعة لصاحبكم فلا نراها؛ إن صاحبكم قتل خليفتنا، وفرق جماعتنا، وآوى ثأرنا
1
وقتلتنا، وصاحبكم يزعم أنه لم يقتله، فنحن لا نرد ذلك عليه؛ أرأيتم قتلة صاحبنا؟ ألستم تعلمون أنهم أصحاب صاحبكم؟ فليدفعهم إلينا فلنقتلهم به، ثم نحن نجيبكم إلى الطاعة والجماعة.»
وكيف يستطيع علي أن يدفع إلى معاوية قتلة عثمان؟! وماذا يكون موقفه أمام ذلك الحزب القوي الناقم على الخليفة المقتول؟! فلذلك كان من المعقول أن يقف رده أمام هذه المشكلة السياسية عند قوله: «أما ما سألت من دفعي إليك قتلته؛ فإني لا أرى ذلك؛ لعلمي بأنك إنما تطلب ذلك ذريعة إلى ما تأمله، ومرقاة إلى ما ترجوه، وما الطلب بدمه تريد.» (4) معاوية
لسنا نتعرض للحكم على دين معاوية ومبلغ تمشيه في تصرفاته السياسية وإقامته لحدود الله مع أحكام الشرع؛ فقد تكلم في ذلك فيه الشافعي والحسن البصري، وإنما نريد أن نمثل معاوية مؤسس الملكية في الإسلام، وواضع أسس السياسة الدنيوية، والذي قال فيه عمر بن الخطاب لجلسائه: «تذكرون كسرى وقيصر ودهاءهما وعندكم معاوية!» (5) سياسة معاوية
كان معاوية ذا مواهب سياسية كبيرة، وكان داهية ذهنا بعيد مدى العقل، مالكا قياد أهوائه، كان «ذا مكر وذا رأي وحزم في أمر دنياه، إذا رأى الفرصة لم يبق ولم يتوقف، وإذا خاف الأمر توارى عنه، وإذا خوصم في مقال ناضل عنه وقطع الكلام على مناظره»، كان يعمل جهده ليشتري ضمائر القبائل العربية، وكان كثير البذل في العطاء.
وقد ذكر الطبري حادثة نستطيع أن نستنبط منها نظر معاوية إلى المال وإلى مبلغ استعماله إياه ليملك به ضمائر أهل المكانة والنفوذ من معاصريه - ذكر أن أبا منازل قال له حينما أعطاه معاوية سبعين ألفا بينما أعطى جماعة من الزعماء ممن في مرتبته مائة ألف: فضحتني في بني تميم، أما حسبي فصحيح! أولست ذا سن؟! أولست مطاعا في عشيرتي؟! فقال معاوية: بلى، قال: فما بالك خسست بي دون القوم؟! فقال: إني اشتريت من القوم دينهم ووكلتك إلى دينك ورأيك في عثمان بن عفان - وكان عثمانيا - فقال: وأنا فاشتر مني ديني، فأمر له بتمام جائزة القوم.
كان سياسيا بطبيعته، معطاء وهوبا بسجيته، وقد صدق في صفته أبو الجهم الشاعر إذ قال:
نميل على جوانبه كأنا
نميل ولا نمين على أبينا
نقلبه لنخبر حالتيه
فنخبر منهما كرما ولينا
وإنا نستطيع أن نفهم فهما صحيحا: أكانت ثورة معاوية لقتل عثمان ثورة مصدرها إخلاصه العميق في العثمانية، وأنه كان يريد بها أن يجري حكم الشرع في قتلة عثمان، أم ثورة مصدرها طموحه إلى الملك ليغتصبه لنفسه؟ نستطيع أن نفهم ذلك من حديث جرى بينه وبين عائشة بنت عثمان؛ فإن التاريخ يحدثنا أن معاوية لما قدم المدينة دخل دار عثمان، فقالت عائشة بنت عثمان: وا أبتاه! وبكت، فقال معاوية: «يا ابنة أخي، إن الناس أعطونا وأعطيناهم أمانا، وأظهرنا لهم حلما تحت غضب، وأظهروا لنا طاعة تحتها حقد، ومع كل إنسان سيفه وهو يرى مكان أنصاره، فإن نكثنا بهم نكثوا بنا، ولا ندري أعلينا تكون أم لنا، ولأن تكوني بنت عم أمير المؤمنين خير من أن تكوني امرأة من عرض المسلمين.»
وقد لا نجد تصويرا أدق لسياسة معاوية وطريقة حكمه من قوله: «لا أضع سيفي حيث يكفيني سوطي، ولا أضع سوطي حيث يكفيني لساني، ولو أن بيني وبين الناس شعرة ما انقطعت؛ قيل: وكيف ذاك؟ قال: كنت إذا مدوها خليتها، وإذا خلوها مددتها.»
فهذا القول يبين حلمه وطول باعه في السياسة وهدوء أعصابه إذا جابهته المشكلات، أو نزلت بساحته الكوارث والمعضلات، ويظهر سعة عطنه وحزمه، ولقد قال له يزيد يوم بويع له على عهده فجعل الناس يمدحونه ويقرظونه: «يا أمير المؤمنين، والله ما ندري: أنخدع الناس أم يخدعوننا؟!» فقال معاوية: «كل من أردت خديعته فتخادع لك حتى تبلغ منه حاجتك فقد خدعته.»
ثم انظر إلى مختلف تصرفات معاوية في حياته السياسية وغيرها؛ فإنك لتقتنع بصدق حكم الشعبي الذي قال فيه: «كان معاوية كالجمل الطب إذا سكت عنه تقدم، وإذا رد تأخر.» (6) مميزات معاوية
ولقد امتاز معاوية إلى جانب إلمامه التام بميول كل من له به علاقة من الناس، وصادق تقديره مع ثقوب بصيرته بما فيهم من نواح للضعف يستطيع التسرب إليهم منها، امتاز إلى جانب هذا كله بصفات ثلاث لها مكانتها السامية في تكوين الدهاة من ساسة الوقت الحاضر، تلك الصفات الثلاث هي:
أولا: إيقاع أعدائه في مشكلات لا تقوم لهم من بعدها قائمة بأفانين طريفة طالما عمد إليها الكثير من ساسة اليوم، مثال ذلك طريقته في إيقاع بطارقة الروم الذين يكيدون للإسلام، وذلك بمهاداتهم ومكاتبتهم بطريقة مكشوفة؛ لإغراء الملك بهم.
الصفة الثانية من مميزات معاوية الخلقية هي: حلمه، وهناك مئات الأمثال أترعت بها كتبنا الأدبية والتاريخية مشيدة بحلمه مطنبة في فضائل سعة صدره، على أنا نجتزئ هنا بمثل عادي، ذلك أنه لما ألحق زيادا بأبيه دخل عليه بنو أمية وفيهم عبد الرحمن بن الحكم أخو مروان بن الحكم الأموي، فقال له: يا معاوية، لو لم تجد إلا الزنج لاستكثرت بهم علينا قلة وذلة؛ فأقبل على أخيه مروان وقال: أخرج عنا هذا الخليع، فقال مروان: والله إنه لخليع ما يطاق، فقال معاوية: والله لولا حلمي وتجاوزي لعلمت أنه يطاق! ألم يبلغني شعره في وفي زياد! ثم قال لمروان: أسمعنيه، فقال:
ألا أبلغ معاوية بن صخر
لقد ضاقت بما تأتي اليدان
أتغضب أن يقال أبوك عف
وترضى أن يقال أبوك زاني
الصفة الثالثة هي: نعومته السياسية، وهي غير الحلم، وقد تعتبر إلى حد ما من نوع المغالطات السياسية، مثال ذلك ما كان بينه وبين الحسن بن علي في شأن نزوله عن الخلافة له، إذ كتب إليه معاوية كتابا قيما جاء فيه: «أما بعد، فأنت أولى بهذا الأمر وأحق به لقرابتك، ولو علمت أنك أضبط له وأحوط على حريم هذه الأمة وأكيد لبايعتك، فسل ما شئت»، وبعث إليه بصحيفة بيضاء مختومة في أسفلها: أن اكتب فيها ما شئت، فكتب الحسن أموالا وضياعا وأمانه لشيعة علي.
أضف إلى هذه الصفات ما كتب لمعاوية من توفيق وسداد في اختيار أكبر دهاة الولاة؛ كعمرو بن العاص وزياد بن أبيه والمغيرة بن شعبة، ممن عملوا معه على توطيد الملك له، والذين ارتسموا - إلى حد غير قليل - خطوات زعيمهم السياسي في شراء الضمائر، وسعة العطن، ورجوح حصاة العقل. وهذا زياد المعروف بشدة الوطأة بلغه عن رجال يكنى أبا الخير من أهل البأس والنجدة أنه يرى رأي الخوارج، فدعاه فولاه جنديسابور
2
وما يليها، ورزقه أربعة آلاف درهم كل شهر، وجعل عمالته في كل سنة مائة ألف، فكان أبو الخير يقول: «ما رأيت شيئا خيرا من لزوم الطاعة، والتقلب بين أظهر الجماعة»، كذلك فعل المغيرة بن شعبة حين حصبه حجر بن عدي وهو على المنبر في خطبة الجمعة، فإنه نزل مسرعا ودخل قصر الإمارة وبعث إلى حجر بخمسة آلاف درهم ترضاه بها، فقيل للمغيره: لم فعلت هذا وفيه عليك وهن وغضاضة؟! فقال: «قد قتلته بها!»
إلى جانب هذه العناصر المكونة لتلك الشخصية البارزة التي اعتمدت في تأسيس ملكها على ما اعتمدت عليه من ترضي الأحزاب بالمال وعامة الناس بالطعام، واستغلال العصبيات العربية، والتساهل في إقامة الحدود الدينية إذا دعت إلى ذلك طبيعة الأحوال السياسية، فإن معاوية يصف بنفسه سبب نجاحه على علي بقوله: «أعنت على علي بن أبي طالب بأربع خصال: كان رجلا ظهرة علنة لا يكتم سرا، وكنت كتوما لسري؛ وكان لا يسعى حتى يفاجئه الأمر مفاجأة، وكنت أبادر إلى ذلك؛ وكان في أخبث جند وأشدهم خلافا، وكنت أحب إلى قريش منه، فنلت ما شئت؛ فلله من جامع إلي ومفرق عنه.» (7) معاوية والسياسة المكياڤلية
وبعد، فإن السياسة الحديثة قد أباحت لرجالاتها في سبيل تحقيق غاياتهم أن ينتهجوا من الوسائل ما يكفل لهم نجحهم السياسي، ويجب علينا أن نثبت أن جلهم - ولو أنهم يتظاهرون بنفورهم من مدرسة «ماكياڤلي» التي تضحي بكل شيء تسويغا للوصول إلى الغاية السياسية - يأخذون في الواقع بتعاليمها ويعملون على برنامجها. هذه السياسة الإيجابية في نجاحها العملي، السلبية في إرضائها المناحي الخلقية هي التي أخرجت لنا «ماترنيخ» و«كافور» و«دزرائلي» و«بسمرك» و«پت»، وهي التي كان من أبطالها «جلادستون » ذو المواقف الغريبة في الإقناع واكتساب ثقة الجمهور ولو تنحل من الشواهد واختلق من السابقات ما ليس له من وجود.
كذلك كان معاوية، في جل تصرفاته، يحفل كثيرا بتحقيق غاياته في تشييد الملك، فهو يدبر أمور الناس لهذه الوجهة، وهو ينتهج من الوسائل السياسية ما يكفل نجاحه في هذه الوجهة. وإنه لخليق بنا وبسوانا ألا نعدو بعيدا عن هذه الوجهة حين نظرنا إلى معاوية في كتابه إلى مروان بن الحكم بشأن حده شاعره الكبير ابن سيحان، وحين حكم لابن الزبير بثمن داره المحترقة، وحين أرضى عقيلا، واحتمل من الأحنف بن قيس ما احتمل، وحين تخلص من الأشتر النخعي ومن عبد الرحمن بن خالد، وحين فصل في منازعة عمرو بن عثمان بن عفان وأسامة بن زيد مولى رسول الله
صلى الله عليه وسلم
في حكاية الأرض التي قيل: إن الرسول
صلى الله عليه وسلم
أقطعها أحدهما، وحين كان يبذل المال طبقا لمناهجه السياسية. وإنا نبيح لأنفسنا حين ننظر إلى قول زين العابدين: «إن عليا كان يقاتله معاوية بذهبه»، أن نقول: «إن معاوية كان يقاتل عليا بذهبه وذهنه.»
وإنا لنظن أنا قد صورنا معاوية بما هو أهله، وأوضحنا ما كانت عليه تلك الشخصية الفذة في مسايرة الناس واحتمال الأذى منهم، والتي يقول صاحبها: «ما من شيء عندي ألذ من غيظ أتجرعه»، «وإني لا أحول بين الناس وألسنتهم ما لم يحولوا بيننا وبين ملكنا.»
والآن نستطيع بعد أن كشفنا القناع عن أخلاق معاوية ومميزاته، أن نفهم قيمة قول علي رضي الله عنه في كتابه إلى زياد بن أبيه حينما كان من ولاته يحذره من معاوية - وهو ما نختتم به كلمتنا فيه: «إني وليتك ما وليتك وأنا أراك له أهلا، وقد كانت من أبي سفيان فلتة من أماني الباطل وكذب النفس، لا توجب لك ميراثا ولا تحل له نسبا، وإن معاوية يأتي الإنسان من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله، فاحذر ثم احذر، والسلام.»
هوامش
الفصل الثالث
سياسة معاوية وخلفائه
(1) توطئة
إن معاوية الذي مرن على السياسة بنشأته، وحذقها بسجيته، وأتقنها لمختلف أدوارها التي تقلب فيها، فطبع عليها وطبعت عليه، وأصبح منها وأصبحت منه، لم يكن في مقدوره إلا أن يكون سياسيا فذا موفقا، بل مصدر سياسات عبقرية طالما نشدها عصره وزمانه حتى بعث بها وبعثت له، وخلق منها وخلقت منه؛ وكانت في نفسها وجوهرها خليقة للإجلال والإكبار، كما كان صاحبها قمينا بالنجاح جديرا بالتوفيق؛ لأنه لم يكن في وسعه، بطبيعته واستعداده ومواهبه واستتمامه لأداة الحكم والسلطان، إلا أن يوفق مظفرا في مختلف خططه التي ارتسمها سديدة ناجحة؛ لأنها قطعة من نفسه، وكل ما كان من نفس معاوية فهو بمثابة أصول السياسة في تشييد الملك بمنجاة من الأعاصير التي تقتلع كل ملك قائم على غير طبيعة السنن الملكية الضرورية لها، ولضمان حياتها ودوام قوة بيوتاتها.
إن معاوية ومن ضرب على قالبه وغراره علموا الخفيات من أهواء النفوس، فتم لهم تملكها وقيادتها، وانتهجوا بها من المسالك ما أشبع نهمتهم ونهمتها، وحقق بغيتهم وبغيتها، ووحدوا بين تيار مصلحتهم السياسية ومختلف رغباتها ومصطدم منازعها، وفطنوا بثقوب بصائرهم إلى استخدام كل ما فيه القوة والحياة لملكهم من شتى العناصر: في أنفسهم وولاتهم وسائر شعبهم.
أما في نفوسهم فبأخذها، مكرهة أو طائعة، بالتزام ما فيه النجح والتوفيق مع قصد واعتدال، فتختار من الولاة والزعماء والقواد والبطانة من فيهم الغنية والكفاية وحسن البلاء، يبحث عنهم أنى وجدوا، مهما كانت عصبياتهم وخفة ظلهم أو كثافة نفوسهم، ويجعلون في مراكزهم بمعزل عن التغيير والتبديل ما داموا من أوتاد الدولة وأركان الملك.
وأما في ولاتهم، فببعدهم عن جور الرعية وإنصافهم الناس جميعا، فلا يصيبهم من وراء لونهم السياسي أو مذهبهم الديني عسف ولا ظلم.
ولقد سأل الوليد عامله الحجاج، المعروف بعسفه وجبروته، أن يكتب إليه بسيرته، فكتب ما نثبته هنا - وكنا نود أن يكون نبراسا حقا للحجاج وغير الحجاج - قال:
إني أيقظت رأيي، وأنمت هواي، فأدنيت السيد المطاع في قومه، ووليت الحرب الحازم في أمره، وقلدت الخراج الموفر لأمانته، وقسمت لكل خصم من نفسي قسما يعطيه حظا من نظري ولطيف عنايتي، وصرفت السيف إلى النطف المسيء، والثواب إلى المحسن البريء، فخاف المريب صولة العقاب، وتمسك المحسن بحظه من الثواب.
وأما في سائر شعبهم، فبأن يستمتعوا بكل ما يرضي العدل والحق مع طمأنينتهم على مالهم وأنفسهم، وأن تكون أبواب الولاة لشكاتهم مفتوحة، وآذانهم لمطالبهم مصغية، وعيونهم لخيرهم ناظرة. وكم تفيد تلك الصفات مع حزم في الولاة!
وهذا زياد بن أبيه كان مع شدته لا يحتجب عن طالب حاجة وإن أتاه طارقا بليل، وهو الذي كانت عقوبته القتل للمدلج، وأخذ المقبل بالمدبر والمقيم بالظاعن. وقد وفق زياد إلى استتباب الأمن في ربوعه حتى قال المدائني: «قدم قادم على معاوية بن أبي سفيان، فقال له معاوية: هل من مغربة خبر؟ قال: نعم، نزلت بماء من مياه الأعراب، فبينا أنا عليه أورد أعرابي إبله، فلما شربت ضرب على جنوبها وقال: عليك زيادا، فقلت له: ما أردت بهذا؟ قال: هي سدى ما قام لي فيها راع منذ ولي زياد. فسر ذلك معاوية وكتب به إلى زياد.»
قلنا: إن معاوية ومن ضرب على قالبه وغراره فطنوا بثقوب بصائرهم إلى استعمال كل ما فيه القوة والحياة لملكهم من شتى العناصر في أنفسهم وولاتهم وسائر شعبهم، والآن نريد أن ندرس بإيجاز الأسس التي باتباعها تم النجاح في تشييد البيت الأموي، والتي باضطرابها والتنكب عن سنتها وطبيعتها كان ضياعه وفناؤه. (2) اصطناع الأحزاب بالمال
قال ابن قتيبة في كتابه الشعر والشعراء: «إن أحمد بن يوسف الكاتب قال لأبي يعقوب الخريمي: مدائحك لمحمد بن منصور بن زياد - يعني كاتب البرامكة - أشعر من مراثيك فيه وأجود! فقال: كنا يومئذ نعمل على الرجاء، ونحن اليوم نعمل على الوفاء، وبينهما بون بعيد.»
واستطرد ابن قتيبة فقال: «وهذه عندي قصة الكميت في مدحه بني أمية وآل أبي طالب، فإنه كان يتشيع وينحرف عن بني أمية بالرأي والهوى، وشعره في بني أمية أجود منه في الطالبيين؛ ولا أرى علة ذلك إلا قوة أسباب الطمع، وإيثار النفس لعاجل الدنيا على آجل الآخرة.»
صدق ابن قتيبة فيما ذهب إليه؛ فإن أثر المال في النفس الإنسانية غير قليل، وإن أثره في اصطناع الأحزاب السياسية لما لا يحتاج إلى تدليل؛ وقد جبلت النفوس على حب من أحسن إليها، وبغض من أساء إليها.
ولقد كان معاوية كيسا فذا في استعمال المال واكتساب رضا الجمهور، وكذلك كان كل من ائتم بهديه وسنته في البذل والعطاء، وفي التوسعة على من آزرهم وعمل على نصرتهم، ومد ظلهم وتثبيت عرشهم؛ فقد زاد معاوية في العطاء لمن شهد مواقعه، كما فرض الأعطية للشعراء، غاضا طرفه عما في ذلك من إغضاب المحافظين من رجال الدين؛ إذ كان همه أن يمتلك الأبواق المداحة، ويسترضيها بهباته ونواله، لتنشر في الآفاق ذكره، وترفع إلى السماكين فضله، حتى قصده الشعراء وانتجعوه، وناصروه وظاهروه، وحتى علم الخاص والعام أنه إن مدحه أثراه، وإن استرفده أغناه، وإن ناصره راشه وأعلى مكانه، فأضحى نجعة الرواد ومقصدهم، وموئل القصاد ومنهلهم، وكانت الزوجة تستحث عزمات زوجها أن يهرع إليه ليصيب من نوافله، وليعود إليها بنوائله، كما كانت ترغب بعلها أن يبيع إبله وأن يفترض في العطاء بشعره.
وقد حكى لنا أبو الفرج الأصفهاني شيئا من ذلك في أخبار جبيهاء
1
الأشجعي في خبر طويل انتهى بأن قال جبيهاء الأشجعي قصيدته التي فيها:
قالت أنيسة: دع بلادك والتمس
دارا بطيبة ربة الآطام
تكتب عيالك في العطاء وتفترض
وكذاك يفعل حازم الأقوام
وهنالك مسألة مهمة من سياستهم في اصطناع الأحزاب، وإلجام الأفواه بالمال، وفرض العطاء للشعراء الذي ظل معمولا به إلا في أيام عمر بن عبد العزيز، ذلك أنهم كانوا يتملكون رقاب المسلمين بإقراض من شاءوا من مال الصدقة، ويكتبون صكا عليهم، ونحن نعلم أن الدين هم بالليل ومذلة بالنهار.
ويذكر لنا الأغاني في باب أخبار جعفر بن الزبير ما فرضه له سليمان بن عبد الملك إذ أمر له بألف دينار في دينه، وألف دينار معونة على عياله، وبرقيق من البيض والسودان، وبكثير من طعام الجاري، وأن يدان من الصدقة بألفي دينار .
على أنه قد يعترض علينا بأن الحادثة التي قدمناها حادثة فردية لا يصح أن تتخذ قاعدة عامة، أو أن يستنبط منها وقوع مثيلاتها وذيوع نظيراتها.
بيد أن الأغاني يجهز على هذا الاعتراض؛ إذ يثبت ما نصه: «كان السلطان بالمدينة إذا جاء مال الصدقة أدان من أراد من قريش منه، وكتب صكا عليه يستعبدهم به ويختلفون إليه ويدارونه، فإذا غضب على أحد منهم استخرج ذلك منه، حتى كان هارون الرشيد، فكلمه عبد الله بن مصعب في صكوك بقيت من ذلك على غير واحد من قريش، فأمر بها فأحرقت.»
فمثل هذا التصرف في استرضاء الناس واستعبادهم، وفي إقراضهم المال ليكونوا أولياء، وتعجيزهم وإرهاقهم إن جنحوا لمناوأة ولاة الأمور أو منافستهم، له آثاره من خير وشر في المصلحة الحزبية لبيت بني أمية، طبقا لما يبديه الزعماء من حنكة وحزم وإصابة لمواقع الصواب.
وبعد، فإن هذا السلاح الماضي في يد الأقوياء لهو أشد مضاء في القضاء على الضعفاء إذا أساءوا استعماله؛ لأنه قد يبذل لشراء مثل «الذلفاء» وغيرها من القيان، ولأنه قد يبذله الشباب من الخلفاء في ضروب الخلاعة والاستهتار، فيكون معول هدم ودمار، كما حصل لمحمد الأمين وأمثال محمد الأمين مما سنورده عليك.
وإنا لنرى في أخريات هذا البيت ذي الأثر الكبير في تحول المدنية العربية أن بعض الخلفاء نقص الناس العطاء؛ فعانوا ضيقا بعد سعة، وشظفا بعد رفاهية. وشر السياسات أن تصيب صاحب عيش رغيد بإضاقة وحرمان، وأن تنزل به غضاضة التقتير والعسر.
ولننظر ما يقوله اليعقوبي عن خليفة من هذا الطراز: طراز الإضاقة في أرزاق الناس، وعنوان اضمحلال الدولة إذا آذن نجمها بالأفول؛ وآل أمرها إلى الإفلاس.
يقول اليعقوبي عن يزيد بن الوليد بن عبد الملك: إنه سمي يزيد الناقص لأنه نقص الناس من أعطياتهم، واضطربت عليه البلدان، وكان ممن خرج عليه العباس بن الوليد بحمص، وشايعه أهل حمص، وبشر بن الوليد بقنسرين، وعمر بن الوليد بالأردن، ويزيد بن سليمان بفلسطين، وساعد العباس أبو محمد بن عبد الله بن يزيد بن معاوية وسليمان بن هشام.
يريد اليعقوبي أن يقول من غير شك: إن هؤلاء الأمراء انتهزوا غضب الجند لنقصان الأعطية فثاروا.
ليس هذا فحسب، بل إن سياسة بعض الخلفاء دفعتهم إلى حرمان مدن بحذافيرها من عطائها، كما حصل لأهل مكة والمدينة إذ حرموا سنة كاملة، في حين نرى معاوية قد زاد عطاء أهل البيت مثل الحسن والحسين وعبد الله بن عباس إلى 1000000 درهم في السنة؛ فضاعفها مائتي مرة عن حساب ديوان عمر بن الخطاب.
أفلا يجدر بنا بعد ما أسلفناه أن نقتنع بأن المال كان سببا قويا لبناء بيت معاوية، وأن المال نفسه كان - إلى حد غير قليل - سببا له خطره وقيمته في انهيار هذا البناء! (3) العمال
قال زياد: ما غلبني أمير المؤمنين معاوية قط إلا في أمر واحد؛ طلبت إليه رجلا من عمالي كسر علي الخراج، فلجأ إليه، فكتبت إليه: «إن هذا فساد عملي وعملك»، فكتب إلي:
إنه لا ينبغي أن نسوس الناس سياسة واحدة: لا نلين جميعا فيمرح الناس في المعصية، ولا نشتد فنحمل الناس على المهالك، ولكن تكون أنت للشدة والفظاظة والغلظة، وأكون أنا للرأفة والرحمة.
وكتب عبد الملك بن مروان إلى الحجاج حين استأذنه في أخذ تلك الصبابة من المال التي تترك لأصحاب الأراضي يتعللون بها، ولتكون لهم ردءا وظهيرا إذا نزلت بساحتهم النوائب والجوائح، قال: «لا تكن على درهمك المأخوذ أحرص منك على درهمك المتروك، وأبق لهم لحوما يعقدون بها شحوما.»
بمثل هذه السياسة بين العمال والخلفاء، وبمثل اختيار معاوية وغير معاوية؛ كهشام وعبد الملك، لعمال ذوي كفاية ودهاء، وحذق وحسن بلاء؛ كزياد ومن على شاكلته، أتيح لمعاوية وخلفاء معاوية تبوء عرش المملكة العربية قوي الأركان لا تهتصره العواصف والأعاصير، ثابتا لا تزعزعه ثورات الخوارج ولا حروب المنافسين.
كانت الدولة أيام معاوية، أيام بنائها وتشييدها، أيام تلك المصاعب الكأداء التي اعتورت سبيلهم، وتلك الشدائد التي تشيب وتفزع، وتقض المضاجع، وتجتث من النفوس آمالها، ومن العزمات مضاءها، ومن القلوب بأسها - كانت الدولة يومئذ غنية بالكفايات ، خصبة بمهرة العمال وحذاق الولاة. ولعلها سنة طبعية أن يكون دور بناء العروش والممالك خصبا برجاله الكفاة، كما يكون دور انحلالها قاحلا عقيما في كل شيء، وإن كانت الأمم وهي تتقطع أنفاسها قد لا تخلو ممن لا يألو جهدا في سبيل إقالتها من عثرتها، وإنهاضها من سقطتها.
ألم يكن إلى جانب معاوية في عصر البناء أصحاب الكفايات النادرة من العمال والولاة أمثال: عمرو بن العاص وزياد بن أبيه والمغيرة بن شعبة الذين يقول فيهم بعض النقاد: «ما رأيت أثقل حلما ولا أطول أناة من معاوية، ولا رأيت أغلب للرجال ولا أبذ لهم حين يجتمعون من عمرو بن العاص، ولا أشبه سرا بعلانية من زياد، ولو كان المغيرة في مدينة لها ثمانية أبواب لا يخرج من باب منها إلا بالمكر؛ لخرج من أبوابها كلها.»
على أنه يجدر بنا أن نصور حالة الولاة الكفاة أيام القوة، وما آل إليه أمرهم بعد ذلك حتى أضحوا يتقربون إلى الخلفاء بالهدايا والألطاف والرشا مع عسف الرعية والكيد لها، ولنترك لليعقوبي التكلم عن الحالة الأولى، ولابن الأثير بيان الثانية، ثم نردف ذلك ببعض الحقائق التاريخية لكي يتاح لنا بعدئذ أن نطمئن إلى تقدير هذا العنصر - عنصر العمال - وأنه لا يقل عن المال قوة وأثرا، سواء أكان ذلك في البناء أم في الهدم، أما البناء فبحسن اختيار العمال وكفاياتهم، وأما الهدم فبعسف الولاة وخرقهم، وسوء اختيارهم، وقلة بضاعتهم في تدبير الممالك وسياسة الناس.
قال اليعقوبي في معرض كلامه عن زياد بن أبيه بعد أن وصف ما له من دهاء وحيلة وصولة: «كان زياد يقول: ملاك السلطان أربع خلال: العفاف عن المال، والقرب من المحسن، والشدة على المسيء، وصدق اللسان، وكان زياد أول من بسط الأرزاق على عماله ألف درهم ألف درهم، ولنفسه خمسة وعشرين ألف درهم، وكان يقول: ينبغي للوالي أن يكون أعلم بأهل عمله منهم بأنفسهم.»
وبعد أن ضرب اليعقوبي الأمثال على معرفة زياد بدخائل رعيته قال مصورا رأي زياد فيما يتطلبه بعض الشئون العامة من الصفات فيمن يتولاه: كان زياد يقول: «أربعة أعمال لا يليها إلا المسن الذي قد عض على ناجذه: الثغر، والصائفة، والشرط، والقضاء، وينبغي أن يكون صاحب الشرط شديد الصولة، قليل الغفلة، وينبغي أن يكون صاحب الحرس مسنا عفيفا مأمونا لا يطعن عليه، وينبغي أن يكون في الكاتب خمس خلال: بعد غور، وحسن مداراة، وإحكام للعمل، وألا يؤخر عمل اليوم لغد، والنصيحة لصاحبه، وينبغي للحاجب أن يكون عاقلا فطنا قد خدم الملوك قبل أن يتولى حجابتهم.»
ثم انظر ما آل إليه الأمر أيام الوليد بن يزيد الذي رغب في اكتساب قلوب الناس بعد نفورها، وإرضائها بعد تبرمها، وإيناسها بعد وحشتها، بأن يزيد في أعطياتهم، ويضاعف أرزاقهم، بيد أن معين المال قد نضب أو كاد، والخزانة قد استنزفتها الملاذ وحروب الخوارج وإخماد الفتن، فعمد إلى بيع الولايات.
وإن ابن الأثير ليخبرنا في حوادث سنة خمس وعشرين ومائة، أن الوليد قد ولى نصر بن سيار خراسان كلها وأفرده بها، ثم وفد يوسف بن عمر على الوليد فاشترى منه نصرا وعماله، فرد إليه الوليد ولاية خراسان، وكتب يوسف إلى نصر يأمره بالقدوم ويحمل معه ما قدر عليه من الهدايا والأموال، وأن يقدم معه عماله أجمعين. ثم قال: وكتب الوليد إلى نصر يأمره أن يتخذ له برابط وطنابير وأباريق ذهب وفضة، وأن يجمع له كل صناجة بخراسان، وكل باز وبرذون فاره، ثم يسير بكل ذلك بنفسه في وجوه أهل خراسان.
ثم انظر ما يقوله الأغاني من عامل لعبد الملك بن مروان على خراسان، وهو أمية بن عبد الملك الذي كتب إليه يقول: «إن خراج خراسان لا يفي بمطبخي»، وما أثبته القاضي ابن خلكان في تاريخه عن أبي خالد يزيد بن أبي المثنى عمر بن هبيرة والي مروان بن محمد على العراق من أن رزقه كان ستمائة ألف درهم.
هذا إلى ما نزل بأهل الذمة وغيرهم من العسف وزيادة الضرائب، وما كان من تخلية أصحاب الأراضي لها بغير حرث ولا زرع، وما كان من مبالغة العمال في إهداء الخلفاء ، ونزوعهم إلى جمع الثروة واختزان المال؛ فإنك بعد كل هذا تطمئن معي إلى الاقتناع بأن العمال الكفاة مصدر قوة في بناء الممالك، وعنصر يحفل به في مادة حياتها، وأنهم عنوان مهابتها وصولتها، وأن الولاة الظلمة الضعاف مصدر ويل وثبور، وأداة هدم وتخريب وانتثار وفناء.
وإنا نسوق هنا كلمة لبعض بني أمية - حين سئل عن سبب زوال ملكهم - لا تخلو من عظة واعتبار، قال: «... قلة التيقظ، وشغلنا بلذاتنا عن التفرغ لمهماتنا، ووثقنا بكفاتنا فآثروا مرافقهم علينا، وظلم عمالنا رعيتنا ففسدت نياتهم لنا، وحمل على أهل خراجنا فقل دخلنا، وبطل عطاء جندنا فزالت طاعتهم لنا، واستدعاهم أعداؤنا فأعانوهم علينا، وقصدنا بغاتنا فعجزنا عن دفعهم لقلة أنصارنا، وكان أول زوال ملكنا استتار الأخبار عنا، فزال ملكنا عنا بنا.» (4) الوجهة الدينية
إن سنة معاوية في بناء دولته لم تكن - مع ما نعلمه من ترخصه في إقامة الحدود في بعض الأحوال لضرورات سياسية - سنة استهانة بالدين، ولا إمعان في ازدرائه أو الخروج عن جل مظاهر الاحتشام الديني الخليقة بمن يسوس أمور الدين والدنيا، هذه سنة معاوية وطريقته في سياسة الملك، أما خلفاؤه فقد تنكب جلهم سنته الحكيمة، وأطلقوا لشهواتهم العنان فيما ينبغي أن يكون خلفاء المسلمين وأئمتهم بنجوة منه، وقد كان لذلك آثاره في الدولة من حيث تأثر أخلاقها القومية، وما أصابها من انحلال وضعف، ومن تفكك وفتور. وسنعالج تصوير هذه العوامل بإيجاز واقتضاب في كلمتنا هذه؛ فلا نفرد لكل منها بابا وإن كنا نعلم أنه يترتب على توضيحنا لهذه الأصول فائدة جلى، بيد أن اتساع نواحي الموضوع وتشعب فروعه ومختلف أبوابه، كل ذلك يلزمنا إلزاما اتباع ما رسمنا لأنفسنا من القصد والاعتدال.
لسنا بحاجة - على ما نظن - إلى تصوير أخلاق من فيهم الكفاية من خلفاء معاوية من ناحية الدين والخلق العام؛ لأن فيما عالجناه من تحليل أخلاق معاوية الغنية والكفاية.
نريد الآن أن ندرس تلك الناحية العكسية، ناحية أولئك الخلفاء الذين لم يبالوا التقاليد الدينية فازدروا طقوسها، مع ما كان فيهم من ضعف وما بهم من خرق.
إن أمامنا يزيد بن معاوية، ويزيد بن عبد الملك، والوليد بن يزيد، أما ابن معاوية فقد أصاب اليعقوبي سدرة الصواب حين وصفه بأنه حلف نسوة، وصاحب ملاه، ويكفي أن ندرس حياته - مع أن الدولة كانت في إبان قوتها وميعة شبابها - لنقتنع بأنها كانت بمثابة معاون هدم وتخريب، وإن في إلمامنا بما كان من مسلم بن عقبة الذي انتهك المدينة لمقنعا بما نقول؛ لقد كان جند يزيد بعد واقعة الحرة وغيرها يطلبون إلى الرجل القرشي أن يبايع ليزيد، لا من ناحية اقتناعه الديني طبعا، ولا بدافع الترغيب والمال، ولا بسياسة الرقة واللطف التي قد ينال بها أكثر مما ينال بالشدة والعنف؛ بل من ناحية السيف والإرهاب، يجب أن يبايع وأنفه راغم، ويجب أن يبايع مع ما يرى من انتهاكهم المدينة، كانت جند يزيد تقول للقرشي: بايع على أنك عبد قن ليزيد، فإن أبى ضرب عنقه، فكانت مقتلة ذريعة، ثم انظر ما كان من حصارهم مكة التي إذا قال قائلها: «يا أهل الشام، هذا حرم الله الذي كان مأمنا في الجاهلية يأمن فيه الطير والصيد، فاتقوا الله يا أهل الشام.» صاح الشاميون: «الطاعة الطاعة.»
لنترك يزيد جانبا محيلين القارئ إلى ما في الأغاني وغيره من كتب الأدب والتاريخ، ولنردد الطرف في حياة يزيد بن عبد الملك، فنجد أبا الفرج الأصفهاني يذكر لنا، في غير موضع من حياة سلامة القس وحبابة وغيرهما، شيئا لا يستهان به عن إسرافه في تهتكه، فينقل لنا عن المدائني قوله: قدم يزيد بن عبد الملك المدينة في خلافة سليمان، فتزوج سعدة بنت عبد الله بن عمرو بن عثمان على عشرين ألف دينار، وربيحة بنت محمد بن علي بن عبيد الله بن جعفر على مثل ذلك، واشترى الغالية بألف دينار.
وفي رواية محمد بن سلام أنه اشتراها بأربعة آلاف دينار، ويقول في موضع آخر: إن رسل يزيد بن عبد الملك قدمت المدينة فاشتروا سلامة المغنية من آل رمانة بعشرين ألف دينار.
ولعلك تميل إلى مقابلة هذه الروايات مع تعدد رواتها بتحفظ المؤرخ العلمي الذي لا يقنعه إلا الوسائل التحليلية المؤيدة لصدق الرواية، على أنك تستطيع ذلك باطلاعك على ما يقوله اليعقوبي مثلا عن طريقة جباية المال، وعلى ما كتبه يزيد بن عبد الملك إلى عمر بن هبيرة، وهو عامله على العراق، يأمره أن يمسح السواد، فمسحه سنة 105، ولم يمسح السواد منذ مسحه عثمان بن حنيف في زمن عمر بن الخطاب حتى مسحه عمر بن هبيرة، فوضع على النخل والشجر، وأضر بأهل الخراج، ووضع على التانئة،
2
وأعاد السخر والهدايا وما كان يؤخذ في النيروز والمهرجان، ليس هذا فحسب، بل انظر إلى تعلله في فرض الغرامات المالية على كبار رجال الدولة لا لجرم إلا أن نفوسهم حدثتهم أن يتزوجوا بعض آل البيت، فإن عبد الله بن الضحاك بن قيس الفهري، عامله على المدينة، كان قد خطب لنفسه فاطمة بنت الحسين بطريقة جافة، فعزله يزيد عن المدينة وولاها عبد الواحد بن عبد الله النصري، وكتب إليه أن يأخذه بأربعين ألف دينار ويعذبه، ففعل ذلك، ويقول المؤرخ الذي نقلنا عنه: إن عبد الله بن الضحاك قد رئي وفي عنقه خرقة صوف يسأل الناس.
ولم يكتف يزيد بن عبد الملك بهذا، بل عزل عمال عمر بن عبد العزيز جميعا، ونحن نعلم من هو عمر، وما عدله وما رقابته عماله، ويكفينا أن نذكر ما كان منه مع يزيد بن المهلب عامله على خراسان، فقد قال له عمر: «إني وجدت لك كتابا إلى سليمان تذكر فيه أنه اجتمع قبلك ألف ألف، فأين هي؟ فأنكرها ثم قال: دعني أجمعها، قال: أين؟ قال: أسعى إلى الناس، قال: تأخذها منهم مرة أخرى!» ثم ولى خراسان الجراح بن الحكمي.
وإنه لمن الممتع حقا تلك المناقشة الورعة الهادئة التي دارت بين عمر ويزيد، وبين عمر ومخلد بن يزيد، وتلك الصرامة التي لا تعرف في سبيل المحافظة على مال المسلمين لينا ولا هوادة، وقد أثبتها ابن الأثير في كامله ولا حاجة بنا هنا إلى الاستطراد بذكرها. •••
فمن أمثال ما قدمناه نستطيع أن نقتنع بأن روايات صاحب الأغاني عن إسرافه قريبة من الواقع إن لم تكن صحيحة لا مبالغة فيها ولا غبار عليها، ثم لننظر الآن إلى أي مدى كان هذا الصنف من الخلفاء تحت تأثير عشيقاتهم من القيان والمغنيات، وما كان لهن من سلطان في أمور الدولة وتولية العمال وعزلهم؛ فإن ذلك يفيدنا في تفهمنا دور الانتقال الذي نحن فيه تفهما هو - في نظرنا - أشد اعتبارا من الاعتماد على رأي المؤرخين وسردهم للحوادث بغير عناية ولا استقراء للنفسية العربية، وخاصة في أبهاء الخليفة، وحبذا العناية بها، سواء أكانت في بيت الخليفة أم في بيت العامل أم عند الرعية، فإن لدراستها ومراقبة تحولها نفعا وكبير جدوى.
ينقل لنا أبو الفرج الأصفهاني عن المدائني أن حبابة - وهي عالية القينة - «غلبت على يزيد وتبنى بها عمر بن هبيرة، فعلت منزلته حتى كان يدخل على يزيد في أي وقت شاء، وحسد ناس من بني أمية مسلمة بن عبد الملك على ولايته، وقدحوا فيه عند يزيد وقالوا: إن مسلمة إن اقتطع الخراج لم يحسن، يا أمير المؤمنين، أن يعيشه، وأن يستكشف عن شيء لسنه وخفته، وقد علمت أن أمير المؤمنين لم يدخل أحدا من أهل بيته في الخراج، فوقر ذلك في قلب يزيد وعزم على عزله. وعمل ابن هبيرة في ولاية العراق من قبل حبابة، فعملت له في ذلك، وكان بين ابن هبيرة والقعقاع بن خالدة عداوة، وكانا يتنازعان ويتحاسدان، فقيل للقعقاع: لقد نزل ابن هبيرة من أمير المؤمنين منزلة؛ إنه لصاحب العراق غدا! فقال: ومن يطيق ابن هبيرة؟ حبابة بالليل وهداياه بالنهار! مع إنه وإن كان بلغ فإنه رجل من بني سكين، فلم تزل حبابة تعمل له في العراق حتى وليها.»
مثل هذا الخبر له قيمته التاريخية في تعرف حال الدولة العربية في ذلك الحين، ولو جاز لنا أن نحلل لنظرنا طويلا في قول القعقاع بن خالد: «ومن يطيق ابن هبيرة؟ حبابة بالليل وهداياه بالنهار، مع أنه وإن كان بلغ فإنه رجل من بني سكين.» فإنه لا يفيدنا في تفهم وقوع الخليفة تحت سلطان عشيقته، ولا في قبوله للرشا فحسب، بل يفيدنا فهم تحول العصبيات العربية الأخيرة، ومبلغ نظر العربي إلى سواه.
أما استخفاف الوليد بن يزيد بالدين، وخمرياته التي فاقت خمريات يزيد بن معاوية، والتي نرى أن لها أثرا كبيرا في أبي نواس وحسين بن الضحاك، وبركة الخمر التي احتواها قصره، فإن أمهات كتب الأدب العربي ومظان التاريخ مفعمة من ذلك بما لا نتعرض له في هذه العجالة بأكثر من إحالة القارئ على ما قاله الوليد في القرآن، وما أحصاه بعضهم له من عدد الأقداح التي شربها في ليلة من ليالي شرابه؛ إذ أثبت صاحب الأغاني أنها سبعون قدحا، وإن كنا نفترض في مثل هذه الأحوال جنوح الرواة إلى المبالغة والإغراق، ثم لتنظر معنا فيما يقوله ابن الأثير عنه حين ولاه هشام الحج، فإنه يخبرنا أنه لما أراد هشام أن يقطع عنه ندماءه ولاه الحج سنة ست عشرة ومائة، فحمل معه كلابا في صناديق، وعمل قبة على قدر الكعبة ليضعها على الكعبة، وحمل معه الخمر وأراد أن تنصب القبة على الكعبة وتشرب فيها الخمر. وقد أيد المؤرخون هذه الحادثة، ويقول اليعقوبي: إن الوليد بعث مهندسا ليقوم بذلك.
ثم انظر إلى بيعه خالدا القسري إلى يوسف بن عمر بخمسين ألف ألف، وما رواه المؤرخون من إرساله إلى خالد قائلا له: «إن يوسف يشتريك بخمسين ألف ألف، فإن كنت تضمنها وإلا دفعتك إليه.» فأجابه خالد بأحسن جواب إذ قال له: «ما عهدت العرب تباع، والله لو سألتني أن أضمن عودا ما ضمنته.» ومع ذلك فقد دفعه إلى يوسف فعذبه وقتله!
ثم لننظر إلى نظر الرأي العام إليه وإلى تصرفاته، وأمامنا من ذلك شعر حمزة بن بيض فيه إذ يقول:
يا وليد الخنا تركت الطريقا
واضحا وارتكبت فجا عميقا
وتماديت واعتديت وأسرف
ت وأغويت وانبعثت فسوقا
أبدا هات ثم هات وهات
ثم هات حتى تخر صعيقا
أنت سكران ما تفيق فما تر
تق فتقا وقد فتقت فتوقا
وإنا نثبت هنا أيضا ما دار بين الوليد بن يزيد حين حوصر في قصره ويزيد بن عنبسة السكسكي، فقد قال له الوليد: «يا أخا السكاسك، ألم أزد في أعطياتكم؟! ألم أرفع المؤن عنكم؟! ألم أعط فقراءكم؟! ألم أخدم زمناكم؟!» قال: «إنا ما ننقم عليك في أنفسنا، وإنما ننقم عليك في انتهاك ما حرم الله وشرب الخمر، ونكاح أمهات أولاد أبيك، واستخفافك بأمر الله.»
ولتنظر معي أيضا إلى عبد الملك بن مروان، وهو من الخلفاء الثلاثة المعدودين أقطابا لهذه الدولة، وإلى ما كان من جبروته وضعف الوازع الديني عنده حتى استباح لنفسه أن يقول وهو على المنبر: «من قال لي بعد مقامي هذا: اتق الله؛ ضربت عنقه.»
وبعد، فإنه ليخيل إلينا أن فيما قدمناه بعض المقنع بما كان من استهانة الخلفاء بالدين، ومن إمعانهم في التهتك والخروج عليه.
ونريد الآن أن ندرس تأثر الخلق العربي بما كان للخلفاء من تنكب عن سنن الدين، وإمعان في التهتك والاستهتار، والناس على دين ملوكهم، والملوك على سنة رعيتهم، أو كما يقول عبد الملك بن مروان: «تطلبون منا أن نسير فيكم بسيرة الشيخين أبي بكر وعمر ولا تسيرون أنتم بسيرة الناس أيام أبي بكر وعمر.» على أنا نرغم أنفسنا إرغاما على أن نكتفي في هذا الفصل الذي كادت تتشعب علينا فروعه ونواحيه، وكدنا نضل في مهامهه وبواديه بمثلين قد لا يخلوان من النفع، وعمدتنا في ذلك الأغاني، وعيون الأخبار لابن قتيبة، وإن كان المثل الأخير هو إلى الأدب والعظة أقرب منه إلى التاريخ والتحليل العلمي، بيد أنا آثرنا إيراده لأنه حسن في نفسه، ومصيب محجة الصواب في جملته.
يقول أبو الفرج: إنه لما قدم عثمان بن حيان المري، والي يزيد بن عبد الملك، المدينة قال له قوم من وجوه الناس: إنك وليت على كثرة من الفساد، فإن كنت تريد أن تصلح فطهرها من الغناء والزنا إلخ. ونفهم من جملة الرواية أنه لم يفز في مهمته بطائل، ولم يوفق إلى ما كان يرجوه للناس من صلاح وتقويم.
أما ما يرويه لنا ابن قتيبة في عيون أخباره، فها هو ذا بنصه وعبارته، وهو ختام هذا الفصل بعد أن كدنا نطيل، قال: «سمر المنصور ذات ليلة فذكر خلفاء بني أمية وسيرهم، وأنهم لم يزالوا على استقامة حتى أفضى أمرهم إلى أبنائهم المترفين، فكانت هممهم من عظم شأن الملك وجلالة قدره قصد الشهوات، وإيثار اللذات، والدخول في معاصي الله ومساخطه، جهلا منهم باستدراج الله، وأمنا لمكره، فسلبهم الله العز، ونقل عنهم النعمة، فقال له صالح بن علي: يا أمير المؤمنين، إن عبد الله بن مروان لما دخل أرض النوبة هاربا فيمن معه سأل ملك النوبة عنهم فأخبر، فركب إلى عبد الله فكلمه بكلام عجيب في هذا النحو لا أحفظه، وأزعجه عن بلده، فإن رأى أمير المؤمنين أن يدعو به من الحبس بحضرتنا في هذه الليلة ويسأله عن ذلك، فأمر المنصور بإحضاره وسأله عن القصة، فقال: يا أمير المؤمنين، قدمت أرض النوبة بأثاث سلم لي فافترشت بها وأقمت ثلاثا، فأتاني ملك النوبة وقد خبر أمرنا، فدخل علي رجل أقنى طوال حسن الوجه، فقعد على الأرض ولم يقرب الثياب، فقلت له: ما يمنعك أن تقعد على ثيابنا؟ قال: لأني ملك، وحق على كل ملك أن يتواضع لعظمة الله إذ رفعه! ثم قال لي: لم تشربون الخمر وهي محرمة عليكم؟ قلت: اجترأ على ذلك عبيدنا وأتباعنا لأن الملك زال عنا؛ قال: فلم تطئون الزروع بدوابكم والفساد محرم عليكم في كتابكم؟ قلت: يفعل ذلك عبيدنا وأتباعنا بجهلهم، قال: فلم تلبسون الديباج والحرير وتستعملون الذهب والفضة وذلك محرم عليكم؟ قلت: ذهب الملك منا وقل أنصارنا، فانتصرنا بقوم من العجم دخلوا في ديننا، فلبسوا ذلك على الكره منا، قال: فأطرق مليا وجعل يقلب يديه وينكت في الأرض ويقول: عبيدنا وأتباعنا! دخلوا في ديننا! وزال الملك عنا! يردده مرارا، ثم قال: ليس ذلك كما ذكرت، بل أنتم قوم استحللتم ما حرم الله عليكم، وركبتم ما عنه نهاكم، وظلمتم فيما ملكتم، فسلبكم الله العز وألبسكم الذل بذنوبكم، ولله فيكم نقمة لم تبلغ غايتها، وأخاف أن يحل بكم العذاب وأنتم ببلدي فيصيبني معكم، وإنما الضيافة ثلاثة أيام، فتزودوا ما احتجتم إليه وارتحلوا عن بلدي. ففعلت ذلك.» (5) التعسف المذهبي
نريد أن ننظر الآن نظرة عجلى في أمر التعسف المذهبي، ونحن نعلم ما أصاب جماعة علي أيام معاوية وهو هو في حكمه وحلمه ومرونته، نعلم ما أصاب حجر بن عدي الكندي وجماعته، كما نعلم ما أصابها أيام يزيد من قتل هانئ بن عروة، ومسلم بن عقيل، والحسين بن علي، وزيد بن علي الذي صلب على شاطئ الفرات وذري رماده في الماء، ولننظر نظرة خاصة إلى حياة بسر بن أبي أرطأة وقتله الأطفال والرجال والنساء، ولنترك معاوية هنا يصور لنا مبلغ تأثر نفوس بني هاشم من خطة التعسف المذهبي هذه؛ فإن أبا الفرج الأصفهاني يقول في كتابه: لما كانت الجماعة واستقر الأمر لمعاوية، دخل عليه عبيد الله بن العباس وعنده بسر بن أبي أرطأة، فقال له عبيد الله: أأنت قاتل الصبيين أيها الشيخ؟ قال بسر: نعم، أنا قاتلهما، فقال عبيد الله: أما والله لوددت أن الأرض كانت أنبتتني عندك! فقال بسر: فقد أنبتتك الآن عندي، فقال عبيد الله: ألا سيف؟ فقال له بسر: هاك سيفي. فلما أهوى عبيد الله إلى السيف ليتناوله أخذه معاوية ثم قال لبسر: «أخزاك الله شيخا! قد كبرت وذهب عقلك! وذلك رجل من بني هاشم قد وترته وقتلت ابنيه، تدفع إليه سيفك! إنك لغافل عن قلوب بني هاشم! ولو تمكن منه لبدأ بي قبلك»، قال عبيد الله: «أجل! وكنت أثني به.»
ثم انظر كيف انتقم من بسر رجل من اليمن اتصل به حتى وثق به، ثم احتال لقتل ابنيه، فخرج بهما إلى وادي أوطاس
3
فقتلهما وهرب.
على أنه يجدر بنا أن نصور إلى أي مدى بلغت نتائج خطط الأمويين السياسية، من حيث بثهم البغضاء في النفوس لعلي وشيعته، وصرف الناس عن ذكرهم، وما كان من لعنهم على المنابر من تأثير خليق بعنايتنا، ومراجعنا في هذه الناحية عدة مصادر، بيد أنا نجتزئ اجتزاء، ونحيل القارئ إلى ما رواه ابن عائشة عن شعور رجل من الشام نحو حفيد علي، وقد نقل ذلك المبرد في الكامل.
ولننظر كذلك إلى مدى الأحزاب الدينية وأضدادها التي كانت نتيجة لازمة لآثار التعسف المذهبي والتحزب الديني، وقد ذكر البيروني في «الآثار الباقية» طرفا من ذلك، ونجتزئ هنا بشيء مما جاء في «المواهب الفتحية» لأستاذنا المرحوم الشيخ حمزة فتح الله، قال: ما أحسن قول أبي الحسين الجزار خصوصا في بيتيه الثالث والخامس:
ويعود عاشوراء يذكرني
رزء الحسين فليت لم يعد
أم ليت عينا فيه قد كحلت
بإثمد لم تخل من رمد
ويدا به لشماتة خضبت
مقطوعة من زندها بيدي
يوم سبيلي حين أذكره
ألا يدور الصبر في خلدي
أما وقد قتل الحسين به
فأبو الحسين أحق بالكمد
ولبعض الهاشميين معتذرا من الكحل يوم عاشوراء:
لم أكتحل في صباح يوم
أهريق فيه دم الحسين
إلا لحزني وذاك أني
سودت حتى بياض عيني
إلى غير ذلك مما أثبته المؤلف لعمارة اليمني والإمام ابن الجوزي مما لا سبيل إلى الاستطراد فيه ههنا.
ولننظر إلى حادثة رواها المسعودي في «مروج الذهب» قال: «لما طلب عبد الله بن علي مروان ونزل بالشام، وجه إلى أبي العباس أشياخا من أهل الشام من أرباب النعم والرياسة، فحلفوا لأبي العباس السفاح ما علموا لرسول الله
صلى الله عليه وسلم
قرابة ولا أهل بيت يرثونه غير بني أمية حتى وليتم الخلافة! فقال في ذلك إبراهيم بن المهاجر:
أيها الناس اسمعوا أخبركم
عجبا زاد على كل العجب
عجبا من عبد شمس إنهم
فتحوا للناس أبواب الكذب
ورثوا أحمد فيما زعموا
دون عباس بن عبد المطلب
كذبوا والله ما نعلمه
يحرز الميراث إلا من قرب.»
ولنلم الآن إلمامة عجلى بما كان للتعسف المذهبي من الأثر في نفوس الخوارج، محيلين إلى الكامل للمبرد من أراد توسعا وتبصرا، ونكتفي هنا بنقل مثل من الطبري يظهر لنا مقدار استماتتهم في سبيل نصرة مذهبهم مهما نالهم من تقتيل ، وأمامنا حوادث سنة خمسين التي يقول فيها الطبري: إن عبيد الله بن زياد اشتد فيها على الخوارج فقتل منهم صبرا جماعة كثيرة، وفي الحرب جماعة أخرى، ويقول عنهم في موضع آخر: خرج مرداس أبو بلال، وهو من بني ربيعة بن حنظلة، في أربعين رجلا إلى الأهواز، فبعث إليهم ابن زياد جيشا عليهم ابن حصن التميمي، فقتلوا في أصحابه وهزموه، فقال رجل من بني تيم الله بن ثعلبة:
أألفا مؤمن منكم زعمتم
ويقتلهم بآسك
4
أربعونا
كذبتم ليس ذاك كما زعمتم
ولكن الخوارج مؤمنونا
هي الفئة القليلة قد علمتم
على الفئة الكثيرة ينصرونا
هوامش
الفصل الرابع
ولاية العهد
(1) نظام ولاية العهد وابن خلدون
قال ابن خلدون في مقدمته: «إن معاوية عهد إلى يزيد خوفا من افتراق الكلمة بما كانت بنو أمية لم يرضوا تسليم الأمر إلى سواهم، فلو قد عهد إلى غيره اختلفوا عليه.» ثم زاد هذا توضيحا في مكان آخر من مقدمته فقال: «إن الذي دعا معاوية لإيثار ابنه يزيد بالعهد دون سواه إنما هو مراعاة المصلحة في اجتماع الناس واتفاق أهوائهم، باتفاق أهل الحل والعقد عليه حينئذ من بني أمية، إذ بنو أمية يومئذ لا يرضون سواهم، وهم عصابة قريش، وأهل الملة أجمع، وأهل الغلب منهم، فآثره بذلك دون غيره ممن يظن أنه أولى بها، وعدل عن الفاضل إلى المفضول حرصا على الاتفاق واجتماع الأهواء.»
لسنا هنا في موقف الراغب في تحليل أقوال مؤرخنا الكبير، وهل أصاب محجة الصواب في تعليله ما دفع معاوية إلى عقد البيعة ليزيد، ولكنا صدرنا هذا الباب بكلمة ابن خلدون لنصور سر قبول العرب، لأول عهدهم، نظام ولاية العهد عامة، والوراثي خاصة، وما قبولهم إياه إلا لأن شوكة يزيد يومئذ مستمدة من عصابة بني أمية كلها، وجمهور أهل الحل والعقد من قريش، وبذلك تستتبع عصبية مضر أجمع، وعصبيتهم أعظم من كل شوكة؛ إذ لا تطاق مقاومتهم، ومن هنا أقصى العرب عن يزيد، وأقاموا على الدعاء بهدايته والراحة منه. ولعل هذا يكشف عن سبب فشل الحسين بن علي وابن الزبير في مطالبتهما بالخلافة كما بين ذلك ابن خلدون مما لا حاجة بنا للتعرض له الآن.
على أن التاريخ يقنعنا أن نظام ولاية العهد لم تقبله العقلية العربية بسهولة، مع اعتقادنا صحة ما ذهب إليه ابن خلدون من سبب انتصرت به فكرة ولاية العهد، وهو اعتمادها على العصبية، وربما جاز لنا أن نعزو سقوطها من بعض النواحي إلى هذه العصبية أيضا مما لا نعرض له هنا الآن.
أجل، يخبرنا التاريخ بتلك الأدوار العدة التي مرت بها مسألة البيعة ليزيد، وأن السياسة نهضت بنصيب غير قليل في سبيل تذليل الصعوبات التي قامت بادئ ذي بدء دون أن تجعل البيعة ليزيد سهلة ميسورة تؤتي ثمرها بغير عناء كبير.
يخبرنا التاريخ بما فعله المغيرة بن شعبة وغير المغيرة بن شعبة، وإيفادهم الوفود إلى معاوية، ويخبرنا بمبلغ ما أنفق معاوية من المال وما أبداه من احتمال وحزم، وما بذله ابنه يزيد من شدة وعسف، وكل هذه العوامل تستدعي دراسة دقيقة لا نعرض لها لأنها لا تعنينا في هذه المقدمة كثيرا.
نريد أن نقول شيئا واحدا ميسورا فهمه؛ ذلك أن نظام ولاية العهد - الذي ربما كان ضروريا لا مندوحة عنه في أول عهد الدولة لما بينه لنا ابن خلدون - كان في نفسه سببا يعتد به من أسباب سقوط الدولة الأموية، أو على أقل تقدير كان لنظام ولاية العهد أخيرا أثره الكبير في ضعف سلطان بني أمية وذهاب ريحهم. (2) خطر نظام ولاية العهد وأثر البطانات
لننظر نظرة عجلى في تاريخ هذا النظام لنقنع بما وصلت إليه بحوثنا، فنرى مثلا أن مروان بن الحكم جعل ولاية العهد من بعده لابنه عبد الملك بن مروان، ثم من بعده لابنه عبد العزيز بن مروان، ومهما يكن الباعث لمروان على أن يجعل ولاية العهد لولدين من أولاده، فإن جل خلفاء بني أمية من بعده اتخذوا صنيعه سنة متبعة. سنرى في كلامنا عن العصر العباسي إلى أي مدى كان خطر هذا النظام على حياة الدولة، أو على الأقل مبلغ ما فيه من ضعف لها، وإيذان باضمحلالها، واضطراب لحبلها.
لم يكن هذا النظام شرا مستطيرا وعاملا كبيرا من عوامل الضعف؛ إلا لما يستلزمه من نكث العهد، ثم من انشقاق البيت المالك على نفسه، وترك المجال واسعا لوشايات تسعى بها بطانات السوء ممن نرجو أن نصور مثلهم ومثل صنيعهم السيئ ومثل خطرهم على الدولة، حين نعرض للكلام عن عصر المأمون وما شجر بين الأخوين من خلاف، أو ما أذكته البطانة بينهما من خلاف - هذه البطانة ترقب دائما انشقاق البيت المالك، أو ما هو مركب في الطبيعة البشرية وولاة العهد من ترقب لتسلم مقاليد الأمور، وتعجل للذة الحكم والسلطان، فتستغله لتقضي مآربها، وتستمتع بأطماعها، وسرعان ما تجد الفرصة سانحة لها، ومواتية لأطماعها إذا صار الأمر إلى ولي العهد الأول الذي حاول ما هو طبعي من خلع من أشرك معه في ولاية العهد؛ إما كراهية له، أو إيثارا لغيره عليه ممن هم أمس منه رحما، وأقرب مودة.
نعم، قد يجد ولي العهد كثيرين من الناصحين الذين يستنكرون الخلع، بيد أنه لا يعدم أيضا كثيرين ممن هواهم مع غير هذا الذي يراد خلعه يزينون له ما يحاول، حتى إذا صار الأمر إلى من أريد خلعه كافأ كلا من الفريقين بما يستحق - وكان أحيانا يفتك بكثير من ذوي البلاء الحسن في تشييد الملك؛ وهذا الفتك على ما فيه من خسارة قوم من ذوي الرأي والتجارب قد كان يبذر في قلوب أنصارهم وعشائرهم بذور الحقد وحب الانتقام - وبذلك صار بنو أمية يفقدون العشائر عشيرة بعد عشيرة، وأخذ ظل سلطانهم على النفوس ينحسر شيئا فشيئا، حتى إذا قام لهم منافس عظيم لم يجدوا لديهم من القوة والكفايات والأنصار ما يستطيعون به التغلب عليه.
قد تطلب إلي توضيح ما قدمته لك من المقدمات من حوادث التاريخ؛ لأنك تعتبر الوشائج والصلات التي بين ما نحن بصدده وبين عصرنا المأموني قوية من حيث ما وقع فيه الرشيد وغيره من خطأ في نظام ولاية العهد، وقد تطلب مني أن أمر مسرعا بجسام الحوادث التي لها آثارها ونتائجها، وأن أكون مجملا لا مفصلا، وموجزا لا مسهبا.
على أنني سأترك الأدلة التي أفعم به الطبري وابن الأثير كل سنة من سنيهما تحدث وحدها بصدق ما ذهبت إليه، وأسمح لنفسي بأن أتساءل مليا: ماذا فعل عبد الملك لما وصل الحكم إلى يده؟ لقد حاول ما هو طبعي من عزل أخيه عبد العزيز وتحويل عهده إلى الوليد، ولولا وفاة عبد العزيز لوقعت الأزمة، وشجر الخلاف، وعمد كل إلى سلاحه وحزبه.
ثم ماذا فعل عبد الملك؟ لقد ولى الوليد وسليمان، فحاول الوليد ما هو طبعي من عزل سليمان وتولية ابنه لولا أن عاجله القضاء.
ثم ماذا فعل سليمان؟ لقد ولى عهده عمر بن عبد العزيز ثم يزيد بن عبد الملك.
ثم ماذا فعل عمر بن عبد العزيز، وماذا فعل يزيد، وماذا فعل هشام؟ إن التاريخ وختام عهد كل ليؤيدان، بقوة ووضوح ليس بعدهما من مزيد، صحة ما ذهبنا إليه مما يبيح لنا أن نختصر الحوادث والأدلة اختصارا.
على أنه قد يطلب منا إثبات تلك الحال المؤلمة التي تنتج عن المبايعة لاثنين بولاية العهد، ومبلغ خسارة الدولة من رجالها المعدودين وأقطابها النادرين في هذا السبيل؛ سبيل اصطدام صاحبي ولاية العهد. وسنجمل ذلك إجمالا يستدعيه مقامنا.
إنه من الميسور أن يقرأ القارئ أن ولاية العهد كتبت لهشام ثم للوليد من بعده مثلا، وربما فاته أن لكل حزبا يناصره، وبطانة تنشر دعوته، وربما تطرفت في منهجها السياسي تطرفا يؤكد العداوة في القلوب، ويستثير السخائم في النفوس، ولماذا نذهب بعيدا وأمامنا ما وقع بين هشام والوليد، فإن هشاما مات قبل أن يكلل بالنجاح مسعاه، فسرعان ما نمت أقوال الوليد عن شديد مقته لهشام؛ فقال مثلا:
هلك الأحوال المشو
م وقد أرسل المطر
وملكنا من بعد ذا
ك فقد أورق الشجر
فاشكر الله إنه
زائد كل من شكر
ولم يكتف الوليد بالقول دون الفعل، بل اندفع - فيما يخبرنا المؤرخون - مع تيار بطانته ومشايعيه، وشمر عن ساعد الانتقام ممن ناصر عمه هشاما، مثل محمد وإبراهيم ابني هشام بن إسماعيل؛ حيث عذبهما يوسف بن محمد الثقفي، والي المدينة، ويوسف بن عمر، حاكم العراق، حتى ماتا.
ولم يكتف الوليد بن يزيد بذلك، بل قبض على سليمان بن هشام فضربه مائة سوط ومثل به؛ إذ حلق رأسه ولحيته، كما حبس يزيد بن هشام والكثيرين من البيت المالك.
لم يكتف الوليد بن يزيد، بل أحرج خالدا القسري، وهو من زعماء اليمن ورؤسائها، بأن يبايع لابنه الحكم وعثمان بولاية العهد من بعده، فلما أبى عليه ذلك بعث به إلى والي العراق يوسف بن عمر الثقفي، فنزع ثيابه وعذبه عذابا مبرحا، وهو يحتمل ذلك كله بصمت وإباء، ثم حمله إلى الكوفة إلى من أنزلوا به كل لون من ألوان العذاب حتى مات، وما مات إلا بثمن باهظ دفعه الوليد؛ ذلك أنه كتب على نفسه عداوة قضاعة واليمن، وجل جند الشام من قضاعة واليمن، وهم هم الذين مثلوا دورهم الخطير أخيرا مع الوليد؛ إذ بايعوا يزيد وثاروا معه، فكانت خاتمة الوليد ما قد علمناه من احتمائه بقصره وتقحمهم عليه داره، وفعلهم به ما أصاب عثمان من مأساة؛ إذ حزوا رأسه وهو يتلو القرآن ثم نصبوه على رمح وطيف به في دمشق.
على أنا نفترض المبالغة فيما ينسبه الرواة إلى هذا الخليفة المغلوب على أمره، ولكنا نؤمن مع ذلك إيمانا صادقا بالنتائج السيئة لنظام ولاية العهد الثنائي أو الثلاثي.
وإنا نظن أن فيما قدمناه لك غنية وكفاية، وإن أردت منا مزيدا فانظر ما نال به سليمان قادة الدولة أمثال: محمد بن القاسم بن محمد الثقفي، وقتيبة بن مسلم الباهلي، وموسى بن نصير، وما كان يعد للحجاج وغيره ممن قل أن يجتمع أمثالهم في عصر واحد. وإنا نحيل القارئ إلى ابن الأثير ليقدر معنا الأسس التي بنينا عليها رأينا فيهم، وليقف بنفسه على كبريات فتوحهم وجسام أعمالهم التي كانت غرة في جبين عصرهم، بل في جبين تاريخ الدولة الأموية.
وبعد، أفليس من العدل أن يستنبط القارئ معنا ما يصيب الدولة من المنازعات والشقاق، ومن الضعف والإفلاس السياسي من جراء ذلك النظام الممقوت، نظام ولاية العهد على هذا النحو في غير قانون ولا سنة، وأن يعده معنا سببا لا يستهان به من أسباب سقوط البيت الأموي. (3) العصبية العربية
الذي يهمنا الآن هو أن نوجه النظر إلى تأثير نظام ولاية العهد في صورته التي صورناها لك من حيث مساسه بالعصبية العربية التي كانت، كما تعلم، عنيفة محتدمة بين المضرية واليمنية، وأنت تعلم أن الخلفاء من بني أمية كانوا يصهرون إلى قبائل مضر كما كانوا يصهرون إلى قبائل اليمن، فكانت هذه القبائل تجد في تأييد الأمير الذي يتصل بها نسبه. وهذه الفكرة نفسها تعيننا على أن نفهم، بنوع خاص، موقف العرب أيام يزيد بن معاوية، كما أنها تعيننا على أن نفهم ما ثار حول هشام والوليد بن يزيد من الخصومات التي قدمنا لك طرفا منها، ولم يكد ينتهي الأمر إلى مروان بن محمد حتى كانت الخصومة بين المضرية واليمنية قد انتهت إلى أقصاها، بحيث عجز هذان الفريقان من العرب عن أن يكونا وحدة قوية تثبت للطوارئ، فلم يظهر أمر الموالي حتى كان العرب مفترقين متخاذلين، لا يستطيعون عن أنفسهم دفاعا، وسنتكلم على العصبية وآثارها ببسطة في القول أكثر مما تكلمنا هنا في موضعها الطبيعي من الكتاب الثاني.
ولما كانت الدولة العباسية قد قامت بالموالي وبأسنتهم، ومحاولتهم الانتقام لأنفسهم وكرامتهم من بني أمية الذين ساموهم سوء العذاب، وساسوهم شر سياسة، فإنا نرجئ كلامنا عن هذا العنصر القوي من أسباب اعتلاء الدولة الأموية سلطان الحكم وأسباب سقوطها إلى موضعه الطبيعي من تنظيم كتابنا، وحين ذاك يحق لنا أن نبين تحول العصبية العربية إلى تلك النواحي الشائكة الوعرة التي قضت على الدولة الأموية، وأقامت دولة بني العباس، والتي أدالت منها هي أيضا، وحين ذاك أيضا يحق لنا أن ندرس نظر العربي إلى غير العربي في العصر الأموي وفي غير العصر الأموي، مما كانت له نتائجه الخطيرة في حياة العرب، وفي تحول مدنيات العرب.
فلنتريث إذن، وخير لنا وللتاريخ أن يكون موضع هذا الباب في كلامنا على الدولة العباسية، وخير لنا أيضا أن ننتقل الآن إلى تصوير الحياة الأدبية من نثر وشعر وخطابة، وإلى تصوير الحياة العلمية بضروبها لذلك العصر الأموي الذي كان بحق نواة طيبة للعصر العباسي، متوخين في ذلك الإيجاز والإجمال، ولعلنا نوفق إلى حسن الإصابة فيما نريد.
الفصل الخامس
الحياة العلمية والأدبية للعصر الأموي
(1) توطئة
لسنا نريد أن نسهب في بيان الحياة العلمية والأدبية في العصر الأموي؛ لأن ذلك يكاد يخرج بنا عن مقصدنا الأساسي من اقتصار مقدمتنا هذه على توضيح موجز، من غير إسراف ولا تطويل، للعصر السابق لعصرنا المأموني الذي كان نتيجة لازمة لما تقدمه واكتنفه من عوامل متعددة، توضيحا معتدلا يجعلنا نطمئن، بعد تفهمنا للآداب العباسية، إلى تبين الفروق والمميزات والآثار التي خلفها لتاريخ المدنية الإسلامية، بل لتاريخ المدنية الإنسانية، ذلك العصر الذهبي، وهو عصرنا المأموني الخالد.
لقد تغيرت حالة اللغة وآدابها في العصر الأموي عما كانت عليه في الدور الجاهلي تغيرا عظيما؛ إذ رقت الأساليب وقل الحوشي والمتنافر، واتسعت الأغراض وكثرت باتساع مطالب الحياة الجديدة ووفرتها، وهذا يتمشى بوجه عام مع تغيير حياة العرب الاجتماعية والدينية والسياسية، وبعبارة أخرى: تغيرت حياة الآداب والعلوم في ذلك العصر طبقا لما أفادته العرب في فتوحهم ومغازيهم في غنائم وأموال، ووقوفهم على آثار المدنيات لأمم ذات حظ من العلم غير قليل. ولقد كان لكتاب الله المعجز بآياته وسحر بلاغته
كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير
أثره في فتق أذهانهم، وصقل عباراتهم، وتوحيد لهجاتهم، بل كان الكنز الذي يلجئون إلى ما فيه من أدب جم، وعظة بالغة، وأساليب رائعة، ويستمدون منه ما ينفعهم في معاشهم وحياتهم الدنيا والآخرة.
وإنه ليجدر بنا أن نتساءل عن مدى ما أصاب الآداب العربية من تغيير في العصر الأموي، وهو تغير خطير يستدعي درسه عناية ودقيق ملاحظة وتعرفا غير قليل لما كانت عليه الآداب في العصر الجاهلي. •••
إن تحول الآداب العربية في ذلك العصر أصاب التراث الجاهلي القديم من لغة وخطابة وشعر وأمثال، وما كان للقوم من علم بشئون الحياة والوجود، كما أنه أحدث علوما وآدابا اقتضاها الإسلام، وقد كان لكتاب الله وسنة رسوله وما للأئمة من تأويل في فهمهما، كان لذلك كله أثره في خلق علوم شرعية لم يكن للعرب منها حظ من قبل، فنشأ في هذا العصر علم التفسير ورواية الحديث وعلوم اللغة؛ كالنحو وما إلى النحو، على أن هذه العلوم الإسلامية المحدثة التي كانت وليدة العصر الأموي خاصة، وعصر صدر الإسلام عامة، لم تكن مولود هذا العصر الوحيد الذي أصبحت فيه البصرة دارا للعلم والعرفان والمدنية، ومسرحا للهو والافتتان، والشام مقر الملك والسلطان، بل كان إلى جانبها مولود آخر كان من شأنه وضع التاريخ والجغرافيا وغيرهما، واتخاذ ديوان الخاتم، ونقل الدواوين من لغة إلى أخرى، وقد كان هذا المولود الآخر نتيجة الفتوح الإسلامية، وخاصة تلك الأقطار التي كانت متأثرة بآداب الفرس والرومان واليونان، وبعبارة أدق: تلك العلوم التي أفادتها العرب أو الدولة الإسلامية من اعتناق الفرس وأهل الشام ومصر وغيرهم - من أسرى الروم - للإسلام، وقد تستدعي هذه النقطة توضيحا، ونظن أنا إذا ما فسرناها بعض التفسير نتعجل بموضوعنا الذي سنقبل عليه أخيرا، وخاصة إذا علمنا أن عصر المأمون وما فيه من فلسفة وعلم، ومن أدب وفن كان متأثرا بحركة النقل والترجمة، وأن تأثره هذا كان إلى مدى كبير يطبعه بطابع المدنية اليونانية والفارسية، ولكن هذا لا يمنعنا أن نلم به إلماما. (2) آثار الآداب والعلوم الفارسية واليونانية في العصر الأموي
كانت آداب الفرس قبيل الإسلام آدابا يونانية في جملتها؛ لأن التاريخ يحدثنا أن آدابهم الفنية القديمة التي كانت مجموعة طيبة لنتاج العقل الفارسي والهندي والآشوري - هذه الآداب قد نقلها الاسكندر الأكبر إلى بلاده - ثم تقلبت حياة الفرس بين ضعف وقوة وجهل وعلم، إلى أن تسلم كسرى صولجان ملكه، ولعب دوره العظيم في تاريخ بلاده، ولعل الأحوال العالمية عهدئذ ساعدته على مهمته في النهوض بالعقلية الفارسية وفي تجديد بعثها، ويقول لنا «چيون»: إن «يوستنيان » قيصر الروم حين اضطهد الفلسفة الأفلاطونية الجديدة أو الوثنية أقفل الهياكل والمدارس، وطارد العلماء المفكرين، فاضطر جماعة من هؤلاء الفلاسفة إلى الرحيل إلى بلاد الفرس؛ حيث وجدوا من كسرى أنوشروان من قدرهم قدرهم.
ويقول لنا الأستاذ «برون» في كتابه القيم عن تاريخ أدب الفرس حين تعرض لرأي المستشرق (نولدكه
Noldeké ) في هذا الصدد: «إن شغف كسرى بالبحوث الدينية والمناظرات الفلسفية وما كان يجد في ذلك من لذاذة وإمتاع ليعيد إلينا ذكرى المأمون والإمبراطور الأكبر مما نمسك عنه الآن.»
على أنا مع إمساكنا عن التبسط في القول لا يسعنا إلا أن نذكر في هذا المقام أن أنوشروان كان قد أسس مدرسة للطب والفلسفة في جنديسابور كانت لها شهرة مدرسة الإسكندرية، وإنه ليجدر بنا هنا أن ننظر هل استفاد العرب حقا من علوم الفرس عند ظهور الإسلام؟ وهل استفادوا من غزوهم مصر وفيها مدرسة الإسكندرية؟ ومن إخضاعهم الشام المتأثرة بآثار العقلية الرومانية؟ وهل وجدت حركة نقل في العصر الأموي؟ لأن في توضيحنا ذلك بعض النفع لنا في دراسة التحول العلمي والأدبي في تاريخ التمدين الإسلامي الذي وصل إلى درجة خليقة بالإجلال والإكبار في عصر المأمون، العصر الذي نضج فيه مختلف الفنون والآداب، فلنحاول توضيح شيء من ذلك متوخين حد القصد والإيجاز. (3) حركة النقل في العصر الأموي
يخبرنا ابن أبي أصيبعة في الباب الذي أفرده لأطباء العرب في إبان الإسلام، أن «الحارث بن كلدة» تعلم الطب بناحية فارس، وتمرن هناك، وعرف الداء والدواء، ويخبرنا أيضا أن عبد الملك بن أبحر الكناني الذي أسلم على يد عمر بن عبد العزيز حينما كان أميرا على مصر، كان طبيبا عالما ماهرا، وأنه كان في أول أمره في الإسكندرية؛ لأنه كان المتولي التدريس بها من بعد العلماء الإسكندريين، وزاد بأن عمر بن عبد العزيز لما أفضت الخلافة إليه نقل التدريس إلى أنطاكية وحران، وتفرق في البلاد، ثم ذكر ابن أثال، طبيب معاوية، وتكلم عن علمه بالأدوية المفردة والمركبة، وذكر أبا الحكم «وتماذوق» طبيب الحجاج، وحسبنا هذا دلالة على ما أفاد العرب أو ما يمكن أن يفيدوا من علم الطب.
فلننتقل من هذا إلى التكلم عن حركة النقل والترجمة، ويكفينا الآن أن ننظر فيما رواه صاحب الفهرست عن ذلك إذ يقول:
كان خالد بن يزيد بن معاوية يسمى حكيم آل مروان، وكان فاضلا في نفسه، وله همة ومحبة للعلوم، خطر بباله الصنعة، فأمر بإحضار جماعة من فلاسفة اليونانيين ممن كان ينزل مدينة مصر وقد تفصح بالعربية، وأمرهم بنقل الكتب في الصنعة من اللسان اليوناني والقبطي إلى العربي. وهذا أول نقل كان في الإسلام من لغة إلى لغة، ثم نقل الديوان - وكان باللغة الفارسية - إلى العربية في أيام الحجاج، والذي نقله صالح بن عبد الرحمن مولى بني تميم. وكان أبو صالح من سبي سجستان، وكان يكتب لزادانفروخ بن بيري كاتب الحجاج يخط بين يديه بالفارسية والعربية، فخف على قلب الحجاج، فقال صالح لزادانفروخ: إنك أنت سببي إلى الأمير، وأراه قد استخفني ولا آمن أن يقدمني عليك وأن تسقط منزلتك، فقال: لا تظن ذلك هو إلي أحوج مني إليه لأنه لا يجد من يكفيه حسابه غيري، فقال: والله لو شئت أن أحول الحساب إلى العربية لحولته، قال: فحول منه أسطرا حتى أرى. ففعل، فقال له: تمارض، فتمارض، فبعث الحجاج إليه تيادروس طبيبه، فلم ير به علة؛ وبلغ زادانفروخ ذلك فأمره أن يظهر، واتفق أن قتل زادانفروخ في فتنة ابن الأشعث وهو خارج من موضع كان فيه إلى منزله، فاستكتب الحجاج صالحا مكانه، فأعلمه الذي كان جرى بينه وبين صاحبه في نقل الديوان، فعزم الحجاج على ذلك وقلده صالحا، فقال له مردانشاه بن زادانفروخ: كيف تصنع بدهويه وششويه؟ قال: أكتب عشرا ونصف عشر، قال: فكيف تصنع بويد؟ قال: أكتب وأيضا قال: والويد النيف والزيادة تزاد، فقال له: قطع الله أصلك من الدنيا كما قطعت أصل الفارسية! وبذلت له الفرس مائة ألف درهم على أن يظهر العجز عن نقل الديوان، فأبي إلا نقله فنقله، فكان عبد الحميد بن يحيى يقول: لله در صالح ! ما أعظم منته على الكتاب! وكان الحجاج أجله أجلا في نقل الديوان.
فأما الديوان بالشام فكان بالرومية، والذي كان يكتب عليه سرجون بن منصور لمعاوية بن أبي سفيان، ثم منصور بن سرجون، ونقل الديوان في زمن هشام بن عبد الملك نقله أبو ثابت سليمان بن سعد مولى حسين، وكان على كتابة الرسائل أيام عبد الملك. وقد قيل: إن الديوان نقل في أيام عبد الملك، فإنه أمر سرجون ببعض الأمر فتراخى فيه، فأحفظ ذلك عبد الملك فاستشار سليمان؛ فقال له: أنقل الديون وأرتجل منه.
ثم نجده يتكلم في مكان آخر عن اصطفن القديم، وأنه نقل لخالد بن يزيد بن معاوية كتب الصنعة وغيرها، فنحن نجد من هذا وغيره أن اللغة العربية أخذت تجري أشواطا في حلبة العلوم في هذا العصر. •••
ونريد أن نشرح شرحا بسيطا حال الخطابة والكتابة في العصر الأموي متوخين الاختصار على قدر الطاقة فنقول: (4) الخطابة ومميزاتها
لم تزدهر الخطابة في عصر من عصور الآداب العربية، كما ازدهرت في هذا العصر، لاعتماد الناس عليها في السياسة والدين، وقد جعلها الدين الإسلامي فرضا من الفروض في الدعوة إليه، وفي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد كانت الوسيلة في قمع الفتن ورد البدع، وكانت لسان القائد في جنده يستنهض بها عزماتهم، والوالي في رعيته يستفز بها حميتهم، والزعيم في شعبه يجمع بها شتاتهم، إذ لم يكن غيرها من وسائل التبليغ ميسورا؛ لذيوع الأمية وفقدان وسائل النشر.
وقد وجدت بعد مقتل عثمان رضي الله عنه، بسبب اختلاف المسلمين وتعدد الفرق واختلاف الأحزاب، مجالا واسعا للرقي والسبق، لاعتماد كل حزب عليها في نشر نحلته، وتأييد دعوته.
يميز الخطابة في هذا العصر ما يميز الآداب عامة فيه: من فخامة الألفاظ، ومتانة التركيب، والتباعد عن حوشي الكلام، ويميزها أيضا أنها اقتبست من القرآن كثيرا، ونهجت نهجه في الإرشاد والإقناع، وأنها تبدأ بحمد الله والصلاة على رسوله، حتى قيل لخطبة زياد المشهورة التي خطبها في العراق «الخطبة البتراء»؛ إذ لم يحمد الله ولم يصل على نبيه فيها. وقد كان هذا العصر أحفل العصور بالخطباء، فقد كان جل الخلفاء والقواد وولاة الأمصار وزعماء الأحزاب المختلفة خطباء مصاقع، وفيما يحفظه تاريخ الآداب من آثار الخلفاء ولا سيما الإمام علي، ومن خطب الحجاج بن يوسف، وزياد بن أبيه، وطارق بن زياد، مصداق ما نقول.
ولننقل هنا خطبة الحجاج في أهل العراق بعد دير الجماجم؛ فهي خير مثال لنضج الخطابة في العصر الأموي، قال:
يا أهل العراق، إن الشيطان قد استبطنكم فخالط اللحم والدم، والعصب والمسامع والأطراف والشغاف، ثم مضى إلى الأمخاخ والأصماخ، ثم ارتفع فعشش، ثم باش وفرخ، فحشاكم نفاقا وشقاقا، وقد اتخذتموه دليلا تتبعونه، وقائدا تطيعونه، ومؤمرا تستشيرونه؛ فكيف تنفعكم تجربة أو تعظكم وقعة أو يحجزكم إسلام أو يردكم إيمان؟! ألستم أصحابي بالأهواز حيث رمتم المكر، وسعيتم بالغدر، وظننتم أن الله يخذل دينه وخلافته، وأنا أرميكم بطرفي وأنتم تتسللون لواذا وتهزمون سراعا؟ ويوم الزاوية وما يوم الزاوية؟! بها كان فشلكم وتنازعكم، وبراءة الله منكم ونكوص وليه عنكم، إذا وليتم كالإبل الشوارد إلى أوطانها، النوازع إلى أعطانها، لا يسأل المرء منكم عن أخيه، ولا يلوي الشيخ على بنيه، حتى عضكم السلاح وقصمتكم الرماح. يوم دير الجماجم وما دير الجماجم؟! بها كانت المعارك والملاحم بضرب يزيل الهام عن مقيله، ويذهل الخليل عن خليله.
1
يأهل العراق، أهل الكفرات والغدرات، والثورة بعد الثورات، إن أبعثكم إلى ثغوركم غللتم وخنتم، وإن أمنتم أرجفتم، وإن خفتم نافقتم، لا تذكرون خشية ولا تشكرون نعمة، هل استخفكم ناكث، واستغواكم غاو، واستنصركم ظالم، واستعضدكم خالع إلا وثقتموه وآويتموه ونصرتموه ورضيتموه! هل شغب شاغب أو نعب ناعب أو نعق ناعق أو زفر زافر إلا كنتم أشياعه وأنصاره! ألم تنهكم المواعظ! ألم تزجركم الوقائع؟!
ثم نظر إلى أهل الشام فقال:
يا أهل الشام، إنما أنا لكم كالظليم الذاب عن فراخه، ينفي عنها المدر ويبعد عنها الحجر، ويكنها من المطر. يأهل الشام، أنتم الجنة والرداء، وأنتم العدة والغطاء.
وقد يكون من المفيد حقا أن ترجع إلى «صبح الأعشى» وغيره من المظان الأدبية لتقف بنفسك على خطب القوم الممتعة أسلوبا، الفخمة لفظا، الغنية معنى في ذلك العصر الزاهر. (5) الكتابة
الكتابة - سواء أكانت في تدوين العلوم والفنون وضبط الشئون العامة أم في إنشاء الرسائل ومعالجة الكلام المنثور - لا ترقى بل لا تكون إلا في الأمم التي أخذت بقسط من التحضر، فكانت لها حكومة منظمة، ودواوين معددة، وصناعة منوعة، وزراعة نامية، وتجارة رائجة؛ لذلك لم يكن لأحد من الشعوب العربية في الجاهلية حظ من الكتابة إلا بمقدار ما له من حظ من الحضارة.
وقد كانت الكتابة معروفة عند التبابعة جنوبا، والمناذرة والغساسنة في الشمال، حين كان لأولئك وهؤلاء من الحضارة نصيب، أما البدو من سكان أواسط الجزيرة فلم يعرفوا الكتابة إلا حين عرفوا الخط في أواخر العصر الجاهلي، وقد كان حظ الكتابة فيهم حظها في أمة بادية قليلة الشئون؛ لذلك لم ينلها في الرقي ما نال أخويها الشعر والخطابة، فلما جاء الإسلام وصار للعرب حكومة منظمة، وفتح الله عليهم أقطار الأرض، اشتدت حاجتهم إلى الكتابة، فأخذت سبيلها إلى الرقي والكمال، حين صارت حاجة من حاجات الدولة.
بيد أن الكتابة لم تبلغ كمالها الممكن - في التنسيق وإبلاغ الحاجة، وفي اتساع ما تناولته من شئون الدولة والناس - إلا بعد أن نقلت الدواوين التي كانت بالفارسية في فارس، والرومية في الشام، والقبطية في مصر إلى العربية في عهد عبد الملك بن مروان وابنه الوليد، وإلا بعد أن ظهر في العربية كتاب صقلهم الاطلاع على آداب الفرس وغير الفرس، من الأمم التي كانت لها قدم راسخة في الحضارة؛ كابن المقفع وعبد الحميد الكاتب.
على أنا لسنا نرمي بذلك إلى أن لا بلاغة في ذلك العصر بغير اطلاع على بلاغة الأمم الأخرى؛ لأن في بلاغة القرآن وأحاديث الرسول
صلى الله عليه وسلم
وخطب الخلفاء وتراث الجاهلية الكنز الذي لا ينضب، والمعين الذي ينهل من أفاويقه كتاب العصر غير منازع ولا مدافع، وإنا لنعثر في مظان الأدب العربي على أمثلة ناضجة لما نقول؛ فهذا كلام أم الخير
2
والزرقاء وعكرشة بنت الأطرش ، فإنه لمما يتخذ خير مثال للنثر في العصر الأموي.
وسنثبت لك في باب المنثور من الكتاب الأول في المجلد الثاني رسالتين ممتعتين نعتبرهما بحق من خير المنثور العربي؛ إحداهما تلك الرسالة المنسوبة لأبي بكر الصديق، والتي قيل إنه كتبها لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه، فهي تمثل عصرها بلاغة وفخامة، والثانية رسالة عبد الحميد بن يحيى الكاتب، قيل إنه كتبها عن مروان بن محمد لعبد الله بن مروان حينما أرسله لقتال الضحاك بن قيس الشيباني الخارجي، فهي فريدة في نوعها رشاقة أسلوب وسمو معنى. (6) حالة الشعر في العصر الأموي وتحوله
لكي نلمس بأيدنيا صحة قول أولئك الذين يذهبون إلى أن العصر الأموي كان عصر تجديد في الآداب العربية، وأنه كان عصر تجديد قوي ظاهر في اللفظ والمعنى، يلزمنا أن نفهم فهما أوليا سذاجة الشعر الجاهلي وصادق تعبيره عن الحياة الجاهلية.
نعلم أن العصر الجاهلي للعرب كان في مجموعه - ككل العصور الأولية للعقل البشري - ساذجا فطريا في علومه ونظمه وعاداته، ولكنه لم يكن كذلك في آدابه، فإن عرب الجاهلية بدءوا في شعرهم وآدابهم، في ذلك الطور الأول، بما كان عليه غيرهم من الأمم السامية وكثير من الأمم الأخرى في أطوارها الأولى وعصورها الجاهلية، مع ملازمتهم للفطرة، ونفورهم من التكلف، وبعدهم عن الصنعة الكلامية.
إن العرب في جاهليتهم نظموا الشعر في كل حاجاتهم، وأبدعوا فيه بسليقتهم، ومع أنهم كانوا في دور فوضاهم، فقد نضجت لهم أفانين كانت آية في بلاغة اللسان العربي، وكان الأدب الجاهلي فطريا ممثلا خلق العصر، مبينا استقلال الفكرة البدوية، وكان في ضروبه كافة من وصف ومدح ورثاء وهجاء ناطقا بما يجيش في نفس قائله حقا، كما كان في بلاغة تركيبه وبعده عن الأوضاع المدرسية من تكلف للبيان والبديع آية في بلاغة الفطرة، وشاهدا في مجموعه على مبلغ أثر بلاغة الفطرة المرسلة عن شعور صاحبها في النفوس والأفهام.
على أنه يجدر بنا أن نقول: إن المعلقات وغيرها من آثار العقل العربي الجاهلي قد لا تتأثر بها نفوس العصر الحاضر؛ لتغير اللغات والأفكار والمعتقدات، ولتشعب المدنيات والأدبيات، ولأن آذاننا وأذواقنا قد تحكم بنبو ألفاظها وخشونتها، فكما أن الأدب الإنكليزي قد لا يستعمل اليوم ألفاظا كان يستعملها شيوخ العقل الإنكليزي «كباكون» و«شكسبير» و«ملتون» من خيرة نتاج عصر إليزابث الذهبي، وقبلهما «شوسر» وشعراء المغاني، ويعتبرها البعض نابية جافية، وأنها بمثابة ألفاظ مدرسية تاريخية، كما هي الحال في نظر أدب العصر الإنكليزي أو الفرنسي أو الألماني في تراجمهم عن الكتاب المقدس، وإلى شعرائهم وأدبائهم المتقدمين، كذلك هو الحال في أحكامنا عن نتاج العصر العربي الجاهلي. •••
إن المدنية ما ونت ساعة ولا يوما، ولكن عاطفة الإنسان تكاد تكون هي بنفسها في كل العصور؛ يحرك لواعجه الجمال، ويفطر قلبه ريب الزمان، ويبث شكاته إلى أترابه وإخوانه، ويحاول أن يتبوأ حبات الأفئدة بسحر بيانه، فهو يفخر ويشدو، وهو يمدح ويهجو، وهو يخطب وينظر ويضرب الأمثال، وهو صادق في ترجمة مشاعره، وتبيان مقاصده ما كان في دور سذاجته بعيدا عن ضروب المدنيات التي كثيرا ما تلازمها تقاليد خاصة، وتصحبها آداب تعورف عليها تقلل صراحته، وتفل من حدة شباته، وتجعل له سلطانا على ميوله وأهوائه، واللسان علنة مصفاح إن تركت له عنانه، كتمة مضلل إن جعلت العقل والتقليد ميزانه.
من هنا نستطيع أن نفسر سذاجة العربي الجاهلي وجنوحه إلى صوت الطبيعة، على العكس من حال زميله الإسلامي الذي قد صقلته بلاغة القرآن وتعاليمه، وشذبته سنة الرسول وصحابته، وأفسح المجال لخياله ما وقف عليه أثناء الفتوح العربية من تراث المدنيات الفارسية في العراق وفارس، والرومانية في الشام ومصر، وناهيك بآثار الفرس والرومان إلى ما خلف له آباؤه العرب من حكمة وبيان. •••
كان شعراء الجاهلية يسددون قولهم نحو كبد الحقيقة فلا يخطئونها، ويقولون الشعر عن شعور حي، ولا يتخطون إلى ما وراء مشهودهم ومعقولهم، فجاء شعرهم مثالا صادقا لبداوتهم وحضارتهم، حتى لو اندثرت جميع أخبارهم وآثارهم ولم يبق إلا شيء من شعرهم لتيسر للباحث أن يستخرج منه وصفا كاملا لجميع أحوالهم، كما استخرج الباحثون كثيرا من غوامض جاهلية اليونان من شعر «هوميرس».
وإليك مثالا قول المهلهل بعد وقعة السلان؛ إذ حضرها مع أخيه كليب وفر ابن عنق الحية من وجههما:
لو كان ناه لابن حية زاجرا
لنهاه ذا عن وقعة السلان
يوم لنا كانت رياسة أهله
دون القبائل من بني عدنان
غضبت معد غثها وسمينها
فيه ممالأة على غسان
فأزالهم عنا كليب بطعنة
في عمر بابل من بني قحطان
ولقد مضى عنها ابن حية مدبرا
تحت العجاجة والحتوف دواني
لما رآنا بالكلاب كأننا
أسد ملاوثة على خفان
برك التي سحبت عليه ذيولها
تحت العجاج بذلة وهوان
ونجا بمهجته وأسلم قومه
متسربلين رواعف المران
يمشون في حلق الحديد كأنهم
جرب الجمال طلين بالقطران
نعم الفوارس لا فوارس مذحج
يوم الهياج ولا بنو همدان
هزموا العداة بكل أسمر مارن
ومهند مثل الغدير يماني
وبعد، فإنا بعد ما قدمنا من موجز كلامنا عن تصوير حالة الشعر في الجاهلية توطئة لبحثنا عن حالته في العصر الأموي، لا نرى مندوحة من الإشارة هنا إلى أنا سنعنى عناية خاصة بفرعي الغزل والشعر السياسي؛ لأنهما بحالتيهما الأموية يكادان يكونان وليدي العصر ونتاجه.
وليس معنى ذلك أنا ننكر تلك المعاني الجديدة التي دخلت على الوصف والمدح والرثاء والهجاء، ولكنا نلاحظ أن الفرق لا يعدو ملتزمات المدنية، مع رقة اكتسبتها العصور الإسلامية القريبة العهد من نزول القرآن، واشتغال الناس بتلاوته، وإقبالهم على دراسته، حتى انطبعوا على بلاغته وبيانه.
على أنه من المفيد أن نشير إلى شيء جديد أصاب فن المديح في العصر الأموي؛ لأنه خاص بهذا العصر دون سواه.
قال ابن قتيبة في كتابه القيم «الشعر والشعراء»: أتى بعض الرجاز نصر بن سيار، والي خراسان لبني أمية، فمدحه بقصيدة تشبيبها مائة بيت، ومديحها عشرة أبيات، فقال نصر: «والله ما بقيت كلمة عذبة ولا معنى لطيف إلا شغلته عن مديحي بتشبيبك، فإن أردت مديحي فاقتصد في النسيب»، فأتاه فأنشد:
هل تعرف الدار لأم الغمر
دع ذا وحبر مدحة في نصر
فقال نصر: لا ذاك ولا هذا، ولكن بين الأمرين. (7) الغزل
كان غزل الجاهلية من عفو الخاطر وفيض البديهة ناطقا بصفاء قريحتهم، وكامل حريتهم، وتوقد أذهانهم، وسائر طباعهم، وكان بريئا من الصنعة والكلفة.
ومع أني ممن يذهبون إلى أن الشاعر الجاهلي كان يعالج الفنون الشعرية كافة غير مقصور على النسيب بالذات، بيد أني ممن يقول: إن المعاني الغزلية وألفاظها تكاد تكون معادة فيما بعد العصر الجاهلي بتوسع تقتضيه المدنية، وطلاوة اكتسبتها الألفاظ من بلاغة القرآن، وعذوبة أنتجتها ثروة الأذهان من أفاويق العرفان.
ولقد صدق زهير إذ يقول:
ما أرانا نقول إلا معارا
أو معادا من لفظنا مكرورا
أجل، لقد كان الغزل الأموي غنيا بما هو أكثر من ذكر الأطلال والديار، إذ أنا نجد فيه لواعج الحب ولفحاته، وشكايات الصب وأناته، وزفرات العاشق وعبراته.
ألسنا نلمس التوجع والأسى في قول ابن الدمينة الخثعمي:
ألا يا صبا نجد متى هجت من نجد؟
لقد زادني مسراك وجدا على وجد
وفي قول الصمة بن عبد الله بن طفيل:
حننت إلى ريا ونفسك باعدت
مزارك من ريا وشعباكما معا
نريد أن ندرس حالة الغزل في العصر الأموي الذي هو عصر الترف والغنى والثروة، عصر القصور والملاذ، عصر الاندماج في غير العرب واتخاذ السرارى والسبايا كخادمات ووصفيات وزوجات.
لقد كثر الترف كثرة حمل معها الاندفاع مع الغزل وما يجره الغزل، وخلق أنواعا صريحة من المناحي الشعرية في الحب والتشبيب بالنساء رغبة في الحب من حيث هو، وفي التشبيب من حيث هو، بمعنى أنا كنا في العصر الجاهلي قلما نجد شاعرا وقف حياته الشعرية على معالجة فن الغزل فحسب، لا يتكلف غيره ولا يعنى بسواه، فإذ بنا في العصر الأموي نجد من الشعراء من يتخذ من الغزل صناعة وفنا.
وظاهرة أخرى نلاحظها في الغزل الأموي تظهر بجلاء مقدار اختلافه عما كان عليه في العصر الجاهلي، تلك أنواعه المتباينة التي يصح لنا أن نقسمها إلى أربعة أبواب: غزل إباحي، ويصح لنا أن نتخذ من عمر بن أبي ربيعة زعيما لهذا النوع الذي يجمع إلى وصف المرأة والتشبيب بها معاني العبث بها، والاستمتاع باللذة المادية، مما ينفر منه الأدب الجاهلي ومما حظره عليه الكثيرون من خلفاء الإسلام وأئمته.
ولقد صدق ابن جريح إذ يقول: «ما دخل على العواتق في خدورهن شيء أضر عليهن من شعر ابن أبي ربيعة»، ونحيل القارئ إلى حديث الزبير بن بكار عن عمه مصعب في صفة هذا الشاعر الكبير، على أن كتاب الأغاني وغيره من أمهات كتب الأدب العربي مترعة بشعره وتشبيبه، مما لا يدع مجالا للشك في أنه كان تبع نساء وحلس غانيات، وصافا لأحاديثهن، واقفا على دخائلهن، مطلعا على هوى نفوسهن، ولا حاجة بنا إلى التطويل هنا فيما هو مشهور متعارف، خصوصا أنك ستجد طرفا من شعره في باب المنظوم من الكتاب الأول في المجلد الثاني، فراجعه ثمة.
على أنه مع ذلك يذوب رقة وحنانا في بعض مقطعاته، ولا سيما مع الثريا بنت علي، فإنه يلوح لنا أنه لم يفتح قلبه لأحد سواها.
كتب ابن أبي ربيعة إلى الثريا وهي باليمن يقول:
كتبت إليك من بلدي
كتاب موله كمد
ولقد كانت مكة والمدينة مسرحا لهذا النوع في العصر الأموي، وسبب ذلك ميسور فهمه، معقول تعليله؛ ذلك أن الخلفاء تعمد جلهم الإغداق على أهل الحجاز وأبناء المهاجرين والأنصار بالأموال والهدايا فوق ما ورثهم آباؤهم، ليحولوا بينهم وبين ما يطمح إليه أمثالهم من منافسة في الملك، أو مشاكسة للسلطان، وليشغلوهم عن أمور الدولة بإرخاء العنان لهم في لذاتهم ومناعمهم.
وهناك الغزل العذري البريء، غزل الحب الصادق، والعواطف المتأججة، والنفس المتألمة المعناة، تلك النفس التي تجد لذتها في الكلف بمن تحب والتعلق به والشعور بالسعادة في الغناء بحبه، حبا يملك عليه لبه ويعذب روحه ويفني جسمه كغزل جميل؛ وليس أدل على صدق حبه مما أثبته صاحب الأغاني في الجزء السابع؛ إذ حاول أبوه أن يصرفه عن حبه وحاجه في ذلك أجمل محاجة، فكان من جميل ما كان مما نجده مفصلا في موضعه.
وغزل صناعي بين هذا وذاك، همه الإجادة في الشعر من حيث هو شعر، لا في الحب من حيث هو حب، ولنا في كثير عزة زعيم لهذا النوع الثالث.
وغزل قصصي خلقه الرواة لأنهم رأوا ميل الناس إلى الغزل وإلى حياة القصف وما يتبع حياة القصف، فنظموا قصائد نحلوها لشعراء لا نستطيع أن نحتمل تبعة القول بوجودهم في الحياة، أو القول بأنهم أشخاص خياليون خلقهم الرواة، أو زادوا من عندهم مقطعات نسبوها لهم وأضافوا إلى شعرهم، وزعيما هذا النوع قيس بن الملوح وليلاه، وقيس بن ذريح ولبناه.
3 (8) الشعر السياسي
بداية عصر بني أمية معركة سياسية لعب فيها معاوية وأنصاره دورا ممتعا طريفا في سبيل استلاب الخلافة من علي، وتأسيس ملك بني أمية على قواعد وسنن تخالف قليلا أو كثيرا ما كانت عليه الحال في عصر الخلفاء الراشدين. •••
الإنسان في سبيل تحقيق أطماعه السياسية هو بعينه في عصر معاوية، وفي عصر يوليوس قيصر وفي عصر بونابرت وفريدريك الأكبر أول عاهل لألمانيا، هو بعينه إنسان اليوم، هو بعينه كرئيس الولايات المتحدة وغيرها يستعمل المال في شراء الضمير الإنساني، ويعمل جهده على إذاعة دعوته، وتبيان فضائله، وتصويب خطته، باتخاذ الحملات الصحفية والخطابية وغيرها من وسائل الدعوة التي وصلت إليها المدنية الحديثة، والتي كانت في عصر معاوية وخلفاء معاوية وفي عصر المأمون وخلفاء المأمون تستخدم ألسنة الشعراء، وهي أسرع انتشارا، وأعمق أثرا، وأكثر رواية، وأطول عمرا مما يكتب اليوم فلا يرويه من الناس إلا قليل.
إنك لتعلم ما لاستخدام الشعر من أثر في كثير من الحركات السياسية، واستحثاث العزمات، وإنهاض الهمم في الانقلابات الاجتماعية، وما «للمرسليز» من أثر في نفوس الجند الفرنسيين إذا حمي وطيس الحرب واشتد أوارها، وأنت جد عالم بما كان لقصائد «اللورد بيرن» الواحدة تلو الأخرى، في سبيل استقلال اليونان الحديثة، وفي سبيل اجتذاب عطف أوروبا وساستها وجماهيرها وملوكها ونوابها وصحفها، ليأخذوا بناصر أمة مهيضة غلبت على أمرها.
أنت جد عالم بأن قصائد «بيرن» هذه فعلت في المعركة السياسية ما لم تفعله جيوش مصر وأساطيلها، وذخيرة الترك وانتصارها، فكان الحكم ل «بيرن »، وكان الانتصار لشعره. •••
كذلك كان الحال في عصر بني أمية، وكذلك كان أثر الشعر إن لم يكن أبلغ وأوسع نطاقا. ألم يوعز معاوية، في رواية يزيد ابنه، إلى مسكين الدارمي أن يقول أبياتا في معنى المبايعة ليزيد وينشدها إياه في مجلسه وهو حافل بالوجوه والأشراف؟!
وتقول رواية الأغاني: إن معاوية لما أراد البيعة ليزيد تهيب ذلك، وخاف ألا يمالئه عليه الناس لحسن التقية فيهم، وكثرة من يرشح للخلافة، وبلغه في ذلك ذرو
4
كلام كرهه من سعيد بن العاص ومروان بن الحكم وعبد الله بن عامر، فأمر يزيد مسكينا - وكان يؤثره ويصله ويقوم بحاجاته عند أبيه - أن يقول أبياتا وينشدها معاوية في مجلسه إذا كان حافلا وحضره وجوه بني أمية، فلما اتفق ذلك دخل مسكين إليه وهو جالس، وابنه يزيد عن يمينه، وبنو أمية حواليه، وأشراف الناس في مجلسه، فمثل بين يديه وأنشأ يقول:
إن أدع مسكينا فإني ابن معشر
من الناس أحمي عنهم وأذود
إليك أمير المؤمنين رحلتها
تثير القطا ليلا وهن هجود
وهاجرة ظلت كأن ظباءها
إذا ما اتقتها بالقرون سجود
ألا ليت شعري ما يقول ابن عامر
ومروان أم ماذا يقول سعيد؟
بني خلفاء الله مهلا فإنما
يبوئها الرحمن حيث يريد
إذا المنبر الغربي خلاه ربه
فإن أمير المؤمنين يزيد
على الطائر الميمون والجد صاعد
لكل أناس طائر وجدود
فلا زلت أعلى الناس كعبا ولا تزل
وفود تساميها إليك وفود
ولا زال بيت الملك فوقك عاليا
تشيد أطناب له وعمود
قدور ابن حرب كالجوابي وتحتها
أثاف كأمثال الرئال ركود
فقال له معاوية: «ننظر فيما قلت يا مسكين ونستخير الله»، قال: ولم يتكلم أحد من بني أمية في ذلك إلا بالإقرار والموافقة، وذلك الذي أراده يزيد، ليعلم ما عندهم، ثم وصله يزيد ووصله معاوية فأجزلا صلته. ا.ه.
وأظنك لا تطلب منا حين مطالعتك لهذه القصيدة تحليلها لإقامة الدليل على صدق ما ذهبنا إليه، فيما أسلفناه لك من القول، بأن شعر العصر الأموي عربي جاهلي في منحاه وأسلوبه، وأنه يتميز بروح جديدة، ويختلف بأغراض ومقاصد تكاد تكون جديدة بالنسبة للعصر الجاهلي، وذلك لوضوح التحليل وخوف الإطالة فيما لا يعنينا كثيرا.
على أنه لزام في عنقنا أن نصور، إلى مدى أوسع، استخدام الشعر الأموي في الأغراض السياسية؛ لأن لهذا النوع الطريف نتائجه وآثاره في هذا العصر والعصور التي تلته، ولأن لهذه الميزة ميزة اصطباغ الشعر بالغرض السياسي، واندفاع صاحبه في سبيل نصرة دعوته معبدا ما قد يعتور طريقه من صعاب، مذللا ما يعترضه من عقاب، منتهكا حرمة التقاليد والأشخاص، بل خارجا إلى حيز لا يرضى عنه فقهاء الدين كثيرا، وربما لا يرضى عنه الشرع حقا، نزعم أن لهذه الميزة آثارها ونتائجها، ولسنا بسبيل تفصيل ذلك الآن، ولكنا بموقف المقيد للحوادث فحسب، المثبت لمبدأ وقوعها، ولها مع الزمن وتكرر وقوعها ونشاط ميدانها ما سيتاح لنا تفصيله فيما بعد، من اتساع نطاق السياسة الشعرية خاصة، ودولة الأدب عامة، وتهديدها حرمة العادة والخلق والدين. •••
مثل آخر ذكره صاحب كتاب الأخبار الطوال، وهو بمثابة معركة مذهبية سياسية بين نصير معاوية ونصير علي، بين كعب بن جعيل والنجاشي، وهاك قصيدة كل منهما؛ قال كعب بن جعيل:
أرى الشام تكره ملك العرا
ق وأهل العراق لهم تاركونا
وكل لصاحبه مبغض
يرى كل ما كان من ذاك دينا
وقالوا علي إمام لنا
فقلنا رضينا ابن هند رضينا
وقالوا نرى أن تدينوا لنا
فقلنا لهم لا نرى أن ندينا
وكل يسر بما عنده
يرى غث ما في يديه سمينا
وما في علي بمستعتب
منال سوى ضمه المحدثينا
وليس براض ولا ساخط
ولا في النهاة ولا الآمرينا
ولا هو ساء ولا هو سر
ولا بد من بعد ذا أن يكونا
فلما قرأه علي رضي الله عنه قال للنجاشي: أجب، فقال:
دعن معاوي ما لن يكونا
فقد حقق الله ما تحذرونا
أتاكم علي بأهل العرا
ق وأهل الحجاز فما تصنعونا؟
يرون الطعان خلال العجا
ج وضرب القوانس
5
في النقع دينا
هم هزموا الجمع جمع الزبير
وطلحة والمعشر الناكثينا
فإن يكره القوم ملك العراق
فقدما رضينا الذي تكرهونا
فقالوا لكعب أخي وائل
ومن جعل الغث يومنا سمينا
جعلتم عليا وأشياعه
نظير ابن هند ألا تستحونا؟
وهاك مثلا آخر ذكره صاحب الأغاني في ترجمة النعمان بن بشير قال: تشبب عبد الرحمن بن حسان برملة بنت معاوية فقال:
رمل هل تذكرين يوم غزال
إذ قطعنا مسيرنا بالتمني
إذ تقولين عمرك الله هل شي
ء وإن جل سوف يسليك عني؟
أم هل اطمعت يا ابن حسان في ذا
ك كما قد أراك أطمعت مني؟
قال: فبلغ ذلك يزيد بن معاوية فغضب ودخل على معاوية فقال: يا أمير المؤمنين، ألا ترى إلى هذا العلج من أهل يثرب يتهكم بأعراضنا، ويشبب بنسائنا؟! فقال: ومن هو؟ قال: عبد الرحمن بن حسان، فأنشده ما قال، فقال: يا يزيد، ليست العقوبة من أحد أقبح منها بذوي المقدرة، ولكن أمهل حتى يقدم وفد الأنصار ثم ذكرني به، فلما قدموا ذكره به؛ فلما دخلوا قال: يا عبد الرحمن، ألم يبلغني أنك تشبب برملة بنت أمير المؤمنين! قال: بلى، ولو علمت أن أحدا أشرف بشعري منها لذكرته، قال: أين أنت عن أختها هند؟ قال: وإن لها لأختا يقال لها: هند؟ قال: نعم! وإنما أراد معاوية أن يشبب بهما جميعا فيكذب نفسه، فلم يرض ذلك يزيد بن معاوية وما كان منه معه، فأرسل إلى كعب بن جعيل فقال له: اهج الأنصار، فقال: أفرق من أمير المؤمنين، ولكن أدلك على الشاعر الكافر الماهر الأخطل، قال فدعاه فقال له: اهج الأنصار، فقال: أفرق من أمير المؤمنين، قال: لا تخف شيئا؛ أنا لك بذلك. فهجاهم فقال:
وإذا نسبت ابن القريعة خلته
كالجحش بين حمارة وحمار
لعن الإله من المهور عصابة
بالجزع بين صليصل وصدار
قوم إذا هدر العصير رأيتهم
حمرا عيونهمو من المصطار
خلوا المكارم لستمو من أهلها
وخذوا مساحيكم بني النجار
إن الفوارس يعرفون ظهوركم
أولاد كل مقبح أكار
ذهبت قريش بالمكارم كلها
واللؤم تحت عمائم الأنصار
فبلغ ذلك النعمان بن بشير، فدخل على معاوية فحسر عمامته عن رأسه وقال: يا أمير المؤمنين، أترى لؤما؟ قال: لا، بل أرى كرما وخيرا، فماذا؟ قال: زعم الأخطل أن اللؤم تحت عمائم الأنصار، قال: أوفعل ذلك؟ قال: نعم، قال: لك لسانه. وكتب فيه أن يؤتي به، فلما أتي به سأل الرسول أن يدخله إلى يزيد أولا، فأدخله عليه، فقال: هذا الذي كنت أخاف، قال: لا تخف شيئا، ودخل على معاوية فقال: علام أرسل إلى هذا الذي يمدحنا ويرمي من وراء حجرتنا؟ قال: هجا الأنصار، قال: ومن زعم ذلك؟ قال: النعمان بن بشير، قال: لا تقبل قوله وهو المدعي لنفسه، ولكن تدعوه بالبينة، وإن أثبت شيئا أخذت له، فدعاه بالبينة فلم يأت بها، فخلاه، فقال الأخطل:
وإني وإن استعرت أم مالك
لراض من السلطان أن يتهددا
ولولا يزيد ابن الملوك وسعيه
تحللت جرباذا من الشر أنكدا
أما رد النعمان على الأخطل فهاكه كما نقله أبو الفرج الأصبهاني عن خالد بن كلثوم:
معاوي إلا تعطنا الحق تعترف
لحي الأزد مشدودا عليها العمائم
حتى قوله:
إليهم يصير الأمر بعد شتاته
فمن لك بالأمر الذي هو لازم
بهم شرع الله الهدى فاهتدى بهم
ومنهم له هاد إمام وخاتم
وإنا نحيل القارئ إلى الكتاب الأول من المجلد الثاني ليقف على قصيدة النعمان هذه، وليقف كذلك على قصيدته الرائية الأخرى التي أنشدها معاوية لما ضرب مروان بن الحكم عبد الرحمن بن حسان الحد ولم يضرب أخاه حين تهاجيا وتقاذفا، وتحرير الخبر فيها أنه لما كثر الهجاء بين عبد الرحمن بن حسان وعبد الرحمن بن الحكم بن أبي العاصي وتفاحشا، كتب معاوية إلى سعيد بن العاصي، وهو عامله على المدينة، أن يجلد كل واحد منهما مائة سوط - وكان ابن حسان صديقا لسعيد وما مدح أحدا غيره قط - فكره أن يضرب أو يضرب ابن عمه، فأمسك عنهما، ثم ولي مروان، فلما قدم أخذ ابن حسان فضربه مائة سوط ولم يضرب أخاه، فكتب ابن حسان إلى النعمان بن بشير وهو بالشام - وكان كبيرا أثيرا مكينا عند معاوية - قال:
ليت شعري أغائب أنت بالش
ام خليلي أم راقد نعمان؟
أية ما يكن فقد يرجع الغ
ائب يوما ويوقظ الوسنان
إن عمرا وعامرا أبوينا
وحراما قدما على العهد كانوا
أفهم مانعوك أم قلة الكت
تاب أم أنت عاتب غضبان؟
أم جفاء أم أعوزتك القراطي
س أم امري به عليك هوان؟
يوم أنبئت أن ساقي رضت
وأتتكم بذلك الركبان
ثم قالوا إن ابن عمك في بل
وى أمور أتى بها الحدثان
فنسيت الأرحام والود والصح
بة فيما أتت به الأزمان
إنما الرمح - فاعلمن - قناة
أو كبعض العيدان لولا السنان
وهي قصيدة طويلة. فدخل النعمان بن بشير على معاوية فقال: يا أمير المؤمنين، إنك أمرت سعيدا بأن يضرب ابن حسان وابن الحكم مائة سوط، فلم يفعل، ثم وليت مروان فضرب ابن حسان ولم يضرب أخاه، قال: فتريد ماذا؟ قال: أريد أن تكتب إليه بمثل ما كتبت إلى سعيد، فكتب إليه معاوية يعزم عليه أن يضرب أخاه مائة؛ فضربة خمسين وبعث إلى ابن حسان بحلة وسأله أن يعفو عن خمسين، ففعل وقال لأهل المدينة: إنما ضربني حد الحر وضربه حد العبد خمسين، فشاعت الكلمة حتى بلغت ابن الحكم، فجاء إلى أخيه فأخبره وقال: «لا حاجة لي فيما عفا عنه ابن حسان»، فبعث إليه مروان: «لا حاجة لنا فيما تركت، فهلم فاقتص من صاحبك»، فحضر، فضربه مروان خمسين أخرى. ا.ه. •••
ويجدر بنا الآن بعد أن أوضحنا ميزة استعمال الشعر في الأغراض السياسية في الدولة الأموية، أن نسمح لأنفسنا بتقييد ملاحظة قد لا تخلو من نفع فيما سنعالجه، وهي أن تلك الأغراض السياسية سمحت للشعراء بما لم تسمح به لسواهم من إعفائهم من إقامة الحدود.
وقد سبق لنا أن أشرنا إلى كتاب معاوية إلى مروان بن الحكم في صدد حده للشاعر المناصر لسياسة بني أمية، وهو عبد الرحمن بن أرطاة المعروف بأبي سيحان، وكان حده لشربه الخمر. وابن سيحان هذا هو الذي قال في صفته أبو الفرج الأصفهاني:
كان عبد الرحمن شاعرا مقلا إسلاميا، ليس من الفحول المشهورين ولكنه كان يقول في الشراب والغزل ومدح أحلافه من بني أمية، وهو أحد المعاقرين للشراب والمحدودين فيه، وكان مع بني أمية كواحد منهم، إلا أن اختصاصه بآل أبي سفيان وآل عثمان خاصة كان أكثر، وخصوصه بالوليد بن عثمان ومؤانسته إياه أزيد من خصوصه بسائرهم؛ لأنهما كانا يتناوبان على الشراب.
ونريد الآن أن نفسر هذه الحادثة تفسيرا معتدلا لنخرج منها بما عساه يمدنا وينفعنا فيما سنقدم عليه من مناقشة العصور التي تلت هذا العصر، تلك العصور التي تغذت، من غير شك، بأفاويق العصر الأموي الذي تقدمها، فنبتت فيها بذوره حتى كادت تنمو في حديقته الأنف الحسانة دوحات خطرة على الاعتبارات الخلقية التي تووضع عليها.
وإنك إذا رجعت إلى كتاب معاوية، ورجعت إلى كتاب الأغاني نفسه، ومؤلفه أموي كما تعلم، وجدته قد أقام الحجة في غير موضع على أن هذا الشاعر عاقر الخمر؛ وهاك ما يؤيد ذلك ويعززه:
قال: كان الوليد بن عثمان ذا غلة في الحجاز يخرج إليها في زمان الثمر بنفر من قومه، يجنون له ويعاونونه، فكان إذا حضر خروجهم دفع إليهم نفقات لأهليهم إلى رجعتهم، فخرج بهم مرة كما كان يخرج وفيهم ابن سيحان، فأتى ابن سيحان كتاب من أهله يسألونه القدوم لحاجة لا بد منها، فاستأذنه فأذن له، فقال له ابن سيحان: زودوني من شرابكم هذا. فزودوه إداوة ملأها له من شرابهم، فكان يشربها في طريقه حتى قدم على أهله، فألقاها في جانب بيته فارغة، فمكث زمانا لا يذكرها حتى كنسوا البيت فرآها ملقاة في الكناسة فقال:
لا تبعدن إداوة مطروحة
كانت حديثا للشراب العاتق
إن تصبحي لا شيء فيك فربما
أترعت من كأس تلذ لذائق
بأبي الوليد وأم نفسي كلما
بدت النجوم وذر قرن الشارق
كم عنده من نائل وسماحة
وشمائل ميمونة وخلائق
وكرامة للمعتفين إذا اعتفوا
في ماله حقا وقول صادق
أثوى فأكرم في الثواء وقضيت
حاجاتنا من عند أروع باسق
لما أتيناه أتينا ماجد ال
أخلاق سباقا لقرم سابق
قال الوليد يدي لكم رهن بما
حاولتمو من صامت أو ناطق
فإني الوليد اليوم حنت ناقتي
تهوي بمغبر المتون سمالق
حنت إلى برق فقلت لها قري
بعض الحنين فإن شجوك شائقي
فهذا اعتراف صريح بمعاقرته للخمر، ثم لنثبت هنا قصيدته التي مدح بها معاوية:
إني امرؤ أنمى إلى أفضل الورى
عديدا إذا ارفضت عصا المتخلف
إلى نضد من عبد شمس كأنهم
هضاب أجا أركانها لم تقصف
ميامين يرضون الكفاية إن كفوا
ويكفون ما ولوا بغير تكلف
غطارفة ساسوا البلاد فأحسنوا
سياستها حتى أقرت لمردف
فمن يك منهم موسرا يغش فضله
ومن يك منهم معسرا يتعفف
وإن تبسط النعمى لهم بسطوا بها
أكفا سباطا نفعها غير مقرف
وإن تزو عنهم لا يضجوا وتلفهم
قليلي التشكي عندها والتكلف
إذا انصرفوا للحق يوما تصرفوا
إذا الجاهل الحيران لم يتصرف
سموا فعلوا فوق البرية كلها
ببنيان عال من منيف ومشرف
وكان من حظها أن كتب معاوية أن يعطى أربعمائة شاة وثلاثين لقحة مما يوطن السيالة غير ما أعطاه سواه.
ومهما يكن الواقع الذي حدا ابن الحكم إلى حده، فإن السياسة الحزبية ومدائح ابن سيحان في معاوية، واستعمال الأخير الشعراء في مناصرة بيته، كل ذلك دفع بمعاوية إلى كتابة ما كتب لابن الحكم أولا، ثم للوليد بن عتبة ثانية، حتى اضطره لرفده بخمسمائة دينار مما وصفه صاحب الأغاني؛ فكانت الغلبة للشعر لا للشرع، وللغاية السياسية لا الدينية، فلنقيد هذه الملاحظة فقط بلا توسع ولا إسهاب. •••
وبعد، فلنلخص ما تقدم عن شعراء السياسة، وهم العنصر الهام الذي لعب دورا بارزا في الأدب العربي في العصر الأموي، والذي كان له أثره ونتائجه في العصر العباسي، في كلمة ختامية في هذا الموضوع نبين فيها جماعة الشعراء السياسيين وألوانهم السياسية.
كان جل شعراء هذا الدور أمويين؛ فإنا نجد إلى جانب شعراء الدور الأول من أنصار بني أمية شعراء آخرين أخذوا بناصرهم ودافعوا عن كيانهم، مثل أبي العباس الأعمى هجاء ابن الزبير، وأبي قطيفة طريد ابن الزبير، وأبي صخر الهذلي المتعصب لآل مروان وهجاء ابن الزبير، وعدي بن الرقاع، والوليد بن أمية بن عائذ الهذلي، وجبيهاء الأشجعي، والحكم بن عبدل الأسدي، والسلولي، وموسى شهوات وغيرهم.
والشعراء العلويون وفي طليعتهم النعمان بن بشير الأنصاري، والكميت بن يزيد، وأيمن بن خريم، على أن الأخيرين اضطرا إلى امتداح بني أمية ومسايرتهم، فإنا نجد الكميت قد مدح هشاما، كما نجد أيمن مدح عبد الملك، ثم نجد شعراء دون ذلك، مثل أنصار آل المهلب بن أبي صفرة؛ كزياد الأعجم، وثابت قطنة، وحمزة بن بيض، وكعب الأشقري وغيرهم، وأخيرا نجد حزب آل الزبير، ومن شعرائه عبد الله بن الزبير الأسدي.
وصفوة القول أن المعركة السياسية بين بني أمية ومنافسيهم في الملك أو الجاه وما يتبعهما من إغداق الأموال والعطايا على أنصار كل فريق، جعلت هوى الشعراء مع من أحسن إليهم، واللها تفتح اللها. •••
من كل هذا يتبين ما اتسع أمام الآداب العربية من ميدان فسيح في ضروب شتى من ألوان الحياة لم تكن تعرفها من قبل.
وقد آن لنا أن ننتقل إلى الكتاب الثاني من موضوعنا، ونرجو أن نوفق إلى إيضاح ما أوجزناه، وبسط ما أجملناه، مبتهلين إلى الله ألا نضل في شعبه ومهامهه، وبهمه ومفاوزه، بمنه وكرمه.
هوامش
الكتاب الثاني
عصر بني العباس
الفصل الأول
الوجهة السياسية
(1) توطئة
رأينا كيف كانت الحياة السياسية والعلمية والأدبية في العصر الأموي، وكيف ظهرت مواطن الضعف وعوامل الانحطاط، وكيف وقع بنو أمية بين الساخطين من العرب والثائرين من الموالي، وكيف انحرف خلفاء معاوية عن خطته السياسية، وكيف عرف فريق منهم بالدين وشغل آخرون بالعبث والمجون.
ونريد الآن أن نلم إلمامة قصيرة بدور الانتقال إلى العصر العباسي قبل التكلم عن العصر نفسه؛ لنرى كيف كان اتجاه الأفكار في ذلك الحين. (2) دور الانتقال
إن الذي ينظر في كتب التاريخ الإسلامي عامة، ثم يراجع ما كتبه المستشرقون خاصة عن الدولة الفارسية في دور انحطاطها وضياع استقلالها وفناء أهلها في الإسلام، مع رسوخهم في المدنية وسبقهم إلى العلوم الاجتماعية وسياسة الشعوب؛ ليذكر حياة اليونان وعلماء اليونان حين دالت دولتهم وخضعوا للرومان وهم دونهم في العلوم والفنون.
ولسنا هنا بصدد الإفاضة في بيان المناحي التي تغلب فيها الموالي على العرب، فإن لذلك مكانه الطبعي في هذا الكتاب، وقصارانا الآن أن نحيل القارئ إلى الجزء الأول من كتاب الأستاذ «إدوارد برون» الذي وضعه عن التاريخ الأدبي للفرس - وهو من مجلدات «مكتبة تاريخ الآداب» - فإن فيه الكفاية لمن يريد تفصيلا.
أذعن الموالي صاغرين لغلبة العرب عامة والأمويين خاصة، وذاقوا ما ذاقوا من الذلة والمسكنة، وعانوا ما عانوا من ضروب الهوان، فكان من المعقول أن يترقبوا الفرص لينقضوا على سادتهم العرب، وأن ينتظروا أول بارقة تلوح في أفق السياسة ليناصروا الناقمين على المملكة الأموية؛ فقد كانت دولة بني أمية مكروهة عند الناس ملعونة مذمومة ثقيلة الوطأة، مستهترة بالمعاصي والقبائح، فكان الناس من أهل الأمصار ينتظرون زوال هذه الدولة صباح مساء. •••
أضف إلى ما تقدم أن الشيعة كانت - إلى جانب قوة الحجة في أنها أحق بالخلافة؛ إذ كان أنصارها يدعون إلى بيعة صهر النبي أو أبناء بنت النبي - تضم إلى رجالاتها شخصيات بارزة في الدين والكفاية والصلاح، فكان خيار الناس يطيعونها تدينا، وكان غيرهم يطيعها رغبة أو رهبة. وكان العلويون لا يفترون عن بث دعاتهم في العراق وفارس وخراسان وغيرها من البلاد النائية عن مركز الخلافة التي انفصمت عروتها وكان من انحلالها ما وصفناه. وكان الفرس يستخدمون زملاءهم المنتشرين في البقاع العربية في الدعوة إلى مبايعة خصوم الأمويين ومناصرتهم، رغبة في التخلص من ظلم بني أمية وعسفهم، وطمعا في أن يكون لهم من تبدل الحال حظ من العزة والسلطان.
ولنذكر مع هذا ثورة الممالك الإسلامية عامة على الأمويين، تلك الثورة الهادئة المخيفة التي كان من آثارها أن قتل بعض ولاتهم في الأمصار، وأن خرج فريق على الخليفة، ولنذكر كذلك انشقاق البيت الأموي نفسه، وتصدع أركانه؛ فإن لذلك أثره الفعال في ثل عرش الأمويين. وقد كانت بداية ذلك الانشقاق خروج يزيد بن الوليد على عمه الوليد بن يزيد وتشهيره إياه أسوأ تشهير ، ووصمه بأقبح الوصمات، حتى تمثل بعض بني أمية بقول الشاعر:
إني أعيذكمو بالله من فتن
مثل الجبال تسامى ثم تندفع
إن البرية قد ملت سياستكم
فاستمسكوا بعمود الدين وارتدعوا
لا تلحمن ذئاب الناس أنفسكم
إن الذئاب إذا ما ألحمت رتع
لا تبقرن بأيديكم بطونكمو
فثم لا حسرة تغني ولا جزع
ولما تم ليزيد الأمر خرج عليه مروان بن محمد - وكان أمير الجزيرة وأرمينية - ومعه جيش جرار يأتمر بأمره، ومعه الغمر بن يزيد للمطالبة بدم أخيه، فغلب يزيد على أمره وانبسطت في البيت المالك يد الفرقة والانشقاق. (3) الشيعة العلوية
لم تصل الخلافة إلى معاوية إلا بدهائه وسعة حيلته وبعد نظره وحسن تصريفه للأمور، وإلا فقد كان هناك حزب قوي الشكيمة عزيز المكانة يرى علي بن أبي طالب أحق بالخلافة، ولولا دهاء معاوية ما نزل الحسن بن علي ولا أخلى لخصمه الميدان في سنة 41 هجرية، وقد كان من نتيجة ذلك أن سخطت الأحزاب العلوية من تصرفه، فجمعوا الجموع وجندوا الجنود وثاروا على أمير الكوفة الأموي، وهو زياد بن أبيه - وكان يد معاوية التي بها يصول - ولكن زيادا يعرف كيف تخمد الفتنة، وتطفأ الثورة، فبادر إلى استئصال الداء، وقتل منهم خلقا كثيرا أشهرهم حجر بن عدي وأصحاب حجر بن عدي، بيد أن إراقة الدماء تهيج الحماسة، وتؤجج نار العداوة والبغضاء في قلوب المغلوبين، وكذلك ظلت الفتنة تنذر بالشر المستطير.
رأى الدعاة العلويون أنه لا قبل لهم بمعاوية ولا برجاله، فتربصوا بهم ريب المنون، وعللوا النفس بتقلبات الحوادث وعنت الأيام، راجين أن تعود الخلافة إلى بيت النبي، ولكن شد ما فزعوا يوم أخذ معاوية البيعة لابنه يزيد المعروف بالميل إلى اللهو والقصف والتلهي بالصيد عن شئون المسلمين، وفيه يقول عبد الله بن همام السلولي:
حشينا الغيظ حتى لو شربنا
دماء بني أمية ما روينا
لقد ضاعت رعيتكم وأنتم
تصيدون الأرانب غافلينا
وإنا لنعلم أنه لما مات معاوية سنة 60ه وتولى بعده ابنه يزيد، أبى الحسين أن يبايع له بالخلافة، بل رأى أكثر أهل التقى في مبايعة يزيد خرقا لحرمة الدين، ثم قتل الحسين في كربلاء سنة 61ه فألفت الشيعة «حزب التوابين» بعد وفاة يزيد وبيعة مروان بن الحكم سنة 64ه، وأخرجوا والي الكوفة الأموي عبيد الله بن زياد، وولوا عليهم رجلا منهم.
ثم تألف حزب «شرط الله» بزعامة المختار بن أبي عبيد الله الثقفي، وانقسمت الشيعة العلوية إلى فرق عدة؛ أهمها الفرقة الإمامية، وهي التي ترى أن أحق الناس بالخلافة هم ولد علي من فاطمة بنت النبي، والأئمة في نظرهم اثنا عشر إماما؛ وهم: علي، والحسن، والحسين، وزين العابدين، ومحمد الباقر، وجعفر الصادق، وموسى الكاظم، وعلي الرضا، ومحمد التقي، وعلي التقي، وحسن العسكري، ومحمد المهدي.
ومنها الفرقة الكيسانية، وهي التي تقول بتحول الخلافة بعد الحسن والحسين إلى أخيهما محمد بن الحنفية، ومنها الفرقة الزيدية نسبة إلى زيد بن علي بن الحسين، والفرقة الإسماعيلية نسبة إلى إسماعيل بن جعفر الصادق، وفرق أخرى أصغر من تلك شأنا، وأقل أثرا. •••
على أنه كان يوجد بجانب أولئك الولاة المخلصين لبني أمية والمسرفين في مطاردة الحزب العلوي فريق آخر على رأسه خالد القسري، يعمل لمناصرة العلويين سرا لا علانية، كما يعمل - في العادة - فريق من موظفي الحكومة لحزب الأقلية المضطهد طمعا في المناصب، أو نصرا لعقيدة سياسية، أو إيثارا للعدل والإنصاف.
على أن الدعوة العلوية كانت فاترة ضعيفة إذا قورنت بالدعوة العباسية التي سنتكلم عليها في الكلمة الآتية، ولعل من أكبر أسباب ضعف
1
الدعوة العلوية مبايعة زعماء العباسيين محمد بن عبد الله الملقب بالنفس الزكية، فقد بايعه أبو العباس السفاح كما بايعه أبو جعفر المنصور وغيرهما من أئمة الحزب العباسي.
وكذلك سارت الدعوة لآل محمد شوطا بعيدا، وظاهرتها شخصيات بارزة قوية الشوكة وفيرة المال والجاه، أمثال أبي سلمة الخلال الفارسي المعروف.
وسترى كيف تحولت الدعوة العلوية إلى وجهة أخرى، وكيف استغلت لمصلحة العباسيين.
هوامش
الفصل الثاني
العصبية والموالي في الدولة العباسية
(1) توطئة
لقد مرت بك إشارة بسيطة - حين تكلمنا عن العصر الأموي - إلى حنق الموالي الذين نالهم في ذلك العصر من الاحتقار والزراية حظ غير قليل، وبينا لك أن هذه الناحية من المعاملة التي لا تنطبق على المذهب الحديث «حرية، إخاء، مساواة»، كانت عاملا قويا من عوامل الضعف والانحطاط في دولتهم، ووعدناك أن ندرس حال العصبية والموالي في هذا الفصل من الكتاب تمشيا مع النظام الذي وضعناه له.
والآن نعرض عليك حال الشعوب التي كانت خاضعة لسلطان بني أمية حتى تتبين أحوالها النفسية، والأهواء التي كانت غالبة عليها، فإنه لا يكفي في انتقال الملك من شخص إلى شخص، أو من بيت إلى بيت بث الدعوة وتنظيمها، وحزم القائمين بها، وإخلاص المشيرين وكفاية القواد، بل لا بد مع هذه الأمور أن تصادف الدعوة الجديدة نفوسا مستعدة لها، راغبة فيها، عاملة على إنمائها، لكي تزهر وتؤتي ثمارها.
والحق أن الدعوة العباسية قامت في وقت كانت قد توزعت فيه الحواضر الإسلامية أهواء مختلفة، وتقسمت القبائل العربية عوامل العصبية، وأخذت الشعوب المغلوبة على أمرها والتي أصبحت خاضعة للنفوذ العربي تستفيق من الدهشة التي استولت عليها من الفورة العربية التي أخضعتها لسلطان العرب المسلمين.
أما الحواضر الإسلامية فكان قد غلب على كل حاضرة هوى أسرة أو شخص معين، ولم تكن لتخضع للسلطان العربي الأموي لولا القوة القاهرة؛ ولهذا لم يكد يضطرب أمر بني أمية في الأطراف، ويظهر الخارجون من الدعاة على ولاتهم، حتى أخذت هذه الحواضر تنسل عن طاعة بني أمية واحدة بعد أخرى. وتستطيع أن تلتمس هذه الظاهرة بينة واضحة من تقاعد الولايات عن نصرة آخر خلفاء بني أمية عندما حزبه الأمر وتعقبه مطاردوه. (2) العصبية
العصبية هي مناصرة من يمت إليك بصلة من صلات الحياة؛ كأن تجمعكما رحم قريبة أو بعيدة، أو عقيدة دينية، أو هوى سياسي. فيظهر أنها من طبيعة الوجود؛ إذ لا تختص بها قبيلة دون قبيلة، ولا أمة دون أمة، ولا جنس دون جنس، ولا عصر دون عصر، وكما توجد في الأمم البادية، كذلك توجد في الأمم الحاضرة، وما الدعوات القومية والنعرات الجنسية إلا نوع من العصبية بمعنى أوسع.
والعصبية العربية التي نحن بسبيل القول فيها، والتي كانت من الأسباب التي اضمحل بها سلطان بني أمية، قديمة في القبائل العربية؛ كانت في الجاهلية قبل الإسلام، وكانت تضيق وتتسع بحسب الظروف والمناسبات، فبينما نراها بين العدنانية والقحطانية، وهو أوسع معانيها من الوجهة التاريخية العربية، نراها بين ربيعة ومضر، وهي قبائل عدنانية، ونراها بين بني أمية وبني هاشم، وقد يكون هذا من أضيق ميادينها، وكانت هذه العصبيات تشتد حينا، وتفتر آخر.
فلما جاء الإسلام، ودخل الناس فيه أفواجا، وتم له السلطان في جزيرة العرب، ألف بين القبائل، وأزال ما في صدورهم من أحقاد، وذلك ما يشير إليه قول الله تعالى:
هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين * وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم إنه عزيز حكيم .
ألف الإسلام بين قلوب العرب، وأزال كل أثر للعصبية القديمة في نفوسهم، ولكنه استبدلها بعصبية واسعة شاملة هي عصبية الإسلام، وجعل المؤمنين جميعا إخوة.
وبقى أمر العرب كذلك إلى عهد الخلفاء الراشدين، وذلك راجع لا محالة إلى عوامل شديدة الأثر في نفوسهم؛ كهيمنة الروح الدينية عليهم، وكانشغالهم بالفتح وما استتبع الفتح من غنائم، وكحزم الخلفاء وحكمتهم، وشدة الولاة وقسوتهم.
فلما كان العصر الأموي واستقر الناس في الحواضر الإسلامية وشغلوا بعض الشيء عن الفتوح، راجعتهم الشنشنة القديمة، فأخذ بعضهم يفتخر على بعض بما كان لآبائهم من مجد في الجاهلية، وبلاء في الإسلام، وما لقبائلهم من قوة وأيد. وقد أدرك بعض شعرائهم النتائج السيئة لذلك، فقال الحارث بن عبد الله بن الحشرج بن المغيرة بن الورد الجعدي:
أبيت أرعى النجوم مرتفقا
إذا استقلت تجري أوائلها
من فتنة أصبحت مجللة
قد عم أهل الصلاة شاملها
من بخراسان والعراق ومن
بالشام كل شجاه شاغلها
فالناس منها في لون مظلمة
دهماء ملتجة غياطلها
يمسي السفيه الذي يعنفها بال
جهل سواء فيها وعاقلها
والناس في كربة يكاد لها
تنبذ أولادها حواملها
يغدون منها في كل مبهمة
عمياء تمنى لهم غوائلها
لا ينظر الناس في عواقبها
إلا التي لا يبين قائلها
كرغوة البكر أو كصيحة حب
لى طرقت حولها قوابلها
فجاء فينا أزرى بوجهته
فيها خطوب حمر زلازلها
ولقد زاد في إذكاء العصبية بين القبائل العربية حمق بعض الولاة، وعدم أخذهم الأمور التي تقع بين أيديهم بالحزم والحكمة، وأيضا استهانة بعض الخلفاء الأمويين ببعض الأمور وغرورهم بما لهم من سلطان، فكانوا لا يبالون شعور الناس في تعيين الولاة عليهم، مما كان له أبعد أثر في صرف النفوس عنهم، واستجابتها لكل داع إلى الخروج عليهم، وحسبك أن ترى هشام بن عبد الملك - مع حزمه وبعد نظره - يعين نصر بن سيار واليا على خراسان وهو يعلم أن عصبيته بها ضعيفة، فإنه لما استشار فيمن يوليه خراسان بعد أسد بن عبد الله القسري، كان مستشاره يسمى له أشخاصا بما لهم من محامد ومذام، فلما جاء ذكر نصر بن سيار قال: إن اغتفرت له واحدة فإنه عفيف مجرب عاقل، قال هشام: وما هي؟ فقال المشير: عشيرته بها ضعيفة، فقال هشام: «أوتريد عشيرة أقوى مني؟ أنا عشيرته!»
على أن كلمة هشام قد تخفف من آثارها السيئة متانة حكومته، ونفاذ صولته، وقوة شوكته، ولكن الخلفاء جميعا ليسوا كهشام حزما واقتدارا، وليست أيامهم كأيام هشام نجحا وانتصارا.
ومهما يكن من شيء فإن تولية نصر بن سيار على خراسان كانت في الواقع شؤما على بني أمية.
وقد بلغت العصبية بين مضر واليمن في خراسان طورا عنيفا، جعل التزاوج بين الفريقين موضع اضطهاد وسخرية وازدراء.
ولقد قالت أم كثير الضبية لما هدم اليمنيون دور المضرية أثناء الحروب التي كانت بين نصر والكرماني بسبب العصبية:
لا بارك الله في أنثى وعذبها
تزوجت مضريا آخر الدهر
أبلغ رجال تميم قول موجعة
أحللتموها بدار الذل والفقر
إن أنتم لم تكروا بعد جولتكم
حتى تعيدوا رجال الأزد والظهر
إني استحيت لكم من بذل طاعتكم
هذا المزوني يجبيكم على قهر
وقال شاعر آخر:
ألا يا نصر قد برح الخفاء
وقد طال التمني والرجاء
وأصبحت المزون بأرض مرو
تقضي في الحكومة ما تشاء
يجوز قضاؤها في كل حكم
على مضر وإن جار القضاء
وحمير في مجالسها قعود
ترقرق في رقابهم الدماء
فإن مضر بذا رضيت وذلت
فطال لها المذلة والشقاء
وإن هي أعتبت فيها وإلا
فحل على عساكرها العفاء
ولقد استغل الدعاة العباسيون العصبية التي فتت في عضد الأمويين ومزقتهم أشتاتا وطرائق قددا خير استغلال، وهو ما كان له أبلغ أثر في القضاء على سلطان بني أمية؛ ذلك أن نصر بن سيار، وهو عامل خراسان، قد تحامل على اليمن وربيعة وقدم المضرية، فوثب به جديع بن علي الكرماني الأزدي - وكان رئيس الأزد يومئذ ورجلهم - وقال له: ندعك وفعلك. ومالت معه اليمانية وربيعة، فأخذه نصر وحبسه، فأتت اليمن وربيعة حتى أخرجوه من مجرى كنيف! ثم اجتمعوا، ورام نصر أن يخدعه فيصير إليه، فلم يفعل - وكان في نصر بعض الخرق - فلما علم جديع أن اليمن وربيعة قد اجتمع رأيهما معه على نصر وثب فحاربه، وكان له العلو على نصر، فمال أبو مسلم إلى الكرماني فقال: ادع إلى آل محمد، وجعل يمايل أصحابه ويدعوهم إلى ذلك حتى أظهروا دعوة بني هاشم بخراسان.
هذا ما كان من أمر العصبية بين العرب واستغلالها في إظهار الدعوة لبني العباس.
على أنه يجدر لك ألا يعزب عن ذهنك أن العصبية وإن كانت قد خدمت العباسيين أجل الخدم، فكانت معول هدم وعامل فناء في صرح الأموية، كان ضرامها وأجيجها وحروبها وفتنها لم تخمد سراعا، ولم ترجع أمور العباد إلى نصابها من الموادعة وحسن المصانعة بتيسير حال؛ بل أخذت دورها المحتوم، وكانت حسكا وقتادا، الفينة بعد الفينة، في بعض الولايات والأمصار، لبني العباس أنفسهم، كما ستقف عليه فيما سنسرده عليك من خلاصة أخبارهم ومجمل تاريخهم. (3) الموالي
لما أفضت الخلافة إلى الأمويين كان عدد الموالي آخذا في الازدياد بسبب ما جلبته الفتوح الإسلامية من الأسرى، وما كان يهديه الولاة إلى الخلفاء من الرقيق؛ فإن الولاة كثيرا ما كانوا يبعثون إلى الخليفة بمئات أو ألوف من الرقيق الأبيض أو الأسود هدية أو بدلا من الخراج أو نحوه.
ومن كان يحر من هؤلاء بعتق أو مكاتبة أو تدبير يصير مولى، وينسب إلى أسرة معتقه أو قبيلته، مع ملاحظة عدم أهليته للبناء على قرشية أو عربية.
كثر عدد الموالي جدا، فانصرف فريق منهم إلى الصناعة، وآخر إلى الزراعة أو غيرها من شئون الحياة، وانصرف فريق آخر إلى العلوم والفنون والآداب، فكان منهم جلة الفقهاء ورواة الحديث، كما كان منهم الشعراء والكتاب والمغنون، وتولت طائفة منهم المناصب السامية في الدولة كالقضاء والحجابة وما إلى ذلك.
على أنه مع ما كان لكثير من الموالي من قدم راسخة ومنزلة رفيعة في العلم والأدب والفنون كان العرب ينظرون إليهم دائما نظرة احتقار وازدراء.
وكان هذا الاحتقار والازدراء يظهر في معاملة العرب للموالي وأحاديثهم عنهم، ولما كان الموالي أهل علم وأدب، وينتمي كثير منهم إلى دول كان لها من السلطان ومظاهر الحضارة حظ عظيم، بل كان للفرس وجل الموالي منهم سيادة ظاهرة على العرب قبل الإسلام، لما كان كل هذا عظم على الموالي أن يحتملوا كل هذا الضيم من العرب، فاندفعوا يذودون عن شرفهم وكرامتهم، ومن هنا نشأت الشعوبية - والشعوبية مذهب من يرى تفضيل العجم على العرب أو التسوية بين الفريقين - ثم أخذ الشعراء وغير الشعراء من الفريقين يتبارون في إكبار كل لفريقه، والحط من الفريق الآخر.
وكان نصيب الموالي في حالة تمدحهم لقومهم من الخلفاء الأمويين مدعاة إلى زيادة مقتهم لهم، وزيادة السخيمة في قلوبهم عليهم. وإنا نثبت لك هنا مثلا استشهد به الأستاذ «برون» في كتابه عن أدب الفرس، نقلا عن الأغاني، قال: إن إسماعيل بن يسار دخل على هشام بن عبد الملك في خلافته وهو بالرصافة جالس على بركة له في قصره، فاستنشده وهو يرى أنه ينشد مديحا له؛ فأنشدة قصيدته التي يفتخر فيها بالعجم:
يا ربع رامة بالعلياء من ريم
هل ترجعن إذا حييت تسليمي
ما بال حي غدت بزل المطي بهم
تخدي لغربتهم سيرا بتقحيم
كأنني يوم ساروا شارب سلبت
فؤاده قهوة من خمر داروم
حتى انتهى إلى قوله:
إني وجدك ما عودي بذي خور
عند الحفاظ ولا حوضي بمهدوم
أصلي كريم ومجدي لا يقاس به
ولي لسان كحد السيف مسموم
أحمي به مجد أقوام ذوي حسب
من كل قرم بتاج الملك معموم
جحاجح سادة بلج مرازبة
جرد عتاق مساميح مطاعيم
من مثل كسرى وسابور الجنود معا
والهرمزان لفخر أو لتعظيم
أسد الكتائب يوم الروع إن زحفوا
وهم أذلوا ملوك الترك والروم
يمشون في حلق الماذي سابغة
مشى الضراغمة الأسد اللهاميم
هناك إن تسألي تنبي بأن لنا
جرثومة قهرت عز الجراثيم
قال: فغضب هشام وقال له: يا عاض بظر أمه، أعلي تفخر، وإياي تنشد قصيدة تمدح بها نفسك وأعلاج قومك؟! غطوه في الماء. فغطوه في البركة حتى كادت نفسه تخرج، ثم أمر بإخراجه وهو يشر، ونفاه من وقته، فأخرج من الرصافة منفيا إلى الحجاز، قال: وكان مبتلى بالعصبية للعجم والفخر بهم، فكان لا يزال محروما مطرودا.
ولما كان شأن الخلفاء الأمويين شأن سائر العرب في التعصب على الموالي حتى كانوا يستعملونهم في الحروب مشاة ولا يعطونهم شيئا من الغنائم والفيء، نفرت نفوسهم منهم، وأصبح سلطانهم بغيضا إليهم، وصاروا عونا لكل من خلع الطاعة، أو طلب الخلافة من العلويين أو الخوارج.
ولقد كان العباسيون يدركون هذا الشعور في الموالي فاستغلوه خير استغلال؛ إذ اتخذوا جلة المبشرين بدعوتهم منهم، واعتمدوا كل الاعتماد عليهم، ورأى الموالي في الدعوة الجديدة شفاء لما في صدورهم من حقد على بني أمية خاصة، وعلى العرب عامة، فأخلصوا للدعوة الجديدة، وبذلوا في تحقيقها كل ما يملكون من نفوس وأموال.
على أن لهذا الموضوع نواحي متشعبة يحول دون التحدث فيها ما رسمناه لأنفسنا من التزام القصد والإيجاز.
الفصل الثالث
الدعوة العباسية
(1) توطئة
كانت الدعوة العلوية تسير جنبا إلى جنب مع الدعوة العباسية، فقد كان الفريقان مضطهدين مغلوبين على أمرهما، وكان من المعقول والطبعي أن ظلم بني أمية لهؤلاء وهؤلاء يجمع ما تفرق من أهوائهم، ويفل حدة ما بينهم من عوامل التنافس والخلاف.
وقد كان بنو هاشم أعداء للأمويين قبل الإسلام بسبب التزاحم على السيادة في قريش، ولشد ما كان طلب السيادة والزعامة مدعاة إلى العداوة والشحناء، وسببا إلى التناحر والتقاتل بين بني الإنسان.
جد العباسيون في دعوتهم السياسية وهم في الحميمة من أعمال البلقاء بالشام، وزادوا حمية وحماسة بتنزل أبي هاشم بن محمد بن الحنفية العلوي، زعيم الحزب الكيساني، لمحمد بن علي بن عبد الله بن عباس، حين دس إليه سليمان بن عبد الملك من سمه؛ إذ رأى فيه من المهابة والوقار ما يؤهله للخلافة، ويقربه من قلوب الجماهير.
وقد كان في تنزل أبي هاشم هذا لصاحب الدعوة العباسية توحيد لحزبين قويين؛ هما الحزب العباسي
1
والشيعة الكيسانية، وهذا التوحيد أو التقريب بين الحزبين كانت ثمرته لحزب العباسيين. (2) تأليف الجماعات السرية
عمل العباسيون في تأليف الجماعات السرية للدعوة، واختاروا من الدعاة اثني عشر نقيبا؛ وهم: سليمان بن كثير الخزاعي، ومالك بن الهيثم، وطلحة بن زريق، وعمر بن أعين، وعيسى بن أعين، وقحطبة بن شبيب الطائي، ولاهز بن قريظ التميمي، وموسى بن كعب، والقاسم بن مجاشع، وأبو داود خالد بن إبراهيم الشيباني، وأبو علي الهروي شبل بن طهمان الحنفي، وعمران بن إسماعيل المعيطي.
واختار محمد بن علي سبعين رجلا يأتمرون بأمر هؤلاء الدعاة، وكتب إليهم كتابا يوصيهم فيه بما يرجو أن يوفقوا إلى العمل به وهم يوجهون الدعوة، ويحاورون الأحزاب.
وهذا الكتاب يدل على ما كان عليه هذا الزعيم العباسي من علم بأحوال الناس في عصره، وبصر بأخلاق الشعوب التي كانت خاضعة للسلطان الإسلامي، وبما كانت تجيش به النفوس في كل صقع وحاضرة، وبمثل هذا الزعيم الداهية ومن اجتباهم للدعوة العباسية قد كتب الفوز لهذه الدعوة آخر الأمر، ومما قاله هذا الزعيم في كتابه:
أما الكوفة وسوادها فشيعة علي وولده، وأما البصرة وسوادها فعثمانية تدين بالكف تقول: كن عبد الله المقتول ولا تكن عبد الله القاتل، وأما الجزيرة فحرورية مارقة، وأعراب كأعلاج، ومسلمون في أخلاق النصارى، وأما أهل الشام فليس يعرفون إلا آل أبي سفيان وطاعة بني مروان، وعداوة راسخة، وجهلا متراكما، وأما مكة والمدينة فقد غلب عليهما أبو بكر وعمر، ولكن عليكم بخراسان، فإن هناك العدد الكثير والجلد الظاهر، وهناك صدور سليمة، وقلوب فارغة لم تتقسمها الأهواء، ولم يتوزعها الدغل، وهم جند لهم أبدان وأجسام ومناكب وكواهل وهامات ولحى وشوارب، وأصوات هائلة، ولغات فخمة تخرج من أجواف منكرة ... وبعد، فإني أتفاءل إلى المشرق وإلى مطلع سراج الدنيا ومصباح الخلق. (3) الدعوة العباسية وأبو مسلم الخراساني
كان الدعاة العباسيون يتنقلون في مختلف الأمصار، وكانوا في ظاهر الأمر طلاب رزق يزاولون التجارة، وكانوا في الواقع رجال سياسة ودهاء يبثون الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة، ويدعون الناس إلى مناصرتهم بشتى الأساليب.
وظلوا كذلك إلى أن توفي محمد بن علي، وعهد بالأمر من بعده إلى ابنه إبراهيم الإمام، فكاتب هذا مشايخ خراسان ودهاقينها، وبعث إليهم الدعاة، وأرسل أبا مسلم لخراسان لبث الدعوة هناك، فكان يدعو إلى آل محمد - يريد أهل البيت - من غير أن يعين العباسيين ولا العلويين.
وقد كان أبو مسلم من أبطال الحرب والسياسة، شديد الإخلاص للعباسيين، مسرفا في خدمتهم، كثير الدهاء، واسع الحيلة، خبيرا بما يقتضي عمله من الحزم والقسوة، فلا تعرف الرحمة قلبه، ولا يتناول الأمور إلا بالحزم والبأس الشديد.
ونستطيع أن نتبين مرمى السياسة العباسية من الكتاب الذي بعث به إبراهيم الإمام إلى أبي مسلم الخراساني فيما يرى أن يعمله لتأييد الدولة الجديدة، قال: «إنك رجل منا أهل بيت، احفظ وصيتي: انظر هذا الحي في اليمن فالزمهم، واسكن بين أظهرهم، فإن الله لا يتم هذا الأمر إلا بهم، واتهم ربيعة في أمرهم، وأما مضر فإنهم العدو القريب الدار، واقتل من شككت فيه، وإن استطعت ألا تدع بخراسان من يتكلم بالعربية فافعل، وأيما غلام بلغ خمسة أشبار تتهمه فاقتله.»
وقد حرص أبو مسلم على تنفيذ هذه الوصية، فكان يسرع إلى قتل كل من يتهمه، ويقضي على كل من يرتاب في أمره حتى بلغت ضحايا هذه الخطة فيما يقول المؤرخون العرب: ستمائة ألف نفس قتلت صبرا.
ومهما افترضت المبالغة والغلو في إيرادهم هذا العدد، فإن الواقع أن أبا مسلم قد أسرف أيما إسراف في القتل وسفك الدماء تنفيذا لوصية الإمام.
حل أبو مسلم خراسان سنة 128ه فساسها بحزمه ودهائه وقوته، وأقام بقرية من قرى مرو يقال لها: «سفيذنج»، وقد كثر أنصاره وانثال الناس عليه من كل صوب، فأعلن فيهم لبس السواد، واتخذه شعارا للعباسيين، ثم غير شكل صلاة العيدين بأن بدأ بها قبل الخطبة بغير أذان ولا إقامة - وكانت بنو أمية تبدأ بالإقامة كصلاة يوم الجمعة - وأمر بأن يكبر ست تكبيرات تباعا، وكاتب نصر بن سيار الوالي الأموي، ولما ضاقت «سفيذنج» عليه ولم تتسع لأنصاره رحل إلى الماخوان،
2
وكانت عدة رجاله - فيما يقول المؤرخون - سبعة آلاف رجل، ثم احتال في التفرقة بين نصر ورجاله حتى أخذ بناء خصمه ينهار، ويتخلى عنه أنصاره واحدا بعد واحد، وفي هذا يقول نصر شعرا بعث به إلى مروان الحمار الخليفة الأموي:
أرى بين الرماد وميض نار
ويوشك أن يكون لها ضرام
فإن لم تطفها عقلاء قوم
يكون وقودها جثث وهام
فإن النار بالعودين تذكى
وإن الحرب أولها كلام
فقلت من التعجب ليت شعري
أأيقاظ أمية أم نيام؟
فلما ورد هذا الشعر على مروان لم يجب عليه بما يجب أن يجيب به الملك الحازم الحريص على ملكه المبقي على عرشه، من مبادرته بإرسال الكتائب والجيوش لكبح الثائرين على الملك، أو إعداده المعدات لإرسالها، وإنما كتب إلى نصر كتابا يمثل الضعف والاستسلام، وينبئ بجنوحه إلى سياسة القول والكلام - في موضع يتطلب تقلد الرمح والحسام - يقول فيه: «إن الحاضر يرى ما لا يرى الغائب، فاحسم أنت هذا الداء الذي قد ظهر عندك»، فقال نصر لأصحابه: «أما صاحبكم فقد أعلمكم أنه لا نصر عنده.» •••
يجب ألا يفوتنا أن نشير هنا إلى ناحية مهمة في خلق أبي مسلم تمثل ما يجب على القواد من الحزم والكتمان؛ فقد جاء في «كتاب المحاسن والمساوي» للبيهقي ما نصه: «قيل لأبي مسلم صاحب الدولة: بأي شيء أدركت هذا الأمر؟ فقال: ارتديت بالكتمان ، وائتزرت بالحزم، وحالفت الصبر، وساعدت المقادير، فأدركت ظني، وحزت حد بغيتي، وأنشد:
أدركت بالحزم والكتمان ما عجزت
عنه ملوك بني مروان إذ حشدوا
ما زلت أسعى عليهم في ديارهم
والقوم في غفلة بالشام قد رقدوا
حتى ضربتهمو بالسيف فانتبهوا
من نومة لم ينمها قبلهم أحد
ومن رعى غنما في أرض مسبعة
ونام عنها تولى رعيها الأسد»
ا.ه.
على أن مروان استيقظ أخيرا من غفوته، وانتبه من غفلته، وأمر بأخذ إبراهيم بن محمد، فلما قبض عليه في الحميمة بالبلقاء أوصى بالأمر إلى أخيه أبي العباس، وأمر أهله وأنصاره بالمسير إلى الكوفة، وحضهم على السمع والطاعة لأبي العباس.
وقد حبس إبراهيم في سجن «حران» مع جماعة من خصوم مروان من بني أمية، وظل في سجنه حتى مات، وقد اختلف المؤرخون في كيفية موته، فمنهم من قال: إنه سقي سما، ومنهم من قال: هدم عليه بيت فمات.
على أن المؤرخين وإن اختلفت أقوالهم في كيفية موته قد أجمعوا على أنه قد مات غيلة وانتقاما، وقد رثاه بعض الشعراء فقال:
قد كنت أحسبني جلدا فضعضعني
قبر بحران فيه عصمة الدين
فيه الإمام وخير الناس كلهم
بين الصفائح والأحجار والطين
فيه الإمام الذي عمت مصيبته
وعيلت كل ذي مال ومسكين
فلا عفا الله عن مروان مظلمة
لكن عفا الله عمن قال آمين
ثم انتقل الأنصار إلى الكوفة، وقد ساعدهم أبو سلمة الخلال المعروف ب «وزير آل محمد»، ولكنه عدل عنهم أخيرا، وقيل: إنه كاتب ثلاثة من أعيان بني علي يعرض الخلافة على أحدهم؛ وهم: جعفر الصادق بن محمد الباقر، وعبد الله المحض بن حسن، وعمر الأشرف بن زين العابدين، وكانت خاتمة حياته القتل.
ونريد بعد الذي قدمناه أن نلم بحياة الخلفاء العباسيين الذين سبقوا المأمون، لنرى كيف كانت الحياة السياسية في عهدهم الذي كان بلا شك نواة صالحة لعصر المأمون، وإنا لنرجو إذا وفقنا إلى بيان المناحي التي امتاز بها هؤلاء أن ينكشف الغطاء عن حقيقة أمرهم ومكانتهم التاريخية، كما نرجو أن نظفر من وراء تفهم أقدارهم وحقيقة عصورهم بتفهم الأصول التي كونت العصر الذي من أجله وضع هذا الكتاب.
هوامش
الفصل الرابع
أبو العباس السفاح
كان أبو العباس السفاح أول من تولى الخلافة العباسية ونقل الملك من بني أمية إلى بني العباس، وقد أجمع المؤرخون على أنه كان وافر الكرم، ظاهر المروءة، جليل الوقار، كثير الحياء، حسن الأخلاق، وصولا لذوي الأرحام.
وكان إلى جانب هذه الأخلاق السمحة الرضية يجمع قلبا ذكيا وأنفا حميا في تعقب الأمويين، وتبديد شملهم في كل بقعة يخشى أن تسمع لهم فيها كلمة، أو يطاع لهم رأي، أو يؤثر عنهم صنيع. وكانت هذه الدولة الناشئة تحتاج إلى مثل هذه القسوة من مثل أبي العباس السفاح.
ويجب أن نذكر دائما في مثل هذه الظروف أن جل الملوك الذين بعثوا لإنشاء دول جديدة، وممالك جديدة، وأسرات ملكية جديدة، مثل أبي العباس السفاح وغيره، هم مكرهون لا محالة على استعمال القسوة، وأخذ الأمور بالحزم والشدة دون إغفالهم الموادعة والملاينة فيما لا يهدد عروش ملكهم، وصروح سلطانهم.
قالوا: إنه كان في بعض أيامه جالسا في مجلس الخلافة وعنده سليمان بن هشام بن عبد الملك وقد أكرمه وتبسط معه حتى دخل عليه سديف الشاعر وأنشده:
لا يغرنك ما ترى من رجال
إن تحت الضلوع داء دويا
فضع السيف وارفع السوط حتى
لا ترى فوق ظهرها أمويا
فقال له سليمان: قتلتني يا شيخ! ودخل السفاح وأخذ سليمان فقتل.
وهذا الذي صنعه السفاح أصبح سنة عباسية في تأييد الملك، وكان قليل من الإغراء كافيا في محق من تقع عليه العين من خصوم الخلافة، فقد دخل شبل بن عبد الله مولى بني هاشم على عبد الله بن علي وعنده من بني أمية نحو تسعين رجلا على الطعام، فأقبل عليه فقال:
أصبح الملك ثابت الأساس
بالبهاليل من بني العباس
طلبوا وتر هاشم فشفوها
بعد ميل من الزمان وياس
لا تقيلن عبد شمس عثارا
واقطعن كل رقلة وغراس
خوفهم أظهر التودد منهم
وبهم منكم كحز المواسي
ولقد ساءني وساء قبيلي
قربهم من نمارق وكراسي
أنزلوها بحيث أنزلها الله
بدار الهوان والإتعاس
واذكروا مصرع الحسين وزيد
وقتيلا بجانب المهراس
والقتيل الذي بحران أمسى
رهن رمس في غربة وتناسي
فأمر بهم عبد الله فضربوا بالعمد حتى قتلوا، وبسط النطوع عليهم، فأكل الطعام عليها وهو يسمع أنين بعضهم حتى ماتوا جميعا.
ولم تقف هذه الوحشية عند حد التنكيل بالأحياء؛ بل تعدتهم إلى الأموات، فقد ذكر أن عبد الله بن علي أمر بنبش قبور بني أمية بدمشق، فنبش قبر معاوية بن أبي سفيان فوجدت فيه عظام كأنها الرماد، ونبش قبر عبد الملك بن مروان فوجدت فيه جمجمته، وكان لا يوجد في القبر إلا العضو بعد العضو، غير هشام بن عبد الملك؛ فقد وجد صحيحا لم يبل منه إلا أرنبة أنفه، فضربه بالسياط وصلبه وأحرقه وذراه في الريح، ثم تعقب أولاد الخلفاء من بني أمية فلم يفلت منهم إلا من كان في المهد صبيا، وأدرك بعض الهاربين إلى الأندلس فقتلهم بنهر أبي فطرس،
1
وكان فيمن قتل محمد بن عبد الملك بن مروان، والغمر بن يزيد بن عبد الملك، وعبد الواحد بن سليمان، وسعيد بن عبد الملك، واستصفى بعد ذلك ما كانوا يملكون من نشب ومال، فلما فرغ منهم تغنى بهذه الأبيات:
بني أمية قد أفنيت جمعكمو
فكيف لي منكمو بالأول الماضي
يطيب النفس أن النار تجمعكم
عوضتمو من لظاها شر معتاض
منيتمو - لا أقال الله عثرتكم -
بليث غاب إلى الأعداء نهاض
إن كان غيظي لفوت منكمو فلقد
منيت منكم بما ربي به راضي
قلنا: إن السفاح كان إلى جانب هذه القسوة برا بذوي رحمه، وصولا لهم؛ ولنذكر مثالا لذلك تصرفه مع آل الحسن بن علي الذين بايع بعض العباسيين رجلا منهم هو محمد بن عبد الله - كما بينا من قبل - فقد روى عبد العزيز بن عبد الله البصري عن عثمان بن سعيد بن سعد المدني: أنه لما ولي الخلافة أبو العباس السفاح قدم عليه بنو الحسن بن علي بن أبي طالب؛ فأعطاهم الأموال وقطع لهم القطائع، ثم قال لعبد الله بن الحسن: احتكم علي، قال: «يا أمير المؤمنين، بألف ألف درهم، فإني لم أرها قط.» فاستقرضها أبو العباس من ابن مقرن الصيرفي وأمر له بها.
قال عبد العزيز: لم يكن يومئذ بيت مال، ثم إن أبا العباس أتى بجوهر مروان فجعل يقلبه وعبد الله بن الحسن عنده، فبكى عبد الله، فقال له: ما يبكيك يا أبا محمد؟ قال: هذا عند بنات مروان وما رأت بنات عمك مثله قط! قال: فحباه به، ثم أمر ابن مقرن الصيرفي أن يصل إليه ويبتاعه منه، فاشتراه منه بثمانين ألف دينار.
على أن هذا الرفق واللين وهذه السياسة والحكمة لم تنس أبا العباس السفاح ما يجب عليه من مراقبة الطالبيين، والتسمع لما قد يجيش في خواطرهم من الخروج عليه أو الكيد له؛ فإن صلة الرحم من مثل السفاح لا تكون ظاهرة خلقية بقدر ما تكون حيلة سياسية، وكذلك رأيناه يقول لبعض ثقاته وقد خرج من عنده بنو الحسن: «قم بإنزالهم ولا تأل في إلطافهم، وأظهر الميل إليهم والتحامل علينا وعلى ناحيتنا، وأنهم أحق بالأمر منا كلما خلوت بهم، وأحص لي ما يقولون وما يكون منهم في مسيرهم ومقدمهم.»
ومما ذكرناه يرى القارئ معنا أن السفاح قد جمع حقا القسوة واللين، وأنه لم يكن في عنفه بأخطر منه في رقته، وإنما كان يلين ليستل سخيمة مدفونة، أو ليستدرج بعض الحاقدين، ويقسو ليري أعداءه أن لا أمل لهم في الكيد لذلك السيف المسلول.
ومهما يكن من شيء، فإن خلافة أبي العباس كانت أقصر من أن تسمح لخصاله وأخلاقه بالظهور والتأثير القوي في سياسة الدولة وسيرة خلفائها.
ولو عمر السفاح لكان من الممكن أن يرسم لخلفائه خطة تجنبهم بعض ما تورطوا فيه من الاضطراب.
هوامش
الفصل الخامس
أبو جعفر المنصور
كان المنصور ملكا سديد الرأي، محكم التدبير، وكان قوي العزيمة، جريء القلب، يمضي إلى غايته مضي السهم إلى الرمية لا يثنيه عنها شيء، سياسي حاذق لا يقبل أن تتدخل في سياسته عاطفة ولا خلق ولا اعتبار آخر إلا فوزه السياسي ليس غير، وهو إلى ذلك داهية، وربما اضطره الدهاء إلى شيء إن لم يكن الإثم الخلقي فهو يشبهه في كثير من الأحيان.
وهو من هذه الناحية أحد أولئك الساسة الذين عرفهم التاريخ من حين إلى حين بالإقدام في غير تردد ولا لين ولا تهيب للوسائل، والذين مثلهم «مكياڤلي» أحسن تمثيل.
فقد ذكر ابن الأثير أنه أحضر مرة ابن أخيه عيسى بن موسى وأمره بالمسير إلى المدينة لقتال محمد بن عبد الله، فقال: شاور عمومتك يا أمير المؤمنين، قال المنصور: فأين قول ابن هرمة:
نزور امرأ لا يمخض القوم سره
ولا ينتجي الأدنين فيما يحاول
إذا ما أتى شيئا مضى كالذي أتى
وإن قال: إني فاعل، فهو فاعل؟
ثم قال: امض أيها الرجل، فوالله ما يراد غيري وغيرك، وما هو إلا أن تشخص أنت أو أشخص أنا. فسار وسير معه الجنود، وقال المنصور لما سار عيسى: «لا أبالي أيهما قتل صاحبه!»
وكان إلى جانب ذلك كما قال الجاحظ: مقدما في علم الكلام، ومكثرا من كتاب الآثار، ولكلامه كتاب يدور في أيدي العارفين والوراقين معروف عندهم.
وفي وصف المنصور يقول يزيد بن هبيرة: «ما رأيت رجلا قط في حرب ولا سمعت به في سلم أمكر ولا أبدع ولا أشد تيقظا من المنصور، لقد حصرني في مدينتي تسعة أشهر ومعي فرسان العرب، فجهدنا كل الجهد أن ننال من عسكره شيئا نكسره به فما تهيأ، ولقد حصرني وما في رأسي بيضاء، فخرجت إليه وما في رأسي سوداء.»
وكان المنصور يعطي في موضع العطاء ويمنع في موضع المنع، ولكن المنع كان أغلب عليه، حتى ضرب المثل بشحه وسمي «أبا الدوانيق»؛ لشدته في محاسبة العمال والصناع على الحبة والدانق.
وقد يكون من المستطرف أن نذكر شيئا مما رواه الطبري في تمثيل هذه الناحية من أخلاق المنصور، فقد جاء فيه أن واضحا مولاه قال: «إني لواقف يوما على رأس أبي جعفر إذ دخل المهدي وعليه قباء أسود جديد، فسلم وجلس ، ثم قام منصرفا وأتبعه أبو جعفر بصره؛ لحبه له وإعجابه به، فلما توسط الرواق عثر بسيفه فتخرق سواده، فقام ومضى لوجهه غير مكثرت لذلك ولا حافل به، فقال أبو جعفر: ردوا أبا عبد الله. فرددناه، فقال: يا أبا عبد الله، أستقلالا للمواهب أم بطرا بالنعمة، أم قلة علم بالمصيبة كأنك جاهل بما لك وما عليك؟»
فانظر إليه كيف لام ابنه وولي عهده وقد كان عنده أثيرا، ولامه بمحضر من حاشيته في شيء ليس ذا بال عند أوساط الناس فضلا عن الخلفاء!
ومهما يعتذر للمنصور بحرصه على الاقتصاد في أموال دولة ناشئة، وأخذ ولي العهد بتجنب الإسراف والإهمال، فقد نرى أن هذه الحادثة وأمثالها - مما سنرويه لك - تظهر ناحية صغيرة من نفسية المنصور، فقد كانت أمامه جلائل الأعمال في الدولة يستطيع أن يظهر فيها ميله إلى الحرص والاقتصاد دون أن يسف إلى هذه الصغائر. •••
على أننا لا نستطيع أن نمتنع عن ذكر معاوية مؤسس الدولة الأموية والمقارنة بينه وبين المنصور مؤسس الدولة العباسية حقا من هذه الناحية؛ فقد كان معاوية - كما رأيت - أكرم الناس، وأشدهم تسخيرا للأموال العامة والخاصة في الأغراض السياسية، وكان المنصور أشح الناس بالأموال العامة والخاصة، يؤثر التضحية بالدماء والكفايات في سبيل أغراضه السياسية على التضحية بالأموال.
ولعل من الإنصاف أن نلاحظ الفرق بين العصرين، وبين الدعائم التي اعتمد عليها الرجلان في إقامة ملكهما، فقد كان معاوية في بيئة عربية لم تخلص بعد من البداوة ولا من سماحة الدين، فكان الحلم والكرم أليق به وأنفع، بينما كان المنصور في بيئة من الفرس والموالي تأثرها بالحضارة شديد، وحظها من الدين قليل.
ولو بسط معاوية سلطانه بالسيف لفشل، ولكننا نرى أن لو بسط المنصور سلطانه بالمال في شيء من الحزم لوفق ولحقن الدماء، ولرسم لخلفائه خطة أقرب إلى اللين والعافية من هذه الخطة العنيفة التي ستراها في سيرة أكثرهم.
وحدث الوضين بن عطاء قال: «استزارني أبو جعفر - وكانت بيني وبينه خلالة قبل الخلافة - فصرت إلى مدينة السلام، فخلونا يوما فقال لي: يا أبا عبد الله، ما مالك؟ فقلت: الخير الذي يعرفه أمير المؤمنين، قال: وما عيالك؟ قلت: ثلاث بنات والمرأة وخادم لهن، فقال لي: أربع في بيتك؟ قلت: نعم، قال: فوالله لردد ذلك علي حتى ظننت أنه سيمولني، قال: ثم رفع رأسه إلي فقال: أنت أيسر العرب؛ أربع مغازل يدرن في بيتك!»
على أن شح المنصور لم يكن يخلو أحيانا من بعض الظرف والفكاهة؛ فقد ذكر إبراهيم بن عبد الرحمن أن أبا جعفر كان نازلا على رجل يقال له: أزهر السمان، قبل خلافته، فلما ولي الخلافة زاره الرجل وطلب صلته، فوصله، ثم عاوده فوصله، وجاءه في الثالثة فقال له المنصور: يا أزهر، ما جاء بك؟ قال: دعاء سمعته منك أحببت أن آخذه عنك، قال: لا ترده فإنه غير مستجاب؛ لأني قد دعوت الله أن يريحني من خلقتك فلم يفعل! وصرفه ولم يعطه شيئا.
وربما كان من العدل التاريخي أن نحتاط أمام هذه الروايات الكثيرة التي أسرف المؤرخون في روايتها إثباتا لبخل المنصور وشحه؛ فقد يكون مصدرها ما ألفوه من إسراف الخلفاء، ولعل المنصور لم يبلغ أكثر من أنه كان شديد الميل إلى الحرص والتدبير، والنفرة من الملحفين، وأخذ أهل بيته بذلك كله.
ولم يفت المنصور أن يعلل ذلك البخل؛ فقد جاء في عيون الأخبار أنه قال في مجلسه لقواده: «صدق الأعرابي حيث يقول: أجع كلبك يتبعك»، فقام أبو العباس الطوسي وقال: «يا أمير المؤمنين، أخشى أن يلوح له غيرك برغيف فيتبعه ويدعك!»
وقد كان أبرويز أحكم من المنصور إذ قال لابنه شيرويه وهو في حبسه: «لا توسعن على جندك فيستغنوا عنك، ولا تضيقن عليهم فيضجوا منك، أعطهم عطاء قصدا، وامنعهم منعا جميلا، ووسع عليهم في الرجاء، ولا تسرف عليهم في العطاء.» •••
وليس أدل على الشخصية السياسية لهذا الخليفة من سيرته مع ثلاثة هم في حقيقة الأمر أكبر زعماء الدولة في عصره، فهذه السيرة تبين لك - في وضوح وجلاء - ما قدمناه من أن المنصور كان «مكياڤلي» السياسة لا يحجم عن الغدر وقطع الرحم وكفر النعمة إذا رأى منفعته في ذلك.
وهؤلاء الزعماء هم؛ أولا: أبو مسلم الذي أخلص في نصرة المنصور والسهر على ملكه، فلم يأل جهدا في تعقب الخارجين على الملك، لا يفرق في ذلك بين أشياع المنصور وأهله من بني العباس، ولا خصومه الذين يكيدون له في السر أو في العلانية، فقتل الشيباني والكرماني وأبا سلمة الخلال، وحارب عم المنصور عبد الله بن علي واستولى على ما في عسكره من الغنائم والأسلحة. وثانيا: عمه عبد الله بن علي، وهو الذي فعل ما فعل في نصرة الدعوة العباسية وتقتيل خصومها من بني أمية، فضلا عن حروبه الموفقة في صد جيوش مروان، ومع ذلك فقد سلط عليه المنصور أبا مسلم فحاربه وقهره، ولما لم يصل إلى قتله كلف ابن عمه عيسى بن موسى والي الكوفة أن يقتله، فلما لم يقتله تولى المنصور قتله بنفسه؛ ليأمن ما قد يحدثه من الثورة والاضطراب. وثالثا: ابن عمه وولي عهده عيسى بن موسى، وقد رأيت كيف أشخصه المنصور لقتال محمد بن عبد الله ملحا في ذلك، حتى إذا أشخص قال المنصور: «لا أبالي أيهما قتل صاحبه!» ثم ما زال المنصور يكيد لهذا الأمير حتى خلعه من ولاية العهد، وبايع مكانه لابنه المهدي، ثم مضى في الكيد له. وقد يكون من المفيد أن ننقل ما جاء في المستطرف عن خلع عيسى بن موسى من ولاية العهد بمعرفة المنصور، وما قاله ابن الأثير عن قتل عمه عبد الله بن علي، فإن فيما قالاه تصويرا دقيقا لسياسة المنصور، وتمثيلا لحرصه على الملك الذي كان لا يبالي في سبيل توطيده أن ينكث بما عقد من عهد، أو ينقض ما أبرم من ميثاق.
جاء في المستطرف: أن عيسى بن موسى لما غدر به المنصور ونقل ولاية العهد منه إلى المهدي ابنه أنشد:
أينسى بنو العباس ذبي عنهمو
بسيفي ونار الحرب زاد سعيرها
فتحت لهم شرق البلاد وغربها
فذل معاديها وعز نصيرها
أقطع أرحاما على عزيزة
وأبدي مكيدات لها وأثيرها
فلما وضعت الأمر في مستقره
ولاحت له شمس تلألأ نورها
دفعت عن الأمر الذي أستحقه
وأوسق أوساقا من الغدر عيرها
وجاء في ابن الأثير أن المنصور أحضر عيسى بن موسى بعد أن خلع نفسه، وسلم إليه عمه عبد الله بن علي وأمره بقتله وقال له: إن الخلافة صائرة إليك بعد المهدي؛ فاضرب عنقه، وإياك أن تضعف فتنقض علي أمري الذي دبرته. ثم مضى إلى مكة وكتب إلى عيسى من الطريق يستعلم منه عما فعل في الأمر الذي أمره، فكتب عيسى: «قد أنفذت ما أمرت به.» فلم يشك في أنه قتله - وكان عيسى حين أخذ عبد الله من عند المنصور دعا كاتبه يونس بن فروة وأخبره الخبر، فقال: أراد أن يقتله ثم يقتلك؛ لأنه أمر بقتله سرا، ثم يدعيه عليك علانية؛ فلا تقتله، ولا تدفعه إليه سرا أبدا، واكتم أمره، ففعل ذلك عيسى - فلما قدم المنصور وضع على أعمامه من يحركهم على الشفاعة في أخيهم عبد الله، ففعلوا وشفعوا، فشفعهم وقال لعيسى: إني كنت دفعت إليك عمي وعمك ليكون في منزلك، وقد كلمني عمومتك فيه وقد صفحت عنه فائتنا به، قال: يا أمير المؤمنين، ألم تأمرني بقتله فقتلته؟ قال: ما أمرتك؟ قال: بل أمرتني، قال: ما أمرتك إلا بحبسه وقد كذبت، ثم قال المنصور لعمومته: إن هذا قد أقر بقتل أخيكم، قالوا: فادفعه إلينا نقيده به. فسلمه إليهم وخرجوا به إلى الرحبة، واجتمع الناس وشهر الأمر وقام أحدهم ليقتله، فقال عيسى: أفاعل أنت؟ قال: إي والله! قال: ردوني إلى أمير المؤمنين. فردوه إليه، فقال له: إنما أردت بقتله أن تقتلني، هذا عمك حي سوي، قال: ائتنا به. فأتاه به، قال: يدخل حتى أرى رأيي، ثم انصرفوا فأمر فجعل في بيت أساسه ملح، وأجري الماء في أساسه فسقط عليه فمات.
وهذه الرواية يؤيدها أكثر المؤرخين من العرب. وقد فعل أبو مسلم مع سليمان بن كثير - وكان من أركان هذه الدولة - ما يضيف حلقة إلى سلسلة الاضطهادات التي ارتكبت تأييدا لهذا الملك، فقد أحضره إليه وقال له: أتحفظ قول الإمام لي: «من اتهمته فاقتله؟» قال: نعم، قال: فإني قد اتهمتك. فخاف سليمان وقال: أناشدك الله! قال: لا تناشدني؛ فأنت منطو على غش الإمام. وأمر بضرب عنقه.
وقد سئم الناس هذه الحالة وثار بعض أمراء بني العباس أنفسهم احتجاجا على ما أريق من الدماء، فقد جاء في الأغاني في أخبار عبد الله بن عمر العقيلي الشاعر المخضرم، أن محمد بن عبد الله لما سمع للعقيلي قصيدته التي مطلعها:
تقول أمامة لما رأت
نشوزي عن المضجع الأنفس
والتي ختامها:
فما أنس لا أنس قتلاهم
ولا عاش بعدهم من نسي
بكى واستعبر، فقال له عمه الحسن بن الحسن بن علي: أتبكي على بني أمية وأنت تريد ببني العباس ما تريد؟! فقال: «والله يا عم، لقد كنا نقمنا على بني أمية ما نقمنا، فما بنو العباس إلا أقل خوفا لله منهم، وإن الحجة على بني العباس لأوجب منها عليهم، ولقد كانت للقوم أخلاق ومكارم ليست لأبي جعفر.»
وذكر الأصفهاني أيضا أن محمدا وآله وهبوا للشاعر مالا لمدحته تلك، وهكذا تغيرت نفوس آل البيت من إسراف العباسيين في الفتك والقتل.
1 •••
وماذا كان حظ أبي مسلم؟ وكيف كان جزاؤه على ذلك الإخلاص الدموي؟ كان جزاؤه أن قتل بيد الخليفة نفسه عملا بسنته المعروفة: «اقتل من اتهمته»، مع أنه كان لا يقطع أمرا دونه.
وقد ذكر الجاحظ أن المنصور لما هم بقتل أبي مسلم سقط بين الاستبداد برأيه والمشاورة فيه، فأرق في ذلك ليلته، فلما أصبح دعا بإسحاق بن مسلم العقيلي، فقال له: حدثني حديث الملك الذي أخبرتني عنه بحران، قال: أخبرني أبي عن الحصين بن المنذر أن ملكا من ملوك فارس - يقال له: سابور الأكبر - كان له وزير ناصح قد اقتبس أدبا من آداب الملوك، وشاب ذلك بفهم في الدين، فوجهه سابور داعية إلى خراسان، وكانوا قوما عجما يعظمون الدين جهالة بالدين، ويخلون بالدين استكانة لقوة الدنيا وذلا لجبابرتها، فجمعهم على دعوة من الهوى يكيد به مطالب الدنيا، واعتز بقتل ملوكهم لهم وتخولهم إياهم - وكان يقال: لكل ضعيف صولة، ولكل ذليل دولة - فلما تلاحمت أعضاء الأمور التي لقح استحالت حربا عوانا شالت أسافلها بأعاليها، فانتقل العز إلى أرذلهم، والنباهة إلى أخملهم، فأشربوا له حبا مع خفض من الدنيا افتتح بدعوة من الدين، فلما استوسقت له البلاد بلغ سابور أمرهم وما أحال عليه من طاعتهم، ولم يأمن زوال القلوب وغدرات الوزراء، فاحتال في قطع رجائه عن قلوبهم - وكان يقال:
وما قطع الرجاء بمثل يأس
تبادهه القلوب على اغترار
فصمم على قتله عند وروده عليه برؤساء أهل خراسان وفرسانهم، فقتله، فبغتهم بحدث فلم يرعهم إلا ورأسه بين أيديهم، فوقف بهم بين الغربة ونأي الرجعة وتخطف الأعداء، وتفرق الجماعة، واليأس من صاحبهم، فرأوا أن يستتموا الدعوة بطاعة سابور، ويتعوضوه من الفرقة، فأذعنوا له بالملك والطاعة، وتبادروه بمواضع النصيحة، فملكهم حتى مات حتف أنفه. فأطرق المنصور مليا ثم رفع رأسه وهو يقول:
لذي الحلم قبل اليوم ما تقرع العصا
وما علم الإنسان إلا ليعلما
وأمر إسحاق بالخروج ودعا بأبي مسلم، فلما نظر إليه داخلا قال:
قد اكتنفتك خلات ثلاث
جلبن عليك محذور الحمام
خلافك وامتنانك ترتميني
وقودك للجماهير العظام
ثم وثب إليه ووثب معه بعض حشمه بالسيوف، فلما رآهم وثب فبدره المنصور فضربه ضربة طوحه منها، ثم قال:
اشرب بكأس كنت تسقي بها
أمر في الحلق من العلقم
زعمت أن الدين لا يقتضى
كذبت فاستوف أبا مجرم
ثم أمر فخز رأسه وبعث به إلى أهل خراسان وهم ببابه، فجالوا حوله ساعة ثم ردهم عن شغبهم انقطاعهم عن بلادهم وإحاطة الأعداء بهم، فذلوا وسلموا له، فكان إسحاق إذا رأى المنصور قال:
وما ضربوا لك الأمثال إلا
لتحذو إن حذوت على مثال
وكان المنصور إذا رآه قال:
وخلفها سابور للناس يقتدى
بأمثالها في المعضلات العظائم
وما أجمل تلك الجملة التي قالها محمد بن عبد الله العلوي حين أمنه المنصور على نفسه، فقد قال: أي أمان تعطيني؛ أمان ابن هبيرة ، أم أمان عمك عبد الله، أم أمان أبي مسلم؟!
ولقد تنفس المنصور حين قتل أبا مسلم، حتى قال له بعض أقربائه ساعة قتله: عد هذا اليوم أول يوم من خلافتك. •••
على أنه من الحق أن نقرر أن عدوان المنصور وإسرافه في التنكيل بخصومه له قيمته في الدلالة على عرفانه بحق الملك، وحرصه على نجاة الدولة من أخطار البغي والخروج على النظام، ففي سبيل هذه الغاية أسرف في سفك الدماء، وتقطيع الأرحام، وقتل أمثال بني الحسن والحسين، والديباج الأصفر، والنفس الزكية، وقتل عمه وقائده، وترك خزانة رءوس فيما ترك ميراثا لابنه المهدي.
ولقد كان مع هذه القسوة ثاقب الرأي، محكم التدبير، وهو الذي يقول لابنه المهدي: «يا أبا عبد الله، ليس العاقل الذي يحتال للأمر الذي وقع فيه حتى يخرج منه، ولكنه الذي يحتال للأمر الذي غشيه حتى لا يقع فيه.»
وقد ذكر المؤرخون أنه كان إذا جنى على أحد جناية، أو أخذ من أحد مالا جعله في بيت المال مفردا، وكتب عليه اسم صاحبه، فلما أدركته الوفاة قال لابنه المهدي: «يا بني، إني قد أفردت كل شيء أخذته من الناس على وجه الجناية والمصادرة، وكتبت عليه أسماء أصحابه؛ فإذا وليت أنت فأعده على أربابه ليدعو لك الناس ويحبوك.» وفي عهد المنصور أنشئت «بغداد» موئل العلم ودار السلام.
هوامش
الفصل السادس
المهدي
عيناي واحدة ترى مسرورة
بأميرها جذلى وأخرى تذرف
تبكي وتضحك تارة ويسوءها
ما أنكرت ويسرها ما تعرف
فيسوءها موت الخليفة محرما
ويسرها أن قام هذا يخلف
ما إن رأيت كما رأيت ولا أرى
شعرا أسرحه وآخر أنتف
هذا حباه الله فضل خلافة
ولذلك جنات النعيم تزخرف
بهذه الأبيات الرقيقة كان أبو دلامة أول من تقدم بتعزية المهدي بوفاة والده المنصور، وتهنئته بارتقاء عرش الخلافة سنة ثمان وخمسين ومائة للهجرة.
وقد كان المهدي - فيما أجمع عليه الرواة - شهما فطنا كريما، شديد البأس في تعقب الملحدين والزنادقة، لا تأخذه في إهلاكهم لومة لائم.
وكان كثيرا ما يجلس لرد المظالم، وقد عرف عنه أنه كان إذا جلس للمظالم قال: «أدخلوا علي القضاة، فلو لم يكن ردي للمظالم إلا للحياء منهم لكفى.»
وروى الطبري في حوادث سنة تسع وستين ومائة، أن مسور بن مساور قال: «ظلمني وكيل للمهدي وغصبني ضيعة لي، فأتيت سلاما صاحب المظالم فتظلمت منه، وأعطيته رقعة مكتوبة، فأوصل الرقعة إلى المهدي وعنده عمه العباس بن محمد وابن علاثة وعافية القاضي، قال: فقال لي المهدي: ادنه. فدنوت، فقال: ما تقول؟ قلت: ظلمتني، قال: فترضى بأحد هذين؟ قلت: نعم، قال: فادن مني، فدنوت منه حتى التزقت بالفراش، قال: تكلم، قلت: أصلح الله القاضي، إنه ظلمني في ضيعتي هذا، فقال القاضي: ما تقول يا أمير المؤمنين؟ قال: ضيعتي وفي يدي، قال: قلت: أصلح الله القاضي، سله صارت الضيعة إليه قبل الخلافة أو بعدها، قال: فسأله ما تقول يا أمير المؤمنين؟ قال: صارت إلي بعد الخلافة، قال: فأطلقها له، قال: قد فعلت، فقال العباس بن محمد: والله يا أمير المؤمنين، لهذا المجلس أحب إلي من عشرين ألف ألف درهم.» •••
أما كرمه فسجية قديمة فيه، وبسببه نال عتب المنصور غير مرة، وقد ذكر الطبري أن المؤمل بن أميل قال: قدمت على المهدي بالري وهو ولي عهد، فأمر لي بعشرين ألف درهم لأبيات امتدحته بها، فكتب بذلك صاحب البريد إلى المنصور وهو بمدينة السلام يخبره أن المهدي أمر لشاعر بعشرين ألف درهم، فكتب إليه المنصور يعذله ويقول له: إنما كان ينبغي لك أن تعطي الشاعر بعد أن يقيم ببابك سنة أربعة آلاف درهم، قال المؤمل: فكتب إلى كاتب المهدي أن يوجه إليه الشاعر، فطلب فلم يقدر عليه، فكتب إليه: إنه قد توجه إلى مدينة السلام، فوجه المنصور قائدا من قواده فأجلسه على جسر النهروان، وأمره أن يتصفح الناس رجلا رجلا ممن يمر به حتى يظفر بالمؤمل، فلما رآه قال له: من أنت؟ قال: أنا المؤمل بن أميل من زوار الأمير المهدي، قال: إياك طلبت، قال المؤمل: فكاد قلبي ينصدع خوفا من أبي جعفر، فقبض علي ثم أتى بي باب المقصورة وأسلمني إلى الربيع، فدخل إليه الربيع فقال: هذا الشاعر قد ظفرنا به، فقال: أدخلوه علي، فأدخلت عليه فسلمت فرد علي السلام، فقلت: ليس هاهنا إلا خير، قال: أنت المؤمل بن أميل؟ فقلت: نعم، أصلح الله أمير المؤمنين، قال: هيه! أتيت غلاما غرا فخدعته، فقلت: نعم، أصلح الله أمير المؤمنين، أتيت غلاما كريما فخدعته فانخدع، قال: فكأن ذلك أعجبه فقال: أنشدني ما قلت فيه، فأنشدته:
هو المهدي إلا أن فيه
مشابه صورة القمر المنير
تشابه ذا وذا فهما إذا ما
أنارا مشكلان على البصير
فهذا في الظلام سراج ليل
وهذا في النهار سراج نور
ولكن فضل الرحمن هذا
على ذا بالمنابر والسرير
وبالملك العزيز فذا أمير
وما ذا بالأمير ولا الوزير
ونقص الشهر يخمد ذا وهذا
منير عند نقصان الشهور
فيا ابن خليفة الله المصفى
به تعلو مفاخرة الفخور
لئن فت الملوك وقد توافوا
إليك من السهولة والوعور
لقد سبق الملوك أبوك حتى
بقوا من بين كاب أو حسير
وجئت وراءه تجري حثيثا
وما بك حين تجري من فتور
فقال الناس: ما هذان إلا
بمنزلة الخليق من الجدير
لئن سبق الكبير فأهل سبق
له فضل الكبير على الصغير
وإن بلغ الصغير مدى الكبير
لقد خلق الصغير من الكبير
فقال: والله لقد أحسنت! ولكن هذا لا يساوي عشرين ألف درهم، ثم قال لي: أين المال؟ قلت: ها هو ذا، قال: يا ربيع، انزل معه فأعطه أربعة آلاف درهم، وخذ الباقي، قال: فخرج الربيع فحط ثقلي، ووزن لي أربعة آلاف درهم وأخذ الباقي، فلما صارت الخلافة إلى المهدي ولي ابن ثوبان المظالم، فكان يجلس للناس بالرصافة، فإذا ملأ كساءه رقاعا رفعها إلى المهدي، فرفعت إليه يوما رقعة أذكره قصتي، فلما دخل بها ابن ثوبان جعل المهدي ينظر في الرقاع، حتى إذا نظر في رقعتي ضحك، فقال له ابن ثوبان: أصلح الله الأمير، ما رأيتك ضحكت من شيء من هذه الرقاع إلا من هذه الرقعة! قال: هذه رقعة أعرف سببها ، ردوا إليه العشرين ألف درهم، فردت إلي وانصرفت .
ولنترك هذه السماحة في إجازة الشعراء لنرى كيف كانت أريحية المهدي في الإحسان إلى الجماهير، فقد ذكر الطبري في حوادث سنة ستين ومائة، أن المهدي قسم في تلك السنة مالا عظيما في أهل مكة وفي أهل المدينة كذلك، وأنه نظر فيما قسم في تلك السفرة، فوجد ثلاثين ألف ألف درهم حملت معه، ووصلت من مصر ثلاثمائة ألف دينار، ومن اليمن مائتا ألف دينار، فقسم ذلك كله، وفرق من الثياب مائة ألف ثوب وخمسين ألف ثوب. •••
وكان المهدي إلى جانب جوده وسخائه حييا خجولا وبرا رحيما؛ دخل عليه رجل فقال: يا أمير المؤمنين، إن المنصور شتمني وقذف أمي، فإما أمرتني أن أحله، وإما عوضتني واستغفرت الله له، قال المهدي: ولم شتمك؟ قال: شتمت عدوه بحضرته فغضب، قال: ومن عدوه الذي غضب لشتمه؟ قال: إبراهيم بن عبد الله بن حسن، قال: إن إبراهيم أمس به رحما، وأوجب عليه حقا، فإن كان شتمك كما زعمت فعن رحمه ذب، وعن عرضه دفع، وما أساء من انتصر لابن عمه، قال: إنه كان عدوا له، قال: فلم ينتصر للعداوة وإنما انتصر للرحم. فأسكت الرجل، فلما ذهب ليولي قال: لعلك أردت أمرا فلم تجد له ذريعة عندك أبلغ من هذه الدعوى، قال: نعم، قال: فتبسم المهدي وأمر له بخمسة آلاف درهم.
ولننظر إلى ما يرويه الربيع عنه، قال: رأيت المهدي يصلي في بهو له في ليلة مقمرة، فما أدرى أهو أحسن أم البهو أم القمر أم ثيابه؟! قال: فقرأ هذه الآية:
فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم
قال: فأتم صلاته والتفت إلي فقال: يا ربيع، قلت: لبيك يا أمير المؤمنين، قال: علي بموسى، وقام إلى صلاته، قال: فقلت: من موسى؟ أابنه موسى أم موسى بن جعفر - وكان محبوسا عندي - قال: فجعلت أفكر، قال: فقلت: ما هو إلا موسى بن جعفر، قال: فأحضرته، قال: فقطع المهدي صلاته وقال: يا موسى، إني قرأت هذه الآية:
فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم
فخفت أن أكون قطعت رحمك، فوثق لي أنك لا تخرج علي، قال: فقال: نعم. فوثق له وخلاه.
ومثل هذا ما حدث به علي بن صالح قال: غضب المهدي على بعض القواد - وكان عتب عليه غير مرة - فقال له: إلى متى تذنب إلي وأعفو؟! قال: إلى أبد نسيء ويبقيك الله فتعفو عنا. فكررها عليه مرات، فاستحى منه ورضي عنه.
ثم لننتقل إلى حوادث سنة ثمان وخمسين ومائة، فنرى النوفلي يحدثنا عن البيعة للمهدي وما كان من أمر الربيع فيها، فيقول: إن الربيع تناول يد الحسن بن زيد فقال: قم يا أبا محمد فبايع، فقام معه الحسن، فانتهى به الربيع إلى موسى فأجلسه بين يديه، فتناول الحسن يد موسى ثم التفت إلى الناس فقال: يا أيها الناس، إن أمير المؤمنين المنصور كان ضربني واستصفى مالي، فكلمه المهدي فرضى عني، وكلمه في رد مالي علي فأبى ذلك، فأخلفه المهدي من ماله وأضعفه مكان كل علق علقين، فمن أولى بأن يبايع لأمير المؤمنين بصدر منشرح، ونفس طيبة، وقلب ناصح مني، ثم بايع موسى للمهدي، ثم مسح على يده. •••
وبعد، فالمهدي من الخلفاء العباسيين في الذؤابة، وقد صدق الأستاذ «ميور» إذ يقول: إن المهدي كان في إدارته لشئون رعيته كمن يعمل بوجه عام على رفاهية الأمة وإسعادها، وكان معينا ومعجلا للعصر الذهبي الذي تلا أيامه، وما أخذ عليه من بعض الهنات لا يمنع المؤرخ المنصف أن يرى في عصره ترفيها للناس مما كانوا يعانون من الشدة أيام المنصور.
كان المهدي موفقا في اختيار وزرائه، وإن كانت السعاية أحلت ببعضهم العذاب وسوء المصير، وكان دقيقا في نظره للأمور، وقد بدأ خلافته بإطلاق من كان في سجن المنصور، إلا من كان قبله تباعة من دم أو قتل، ومن كان معروفا أنه يسعى في الأرض بالفساد، أو كان لأحد قبله مظلمة، وإنما أطلق من كان جرمهم سياسيا.
وكان محبا للأدب مشجعا على التأليف فيه، جادا في طلب الزنادقة والبحث عنهم في الآفاق، محبا للغزوات والفتوح، وقد قيل: إنه كان لا يشرب النبيذ وإن كان سماره يشربونه في مجلسه، وكان محبا للسماع.
ويخبرنا الطبري في حوادث سنة تسع وستين ومائة، أن المهدي مات مسموما، وقد لبست عليه قيانه المسوح، فقال أبو العتاهية في ذلك:
رحن في الوشي وأصبح
ن عليهن المسوح
كل نطاح من الده
ر له يوم نطوح
لست بالباقي ولو عم
رت ما عمر نوح
فعلى نفسك نح إن
كنت لا بد تنوح
والظاهر مما قدمناه أن المهدي كان يخالف أباه المنصور مخالفة شديدة من بعض النواحي، ويلائمه ملاءمة ما من نواح أخر؛ كان كريما مهينا للمال، بينما كان أبوه بخيلا شحيحا، ولكنه ورث عن أبيه بعض القسوة والميل إلى سفك الدماء.
1
ولم تكن السياسة لتعينه على ذلك، فقد ثبت له المنصور أركان الملك، فالتمس الدماء في تتبع الزنادقة والفتك بهم، وأسرف في ذلك حتى قتل بعض الأبرياء في قسوة تمثلها قصته مع ابن وزيره أبي عبيد الله.
وفي المهدي ناحية جديدة في خلفاء العباسيين هي الميل إلى الاعتدال السياسي في معاملة الطالبيين؛ فقد كان على شيء من الرفق بهم والعطف عليهم، لا يمنعه من اتقائهم والإشفاق منهم. وهذه السياسة الرقيقة الحازمة تذكرنا بعض التذكير بما سيكون من سياسة المأمون.
ومن أظهر خصال المهدي الشخصية غيرته على النساء، تلك التي أغرته ببشار فضربه حتى مات؛ متعللا بزندقته وإن كانت العلة الحقيقية هي استهتار بشار بالغزل.
2
وقد أورث المهدي غيرته هذه ابنه الهادي كما سترى.
هوامش
الفصل السابع
الهادي
قال محمد بن علي بن طباطبا في كتاب «الآداب السلطانية»: كان الهادي متيقظا غيورا كريما، شديد البطش، جريء القلب، مجتمع الحس، ذا إقدام وعزم وحزم.
ونحن نخشى أن يكون في هذا الثناء إسراف كثير، فلم يطل عهد الهادي بالخلافة ليمكن الحكم له أو عليه، وإنما مر بها مرور الطيف.
ومع ذلك فقد أكثر المؤرخون من التحدث عنه بالخير، وليس يستوقفنا من سيرته كلها إلا ثلاثة أمور:
الأول: ما ذكره عنه عبد الله بن عبد الملك قال: كنت أتولى الشرطة للمهدي، وكان المهدي يبعث إلى ندماء الهادي ومغنيه، ويأمرني بضربهم، وكان الهادي يسألني الرفق بهم والترفيه لهم ولا ألتفت إلى ذلك، وأمضي لما أمرني به المهدي، قال: فلما ولي الهادي الخلافة أيقنت بالتلف، فبعث إلي يوما، فدخلت عليه متكفنا متحنطا، وإذا هو على كرسي والسيف والنطع بين يديه، فسلمت، فقال: لا سلم الله على الآخر! تذكر يوم بعثت إليك في أمر الحراني وما أمر أمير المؤمنين به من ضربه وحبسه فلم تجبني؟ وفي فلان وفلان - وجعل يعدد ندماءه - فلم تلتفت إلى قولي ولا أمري؟ قلت: نعم، يا أمير المؤمنين، أفتأذن لي في استيفاء الحجة؟ قال: نعم، قلت: ناشدتك بالله يا أمير المؤمنين، أيسرك أنك وليتني ما ولاني أبوك، فأمرتني بأمر فبعث إلي بعض بنيك بأمر يخالف به أمرك، فاتبعت أمره وعصيت أمرك؟ قال: لا، قلت: فكذلك أنا لك، وكذا كنت لأبيك. فاستدناني فقبلت يديه، فأمر بخلع فصبت علي، وقال: قد وليتك ما كنت تتولاه، فامض راشدا. فخرجت من عنده فصرت إلى منزلي مفكرا في أمري وأمره، وقلت: حدث يشرب والقوم الذين عصيته في أمرهم ندماؤه ووزراؤه وكتابه، فكأني بهم حين يغلب عليهم الشراب قد أزالوا رأيه في وحملوه من أمري على ما كنت أكره وأتخوف، قال: فإني لجالس وبين يدي بنية لي في وقتي ذلك، وكانون بين يدي، ورقاق أشطره بكامخ وأسخنه وأضعه للصبية، وإذا ضجة عظيمة حتى توهمت أن الدنيا قد اقتلعت وتزلزلت بوقع الحوافر وكثرة الضوضاء، فقلت: هاه! كان والله ما ظننت، ووافاني من أمره ما تخوفت، فإذا الباب قد فتح، وإذا الخدم قد دخلوا، وإذا أمير المؤمنين الهادي على حمار في وسطهم، فلما رأيته وثبت عن مجلسي مبادرا، فقبلت يده ورجله وحافر حماره، فقال لي: يا عبد الله، إني فكرت في أمرك فقلت: يسبق إلى قلبك أني إذا شربت وحولي أعداؤك أزالوا ما حسن من رأيي فيك، فأقلقك وأوحشك، فصرت إلى منزلك لأونسك وأعلمك أن السخيمة قد زالت عن قلبي لك، فهات فأطعمني مما كنت تأكل، فأفعل فيه ما كنت تفعل، لتعلم أني قد تحرمت بطعامك، وأنست بمنزلك، فيزول خوفك ووحشتك. فأدنيت إليه ذلك الرقاق والسكرجة التي فيها الكامخ فأكل منها، ثم قال: هاتوا الزلة التي أزللتها لعبد الله من مجلسي، فأدخلت إلي أربعمائة بغلة موقرة دراهم، وقال: هذه زلتك فاستعن بها على أمرك، واحفظ لي هذه البغال عندك لعلي أحتاج إليها يوما لبعض أسفاري، ثم قال: أظلك الله بخير، وانصرف راجعا. ونحن وإن كنا نفترض في هذه الرواية وأمثالها المبالغة، نرى أنها تدل في جملتها على بصر بالسياسة، وفطنة في العلم بالناس، والانتفاع بكفاياتهم.
الأمر الثاني: وقوفه موقف حزم نعتقد أنه أنقذ القصر العباسي من شر عظيم أفسد على ملوك الفرس قصورهم، كما أفسد على العباسيين أنفسهم أمور الخلافة بعد عصر المأمون؛ ذلك هو تدخل النساء في أمور الدولة.
فقد ذكر الطبري أن الخيزران والدة الهادي كانت في أول خلافته تفتات عليه في أموره، وتسلك به مسلك أبيه من قبله في الاستبداد بالأمر والنهي، فأرسل إليها ألا تخرجي من خفر الكفاية إلى بذاذة التبذل؛ فإنه ليس من قدر النساء الاعتراض في أمر الملك، وعليك بصلاتك وتسبيحك وتبتلك، ولك بعد هذا طاعة مثلك فيما يجب لك. قال: وكانت الخيزران في خلافة موسى كثيرا ما تكلمه في الحاجات، فكان يجيبها إلى كل ما تسأله، حتى مضى لذلك أربعة أشهر من خلافته، وانثال الناس عليها وطمعوا فيها، فكانت المواكب تغدو إلى بابها، فقال: فكلمته يوما في أمر لم يجد إلى إجابتها إليه سبيلا، فاعتل بعلة، فقالت: لا بد من إجابتي، قال: لا أفعل، قالت: فإني قد تضمنت هذه الحاجة لعبد الله بن مالك، قال: فغضب موسى وقال: ويل على ابن الفاعلة! قد علمت أنه صاحبها، والله لا قضيتها له، قالت: إذن والله لا أسألك حاجة أبدا، قال: إذن والله لا أبالي. وحمي وغضب، فقامت مغضبة، فقال: مكانك تستوعي كلامي، والله - وإلا فأنا نفي من قرابتي من رسول الله
صلى الله عليه وسلم - لئن بلغني أنه وقف ببابك أحد من قوادي أو أحد من خاصتي أو خدمي لأضربن عنقه، ولأقبضن ماله، فمن شاء فليلزم ذلك! ما هذه المواكب التي تغدو وتروح إلى بابك في كل يوم؟ أما لك مغزل يشغلك، أو مصحف يذكرك، أو بيت يصونك؟! إياك ثم إياك ما فتحت بابك لملي أو لذمي. فانصرفت ما تعقل ما تطأ، فلم تنطق عنده بحلوة ولا مرة بعدها.
ولم يكتف الهادي بكلامه معها، بل جمع قواده يوما وقال لهم: أيما خير أنا أم أنتم؟ قالوا: بل أنت يا أمير المؤمنين، قال: فأيما خير أمي أم أمهاتكم؟ قالوا: بل أمك يا أمير المؤمنين، قال: فأيكم يحب أن يتحدث الرجال بخبر أمه فيقولوا فعلت أم فلان، وصنعت أم فلان، وقالت أم فلان؟ قالوا: ما أحد منا يحب ذلك، قال: فما بال الرجال يأتون أمي فيتحدثون بحديثها! فلما سمعوا ذلك انقطعوا عنها البتة، فشق ذلك عليها فاعتزلته وحلفت لا تكلمه، فما دخلت عليه حتى حضرته الوفاة.
وقد قالوا: إن الهادي حاول سمها فلم يفلح، على أن الخيزران أفلحت في القضاء عليه حين مرض؛ فقد ذكروا أنها دست إليه من جواريها من قتلته بالجلوس على وجهه.
لننتقل الآن إلى الأمر الثالث، وهو محاولته الغدر بأخيه الرشيد، ولننظر في حوادث سنة سبعين ومائة؛ لنرى كيف أخلص آل برمك للرشيد، فقد هم الهادي بتحويل الخلافة عنه لابنه جعفر، ولكن يحيى بن خالد ثبت في المحافظة على ولاية هارون، محتملا في ذلك كل مكروه، وكان لبطانة الهادي أثر سيئ في تشجيعه على خلع الرشيد ومبايعة جعفر، وكان فيمن بايعه يزيد بن مزيد، وعبد الله بن مالك، وعلي بن عيسى ومن أشبههم من أصحاب الأغراض.
ولم تزد الحوادث يحيى بن خالد إلا حرصا على حق الرشيد، فصار يعلله ويسري عنه، ولولاه لخلع الرشيد نفسه بعد أن تنقصوه في مجلس الجماعة وقالوا: لا نرضى به، وصعب أمرهم حتى ظهر، وأمر الهادي ألا يسار قدام الرشيد بحربة، فاجتنبه الناس.
أما الأخبار عن كرمه فكثيرة؛ فمن ذلك ما رواه الطبري في حوادث سنة سبعين ومائة، أنه أمر ذات ليلة بثلاثين ألف دينار لعيسى بن دأب أحد جلاسه، وكان - كما وصفه الطبري - لذيذ الفكاهة، طيب المسامرة، كثير النادرة.
ويقول علي بن صالح: إنه كان يوما على رأس الهادي وهو غلام، وقد كان جفا المظالم عامة ثلاثة أيام، فدخل عليه الحراني فقال له: يا أمير المؤمنين، إن العامة لا تنقاد على ما أنت عليه، لم تنظر في المظالم منذ ثلاثة أيام، فالتفت إلي وقال: يا علي، ائذن للناس علي بالجفلى لا بالنقرى. فخرجت من عنده أطير على وجهي، ثم وقفت فلم أدر ما قال لي، فقلت: أراجع أمير المؤمنين فيقول: أتحجبني ولا تعلم كلامي؟! ثم أدركني ذهني، فبعثت إلى أعرابي كان قد وفد، وسألته عن الجفلي والنقري، فقال: الجفلي جفالة، والنقري بنقر خواصهم، فأمرت بالستور فرفعت، وبالأبواب ففتحت، فدخل الناس على بكرة أبيهم، فلم يزل ينظر في المظالم إلى الليل، فلما تقوض المجلس مثلث بين يديه، فقال: كأنك تريد أن تذكر شيئا يا علي، قلت: نعم يا أمير المؤمنين، كلمتني بكلام لم أسمعه قبل يومي هذا، وخفت مراجعتك فتقول: أتحجبني وأنت لم تعلم كلامي! فبعثت إلى أعرابي كان عندنا ففسر لي الكلام، فكافئه عني يا أمير المؤمنين، قال: نعم، مائة ألف درهم تحمل إليه، قال: فقلت: يا أمير المؤمنين، إنه أعرابي جلف وفي عشرة آلاف درهم ما أغناه وكفاه، فقال: ويلك يا علي؛ أجود وتبخل! •••
وكان الهادي شديد الغيرة، ظاهر الشهامة. وهاك حديثا لا يخلو من الأدب والفكاهة حدث به السندي بن شاهك قال: كنت مع موسى بجرجان فأتاه نعي المهدي والخلافة، فركب البريد إلى بغداد ومعه سعيد بن سلم، ووجهني إلى خراسان، فحدثني سعيد بن سلم قال: سرنا بين أبيات جرجان وبساتينها، قال: فسمع صوتا من بعض تلك البساتين من رجل يتغنى، فقال لصاحب شرطته: علي بالرجل الساعة، قال: فقلت: يا أمير المؤمنين، ما أشبه قصة هذا الخائن بقصة سليمان بن عبد الملك! قال: وكيف ؟ قال: قلت له: كان سليمان بن عبد الملك في متنزه له ومعه حرمه، فسمع من بستان آخر صوت رجل يتغنى، فدعا صاحب شرطته فقال: علي بصاحب الصوت، فأتى به، فلما مثل بين يديه قال له: ما حملك على الغناء وأنت إلى جنبي ومعي حرمي، أما علمت أن الرماك
1
إذا سمعت صوت الفحل حنت إليه؟ يا غلام، جبه، فجب الرجل، فلما كان في العام المقبل رجع سليمان إلى ذلك المتنزه فجلس مجلسه الذي جلس فيه، فذكر الرجل وما صنع به، فقال لصاحب شرطته: علي بالرجل الذي كنا جببناه فأحضره، فلما مثل بين يديه قال له: إما بعت فوفيناك، وإما وهبت فكافأناك، قال: فوالله ما دعاه بالخلافة ولكنه قال له: يا سليمان، الله الله، إنك قطعت نسلي فذهبت بماء وجهي، وحرمتني لذتي، ثم تقول: إما وهبت فكافأناك، وإما بعت فوفيناك! لا والله حتى أقف بين يدي الله! قال: فقال موسى: يا غلام، رد صاحب الشرطة، فرده، فقال: لا تعرض للرجل. •••
وأما حبه للنجدة فيحدثنا به عمر بن شبة؛ إذ ذكر أن علي بن الحسين بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، وكان يلقب بالجزري، تزوج رقية بنت عمرو العثمانية، وكانت تحت المهدي، فبلغ ذلك موسى الهادي في أول خلافته، فأرسل إليه فجهله وقال: أعياك النساء إلا امرأة أمير المؤمنين! فقال: ما حرم الله على خلقه إلا نساء جدي
صلى الله عليه وسلم ، فأما غيرهن فلا ولا كرامة. فشجه بمخصرة كانت في يده، وأمر بضربه خمسمائة سوط فضرب، وأراده أن يطلقها فلم يفعل، فحمل من بين يديه في نطع فألقي ناحية، وكان في يده خاتم سري، فرآه بعض الخدم وقد غشي عليه من الضرب فأهوى إلى الخاتم، فقبض على يد الخادم فدقها، فصاح وأتى موسى فأراه يده، فاستشاط وقال: يفعل هذا بخادمي مع استخفافه بأبي وقوله لي! وبعث إليه: ما حملك على ما فعلت؟ قال: قل له وسله ومره أن يضع يده على رأسك وليصدقك. ففعل ذلك موسى فصدقه الخادم، فقال : أحسن والله! أنا أشهد أنه ابن عمي، لو لم يفعل لانتفيت منه. وأمر بإطلاقه. •••
وقد كان الهادي مثل أبيه محبا للآداب مشجعا للشعراء، وكان على سنته في بغض الزنادقة ومقتهم، موفقا في اختيار الوزراء، مصابا كأبيه ببطانة سوء، همها الوقيعة والوشاية وإغراء الخليفة والبيت المالك باجتراح المآثم واقتراف المظالم.
قال الطبري: إن عبد الله بن محمد المنقري حدث عن أبيه قال: دخل عيسى بن دأب على موسى بن عيسى عند منصرفه من فخ،
2
فوجده خائفا يلتمس عذرا من قتل من قتل، فقال له: أصلح الله الأمير، أنشدك شعرا كتب به يزيد بن معاوية إلى أهل المدينة يعتذر فيه من قتل الحسين بن علي رضي الله عنه، قال: أنشدني، فأنشده:
يا أيها الراكب الغادي لطيته
على عذافرة
3
في سيرها قحم
أبلغ قريشا على شحط المزار بها
بيني وبين حسين الله والرحم
وموقف بفناء البيت أنشده
عهد الإله وما ترعى له الذمم
عنفتم قومكم فخرا بأمكم
أم حصان لعمري برة كرم
هي التي لا يداني فضلها أحد
بنت النبي وخير الناس قد علموا
وفضلها لكم فضل وغيركم
من قومكم لهم من فضلها قسم
إني لأعلم أو ظنا كعالمه
والظن يصدق أحيانا فينتظم
أن سوف يترككم ما تطلبون بها
قتلى تهاداكم العقبان والرخم
يا قومنا لا تشبوا الحرب إذ خمدت
ومسكوا بحبال السلم واعتصموا
لا تركبوا البغي إن البغى مصرعة
وإن شارب كأس البغي يتخم
قد جرب الحرب من قد كان قبلكم
من القرون وقد بادت بها الأمم
فأنصفوا قومكم لا تهلكوا بذخا
فرب ذي بذخ زلت به القدم
قال: فسري عن موسى بن عيسى بعض ما كان فيه.
وإذا لم يكن بد من اختصار حياة الهادي في كلمة جامعة فلنقل: إنه ورث عن أبيه المهدي كرمه وغيرته وحبه للأدب، وورث عن جده المنصور حزمه وشيئا من ميله إلى الغدر.
هوامش
الفصل الثامن
هارون الرشيد
يا خيزران هناك ثم هناك
أمسى يسوس العالمين ابناك
بهذا يعلن مروان بن أبي حفصة الشاعر النابه تبوء الرشيد عرش الخلافة بعد أخيه الهادي، بعهد من أبيه سنة سبعين ومائة هجرية، وبهذا يهنئ الشاعر الخيزران بتوقل الرشيد لعرش كانت الخيزران معذبة معناة بمن كان يعتليه قبل الرشيد.
وقد يكون من المستصوب أن نترك ليوسف بن القاسم بن صبيح، كاتب الرشيد، يعلن إلينا ما أعلنه بنفسه إلى العالم العربي من خبر اعتلاء الرشيد للخلافة، فإنه بأسلوبه الرشيق وبلاغته السهلة ومكانته من الرشيد أحق بذلك وأجدر، ولا سيما وقد طيرت قطعته للخافقين منبئة بموت خليفة وتتويج خليفة.
قال يوسف بن القاسم - بعد حمد الله عز وجل والصلاة على النبي
صلى الله عليه وسلم : «إن الله بمنه ولطفه من عليكم معاشر أهل بيت نبيه، بيت الخلافة ومعدن الرسالة، وآتاكم أهل الطاعة، من أنصار الدولة وأعوان الدعوة، من نعمه التي لا تحصى بالعدد، ولا تنقضى مدى الأبد، وأياديه التامة؛ إذ جمع ألفتكم، وأعلى أمركم، وشد عضدكم، وأوهن عدوكم، وأظهر كلمة الحق، وكنتم أولى بها وأهلها، فأعزكم الله وكان الله قويا عزيزا، فكنتم أنصار دين الله المرتضى، والذابين بسيفه المنتضى، عن أهل بيت نبيه
صلى الله عليه وسلم ، وبكم استنقذهم من أيدي الظلمة أئمة الجور، والناقضين عهد الله، والسافكين الدم الحرام، والآكلين الفيء، والمستأثرين به، فاذكروا ما أعطاكم الله من هذه النعمة، واحذروا أن تغيروا فيغير بكم.
وإن الله جل وعز استأثر بخليفته موسى الهادي الإمام فقبضه إليه، وولى بعده رشيدا مرضيا أمير المؤمنين بكم رءوفا رحيما، من محسنكم قبولا، وعلى مسيئكم بالعفو عطوفا، وهو - أمتعه الله بالنعمة، وحفظ به ما استرعاه إياه من أمر الأمة، وتولاه بما تولى به أولياءه وأهل طاعته - يعدكم من نفسه الرأفة بكم، والرحمة لكم، وقسم أعطياتكم فيكم عند استحقاقكم، ويبذل لكم من الجائزة مما أفاء الله على الخلفاء، مما في بيوت الأموال، ما ينوب عن رزق كذا وكذا شهرا غير مقاص لكم بذلك فيما تستقبلون من أعطياتكم، وحاملا باقي ذلك للدفع عن حريمكم، وما لعله أن يحدث في النواحي والأقطار من العصاة المارقين إلى بيوت الأموال، حتى تعود الأموال إلى جمامها وكثرتها والحال التي كانت عليها؛ فاحمدوا الله، وجددوا شكرا يوجب لكم المزيد من إحسانه إليكم بما جدد لكم من رأي أمير المؤمنين، وتفضل به عليكم، أيده الله بطاعته، وارغبوا إلى الله له في البقاء، ولكم به في إدامة النعماء لعلكم ترحمون، وأعطوا صفقة أيمانكم، وقوموا إلى بيعتكم. حاطكم الله وحاط عليكم، وأصلح بكم وعلى أيديكم، وتولاكم ولاية عباده الصالحين.» •••
بهذا الكتاب القيم البليغ أشعر العالم العربي بابتداء خلافة هارون الذي نستطيع بحق أن نقول: إنه أضخم الخلفاء المسلمين اسما، وأبعدهم صوتا، وأشدهم في الخيال تأثيرا، فأنت لا تستطيع أن تسمع اسم هارون الرشيد حتى يحدث في نفسك صورا خيالية مختلفة النوع، ولكنها متفقة في القوة، فهو ينشئ في نفسك حينا صورة الخليفة المترف، المسرف في الترف الذي بلغ منه ما لم يبلغه أحد قبله ولا بعده، وينشئ في نفسك حينا آخر صورة الخليفة القوي الذي أذل أعداء الإسلام، وبسط سلطان الخلافة على أطراف الأرض، وأخذ ملوك الروم بدفع الجزية، وينشئ فيها مرة أخرى صورة الخليفة الحذر الذي بث الجواسيس ليعرف من أمر الناس ما ظهر وما خفي، ثم لم يكتف بذلك، بل استحال هو جاسوسا يطوف في الأسواق، ويوغل في البيوت، ويغشى المجالس والأندية حتى ألم بكل شيء، وأحاط بكل خفية، ثم بطش بأعدائه والمؤتمرين به بطشا لم يستطع التاريخ أن ينساه، ثم ينشئ في نفسك صورة الخليفة العالم الأديب، الفقيه بألوان العلم والدين والأدب، المشجع للفقهاء والعلماء والشعراء والكتاب تشجيعا أصبح فيه مثلا لمن جاء بعده من الخلفاء والملوك في الشرق والغرب، وينشئ في نفسك أيضا صورة الخليفة الورع الزاهد المتهالك نسكا وطاعة وتبتلا لله، كما ينشيء فيها صورة الخليفة الذي لا يكاد يخلو إلى نفسه ويسدل الستار بينه وبين رعيته حتى يأخذ مع المجان في مجونهم، فيخيل إليك أنه لا يدع من سبل اللذة سبيلا إلا سلكها وجنى ثمارها، فمن غناء إلى شراب إلى عبث، إلى استمتاع بالنساء، من حرائر وإماء، وهو بعد هذا كله سياسي ماهر بعيد النظر في تصريفه الأمور ، فيه حزم المنصور وعنفه، وميله إلى الغدر والأثرة، وكل ما يشخص سياسة «مكياڤلي»، وفيه حلم معاوية ودهاؤه اللين المرن، وسخاؤه بالمال، واصطناعه الناس.
ومن غريب الأمر أن كل هذه الصور المتناقضة التي تتباين أشد التباين قد اجتمعت حقا في شخص هذا الخليفة، لا كما يصورها المؤرخون والرواة والقصاص وأصحاب الأساطير، بل اجتمعت اجتماعا يختلف قوة وضعفا باختلاف الظروف والمؤثرات الكثيرة التي كونت مزاجه وشخصيته، وقصره، وبيئته السياسية العامة، فليس الرشيد في حقيقة الأمر شخصا كغيره من الأشخاص يمثل نفسه وما ورث عن أسرته، ولكنه مرآة اجتمعت أمامها صور مختلفة من الناس والكفايات والظروف، فانعكست فيها هذه الصور.
فالرشيد يمثل كل هؤلاء الناس، وكل هذه الأشياء، وكل هذه الظروف التي شهدتها بغداد قرب آخر القرن الثاني للهجرة، ومن هنا كان من العسير جدا أن نستخلص منه صورة تاريخية صادقة بريئة من الغلو والإسراف.
فأما المؤرخون من العرب فقد تأثروا حين كتبوا عن الخلفاء، وخاصة أصحاب الشخصيات البارزة منهم، بكل ما عرفت أنهم تأثروا به من الإغراق والمبالغة والغلو في المدح مخلصين في أكثر الأحيان.
وأما المؤرخون من الفرنج فلم يسلم أشدهم احتياطا من التأثر بهذه الطائفة الضخمة من الأساطير التي بثها في نفوس الجماعات كتاب «ألف ليلة وليلة» منذ زمن طويل.
وقد ظهر هذا التأثر مظهرين مختلفين؛ مظهر المدح والإسراف فيه عند قوم، ومظهر الذم والإغراق فيه عند قوم آخرين، وأولئك وهؤلاء مخدوعون عن أنفسهم واحتياطهم بكل هذه المبالغات التي أحاطت بإحسان الرشيد وإساءته.
ونحن مجتهدون لا في أن نعطيك هذه الصورة الصادقة من الرشيد التي لا يزال التاريخ محتاجا إليها - فليس ذلك غرضنا في هذا البحث، وليس في هذا الكتاب متسع له - بل في أن نعطيك صورة صادقة من فهم المؤرخين من العرب والفرنجة لعصر الرشيد، غير مهملين مع ذلك أن نسجل آراء لنا هنا وهناك حين نشعر بالحاجة إلى ذلك؛ لتوضيح مذهبنا في فهم عصر المأمون الذي نضع فيه هذا الكتاب . •••
يجمع المؤرخون العرب على ورع الرشيد وفضله وأدبه، وبسطة يده بالخير والعطاء، وانطوائه على الجود والسخاء؛ فقد ذكروا أنه كان يصلي في كل يوم مائة ركعة إلى أن فارق الدنيا إلا أن تعرض له علة، وكان يتصدق من صلب ماله في كل يوم بألف درهم بعد زكاته.
وكان إذا حج حج معه مائة من الفقهاء وأبنائهم، وإذا لم يحج أحج ثلاثمائة بالنفقة السابغة والكسوة الباهرة، وكان يقتفي آثار المنصور ويطلب العمل بها إلا في بذل المال، فإنه لم ير خليفة قبله كان أعطى منه للمال، ثم المأمون من بعده، وكان لا يضيع عنده إحسان محسن، ولا يؤخر ذلك في أول ما يجب ثوابه، وكان يحب الشعراء والشعر، ويميل إلى أهل الأدب والفقه، وبكره المراء في الدين ويقول: هو شيء لا نتيجة له، وبالحري ألا يكون فيه ثواب، وكان يحب المديح ولا سيما من شاعر فصيح، ويشتريه بالثمن الغالي.
ولقد كانت دولة الرشيد - كما يقول الفخري - دولة من أحسن الدول، وأكثرها وقارا ورونقا وخيرا، وأوسعها رقعة مملكة، جبا الرشيد معظم الدنيا، ولم يجتمع على باب خليفة من العلماء والشعراء والفقهاء والقراء والقضاة والكتاب والندماء والمغنين من اجتمعوا على باب الرشيد، وكان يصل كل واحد منهم أجزل صلة، ويرفعه أعلى درجة، وكان فاضلا شاعرا راوية للأخبار والآثار والأشعار، صحيح الذوق والتمييز، مهيبا عند الخاصة والعامة. •••
ولقد حاول الهادي أن يرغم الرشيد على خلع نفسه من الخلافة بعده، وأن يكتب بولاية العهد لابنه جعفر، وقد تم له شيء من ذلك. وإنا لنجد في حوادث سنة سبعين ومائة هجرية الشيء الكثير من إخلاص آل برمك للرشيد، لا سيما شدة محافظة يحيى البرمكي على حقوق الرشيد في ولاية العهد، فعذب وحبس وأوذي في هذا السبيل إيذاء شديدا.
ولقد أظهر الرشيد - وهو ولي عهد - من الجرأة ومتانة الأخلاق والصراحة ما هو حقيق بالإعجاب، ولسنا نرى مندوحة من ذكر الرواية التي ذكرها محمد بن عمر الرومي، فهي تعطينا صورة دقيقة لما نحن بسبيله، فقد حدث عن أبيه قال: جلس موسى الهادي بعدما ملك في أول خلافته جلوسا خاصا، ودعا إبراهيم بن جعفر بن أبي جعفر وإبراهيم بن سلم بن قتيبة والحراني، فجلسوا عن يساره ومعهم خادم له أسود يقال له: أسلم ويكنى أبا سليمان - وكان يثق به ويقدمه - فبينا هو كذلك إذ دخل صالح صاحب المصلى فقال: هارون بن المهدي، فقال: ائذن له. فدخل فسلم عليه وقبل يديه وجلس عن يمينه بعيدا من ناحية، فأطرق موسى ينظر إليه، وأدمن ذلك ثم التفت إليه فقال: يا هارون، كأني بك تحدث نفسك بتمام الرؤيا، وتؤمل ما أنت منه بعيد، ودون ذلك خرط القتاد؛ تؤمل الخلافة! قال: فبرك هارون على ركبتيه وقال: يا موسى، إنك إن تجبرت وضعت، وإن تواضعت رفعت، وإن ظلمت ختلت، وإني لأرجو أن يفضي الأمر إلي فأنصف من ظلمت، وأصل من قطعت، وأصير أولادك أعلى من أولادي، وأزوجهم بناتي، وأبلغ ما يجب من حق الإمام المهدي، قال: فقال له موسى: ذلك الظن بك يا أبا جعفر، ادن مني. فدنا منه فقبل يديه ثم ذهب يعود إلى مجلسه، فقال له: لا والشيخ الجليل، والملك النبيل؛ أعني أباك المنصور، لا جلست إلى معي. وأجلسه في صدر المجلس معه، ثم قال: يا حراني، احمل إلى أخي ألف ألف دينار، وإذا افتتح الخراج فاحمل إليه النصف منه، واعرض عليه ما في الخزائن من مالنا، وما أخذ من أهل بيت اللعنة، فيأخذ جميع ما أراد، قال: ففعل ذلك. ولما قام قال لصالح: ادن دابته إلى البساط.
قال عمرو الرومي: وكان هارون يأنس بي، فقمت إليه فقلت: يا سيدي، ما الرؤيا التي قال لك أمير المؤمنين؟ قال: قال المهدي: أريت في منامي كأني دفعت إلى موسى قضيبا وإلى هارون قضيبا، فأورق من قضيب موسى أعلاه قليلا، فأما هارون فأورق قضيبه من أوله إلى آخره، فدعا المهدي الحكم بن موسى الضمري، وكان يكنى أبا سفيان، فقال له: عبر هذه الرؤيا، فقال: يملكان جميعا، فأما موسى فتقل أيامه، وأما هارون فيبلغ مدى ما عاش خليفة، وتكون أيامه أحسن أيام، ودهره أحسن دهر، قال : ولم يلبث إلا أياما يسيرة ثم اعتل موسى ومات، وكانت علته ثلاثة أيام.
قال عمرو الرومي: أفضت الخلافة إلى هارون فزوج حمدونة من جعفر بن موسى، وفاطمة من إسماعيل بن موسى، ووفى بكل ما قال، وكان دهره أحسن الدهور. •••
ولقد كان الرشيد مشغوفا بالفنون والعلوم، وكان قصره الزاهي الزاهر مركزا لمختلف الثقافات، وأما ولعه بالشعر وضروب الآداب وإجازته الشعراء بسخاء، فالحديث في ذلك طويل المناحي.
وكان الرشيد مع استمتاعه بمرافه الحياة ومناعمها تزوج ست زوجات، وتسرى عشرين أمة ذكر أسماءهن الطبري، وأسماء أولاده منهن، وكان - مع تبرج المدنية في أيامه، ومع إحيائه أندية اللغة والآداب والمنادمة - ورعا متأثرا بالمواعظ والزهديات. وسنذكر لك طرفا من مواقفه الدالة على خشيته لله وأدبه وورعه وتواضعه.
أما خشيته لله وأدبه؛ فقد ذكر بعضهم أنه كان من صحابة الرشيد بالرقة بعد أن شخص من بغداد، فخرج معه يوما إلى الصيد، فعرض له رجل من النساك فقال: يا هارون، اتق الله، فقال لإبراهيم بن عثمان بن بهيك: خذ هذا الرجل إليك حتى أنصرف. فلما رجع دعا بغدائه، ثم أمر أن يطعم الرجل من خاص طعامه، فلما أكل وشرب دعا به فقال: يا هذا، أنصفني في المخاطبة والمساءلة! قال: ذاك أقل مما يجب لك، قال: فأخبرني أنا شر وأخبث أم فرعون؟ قال: بل فرعون؛ قال:
أنا ربكم الأعلى
وقال:
ما علمت لكم من إله غيري ، قال: صدقت، فأخبرني فمن خير: أنت أم موسى بن عمران؟ قال: موسى كليم الله وصفيه اصطفاه لنفسه، وائتمنه على وحيه، وكلمه من بين خلقه، قال: صدقت، أفما تعلم أنه لما بعثه وأخاه إلى فرعون قال لهما:
فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى - ذكر المفسرون أنه أمرهما أن يكنياه - هذا وهو في عتوه وجبروته، على ما قد علمت، وأنت جئتني وأنا بهذه الحالة التي تعلم؛ أؤدي أكثر فرائض الله علي، ولا أعبد أحدا سواه، أقف عند أكبر حدوده وأمره ونهيه، فوعظتني بأغلظ الألفاظ وأشنعها، وأخشن الكلام وأفظعه، فلا بأدب الله تأدبت ، ولا بأخلاق الصالحين أخذت، فما كان يؤمنك أن أسطو بك، فإذا أنت قد عرضت نفسك لما كنت عنه غنيا؟ قال الزاهد: أخطأت يا أمير المؤمنين، وأنا أستغفرك، قال: قد غفر لك الله. وأمر له بعشرين ألف درهم، فأبى أن يأخذها وقال: لا حاجة لي في المال؛ أنا رجل سائح، فقال هرثمة وخزره: ترد على أمير المؤمنين، يا جاهل، صلته؟! فقال الرشيد: أمسك عنه، ثم قال له: لم نعطك هذا المال لحاجتك إليه، ولكن من عادتنا أنه لا يخاطب الخليفة أحد ليس من أوليائه ولا أعدائه إلا وصله ومنحه؛ فاقبل من صلتنا ما شئت، وضعها حيث أحبب. فأخذ من المال ألفي درهم وفرقها على الحجاب ومن حضر الباب.
وأما ورعه فقد ذكر أن أبا مريم المدني كان مع الرشيد، وكان مضحاكا له محداثا فكها، فكان الرشيد لا يصبر عنه ولا يمل محادثته، وكان ممن قد جمع إلى ذلك المعرفة بأخبار أهل الحجاز وألقاب الأشراف ومكايد المجان، فبلغ من خاصته بالرشيد أن بوأه منزلا في قصره، وخلطه بحرمه وبطانته ومواليه وغلمانه، فجاء ذات ليلة وهو نائم وقد طلع الفجر، وقام الرشيد إلى الصلاة فألفاه نائما، فكشف اللحاف عن ظهره ثم قال له: كيف أصبحت؟ قال: يا هذا، ما أصبحت بعد، اذهب إلى عملك، قال: ويلك، قم إلى الصلاة، قال: هذا وقت صلاة أبي الجارود، وأنا من أصحاب أبي يوسف القاضي. فمضى وتركه نائما، وتأهب الرشيد للصلاة فجاء غلامه فقال: أمير المؤمنين قد قام إلى الصلاة. فقام فألقى عليه ثيابه ومضى نحوه، فإذا الرشيد يقرأ في صلاة الصبح، فانتهى إليه وهو يقرأ:
وما لي لا أعبد الذي فطرني
فقال ابن أبي مريم: لا أدري والله! فما تمالك الرشيد أن ضحك في صلاته، ثم التفت إليه وهو كالمغضب فقال: يا ابن أبي مريم، في الصلاة أيضا؟ قال: يا هذا، وما صنعت؟ قال: قطعت علي صلاتي، قال: والله ما فعلت، إنما سمعت منك كلاما غمني حين قلت:
وما لي لا أعبد الذي فطرني
فقلت: لا أدري والله! فعاد فضحك وقال: إياك والقرآن والدين، ولك ما شئت بعدهما.
وأما تواضعه فنترك الكلمة فيه لأبي معاوية الضرير، وهو من علماء دولته، فإنه يقول: أكلت مع الرشيد يوما فصب على يدي الماء رجل فقال: يا أبا معاوية، أتدري من صب الماء على يديك؟ فقلت: لا، يا أمير المؤمنين، قال: أنا، فقلت: يا أمير المؤمنين، أنت تفعل هذا إجلالا للعلم؟ قال: نعم. فتصور إلى أي حد بلغ صنيعه. •••
نترك جانبا الآن التكلم عن البرامكة ونكبة البرامكة إلى فصل مستقل، وربما كان من المصلحة الفنية للكتاب أن يفرد لكل بحث من بحوثه باب خاص نستوعب فيه ما يجدر بنا استيعابه من تلك النواحي الهامة الشديدة الصلة بموضوعنا.
والآن نرى - في عنقنا - أن نتحدث إليك في أمور أربعة قد تفيدك في عهد الرشيد عامة، وربما أفادت في تفهم عصر المأمون خاصة؛ وهي: (1)
حقيقة السياسة الداخلية في عصر الرشيد. (2)
السياسة الخارجية. (3)
التكلم عن بيعة الرشيد للأمين والمأمون والقاسم. (4)
التكلم عن الدولة البرمكية والنكبة البرمكية.
وسنتوخى الإيجاز المقنع من غير إخلال بما لا يليق بنا الإخلال به، ولا سيما باب بيعات الرشيد؛ فإنا لا نرى مندوحة من إثبات نصوصها؛ لما لها من الخطر من حيث إنها أثر تاريخي خليق بالدارسة والبحث. (1) السياسة الداخلية
أنت جد عالم بما كان من تطلع الطالبيين للخلافة، وقد مر بك القول في تحفزاتهم وخروجهم وحروبهم للخليفة العباسي الجالس على العرش كلما واتتهم الفرص وأمكنتهم الأحوال.
وأنت جد عالم أن الخلفاء ما كانوا يركنون إلى جانبهم نفاسا وتباغضا، واصطداما للمصلحة الخاصة وتعارضا، بيد أن الرشيد - وهو الرءوم بسجيته، المجبول على الخير بنزعته - رأى في أول عهده أن يحدب عليهم، ويستل سخيمة العداوة من قلوبهم، فرفع الحجر عمن كان منهم ببغداد وسيرهم إلى المدينة، ما عدا العباس بن الحسن بن عبد الله، وكان أبوه مع ذلك فيمن أشخص إلى المدينة.
لم يشجع الطالبيون الرشيد على الاستمرار على خطته تلك، بل كان من بعضهم ما دفعه إلى تغيير خطته السديدة؛ إذ خرج عليه يحيى بن عبد الله - أحد الناجين من وقعة «فخ» التي كانت في أيام الهادي، ونزح إلى بلاد الديلم حيث قويت شوكته، واشتد ساعده، وهرع إليه الناس من الأمصار والكور - فاغتم الرشيد لذلك أيما اغتمام وترك، فيما يقول الرواة، شرب النبيذ، ثم ندب إلى قتاله الفضل بن يحيى بن خالد في خمسين ألفا، ومعه من القواد صناديدهم، ومن الجند شجعانهم، فسار سمت يحيى، فكاتبه ورفق به واستماله وبسط أمله، وكاتب صاحب الديلم وجعل له ألف ألف درهم على أن يسهل له خروج يحيى وحملت إليه، فأجاب يحيى إلى الصلح والخروج، على أن يكتب له الرشيد أمانا بخطه، فبادر الفضل برفع ذلك إلى الرشيد، فأثلج فؤاده، وعظم موقعه لديه، وكتب أمانا ليحيى بن عبد الله وأشهد عليه القضاة والفقهاء وجلة بني هاشم ومشايخهم، منهم عبد الصمد بن علي والعباس بن محمد ومحمد بن إبراهيم ومن أشبههم، ووجه به مع جوائز وكرامات وهدايا، فوجه الفضل بذلك إليه، فقدم يحيى بن عبد الله عليه.
وفي رواية أخرى أن يحيى بن عبد الله لما رأى الرشيد قد كتب إلى صاحب الديلم يطلبه منه ويتهدده، وأنه قد اشتد في مطاردته واقتفاء أثره، طلب الأمان من الفضل، فأمنه وحمله إلى الرشيد.
ويحدثنا أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في حوادث سنة ست وسبعين ومائة، أنه لما ورد الفضل بن يحيى البرمكي بيحيى بن عبد الله العلوي بغداد، لقيه الرشيد بكل ما أحب، وأمر له بمال كثير، وأجرى عليه أرزاقا سنية، وأنزله منزلا سريا بعد أن أقام في منزل يحيى بن خالد أياما، وكان يتولى أمره بنفسه ولا يكل ذلك إلى غيره، وأمر الناس بإتيانه - بعد انتقاله من منزل يحيى - والتسليم عليه، وبلغ الرشيد الغاية في إكرام الفضل، وفي ذلك يقول مروان بن أبي حفصة:
ظفرت فلا شلت يد برمكية
رتقت بها الفتق الذي بين هاشم
على حين أعيا الراتقين التئامه
فكفوا وقالوا ليس بالمتلائم
فأصحبت قد فازت يداك بخطة
من المجد باق ذكرها في المواسم
وما زال قدح الملك يخرج فائزا
لكم كلما ضمت قداح المساهم
ونوجه النظر هنا إلى ظاهرة في شعر مروان وأبي قمامة الخطيب الذي أنشد في هذا المعنى أبياتا له يستدل منها على اغتباط الشاعر، وجمهرة الناس طبعا، بالوفاق بين العلويين والعباسيين، والإشادة بذلك، مفخرة للعاملين على رتق الفتق والتئام الصدع، ولكن وا أسفاه! فإن للوجهة النفعية خطرها بين الملوك وبين السعاة بالنميمة، ولها أثرها السيئ في إلصاق تهم بالأبرياء، ولها مغبتها الضارة في بذر بذور الكراهية والبغضاء بين الملوك والزعماء.
وقد بينا لك أن الأمان الذي كتبه الرشيد ليحيى بن عبد الله قد أشهد عليه الفقهاء والقضاة وزعماء الشعب. وقد يكون من المفيد في تصوير ناحية من نواحي العصر أن نذكر لك هنا نصيب هذا الأمان وحظه من بعض الفقهاء في الفتيا بنقضه، وآخرين بالوفاء له، ولندع لأبي خطاب - أحد المعاصرين - الكلمة، قال: إن جعفر بن خالد حدثه ليلة وهو في سمره قال: دعا الرشيد اليوم يحيى بن عبد الله بن حسن وقد حضره أبو البختري القاضي ومحمد بن الحسن الفقيه صاحب أبي يوسف، وأحضر الأمان الذي كان أعطاه يحيى، فقال لمحمد بن الحسن: ما تقول في هذا الأمان، أصحيح هو؟ قال: هو صحيح، فحاجه في ذلك الرشيد، فقال له محمد بن الحسن: ما تصنع بالأمان لو كان محاربا ثم ولى؛ كان آمنا؟ فاحتملها الرشيد على محمد بن الحسن، ثم سأل أبا البختري أن ينظر في الأمان، فقال أبو البختري: هذا الأمان منتقض من وجه كذا وكذا، فقال الرشيد: أنت قاضي القضاة وأنت أعلم بذلك! ومزق الأمان وتفل فيه أبو البختري.
ولك أن تعلق ما شئت على تصرف أبي البختري «الفقيه الديني» الذي أصبح بفتياه تلك قاضي القضاة، ولك أن تستنبط ما أحببت في موقفه ومرونته حين مزق الأمان، ولم تزد قيمته في نظره على «قصاصات الورق» حتى تفل فيه، ولك أن تقول ما أردت في موقف زميله محمد بن الحسن الفقيه صاحب أبي يوسف، وعدم ترخصه أو جموده. أما نحن فإنا لا نعدو خطتنا التي رسمناها لأنفسنا في مثل هذه المواقف من التزام الحيدة التامة، وعدم الزج بأنفسنا في المزالق الخطرة، والاكتفاء من ناحيتنا بتقييد الحوادث لا أكثر ولا أقل.
ولقد سعى بالنميمة بين الرشيد ويحيى بن عبد الله الساعون، وكلما رق الرشيد له أثاروا في نفسه السخيمة عليه، فقد ذكروا أن يحيى بن عبد الله قال للرشيد: يا أمير المؤمنين، إن لنا قرابة ورحما، ولسنا بترك ولا ديلم، يا أمير المؤمنين، إنا وأنتم أهل بيت واحد، فأذكرك الله قرابتنا من رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، علام تحبسني وتعذبني؟ قال: فرق له هارون، ولكن الزبيري - وكان حاكما للمدينة أيام الرشيد، وهو يعد من الأحزاب المعادية للعلويين، واشتهر بشدة البغض لهم، وكان حاضرا مجلسهما - أقبل على الرشيد فقال: يا أمير المؤمنين، لا يغرك كلام هذا، فإنه شاق عاص، وإنما هذا منه مكر وخبث، إن هذا أفسد علينا مدينتنا، وأظهر فيها العصيان، قال: فأقبل يحيى عليه، فوالله ما استأذن أمير المؤمنين في الكلام حتى قال: أفسد عليكم مدينتكم! ومن أنتم، عافاكم الله؟ قال الزبيري: هذا كلامه قدامك، فكيف إذا غاب عنك؟! يقول: «ومن أنتم؟» استخفافا بنا، قال: فأقبل عليه يحيى فقال: نعم، ومن أنتم، عافاكم الله؟ المدينة كانت مهاجر عبد الله بن الزبير أم مهاجر رسول الله
صلى الله عليه وسلم ؟! ومن أنت حتى تقول: أفسد علينا مدينتنا! وإنما بآبائي وآباء هذا هاجر أبوك إلى المدينة؟ ثم قال: يا أمير المؤمنين، إنما الناس نحن وأنتم، فإن خرجنا عليكم قلنا: أكلتم وأجعتمونا، ولبستم وأعريتمونا، وركبتم وأرجلتمونا، فوجدنا بذلك مقالا فيكم، ووجدتم بخروجنا عليكم مقالا فينا، فتكافأ فيه القول، ويعود أمير المؤمنين على أهله بالفضل. يا أمير المؤمنين، فلم يجترئ هذا وضرباؤه على أهل بيتك يسعى بهم عندك؟ إنه والله ما يسعى بنا إليك نصيحة منه لك، وإنما يأتينا فيسعى بك عندنا عن غير نصيحة منه لنا، إنما يريد أن يباعد بيننا، ويشتفي من بعض ببعض، والله يا أمير المؤمنين، لقد جاء إلي هذا حين قتل أخي محمد بن عبد الله فقال: لعن الله قاتله، وأنشدني فيه مرثية قالها نحوا من عشرين بيتا، وقال: إن تحركت في هذا الأمر فأنا أول من يبايعك، وما يمنعك أن تلحق بالبصرة فأيدينا مع يدك، فتغير وجه الزبيري واسود، فأقبل عليه هارون فقال: أي شيء يقول هذا؟ قال: كاذب يا أمير المؤمنين، ما كان مما قال حرف، قال: فأقبل الرشيد على يحيى بن عبد الله وقال: تروي القصيدة التي رثاه بها؟ قال: نعم، يا أمير المؤمنين، أصلحك الله. وأنشدها إياه، فقال الزبيري: والله، يا أمير المؤمنين، الذي لا إله إلا هو - حتى أتى على آخر اليمين الغموس - ما كان مما قال شيء، ولقد يقول علي ما لم أقل، قال: فأقبل الرشيد على يحيى بن عبد الله فقال: قد حلف، فهل من بينة سمعوا هذه المرثية منه؟ قال: لا، يا أمير المؤمنين، ولكن أستحلفه بما أريد، قال: فاستحلفه، قال: فأقبل على الزبيري فقال: قل: أنا بريء من حول الله وقوته موكل إلى حولي وقوتي إن كنت قلته، فقال الزبيري: يا أمير المؤمنين، أي شيء هذا من الحلف؟! أحلف له بالله الذي لا إله إلا هو ويستحلفني بشيء لا أدري ما هو! قال يحيى بن عبد الله: يا أمير المؤمنين، إن كان صادقا فما عليه أن يحلف بما أستحلفه به، فقال له هارون: احلف له، ويلك! قال: فقال: أنا بريء من حول الله وقوته موكل إلى حولي وقوتي - ويقول الطبري: إنه اضطرب منها وأرعد - فقال: يا أمير المؤمنين، ما أدري أي شيء هذه اليمين التي يستحلفني بها وقد حلفت له بالله العظيم أعظم الأشياء! قال: فقال هارون له: لتحلفن له أو لأصدقن عليك ولأعاقبنك، فقال: أنا بريء من حول الله وقوته موكل إلى حولي وقوتي إن كنت قلته، قال: فخرج من عند هارون فضربه الله بالفالج فمات من ساعته.
وقد روى المؤرخون العرب في صدد موت ذلك الزبيري روايات ، لا نرى بأسا بإيرادها، فقد ذكر الفخري أنه ما انقضى النهار حتى مات، فحملوه إلى القبر وحطوه فيه، وأرادوا أن يطموا القبر بالتراب، فكانوا كلما جعلوا التراب فيه ذهب التراب ولا ينطم القبر، فعلموا أنها آية سماوية، فسقفوا القبر وراحوا. وإلى ذلك أشار أبو فراس بن حمدان في ميميته إذ يقول:
يا جاهدا في مساويهم يكتمها
غدر الرشيد بيحيى كيف ينكتم
ذاق الزبيري غب الحنث وانكشفت
عن ابن فاطمة الأقوال والتهم
قالوا: ومع ظهور مثل هذه الآية العظيمة قتل يحيى في الحبس شر قتلة، على أن هناك رأيا آخر في موت يحيى بن عبد الله، وهو أن الموكل به في الحبس منعه الأكل فمات.
ولننظر ما يرويه لنا معاصر، وهو عباس بن الحسن، عما كان من الرشيد بعدما أصاب الزبيري، مما أجمع رواة العرب على إصابته به إثر كذبه في قسمه، فقد قال: دخلنا على الرشيد، فلما نظر إلينا قال: يا عباس بن الحسن، أما علمت بالخبر؟ فقال أبي: بلى، يا أمير المؤمنين، فالحمد لله الذي صرعه بلسانه، ووقاك الله، يا أمير المؤمنين، قطع أرحامك، فقال الرشيد: الرجل والله سليم على ما يحب، ورفع الستر فدخل يحيى وأنا والله أتبين الارتياع في الشيخ، فلما نظر إليه الرشيد صاح به: يا أبا محمد، أما علمت أن الله قد قتل عدوك الجبار، قال: الحمد لله الذي أبان لأمير المؤمنين كذب عدوه علي، وأعفاه من قطع رحمه، والله، يا أمير المؤمنين، لو كان هذا الأمر مما أطلبه وأصلح له وأريده - فكيف ولست بطالب له ولا مريده؟! - ولم يكن الظفر به إلا بالاستعانة به، ثم لم يبق في الدنيا غيري وغيرك وغيره، ما تقويت به عليك أبدا. وهذا والله من إحدى آفاتك - وأشار إلى الفضل بن الربيع - والله لو وهبت له عشرة آلاف درهم، ثم طمع معي في زيادة ثمرة لباعك بها، فقال: أما العباسي فلا تقل له إلا خيرا، وأمر له في هذا اليوم بمائة ألف دينار. وكان حبسه بعض يوم، قال أبو يونس: كان هارون حبسه ثلاث حبسات مع هذه الحبسة ، وأوصل إليه أربعمائة ألف دينار. •••
وبعد، فقد عنينا بإثبات الروايات فيما كان من سيرة هذا الخليفة العباسي مع علوي من رجالات عصره؛ لنتبين نفسية المعاصرين والولاة، وما انطوت عليه صدورهم من حب لآل علي وتوقير لأشخاصهم، ونعتهم بالكرامات والمعجزات، وإذا اعتبرت أن هذا كله قد حصل في عهد خليفة عظيم بسخائه وفواضله، محبوب لمآثره ونوافله، قوي في مملكته، كثير الأنصار في شيعته، أيقنت أن للحزب العلوي أنصارا يعتد بهم، ومكانة في النفوس يحفل بها. وهذا معقول جدا، وإنك لتستسيغه من نفسك وفهمك إذا ذكرت أن أنصار هذه الدولة هم من الفرس، وأنت تعلم ما كان بين الفرس والعرب عامة، وبين الموالي وبني أمية خاصة من عداء وشجار، ومقت وكراهية، وأنت تعلم أن الدعوة في بداية أمرها كانت للعلويين دون غيرهم، وأن القائمين بها كانوا من الفرس، فمن المعقول أن تشرب قلوبهم حب هذه الدعوة وأفراد هذه الدعوة، والتغني بمذهب هذه الدعوة منذ الساعة الأولى. ولا يزيد مرور الزمان كل دعوة أو مذهب حزبي إلا قوة وانتشارا، وكثرة أنصار، ورسوخ عقيدة؛ فلنلاحظ ذلك جيدا، فإنه قد يفيدنا في تعليل بعض أفعال البرامكة.
ولنرجع إلى التحدث معك باختصار عن بقية الحوادث الداخلية في عصر الرشيد، ولنقسم القول إلى ناحيتين؛ أولاهما: ثورات ناتجة عن العصبية. وثانيتهما: فتوق وثورات في شتى ولاياته.
أما الحوادث العصبية بين النزارية واليمنية وغيرهما، فإن ابن جرير الطبري يحدثنا أن قد وقع هياج في الشام سنة ست وسبعين ومائة بين النزارية واليمنية، ورأس النزارية يومئذ أبو الهيذام، فولى الرشيد موسى بن يحيى بن خالد، وضم إليه القواد والأجناد ومشايخ الكتاب، فذهب إليهم وأصلح بينهم حتى سكنت الفتنة.
وأما الثورات الأخر، فإنا نجد في أخبار سنة ثمان وسبعين ومائة، وسنة ثمانين ومائة، وسنة سبع وثمانين ومائة ما يدل على حصول فتن وحروب من جراء العصبية أيضا.
ولقد حصلت حروب في خراسان والطالقان وحوران والجزيرة واليمن ومصر وأرمينية وحمص لرافع بن ليث ، وكان النصر في أكثرها حليف جيوش الرشيد وولاته.
على أن جل هذه الثورات ناجم في الواقع عن اتساع رقعة المملكة، وسرعة تبديل الولاة، وسوء تصرف بعض هؤلاء الولاة، ولا سيما في جباية الأموال، ومحاولة إرضاء الخليفة من جهة، ومطامعهم الخاصة من جهة أخرى.
وإنا لنجتزئ بما قدمناه لك عن السياسة الداخلية أيام الرشيد، ونتقدم الآن إلى الكلام عن السياسة الخارجية. (2) السياسة الخارجية
أما ملخص السياسة الخارجية أيام الرشيد، فيمكن تقسيمه إلى نقطتين؛ الأولى: علاقته بالروم. والثانية: علاقته بالأندلس.
فأما علاقته بالروم فقد أشارت دائرة المعارف الإسلامية، في مبحثها عن الرشيد، إلى أن حروبا بلغت نهاية الشدة قد وقعت بين الرشيد والبزنطيين، وقالت: إن ولاة الرشيد عملوا منذ بداية عهده على تقوية الحصون التي على الحدود، وأنهم كانوا يقومون بغزوات في البقاع المعادية من غير أن يربحوا غنائم مستديمة، وأن الرشيد غزاهم بنفسه سنة 181ه (797-798م)، بيد أنه عجل بعودته، ثم شبت حرب في السنة التالية كالعادة، وإذ كانت الإمبراطورة إيرين كانت تعاني متاعب داخلية، فقد عجلت بالصلح على أن تدفع الجزية.
على أن هذا الصلح لم يدم إلا ريثما تبوأ الإمبراطور نيقفور أريكته سنة 186ه/802م؛ فقد بعث إلى الخليفة بكتاب مهين طلب فيه أن يعيد إليه الجزية التي أديت من قبل، فلم يحفل الخليفة بشروط الصلح، فعادت الحروب.
وفي سنة 190ه/806م استولى هارون على «هرقلة»، واضطر الإمبراطور إلى أن يدفع جزية جديدة عن نفسه وعن أسرته فوق الجزية العامة، وفي السنة التالية هزم البزنطيون يزيد بن مقلد، وكانت أغلاط هرثمة معهم مماثلة لأغلاط «ابن مقلد».
ويقول بعض المؤرخين الغربيين: إن هارون كان على علاقة حسنة بشرلمان، وقد ذكر أن كليهما كان يبعث سفيرا عند الآخر، على أنه لم يرد ذكر لذلك في المراجع العربية، وإنه ليشك كثيرا في صحة هذه الرواية.
وأما علاقته بالأمويين في الأندلس، فلم يكن مرجوا أن تكون علاقة صفاء ومودة، فقد كان العباسيون يعدونهم خارجين على سلطانهم، ولا يرون في دولتهم نظيرا يستحق أن يعيش وإياهم في سلام وهدوء.
وقد ظهرت أيام الرشيد دولة الأدراسة في المغرب الأقصى، وذلك أن إدريس بن عبد الله كان ممن هرب من وقعة «فخ» - وهو أخو يحيى بن عبد الله - فسار إلى مصر وشخص منها إلى بلاد المغرب الأقصى، حيث التف حوله برابرة أوروبة، فأنشأ هناك أول خلافة للعلويين، وهي دولة الأدراسة.
وظهرت كذلك أيام الرشيد دولة الأغالبة في إفريقية، فإنه ولاها إبراهيم بن الأغلب التميمي ليجعل من مملكته حاجزا منيعا بين الخلافة العباسية والأدارسة الذين بالمغرب الأقصى، وكذلك بينه وبين الأندلسيين، وكانت توليته سنة أربع وثمانين ومائة، فعظم أمره، وصار كملك مستقل، إلا أنه كان يخطب للرشيد. (3) التكلم عن البيعة
والآن نتحدث إليك عن أكبر أغلاط الرشيد، وأبعدها أثرا في حياته وفي الدولة العباسية، بل في حياة المسلمين السياسية بوجه عام، وهي بيعته بولاية العهد الثلاثية لأبنائه: الأمين والمأمون والقاسم.
وقد قدمنا لك في الكتاب الأول رأينا في هذا النوع من احتياط الخلفاء لأنفسهم ولأبنائهم، وما كان له من الأثر السيئ في حياة القصور خاصة، وفي السياسة عامة، ولا سيما البيعة بولاية العهد لأكثر من واحد، فقد كان ذلك ينشئ بطانات مختلفة، ويكون أحزابا لا تلتف حول مبدأ أو فكرة، وإنما تلتف حول الأشخاص والمنافع التي تنتظر منهم.
وهذه البطانات والأحزاب تتنافس في القصر، فتفسد على الخليفة والأمراء حياتهم الخاصة، وتقطع ما بينهم من صلات كان يجب أن ترعى حرمتها، كما أنها تتنافس خارج القصر، فتفسد على الدولة سياستها العامة فتصرفها عن مرافقها الداخلية، كما تصرفها عن الاحتياط لحماية الثغور والاحتفاظ بمهابتها الخارجية.
ومع أن هذا النوع من البيعة بولاية العهد الثنائية أو الثلاثية سنة أموية آتت ثمرها الخبيث، وجرت على الأمويين أنواع الوبال فمزقتهم وأضاعت ملكهم، كما قدمنا، وكان المعقول أن يستفيد العباسيون من هذا الدرس، ويعرضوا عن سنة منكرة في نفسها، وقد سنها أعداؤهم السياسيون، مع هذا كله تورط الرشيد فيما تورط فيه عبد الملك وخلفاء عبد الملك، وتعرضت الدولة العباسية لما تعرضت له الدولة الأموية، بل كان خطر هذه السنة على العرب أيام بني العباس أشد منه أيام بني أمية؛ ذلك أن سقوط الدولة الأموية قد نقل السلطان من أسرة إلى أسرة واحتفظ به لقريش.
فأما أثر هذه السنة أيام بني العباس، فهو نقل السلطان الفعلي من العرب إلى الفرس ثم إلى الترك، وجعل الخلافة نوعا من العبث والسخرية في أيدي المتغلبين من القواد والخدم والرقيق.
ومهما نلتمس الأسباب لتورط الرشيد في هذه السنة التي كان يجب أن يتجنبها، فلن نستطيع أن نهمل سببين أساسيين؛ أحدهما: تأثر القصر العباسي بسنن الملك الفارسي القديم وسياسته. والآخر: تأثر الخلفاء بما كان للنساء، حرائرهن وإمائهن، من سلطان ونفوذ.
فلولا هذان السببان لما تورط الرشيد في هذه السنة التي تورط فيها أبوه المهدي، وذاق هو غير قليل من ثمرها.
ستقول: ولكن الرشيد احتاط فأخذ على أبنائه العهود والمواثيق أن يفي بعضهم لبعض، ويبر بعضهم ببعض. ولكن ما قيمة هذا الاحتياط أمام سطوة الملك وسلطانه ومطامع الإنسان التي لا حد لها؟ وما قيمة هذه العهود والمواثيق وقد أثبت التاريخ في جل مراحله أنها لا تعتبر عهودا ومواثيق إلا عند الضعفاء من الأمم والأفراد، أما الأقوياء وذوو السلطان والبطش فهي عندهم ليست بعهود ولا مواثيق، إنما هي «قصاصات ورق» لا أكثر ولا أقل، وقد يفتي بأنها «قصاصات ورق» أولئك الذين وكدوها وشهدوا على صحتها، وتضامنوا في البر بها، والوفاء لأصحابها؟
وقد كان الخلفاء قبل الرشيد يحتاطون لكل بيعة فيها أخذ للعهود والمواثيق، ومع ذلك لم ينفع هذا الاحتياط أيام بني أمية ولا أيام بني العباس.
وإليك الآن أحاديث المؤرخين من العرب وغير العرب في هذا الموضوع:
لما لاحظ الفضل بن يحيى سنة خمس وسبعين ومائة أن جماعة من بني العباس قد مدوا أعناقهم إلى الخلافة بعد الرشيد؛ لأنه لم يكن له ولي عهد، أجمع على البيعة لمحمد، ولما صار الفضل بن يحيى إلى خراسان فرق في أهلها أموالا، وأعطى الجند أعطيات متتابعات، ثم أظهر البيعة لمحمد بن الرشيد، فبايع الناس له، وسماه الأمين، وفي ذلك يقول النمري:
أمسى بمرو على التوفيق قد صفقت
على يد الفضل أيدي العجم والعرب
بيعة لولي العهد أحكمها
بالنصح منه وبالإشفاق والحدب
قد وكد الفضل عقدا لا انتقاض له
لمصطفى من بني العباس منتخب
ولما تناهى الخبر إلى الرشيد بذلك، وبايع له أهل المشرق بايع وكتب إلى الآفاق فبويع له في جميع الأمصار، فقال أبان اللاحقي في ذلك:
عزمت أمير المؤمنين على الرشد
برأى هدى فالحمد لله ذي الحمد
ويقول لنا اليعقوبي في هذا الصدد: إن هارون بايع لابنه محمد بالعهد من بعده سنة 175ه ومحمد ابن خمس سنين، وأعطى الناس على ذلك عطايا جمة، وأخرج محمد إلى القواد، فوقف على وسادة فحمد الله وصلى على نبيه، وقام عبد الصمد بن علي فقال: أيها الناس، لا يغرنكم صغر السن، فإنها الشجرة المباركة أصلها ثابت وفرعها في السماء. وجعل الرجل من بني هاشم يقول في ذلك حتى انقضى المجلس، ونثرت عليهم الدراهم والدنانير وفأر المسك وبيض العنبر.
ويقول لنا الطبري في حوادث سنة اثنتين وثمانين ومائة: إن فيها كان انصراف الرشيد من مكة، ومسيره إلى الرقة، وبيعته بها لابنه عبد الله المأمون بعد ابنه محمد الأمين، وأخذ البيعة له على الجند بذلك بالرقة، وضمه إياه إلى جعفر بن يحيى، وأنه قد بويع له بمدينة السلام حين قدمها، وولاه أبوه خراسان وما يتصل بها إلى همذان، وسماه المأمون. وقد قال في ذلك سلم بن عمرو الخاسر:
بايع هارون إمام الهدى
لذي الحجا والخلق الفاضل
المخلف المتلف أمواله
والضامن الأثقال للحامل
والعالم الناقد في علمه
والحاكم الفاضل والعادل
والراتق الفاتق حلف الهدى
والقائل الصادق والفاعل
لخير عباس إذا حصلوا
والمفضل المجدي على العائل
أبرهم برا وأولاهم
بالعرف عند الحدث النازل
لمشبه المنصور في ملكه
إذا تدجت ظلمة الباطل
فتم بالمأمون نور الهدى
وانكشف الجهل عن الجاهل
وفي سنة تسع وثمانين ومائة بايع الرشيد لابنه القاسم بعد المأمون، وجعل أمر القاسم، في خلعه وإقراره، إلى عبد الله إن أفضت الخلافة إليه.
وأراد الرشيد أن يوثق الأمر بين بنيه في ولاية العهد، حتى يسد دونهم باب الفتنة، فرأى أن خير وسيلة لذلك هي ما يحدثنا عنها أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في حوادث سنة ست وثمانين ومائة إذ يقول: حج هارون ومحمد وعبد الله معه وقواده ووزراؤه وقضاته في سنة 186ه، وخلف بالرقة إبراهيم بن عثمان بن نهيك العكي على الحرم والخزائن والأموال والعسكر، وأشخص القاسم ابنه إلى منبج، فأنزله إياها بمن ضم إليه من القواد والجند، فلما قضى مناسكه كتب لعبد الله المأمون ابنه كتابين جهد الفقهاء والقضاة آراءهم فيهما:
أحدهما: على محمد بما اشترط عليه من الوفاء بما فيه من تسليم ما ولي عبد الله من الأعمال وصير إليه من الضياع والغلات والجواهر والأموال. والآخر: نسخة البيعة التي أخذها على الخاصة والعامة، والشروط لعبد الله على محمد وعليهم، وجعل الكتابين في البيت الحرام، وبعد أخذه البيعة على محمد، وإشهاده عليه بها الله وملائكته ومن كان في الكعبة معه من سائر ولده وأهل بيته ومواليه وقواده ووزرائه وكتابه وغيرهم، وكانت الشهادة بالبيعة والكتاب في البيت الحرام، وتقدم إلى الحجبة في حفظهما، ومنع من أراد إخراجهما والذهاب بهما؛ فذكر عبد الله بن محمد ومحمد بن يزيد التميمي وإبراهيم الحجبي، أن الرشيد حضر وأحضر وجوه بني هاشم والقواد والفقهاء وأدخلوا البيت الحرام، وأمر بقراءة الكتاب على عبد الله ومحمد، وأشهد عليهما جماعة من حضر، ثم رأى أن يعلق الكتاب في الكعبة، فلما رفع ليعلق وقع، فقيل: إن هذا الأمر سريع انتقاضه، قليل تمامه. وقد أثبتنا الكتابين لعظيم خطرهما التاريخي في باب المنثور في الكتاب الثاني من المجلد الثاني.
وبعد، فإن لعصر الرشيد مكانته وقدره، فقد ازدهرت فيه الحضارة الإسلامية أيما ازدهار، وظهرت فيه آثار تحول المدنية في العصور التي سبقته، كما أثر هو في العصور التي تلته، ولقد صدق صاحب «النجوم الزاهرة» فيما رواه عن أبي علي صالح بن محمد الحافظ، قال: «اجتمع للرشيد ما لم يجتمع لغيره: وزراؤه البرامكة ، وقاضيه أبو يوسف، وشاعره مروان بن أبي حفصة، ونديمه العباس بن محمد عم أبيه، وحاجبه الفضل بن الربيع أنبه الناس وأعظمهم، ومغنيه إبراهيم الموصلي، وزوجته زبيدة بنت عمه جعفر.»
وإنا لنختم مبحثنا في حياة الرشيد وعصره بكلمة تبين وجهة نظر مؤرخ كبير المكانة في الشرقيات، وهو الأستاذ «ميور»، ونتقدم بملاحظة واحدة، وهي شدته على هارون الرشيد، وقد يكون الذي دفعه إلى ذلك تأثره بمرجعه العظيم الذي وضعه الأستاذ «ويل».
وقد اعترف «ميور» نفسه بأن «ويل» كان بالغا في قسوته على هارون مبلغا عظيما، على نقيض ما عهد فيه من الحيدة والهدوء في أحكامه، فقد اعتبره من الظلم في الذروة، ولم يكن الرشيد من الرداءة بمبلغ من سبقه ومن أتى بعده. ويظهر أن الفاجعة البرمكية هي التي أعطته هذه الأسبقية التي لا يغبط عليها في حكاية الشرق وتاريخه.
وسنرى مع محاولة الأستاذ «ميور» الرد على الأستاذ «ويل» في حاشية كتابه، أن كتابته عن الرشيد مع حظها العظيم من المتانة والإنصاف لا تزال عليها غلالة من صرامة «ويل» وقواذع نقده.
نترجم لك رأي «ميور» لأنه يكاد يكون صورة صحيحة للرأي العلمي الأخير في الرشيد، فهو لا يعدو الرأي الذي أبداه الأستاذ ك. ف. «زتوستين»، في العدد الثاني والعشرين من دائرة المعارف الإسلامية، ونحن جد عالمين بخطر المراجع العديدة التي استند عليها «زتوستين» في رأيه في الرشيد. فلننقل لك الآن كلمة «ميور»؛ فهي مثل الأخرى إن لم تكن أوسع وأبلغ.
قال الأستاذ «ميور» في كتابه عن الخلافة: «إن مكانة هارون الرشيد وابنه المأمون في التاريخ لهى أسمى مكانة بلغها الخلفاء العباسيون، وإن هارون لقمين بأن يكون في الذروة مع الخيرة مع أفاضل ملوك أسرة بني أمية، لولا شائبة القساوة المنطوية على الختل التي وصمت سيرته جمعاء.»
لقد كان الرشيد في قصوره محوطا بضروب الرفاهية والرغد، وكان ملكا في مكارمه وجوده، ومع ذلك قد ترك في أقبائه خزائن عامرة بلغت تسعمائة مليون جمعت بوسائل العسف وعدم التدقيق، وإذا استثنينا ما ذكرناه؛ فإن إرادته كانت عادلة موفقة.
ولما كان الرشيد قد اعتاد منذ ميعة شبابه الحياة الحربية، فإنه كثيرا ما شاطر جنده ميدان القتال، وقد كان من جراء انتصاراته العديدة، لا سيما على اليونان (الروم) أن طبع عصره بطابع المجد والصيت.
ولم يظهر خليفة، من قبل أو بعد، ما أظهره الرشيد من الهمة والنشاط في مختلف حركاته، سواء أكانت في سبيل الحج أم الإدارة أم الحرب.
على أن أصل شهرة هذا الخليفة ومصدر صيته راجع إلى أن حكمه عجل بدخول عصر الآداب، فقد كان قصره المثابة التي يهرع إليها الحكماء والعلماء من أنحاء العالم، وكانت سوق البلاغة والشعر والتاريخ والفقه والطب والموسيقى والفنون نافقة، إذ يقابلها الخليفة مقابلة من في سجيته النبل والكرم، كل ذلك مما آتى أكله وثمره الناضج في العصور الآتية.
لقد كان الرشيد يجيز العلماء في كل فن جائزات ملكية نبيلة، على أن الشعراء كانوا موضع كرمه الخاص، وهاك مثلا ما أجاز به مروان بن أبي حفصة حين مدحه بمدحته فيه، فرفده الرشيد بكيس فيه خمسة آلاف دينار، وكساه خلعته تشريفا له، وأمر له بعشرة من رقيق الروم، وحمله على برذون من خاص مراكبه. ا.ه. (4) الدولة البرمكية والنكبة البرمكية
صدق الفخري إذ يقول: إن دولة البرامكة كانت غرة في جبهة الدهر، وتاجا على مفرق العصر، ضربت بمكارمها الأمثال، وشدت إليها الرحال، ونيطت بها الآمال، وبذلت لها الدنيا أفلاذ أكبادها، ومنحتها أوفر إسعادها، فكان يحيى وبنوه كالنجوم زاهرة، والبحور زاخرة، والسيول دافعة، والغيوث ماطرة، أسواق الآداب عندهم نافقة، ومراتب ذوي الحرمات عندهم عالية، والدنيا في أيامهم عامرة، وأبهة المملكة ظاهرة، وهم ملجأ اللهيف، ومعتصم الطريد، ولهم يقول أبو نواس:
سلام على الدنيا إذا ما فقدتم
بني برمك من رايحين وغاد
ويؤخذ من المباحث التاريخية الحديثة للمستشرقين أن البرامكة هم أسرة فارسية أنتجب أول الوزراء الفرس للخلافة، وليست لفظة برمك باسم لشخص، وإنما تدل على رتبة وراثية خاصة برئيس الكهان بمعبد «نوبهار» ببلخ.
وكانت البرامكة تملك الأراضي التابعة للمعبد، ويبلغ طولها ثمانية فراسخ ، وعرضها أربعة، فكانت مساحتها أربعين وسبعمائة ميل مربع، ولم تزل هذه الممتلكات أو بعضها في حوزة البرامكة في الأيام التالية، ويقول ياقوت: إن قرية «روان» الكبيرة الغنية، وهي شرق بلخ، كانت في حوزة يحيى بن خالد.
ومعنى الاسم بالسنسكريتية: الدير الجديد، وكان هذا الدير عبارة عن دير بوذي، وقد وصف كذلك بوساطة حاج صيني اسمه «هوان شانج» في القرن السابع للمسيح، في كتاب اسمه «ذكريات على البقاع الشرقية»، وقد ترجمه إلى الفرنسية «سنت جوليان»، على أن هذالمعبد كان معروفا لبعض الجغرافيين من العرب، أمثال: ابن الفقيه (انظر: طبعة چوچ، ص322)؛ إذ قرر أن النوبهار كانت مخصصة لعبادة الأوثان لا النار. وإذا تركنا جانبا بعض المبالغات في وصف ابن الفقيه، فإنا نجد وصفه مطابقا للبوذية.
فلنلاحظ هذه العبادة لأقطاب من زعماء الفرس لعبوا دورا هاما في التاريخ العباسي، ولنلاحظها جيدا؛ فربما أفادتنا في إماطة اللثام قليلا عن عبادات لفئات عديدة اعتبرت زنادقة أو مانية أو ملحدين، ومهما كانت هذه الفئات موضع اضطهاد من خلفاء العصر؛ فإن من المبالغة الكتابية التي لا ترضي العلم ولا التاريخ في شيء ألا يحفل بها، أو لا يشار إليها إشارة طفيفة إذا لم يكن لدينا من المواد ما يسمح لنا بأن نفرد لدراستها بابا، كما حفل بها الخلفاء فأفردوا لها إدارة أسموا رئيسها «صاحب الزنادقة».
ولعل أول ذكر لبرمكي حفل به التاريخ واعتبره مؤسسا لتلك الأسرة البرمكية التي نبغت في تلك الأيام الزاهية الزاهرة، والتي امتدت إلى أن انقضت في أيام الرشيد، ونظر إليه باعتباره جد البرامكة هو: خالد بن برمك الذي استوزره السفاح بعد أبي سلمة الخلال وأبي الجهم.
كان خالد بن برمك من رجالات الدولة العباسية فاضلا جليلا كريما حازما يقظا، استوزره السفاح وخف على قلبه، وكان يسمى وزيرا، وقيل: إن كل من استوزر بعد أبي سلمة كان يتجنب أن يسمى وزيرا؛ تطيرا مما جرى على أبي سلمة، ولقول من قال:
إن الوزير وزير آل محمد
أودى فمن يشناك كان وزيرا
قالوا: فكان خالد بن برمك يعمل عمل الوزراء ولا يسمى وزيرا ... كان خالد عظيم المنزلة عند الخلفاء، قيل: إن السفاح قال له يوما: يا خالد، ما رضيت حتى استخدمتني! ففزع خالد وقال: كيف يا أمير المؤمنين وأنا عبدك وخادمك؟! فضحك وقال: إن ريطة ابنتي تنام مع ابنتك في مكان واحد، فأقوم بالليل فأجدهما قد سرح الغطاء عنهما، فأرده عليهما. فقبل خالد يده وقال: مولى يكتسب الأجر في عبده وأمته.
وكثر الوافدون على باب خالد بن برمك، ومدحه الشعراء، وانتجعه الناس، وكان الوافدون يسمون سؤالا، فقال خالد: إني أستقبح هذا الاسم لمثل هؤلاء وفيهم الأشراف والأكابر! فسماهم الزوار، وكان خالد أول من سماهم بذلك، فقال له بعضهم: والله ما ندري أي أياديك عندنا أجل، أصلتنا أم تسميتنا؟
ولقد مدحه بشار بن برد فقال فيه:
لعمري لقد أجدى علي ابن برمك
وما كل من كان الغنى عنده يجدي
حلبت بشعري راحتيه فدرتا
سماحا كما در السحاب مع الرعد
إذا جئته للحمد أشرق وجهه
إليك وأعطاك الكرامة بالحمد
له نعم في القوم لا يستثيبها
جزاء وكيل التاجر المد بالمد
مفيد ومتلاف سبيل ثرائه
إذا ما غدا أو راح كالجزر والمد
أخالد إن الحمد يبقى لأهله
جمالا ولا تبقى الكنوز على الكد
فأطعم وكل من عارة مستردة
ولا تبقها إن العواري للرد
فأعطاه خالد ثلاثين ألف درهم، وكان قبل ذلك يعيطه في كل وفادة خمسة آلاف درهم، وأمر خالد أن يكتب هذان البيتان الأخيران في صدر مجلسه الذي كان يجلس فيه، وقال ابنه يحيى: آخر ما أوصاني به أبي العمل بهذين البيتين.
ولقد أشرنا في كلمتنا عن الهادي إلى مبلغ إخلاص يحيى بن خالد البرمكي للرشيد في أيام الهادي حينما شرع في خلع هارون من ولاية العهد، وإن الأخبار التي رواها الطبري في سنة سبعين ومائة ناطقة بولاء يحيى وصدق إخلاصه.
ويجدر بنا هنا أن نقتطف موقفين كمثل لمواقف يحيى مع الهادي ذودا عن الرشيد وحقوق الرشيد؛ فإنهما يعطياننا صورة من إخلاص آل برمك للرشيد ومبلغ ما روع به يحيى في سبيل الرشيد.
ذكر أبو حفص الكرماني أن محمد بن يحيى البرمكي حدثه قال: بعث الهادي إلى يحيى ليلا، فأيس من نفسه وودع أهله وتحنط وجدد ثيابه ولم يشك في أنه يقتله، فلما أدخل عليه قال: يا يحيى، مالي ولك؟ قال: أنا عبدك، يا أمير المؤمنين، فما يكون من العبد إلى مولاه إلا طاعته، قال: فلم تدخل بيني وبين أخي تفسده علي؟ قال: يا أمير المؤمنين، من أنا حتى أدخل بينكما، إنما صيرني المهدي معه، وأمرني بالقيام بأمره، فقمت بما أمرني به، ثم أمرتني بذلك فانتهيت إلى أمرك، قال: فما الذي صنع هارون؟ قال: ما صنع شيئا ولا ذلك فيه ولا عنده، قال: فسكن غضبه. وقد كان هارون طاب نفسا بالخلع فقال له يحيى: لا تفعل، فقال: أليس يترك لي الهنيء والمريء، فهما يسعانني وأعيش مع ابنة عمي؟ وكان هارون يجد بأم جعفر وجدا شديدا، فقال له يحيى: وأين هذا من الخلافة؟ ولعلك ألا يترك هذا في يدك حتى يخرج أجمع. ومنعه من الإجابة.
وذكر الكرماني أيضا عن خزيمة بن عبد الله قال: أمر الهادي بحبس يحيى بن خالد على ما أراده عليه من خلع الرشيد، فرفع إليه يحيى رقعة: إن عندي نصيحة، فدعا به، فقال: يا أمير المؤمنين، أخلني. فأخلاه، فقال: يا أمير المؤمنين، أرأيت إن كان الأمر - أسأل الله ألا نبلغه وأن يقدمنا قبله - أتظن أن الناس يسلمون الخلافة لجعفر وهو لم يبلغ الحلم، ويرضون به لصلاتهم وحجهم وغزوهم؟ قال: والله ما أظن ذلك، قال: يا أمير المؤمنين، أفتأمن أن يسمو إليها أهلك وجلتهم مثل فلان وفلان، ويطمع فيها غيرهم، فتخرج من ولد أبيك! فقال له: نبهتني يا يحيى. قال: وكان يقول: ما كلمت أحدا من الخلفاء كان أعقل من موسى، قال: وقال له: لو أن هذا الأمر لم يعقد لأخيك أما كان ينبغي أن تعقده له؟ فكيف بأن تحل عقده وقد عقده المهدي له؟ ولكن أرى أن تقر هذا الأمر يا أمير المؤمنين على حاله، فإذا بلغ جعفر وبلغ الله به أتيته بالرشيد فخلع نفسه وكان أول من يبايعه ويعطيه صفقة يده ، فقال: فقبل الهادي قوله ورأيه، وأمر بإطلاقه.
ولما ولي الرشيد الخلافة قلد يحيى بن خالد الوزارة وقال له: قد قلدتك أمر الرعية، وأخرجته من عنقي إليك، فاحكم في ذلك بما ترى من الصواب، واستعمل من رأيت، واعزل من رأيت، وأمض الأمور على ما ترى. ودفع إليه خاتمه، ففي ذلك يقول إبراهيم الموصلي:
ألم تر أن الشمس كانت سقيمة
فلما ولي هارون أشرق نورها
بيمن أمين الله هارون ذي الندى
فهارون واليها ويحيى وزيرها
وليس في مقدورنا أن نصور شخصية يحيى بن خالد بن برمك بأحسن من إثباتنا رأيه في الأخلاقيات، فقد قيل له: أي الأشياء أقل؟ قال: قناعة ذي الهمة البعيدة بالعيش الدون، وصديق كثير الآفات قليل الإمتاع، وسكون النفس إلى المدح، وقيل له: ما الكرم؟ فقال: ملك في زي مسكين، وقيل له: ما الجود؟ فقال: عفو بعد قدرة، وقال مرة: إذا فتحت بينك وبين أحد بابا من المعروف فاحذر أن تغلقه ولو بالكلمة الجميلة، وقال: «أحسن جبلة الولاة إصابة السياسة، ورأس إصابة السياسة العمل بطاعة الله، وفتح بابين للرعية؛ أحدهما: رأفة ورحمة وبذل وتحنن، والآخر: غلظة ومباعدة وإمساك ومنع.»
ويروي لنا «ياقوت الرومي» في «معجمه» عنه، أنه لما كان الفضل بن يحيى واليا على خراسان، كتب صاحب البريد إلى الرشيد كتابا يذكر فيه: أن الفضل تشاغل بالصيد واللذات عن النظر في أمور الرعية، فلما قرأة الرشيد رمى به ليحيى وقال له: يا أبت، اقرأ هذا الكتاب، واكتب إلى الفضل كتابا يردعه عن مثل هذا. فمد يحيى يده إلى دواة الرشيد وكتب إلى ابنه على ظهر الكتاب الذي ورد من صاحب البريد:
حفظك الله، يا بني، وأمتع بك، قد انتهى إلى أمير المؤمنين ما أنت عليه من التشاغل بالصيد ومداومة اللذات عن النظر في أمور الرعية ما أنكره، فعاود ما هو أزين بك، فإنه من عاد إلى ما يزينه لم يعرفه أهل زمانه إلا به، والسلام.
وكتب تحته هذه الأبيات:
انصب نهارا في طلاب العلا
واصبر على فقد لقاء الحبيب
حتى إذا الليل بدا مقبلا
وغاب فيه عنك وجه الرقيب
فبادر الليل بما تشتهي
فإنما الليل نهار الأريب
كم من فتى تحسبه ناسكا
يستقبل الليل بأمر عجيب
ألقى عليه الليل أستاره
فبات في لهو وعيش خصيب
ولذة الأحمق مكشوفة
يسعى بها كل عدو مريب
هذا هو يحيى الذي يقول عنه المأمون: «لم يكن كيحيى بن خالد وكولده أحد في البلاغة والكفاية والجود والشجاعة»، وهذا هو يحيى الذي كان يجري على سفيان الثوري رضي الله عنه ألف درهم في كل شهر، فكان إذا صلى سفيان يقول في سجوده: «الله إن يحيى كفاني أمر دنياي، فاكفه أمر آخرته.»
هذا وإذا علمت أن أم الفضل بن يحيى، وهي زينب بنت منير، كانت ظئرا للرشيد فأرضعته بلبان الفضل، وأرضعت الخيزران، والدة الرشيد، الفضل بلبان الرشيد، استطعت أن تقدر إلى أي مدى كانت علاقة الرشيد بآل برمك وهو لم يدرج في مهده، ولم يفرق بين أمسه ويومه.
ونجد في أخبار سنة ست وسبعين ومائة، أن الرشيد ولى الفضل بن يحيى كور الجبال وطبرستان ودنباوند وقومس وأرمينية وأذربيجان، وندبه لحرب يحيى بن عبد الله الطالبي حين خروجه بالديلم، فوفق الفضل لأخذ أمان له من الرشيد، وأصلح أيما إصلاح، ونجح النجاح كله في غزواته وحروبه، حتى قال فيه أبو ثمامة الخطيب:
للفضل يوم الطالقان وقبله
يوم أناخ به على خاقان
ما مثل يوميه اللذين تواليا
في غزوتين توالتا يومان
سد الثغور ورد ألفة هاشم
بعد الشتات فشعبها متدان
عصمت حكومته جماعة هاشم
من أن يجرد بينها سيفان
تلك الحكومة لا التي عن لبسها
عظم النبا وتفرق الحكمان
فأعطاه الفضل مائة ألف درهم وخلع عليه.
ونجد في أخبار السنة نفسها، أن الفتنة هاجت بالشام بسبب العصبية التي بين النزارية واليمانية، فولى الرشيد موسى بن يحيى بن خالد الشام، فهرع إليها موسى وأقام بها حتى أصلح بين أهلها، وسكنت الفتنة، واستقام أمرها، فمدحه الشعراء، ومن قول بعضهم فيه:
قد هاجت الشام هيجا
يشيب رأس وليده
فصب موسى عليها
بخيله وجنوده
فدانت الشام لما
أتى نسيج وحيده
هو الجواد الذي بذ
ذ كل جود بجوده
أعداه جود أبيه
يحيى وجود جدوده
فجاد موسى بن يحيى
بطارف وتليده
ونال موسى ذرى المج
د وهو حشو مهوده
خصصته بمديحي
منثوره وقصيده
من البرامك عود
له فأكرم بعوده
حووا على الشعر طرا
خفيفه ومديده
وقد مدحه بمثل ذلك إسحاق بن حسان الخريمي.
ويقول الطبري في أخبار سنة ثمان وسبعين ومائة: إن الرشيد فوض أموره كلها إلى يحيى بن خالد بن برمك. وقد ذكر فيها شخوص الفضل بن يحيى إلى خراسان واليا عليها، فأحسن السيرة بها، وبنى بها المساجد والرباطات، وغزا ما وراء النهر، فخرج إليه خاراخره ملك أشروسنة، وكان ممتنعا.
وقد مدحه مروان بن أبي حفصة وغيره بقصائد عدة، وقد ذكر محمد بن العباس أنه سمع مروان يقول: إنه أصاب في قدمته تلك على الفضل سبعمائة ألف درهم.
وقد مدحه سلم الخاسر فقال:
وكيف نخاف من بؤس بدار
تكنفها البرامكة البحور
وقوم منهم الفضل بن يحيى
نفير ما يوازنه نفير
له يومان؛ يوم ندى وبأس
كأن الدهر بينهما أسير
إذا ما البرمكي غدا ابن عشر
فهمته وزير أو أمير
ولننظر إلى مكانة الفضل وآل برمك من الرشيد، فإن أبا جعفر محمد بن جرير الطبري يحدثنا أنه لما قدم الفضل بن يحيى من خراسان؛ خرج الرشيد إلى بستان أبي جعفر يستقبله، وتلقاه بنو هاشم والناس من القواد والكتاب والأشراف، فجعل يصل الرجل بألف الألف وخمسمائة الألف. ومدحه مروان بن أبي حفصة فقال:
حمدنا الذي أدى ابن يحيى فأصبحت
بمقدمه تجري لنا الطير أسعدا
وما هجعت حتى رأته عيوننا
وما زلن، حتى آب، بالدمع حشدا
نفى عن خراسان العدو كما نفى
ضحى الصبح جلباب الدجى فتعردا
لقد راع من أمسى بمرو مسيره
إلينا وقالوا شعبنا قد تبددا
على حين ألقى قفل كل ظلامة
وأطلق بالعفو الأسير المقيدا
وأفشى بلا من مع العدل فيهم
أيادي عرف باقيات وعودا
فأذهب روعات المخاوف عنهم
وأصدر باغي الأمن فيهم وأوردا
وأجدى على الأيتام فيهم بعرفه
فكان من الآباء أحنى وأعودا
إذا الناس راموا غاية الفضل في الندى
وفي البأس ألفوها من النجم أبعدا
سما صاعدا بالفضل يحيى وخالد
إلى كل أمر كان أسنى وأمجدا
يلين لمن أعطى الخليفة طاعة
ويسقى دم العاصي الحسام المهندا
وشد القوى من بيعة المصطفى الذي
على فضله عهد الخليفة قلدا
سمي النبي الفاتح الحاتم الذي
به الله أعطى كل خير وسددا
أبحت جبال الكابلي ولم تدع
بهن لنيران الضلالة موقدا
فأطلعتها خيلا وطئن جموعه
قتيلا ومأسورا وفلا مشردا
وعادت على ابن البرم نعماك بعدما
تحوب مخذولا يرى الموت مفردا
وفي أخبار سنة ثمانين ومائة هاجت العصبية بالشام، وتفاقم أمرها، واغتم الرشيد بذلك، فعقد لجعفر بن يحيى على الشام وقال له: إما أن تخرج أنت أو أخرج أنا، فقال له جعفر: بل أقيك بنفسي. وشخص إليهم جعفر في جلة القواد والكراع والسلاح، فأصلح بينهم، وقتل زواقيلهم
1
والمتلصصة منهم، فعادوا إلى الأمن والطمأنينة، وأطفأ تلك الثائرة. وقد مدحه منصور النمري بقصيدة مطلعها:
لقد أوقدت بالشام نيران فتنة
فهذا أوان الشام تخمد نارها
إذا جاش موج البحر من آل برمك
عليها خبت شهبانها وشرارها
ولما عاد جعفر موفقا من سفرته هذه وقد استخلف على الشام مكانه عيسى بن العكي، دخل على الرشيد فزاده إكراما وإجلالا.
وإنا لننقل لك هنا ما قاله جعفر للرشيد حين مثل بين يديه؛ لأنه يعتبر أثرا قيما من ناحية تحليل نفسية الطرفين، ولروعته وبلاغته في أدب العصر، ولأنه في الوقت نفسه بمثابة نص تاريخي للعصر الذي ندرسه؛ قال الطبري: لما دخل جعفر على الرشيد قبل يديه ورجليه، ثم مثل بين يديه فقال: الحمد لله، يا أمير المؤمنين، الذي آنس وحشتي، وأجاب دعوتي، ورحم تضرعي، وأنسأ في أجلي حتى أراني وجه سيدي، وأكرمني بقربه، وامتن علي بتقبيل يده، وردني إلى خدمته، فوالله إن كنت لأذكر غيبتي عنه ومخرجي، والمقادير التي أزعجتني، فأعلم أنها كانت بمعاص لحقتني، وخطايا أحاطت بي، ولو طال مقامي عنك يا أمير المؤمنين، جعلني الله فداءك، لخفت أن يذهب عقلي؛ إشفاقا على قربك، وأسفا على فراقك، وأن يعجل بي عن إذنك الاشتياق إلى رؤيتك، والحمد لله الذي عصمني في حال الغيبة، وأمتعني بالعافية، وعرفني الإجابة، ومسكني بالطاعة، وحال بيني وبين استعمال المعصية، فلم أشخص إلا عن رأيك، ولم أقدم إلا عن إذنك وأمرك، ولم يخترمني أجل دونك، والله يا أمير المؤمنين، فلا أعظم من اليمين بالله، لقد عاينت، فلو تعرض لي الدنيا كلها، لاخترت عليها قربك، ولما رأيتها عوضا من المقام معك، ثم قال له بعقب هذا الكلام في هذا المقام: إن الله، يا أمير المؤمنين، لم يزل يبليك في خلافتك بقدر ما يعلم من نيتك، ويريك في رعيتك غاية أمنيتك، فيصلح لك جماعتهم، ويجمع ألفتهم، ويلم شعثهم، حفظا لك فيهم، ورحمة لهم، وإنما هذا للتمسك بطاعتك، والاعتصام بحبل مرضاتك. والله المحمود على ذلك، وهو مستحقه.
وفارقت، يا أمير المؤمنين، أهل كور الشام وهم منقادون لأمرك، نادمون على ما فرط من معصيتهم لك، متمسكون بحبلك، نازلون على حكمك، طالبون لعفوك، واثقون بحلمك، مؤملون فضلك، آمنون بادرتك، حالهم في ائتلافهم كحالهم كانت في اختلافهم، وحالهم في ألفتهم كحالهم كانت في امتناعهم. وعفو أمير المؤمنين عنهم، وتغمده لهم سابق لمعذرتهم، وصلة أمير المؤمنين لهم وعطفه عليهم متقدم عنده لمسألتهم، وايم الله، يا أمير المؤمنين، لئن كنت قد شخصت عنهم وقد أخمد الله شرارهم، وأطفأ نارهم، ونفى مراقهم، وأصلح دهماءهم، وأولاني الجميل فيهم، ورزقني الانتصار منهم، فما ذلك كله إلا ببركتك ويمنك وريحك، ودوام دولتك السعيدة الميمونة الدائمة، وتخوفهم منك، ورجائهم لك. والله، يا أمير المؤمنين، ما تقدمت إليهم إلا بوصيتك، وما عاملتهم إلا بأمرك، ولا سرت فيهم إلا على حد ما مثلته لي ورسمته، ووقفتني عليه، والله ما انقادوا إلا لدعوتك وتوحد الله بالصنع لك، وتخوفهم من سطوتك، وما كان الذي كان مني، وإن كنت بذلت جهدي وبلغت مجهودي، قاضيا ببعض حقك علي، بل ما ازدادت نعمتك علي عظما إلا ازددت عن شكرك عجزا وضعفا، وما خلق الله أحدا من رعيتك أبعد من أن يطمع نفسه في قضاء حقك مني، وما ذلك إلا أن أكون باذلا مهجتي في طاعتك وكل ما يقرب إلى موافقتك، ولكني أعرف من أياديك عندي ما لا أعرف مثلها عند غيري، فكيف بشكري وقد أصبحت واحد أهل دهري فيما صنعته في وبي؟! أم كيف بشكري وإنما أقوى على شكرك بإكرامك إياي؟! وكيف بشكري ولو جعل الله شكري في إحصاء ما أوليتني لم يأت على ذلك عدي؟! وكيف بشكري وأنت كهفي دون كل كهف لي؟! أو كيف بشكري وأنت لا ترضى لي ما أرضاه لي؟! وكيف بشكري وأنت تجدد من نعمتك عندي ما يستغرق كل ما سلف عندك لي؟! أم كيف بشكري وأنت تنسيني ما تقدم من إحسانك بما تجدده لي؟! أم كيف بشكري وأنت تقدمني بطولك على جميع أكفائي؟! أم كيف بشكري وأنت وليي؟! أم كيف بشكري وأنت المكرم لي؟! وأنا أسأل الله - الذي رزقني ذلك منك من غير استحقاق له؛ إذ كان الشكر مقصورا عن تأدية بعضه، بل دون شقص من عشر عشيره - أن يتولى مكافأتك عني بما هو أوسع له، وأقدر عليه، وأن يقضي عني حقك وجليل منتك، فإن ذلك بيده وهو القادر عليه.
وفي أخبار سنة ثمانين ومائة نفسها ولى الرشيد جعفر بن يحيى الحرس، وهكذا تجد في أخبار كل سنة نبأ عن آل برمك، وتمداحا لآل برمك، وأثرا جليلا في خدمة الدولة من آل برمك، ومكانة سامية تبوأها آل برمك من الرشيد.
وإنا لا نرى ندحة من إيراد واقعة حال رواها الفخري بين جعفر بن يحيى البرمكي وعبد الملك بن صالح الذي سعى به كاتبه قمامة وابنه عبد الرحمن عند الرشيد بتهمة طلبه الخلافة لنفسه، حتى حبسه الرشيد عند الفضل بن الربيع - وهو منافس لآل برمك - وكثيرا ما سعى الساعون بين صالح والرشيد. فإذا ما تعرض البرمكيون بالخير لرجل من كبار رجالات الدولة المتهمين بالتطلع إلى الخلافة، وإذا ما نجح البرمكيون في إيصال الخير لهم ، وفي إرضاء قلب الرشيد عليهم، كان في ذلك أصدق دليل على مكانتهم الرفيعة من الرشيد، فما بالك إذا ما وصلوا إلى أن يبني أحد أولاد صالح على إحدى بنات الرشيد، وإذا ما اقتطعوا له الولايات ورفدوه بأجزل الأموال؟!
على أنا نترك الكلمة لابن طباطبا ليقص عليك ما يرويه فيما نحن في صدده، قيل: إن جعفر بن يحيى البرمكي جلس يوما للشرب وأحب الخلوة، فأحضر ندماءه الذين يأنس بهم، وجلس معهم وقد هيئ المجلس ولبسوا الثياب المصبغة، وكانوا إذا جلسوا في مجلس الشراب واللهو لبسوا الثياب الحمر والصفر والخضر، ثم إن جعفر بن يحيى تقدم إلى الحاجب ألا يأذن لأحد من خلق الله تعالى سوى رجل من الندماء كان قد تأخر عنهم، اسمه عبد الملك بن صالح، ثم جلسوا يشربون ودارت الكاسات وخفقت العيدان - وكان رجل من أقارب الخليفة يقال له: عبد الملك بن صالح بن علي بن عبد الله بن العباس، وكان شديد الوقار والدين والحشمة، وكان الرشيد قد التمس منه أن ينادمه ويشرب معه، وبذل له على ذلك أموالا جليلة فلم يفعل - فاتفق أن عبد الملك بن صالح حضر إلى باب جعفر بن يحيى ليخاطبه في حوائج له، فظن الحاجب أنه هو عبد الملك بن صالح الذي تقدم جعفر بن يحيى بالإذن له وألا يدخل غيره، فأذن الحاجب له، فدخل عبد الملك بن صالح العباسي على جعفر بن يحيى، فلما رآه جعفر كاد عقله يذهب من الحياء، وفطن أن القضية قد اشتبهت على الحاجب بطريق اشتباه الاسم، وفطن عبد الملك بن صالح أيضا للقصة، وظهر له الخجل في وجه جعفر بن يحيى، فانبسط عبد الملك وقال: لا بأس عليكم، أحضروا لنا من هذه الثياب المصبغة شيئا، فأحضر له قميص مصبوغ، فلبسه وجلس يباسط جعفر بن يحيى ويمازحه، وقال: اسقونا من شرابكم. فسقوه رطلا، وقال: ارفقوا بنا؛ فليس لنا عادة بهذا. ثم باسطهم ومازحهم، وما زال حتى انبسط جعفر بن يحيى وزال انقباضه وحياؤه، ففرح جعفر بذلك فرحا شديدا وقال له: ما حاجتك؟ قال: جئت، أصلحك الله، في ثلاث حوائج أريد أن تخاطب الخليفة فيها: أولاها: أن علي دينا مبلغه ألف ألف درهم أريد قضاءه. وثانيتها: أريد ولاية لابني يشرف بها قدره. وثالثتها: أريد أن تزوج ولدي بابنة الخليفة؛ فإنها بنت عمه وهو كفء لها.
فقال له جعفر بن يحيى: قد قضى الله هذه الحوائج الثلاث؛ أما المال ففي هذه الساعة يحمل إلى منزلك، وأما الولاية فقد وليت ابنك مصر، وأما الزواج فقد زوجته فلانة ابنة مولانا أمير المؤمنين على صداق مبلغه كذا وكذا، فانصرف في أمان الله. فراح عبد الملك إلى منزله فرأى المال قد سبقه، ولما كان من الغد، حضر جعفر عند الرشيد وعرفه ما جرى، وأنه قد ولاه مصر، وزوجه ابنته، فعجب الرشيد من ذلك وأمضى العقد والولاية، فما خرج جعفر من دار الرشيد حتى كتب له التقليد بمصر، وأحضر القضاة والشهود وعقد العقد.
أرأيت كيف لم ينقض الرشيد ما أبرمه جعفر في مسألة خطيرة الخطر كله، لأنها تتعلق بكرامة الرشيد وأسرة الرشيد وشئون الرشيد الخاصة؟
أليس في ذلك ما يقطع برفيع مكانة القوم، وكبير قدرهم، وسامي منزلتهم عند الرشيد وفي الدولة التي هم مفزع رجالاتها، وموئل زعمائها؟
وأرجو ألا يفوتك في المثل المتقدم ما جاء فيه خاصا بالملابس؛ فإنه قد يعطيك فكرة ما عن تخصص بعضها للسهرات والردهات والمنادمات مما لا يختلف عن نظام اليوم من «ردنجوت» و«سموكنج» و«فراك» إلى غير ذلك مما يدل على مبلغ الثروة، واستفحال أمر المدنية عند القوم في تلك الأيام الخاليات؛ فتأمل ...! •••
ربما تطلب إلي مثالا على جودهم وتعلق الناس بهم، فأبلغك، أرشدك الله، أن كتب الأدب مترعة بالمئات من ذلك، بلا مبالغة ولا غلو ولا تهويل ولا إغراق، وسنترك الكلمة في هذا الباب لمعاصرين؛ أحدهما: إسحاق الموصلي، والآخر: الإتليدي فيما يرويه من حديث جرى بين المأمون والمنذر بن المغيرة. وإنا نكتفي بإيراد هذين المثلين للإفصاح عن جود البرامكة وبيان ما جبلت عليه نفوسهم من المروءة وبعد الهمة وحب الخير.
أما مسألة إسحاق الموصلي، فتفصيل الخبر فيها أن الفضل بن الربيع دعا أحمد بن يحيى المكي وعلويه ومخارقا للاجتماع عنده - وذلك أيام المأمون بعد رجوعه ورضاه عنه - إلا أن حالة الفضل كانت ناقصة متضعضعة، فلما اجتمعوا عنده كتب إلى إسحاق الموصلي يسأله أن يصير إليه، ويعلمه الحال في اجتماعهم عنده، فكتب إسحاق إليهم بحضوره، ولكن جاءهم متأخرا، وكان علويه يغني فأخطأ، فقال له إسحاق: أخطأت. فغضب علويه وعاتبه بكلام طويل، ومنه قوله له: إنه من صنيعة البرامكة، فقال إسحاق: أما البرامكة وملازمتي لهم فأشهر من أن أجحده، وإني لحقيق فيه بالمعذرة، وأحرى أن أشكرهم على صنيعهم، وبأن أذيعه وأنشره؛ وذلك والله أقل ما يستحقونه مني، ثم أقبل على الفضل وقد غاظه مدحه لهم، فقال: أتسمع مني شيئا أخبرك به مما فعلوه، وليس هو بكبير في صنائعهم عندي ولا عند أبي قبلي؟ فإن وجدت لي عذرا وإلا فلم؛ كنت في ابتداء أمري نازلا مع أبي في داره، فكان لا يزال يجري بين غلماني وغلمانه وجواري وجواريه الخصومة، كما يجري بين هذه الطبقات، فيشكونهم إليه فأتبين الضجر والتنكر في وجهه، فاستأجرت دارا بقربه وانتقلت إليها أنا وغلماني وجواري، وكانت دارا واسعة، فلم أرض ما معي من الآلة لها، ولا لمن يدخل إلي من إخواني أن يروا مثله عندي، ففكرت في ذلك وكيف أصنع، وزاد فكري حتى خطر بقلبي قبح الأحدوثة من نزول مثلي في دار بأجرة، وأني لا آمن في وقت أن يستأذن علي وعندي من أحتشمه ولا يعلم حالي، فيقال: صاحب دارك، أو يوجه في وقت فيطلب أجرة الدار وعندي من أحتشمه، فضاق بذلك صدري ضيقا شديدا حتى جاوز الحد، فأمرت غلامي بأن يسرج لي حمارا كان عندي لأمضي إلى الصحراء أتفرج فيها مما دخل على قلبي، فأسرجه وركبت برداء ونعل، فأفضى بي المسير وأنا مفكر لا أميز الطريق التي أسلك فيها حتى هجم بي على باب يحيى بن خالد، فثواثب غلمانه إلي وقالوا: أين هذا الطريق؟ فقلت: إلى الوزير . فدخلوا فاستأذنوا لي، وخرج الحاجب فأمرني بالدخول، وبقيت خجلا قد وقعت في أمرين فاضحين: إن دخلت إليه برداء ونعل وأعلمته أني قصدته في تلك الحال كان سوء أدب، وإن قلت له: كنت مجتازا، ولم أقصدك، فجعلتك طريقا؛ كان قبيحا. ثم عزمت فدخلت، فلما رآني تبسم وقال: ما هذا الزي يا أبا محمد؟ احتبسنا لك بالبر والقصد والتفقد، ثم علمنا أنك جعلتنا طريقا، فقلت: لا والله يا سيدي، ولكني أصدقك، قال: هات، فأخبرته القصة من أولها إلى آخرها، فقال: هذا حق مستو، أفهذا شغل قلبك؟
قلت: إي والله، وزاد فقال: «لا تشغل قلبك بهذا. يا غلام، ردوا حماره، وهاتوا له خلعة.» فجاءوني بخلعة تامة من ثيابه فلبستها، ودعا بالطعام فأكلت، ووضع النبيذ فشربت وشرب فغنيته، ودعا في وسط ذلك بدواة ورقعة، وكتب أربع رقاع ظننت بعضها توقيعا لي بجائزة، فإذا هو قد دعا بعض وكلائه فدفع إليه الرقاع وساره بشيء، فزاد طمعي في الجائزة، ومضى الرجل وجلسنا نشرب وأنا أنتظر شيئا فلا أراه إلى العتمة، ثم اتكأ يحيى فنام، فقمت وأنا منكسر خائب، فخرجت وقدم لي حماري، فلما تجاوزت الدار قال لي غلامي: إلى أين تمضي؟ فقلت: إلى البيت، قال: قد والله بيعت دارك وأشهد على صاحبها، وابتيع الدرب كله ووزن ثمنه، والمشتري جالس على بابك ينتظرك ليعرفك، وأظنه اشترى ذلك للسلطان، لأني رأيت الأمر في استعجاله واستحثاثه أمرا سلطانيا، فوقعت من ذلك فيما لم يكن في حسابي، وجئت وأنا لا أدري ما أعمل، فلما نزلت على باب داري إذا أنا بالوكيل الذي ساره يحيى قد قام إلي، فقال لي: ادخل، أيدك الله، دارك حتى أدخل إلى مخاطبتك في أمر أحتاج إليك فيه، فطابت نفسي بذلك، ودخلت ودخل إلي فأقرأني توقيع يحيى: يطلق لأبي محمد إسحاق بمائة ألف درهم يبتاع له بها داره وجميع ما يجاورها ويلاصقها.
والتوقيع الثاني إلى ابنه الفضل: قد أمرت لأبي محمد إسحاق بمائة ألف درهم يبتاع له بها داره، فأطلق إليه مثلها لينفقها على إصلاح الدار كما يريد، وبنائها على ما يشتهي.
والتوقيع الثالث إلى جعفر: قد أمرت لأبي محمد إسحاق بمائة ألف درهم يبتاع له بها منزل يسكنه، وأمر له أخوك بدفع ألف درهم ينفقها على بنائها ومرمتها على ما يريد، فأطلق له أنت مائة ألف درهم يبتاع بها فرشا لمنزله.
والتوقيع الرابع إلى محمد: قد أمرت لأبي محمد إسحاق أنا وأخواك بثلاثمائة ألف درهم لمنزل يبتاعه، ونفقة ينفقها عليه، وفرش يبتذله، فمر له أنت بمائة ألف يصرفها في سائر نفقته.
وقال الوكيل: قد حملت المال واشتريت كل شيء جاورك بسبعين ألف درهم، وهذه كتب الابتياعات باسمي، والإقرار لك، وهذا المال بورك لك فيه فاقبضه. فقبضته وأصبحت أحسن حالا من أبي في منزلي وفرشي وآلتي، ولا والله ما هذا بأكثر شيء فعلوه لي، أفألام على شكر هؤلاء؟! فبكى الفضل بن الربيع وكل من حضره وقالوا: لا والله لا تلام على شكر هؤلاء.
أرأيت إلى أي مدى بلغت مكانة البرامكة من رجالات العصر وأدبائه حتى تملكوا من القلوب أعنتها، ومن النفوس أزمتها؟ وكيف استحوذوا على السويداء والمهج؟ ولم لهجت الألسنة بتمداحهم والإشادة بذكرهم؟
أما حديث المأمون والمغيرة بن المنذر الذي رواه لنا الإتليدي، فهاكه بحذافيره: قال خادم المأمون: طلبني أمير المؤمنين ليلة وقد مضى من الليل ثلثه، فقال لي: خذ معك فلانا وفلانا - سماهما لي؛ وأحدهما: علي بن محمد، والآخر دينار الخادم - واذهب مسرعا لما أقول لك، فإنه بلغني أن شيخا يحضر ليلا إلى آثار دور البرامكة وينشد شعرا، ويذكرهم ذكرا كثيرا، ويندبهم ويبكي عليهم ثم ينصرف، فامض أنت وعلي ودينار حتى تردوا تلك الخرابات، فاستتروا خلف بعض الجدر، فإذا رأيتم الشيخ قد جاء وبكى وندب وأنشد أبياتا فأتوني به، قال: فأخذتهما ومضينا حتى أتينا الخرابات، فإذا نحن بغلام قد أتي ومعه بساط وكرسي حديد، وإذا شيخ قد أتى وله جمال، وعليه مهابة ولطف، فجلس على الكرسي وجعل يبكي وينتحب ويقول هذه الأبيات:
ولما رأيت السيف جندل جعفرا
ونادى مناد للخليفة في يحيى
بكيت على الدنيا وزاد تأسفي
عليهم وقلت الآن لا تنفع الدنيا
مع أبيات أطالها، فلما فرغ قبضنا عليه وقلنا له: أجب أمير المؤمنين، ففزع فزعا شديدا وقال: دعوني حتى أوصي بوصية؛ فإني لا أوقن بعدها بحياة. ثم تقدم إلى بعض الدكاكين واستفتح وأخذ ورقة وكتب فيها وصية وسلمها إلى غلامه، ثم سرنا فلما مثل بين يدي أمير المؤمنين قال: من أنت؟ وبما استوجبت منك البرامكة ما تفعله في خرائب دورهم؟ قال الشيخ: يا أمير المؤمنين، إن للبرامكة أيادي خضرة عندي، أفتأذن لي أن أحدثك بحالي معهم؟ قال: قل، فقال: يا أمير المؤمنين، أنا المنذر بن المغيرة من أولاد الملوك، وقد زالت عني نعمتي، كما تزول عن الرجال، فلما ركبني الدين واحتجت إلى بيع ما على رأسي ورءوس أهلي، وبيتي الذي ولدت فيه؛ أشاروا علي بالخروج إلى البرامكة، فخرجت من دمشق ومعي ثلاثون رجلا ونيف من أهلي وولدي، وليس معنا ما يباع ولا ما يوهب، حتى دخلنا بغداد ونزلنا في بعض المساجد، فدعوت ببعض ثياب كنت أعددتها لأستتر بها، فلبستها وخرجت وتركتهم جياعا لا شيء عندهم، ودخلت شوارع بغداد سائلا عن البرامكة، فإذا أنا بمسجد مزخرف وفي جانبه شيخ بأحسن زي وزينة، وعلى الباب خادمان، وفي الجامع جماعة جلوس، فطمعت في القوم ودخلت المسجد وجلست بين أيديهم وأنا أقدم رجلا وأؤخر أخرى، والعرق يسيل مني؛ لأنها لم تكن صناعتي، وإذا الخادم قد أقبل ودعا القوم فقاموا وأنا معهم، فدخلوا دار يحيى بن خالد فدخلت معهم، وإذا يحيى جالس على دكة له وسط بستان، فسلمنا وهو يعدنا مائة وواحدا، وبين يديه عشرة من ولده، وإذا بمائة واثني عشر خادما قد أقبلوا ومع كل خادم صينية من فضة على كل صينية ألف دينار، فوضعوا بين يدي كل رجل صينيته، فرأيت القاضي والمشايخ يضعون الدنانير في أكمامهم، ويجعلون الصواني تحت آباطهم، ويقوم الأول فالأول، حتى بقيت وحدي لا أجسر على أخذ الصينية، فغمزني الخادم فجسرت وأخذتها، وجعلت الذهب في كمي والصينية في يدي، وقمت وجعلت أتلفت ورائي مخافة أن أمنع من الذهاب، فوصلت وأنا كذلك إلى صحن الدار ويحيى يلاحظني، فقال للخادم: ائتني بهذا الرجل. فأتاه بي، فقال: مالي أراك تتلفت يمينا وشمالا؟ فقصصت عليه قصتي، فقال للخادم: ائتني بولدي موسى. فأتاه به، فقال: يا بني، هذا رجل غريب؛ فخذه إليك، واحفظه بنفسك ونعمتك. فقبض موسى ولده على يدي وأدخلني إلى دار من دوره، فأكرمني غاية الإكرام، وأقمت عنده يومي وليلتي في ألذ عيش وأتم سرور، فلما أصبح دعا بأخيه العباس وقال له: الوزير أمرني بالعطف على هذا الفتى، وقد علمت اشتغالي في بيت أمير المؤمنين، فاقبضه إليك وأكرمه، ففعل ذلك وأكرمني غاية الإكرام، ثم لما كان من الغد تسلمني أخوه أحمد، ثم لم أزل في أيدي القوم يتبادلونني مدة عشرة أيام لا أعرف خبر عيالي وصبياني؛ أفي الأموات هم أم في الأحياء؟ فلما كان اليوم الحادي عشر جاءني خادم ومعه جماعة من الخدم فقالوا: قم فاخرج إلى عيالك بسلام، فقلت: وا ويلاه! سلبت الدنانير والصينية وأخرج على هذه الحالة!
إنا لله وإنا إليه راجعون
فرفع الستر الأول ثم الثاني ثم الثالث ثم الرابع، فلما رفع الخادم الستر الأخير قال لي: مهما كان لك من الحوائج فارفعها إلي، فإني مأمور بقضاء جميع ما تأمرني به، فلما رفع الستر الأخير رأيت حجرة كالشمس حسنا ونورا، واستقبلني منها رائحة الند والعود ونفحات المسك، وإذا بصبياني وعيالي يتقلبون في الحرير والديباج، وحمل إلي مائة ألف درهم وعشرة آلاف دينار، ومنشور بضيعتين وتلك الصينية التي كانت أخذتها بما فيها من الدنانير والبنادق. وأقمت، يا أمير المؤمنين، مع البرامكة في دورهم ثلاث عشرة سنة لا يعلم الناس أمن البرامكة أنا أم رجل غريب، فلما جاءتهم البلية، ونزل بهم، يا أمير المؤمنين، من الرشيد ما نزل، أجحفني عمرو بن مسعدة وألزمني في هاتين الضيعتين من الخراج ما لا يفي دخلهما به، فلما تحامل علي الدهر كنت في آخر الليل أقصد خرابات دورهم، فأندبهم وأذكر حسن صنيعهم إلي، وأبكي على إحسانهم، فقال المأمون: علي بعمرو بن مسعدة. فلما أتي به قال له: تعرف هذا الرجل؟ قال: يا أمير المؤمنين، هو بعض صنائع البرامكة، قال: كم ألزمته في ضيعته؟ قال: كذا وكذا، فقال له: رد إليه كل ما أخذت منه في مدته، وأفرغهما له ليكونا له ولعقبه من بعده، قال: فعلا نحيب الرجل، فلما رأى المأمون كثرة بكائه قال له: يا هذا، قد أحسنا إليك، فما يبكيك؟ قال: يا أمير المؤمنين، وهذا أيضا من صنيع البرامكة! لو لم آت خراباتهم فأبكيهم وأندبهم حتى اتصل خبري إلى أمير المؤمنين ففعل بي ما فعل، من أين كنت أصل إلى أمير المؤمنين؟ قال إبراهيم بن ميمون: فرأيت المأمون وقد دمعت عيناه وظهر عليه حزنه، وقال: «لعمري هذا من صنائع البرامكة! فعليهم فابك، وإياهم فاشكر، ولهم فأوف، ولإحسانهم فاذكر.»
مما يدل على تقدير المأمون للبرامكة ما رواه القاضي يحيى بن أكثم قال: سمعت المأمون يقول: لم يكن كيحيى بن خالد وولده أحد في الكفاية والبلاغة والجود والشجاعة، قال القاضي: فقلت: يا أمير المؤمنين، أما الكفاية والبلاغة والسماحة فنعرفها فيهم، ففيمن الشجاعة؟ فقال: في موسى بن يحيى، وقد رأيت أن أوليه ثغر السند. •••
مكانة عالية بلا ريب مكانة آل برمك، وسلطان لا حد له سلطانهم، وغنى فاحش قبل الإسلام، وصولة ونفوذ قول في دولة الرشيد، فما الذي يا ترى غير قلب الرشيد عليهم حتى نكبهم؟
لنذكر ما يقوله المعاصرون ونعقب عليه بكلمة هادئة حكيمة لابن خلدون:
أما بختيشوع الطبيب المأموني فإنه يقول نقلا عن أبيه جبريل: إنه لقاعد في مجلس الرشيد إذ طلع يحيى بن خالد - وكان فيما مضى يدخل بلا إذن - فلما دخل وصار بالقرب من الرشيد وسلم، رد عليه ردا ضعيفا، فعلم يحيى أن أمرهم قد تغير، قال: ثم أقبل علي الرشيد فقال: يا جبريل، يدخل عليك وأنت في منزلك أحد بلا إذنك؟ فقلت: لا، ولا يطمع في ذلك، قال : فما بالنا يدخل علينا بلا إذن؟! فقام يحيى فقال: يا أمير المؤمنين، قدمني الله قبلك، والله ما ابتدأت ذلك الساعة، وما هو إلا شيء كان خصني به أمير المؤمنين، ورفع به ذكري، حتى إن كنت لأدخل وهو في فراشه مجردا حينا، وحينا في بعض إزاره، وما علمت أن أمير المؤمنين كره ما كان يحب، وإذ قد علمت فإني أكون عنده في الطبقة الثانية من أهل الإذن أو الثالثة، إن أمرني سيدي بذلك، قال: فاستحيا الرشيد، وكان من أرق الخلفاء وجها، وعيناه في الأرض ما يرفع إليه طرفه، ثم قال: ما أردت ما تكره ولكن الناس يقولون، قال جبريل: فظننت أنه لم يسنح له جواب يرتضيه، فأجاب بهذا القول، ثم أمسك عنه وخرج يحيى.
أما أحمد بن يوسف كاتب عصرنا المأموني النابه، فإنه يحدثنا عن ثمامة بن أشرس بحديث سننقله لك. وقبل إيراد هذا الحديث نود أن نذكرك بأن محمد بن الليث الذي سيرد فيه هو محمد بن الليث الذي اختاره المهدي كاتبا للسر في مجلس مشاورته لتدبير رأي في حرب خراسان، وأمره بحفظ مراجعة أعضاء المجالس، وإثبات مقالتهم في كتاب.
وربما كان من المفيد أن نزيد القارئ بمحمد بن الليث معرفة، لا لأنه من رجالات عصرنا ومن ذوي الأثر الأدبي القيم فيه، ولا لأنه صاحب تلك الرسالة الشائقة التي بعث بها من الرشيد إلى ملك الروم التي أثبتناها في المجلد الثاني من هذا الكتاب، بل لأنا نرى في توضيح قدره توضيحا لقدر البرامكة، ولأنك حينما ترى الرشيد يقبض على محمد بن الليث؛ بسبب البرامكة وكرامتهم ومنزلتهم من نفسه؛ لنصحه له بأن يضع حدا لاستفحال شأن البرامكة، وللرجل قدره ومنزلته، تستطيع أن تتصور تصورا صميما مكانة البرامكة من الرشيد ومن الدولة ومن العصر الذي هم فيه، ولأنك حينما تعلم أن الرشيد أطلق محمد بن الليث من حبسه واعتذر له قبيل نكبة البرامكة؛ تستطيع أن تعلم إذن مقدار التحول الذي نال نفسية الرشيد.
سنرى في مشاورة المهدي التي ذكرها ابن عبد ربه في العقد، والتي أثبتناها لك في المجلد الثاني، أن محمد بن الليث يتكلم في المجلس - وكان الرشيد بلا شك ولي العهد - كلاما يرضي الرشيد. إذن فمحمد بن الليث كان إلى جانب وظيفته كناموس لمجلس المشاورة صاحب رأي في مجلس الاستشارة نفسه يعتد به، فهو ذو شخصية عظيمة من ذوي شخصيات الدولة الذين لكلامهم خطره، ولقولهم أثره.
2
قال: أول ما أنكر يحيى بن خالد من أمره، أن محمد بن الليث رفع رسالة إلى الرشيد يعظه فيها، ويذكر أن يحيى بن خالد لا يغني عنك من الله شيئا، وقد جعلته فيما بينك وبين الله، فكيف أنت إذا وقفت بين يديه فسألك عما عملت في عباده وبلاده، فقلت: يا رب، إني استكفيت يحيى أمور عبادك، أتراك تحتج بحجة يرضى بها؟ مع كلام فيه توبيخ وتقريع، فدعا الرشيد يحيى وقد تقدم إليه خبر الرسالة، فقال: تعرف محمد بن الليث؟ قال: نعم، قال: فأي الرجال هو؟ قال: متهم على الإسلام - لاحظ كيف يتهمون في الدين - فأمر به الرشيد فوضع في المطبق دهرا.
فلما تنكر الرشيد للبرامكة ذكره، فأمر بإخراجه فأحضر، فقال له بعد مخاطبة طويلة: يا محمد، أتحبني؟ قال: لا والله يا أمير المؤمنين، قال: تقول هذا؟! قال: نعم، وضعت في رجلي الأكبال وحلت بيني وبين العيال بلا ذنب أتيت ولا حدث أحدثت، سوى قول حاسد يكيد للإسلام وأهله، ويحب الإلحاد وأهله، فكيف أحبك؟! قال: صدقت. وأمر بإطلاقه ثم قال: يا محمد، أتحبني؟ قال: لا والله يا أمير المؤمنين، ولكن قد ذهب ما في قلبي. فأمر أن يعطى مائة ألف درهم، فأحضرت، فقال: يا محمد، أتحبني؟ قال: أما الآن فنعم! قد أنعمت علي وأحسنت إلي، قال: انتقم الله ممن ظلمك، وأخذ لك بحقك ممن بعثني عليك، قال ثمامة: فقال الناس في البرامكة فأكثروا، وكان ذلك أول ما ظهر من تغير حالهم.
فماذا حدث بعد ذلك؟
حدث - كما يخبرنا أحد المعاصرين، وهو محمد بن الفضل بن سفيان مولى سليمان بن أبي جعفر - أن يحيى بن خالد دخل دار الرشيد في الآونة التي نحن في صددها، فقام الغلمان إليه احتراما وإجلالا، فما كان من الرشيد إلا أن قال لمسرور الخادم: مر الغلمان ألا يقوموا ليحيى إذا دخل الدار، قال: فدخل فلم يقم له أحد، فاربد لونه، قال: وكان الغلمان والحجاب بعد إذا رأوه أعرضوا عنه، قال: فكان ربما استسقى الشربة من الماء أو غيره فلا يسقونه، وبالحري إن سقوه أن يكون ذلك بعد أن يدعو بها مرارا.
ولننظر في سبب آخر يرويه لنا أحد المطلعين على أخبار ذلك العصر، وهو أبو محمد اليزيدي، قال: من قال: إن الرشيد قتل جعفر بن يحيى بغير سبب يحيى بن عبد الله بن حسن فلا تصدقه، وذلك أن الرشيد دفع يحيى إلى جعفر فحبسه، ثم دعا به ليلة من الليالي فسأله عن شيء من أمره فأجابه، إلى أن قال: اتق الله في أمري ولا تتعرض أن يكون خصمك غدا محمدا
صلى الله عليه وسلم ، فوالله ما أحدثت حدثا ولا آويت محدثا! فرق عليه وقال له: اذهب حيث شئت من بلاد الله، قال: وكيف أذهب ولا آمن أن أوخذ بعد قليل فأرد إليك أو إلى غيرك؟ فوجه معه من أداه إلى مأمنه، وبلغ الخبر الفضل بن الربيع من عين كانت له عليه من خاص خدمه، فبلا الأمر فوجده حقا وانكشف عنده، فدخل على الرشيد فأخبره؛ فأراه أنه لا يعبأ بخبره وقال: وما أنت وهذا، لا أم لك، فلعل ذلك عن أمري! فانكسر الفضل، وجاءه جعفر فدعا بالغداء فأكلا، وجعل يلقمه ويحادثه إلى أن كان آخر ما دار بينهما أن قال: ما فعل يحيى بن عبد الله؟ قال: بحاله يا أمير المؤمنين في الحبس الضيق والأكبال، قال: بحياتي؟ فأحجم جعفر - وكان من أدق الخلق ذهنا وأصحهم فكرا - فهجس في نفسه أنه قد علم بشيء من أمره، فقال: لا وحياتك يا سيدي، ولكن أطلقته وعلمت أنه لا حياة به ولا مكروه عنده، قال: نعم ما فعلت، ما عدوت ما كان في نفسي. فلما خرج أتبعه بصره حتى كاد يتوارى عن وجهه ثم قال: قتلني الله بسيف الهدى على عمل الضلالة إن لم أقتلك. فكان من أمره ما كان.
سبب رابع رواه أحمد بن زهير، ونذكره لك هنا على علاته استكمالا للموضوع من كل نواحيه، يقول الطبري: إنه يظن أن المصدر للرواية هو زاهر بن حرب، قال: «إن سبب هلاك جعفر والبرامكة أن الرشيد كان لا يصبر عن جعفر وعن أخته عباسة بنت المهدي، وكان يحضرهما إذا جلس للشرب، وذلك بعد أن أعلم جعفرا قلة صبره عنه وعنها، وقال لجعفر: تزوجها ليحل لك النظر إليها إذا أحضرتها مجلسي. وتقدم إليه ألا يمسها ولا يكون منه شيء مما يكون للرجل إلى زوجته، فزوجها منه على ذلك، فكان يحضرهما مجلسه إذا جلس للشرب، ثم يقوم عن مجلسه ويخليهما، فيثملان من الشراب وهما شابان، فيقوم إليها جعفر فيجامعها، فحملت منه وولدت غلاما، فخافت على نفسها من الرشيد إن علم بذلك، فوجهت بالمولود مع حواضن له من مماليكها إلى مكة، فلم يزال الأمر مستورا عن هارون، حتى وقع بين عباسة وبعض جواريها شر، فأنهت أمرها وأمر الصبي إلى الرشيد، وأخبرته بمكانه ومع من هو من جواريها وما معه من الحلي الذي كانت زينته به أمه، فلما حج هارون هذه الحجة، سنة سبع وثمانين ومائة، أرسل إلى الموضع الذي كانت الجارية أخبرته أن الصبي به من يأتيه بالصبي وبمن معه من حواضنه، فلما أحضروا سأل اللواتي معهن الصبي، فأخبرنه بمثل القصة التي أخبرته بها الرافعة على عباسة، فأراد - فيما زعم - قتل الصبي ثم تحوب عن ذلك، وكان جعفر يتخذ للرشيد طعاما كلما حج بعسفان فيقربه إذا انصرف شاخصا من مكة إلى العراق، فلما كان في هذا العام اتخذ الطعام جعفر، كما كان يتخذه هنالك، ثم استزاره فاعتل عليه الرشيد ولم يحضر طعامه، ولم يزل جعفر معه حتى نزل منزله من الأنبار، فكان من أمره وأمر أبيه ما كان.»
أما نحن فلا نريد القطع بأن نكبة البرامكة كانت أثرا لسبب بعينه من هذه الأسباب، وربما كانت نتيجة لطائفة من الأسباب مجتمعة، منها ما نعرفه ومنها ما لم نعرفه بعد ، ونحب ألا يفوتنا هنا أن نفترض فرضا - نعترف بأنه فرض لا أكثر ولا أقل، ونعترف بأنه في حاجة إلى التحقيق العلمي، ولكنا نعترف أيضا أن عرضه على علاته لا يخلو من النفع - وهو أن البرامكة كانوا فيما يظهر متأثرين بالناحية السياسية لمذهب المعتزلة،
3
وهي الاعتدال بين أهواء الأحزاب السياسية المتطرفة وتلطيف الخصومة بين جناحي الحزب الهاشمي، فلم يرض الرشيد عن هذا النحو من السياسة، ومالأه على ذلك النفعيون من أنصار الجناح العباسي. وسنرى بعد قليل أن المأمون كان يرى رأي البرامكة في هذا النحو من السياسة المعتدلة الموفقة بين وجهات النظر المختلفة. •••
أما كيفية القبض على البرامكة، واحتياط الرشيد وحذره قبل قتلهم ومصادرته لأموالهم، وما قالته الشعراء في رثائهم، فحديث طويل يتطلب رسالة خاصة، وفقنا الله لدراسة موضوع البرامكة ونكبتهم وأثرهم في الدولة العباسية في موضوعنا «عصر الرشيد» في القريب العاجل إن شاء الله.
على أننا نرى من المستصوب قبل أن تتم هذه الفذلكة الموجزة أن نختمها بكلمة لابن خلدون لا تخلو من تحليل صحيح، ومذهب في الموازنة رجيح، وباب في التاريخ جميل المنهج، معقول التعليل.
قال ابن خلدون: إنما نكب البرامكة ما كان من استبدادهم على الدولة واحتجانهم أموال الجباية، حتى كان الرشيد يطلب اليسير من المال فلا يصل إليه، فغلبوه على أمره، وشركوه في سلطانه، ولم يكن له معهم تصرف في أمور ملكه، فعظمت آثارهم، وبعد صيتهم وعمروا مراتب الدولة وخططها بالرؤساء من ولدهم وصنائعهم، واحتازوها عمن سواهم: من وزارة وكتابة وقيادة وحجابة وسيف وقلم، يقال: إنه كان بدار الرشيد من ولد يحيى بن خالد خمسة وعشرون رئيسا من بين صاحب سيف وصاحب قلم، زاحموا فيها أهل الدولة بالمناكب، ودفعوهم عنها بالراح؛ لمكان أبيهم يحيى من كفالة هارون ولي عهد وخليفة، حتى شب في حجره، ودرج من عشه، وغلبه على أمره، وكان يدعوه: يا أبت، فتوجه الإيثار من السلطان إليهم ، وعظمت الدالة منهم، وانبسط الجاه عندهم، وانصرفت نحوهم الوجوه، وخضعت لهم الرقاب، وقصرت عليهم الآمال، وتخطت إليهم من أقصى التخوم هدايا الملوك وتحف الأمراء، وتسربت إلى خزائنهم، في سبيل التزلف والاستمالة، أموال الجباية، وأفاضوا في رجال الشيعة وعظماء القرابة العطاء، وطوقوهم المنن، وكسبوا من بيوتات الأشراف المعدم، وفكوا العاني، ومدحوا بما لم يمدح به خليفتهم، وأسنوا لعفاتهم الجوائز والصلات، واستولوا على القرى والضياع من الضواحي والأمصار في سائر الممالك، حتى آسفوا البطانة وأحقدوا الخاصة، وأغصوا أهل الولاية، فكشفت لهم وجوه المنافسة والحسد، ودبت إلى مهادهم الوثيرة من الدولة عقارب السعاية، حتى لقد كان بنو قحطبة أخوال جعفر من أعظم الساعين عليهم، لم تعطفهم، لما وقر في نفوسهم من الحسد، عواطف الرحم، ولا وزعتهم أواصر القرابة، وقارن ذلك عند مخدومهم نواشئ الغيرة والاستنكاف من الحجر والأنفة وكامن الحقود التي بعثتها منهم صغائر الدالة، وانتهى بهم الإصرار على شأنهم إلى كبائر المخالفة.
هوامش
الفصل التاسع
الحياة العلمية في العصر العباسي
(1) توطئة
هذه فذلكة مجملة بمثابة توطئة لما سنعرض له بما يقتضيه المقام من شرح وإيضاح في العصر المأموني، فمهمتنا الآن أن نلم ببيان العناصر المهمة في الحياة العلمية العباسية.
نعلم من تاريخ اليونان القديم أن أثر اليونان في الثقافة الإنسانية عظيم عميق، لأنه إلى جانب إمداد العالم بمنتجات فلاسفتهم وعلمائهم وكتابهم ومفكريهم، قد أمدوه أيضا بالنخب والملح مما وقف عليه اليونان من زبدة علوم الأشوريين والبابليين والفينيقيين والمصريين والهنود والفرس واليونان والرومان، فإذا ما قلنا: إن العرب وقفوا على الفلسفة اليونانية ومنتجات العقول اليونانية، فكأننا نقول ضمنا: إنهم وقفوا على آثار العقليات الإنسانية العامة وآثار الثقافة القديمة والحضارات السالفة.
ونعلم أن الدولة العباسية كانت فارسية إلى حد ما، أو على الأقل كانت متسمة بالطابع الفارسي متأثرة به، ونعلم من تاريخ سقوط الدولة الرومانية للأستاذ «چيون» أن «جستنيان» اضطهد مدارس أثينا لأنه كان خصما للفلسفة الوثنية، وكانت الفلسفة الأفلاطونية حين ذاك قد آتت ثمرتها ونضجت، ثم هرع أصحابها إلى الفرس، واتصل بأنوشروان سبعة من علماء اليونان، فأكرم وفادتهم، وأفسح لهم مجال التأليف والنقل فيما هم أهله وأصحاب القدح المعلى فيه.
ويقول ابن النديم في الفهرست: إن الفرس نقلت في القديم شيئا من كتب المنطق والطب إلى اللغة الفارسية، فنقل ذلك إلى اللسان العربي عبد الله بن المقفع، فمن المعقول إذن أن يكون العرب حين اتصلت ثقافتهم بالثقافة الفارسية وتأثروا بها، تأثروا في الوقت نفسه بالثقافة اليونانية أيضا - ولم تكن الثقافة الفارسية مما يستهان بأمره أو يغمط قدره؛ لأنك إذا استقصيت تاريخ ملوكهم الكبار، مثل سابور بن أردشير، تجد أنه في خلال عهده بعث إلى بلاد اليونان وجلب كتب الفلسفة، وأمر بنقلها إلى الفارسية، واختزنها في مدينته، وأخذ الناس في نسخها وتدارسها وهكذا - فالثقافة العربية أفادت أيما إفادة من منتجات الفرس وآثارهم وتراجمهم. (2) حركة النقل
لنتدرج الآن إلى شيء من التوضيح فننقل لك ما يقوله ابن صاعد الأندلسي في هذا الباب؛ لأنه مختصر عما تعرض له أمثال الأساتذة «نللينو» و«ابن أبي أصيبعة» و«القفطي» و«ابن النديم» وغيرهم ممن سيكونون عدتنا وموئلنا حين نعرض لهذه البحوث في العصر المأموني.
يقول ابن صاعد: «إن أول علم اعتني به من علوم الفلسفة علم المنطق والنجوم، فأما المنطق فأول من اشتهر به في هذه الدولة عبد الله بن المقفع الخطيب الفارسي، فإنه ترجم كتب أرسطاطاليس المنطقية الثلاثة التي في صورة المنطق، وهي: كتاب «قاطاغورياس» وكتاب «باري أرمنياس» وكتاب «أتولوطيقا»، وذكر أنه لم يترجم منه إلى وقته إلا الكتاب الأول، وترجم ذلك المدخل إلى كتاب المنطق المعروف ب «إيساغوجي» ل «فرفوريوس الصوري»، وعبر عما ترجم من ذلك عبارة سهلة قريبة المأخذ، وترجم مع ذلك الكتاب الهندي المعروف بكليلة ودمنة، وهو أول من ترجم من اللغة الفارسية إلى اللغة العربية ...»
وأما علم النجوم فأول من عني به في هذه الدولة محمد بن إبراهيم الفزاري، وذلك أن الحسين بن حميد، المعروف بابن الآدمي، ذكر في تاريخه الكبير المعروف بنظام العقد: «إنه قدم على الخليفة المنصور سنة ست وخمسين ومائة رجل من الهند عالم بالحساب المعروف بالسند هندي، في حركات النجوم مع تعاديل معلومة على كردجات محسوبة لنصف نصف درجة، مع ضروب من أعمال الفلك ومع كسوفين ومطالع البروج وغير ذلك، في كتاب يحتوي على اثني عشر بابا، وذكر أنه اختصره من كردجات منسوبة إلى ملك من ملوك الهند يسمى قبغر، وكانت محسوبة لدقيقة؛ فأمر المنصور بترجمة ذلك الكتاب إلى اللغة العربية، وأن يؤلف منه كتاب تتخذه العرب أصلا في حركات الكواكب، فتولى ذلك محمد بن إبراهيم الفزاري، وعمل منه كتابا يسميه المنجمون «بالسند هند الكبير» وتفسير السند هند باللغة الهندية: الدهر الداهر.»
وقد يكون من المستصوب أن نفهم حقيقة وجهة نظر العرب حين ذاك إلى علم الفلك، فهم كاليونانيين في زمن «بطليموس» كان غرضهم في الهيئة تبين الحركات السماوية مع كل اختلافاتها المرئية بأشكال هندسية تمكنهم من حساب أوضاع الكواكب لأي وقت فرض، فإن كانت تلك الأشكال تصلح لحساب الظواهر رضوا بها، وما اهتموا بالبحث في حقيقة حركات الأجرام السماوية؛ وذلك لظنهم أن البحث عن حقيقة الحركات وعللها يكون على المشتغلين بالحكمة والطبيعة والحكمة الإلهية.
ونحن نجد، بقطع النظر عن أحكام النجوم التي صارت غير مقبولة في أيامنا، أن الهيئة عند العرب كما يقول الأستاذ «نللينو»: قد اشتملت على علم الهيئة الكروي والعملي، وقسم صغير من النظري يخص الكسوفات واستتارات الكواكب السيارة، مع علم التاريخ الرياضي، وعلم أطوال البلدان وعروضها على طريقة كتاب الجغرافية لبطليموس، فقد خرج من علم الهيئة عند العرب علم الميكانيكا الفلكية وعلم طبيعة الأجرام السماوية وأكثر علم الهيئة النظري؛ إذ إنه يبحث عن حقيقة حركات الكواكب.
فلا مرية إذن في أن العرب، إلى جانب وقوفهم على الفلسفة الفارسية والحكمة اليونانية، قد وقفوا أيضا على آخر الآراء العلمية الخاصة بعلم الفلك في ذلك الحين، وأنهم وقفوا على آراء بطليموس فيما وقفوا عليه من الآراء. وبطليموس كما قال البتاني: قد تقصى علم الفلك من وجوهه، ودل على العلل والأسباب العارضة فيه بالبرهان الهندسي والعددي الذي لا تدفع صحته ولا يشك في حقيقته، فأمر بالمحنة والاعتبار بعده، وذكر أنه قد يجوز أن يستدرك عليه في أرصاده على طول الزمان، كما استدرك هو على أبرخس وغيره من نظرائه؛ لجلالة الصناعة، ولأنها سماوية جسيمة لا تدرك إلا بالتقريب.
ولا يفوتنا أن نشير هنا إلى ترجمة كتاب زيج بطليموس المقول بأن أيوب وسمعان فسراه لمحمد بن خالد البرمكي، ونرجو حين تعرضنا لهذه الموضوعات في العصر المأموني أن نلم بها إلماما أدق وأوسع.
على أنه يجدر بنا في هذه الفذلكة أن نشير إلى الكتب البهلوية الثلاثة التي استطاع الأستاذ «نللينو» أن يكتشف أثر نقلها فيما قبل انتهاء القرن الثاني للهجرة، فواحد منها في علم الهيئة الحقيقي، وهو زيج الشاه أو زيج الشهريار، والآخران في صناعة أحكام النجوم؛ وهما: المبزيذج في المواليد، المنسوب إلى بزرجمهر، وكتاب صور الوجوه لتنكلوس، وكذلك يجدر بنا أن نشير إلى أن كتاب المجسطي نقل في أيام الرشيد.
وإنا نلخص لك هنا ما لاحظه المرحوم جورجي بك زيدان في أمر النقل، من أن العرب، مع كثرة ما نقلوه عن اليونان، لم يتعرضوا لشيء من كتبهم التاريخية أو الأدبية أو الشعر، مع أنهم نقلوا ما يقابلها عند الفرس والهنود، فقد نقلوا جملة صالحة من تاريخ الفرس وأخبار ملوكهم، وترجموا الشاهنامة، ولكنهم لم ينقلوا تاريخ هيرودوتس ولا جغرافية إسترابون ولا إلياذة هوميروس ولا أوديسته، وسبب ذلك أن أكثر ما بعث المسلمين على النقل رغبتهم في الفلسفة والطب والنجوم والمنطق.
1
ولا يستخف بما اقتضاه ذلك النقل عن أشهر أمم الأرض في ذلك العصر من التأثير في الآداب الاجتماعية والآراء العامة، ولا سيما ما نقل عن الفارسية؛ لأن معظمه في الأدب والتاريخ، فدخل الآداب العربية كثير من آداب الفرس الساسانية وأفكارهم، اقتبسها العرب من الكتب التي نقلت عنهم، ولم يبق منها إلا ألف ليلة وليلة، وكليلة ودمنة، ونتف متفرقة في بعض الكتب، وقد درس في هذا الموضوع المتشرق «إينواسترانشتيف» الروسي، ووضع فيه كتابا طبع في بطرسبرج سنة 1909م.
على أنا نلاحظ أن تأثير هذا النقل عن الفرس لا يزال قائما إلى الآن في بعض الكتب العربية التي وضعت في عصور قريبة من عصر المأمون، نذكر منها على طريق التمثيل: كتاب «عيون الأخبار» لابن قتيبة، و«التاج» المنسوب للجاحظ، فعلى هذه المنقولات وأمثالها بنى المسلمون ما ألفوه في هذه العلوم أثناء تمدينهم غير ما اختبروه وأضافوا إليها من عند أنفسهم.
وإن المطلع على ما جاء بالفهرست لابن النديم خاصا بتلك المنقولات يعلم، مع شديد الأسف، أن جلها قد ضاع، على أنه كان للقليل الباقي منها أثره الفعال في نهضة أوروبا، وأهم ما بقي من ذلك التراث القيم هو كتاب المجسطي لبطليموس، ترجمه الحجاج بن يوسف، وكتاب السياسة في تدبير الرياسة، ترجمه يوحنا بن البطريق، وبعض آثار لقسطا بن لوقا البعلبكي وغيرها. (3) العلوم القرآنية واللغوية والفقهية
كان المؤرخون القدماء يقولون في العلوم القرآنية: إنه قد تفرع عن القرآن نحو ثلاثمائة علم. ونحن نحيلك على أمثال «مفتاح السعادة» لأحمد بن مصطفى، المعروف بطاش كبرى زاده، المطبوع بمطبعة دائرة المعارف النظامية بحيدر آباد، ومقدمة ابن خلدون، و«مفاتيح العلوم» وغيرها. وأما النحاة وطبقاتهم واللغة وما دخلها من الألفاظ المستحدثة في العصر العباسي، فأمامك أمثال «شفاء الغليل فيما في كلام العرب من الدخيل» لشهاب الدين الخفاجي، «ودرة الغواص» للحريري، وكتاب «المعرب من الكلام الأعجمي» لأبي منصور الجواليقي المتوفى في منتصف القرن السادس، وطبع في ليبسك سنة 1897م، وكتاب «طبقات النجاة» المعروف «بنزهة الألباء في طبقات الأدباء» لأبي البركات عبد الرحمن بن محمد الأنباري، وغيرها مما لا يقع تحت حصر.
وحسبنا أن نقول لك: إنه لم يكن في الجاهلية ولا في صدر الإسلام ذلك التراث العظيم من الألفاظ الطبية وأسماء الأدوية والجراحة وأسماء الأمراض والاصطلاحات الفلسفية وغير ذلك مما وضع في العصر العباسي خاصة، أمثال قولهم: صيدلية، وتشريح، ونبض، وهضم، ومبردات، وقابض، ومسهل، وتشنج، وذات الرئة، وبنج، والهيولى، والقاموس، والقانون، إلى مئات الألفاظ من أمثال ذلك النوع الذي تجده في مظانه ولا نرى حاجة بنا إلى الاستطراد فيه.
ويجدر بنا هنا أن نشير إلى أثر من أجل الآثار الاقتصادية للدولة الإسلامية في بداية العصر العباسي، ويمكن النظر إليه كما ينظر الإسكتلنديون إلى كتاب «جون سنكلر» عن تاريخهم الاقتصادي، وهذا الأثر القيم الخالد الذي نظم جباية الدولة أجمل تنظيم وأدقه هو كتاب «الخراج» للفقيه الأكبر أبي يوسف يعقوب بن إبراهيم الأنصاري، صاحب الإمام أبي حنيفة النعمان.
هوامش
الفصل العاشر
الحالة الأدبية في صدر عصر بني العباس
(1) توطئة
أسلفنا لك القول في الحالة الأدبية في عصر بني أمية التي كانت في الواقع، إلى جانب ما بيناه لك من اختلافها عن العصر الجاهلي، قريبة في جملتها من غضاضة البدو وخشونة المدر، فلم تتسع لها الأغراض ولم تنفرج لها الجوانب إلا بقدر ما تنطبق عليه جزيرة العرب وبادية الشام من الأفكار والأخيلة، وما توحي به غياض دمشق ونبرات معبد من صفاء الفكر ووضوحه، وجلاء المعنى واقترابه، لا يبالي القوم الإمعان في الآراء البعيدة والأفكار الدقيقة، وإنما كان همهم، كما يقول الرواة، أن تجود ألفاظهم، وتجل تراكيبهم.
وفي الحقيقة أنهم قد اقتعدوا في ذلك من البلاغة ذروتها، وبلغوا من الجزالة غايتها، فكان الرجل منهم يضع لسانه حيث أراد ومتى شاء، وحسبك أن تنظر إلى ما جاء به زياد وعبد الملك والحجاج، وما أرسله جرير والأخطل والفرزدق؛ لتعرف أين كان القوم من البلاغة، وكيف تملكوا أعنتها في أيديهم، فلما جاءت دولة العباسيين وقامت أركانها على سواعد العجم، ودلف إليها السريان واليهود والفرس، وضمتهم الدولة إلى أحضانها، وأفرجت لهم بين ذراعيها، وأنزلتهم في كثير من أمور الدولة وشئونها، وأجرت عليهم من الأرزاق والخيرات، وتقدموا لها بتراث آبائهم وعصارة قرائح علمائهم، وحولوا ميراثهم إلى ميراثها؛ أفادت لغة العرب، وامتزجت المدنية السامية بالآرية، واتسعت دائرة المعارف، وتشعبت أغراض اللغة، وشمر كل ذي فضل في تدوين العلوم واستنباط أحكامها، ووضع الفنون واصطلاحاتها، وترتيب الدواوين ومراسيمها، وترجموا كتب الحكمة والمنطق، وازدهرت الآداب ازدهار الفتاء والقوة، فانتظمت رخاء الدنيا وسعادة الإنسان، وازينت بالحجج الحكمية والبراهين العقلية، وتولى كبر ذلك بشار وابن المقفع وأبو نواس وأضرابهم، وأدخلوا إليها الجديد عن طريق المجاز والقياس والاشتقاق، ولم يتحرجوا من استعمال الألفاظ الأعجمية في أسماء الألوان والآنية والفرش، وتأنقوا في صوغ العبارات وإحكامها، حتى مال بعضهم إلى السجع والازدواج، ومن أمثلة ذلك ما كتبه أبو شراعة إلى سعيد بن مسلم إذ يقول: «أستنسئ الله أجلك، وأستعيذه من الآفات لك، وأستعينه على شكر ما وهب من النعمة فيك؛ إنه لذلك ولي، وبه ملي. أتاني غلامك المليح قده، السعيد بملكك جده، بكتاب قرأته، غير مستكره اللفظ ولا مزور عن القصد، ينطق بحكمتك، ويبين عن فضلك.»
وجملة القول أن اللغة قد تجدد إهابها، وانفرجت شعابها، ونوعت أساليبها بما دخل عليها من نعيم الدولة وترف الحضارة، وما احتوته من العلوم والفنون، حتى كانت سيدة لغات العالم جميعا. (2) الخطابة والخطباء
كانت الداعية إلى الخطابة في العصر العباسي قوية متوافرة بليغة، كانت قوية لأن طبيعة الانقلابات السياسية الخطيرة، والدعوات المذهبية الحادة، والثورات الاجتماعية العنيفة من شأنها خلق مجالات التكلم، وتقوية الملكات الخطابية وتنميتها وزيادة ثروتها، والعمل على صقلها وبلاغتها، وكانت متوافرة لتعدد موضوعاتها وتشعب مناحيها، ولانكباب الدعاة والنفعيين عليها لانتهاز أمثال تلك المواقف، وكانت بليغة لقرب العصر العباسي من عصر البلاغة الإسلامية الأموية من ناحية الحرارة والتشيع إلى بني العباس، وقوة المحاجة في إنكار ما انتهكه الأمويون من حرمات الدين، ولتعدد أسباب التفاضل بين آل العباس والعلويين.
وإن نظرة تحليلية إلى خطبة المنصور التي خطبها حينما أخذ عبد الله بن الحسن وإخوته والنفر الذين كانوا معه من أهل بيته، تعزز قولنا وتؤيد حكمنا، قال: يا أهل خراسان، أنتم شيعتنا وأنصارنا وأهل دولتنا، ولو بايعتم غيرنا لم تبايعوا من هو خير منا، وإن أهل بيتي هؤلاء من ولد علي بن أبي طالب تركناهم، والله الذي لا إله إلا هو، والخلافة فلم نعرض لهم فيما بقليل لا وبكثير، فقام فيها علي بن أبي طالب فتلطخ وحكم عليه الحكمان، فافترقت عنه الأمة، واختلفت عليه الكلمة، ثم وثبت عليه شيعته وأنصاره وأصحابه وبطانته وثقاته فقتلوه ، ثم قام من بعده الحسن بن علي، فوالله ما كان فيها برجل! قد عرضت عليه الأموال فقبلها، فدس إليه معاوية : إني أجعلك ولي عهدي من بعدي، فخدعه فانسلخ له مما كان فيه وسلمه إليه، فأقبل على النساء يتزوج في كل يوم واحدة فيطلقها غدا، فلم يزل على ذلك حتى مات على فراشه، ثم قام من بعده الحسين بن علي فخدعه أهل العراق وأهل الكوفة، أهل الشقاق والنفاق والإغراق في الفتن، أهل هذه المدرة السوداء - وأشار إلى الكوفة - فوالله ما هي بحرب فأحاربها، ولا سلم فأسالمها، فرق الله بيني وبينها، فخذلوه وأسلموه حتى قتل، ثم قام من بعده زيد بن علي فخدعه أهل الكوفة وغروه، فلما أخرجوه وأظهروه أسلموه، وكان قد أتى محمد بن علي فناشده في الخروج، وسأله ألا يقبل أقاويل أهل الكوفة وقال له: إنا نجد في بعض علمنا أن بعض أهل بيتنا يصلب بالكوفة، وأنا أخاف أن تكون ذلك المصلوب، وناشده عمي داود بن علي وحذره غدر أهل الكوفة، فلم يقبل وتم على خروجه؛ فقتل وصلب بالكناسة،
1
ثم وثب علينا بنو أمية فأماتوا شرفنا وأذلوا عزنا، والله ما كانت لهم عندنا ترة يطلبونها، وما كان ذلك كله إلا فيهم، وبسبب خروجهم عليهم، فنفونا من البلاد، فصرنا مرة بالطائف، ومرة بالشام، ومرة بالشراة حتى ابتعثكم الله لنا شيعة وأنصارا، فأحيا شرفنا وعزنا بكم أهل خراسان، ودمغ بحقكم أهل الباطل، وأظهر حقنا، وأصار إلينا ميراثنا عن نبينا
صلى الله عليه وسلم ، فقر الحق مقره، وأظهر مناره، وأعز أنصاره، وقطع دابر القوم الذين ظلموا، والحمد لله رب العالمين، فلما استقرت الأمور فينا على قرارها من فضل الله فيها، وحكمه العادل لنا؛ وثبوا علينا ظلما وحسدا منهم لنا، وبغيا لما فضلنا الله به عليهم وأكرمنا به من خلافته وميراث نبيه
صلى الله عليه وسلم .
جهلا علي وجبنا عن عدوهم
لبئست الخلتان الجهل والجبن
فإني، والله يا أهل خراسان، ما أتيت من هذا الأمر ما أتيت بجهالة؛ بلغني عنهم بعض السقم والتعرم، وقد دسست لهم رجلا فقلت: قم يا فلان، قم يا فلان، فخذ معك من المال كذا، وحذوت لهم مثالا يعملون عليه ، فخرجوا حتى أتوهم بالمدينة فدسوا إليهم تلك الأموال، فوالله ما بقي منهم شيخ ولا شاب ولا صغير ولا كبير إلا بايعهم بيعة استحللت بها دماءهم وأموالهم، وحلت لي عند ذلك بنقضهم بيعتي، وطلبهم الفتنة، والتماسهم الخروج علي، فلا يرون أني أتيت ذلك على غير يقين. ثم نزل وهو يتلو على درج المنبر هذه الآية:
وحيل بينهم وبين ما يشتهون كما فعل بأشياعهم من قبل إنهم كانوا في شك مريب .
ولقد يلاحظ على الخطابة العباسية اتسامها بطابع النعرة الدينية لمباهاتهم بصلتهم من النبي، كما يلاحظ عليها اللغة «الأتوقراطية» التي لا تختلف في شيء عن لغة باباوات رومة في العصور الوسطى، ولغة الملوك الذين يدينون بنظرية «حقوق الملك المقدسة»، وأنهم ورثة الله في أرضه وممثلوه بين خلقه.
خطبة للمنصور الخليفة العباسي
خطب في مكة فقال:
أيها الناس، إنما أنا سطان الله في أرضه، أسوسكم بتوفيقه وتسديده وتأييده، وحارسه على ماله أعمل فيه بمشيئته وإرادته، وأعطيه بإذنه، فقد جعلني الله عليه قفلا إن شاء أن يفتحني فتحني لإعطائكم وقسم أرزاقكم، وإن شاء أن يقفلني عليها أقفلني، فارغبوا إلى الله وسلوه في هذا اليوم الشريف الذي وهب لكم من فضله ما أعلمكم به في كتابه إذ يقول:
اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا
أن يوفقني للرشاد والصواب، وأن يلهمني الرأفة بكم، والإحسان إليكم. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
خطبة للخليفة المهدي
الحمد لله الذي ارتضى الحمد لنفسه، ورضي به من خلقه، أحمده على آلائه، وأمجده لبلائه، وأستعينه وأومن به وأتوكل عليه توكل راض بقضائه وصابر لبلائه. أوصيكم، عباد الله، بتقوى الله؛ فإن الاقتصار عليها سلامة، والترك لها ندامة، وأحثكم على إجلال عظمته، وتوقير كبريائه وقدرته، والانتهاء إلى ما يقرب من رحمته، وينجي من سخطه، وينال به ما لديه من كريم الثواب، وجزيل المآب. فاجتنبوا ما خوفكم الله من شديد العقاب، وأليم العذاب، ووعيد الحساب، يوم توقفون بين يدي الجبار، وتعرضون فيه على النار، يوم لا تكلم نفس إلا بإذنه، فمنهم شقي وسعيد، يوم يفر المرء من أخيه وأمه وبنيه؛ لكل امرئ يومئذ شأن يغنيه،
يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل ولا هم ينصرون ،
يوما لا يجزي والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئا إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور ؛ فإن الدنيا دار غرور وبلاء وشرور واضمحلال، وزوال وتقلب وانتقال، قد أفنت من كان قبلكم، وهي عائدة عليكم وعلى من بعدكم، من ركن إليها صرعته، ومن وثق بها خانته، ومن أملها كذبته، ومن رجاها خذلته، عزها ذل، وغناها فقر، والسعيد من تركها، والشقي من آثرها، والمغبون فيها من باع حظه من دار آخرته بها. فالله الله عباد الله، والتوبة مقبولة، والرحمة مبسوطة، وبادروا بالأعمال الزكية في هذه الأيام الخالية قبل أن يؤخذ بالكظم، وتندموا فلا تنالون الندم يوم حسرة وتأسف وكآبة وتلهف. يوم ليس كالأيام، وموقف ضنك المقام.
خطبة لهارون الرشيد
الحمد لله الذي نحمده على نعمه، ونستعينه على طاعته، ونستنصره على أعدائه، ونؤمن به حقا، ونتوكل عليه مفوضين إليه. أوصيكم عباد الله بتقوى الله؛ فإن في التقوى تكفير السيئات، وتضعيف الحسنات، وفوزا بالجنة ونجاة من النار، وأحذركم يوما تشخص فيه الأبصار، وتبلى فيه الأسرار، يوم البعث ويوم التغابن ويوم التلاقي ويوم التنادي، يوم لا يستعتب من سيئة ولا يزداد في حسنة،
يوم الآزفة إذ القلوب لدى الحناجر كاظمين ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع * يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور ،
واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت . حصنوا إيمانكم بالأمانة، ودينكم بالورع، وصلاتكم بالزكاة، وإياكم والأماني؛ فقد غرت وأردت وأوبقت كثيرا حتى أكذبتهم مناياهم، فتناوشوا التوبة من مكان بعيد، وحيل بينهم وبين ما يشتهون، فرغب ربكم عن الأمثال والوعد، وقدم إليكم الوعيد، وقد رأيتم وقائعه بالقرون الخوالي جيلا فجيلا، وعهدتم الآباء والأبناء والأحبة والعشائر باختطاف الموت إياهم من بيوتكم، ومن بين أظهركم، لا تدفعون عنهم ولا تحولون دونهم، فزالت عنهم الدنيا، وانقطعت بهم الأسباب، فأسلمتهم إلى أعمالهم عند الموقف والحساب:
ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى .
وإن نظرة عجلى إلى النخب الصغيرة التي اخترناها لك عن المنصور والمهدي والرشيد تعطيك فكرة صحيحة؛ بأنا لم نعد لباب الصواب فيما ذهبنا إليه من «أتوقراطيتها» و«بابويتها» في طبيعة منحاها، وطلاوتها وبلاغتها في مبناها. •••
على أن الخطابة العباسية لم تستمر على القوة التي كانت عليها في صدر تلك الدولة حينما استقرت ورسخت، إذ فترت عند ذلك الدواعي، وهدأت الدوافع، وأخذت حالتها في الاضمحلال لاشتداد اختلاط العرب بالأعجام، ولأن الشخصيات البارزة في الدولة كانت، في الغالب، من الفرس وغيرهم من الموالي الذين لم تنجرد ألسنتهم بالخطابة لما يصيبها أحيانا من لكنة العي، وحصر العجمة وإن سمت معلوماتهم، وارتقت في البلاغة أساليبهم.
وربما كان من المعقول أن نقول: إن الخطابة في العصر العباسي كانت بوجه عام أقل منها في العصر الأموي من ناحية البلاغة والأسلوب، مع وجود بعض خطباء مصاقع لا يقلون عن إخوانهم الأمويين بلاغة واقتدارا، بيد أنها كانت متعددة الأبواب؛ لتشعب ما بيناه لك من الوجوه والمناحي. (3) الكتابة
جرت الكتابة في العهد الأول من عصر العباسيين على ما كانت عليه عند بني أمية من جودة اللفظ، ومتانة الأسلوب، وجلاء المعنى، ووضوح القصد وبساطته، فلم يكن القوم ليمعنوا في التصور والتفكير، أو ينظروا إلى السماء فيستوحوها، أو إلى الطبيعة فيستنطقوها، أو يستشفوا ما وراء العالم، فإن الأفكار كانت لا تزال سهلة يرمون فيها عن حاضر البديهة وعفو الخاطر، فلم يشاركوا الحكماء في تفكيرهم، ولا المناطقة في حججهم، إذا استثنينا نفرا قليلا أمثال ابن المقفع، وإنما كانوا يدورون حول ما ترك آباؤهم من بيت بديع، أو مثل سائر، أو حكمة رائعة، أو فكرة سامية، أو معنى يصل إلى القلب بلا استئذان، وأوغلوا في ذلك حتى صاروا فصحاء الناس وأمراء البيان، فكان الأديب منهم يرسل الرسالة أمام مقصده، فتعمل في النفوس ما لا تعمله الأسنة والرماح ، وناهيك بما كانت تفعله تلك الرسائل في نفوس القوم.
فلما حفلت بغداد، وأقبلت الدنيا، واتسع السلطان وامتدت أطرافه، وضمت الدولة إلى أحضانها أبناء الفرس والسريان، وكانوا يحملون تراث آبائهم وطرف علمائهم، وأوسع الخلائف رحابهم لكل ذي فضل من رجال الدولة، وعرفوا للعلم مقامه فرفعوه، وللأدب صولته فأكرموه، وقربوا العلماء والأدباء، وعقدوا مجالس للمناظرة والمنادمة، كما سنبين لك، وأكب الناس على العلم والتأليف والترجمة، وتكشف كل ذلك عن علوم وفنون لا عهد للعربية بها، فنقلوا إليها الطب والسياسة والحكمة والفلك والمنطق والتنجيم، وألف المسلمون في الفقه والنحو والحديث والتفسير، كان لكل ذلك أثره في أخيلة الكتاب، وأسلات الأقلام، ووحي القرائح، فتعددت الأغراض، ونوعت الأساليب، ومال الكتاب إلى السهولة في العبارة، والتأنق في اللفظ، والجودة في الرصف، وأطالوا في المقدمات، ونوعوا البدء والختام والألقاب والدعاء، ومالوا إلى الغلو والمبالغة، وهاك مثلا ما كتب ابن سيابة إلى يحيى بن خالد من رسالة يقول فيها: «للأصيد الجواد، الواري الزناد، الماجد الأجداد، الوزير الفاضل، الأشم البازل، اللباب الحلاحل، من المستكين المستجير، البائس الضرير، فإني أحمد الله ذا العزة القدير، إليك وإلى الصغير والكبير، بالرحمة العامة، والبركة التامة. أما بعد، فاغنم واسلم واعلم، إن كنت تعلم، أن من يرحم يرحم، ومن يحرم يحرم، ومن يحسن يغنم، ومن يصنع المعروف لا يعدم، قد سبق إلي تغضبك علي، واطراحك لي، وغفلتك عني بما لا أقوم له ولا أقعد، ولا أنتبه ولا أرقد، فلست بحي صحيح ولا بميت مستريح؛ فررت بعد الله منك إليك، وتحملت بك عليك ...»
أما الإطناب في الكتابة، فكان صفة غالبة في كل ما شمل بيعة أو عهدا أو احتجاجا أو انتصارا، أو تقريرا لمذهب أو استهواء، أو دفعا لشبهة، أو طلبا لنعمة، أو ما يقوم نضالا، أو ما يدعو نزالا. وستجد طرفا من رسائل القوم في ذلك العصر الزاهي الزاهر في باب المنثور بالكتاب الثاني من المجلد الثاني.
وقد بالغوا في تمداح ممدوحهم وذم مذمومهم، وحسبك من ذلك أن ترى ما دار بين المنصور العباسي والنفس الزكية؛ فقد جاء مما كتبه الأول قوله: «أما بعد، فقد أتاني كتابك وبلغني كلامك، فإذا جل فخرك بالنساء؛ لتضل به الجفاة والغوغاء، ولم يجعل الله النساء كالعمومة، ولا الآباء كالعصبة والأولياء، وقد جعل العم أبا، وبدأ به على الوالد الأدنى، فقال جل ثناؤه عن نبيه عليه السلام:
واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب ، ولقد علمت أن الله تبارك وتعالى بعث محمدا
صلى الله عليه وسلم
وعمومته أربعة، فأجابه اثنان أحدهما أبي، وكفر به اثنان أحدهما أبوك. فأما ما ذكرت من النساء وقراباتهن، فلو أعطين على قرب الأنساب وحق الأحساب لكان الخير كله لآمنة بنت وهب، ولكن الله يختار لدينه من يشاء من خلقه ...»
غير أن ذلك لم يكن ليمنع أن الميل إلى الإيجاز له في نفوس القوم مقامه، وفي قلوب البلغاء عزه وسلطانه، لا سيما ما كان من قبيل التوقيع من أمير أو وزير أو ذي جاه وسلطان، فقد رفع إلى المنصور شكاة من أهل الكوفة لاعوجاج في عاملهم، فوقع عليها: «كيفما تكونوا يول عليكم»، وكتب جعفر إلى عامل شكي له منه: «قد كثر شاكوك وقل شاكروك، فإما اعتدلت وإما اعتزلت.»
وقد أجمع الرواة أن الحال قد بقيت على ذلك من المتانة وحسن الإشارة، ولطف المدخل، وفراهة المعنى، وحسن الابتداع، حتى خلف من بعدهم خلف ضعفت فيهم ملكة اللغة، وأعوزهم البيان، فمالوا إلى الألفاظ وصناعتها، والأسجاع «وزخرفتها»، وبقيت الكتابة تتقلب في أكفهم وتدور حول نفسها حتى مال رأسها مع رأس العباسيين في القرن السابع الهجري. (4) مجالس الخلفاء والمناظرة
للخلفاء العباسيين - بحكم طبيعة دعوتهم السياسية واستفحال أمر المدنية في أيامهم - مجالس حافلة بالأدباء والشعراء والمغنين والمنادمين قد أترعت بذكرها كتب الآداب، واستوعب الشيء الكثير منها أبو الفرج الأصفهاني في أغانيه.
وكانوا يجلون العلماء كما بينا لك في موقف الرشيد مع أبي معاوية الضرير، ويعتنون بالشعر واللغة، ويحرصون على تعليم أولادهم بوساطة نخبة من رجالات عصرهم، فالمنصور ضم الشرقي بن القطامي إلى ابنه المهدي، وأوصاه أن يعلمه أخبار العرب ومكارم الأخلاق وقراءة الأشعار، والرشيد عهد بتعليم ابنه الأمين إلى الأحمر النحوي ثم الكسائي، وعهد بتأديب المأمون إلى اليزيدي وسيبويه وغيرهما، وللرشيد وصية يقال إنه أوصى بها الأحمر حينما عهد إليه بتأديب الأمين، ونحن نثبتها هنا لتقف منها على نوع التربية التي كان يتطلبها خلفاء ذلك العصر لأبنائهم، ولأنها تدل في الوقت نفسه على مبلغ التحول الذي وصلت إليه المدنية العربية في العصر العباسي، وكيف استفادت من نظم اليونان والفرس وغيرهم ممن وقف العرب على آرائهم ومؤلفاتهم.
أما الوصية فهي:
يا أحمر، إن أمير المؤمنين قد دفع إليك مهجة نفسه، وثمرة قلبه فصير يدك عليه مبسوطة، وطاعته لك واجبة، فكن له بحيث وضعك أمير المؤمنين، أقرئه القرآن وعرفه الأخبار، وروه الأشعار، وعلمه السنن، وبصره بمواقع الكلام وبدئه، وامنعه من الضحك إلا في أوقاته، وخذه بتعظيم مشايخ بني هاشم إذا دخلوا عليه، ورفع مجالس القواد إذا حضروا مجلسه، ولا تمرن بك ساعة إلا وأنت مغتنم فائدة تفيده إياها، من غير أن تحزنه فتميت ذهنه، ولا تمعن في مسامحته فيستحلي الفراغ ويألفه، وقومه ما استطعت بالقرب والملاينة، فإن أباهما؛ فعليك بالشدة والغلظة.
وكانوا يعنون بالمسائل اللغوية واللفظية عناية عظيمة، كما كانوا يعنون أيما عناية بحفظ الأشعار وروايتها، ويعتبرون عدم حفظها مصيبة وكارثة، فقد روى الهيثم بن عدي عن ابن عياش قال: لما مات جعفر المنصور بن الأكبر، مشى المنصور في جنازته من المدينة إلى مقابر قريش ومشى الناس أجمعون معه حتى دفنه، ثم انصرف إلى قصره، ثم أقبل على الربيع فقال: يا ربيع، انظر من في أهلى ينشدني:
أمن المنون وريبها تتوجع
حتى أتسلى بها عن مصيبتي، قال الربيع: فخرجت إلى بني هاشم وهم بأجمعهم حضور، فسألتهم عنها، فلم يكن فيهم أحد يحفظها، فرجعت فأخبرته فقال: والله لمصيبتي بأهل بيتي ألا يكون فيهم أحد يحفظ هذا لقلة رغبتهم في الأدب، أعظم وأشد علي من مصيبتي بابني، ثم قال: انظر هل في القواد والعوام من الجند من يعرفها، فإني أحب أن أسمعها من إنسان ينشدها . فخرجت فاعترضت الناس فلم أجد أحدا ينشدها إلا شيخا كبيرا مؤدبا قد انصرف من موضع تأديبه، فسألته: هل تحفظ شيئا من الشعر؟ فقال: نعم، شعر أبي ذؤيب، فقلت: أنشدني. فابتدأ هذه القصيدة العينية، فقلت له: أنت بغيتي، ثم أوصلته إلى المنصور، فاستنشده إياها، ثم أجازه بمائة درهم. •••
أما التحول العظيم الذي حصل في أبهاء «صالونات» الخلفاء الخاصة بالمنادمة، فالحديث عنه يطول، وحسبك في ذلك ما يدلي به إسحاق بن إبراهيم، أحد المعاصرين العباسيين، فإنه يحدثك بما ينقع الغلة؛ إذ قد سئل عن أحوال الأمويين في الشراب واللهو فتكلم بإيجاز عن حالتهم، وسئل عن العباسيين فوصف وأجاد، وصور وأفاد، قال:
أما معاوية ومروان وعبد الملك والوليد وسليمان وهشام ومروان بن محمد، فكان بينهم وبين الندماء ستار، وكان لا يظهر أحد من الندماء على ما يفعله الخليفة إذا طرب للمغنى والتذه، حتى ينقلب ويمشي ويحرك كتفيه ويرقص ويتجرد حيث لا يراه إلا خواص جواريه، إلا أنه كان إذا ارتفع من خلف الستار صوت أو نعير طرب أو رقص أو حركة بزفير تجاوز المقدار، قال صاحب الستار: حسبك يا جارية كفي! انتهي! أقصري! يوهم الندماء أن الفاعل لذلك بعض الجواري، فأما الباقون من خلفاء بني أمية فلم يكونوا يتحاشون أن يرقصوا ويتجردوا ويحضروا عراة بحضرة الخلعاء والمغنين، ومع ذلك لم يكن أحد منهم في مثل حال يزيد بن عبد الملك والوليد بن يزيد في المجون والرفث بحضرة الندماء والتجرد ما يباليان ما صنعا.
قلت: فعمر بن عبد العزيز؟ قال: ما طن في سمعه حرف غناء منذ أفضت الخلافة إليه إلى أن فارق الدنيا، فأما قبلها، وهو أمير المدينة، فكان يسمع الغناء ولا يظهر منه إلا الأمر الجميل، وكان ربما صفق بيديه، وربما تمرغ على فراشه وضرب برجليه وطرب، فأما أن يخرج عن مقدار السرور إلى السخف فلا.
قلت: فخلفاؤنا (خلفاء بني العباس)؟ قال : كان أبو العباس في أول أيامه يظهر للندماء ثم احتجب عنهم بعد سنة - أشار بذلك عليه أسيد بن عبد الله الخزاعي - وكان يطرب ويبتهج ويصيح من وراء الستار: «أحسنت والله! أعد هذا الصوت»، فيعاد له مرارا، فيقول في كلها: «أحسنت»، وكانت فيه فضيلة لا تجدها في أحد؛ كان لا يحضره نديم ولا مغن ولا مله فينصرف إلا بصلة أو كسوة قلت أو كثرت، وكان لا يؤخر إحسان محسن لغد، ويقول: «العجب ممن يفرح إنسانا فيتعجل السرور، ويجعل ثواب من سره تسويفا وعدة.» فكان في كل يوم وليلة يقعد فيه لشغله لا ينصرف أحد ممن حضره إلا مسرورا، ولم يكن هذا لعربي ولا عجمي قبله، غير أنه يحكى عن بهرام جور ما يقارب هذا.
فأما أبو جعفر المنصور فلم يكن يظهر لنديم قط، ولا رآه أحد يشرب غير الماء، وكان بينه وبين الستار عشرون ذراعا، وبين الستار والندماء مثلها، فإذا غناه المغني فأطربه حركت الستار بعض الجواري، فاطلع إليه الخادم صاحب الستار فيقول: قل له: «أحسنت! بارك الله فيك»، وربما أراد أن يصفق بيديه، فيقوم عن مجلسه ويدخل بعض حجر نسائه فيكون ذاك هناك، وكان لا يثيب أحدا من ندمائه وغيرهم درهما فيكون له رسما في ديوان، ولم يقطع أحدا ممن كان يضاف إلى ملهية أو ضحك أو هزل موضع قدم من الأرض، وكان يحفظ كل ما أعطى واحدا منهم عشر سنين ويحسبه ويذكره له.
وكان المهدي في أول أمره يحتجب عن الندماء متشبها بالمنصور نحوا من سنة، ثم ظهر لهم، فأشار عليهم أبو عون بأن يحتجب عنهم، فقال: «إليك عني يا جاهل! إنما اللذة في مشاهدة السرور، وفي الدنو ممن سرني، فأما من وراء وراء فما خيرها ولذتها؟ ولو لم يكن في الظهور للندماء والإخوان إلا أني أعطيهم من السرور بمشاهدتي مثل الذي يعطونني من فوائدهم لجعلت لهم في ذلك حظا موفرا.» وكان كثير العطايا يواترها، قل من حضره إلا أغناه، وكان لين العريكة، سهل الشريعة، لذيذ المنادمة، قصير المناومة ، لا يمل نديما ولا يتركه إلا عن ضرورة، قطيع الخنا، صبورا على الجلوس، ضاحك السن، قليل الأذى والبذاء.
وكان الهادي شكس الأخلاق، صعب المرام، قليل الإغضاء، سيئ الظن، قل من توقاه وعرف أخلاقه إلا أغناه، وما كان شيء أبغض إليه من ابتدائه بسؤال، وكان يأمر للمغني بالمال الخطير الجزيل فيقول: «لا يعطيني بعدها شيئا.» فيعطيه بعد أيام مثل تلك العطية.
ويقال: إنه قال يوما وعنده ابن جامع وإبراهيم الموصلي ومعاذ بن الطبيب، وكان أول يوم دخل عليه معاذ، وكان حاذقا بالأغاني عارفا بها: من أطربني اليوم منكم فله حكمه! فغناه ابن جامع غناء لم يحركه، وكان إبراهيم قد فهم غرضه فغناه:
سليمى أجمعت بينا
فأين تقولها أينا؟
فطرب حتى قام عن مجلسه ورفع صوته وقال: «أعد بالله وبحياتي!» فأعاد فقال: «أنت صاحبي فاحتكم»، فقال إبراهيم: يا أمير المؤمنين، حائط عبد الملك بن مروان وعينه الخرارة بالمدينة، قال: فدارت عيناه في رأسه حتى صارتا كأنهما جمرتان، ثم قال: «يا ابن اللخناء! أردت أن تسمع العامة أنك أطربتني، وأني حكمتك فأقطعتك، أما والله لولا بادرة جهلك التي غلبت على صحيح عقلك وفكرك لضربت الذي فيه عيناك»، ثم سكت هنيهة، قال إبراهيم: فرأيت ملك الموت قائما بيني وبينه ينتظر أمره، ثم دعا إبراهيم الحراني فقال: «خذ بيد هذا الجاهل فأدخله بيت المال؛ فليأخذ منه ما شاء»، فأخذ الحراني بيدي حتى دخل بي بيت المال، فقال: كم تأخذ؟ فقلت: مائة بدرة، فقال: دعني أؤامره، قلت: فآخذ تسعين، قال: حتى أؤامره، قلت: فثمانين، قال: لا؛ فأبى إلا أن يؤامره، فعرفت غرضه فقلت له: آخذ سبعين لي، ولك ثلاثون، قال: شأنك، قال: فانصرفت بسبعين ألفا، وانصرف ملك الموت عن الدار.
قال: وكان الرشيد في أخلاق أبي جعفر المنصور يتمثلها كلها إلا في العطايا والصلات والخلع، فإنه كان يقفو فعل أبي العباس والمهدي، ومن خبرك أنه رآه قط وهو يشرب إلا الماء فكذبه، وكان لا يحضر شربه إلا خاص جواريه، وربما طرب للغناء فتحرك حركة بين الحركتين في القلة والكثرة.
وهو من بين خلفاء بني العباس من جعل للمغنين مراتب وطبقات، على نحو ما وضعهم أردشير بن بابك وأنوشروان، فكان إبراهيم الموصلي وإسماعيل أبو القاسم بن جامع وزلزل منصور الضارب في الطبقة الأولى، وكان زلزل يضرب، ويغني هذان عليه.
والطبقة الثانية: سليم بن سلام «أبو عبيد الله الكوفي» وعمرو الغزال ومن أشبههما.
والطبقة الثالثة: أصحاب المعازف والصنج والطنابير، وعلى قدر ذلك كانت تخرج جوائزهم وصلاتهم، وكان إذا وصل واحدا من الطبقة الأولى بالمال الكثير الخطير جعل لصاحبيه اللذين معه في الطبقة نصيبا منه، وجعل للطبقتين اللتين تليانه منه أيضا نصيبا، وإذا وصل أحد من الطبقتين الأخريين بصلة لم يقبل واحد من الطبقة العليا منه درهما، ولا يجترئ أن يعرض ذلك عليه.
قال: فسأل الرشيد يوما برصوما الزامر، فقال له: يا إسحاق، ما تقول في ابن جامع؟ فحرك رأسه وقال: خمر قطربل
2
يعقل الرجل ويذهب العقل، قال: فما تقول في إبراهيم الموصلي؟ قال: بستان فيه خوخ وكمثرى وتفاح وشوك وخرنوب، قال: فما تقول في سليم بن سلام؟ فقال: ما أحسن خضابه! قال: فما تقول في عمرو الغزال؟ قال: ما أحسن بنانه! قال: وكان منصور زلزل من أحسن وأحذق من برأ الله بالجس، فكان إذا جس العود فلو سمعه الأحنف ومن تحالم في دهره كله لم يملك أن يطرب.
قال إبراهيم: فغنيت يوما على ضربه فخطأني، فقلت لصاحب الستار: هو والله أخطأ، قال: فرفع الستار ثم قال: يقول لك أمير المؤمنين: أنت والله أخطأت! فحمي زلزل وقال: يا إبراهيم، تخطئني! فوالله ما فتح أحد من المغنين فاه بغير لفظ إلا عرفت غرضه، فكيف أخطأ وهذه حالي؟! فأداها صاحب الستار، فقال الرشيد: قل له: صدقت، أنت كما وصفت نفسك، وكذب إبراهيم وأخطأ، قال إبراهيم: فغمني ذلك، فقلت لصاحب الستار: أبلغ أمير المؤمنين سيدي ومولاي، أن بفارس رجلا، يقال له سنيد، لم يخلق الله أضرب منه بعود، ولا أحسن مجسا، وإن بعث إليه أمير المؤمنين فحمله عرف فضله، وتغنيت على ضربه ، فإن زلزلا
3
يكايدني مكايدة القصاص والقرادين، قال: فوجه الرشيد إلى الفارسي فحمل على البريد، فأقلق ذلك زلزلا وغمه، فلما قدم الفارسي؛ أحضرنا وأخذنا مجالسنا وجاءوا بالعيدان قد سويت - وكذلك كان يفعل في مجلس الخلافة ليس يدفع إلى أحد عوده فيحتاج إلى أن يحركه؛ لأنها قد سويت وعلقت مثالثها مشاكلة للزيرة على الدقة والغلظ - قال: فلما وضع عود الفارسي في يديه نظر إليه منصور زلزل فأسفر وجهه وأشرق لونه، فضرب وتغنى عليه إبراهيم، ثم قال صاحب الستار لزلزل: يا منصور، اضرب! قال: فلما جس العود ما تمالك الفارسي أن وثب من مجلسه بغير إذن حتى قبل رأس زلزل وأطرافه، وقال: مثلك، جعلت فداك، لا يمتهن ويستعمل، مثلك يعبد، فعجب الرشيد من قوله، وعرف فضيلة زلزل على الفارسي، فأمر له بصلة ورده إلى بلده.
وكان منصور زلزل من أسخى الناس وأكرمهم؛ نزل بين ظهراني قوم وقد كان يحل لهم أخذ الزكاة، فما مات حتى وجبت عليهم الزكاة.
وكان إسحاق برصوما في الطبقة الثانية، قال: فطرب الرشيد يوما لزمره، فقال له صاحب الستار: يا إسحاق، ازمر على غناء ابن جامع، قال: لا أفعل، قال: يقول لك أمير المؤمنين ولا تفعل! قال: إن كنت أزمر على الطبقة العليا رفعت إليها، فأما أن أكون في الطبقة الثانية وأزمر على الأولى فلا أفعل، فقال الرشيد لصاحب الستار: ارفعه إلى الطبقة الأولى، فإذا قمت فادفع البساط الذي في مجلسهم إليه، فرفع إسحاق إلى الطبقة العالية وأخذ البساط، وكان يساوي ألفي دينار، فلما حمله إلى منزله استبشرت به أمه وأخواته، وكانت أمه نبطية لكناء، فخرج برصوما عن منزله لبعض حاجاته وجاء نساء جيرانه يهنئن أمه بما خص به دون أصحابه ويدعون لها، فأخذت سكينا وجعلت تقطع لكل من دخل عليها قطعة من البساط حتى أتت على أكثره، فجاء برصوما فإذا البساط قد تقسم بالسكاكين، فقال: ويلك ما صنعت؟! قالت: لم أدر، ظننت أنه كذا يقسم، فحدث الرشيد بذلك فضحك ووهب له آخر.
وزعم سعيد بن وهب أن إبراهيم الموصلي غنى أمير المؤمنين هارون صوتا فكاد يطير طربا، فاستعاد عامة ليله وقال: ما رأيت صوتا يجمع السخاء والطرب وجودة الصنعة والخفة غير هذا الصوت، فأقبل إبراهيم فقال: يا أمير المؤمنين، لو وهب لك إنسان مائة ألف درهم أو لو وجدت مائة ألف درهم مطروحة، كنت أسر بها أو بهذا الصوت؟ قال: والله لأنا أسر بهذا الصوت مني بألف ألف وألف ألف، قال: فلو فقدت من بيت مالك مائة ألف كان أشد عليك، أو لو فقدت هذا الصوت وفاتك هذا السرور؟ قال: بل ألف ألف وألف ألف أهون علي، قال: فلم لا تهب مائة ألف أو مائتي ألف لمن أتاك بشيء فقد ألفي ألف أهون عليك منه؟ فأمر له بمائتي ألف درهم. •••
امتاز العصر العباسي بتقدم مجالس المناظرة ورونقها وتنظيمها وقيد المناقشات فيها، وقد يكون من المفيد إعطاؤك صورة صحيحة للمناظرة وعظمها، واهتمامهم بتزويق عبارتها، وطلاوة أساليبها، وبلاغة تراكيبها، وملاحظة قوة الحجة فيها، بأن ننقل إليك مشاورة المهدي لأهل بيته، وهي - إن صحت - تعتبر أثرا أدبيا له قيمته وخطره، وأثرا سياسيا لمناقشات القوم السياسية، ولتضمنها خططا ونصائح لا يزيد عليها إلا تلك النصائح التي تضمنها كتاب طاهر بن الحسين القائد المأموني لابنه عبد الله - وستراه في موضعه من باب المنثور بالكتاب الثالث في المجلد الثالث من هذا الكتاب - أما المشاورة فستجدها في الكتاب الثاني من المجلد الثاني. (5) الشعر
لا يقدس العرب من علوم الحياة وفنونها شيئا أكثر من تقديسهم الشعر الذي استودعوه أفكارهم وأخبارهم، وحفظوا به فخرهم ومناسبهم، وساقوا به الجيوش والجحافل، فدكت عروشا وأبادت ممالك، وضمنوه من أخلاقهم وعاداتهم وشئون حياتهم ما جعله مكان فخرهم ومفزع أمرهم، فكنت تجد العربي يسمع البيت من الشعر فيترنح ترنح النشوان، ويثور حتى كأنه جبل نار، وكثيرا ما سجدوا أمامه لمكانه من نفوسهم، وقد روى الأصمعي وغيره من ذلك شيئا كثيرا.
وقد بقيت للشعر هذه المكانة في كل عصوره العربية، ولم ينل منه أن دولة العباسيين قامت على سواعد الفرس، وحلوا منها مكان الصدور والحكام، فإن الخلفاء والسادة وجمهرة الأمراء والأدباء كانوا يحملون فوق أكتافهم رءوسا عربية حفظوا فيها تراث آبائهم ومفاخر أجدادهم ، وأقبلوا على الشعر وإنشاده، وكانوا هم أنفسهم يقرضون الشعر. وإليك ما جاء في عيون الأخبار عن المنصور قال: كان عمرو بن عبيد إذا رأى المنصور يطوف حول الكعبة في قرطين يقول: إن يرد الله بأمة محمد خيرا يول أمرها هذا الشاب من بني هاشم - وكان له صديقا - فلما دخل عليه بعد الخلافة وكلمه وأراد الانصراف، قال: يا أبا عثمان، سل حاجتك، قال: حاجتي ألا تبعث إلي حتى آتيك، وألا تعطيني حتى أسألك، ثم نهض فقال المنصور:
كلهم ماشي رويد
كلهم خاتل صيد
غير عمرو بن عبيد
فلما مات عمرو رثاه المنصور فقال:
صلى الإله عليك من متوسد
قبرا مررت به على حران
قبر تضمن مؤمنا متحنفا
صدق الإله ودان بالقرآن
وإذا الرجال تنازعوا في سنة
فصل الحديث بحكمة وبيان
فلو ان هذا الدهر أبقى صالحا
أبقى لنا حيا أبا عثمان
ولقد أحضروا لأبنائهم المؤدبين يقفونهم على الشعر واستظهاره، وجلسوا للشعراء مجالس أثابوا فيها وأعطوا ووهبوا من المنح ما وهبوا؛ روى الفضل بن الربيع أن مروان بن أبي حفصة دخل على المهدي، بعد وفاة معن بن زائدة الشيباني، في جماعة من الشعراء فيهم سلم الخاسر وغيره، فأنشد مديحا فيه، فقال له: ومن أنت؟ قال: شاعرك يا أمير المؤمنين وعبدك مروان بن أبي حفصة، فقال له المهدي: ألست القائل:
أقمنا باليمامة بعد معن
مقاما لا نريد به زوالا
وقلنا أين نرحل بعد معن
وقد ذهب النوال فلا نوالا
قد ذهب النوال فيما زعمت، فلم جئت تطلب نوالنا؟! لا شيء لك عندنا، جروا برجله. فجروا برجله حتى أخرج، فلما كان من العام المقبل تلطف حتى دخل مع الشعراء فمثل بين يديه وأنشد:
طرقتك زائرة فحي خيالها
بيضاء تخلط بالجمال دلالها
قادت فؤادك فاستقاد ومثلها
قاد القلوب إلى الصبا فأمالها
قال: فأنصت له الناس حتى بلغ قوله:
هل تطمسون من السماء نجومها
بأكفكم أو تسترون هلالها؟
أو تجحدون مقالة عن ربكم
جبريل بلغها النبي فقالها؟
شهدت من الأنفال آخر آية
بتراثهم فأردتمو إبطالها
قال : فرأيت المهدي قد زحف من صدر مصلاه حتى صار على البساط إعجابا بما سمع، ثم قال: كم هي؟ قال: مائة بيت. فأمر له بمائة ألف درهم.
هذه القصة وأمثالها وقعت لكثير من الأمراء والوزراء الذين عرفوا للشعر منزلته، فاستعانوا به على أغراضهم السياسية، كما كان الأمويون يستعينون به فيها، وحسبك أن نقول لك: إنهم استعملوه في المفاخرة، وفي إثارة العصبية واستحقاق الخلافة، وفي الهجاء والتحريض، فقد دخل سديف على عبد الله بن علي العباسي وعنده جماعة من بني أمية فأنشده قوله:
لا يغرنك ما ترى من أناس
إن تحت الضلوع داء دويا
فضع السيف وارفع السوط حتى
لا ترى فوق ظهرها أمويا
فأمر عبد الله فذهبت أرواحهم هباء.
وكثيرا ما كانوا يستشفعون بالشعر والشعراء، ويحتالون به على قضاء حاجاتهم، ويقدمونه أمامهم لمخاطبة الملوك والأمراء عند الغضب، فقد رووا أن الرشيد عند رجوعه من حرب الروم أتاه كتاب، وهو في الطريق، من ملك الروم «نقفور» يفيد نقض الصلح الذي عقد معه، فهاب القوم إخبار الرشيد وامتنعوا عن مكاشفته، وقدموا لمكالمته من الشعراء الحجاج بن يوسف التميمي وإسماعيل بن القاسم أبا العتاهية وغيرهما، فأنشده الحجاج بن يوسف:
نقض الذي أعطيته نقفور
وعليه دائرة البوار تدور
أبشر أمير المؤمنين فإنه
غنم أتاك به الإله كبير
فلقد تباشرت الرعية أن أتي
بالنقض عنه وافد وبشير
ورجت يمينك أن تعجل غزوة
تشفي النفوس مكانها مذكور
أعطاك جزيته وطأطأ خده
حذر الصوارم والردى محذور
فأجرته من وقعها وكأنها
بأكفنا شعل الضرام تطير
وصرفت بالطول العساكر قافلا
عنه وجارك آمن مسرور
نقفور إنك حين تغدر أن نأى
عنك الإمام لجاهل مغرور
أظننت حين غدرت أنك مفلت؟
هبلتك أمك ما ظننت غرور
ألقاك حينك في زواخر بحره
فطمت عليك من الإمام بحور
إن الإمام على اقتسارك قادر
قربت ديارك أم نأت بك دور
ليس الإمام وإن غفلنا غافلا
عما يسوس بحزمه ويدير
ملك تجرد للجهاد بنفسه
فعدوه أبدا به مقهور
يا من يريد رضا الإله بسعيه
والله لا يخفى عليه ضمير
لا نصح ينفع من يغش إمامه
والنصح من نصحائه مشكور
نصح الإمام على الأنام فريضة
ولأهلها كفارة وطهور
فكر الرشيد راجعا في أشد محنة وأغلظ كلفة حتى أناخ بفنائه، فلم يبرح حتى رضي وبلغ ما أراد، فقال أبو العتاهية:
ألا نادت هرقلة بالخراب
من الملك الموفق بالصواب
غدا هارون يرعد بالمنايا
ويبرق بالمذكرة القضاب
ورايات يحل النصر فيها
تمر كأنها قطع السحاب
أمير المؤمنين ظفرت فاسلم
وأبشر بالغنيمة والإياب
وكان الشعراء يلعبون دورا هاما في الحياة الحزبية، وحسبك أن تعلم أن للخلفاء شعراء اختصوا بهم كأبي دلامة، وحماد عجرد، وبشار بن برد، ومروان بن أبي حفصة، وسلم الخاسر، وأبي نواس، ومنصور النمري وغيرهم.
وللبرامكة شعراء أمثال: أبان بن عبد الحميد، وابن مناذر، والرقاشي وغيرهم، ولسائر الأمراء شعراء، وهناك شعراء لم يكتسبوا بالشعر كصالح بن عبد القدوس، وشعراء للشيعة كالسيد الحميري، وسليمان قتة، ودعبل، وشعراء لم يتحضروا كربيعة الرقي وكلثوم بن عمرو العتابي وغيرهم. وإنا نحيلك هنا إلى ما أثبتناه لك من منظوم العصر العباسي في الكتاب الثاني من المجلد الثاني.
وجماع المقال أن الشعر العباسي قد تضمن فنونا عديدة، ولكنه لا يحتج به في اللغة كالأموي مثلا؛ لأن النقدة في الشعر والأدب جعلوا حدهم بشارا ولم يتعدوه؛ بسبب تفشي اللحن واستفحال اختلاط الأعجام بالعرب.
على أن الشعراء العباسيين قد تفننوا في أنواعه أيما تفنن من قول في المهاجاة إلى قول في الأخلاف، إلى ملح إلى تضرع إلى وصف إلى هجو الخلفاء برضاهم إلى مدحهم.
وعلى الجملة فقد استعملوه في كل غرض من أغراض الحياة من مفاخرة وخمريات وزهريات ورثاء، كما أن منهم من ذكر الوقائع العربية في شعره، فأثرى الشعراء وأترفوا، وحسبك أن تعلم أن سلما الخاسر خلف ثروة مقدارها 50000 دينار، 1500000 درهم غير الضياع، ومثله مروان بن أبي حفصة وغيرهما. وسكن الشعراء الآطام والقصور، واقتنوا الأنف الحسانة من الحدائق وشاهقات الدور، واستخدموا الجواري والغلمان، وأمعنوا في شهواتهم ولذاتهم، وتنعموا بحطام الدنيا ومرافهها، فسهلت ألفاظهم، ورقت طباعهم، وقل اقتضابهم، وحاولوا الخروج على الطريقة القديمة، وأرادوا أن يستبدلوا الخمر وساقيها من الدار وبانيها، وتقدم في ذلك النواسي يحمل علمهم فقال:
صفة الطلول بلاغة القدم
فاجعل صفاتك لابنة الكرم
وقد بالغ في ذلك حتى سجنه الخليفة وأخذ عليه ألا يذكر الخمر في شعره، فقال:
أعر شعرك الأطلال والمنزل القفرا
فقد طالما أزرى به نعتك الخمرا
دعاني إلى نعت الطلول مسلط
تضيق ذراعي أن أرد له أمرا
فسمعا أمير المؤمنين وطاعة
وإن كنت قد جشمتني مركبا وعرا
ونهج كثير من الشعراء نهج أبي نواس وركبوا مركبه، وإن كان للطريقة القديمة محبوها حتى الآن. •••
هذا الترف الذي شمل القوم - يضاف إليه اختلاطهم بالأعاجم وما كان لهم في ذلك الوقت من حرية في التصور والتفكير - جعلهم يفتحون في اللغة العربية فتحا جديدا يتناولون فيه أفكار الفرس واليونان فيدخلونها في أشعارهم وآثارهم، وتمتد أيديهم إلى كثير من اللفظ الأعجمي يصورون ما جاد به النعيم، وما استلزمته الحضارة، فيقول أبو نواس في ذلك:
وذات خد مورد
قوهية المتجرد
تأمل العين منها
محاسنا ليس تنفد
فبعضها قد تناهى
وبعضها يتولد
والحسن في كل عضو
منها معاد مردد
ولم يقفوا عند هذا، بل وصفوا مناظر الطبيعة ورغد العيش ونعيمه، وصحبة الإخوان، وغناء القيان، ومصايد الوحش والطير، ومجالس الأنس والسرور، وابتدعوا كثيرا من المعاني الجديدة كقول بشار:
يا قوم أذني لبعض الحي عاشقة
والأذن تعشق قبل العين أحيانا
قالوا بمن لا ترى تهذي فقلت لهم
الأذن كالعين توفي القلب ما كانا
وقال أبو تمام:
وإذا أراد الله نشر فضيلة
طويت أتاح لها لسان حسود
لولا اشتعال النار فيما جاورت
ما كان يعرف طيب عرف العود
بقيت هنالك أمور جديرة بالاهتمام كان يصح أن نقف عندها قليلا، فقد بالغوا في الوصف، وفتحوا باب القصص، وتغزلوا بالغلمان، ولكن المقام يضيق عن ذلك.
هوامش
الكتاب الثالث
عصر المأمون
الفصل الأول
محمد الأمين
(1) توطئة
في التاريخ الأموي مأساة مروعة، وهي أن جند الوليد بن يزيد عبد الملك قتلوا خليفتهم وحزوا رأسه، وذهبوا به إلى يزيد فنصبه على رمح وطيف به في دمشق!
كانت تلك المأساة المروعة نتيجة دعوة سياسية حادة على الخليفة الوليد الذي تشبه حالته السياسية من جل وجوهها حالة الأمين، فقد كان من ضحايا نظام ولاية العهد الثنائي؛ ذلك بأن والده يزيد بن عبد الملك أراد أن يجعله خليفة بعده، فاضطر إلى تولية أخيه هشام، ثم ابنه الصغير الوليد بعد هشام.
فحاول هشام أن يولي ابنه مسلمة بدل الوليد، كما حاول يزيد من قبل تولية ابنه الوليد، فلم يفلح هذا ولا ذاك، وكانت النتيجة المعقولة لخطتهما السياسية من محاولة كليهما خلع ولي العهد والبيعة لولده، أن انضم إلى كل بعض القواد والزعماء والأنصار تأييدا له فيما يريد.
وكان هؤلاء القواد والزعماء والأنصار يصبحون موضع المقت والاضطهاد من ولي العهد المضطهد متى ولي الخلافة وصار الأمر إليه، فإذا ما اضطهد الخليفة نفسه وحبطت خطته كان نصيب سيرته من الرواة نصيب الوليد بن يزيد، وهو نصيب محمد الأمين.
نريد أن نقول إرضاء للعلم والتاريخ والمنطق أن الرواة إذا قالوا مثلا: إن الوليد كان كافرا أو كان مجموعة قبائح، أو أنه سلم يوسف الثقفي كلا من محمد وإبراهيم ابني إسماعيل المخزومي موثقين في عباءتين، وأن يوسف أقامهما للناس وجلدهما وعذبهما وأماتهما، أو قالوا: إنه حبس يزيد بن هشام، وفرق بين روح بن الوليد وبين امرأته، أو ذكروا أنه عذب خالد بن عبد الله القسري سيد اليمن، وأنه سلمه للثقفي فنزع ثيابه وعذبه مر العذاب حتى أماته، أو وصفوا منافسه يزيد بالنسك والورع، فإن من واجب المؤرخ المنصف المتحري للحقائق التاريخية، والراغب في النصفة العلمية، والمتمشي في أناة وترو وحكمة مع الافتراضات التحليلية، والخاضع لأحكام المنطق والحيدة والتعقل، أن ينظر بتحفظ وتحرز كبير إلى مثل تلك الروايات التي يوصف بها الخليفة المضطهد والمغلوب على أمره، وكل من انثل عرشه وضاع ملكه، وختمت بالقتل أو الحرمان حياته.
على أنه يجدر بنا أن نتساءل قبل أن نقتحم موضوعنا في هدوء وسكون: ما هو الروح الذي يغلب على الرواة المعاصرين، والشعراء المعاصرين، والكتاب المعاصرين والمحدثين المعاصرين؟ وما النهج الذي تسلكه الصحافة المعاصرة؟ أليس هو إلى حد غير قليل مناصرة الحزب القوي أو الزعيم القوي مناصرة حارة قوية حادة، وقد لا تخلو من مبالغة في تمدحها بمحاسنه، وإغراق في زرايتها على خصمه بنقائصه.
فمهمة المؤرخ إذن - حين يعرض لحياة خليفة مضطهد انتهت حياته بحز رأسه، مثل حياة الوليد بن يزيد الأموي، ومحمد الأمين العباسي، وحين يعرض لتحليل حياة خليفة منتصر، مثل حياة يزيد خصم الوليد في العصر الأموي، وحياة عبد الله المأمون خصم محمد الأمين في العصر العباسي - ليست ميسورة معبدة؛ بل هي جد شائكة.
وقد يكون من الحصافة والنصفة العلمية أن يعرض ما يرويه الرواة المعاصرون من مدح للغالب وانتقاص للمغلوب على بساط البحث التحليلي، ولسنا نرمى بذلك إلى أن ترفض مقولاتهم، وتنتقص - بلا حق - وجاهة رواياتهم، وإنما نوصي بالحيطة والاحتراس لا أكثر ولا أقل. (2) مولده
بعد هذه التوطئة الوجيزة التي لم نر ندحة عن إثباتها في هذا الموضع، نبدأ كلمتنا عن محمد الأمين من الناحية التحليلية لأخلاقه، أما ناحية النزاع الذي شجر بينه وبين أخيه المأمون، فلها موضعها التاريخي من كتابنا.
هو محمد الأمين بن هارون الرشيد، ولد سنة سبعين ومائة هجرية، وهي السنة التي استخلف فيها والده الرشيد، وكان مولده بعد مولد أخيه عبد الله المأمون بستة أشهر، وولد المأمون في الليلة التي استخلف فيها والده.
وأم الأمين أم جعفر زبيدة بنت جعفر بن المنصور؛ فهو هاشمي الأب والأم، وقيل: إن ذلك لم يتفق لخليفة عباسي غيره.
وإذ كان أخواله هاشميين ولهم في الدولة نفوذ قوي وكلمة مسموعة، فقد سعوا، فيما يحدثنا التاريخ، حين مد جماعة من بني العباس أعناقهم إلى الخلافة، إلى أن يكون الأمر إلى ابن أختهم، وقد نجحوا.
سعى خال الأمين عيسى بن جعفر بن المنصور إلى الفضل بن يحيى الذي بعثه الرشيد على رأس جيش إلى خراسان، لمحاربة بعض الخارجين على الخلافة، وتسكين الاضطراب في تلك النواحي، وقد كان التوفيق حليفه في ذلك الوجه، فقال عيسى للفضل: «أنشدك الله لما عملت في البيعة لابن أختي، فإنه ولدك وخلافته لك»، فوعده الفضل أن يفعل، فلما كان الفضل بخراسان يدل بما واتاه فيها من ظهور على الخارجين، وهو بعد من آل برمك وزراء الرشيد، وأصحاب السلطان العظيم في الدولة، بايع لمحمد الأمين هو ومن معه من القواد والجند بعد أن فرق أموالا عظيمة، وأعطى أعطيات كثيرة، وتغني بذلك شعراء العصر، أمثال أبان بن عبد الحميد اللاحقي والنمري وسلم الخاسر وغيرهم. ولبيان وجهة نظرهم في البيعة نقتطف لك شيئا مما قاله سلم والنمري؛ قال سلم:
قد وفق الله الخليفة إذ بنى
بيت الخليفة للهجان الأزهر
فهو الخليفة عن أبيه وجده
شهدا عليه بمنظر وبمخبر
قد بايع الثقلان في مهد الهدى
لمحمد ابن زبيدة ابنة جعفر
وقال النمري:
أمست بمرو على التوفيق قد صفقت
على يد الفضل أيدي العجم والعرب
ببيعة لولي العهد أحكمها
بالنصح منه وبالإشفاق والحدب
قد وكد الفضل عقدا لا انتقاض له
لمصطفى من بني العباس منتخب
فلما تناهى أمر البيعة إلى الرشيد ووجد نفسه أمام «الأمر الواقع»؛ إذ قد بايع لمحمد أهل المشرق، بايع له بولاية العهد، وكتب إلى الآفاق فبويع له في جميع الأمصار.
ومن هذا تعلم ما يصح أن يعتبر سرا في أن الأمين كان ولي عهد الرشيد دون أن يكون أكبر ولده سنا. (3) نشأته وأخلاقه
تقرأ ما سطره أمثال «كارليل» عن «كرومول» و«فردريك الأكبر»، وما كتبه «ترڤيان» عن «ماكولي» و«بزول» عن «جونسون» و«اللورد مورلي» عن «جلادستون»، وغيرهم من الكتاب الذين يعرضون لكتابة تاريخ حياة الملوك أو الساسة أو العبقريين، فتلاحظ في جل كتبهم، وفي الدقيق المستوفى منها على الأخص، أنهم يحفلون أيما احتفال، بقيد ملاحظاتهم عن تاريخ بطلهم في طفولته، وكيف كانت ثقافته في ميعة شبابه وطراوة إهابه، وما هي الأوابد والغرائب أيام كان حدثا صغيرا.
وقد لا تدهشك متانة «ماكولي» وقوة سبكه وارتفاعه إلى ذروة البلاغة في أساليبه، ولا يهولك كثرة ما حفظ ووفرة ما اطلع، إذا علمت، مثلا، أنه وهو لم يعد السادسة أو السابعة كانت محفوظاته في طفولته تبشر بعبقريته في رجوليته، وكذلك يقال عن «شارلس دكنز» وسيع الاطلاع في صباه على جل ما سطر وكتب، حتى صار في مقتبل حياته وقد ملك ناصية البلاغة، وتسنم الذروة في تعرف النفسيات وتحليل روح الطبقات كافة من بائسين معوزين إلى أشراف مترفين، وكذلك يقال عن «سپنسر» الفيلسوف العظيم والمربي النابه الذي كان يحفل في مبدأ نشأته، وهو لم يعد العاشرة مثلا، بالدويبات وغريب الهوام التي كانت على شاطئ النهر، فعكف على دراستها، فتولدت في نفسه صفات الجلد والأناة والمواظبة حتى أصبحنا نراه وهو في شيخوخته يخرج للناس المعجز المطرب في علم النفس وعلم الحياة وعلم الأخلاق وعلم التربية، وهكذا مما لا حد له ولا حصر.
كذلك يقال عن «جونسون» في صباه، وكيف كان يغالب المرض والمرض يغالبه، وكيف كانت أحاديثه في مطامعه، وكيف كان سحر بيانه وتدفقه في مجالسه، وكيف كان أبيا عيوفا مترفعا أنوفا، فرفض في شمم وإباء حذاء جديدا اشتراه له من لاحظ تخرق حذائه وقصر يده عن جديد ... إلى آخر ما يقيده كتاب العصر عن نشأة أبطالهم، مما نمسك القلم عن الاسترسال في إثبات شبيهه ومثيله، مما يفيد في تعرف أحوالهم، ويساعد على تفهم حقيقة أمورهم؛ لأن القارئ إذا زامل الزعيم في طفولته وصباه، ووقف على عبثه وجده، وجلده أو تبرمه، وتعلمه أو تعرمه، ونشاطه أو خموله، ورزانته أو تبذله، ووقف كذلك على نقائصه وفضائله، وهو حدث بعد، يستطيع أن يفهم فهما صحيحا حكمة تصرفاته في مقتبل حياته، كما يفهم الصديق صديقه والخدن خدنه.
ولنتساءل الآن: هل سجل لنا التاريخ شيئا قيما عن نشأة الأمين وطفولته؟
أظن أنني لا أعدو الحق كثيرا إذا قلت: لا؛ إذ قلما يعرض المؤرخون القدماء لشيء من طفولة العظماء ورجال التاريخ.
على أنا قد وقفنا من طفولة الأمين على شذرات ليست بذات غناء كبير، نثبتها لك وندرسها معك؛ فربما ساعدتنا بعض المساعدة على تفهم حداثة الأمين، واستخلاص بعض الحقائق عنه.
يحدثنا البيهقي في «المحاسن والمساوي» بما سنلخصه لك خاصا بنشأة الأمين التعلمية؛ لتقف على البيئة التي كان فيها الأمين، ولأن روايته - خصوصا ما جاء عن حلم زبيدة وفزعها منه، مما رواه المسعودي في «مروجه» أيضا - قد تجعلنا نعلل بحق أثر الوسط والوراثة في خلق ما كان بالأمين من استعداد لحب الاستخارة، مما كانت له نتائجه السيئة، ولأنه يفهمنا بوجه عام لم كان الأمين فصيحا أديبا بليغا، ولم كان عابثا مستهترا، ولم كان وادعا متهيبا من الدماء، ولأنه يفسر نشأته في ترف الخلافة ونعيمها، ومرح الحداثة ونهزها، والاستمتاع بمال زبيدة والإدلال بهاشميتها. •••
أنت جد عالم أن الرشيد جعل الأمين في حجر الفضل بن يحيى، والمأمون في حجر جعفر بن يحيى، وأنت جد عالم أن الفضل بن يحيى قال لهشيم بن بشر الواسطي: «ليكن أكثر ما تأخذ به ولي العهد الأمين تعظيم الدماء، فإني أحب أن يشرب الله قلبه الهيبة لها، والعفاف عن سفكها»، وأنت جد عالم بوصية الرشيد للأحمر النحوي بأخذ الأمين بالشدة إن لم تنفع الملاينة في تقويمه، وقد آن لنا أن نترك للأحمر فرصة التكلم، فيروي لك ما كان من أمره مع تلميذه الأمين.
يقول الأحمر: «كنت كثيرا ما أشدد على الأمين في التأديب، وأمنعه الساعات التي يتفرغ فيها للهو واللعب، فشكا ذلك إلى خالصة - ولعلها كانت كبيرة وصيفات أو أمينات القصر الزبيدي - فأتتني برسالة من أم جعفر تعزم علي بالكف عنه، وأن أجعل له وقتا أجمه فيه لتوديع بدنه، فقلت: الأمير قد عظم قدره، وبعد صوته، وموقعه من أمير المؤمنين ومكانه من ولاية العهد لا يحتملان التقصير، ولا يقبل منه الخطل، ولا يرضى منه بالزلل في المنطق، والجهل بالشرائع، والعمى عن الأمور التي فيها قوام السلطان وإحكام السياسة، قالت: صدقت، غير أنها والدة لا تملك نفسها، ولا تقدر على كف إشفاقها، ومع حذرها أمر إن شئت حدثتك به، فقلت: وما ذاك؟ قالت: حدثتني السيدة أنها رأت في الليلة التي حملت فيها به كأن ثلاث نسوة دخلن عليها، فقعدت منهن ثنتان، واحدة عن يمينها، وواحدة عن يسارها، فأمرت إحدى الثلاث يدها على بطنها، ثم قالت: ملك ربحل، عظيم البذل، ثقيل الحمل، سريع الأمر! وقالت الثانية: ملك قصير العمر، سليم الصدر، منهتك الستر! وقالت الثالثة: ملك قصاف، عظيم الإتلاف، يسير الخلاف، قليل الإنصاف! فانتبهت وأنا فزعة فلم أحس لهن أثرا، حتى كانت الليلة التي وضعته فيها أتينني في الخلق الذي رأيتهن فيه، فقعدن عند رأسه واطلعن جميعا في وجهه، ثم قالت واحدة منهن: شجرة نضرة، وريحانة جنية، وروضة زاهرة، وعين غدقة قليل لبثها، عجل ذهابها! وقالت الثانية: سفيه غارم، طالب للمغارم، جسور على المخاصم! وقالت الثالثة: احفروا قبره، وشقوا لحده، وقربوا أكفانه، وأعدوا جهازه، فإن موته خير له من حياته! قالت: فبقيت متحيرة، وبعثت إلى المنجمين والمعبرين ومن يزجر الطير، فكل يبشرني بطول عمره، ويعدني بقاءه وسعادته، وقلبي يأبى إلا الحذر عليه والتهمة لما رأيت في منامي. وبكت خالصة وقالت: يا أحمر، وهل يدفع الإشفاق والحذر والاحتراق واقع القدر، أو يقدر أحد على أن يدفع عن أحبائه الأجل؟ قلت: صدقت، إن القضاء لا يدفعه شيء.»
ويحدثنا التاريخ أن الرشيد اتخذ فيمن اتخد لتربية الأمين وتعليمه قطربا النحوي، وكان حماد عجرد يتعشق الأمين، ويطمع أن يتخذه الرشيد عليه مؤدبا، فلم يتهيأ له ذلك لتهتكه وقبيح ذكره في الناس، وقد كان رام ذلك فلم يجب إليه، فلما سمع أن قطربا قد استوى أمره وأجيب إلى ذلك لستره وعفافه، أخذ حمادا المقيم المقعد حسدا على ما ناله قطرب من ذلك وبلغه من المنزلة الرفيعة والدرجة السنية، فأخذ رقعة وكتب فيها أبياتا ودفعها إلى بعض الخدم الذين يقومون على رأس الرشيد، وجعل له على ذلك جعلا، وسأله أن يودع الرقعة دواة أمير المؤمنين، ففعل، فما كان بأسرع من أن دعا الرشيد بالدواة، فإذا فيها رقعة فيها هذه الأبيات:
قل للإمام جزاك الله مغفرة
لا يجمع الدهر بين السخل والذيب
السخل غر وهم الذيب غفلته
والذيب يعلم ما بالسخل من طيب
فلما قرأ الرشيد الرقعة قال: انظروا ألا يكون هذا المعلم لوطيا، أنفوه من الدار؛ فأخرجوه عن تأديب الأمين. قيل: ثم جعل الرشيد على الأمين حراسا، واتخذ عليه حمادا وكان عليه رقباء سبعين أو ثمانين.
ربما كان من الحق أن نقول: إن هذه النشأة كانت لها آثارها السيئة، خصوصا أنا نلاحظ أن الأمين تنقصه الدربة السياسية، وأنت تعلم أن الدربة السياسية هي ناحية يؤبه لها كثيرا في تنمية روح الحكم، وتقوية المواهب الإدارية، وتنظيم ملكات السلطان في ولي العهد، خصوصا ذلك العصر الذي لم تكن فيه وسائل الثقافة الملكية متوافرة توافرها اليوم؛ من سياحة لولي العهد إلى الممالك المتمدينة، ووقوف على مبلغ الحضارة العالمية، كما هي حال ولي عهد إنجلترا ونظرائه مثلا، مع أن الحاجة إلى الثقافة السياسية في ذلك العصر كانت أشد منها اليوم؛ لأن الملك حين ذاك كان صاحب سلطان فعلي مطلق غير مقيد بقانون أو دستور إلا ما يرجع إلى دينه وورعه.
نريد أن نقول: إنه إذا كان ندب الهادي للرشيد حين ولاه قيادة الجند لحرب الروم، قد أوجد الرشيد في مركز القيادة العامة، وفيها من الشيوخ المحنكين والقادة المدربين والزعماء المنظمين مجموعة صالحة للثقافة السياسية، وفرص تسنح في الفينة بعد الفينة للمرانة السياسية، ولتخريج خليفة مدرب في فنون الملك، وإذا كان المأمون قد ندب للحكم في خراسان وغير خراسان حتى نكبت به ظروف الأحوال عن مفاسد مال الخلافة ونعمة ابن زبيدة ودلال الهاشميين، نريد أن نقول: إنه إذا كان ذلك كذلك، وكانت هذه هي نتائج الدربة السياسية، فمن الميسور أن نفهم مغبة افتقادها، كما أنه من الميسور أن نستنبط أن عنصرا هاما من عناصر تكوين رجال السياسة والحكم كان ينقص الأمين الذي لم تستطع غاشيته من الخدم، وبطانته من الموالي، وأخواله من الهاشميين، وأساتيذه من المربين أن يحولوا بينه وبين ما تشتهيه نفسه وتهوى طفولته.
وهل تظن أنهم يستطيعون أن يكرهوه على أن يأخذ نفسه بحزم في أموره، وبسداد في تصرفه، وقمع لميوله، وتقويم لاعوجاجه، وبما يجعله رجلا كاملا، أظن لا، وأظن أنك محق في نفيك هذا عمن كان في ظروفه وبيئته.
على أنه من العدل والحق أن نقرر أن الأمين لم يكن بليد الذهن أو ثقيل الظل، بل كان نقيض ذلك على حظ من توقد الذهن وفصاحة اللسان، وخفة الروح والظل، وحسبك أن ترى شيئا مما كان ينضح به في مجالس اللهو والمنادمة من سرعة البديهة، وظرافة النكتة، وحلاوة التندر، ورقة الدعابة، وعذوبة الفكاهة؛ لتؤمن بما نقول.
وكل ما أجمع عليه المؤرخون الفرنجة ك «ميور» وكتاب دائرة المعارف الإسلامية، واتفقت عليه كلمة المؤرخين العرب جميعا أنه كان مستهترا مسرفا، مع خور خلقي، وعدم تبصر في العواقب ولا ترو في مهمات الأمور - مما يرجع في الواقع إلى عدم العناية بثقافته السياسية، كما أسلفنا.
وإنا محقون إذا ما قررنا أنه لو وجد الأمين يدا حكيمة تقسو عليه أحيانا فتفل من شباة نفسه العابثة المرحة، وتقوم اعوجاج خلقه الرخو، وتقوي سجاياه المنحلة، وتبعث به إلى الحروب، ليصهر بلظى أوارها، ويصقل من جلادها وسجالها، ويفيد نفسه من خبرة كماتها، ودربة شيوخها، وخدع مديريها، وخطط مشيريها، وتوليه حكم صقع من الأصقاع للمرانة فيه على معضلات الحكم ومشكلاته، والاحتكاك بقادته وقضاته؛ إذن لكان للمأمون منه خصم لا يستهان به ولا تلين قناته لغامز.
على أنا وإن قلنا: إن الأمين كان مستهترا، لا نستطيع مع ذلك أن نستسيغ الخبر الذي رواه الطبري وغيره، والذي ضربه الفخري مثلا على إهمال الأمين وغفلته وجهله، إلا بشيء من التحفظ كثير، وهاك خلاصة الخبر لكي تقدر معنا ما لهذه الملاحظة من وجاهة وقيمة:
لما اشتد الخلاف بين الأمين والمأمون حتى انتهى إلى غايته، أرسل الأمين لمحاربة أخيه جيشا لم ير في بغداد قبل ذلك أكثف منه، قوامه أربعون ألفا، وقيل خمسون، وزوده بالسلاح الكثير والأموال الوافرة، وعلى رأسه شيخ من شيوخ الدولة جليل القدر، مهيب الجانب، هو علي بن عيسى بن ماهان. وقد خرج معه الأمين إلى ظاهر المدينة مشيعا مودعا، وكان في حكم اليقين أن الظفر سيكون حليفه؛ لكثرة عدده، ووفرة سلاحه وذخيرته، فلما التقى بجيش طاهر بن الحسين قائد المأمون، وعسكره في حدود أربعة آلاف، ثم كانت الغلبة لطاهر، وورد الخبر بنعي علي بن عيسى إلى الأمين وهو يصيد، قال للذي أخبره بذلك: دعني فإن كوثرا قد اصطاد سمكتين وأنا إلى الآن ما اصطدت شيئا! وكان كوثر هذا خادما من الخصيان قيل: إن الأمين كان يحبه كثيرا.
نقول، ولعلك توافقنا فيما نذهب إليه: إنا لا نستطيع أن نقبل هذا الخبر وأمثاله إلا بشيء من التحفظ كثير، فإن خليفة يسمع مثل هذا النبأ العظيم ويعلم أن وراءه الفصل في مصير سلطانه ثم لا يأبه له، لا يكفي أن يوصف بالإهمال والجهل، بل هو جدير بما فوق ذلك؛ بالسفه والبلاهة، والسفية الأبله أولى بالحجر عليه منه بأن يكون ذا سلطان مطلق في دولة بعيدة الأطراف والنواحي، ومحال على الرشيد الذي عرف بالحزم وجودة الحدس والتأني في الأمور أن يسند هذا السلطان العظيم من بعده لسفيه أبله.
لهذا نميل إلى الافتراض كثيرا، بل إلى الترجيح بأن هذا الخبر والكثير من أمثاله ليس إلا أثرا من آثار الدعوة المأمونية التي كان لها من الأثر في ثل عرش الأمين، وتثبيت سلطان المأمون، ما لا يقل عن أثر عساكر المأمون وحزم قواده وحكمة مشيريه.
ويقول «ميور»: إن أهل بغداد قد ندموا وأسقط في أيدي جنودها لفتورهم في الدفاع عن الأمين، وعدم استبسالهم في الذود عنه. ويعزو مؤرخه الأستاذ «ويل» أسباب ندمهم هذا إلى سخاء الأمين وإسرافه فيما كان يغدق عليهم من الأموال والخيرات.
أما أنه كان سخيا بل مسرفا في السخاء فمما لا ريب فيه، ومهما افترضت المبالغة فيما سنرويه لك نقلا عن المظان الأدبية والمصادر التاريخية، فإن الصورة التي ستقع من نفسك مهما جعلتها متواضعة مقتصدة - وهذا ما نوصيك به دائما - كافية للاقتناع بأنه كان سخيا، بل مسرفا في السخاء .
يقول الأصفهاني في أغانيه: غنى إبراهيم بن المهدي ليلة محمدا الأمين صوتا في شعر أبي نواس:
يا كثير النوح في الدمن
لا عليها بل على السكن
سنة العشاق واحدة
فإذا أحببت فاستكن
ظن بي من قد كلفت به
فهو يجفوني على الظنن
رشأ لولا ملاحته
خلت الدنيا من الفتن
فأمر له بثلاثمائة ألف دينار، فقال إبراهيم: يا أمير المؤمنين، قد أجزتني إلى هذه الغاية بعشرين ألف ألف درهم، فقال الأمين: هل هي الإ خراج بعض الكور؟! هكذا ذكر إسحاق.
أما محمد بن الحارث فقد روى لنا هذه الحكاية عن إبراهيم فقال: لما أردت الانصراف قال: أوقروا زورق عمي دنانير، فانصرفت بمال جزيل.
ثم تعال، أرشدك الله، لننظر معا فيما يرويه أحد المعاصرين، وهو سعيد بن حميد، فإنه يقول: لما ملك محمد وجه إلى جميع البلدان في طلب الملهين وضمهم إليه، وأجرى عليهم الأرزاق، ونافس في ابتياع فره الدواب، وأحد الوحوش والسباع والطير وغير ذلك، واحتجب عن إخوته وأهل بيته وقواده واستخف بهم، وقسم ما في بيوت الأموال وما بحضرته من الجوهر في خصيانه وجلسائه ومحدثيه، وحمل إليه ما كان في الرقة من الجوهر والخزائن والسلاح، وأمر ببناء مجالس لمتنزهاته ومواضع خلوته ولهوه ولعبه بقصر الخلد والخيزرانية وبستان موسى وقصر عبدويه وقصر المعلى، ورقة كلواذى، وباب الأنبار، وتبارى والهوب، وأمر بعمل خمس حراقات في دجلة على خلقة الأسد والفيل والعقاب والحية والفرس، وأنفق في عملها مالا عظيما.
فقال أبو نواس يمدحه:
سخر الله للأمين مطايا
لم تسخر لصاحب المحراب
فإذا ما ركابه سرن برا
سار في الماء راكبا ليث غاب
أسدا باسطا ذراعيه يهوى
أهرت الشدق كالح الأنياب
لا يعانيه باللجام ولا السو
ط ولا غمز رجله في الركاب
عجب الناس إذ رأوك على صو
رة ليث تمر مر السحاب
سبحوا إذ رأوك سرت عليه
كيف لو أبصروك فوق العقاب؟!
ذات زور ومنسر وجناحي
ن تشق العباب بعد العباب
تسبق الطير في السماء إذا ما اس
تعجلوها بجيئة وذهاب
بارك الله للأمير وأبقا
ه وأبقى له رداء الشباب
ملك تقصر المدائح عنه
هاشمي موفق للصواب
على أنه يصح التساؤل: من أين للخليفة ما يكفيه من الأموال الطائلة والثروات الوفيرة لسد مطامعه، ولإجابته إلى شتى مناعمه؟
وإنا نظن أنه يكفيك أن تنظر أيضا فيما تنظر إليه من مختلف مصادر المال، من خراج - ربما كان ظالما - وجبايا هائلة مروعة، وموازين غنية، وضرائب مبالغ في فرضها، إلى باب الاستصفاء وحده وما ينجم عنه وعن نكبة الوزراء والكبراء. وحبذا لو وفق لدراسته بعض الباحثين في التاريخ الإسلامي؛ فهو هام وهو خطير.
ثم انظر ما ذكره الحسين بن الضحاك، وهو شاعر الأمين كما تعلم، قال: ابتنى الأمير سفينة عظيمة أنفق عليها ثلاثة آلاف ألف درهم، واتخذ أخرى على خلقة شيء يكون في البحر يقال له: «الدلفين»، فقال في ذلك أبو نواس:
قد ركب الدلفين بدر الدجى
مقتحما في الماء قد لججا
فأشرقت دجلة في حسنه
وأشرق السكان واستبهجا
لم تر عيني مثله مركبا
أحسن إن سار وإن أحنجا
إذا استحثته مجاذيفه
أعنق فوق الماء أو هملجا
خص به الله الأمين الذي
أضحى بتاج الملك قد توجا
ثم لتتدبر معي ما يرويه لنا أحد الأمناء بقصر الرشيد، وهو حسين خادم الرشيد، فإنه يقول: إن الخلافة لما صارت إلى محمد هيئ له منزل من منازله على الشط بفرش أجود ما يكون من فرش الخلافة وأسواه، فقال: يا سيدي، لم يكن لأبيك فرش يباهي به الملوك والوفود الذين يردون عليه أحسن من هذا، فأحببت أن أفرشه لك، قال: فأحببت أن يفرش لي في أول خلافتي المردراج! قال: مزقوه! قال: فرأيت والله الخدم الفراشين قد صيروه ممزقا وفرقوه.
وهناك مئات من الشواهد التي يرويها المعاصرون، أمثال مخارق المغني، وأبي عبادة البحتري عن مشيخته، والعباس بن الفضل بن الربيع، وكوثر وغيرهم، عن سرف الأمين وبذخه ولهوه وعبثه، يصح أن ترجع إليها في مظانها، وكلها تؤيد صدق اللباب والجوهر.
فمن ذلك ما يرويه لنا حميد بن سعيد، من أن محمدا الأمين لما ملك وكاتبه عبد الله المأمون وأعطاه بيعته؛ طلب الخصيان وابتاعهم وغالى بهم وصيرهم لخلوته في ليله ونهاره، وقوام طعامه وشرابه وأمره ونهيه، وفرض لهم فرضا سماهم الجرادية، وفرضا من الحبشان سماهم الغرابية، ورفض النساء الحرائر والإماء حتى رمى بهم، وحتى قال في ذلك بعض شعراء العصر وقد ذكر أسماء بعضهم وحال الأمين معهم:
ألا يا مزمن المثوى بطوس
غريبا ما يفادى بالنفوس
لقد أبقيت للخصيان بعلا
تحمل منهم شؤم البسوس
فأما نوفل فالشأن فيه
وفي بدر فيا لك من جليس
وما العصمي بشار لديه
إذا ذكروا بذي سهم خسيس
وما حسن الصغير أخس حالا
لديه عند مخترق الكئوس
لهم من عمره شطر وشطر
يعاقر فيه شرب الخندريس
وما للغانيات لديه حظ
سوى التقطيب بالوجه العبوس
إذا كان الرئيس كذا سقيما
فكيف صلاحنا بعد الرئيس
فلو علم المقيم بدار طوس
لعز على المقيم بدار طوس
وفي الحق أن قصف الأمين وانهماكه في لهوه وغلوه في عبثه، واستهتاره في مرحه، واشتغاله بوجه خاص بخدمه، قد جر عليه وبالا كثيرا، وشرا مستطيرا، ونفر منه قلوب العقلاء من مشايعيه ومناصريه، والأقوياء من مؤيديه وذويه.
من أمثال ذلك ما ذكروه عن العباس بن عبد الله بن جعفر، وهو من رجالات بني هاشم جلدا وعقلا وصنيعا، وكان يتخذ الخدم كطبيعة حياة المترفين في ذلك العصر، قالوا: كان له خادم من آثر خدمه عنده يقال له منصور، فوجد الخادم عليه فهرب إلى محمد وأتاه وهو بقصر أم جعفر المعروف بالقرار، فقبله محمد أحسن قبول، وحظي عنده حظوة عجيبة، فركب الخادم يوما في جماعة خدم كانوا لمحمد يقال لهم السيافة، فمر بباب العباس بن عبد الله، يريد بذلك أن يري خدم العباس هيئته وحاله التي هو عليها، وبلغ ذلك الخبر العباس، فخرج إليه وقامت معركة، وكادوا يحرقون دار العباس، وقبض الأمين على العباس وهم أن يقتله لولا وساطة أم جعفر من ناحية، واشتغاله بخروج الحسين بن علي بن ماهان عليه وانضمامه إلى المأمون من ناحية أخرى.
ولموضوع خدم الخليفة وغاشيته ذوي السلطان من المقربين والزعماء والقادة والوزراء، بل الخدم والأمناء أسوأ أثر في تاريخ المدنية الإسلامية. •••
وهناك ظاهرة خلقية في أخلاق الأمين، وهي حبه للاستخارة، واحتفاله بالبحث عن أمر طالعه، وركونه حتى في آخر لحظة من حياته، وهي لحظة التقرير في مصيره، أيسلم نفسه إلى طاهر أم إلى هرثمة إلى منام رآه.
وربما كانت هذه الخلة فيه من أثر البيئة، كما أسلفنا، أو من روح العصر نفسه، وإن كان ابن ماهان قائده يحتقرها، وسنرى أن المأمون كان على عكس الأمين لا يحفل في مهام أموره بالاستخارة ووحي الأحلام، بل كان يجعل جل اعتماده على مشورة رجالاته وذوي النصيحة من أنصاره.
على أنه ليس معنى ذلك أن الأمين لم يكن يستشير، ولكنه كان في كل شئونه يغلبه هواه على وجه الصواب من أمره، وكان لرياء حاشيته وتأثير بطانته فيه النتيجة السيئة، فكان لا يعمل بما يدلى به إليه من نصح.
وحسبك دليلا على ظهور هذه الخلة فيه ما رواه عمرو بن حفص مولى محمد إذ يقول: دخلت على محمد في جوف الليل، وكنت من خاصته أصل إليه حيث لا يصل أحد من مواليه وحشمه، فوجدته والشمع بين يديه وهو يفكر، فسلمت عليه فلم يرد علي، فعلمت أنه في تدبير بعض أموره، فلم أزل واقفا على رأسه حتى مضى أكثر الليل، ثم رفع رأسه إلي فقال: أحضرني عبد الله بن خازم، فمضيت إلى عبد الله فأحضرته، فلم يزل في مناظرته حتى انقضى الليل، فسمعت عبد الله وهو يقول: «أنشدك الله يا أمير المؤمنين، أن تكون أول الخلفاء نكث عهده، ونقض ميثاقه، واستخف بيمينه، ورد رأي الخليفة قبله»، فقال: «اسكت، لله أبوك، فعبد الله كان أفضل منك رأيا وأكمل نظرا؛ حيث يقول: لا يجتمع فحلان في هجمة»، ثم جمع وجوه القواد، فكان يعرض عليهم واحدا واحدا ما اعتزمه فيأبونه، وربما ساعده قوم حتى بلغ إلى خزيمة بن خازم فشاوره في ذلك فقال: «يا أمير المؤمنين، لم ينصحك من كذبك، ولم يغشك من صدقك، لا تجرئ القواد على الخلع فيخلعوك، ولا تحملهم على نكث العهد فينكثوا عهدك وبيعتك، فإن الغادر مخذول، والناكث مفلول .»
ولكن الأمين، كما قلنا، كان هواه يعمي عليه وجه الصواب من أمره، وكان واقعا تحت سلطان الفضل بن الربيع وعلي بن عيسى بن ماهان وغيرهما من بطانته، وهم الذين كان رياؤهم سما زعافا، ونفاقهم وباء فتاكا، ولين كلامهم حسكا وقتادا، والذين لم يخلصوا لمليكهم أو بلادهم فيما يدلون به من الآراء، وما يقدمونه من النصائح، وإنما يخلصون لعاجل مصلحتهم، فزينوا له نكث العهد، وسهلوا له أمره، حتى أقدم عليه، وكان ما كان من النزاع على ما سنصفه لك في بابه.
على أنا لا نعني بما ذكرناه لك الآن أن الأمين كان بليد الذهن، وإنما نعني أنه كان ضعيف الإرادة، عديم الدربة، ونكرر لك هنا ما أسلفنا قوله لك من اعتقادنا بتوقد ذهنه، وفصاحة لسانه، ونقرر أيضا، إحقاقا للحق وإنصافا للتاريخ، أنه كان بليغا متعهدا، إلى حد غير قليل، قواده بالنصح والرأي، فقد ذكر أحد معاصريه، وهو عمرو بن سعيد، أن محمدا الأمين لما جاز باب خراسان ترجل وأقبل يوصي علي بن عيسى بن ماهان: «امنع جندك من العبث بالرعية، والغارة على أهل القرى، وقطع الشجر، وانتهاك النساء، وول الري يحيى بن علي، واضمم إليه جندا كثيفا، ومره ليدفع إلى جنده أرزاقهم مما يجيء من خراجها، وول كل كورة ترحل عنها رجلا من أصحابك، ومن خرج إليك من جند أهل خراسان ووجوهها فأظهر إكرامه، وأحسن جائزته، ولا تعاقب أخا بأخيه، وضع عن أهل خراسان ربع الخراج، ولا تؤمن أحدا رماك بسهم أو طعن في أصحابك برمح.»
ولم تكن هذه الوصية هي الوصية الوحيدة للأمين فنقول: فلتة من عابث؛ فإن هناك ثانية وثالثة وهلم جرا، وها هو ذا أحمد بن مزيد أحد قواده يخبرنا أنه لما أراد الشخوص في مهمته دخل على محمد الأمين فقال: أوصني، أكرم الله أمير المؤمنين، فقال: «أوصيك بخصال عدة: إياك والبغي؛ فإنه عقال النصر، ولا تقدم رجلا إلا باستخارة، ولا تشهر سيفا إلا بعد إعذار، ومهما قدرت عليه باللين فلا تتعده إلى الخرق والشر، وأحسن صحابة من معك من الجند، وطالعني بأخبارك في كل يوم، ولا تخاطر بنفسك طلب الزلفة عندي، ولا تستقها فيما تخاف رجوعه علي ...» إلى آخر نصيحته.
ومن العدل أن نقرر أيضا أنه كان إلى آخر لحظة من حياته محاولا الانتصار، باذلا مقدوره في الحرب، ولكن عبثه ولهوه كانا يقعدان به.
وكان طيب القلب يعفو حتى عن الخارجين عليه والمسيئين إليه، وإن موقفه مع حسين بن علي بن ماهان لمعروف مشهور، وكذلك موقفه مع أسد بن يزيد أحد قادته حينما طلب إليه أن يدفع له ولدي عبد الله المأمون ليكونا أسيرين في يديه، فإن أعطاه المأمون الطاعة فبها، وإلا عمل فيهما بحكمه، وأنفذ فيهما أمره، فقال له الأمين: «أنت أعرابي مجنون، أدعوك إلى ولاء أعنة العرب والعجم، وأطعمك خراج كور الجبال إلى خراسان، وأرفع منزلتك عن نظرائك من أبناء القواد والملوك، وتدعوني إلى قتل ولدي، وسفك دماء أهل بيتي! إن هذا للخرق والتخليط!»
هذا الموقف النبيل دليل على سلامة طويته وطهر سجيته، ولكن حظه الحالك ونجمه الآفل، ورياء مشيريه، وضعف إرادته، وخور عزيمته، ولهوه وعبثه، ونصيب المغلوب من الدعوة عليه، والحملة الموجهة إليه قد ضربت بجرانها على سيرته؛ فإذا بها شوهاء مزرية، وإذا بها مقبحة منفرة، حتى قيل فيه ما قيل مما يجدر بنا ألا نخلي كتابنا من إثبات بعضه.
جاء في الجزء السادس من كتاب بغداد لأحمد بن أبي طاهر طيفور: «قال المأمون لطاهر بن الحسين: يا أبا الطيب، صف لي أخلاق المخلوع، قال: كان، يا أمير المؤمنين، واسع الطرب، ضيق الأدب، يبيح نفسه ما تعافه همم ذوي الأقدار، قال: فكيف كانت حروبه؟ قال: كان يجمع الكتائب ويفضها بسوء التدبير، قال: فكيف كنتم له؟ قال: كنا أسدا تبيت وفي أشداقها أعناق الناكثين، وتصبح في صدورها قلوب المارقين، قال: أما إنه أول من يؤخذ بدمه يوم القيامة ثلاثة - لست أنا ولا أنت رابعهم ولا خامسهم - وهم: الفضل بن الربيع، وبكر بن المعتمر، والسندي بن شاهك، هم والله ثار أخي وعندهم دمه ...»
وقال المسعودي في التنبيه والإشراف: «إن الأمين كات باسطا يده بالعطاء، قبيح السيرة، ضعيف الرأي، سفاكا للدماء، يركب هواه، ويهمل أمره، ويتكل في جليلات الخطوب على غيره، ويثق بمن لا ينصحه، واستوزر الفضل بن الربيع إلى أن استتر الفضل لما تبين من اختلال أمر محمد، ووهي أمره، فقام بوزارته من حضر من كتابه كإسماعيل بن صبيح، وغلب عليه عدة من الأولياء؛ منهم: علي بن عيسى، والسندي بن شاهك، وسليمان بي أبي جعفر المنصور»، وقال غيره: «إنه كان كثير اللهو واللعب، منقطعا إلى ذلك مشتغلا به عن تدبير مملكته.»
ويقول ابن الأثير: «لم نجد للأمين شيئا من سيرته نستحسنه فنذكره»، وهذا حق في جملته عن الأمين كمدبر مملكة وخليفة، فإن فتى غرا لم يثقف الثقافة السياسية اللازمة، ثم يصبح ذا سلطان مطلق في ملك كبير يشبع ذوي المطامع النهمة، ثم تحوطه حاشية من الدهاة ذوي المطامع الواسعة، والأغراض الكبيرة كالفضل بن الربيع الذي أفسد ما بينه وبين أخيه، وبكر بن المعتمر الذي زين له خلعه، ثم هو فوق ذلك ينصرف إلى حد كبير عن معالجة تدبير الملك إلى اللهو، وإلى اللهو بكل ألوانه وضروبه، فقد ذكر الطبري في حوادث سنة ثلاث وتسعين ومائة عن علي بن إسحاق أحد معاصريه، أنه لما أفضت الخلافة إلى محمد، وهدأ الناس ببغداد، أصبح صبيحة السبت، بعد بيعته بيوم، فأمر ببناء ميدان حول قصر أبي جعفر في المدينة للصوالجة واللعب، فقال في ذلك شاعر من أهل بغداد:
بنى أمين الله ميدانا
وصير الساحة بستانا
وكانت الغزلان فيه بانا
يهدى إليه فيه غزلانا
نقول: إن مثل هذا الفتى الذي يولي وجهه منذ الساعة الأولى إلى مثل هذه الشئون التي كان يجدر به ومن كان في مكانه ألا تكون صاحبة النصيب الأول من عنايته واهتمامه، خليق ألا يجد المؤرخ له عملا صالحا في شأن من شئون الدولة، وقمين على ذلك أن يكون موضع استغلال كبير للدعوة المأمونية.
وقال غير ابن الأثير: «كان الأمين فصيحا بليغا كريما»، وكيف لا يكون تلميذ الأحمر والكسائي وقطرب وحماد وغيرهم من فحول اللغة، وجهابذة البيان، وأساتذة الأدب من منثور ومنظوم فصيحا بليغا؟
على أنه من الحق والعدل أن نقرر أيضا، أن هذه الصفات تكاد تكون من سجايا كل ناجم من هذه الأسرة الباسقة الفينانة، ومن أجل هذا ذهبنا إلى ما ذهبنا إليه من أن الأمين لم يكن كما صوروه لنا من البله والسخف، ومن الخمول والبلادة، ومحال أن يكون كذلك وتصرفاته في بعض شئون الدولة على ما وصفنا، ومحال أن يكون بليدا بفطرته واستعداده، أو جاهلا غبيا؛ لأنه في الذروة من الهاشمية، وأنت تعلم مقدار اهتمام الخلفاء العباسيين والأمراء الهاشميين بالثقافة الأدبية، كما بينا لك ذلك في كلمتنا عن الحياة الأدبية والعلمية في العصر العباسي، وإنما ظروف حياة الأمين والبيئة التي أحاطت به وما إلى ذلك مما فصلناه لك، جعلت صورة الأمين كما أراناها التاريخ، ثم هي في الوقت نفسه جنحت به إلى الاستهتار، وإلى العبث والمجانة.
وقد يكون أحسن ما نختم به كلمتنا عن تحليل الأمين وسيرته، وأصدق وصف له ما ذكره الفضل بن الربيع، وزيره ووزير أبيه من قبله، والذي سنعرض لشيء من دقيق تصرفاته، وحكيم تدبيراته عندما نعرض لتفصيل النزاع بين الأمين والمأمون، فهذا الوصف ربما كان أقل تحاملا من غيره على الأمين، وربما كان خيرا من سواه في تصوير الأمين وتحليل أخلاقه ونفسيته.
ذكر الطبري أن أسد بن يزيد بن مزيد حدثه أن الفضل بن الربيع بعث إليه بعد مقتل عبد الرحمن بن جبلة الأنباري، قال: فأتيته، فلما دخلت عليه وجدته قاعدا في صحن داره، وفي يده رقعة قد قرأها واحمرت عيناه واشتد غضبه وهو يقول: ينام نوم الظربان، لا يفكر في زوال نعمة، ولا يتروي في إمضاء رأي ولا مكيدة، قد ألهاه كأسه، وشغله قدحه، فهو يجري في لهوه والأيام تسرع في هلاكه، قد شمر عبد الله له عن ساقه ، وفوق له أصيب أسهمه، يرميه على بعد الدار بالحتف النافذ والموت القاصد، قد عبى له المنايا على متون الخيل، وناط له البلاء في أسنة الرماح وشفار السيوف. ثم استرجع وتمثل بشعر البعيث:
ومجدولة جدل العنان خريدة
لها شعر جعد ووجه مقسم
وثغر نقي اللون عذب مذاقه
تضيء له الظلماء ساعة يبسم
وثديان كالحقين والبطن ضامر
خميص وجهر ناره تتضرم
لهوت بها ليل التمام ابن خالد
علي بمرو الروذ غيظا تجرم
أظل أناغيها وتحت ابن خالد
أمية نهد المركلين عثمثم
طواها طراد الخيل في كل غارة
لها عارض فيه الأسنة ترزم
يقارع أتراك ابن خاقان ليله
إلى أن يرى الإصباح لا يتلعثم
فيصبح من طول الطراد وجسمه
نحيل وأضحي في النعيم أصمم
فشتان ما بيني وبين ابن خالد
أمية في الرزق الذي الله قاسم
ثم التفت إلي فقال: «يا أبا الحارث، إنا وإياك لنجري إلى غاية، إن قصرنا عنها ذممنا، وإن اجتهدنا في بلوغها انقطعنا، وإنما نحن شعب من أصل إن قوي قوينا، وإن ضعف ضعفنا، إن هذا قد ألقى بيده إلقاء الأمة الوكعاء يشاور النساء، ويعتزم على الرؤيا، وقد أمكن بمسامعه ما معه من أهل اللهو والجسارة، فهو يعدونه الظفر ويمنونه عقب الأيام، والهلاك أسرع إليه من السيل إلى قيعان الرمل، وقد خشيت والله أن نهلك بهلاكه، ونعطب بعطبه.»
الفصل الثاني
المأمون
(1) توطئة
لننتقل الآن إلى حداثة المأمون، ولنتبع في دراستنا له نفس الطريقة التي ترسمناها حين دراستنا لحداثة الأمين، فنتكلم عن مولده، كما نتكلم عن نشأته وأخلاقه محاولين أن نجمع شتات المعلومات التاريخية في هذا الصدد، وأن ننظر فيها نظرة تفهم واستيعاب وإمعان ومقارنة وموازنة بما يقتضيه المقام من إجمال وإيجاز. (2) مولده
ولد عبد الله المأمون لأربع عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول سنة سبعين ومائة هجرية، وهي التي استخلف فيها الرشيد، فلما بشر بمولده سر به سرورا عظيما، وسماه المأمون تيمنا بذلك، وأمه أم ولد باذغشية تسمى «مراجل»، ويقال: إنها تمت إلى أسرة عريقة في المجد من الأسر الفارسية.
نشأ المأمون في حجر الخلافة، وتهيأ له من وسائل التربية والتثقيف ما لم يتهيأ إلا لأخيه الأمين، وكانت ظاهرة عليه مخايل النجابة والذكاء وبعد الهمة والتعالي بنفسه عن سفساف الأمور.
ومع كبر سن المأمون وظهور هذه الخلال فيه، وثقة الرشيد به ومحبته له لم يتح له ما أتيح للأمين من البيعة بولاية العهد؛ إذ كان لأم الأمين من المكانة لدى الرشيد، وهي زوجه، ما لم يكن لأم المأمون. وقد سبق أن بينا لك في كلامنا على الأمين ما قام به أخواله من المسعى الموفق في أن يكون أمر الدولة من بعد الرشيد لابن أختهم، وما قام به الفضل بن يحيى في خراسان من البيعة للأمين بولاية العهد، حتى أصبح الرشيد أمام الأمر الواقع، فأعلن بولاية العهد للأمين راضيا أو مكرها. (3) نشأته وأخلاقه
وكل الرشيد بكفالة المأمون والنظر في شئونه ومراقبة أحواله جعفر بن يحيى وزيره، كما جعل الأمين في كفالة الفضل أخي جعفر. ونحن نحس عند ذكر كفالة الفضل للأمين إحساسا، قد لا يعدو الواقع كثيرا، أن بين هذه الكفالة وبين إعلان الفضل بولاية العهد للأمين في خراسان صلة.
فلما نما المأمون وترعرع أخذ المؤرخون يذكرون لنا من مظاهر نجابته وحزمه، وتقديره لنفسه وللناس، ومعرفته بمن كانت أهواؤهم معه أو عليه، ووقوفه على ما يجري حوله من شئون وأحوال، مما سنقصه عليك، ما ينبئ بما سيكون لهذا الغلام من شأن عظيم.
ولعل أظهر ما يدل على نجابة المأمون في صباه ما يقصه علينا التاريخ عن أبي محمد اليزيدي مؤدبه الذي يقول: «كنت أؤدب المأمون وهو في كفالة سعيد الجوهري، فجئت دار الخلافة وسعيد قادم إليها، فوجهت إلى المأمون بعض خدمه يعلمه بمكاني، فأبطأ علي، ثم وجهت آخر فأبطأ، فقلت لسعيد: إن هذا الفتى ربما تشاغل بالبطالة وتأخر، فقال: أجل، ومع هذا فإنه إذا فارقك تعرم
1
على خدمه، ولقوا منه أذى شديدا، فقومه بالأدب، فلما خرج تناولته ببعض التأديب، فإنه ليدلك عينيه من البكاء إذ قيل: جعفر بن يحيى الوزير قد أقبل، فأخذ منديلا فمسح عينيه وجمع ثيابه، وقام إلى فراشه فقعد عليه متربعا، ثم قال: ليدخل، فقمت عن المجلس وخفت أن يشكوني إليه فألقى منه ما أكره، قال: فأقبل عليه بوجهه وحدثه حتى أضحكه وضحك إليه، فلما هم بالحركة، دعا المأمون بدابة جعفر ودعا غلمانه فسعوا بين يديه، ثم سأل عني فجئت، فقال: خذ علي بقية حزبي، فقلت: أيها الأمير، أطال الله بقاءك، لقد خفت أن تشكوني إلى جعفر بن يحيى، ولو فعلت لتنكر لي، فقال: تراني، يا أبا محمد، كنت أطلع الرشيد على هذه، فكيف بجعفر بن يحيى حتى أطلعه على أنني أحتاج إلى أدب؟! خذ في أمرك، عافاك الله، فقد خطر ببالك ما لا تراه أبدا ولو عدت إلى تأديبي مائة مرة!»
وكذلك مما يدل على ذكاء المأمون وثقوب بصيرته، وأصالته وحصافته منذ نعومة أظفاره وميعة صباه ما يحكى من أن أم جعفر عاتبت الرشيد في تقريظه للمأمون دون الأمين ولدها، فدعا خادما وقال له: وجه إلى الأمين والمأمون خادما يقول لكل واحد منهما على الخلوة: ما تفعل إذا أفضت الخلافة إليك؟ فأما الأمين فقال للخادم: أقطعك وأعطيك، وأما المأمون فإنه قام إلى الخادم بدواة كانت بين يديه وقال: أتسألني عما أفعل بك يوم يموت أمير المؤمنين وخليفة رب العالمين، إني لأرجو أن نكون جميعا فداء له، فقال الرشيد لأم جعفر: كيف ترين؟ فسكتت عن الجواب.
وأعدل الشواهد على تقدير هذا الغلام لنفسه كأمير وابن خليفة، وشعوره بما له من منزلة اجتماعية خاصة، وبما ينبغي أن يكون له في نفوس الناس من إجلال واحترام، وما يجب لمثله في آداب التحية وحسن الخطاب ما جبه به الحسن اللؤلؤي، وهو الذي اتخذه الرشيد مؤدبا للمأمون بعد أبي محمد اليزيدي، حين كان يطارحه شيئا من الفقه، وأخذت المأمون سنة من النوم، فقال له اللؤلؤي: نمت أيها الأمير؟ فقال المأمون: سوقي ورب الكعبة، خذوا بيده، فجاء الغلمان فأقاموه، فلما بلغ الرشيد ما صنع قال متمثلا:
وهل ينبت الخطي إلا وشيجه
وتغرس إلا في منابتها النخل
ويحدثنا التاريخ أيضا عن المأمون صبيا، أن الرقاشي هجاه حين مدح الأمين بقوله:
لم تلده أمة تع
رف في السوق التجارا
لا ولا حد ولا خا
ن ولا في الخزي جارا
يعرض بالمأمون لأن الرشيد كان قد حده في جارية أو في خمر.
ومهما يكن من شيء في صبا المأمون فقد كانت ظاهرة فيه مخايل النجابة والذكاء والحزم، وحسن التدبير، وجودة الحدس، والطموح إلى الكمال.
وقد يجد الذين يذهبون إلى أن في تلقيح الأجناس تحسينا للنوع حجة ظاهرة في المأمون لمذهبهم؛ إذ لا تعوزهم الوسيلة في أن يرجعوا نجابته إلى أنه من أم فارسية وأب عربي، أو بعبارة أخرى: إلى أنه قد جمع بين الدم الآري والدم
2
السامي.
هذه المخايل حببته إلى الرشيد وجعلته يقدره قدره، فجعله ولي عهد الخلافة بعد أخيه الأمين، وجمعت حوله طائفة من ذوي الهمم الشماء الذين توسموا فيه محققا لأطماعهم الواسعة.
ومن أظهر هؤلاء الذين التفوا حوله لتحقيق مطامعهم الفضل بن سهل الذي اتخذ يحيى بن خالد البرمكي وسيلة إلى الرشيد في أن يكون في خدمة المأمون، وحسبك أن تعلم من أمر الفضل هذا، أنه القائل حين سئل عن السعادة: إنها أمر جائز وكلمة نافذة! وأنه الذي قال له مؤدب المأمون يوما في أيام الرشيد: إن المأمون لجميل الرأي فيك، وإني لا أستبعد أن يحصل لك من جهته ألف ألف درهم، فاغتاظ من ذلك وقال له: ألك علي حقد؟ ألي إليك إساءة؟! فقال المؤدب: لا والله ما قلت هذا إلا محبة لك، فقال: أتقول لي: إنك تحصل منه ألف ألف درهم؟ والله ما صحبته لأكتسب مالا قل أو جل، ولكن صحبته ليمضي حكم خاتمي هذا في الشرق والغرب! قال: فوالله ما طالت المدة حتى بلغ ما أمل.
حسبك أن نذكر لك هذا من أمر الفضل بن سهل لتعلم ما لهذا الرجل من همة وثابة، وعزيمة مرهفة مضاءة، ومطالع واسعة، وحسبك أن نذكر لك ما وصفه به أحد معاصريه، وهو إبراهيم بن العباس؛ لتقدر الرجل وتقدر كفايته، قال:
يمضي الأمور على بديهته
وتريه فكرته عواقبها
فيظل يصدرها ويوردها
فيعم حاضرها وغائبها
وإذا ألمت صعبة عظمت
فيها الرزية كان صاحبها
المستقل بها وقد رسبت
ولوت على الأيام جانبها
وعدلتها بالحق فاعتدلت
ووسعت راغبها وراهبها
وإذا الحروب بدت بعثت لها
رأيا تفل به كتائبها
رأيا إذا نبت السيوف مضى
عزم بها فشفى مضاربها
وإذا الخطوب تأثلت ورست
هدت فواضله نوائبها
وإذا جرت بضميره يده
أبدت به الدنيا مناقبها
يقول الفخري: قالوا لما رأى الفضل بن سهل نجابة المأمون في صباه، ونظر في طالعه - وكان خبيرا بعلم النجوم - فدلته النجوم على أنه سيصير خليفة، لزم ناحيته وخدمه ودبر أموره حتى أفضت الخلافة إليه فاستوزره.
وسواء أكان مرجع اتصاله بالمأمون إلى خبرته بالنجوم أم إلى جودة حدسه، فقد اتصل بالمأمون وهو صبي، وكان الحامل له على أن يكون في خدمته تحقيق آمال كبار، رأى بكياسته وحذقه في نجابة المأمون خير كفيل بتحقيقها.
ولقد كان استعداد المأمون الفطري منذ نشأته أن يكون رجل جماعة وقائد أمة؛ إذ قد حبته الطبيعة فيما حبته من شتى المواهب موهبة الخطابة والتبريز فيها، فقد أخبرنا محمد بن العباس اليزيدي، قال: حدثني عمي عبد الله وأخي أحمد قالا: لما بلغ المأمون وصار في حد الرجال أمرنا الرشيد أن نعمل له خطبة يقوم بها يوم الجمعة، فعملنا له خطبته المشهورة، وكان جهير الصوت حسن اللهجة، فلما خطب بها رقت له قلوب الناس، وأبكى من سمعه، فقال أبو محمد اليزيدي يمدح المأمون:
لتهن أمير المؤمنين كرامة
عليه بها شكر الإله وجوب
بأن ولي العهد مأمون هاشم
بدا فضله إذ قام وهو خطيب
ولما رماه الناس من كل جانب
بأبصارهم والعود منه صليب
رماهم بقول انصتوا عجبا له
وفي دونه للسامعين عجيب
ولما وعت آذانهم ما أتى به
أنابت ورقت عند ذاك قلوب
فأبكى عيون الناس أبلغ واعظ
أغر بطاحي النجار نجيب
مهيب عليه للوقار سكينة
جريء جنان لا أكع هيوب
ولا واجب فوق المنابر قلبه
إذا ما اعترى قلب النخيب وجيب
إذا ما علا المأمون أعواد منبر
فليس له في العالمين ضريب
تصدع عنه الناس وهو حديثهم
تحدث عنه نازح وقريب
شبيه أمير المؤمنين حزامة
إذا وردت يوما عليه خطوب
إذا طاب أصل في عروق مشاجه
فأغصانه من طيبه ستطيب
فقل لأمير المؤمنين الذي به
يقدم عبد الله فهو أديب
كان لم تغب عن بلدة كان واليا
عليها ولا التدبير منك يغيب
تتبع ما يرضيك في كل أمره
فسيرته شخص إليك حبيب
ورثتم بني العباس إرث محمد
فليس لحي في التراث نصيب
فلما وصلت هذه الأبيات إلى الرشيد أمر لأبي محمد بخمسين ألف درهم، ولابنه محمد بن أبي محمد بمثلها. •••
وبعد، فليس من شك في نجابة المأمون وتبريزه، ولعل هذه النجابة الخارقة كانت من الأسباب التي حملت الرشيد على أن يستوثق له الأمر في ولاية العهد من أخيه، ولأخيه منه، فجمعهما في بيت الله الحرام حين حج عام ست وثمانين ومائة، ومعه كبار رجال الدولة وجل الظاهرين من الأسرة المالكة، واستكتب كليهما عهدا بما له وعليه قبل الآخر، وأشهد عليهما جماعة من ذوي المكانة والنفوذ، ثم علق العهدين في الكعبة، ليكونا في مكان الاحترام الديني، وقد أثبتنا لك العهدين في باب المنثور من الكتاب الثالث في مجلدنا الثالث.
نقول: لعل هذه النجابة الخارقة كانت من الأسباب التي حملت الرشيد على أن يفعل ما فعل من استيثاق الأمر بين الأخوين؛ خوفا على المأمون ومنه.
ولسنا ننكر أن من جملة تلك الأسباب ما يصح افتراضه من أن الرشيد كان يقدر قوة حزبي المأمون والأمين، وبعبارة أخرى: حزبي الفرس والعرب، أو العلوية والهاشمية، أو الشيعية والسنية.
ونحن لا نستطيع أن نرجع مظاهر العطف المختلفة، وفي مناسبات كثيرة، من الرشيد على المأمون إلى الأبوة وحدها، فإن للرشيد أولادا غير المأمون وغير الأمين لم ينالوا شيئا من هذه الحظوة العظيمة لديه؛ لذلك نرى - وقد ترى معنا رأينا - أن هذه الحظوة التي ينالها المأمون من الرشيد في مناسبات كثيرة دون إخوته ترجع إلى ما امتاز به المأمون من نجابة خارقة، وميل إلى جد الأمور، وترفع عن سفسافها، وسمو عن دناياها ، واضطلاع بما يكلف القيام به من أعباء ومهام.
ولعل أظهر مظاهر العطف من الرشيد على المأمون ما فعله الرشيد حين وافته منيته ب «طوس»، من وصيته بجميع ما كان معه من جند وسلاح ومال للمأمون دون أن يكون لخليفته من بعده؛ ليشد بذلك من أزر المأمون، ويقوي من جانبه، وأنت جد عالم بما قدمناه لك، من الكلام في العصر الأموي، عن أثر المال، فتقدر معنا ما كان يرومه الرشيد، ولست في حاجة لأن أقول لك: إن أثر المال وسلطانه في نفوذ الكلمة وقوة الشوكة دونه كل أثر وكل سلطان.
ولعلنا لا نعدو الواقع كثيرا حين نذهب إلى القول بأن الرشيد كان يحذر الخلاف بين الأخوين، ويخاف كليهما على الآخر، يخاف الأمين على المأمون؛ لأن الأمين سيصبح الخليفة الذي بيده قوة الدولة من جند ومال، وتصحبه مزاياها من عظم الهيبة ونفوذ الكلمة، وسيكون مطمح آمال الآملين وموضع رجاء الراجين.
ومن شأن كل هذا أن يجعل الناس جميعا أو الأكثرية الساحقة منهم يلتفون حوله رغبة أو رهبة، وجدير بمن كان هذا شأنه أن يخشى ويتقى.
ويخاف المأمون على الأمين؛ لأن ما امتاز به المأمون من نجابة خارقة، وجد وحنكة، وعرفان بشئون الحياة واضطلاع، واعتداد بنفسه يجعل منه خطرا شديدا على الأمين جديرا بأن يخشى ويتقى أيضا، ويظهر أن كل هذا وقر في نفس الرشيد الذي كان معروفا بالحزم وجودة الحدس، وقوة البصر بالعواقب، فأراد أن يتقيه، ورأى أن خير وسيلة لاتقائه، أن يستكتبهما العهدين، كما قدمنا، فيقطع بذلك أسباب الخلاف بين الأخوين، ويحول دون دس الدساسين، وسعاية الساعين، ويفهم أنصار الفريقين ما للبيعة بين الأميرين من حرمة وتوقير.
غير أن تصرفات الأيام، وآثار البطانة، ونتائج السعاية، ومغبات الرياء والنفاق كانت فوق ما كان يقدر الرشيد، فوقع الخلاف بين الأخوين أعنف ما يكون، ولم يكن ما اتخذه الرشيد من وقاية وحيطة ليصد تياره الجارف.
وكان المأمون الشاب حسن التوفيق في اختيار حاشيته ومشيريه، فجمع حوله طائفة من ذوي الدهاء والحنكة، وهؤلاء وإن كانوا من ذوي المطامع والأغراض قد أخلصوا له النصح، وثقفوه التثقيف الذي يكفل له النجاح، فإن تحقيق أطماعهم الواسعة موقوف على نجاحه.
فإخلاصهم له إخلاص في الواقع لأنفسهم أيضا، ولما كانت أم المأمون فارسية فربما جاز لنا أن نقول: لعل لكونها فارسية أثرا في أن يخلص له هؤلاء المشيرون؛ إذ كانوا كلهم من الفرس، وإذ كانت له بهم هذه القرابة.
وهذا يفسر لنا عاطفة من عواطف المأمون، وهي ميله إلى خراسان، وتعصبه بعض التعصب للخراسانيين؛ إذ يحدثنا التاريخ أن رجلا من الشام اعترض طريقه مرارا وقال: «يا أمير المؤمنين، انظر لعرب الشام كما نظرت لعجم خراسان، فقال له: أكثرت علي! والله ما أنزلت قيسا عن ظهور خيولها إلا وأنا أرى أنه لم يبق في بيت مالي درهم واحد، يعني فتنة ابن العامري، وأما اليمن فوالله ما أحببتها ولا أحبتني قط، وأما قضاعة فساداتها تنتظر السفياني حتى تكون من أشياعه، وأما ربيعة فساخطة على ربها مذ بعث الله نبيه من مضر، ولم يخرج اثنان إلا خرج أحدهما شاريا.
3
اعرف! فعل الله بك!»
وإنه ليجوز لنا أن نرجع هذا الميل لا إلى ما ذكره المأمون وحده، بل إلى التربية وأثر البيئة الفارسية في نفسه، وإلى مقابلة حسن الصنيع بمثله، فأم المأمون فارسية، والذين كفلوه وقاموا بتثقيفه فارسيون، والذين أحاطوا به ونصروه فارسيون، ومن هنا نستطيع أن نفهم الرأي الذي يقول به بعض المؤرخين الفرنجة: إن انتصار المأمون على الأمين كان أيضا انتصارا للفرس على العرب، كما كان انتصارا للفرس على العرب انتصار العباسيين على الأمويين، ومن هنا نستطيع أن نعلل أيضا ما ذهب إليه بعض الباحثين من أن المأمون كان شيعيا وهو عباسي؛ لأن البيئة الفارسية التي نشأ فيها كانت إلى حد غير قليل مهد التشيع للعلويين، فيجوز أن تكون قد صبغت المأمون بشيء من ألوانها، وقد كان لذلك آثاره لا في السياسة ونظام الملك فحسب، بل في الآراء والمذاهب مما سنذكره حين نعرض للكلام على الخليفة المأمون.
ولعلنا نكون بما قدمناه لك عن نشأة المأمون وصباه قد رسمنا لك صورة واضحة لهذا الأمير الذي سيكافح كفاحا شديدا في سبيل الملك، والذي كان له أكبر أثر في الحضارة الإسلامية.
أما شتى مواهب المأمون وآراؤه، وما اشتهر به من الحلم والعفو والكرم والبصر بالسياسة، وجودة الحدس، وكفاية البطانة، وشغفه بالعلم والأدب والجدال، وما كان لهذا الشغف من ثورة علمية وفكرية وكلامية في عصره، فسنرجئ الكلام فيها إلى موضعها من كتابنا، وهو الكلام على الخليفة المأمون بعد أن استقر له الأمر في بغداد، وحين نضجت فيه هذه الخلال وآتت كل ما لها من ثمرات.
هوامش
الفصل الثالث
النزاع بين الأمين والمأمون
(1) توطئة
عرفت مما ذكرناه لك في مجمل كلامنا عن الرشيد والأمين، أن الرشيد أعلن ولاية العهد للأمين في سنة 175 هجرية، وسن الأمين فيما قيل وقتئذ خمس سنين، ثم أشرك معه المأمون في ولاية العهد سنة 183 هجرية، ثم استوثق لكليهما من أخيه سنة 186 هجرية، وهو عام حج الرشيد، بأن استكتب كلا منهما عهدا بما عليه وله قبل الآخر، وعلق العهدين بالكعبة، كما قدمنا.
ويؤخذ من نصوص العهدين وما تبودل بعد ذلك من الرسائل بين الأمين والمأمون، مما سنورد لك بعضه لما تضمنته من «الديبلوماطيقية العباسية»؛ وهي: لين في حزم، وتيئيس في تأميل طويل الأجل، ويؤخذ منها أن خراسان ونواحيها إلى الري كانت تحت إمرة المأمون يتصرف في جميع شئونها من سياسية وحربية واقتصادية وقضائية تصرفا تاما، لا تربطه بحاضرة الخلافة إلا رابطة الدعاء للخليفة، وقد صارت إليه إمرة هذه النواحي في عهد الرشيد، وهي من الأمور التي أخذ الأمين بالوفاء بها فيما أخذ به من عهود ومواثيق.
وكان الرشيد قد أشرك في سنة 188 هجرية ولده القاسم مع أخويه في ولاية العهد، وجعل من نصيبه العمل على الشام وقنسرين والعواصم والثغور.
وكانت الأمور جارية مجراها الطبيعي آخر أيام الرشيد، ثم شطرا كبيرا من السنة الأولى من خلافة الأمين، إلا ما كان من أشياء طوى عليها المأمون كشحا دربة منه وسياسة، وحصافة وكياسة، وتريثا وتعقلا، وحزامة وتمهلا .
ولم تنقض السنة الأولى من خلافة الأمين حتى كانت الدسائس قد فعلت فعلها، وحتى كانت المنافسة العنيفة بين البطانتين قد بلغت غايتها، وأخذ كل من الأخوين يحذر أخاه ويتقيه، وامتلأت الصدور حفائظ وإحنا، ولم يبق إلا أن تلمس فتنفجر. وسنفصل لك كل ذلك تفصيلا. (2) بيعة الأمين وخلافته
لما خرج رافع
1
بن الليث بن نصر بن سيار بخراسان، وكثف أنصاره، وقويت شكوته، وعظم خطره، رأى الرشيد أن يخرج إليه بنفسه لمحاربته، وتسكين حبل الأمن الذي اضطرب في تلك النواحي، فأصابه من مشاق السفر وتغير الطقس وشدة التفكير ما أعل صحته، وبدا له من ظروف الأحوال ما حمله على تجديد البيعة للمأمون الذي كان بمرو، وأوصى بأن يصير ما معه من قواد وجند وسلاح ومال إلى جانبه، وأخذ المواثيق على من معه بأن يوفوا بهذه الوصية.
ثم أخذت تشتد به العلة حتى وافته منيته بطوس سنة 193 هجرية، وبويع للأمين بالخلافة في عسكر الرشيد، ووصله نعي الرشيد في بغداد يوم الأربعاء لأربع عشرة ليلة خلت من جمادى الآخرة، وقيل: ليلة النصف من هذا الشهر، فكتم الخبر بقية يومه وليلته، ثم أظهره يوم الجمعة.
ويحدثنا التاريخ أن الأمين لما بلغه اشتداد المرض على الرشيد وتوقع وفاته بعث بكر بن المعتمر رسولا إلى مقر الخليفة ليوافيه بالأخبار كل يوم، وكتب معه كتبا، وجعلها في قوائم صناديق منقورة ألبسها جلد البقر ليخفي أمرها، وكلفه ألا يظهر أحدا على شيء من أمره وما توجه فيه ولو قتل، حتى إذا نفذ أمر الله في الرشيد دفع إلى كل من له كتاب كتابه.
فلما وصل رسول الأمين راب الرشيد قدومه، فسأله عما جاء له، فلما لم يجد في جوابه ما يزيل ريبه أمر بتفتيشه وحبسه. ولعلك تصيب لباب الصواب أو لا تعدوه كثيرا إذا افترضت أن هذا الريب الذي خامره من رسول الأمين كان من العوامل التي حملته على تجديد البيعة للمأمون، وأن يوصي له بما معه من جند وسلاح ومال.
لبث رسول الأمين في الحبس أشهرا؛ إذ تاريخ الكتب التي يحملها إلى من أرسلت إليهم شوال سنة 192ه، ووفاة الرشيد كانت في جمادى الآخرة سنة 193ه، ثم بدا للرشيد أن يحمل بكرا على الإقرار، فكلف الفضل بن الربيع ذلك، وأن يهدده بالموت إذا لم يقر. وقد حالت وفاة الرشيد في ذلك اليوم دون تمام هذا الإقرار، ثم لما وثق الرسول من وفاة الرشيد دفع إلى كل كتابه.
وقد أثبتنا لك من هذه الكتب كتابه إلى أخيه المأمون وكتابه إلى أخيه صالح، في موضعهما من المجلد الثالث من هذا الكتاب؛ لما لهما من خطر في موضوع النزاع، فإنهما يدلان على أن الأمين لم يكن لينكث ما عقد من عهود ومواثيق، وإنما بطانة السوء هي التي زينت له أن يفعل ما فعل، فراجعهما ثمة، وتأمل طويلا فيما لبطانات السوء من وخيم العواقب بين الأشقاء والزعماء والأمراء، وما تجره على البلاد من انتثار العقد وتشتيت الشمل، وتشعث الألفة، وفرقة الجماعة، وسريان الفتن، وذيوع الفوضى، وانتشار الاضطرابات، واندلاع نيران الثورات، ومن ترجيح كفة الأشرار على الأبرار، إلى غير ذلك من شتى النتائج السيئة والعواقب المهلكة التي سنحدثك عنها، وستراها واضحة جلية في كلمتنا الآتية. (3) مبدأ النزاع وكيف تقلب ونتيجته
قد تطلب إلي، وفقك الله، أن تقف على ما كان لتلك الكتب من أثر في نفوس من أرسلت إليهم، وإني شاف غلتك، مجيبك إلى سؤلك، محيلك إلى الطبري في هذا الصدد إذ يقول:
لما قرأ الذين وردت عليهم كتب محمد ب «طوس» من القواد والجند وأولاد هارون، تشاوروا في اللحاق بمحمد، فقال الفضل بن الرييع: لا أدع ملكا حاضرا لآخر لا يدري ما يكون من أمره. وأمر الناس بالرحيل ففعلوا ذلك؛ محبة منهم للحوق بأهلهم ومنازلهم ببغداد، وتركوا العهود التي كانت أخذت عليهم للمأمون.
أما المأمون، بعد أن انتهى إليه بمرو خبر نكث القوم للعهود التي أخذت عليهم وفرارهم إلى بغداد بما كان الرشيد أوصى بأن يكون له من جند ومال وسلاح، فقد اجتمعت كلمة الرواة على حسن تيقظه وسرعة مبادرته لشتى أموره، وأنه شد لها حيازيمه، وحسر لها عن ساقه. ويحدثنا التاريخ أنه قد جمع من معه من قواد أبيه وأخبرهم الخبر وشاورهم في الأمر، فأشاروا عليه أن يلحق القوم في ألفي فارس ويحول بينهم وبين ما أرادوا.
ولكن المأمون عمل بمشورة الفضل بن سهل الذي كان يثق به وبكفايته، ويؤمن بكياسته وحسن سياسته، ويقتنع بثقوب بصره وصدق نظره، فقد قال له الفضل: إن فعلت ما أشاروا به عليك جعلت هؤلاء هدية إلى محمد، ولكن الرأي أن تكتب إليهم كتابا، وتوجه إليهم فتذكرهم البيعة وتسألهم الوفاء، وتحذرهم الحنث وما يلزمهم في ذلك في الدنيا والدين، وإن كتابك ورسلك تقوم مقامك فتستبرئ ما عند القوم، وتوجه سهل بن صاعد، وكان على قهرمته، فإنه يأملك ويرجو أن ينال أمله، فلم يألوك نصحا، وتوجه معه نوفلا الخادم مولى موسى أمير المؤمنين، وكان عاقلا، فلم ير المأمون وهو الحاذق الفطن ندحة دون صدوره عن رأي ابن سهل، فكتب كتابا ووجه من أشار بهما الفضل إلى القوم، فلحقاهم بنيسابور، فقال الفضل بن الربيع لما وصله كتاب المأمون معتذرا متعللا: «إنما أنا واحد منهم!» وقد نال بعضهم من المأمون وأغلظ لرسوليه، ثم رجع الرسولان بالخبر.
وكان ممكنا بعد أن طوى المأمون كشحا على ما وقع من القوم من نكث للعهود، واغتصاب لما أوصى به الرشيد له من جند ومال وسلاح، وبعد أن أخذ يهدي إلى أخيه خير ما وصلت إليه يمناه من تحف خراسان ونفائسها، أن تسير الأمور في مجراها الطبيعي، وأن يستقر الأمر بين الأخوين على ما أراد الرشيد، لولا أن بطانة الأمين أوغرت صدره على أخيه، ولولا أن بطانة المأمون حفزته إلى مقابلة العدوان بمثله، وأفعمت قلبه ثقة بالغلبة والظفر، وإيمانا بالفوز والنجح.
وإن كلمة الفضل بن الربيع «لا أدع ملكا حاضرا لآخر لا يدري ما يكون من أمره» فيها الغنية والكفاية في تفهيمنا الأساس الذي بنيت عليه تصرفاته بين الأخوين، فهو ينظر لمصلحة من بيده الملك اليوم، لا يحفل ببيعة ولا عهد، ولا يكترث لوحدة قومية، ولا يحفل بإحلال الوفاق بين العباد، ولا يعمل على مصافاة ولا وداد، وإنما همه الملك الحاضر، والإمعان في إرضاء الملك الحاضر.
كذلك كانت حال الفضل بن سهل في موقفه مع عبد الله المأمون، ومهما كانت صورة المأمون التي صورها لنا التاريخ بأنه المغلوب على أمره في النزاع الذي نشب بين الأخوين، وأن الأمين هو الناكث الغادر، ومهما كانت القلوب الإنسانية تحنو على المظلوم، وتعطف على المغلوب، مهما كان كل ذلك، مما يجعلنا نستسيغ تصرفات الفضل بن سهل مع المأمون، بل مما يدفعنا إلى الافتنان بها، وعزو الحصافة والأصالة والكياسة إلى صاحبها، وأن ليس هناك من هو أنهد منه في مثل مواقفه ولا أجزى، ولا أحكم من تدبيراته ولا أوفى، ولا أرهف غرارا من عزماته ولا أمضى، ولا أقدر منه في خططه ولا أغنى، بيد أنا مع ذلك إذا جردنا النفس الإنسانية من بعض صفاتها ونظرنا «ببرود» - على حد التعبير الإنجليزي - وبحيدة ونصفة منه وله، فإنا نقرر من غير أن نعدو الحق والواقع، أن الفضل بن سهل لعب مع المأمون ذلك الدور الخطير بذاته الذي لعبه الفضل بن الربيع مع الأمين، وأن كلا قد توكأ على أميره لغايته، واستغله في سبيل نجح سياسته، ودفع به إلى حيث يريد.
انظر إليه وقد عادت وفود المأمون من مقابلة الفضل بن الربيع ومن لحق به من جند وسلاح؛ تره يصارح المأمون عنهم بقوله: أعداء قد استرحت منهم، ولكن افهم عني ما أقول لك: إن هذه الدولة لم تكن قط أعز منها أيام أبي جعفر، فخرج عليه «المقنع» وهو يدعى الربوبية، وقال بعضهم: طلب بدم أبي مسلم، فتضعضع المعسكر بخروجه بخراسان، فكفى الله المؤنة، ثم خرج بعده يوسف البرم، وهو عند بعض المسلمين كافر، فكفى الله المؤنة، ثم خرج أستاذ سيس يدعو إلى الكفر، فسار المهدي من الري إلى نيسابور، فكفى الله المؤنة .
ولكن ما أصنع أكبر عليك، أخبرني كيف رأيت الناس حين ورد عليهم خبر رافع؟ قال المأمون: «رأيتهم اضطربوا اضطرابا شديدا»، فقال له الفضل : وكيف وأنت نازل في أخوالك وبيعتك في أعناقهم، كيف يكون اضطراب أهل بغداد؟ اصبر وأنا أضمن الخلافة، قال المأمون: «قد فعلت وجعلت الأمر إليك فقم به».
على أنه إذا صدق الرواة فيما يروونه لنا من أن الفضل بن سهل قال للمأمون في حديثه معه: «لأصدقنك أن عبد الله بن مالك ويحيى بن معاذ ومن سمينا من أمراء الرؤساء إن قاموا لك بالأمر كان أنفع مني لك برياستهم المشهورة، ولما عندهم من القوة على الحرب، فمن قام بالأمر كنت خادما له حتى تصير إلي محبتك، وترى رأيك في»، وصدقوا في أن الفضل بن سهل لقي هؤلاء الزعماء في منازلهم، وذكر لهم البيعة التي في أعناقهم، وما يجب عليهم من الوفاء، وأن الخيبة كانت نصيب دعوته لهم وتذكيره إياهم، وأنها مع ذلك لم تصدفه عن قصده الذي نهد إليه، ولم تحل بينه وبين مضيه قدما في سبيل غايته التي تأدى بها بأداته، وتذرع لها بذرائعه، وأخذ لها عدته، وأرهف لها عزمته، وأنه قال للمأمون: «لقد قرأت القرآن وسمعت الأحاديث وتفقهت في الدين، فالرأي أن تبعث إلى من بالحضرة من الفقهاء فتدعوهم إلى الحق والعمل به، وإحياء السنة، ونقعد على اللبود وترد المظالم»، وصدقوا حقا في أن المأمون والفضل فعلا ذلك، وأنهما بعثا إلى الفقهاء وأكرما القواد والملوك وأبناء الملوك، وصدقوا في أن الفضل كان يقول للتميمي: نقيمك مقام موسى بن كعب، وللربعي مقام أبي داود خالد بن إبراهيم، ولليماني مقام قحطبة ومالك بن الهيثم، وصدقوا في أنهما كانا يدعوان كل قبيلة إلى نقباء ورؤساء الدولة كاستمالتهم الرءوس، وصدقوا في أن المأمون والفضل قد حطا عن خراسان ربع الخراج حتى حسن موقع ذلك من الخراسانيين وسروا به وقالوا: «ابن أختنا وابن عم نبينا
صلى الله عليه وسلم »، وصدقوا في أن المأمون تواترت كتبه إلى أخيه محمد الأمين بالتعظيم والهدايا إليه من طرف خراسان، من المتاع والآنية والمسك والدواب والسلاح، حتى أوائل سنة أربع وتسعين ومائة التي عزل فيها الأمين أخاه القاسم عما كان أبوه ولاه من عمل قنسرين والشام والعواصم والثغور، وولى مكانه خزيمة بن خازم، والتي أمر فيها بالدعاء لابنه موسى على المنابر بالإمرة، وحتى مكر كل واحد منهما بصاحبه وظهر بينهما الفساد - إذا صدق الرواة في كل ذلك - فإنا نرى من النصفة العلمية والتاريخية أن نقرر حينئذ أن الفضل بن سهل كان دهيا حقا، وممعنا في الديبلوماتيقية، وكان موقفه لا يقل عن موقف «وارن هاستنج» و«كليف» في الهند، وغيرهما من جهابذة السياسة وأقطاب الدهاء، وربما كانت مكانته أسمى منهما وأرفع وأخلق بمقارنتها بمن يشار إليه بالبنان من ساسة هذا الزمان.
ولننظر معا - وهبنا الله وإياك الجلد والأناة، ووفقنا إلى ما نرومه من تمحيص وتحقيق، وتفهم وتدقيق - في حوادث سنة أربع وتسعين ومائة؛ لنكون ملمين بتحول النزاع الذي شجر بين الأخوين، ولنؤمن الإيمان كله أن البطانة قد لعبت دورا شنيعا في إشعال جذوة الحقد والسخيمة بينهما، وعملت على إضرام أوارها، وسعت جهدها في توسيع مسافة الخلف بين الأخوين حتى كان ما كان، نجد أن الفضل بن الربيع، فيما يرويه لنا المؤرخون، سعى بعد مقدمه العراق على محمد منصرفا عن «طوس» وناكثا للعهود التي كان الرشيد أخذها عليه لابنه عبد الله، وعلم أن الخلافة إن أفضت إلى المأمون يوما وهو حي لم يبق عليه، وكان يترقب في ظفره به عطبه - سعى جهده في إغراء محمد به، وأعمل قريحته في حثه على خلعه، وزين له، بما في مقدوره، أن يصرف ولاية العهد من بعده إلى ابنه موسى، ولم يكن ذلك في رأي محمد ولا عزمه، بل كان عزمه، فيما ذكر الرواة عنه الوفاء لأخويه عبد الله والقاسم بما كان أخذ عليه لهما والده من العهود والشروط، فلم يزل به الفضل بن الربيع يصغر في عينيه شأن المأمون، ويزين له خلعه، حتى قال له: «ما تنتظر يا أمير المؤمنين بعبد الله والقاسم أخويك، فإن البيعة لك كانت متقدمة قبلهما، وإنما أدخلا فيها بعدك واحدا بعد واحد!»
قال ذلك ابن الربيع وضم إلى رأيه معه علي بن عيسى بن ماهان والسندي وغيرهما ممن بحضرته.
ومن المعقول أن تفترض أن الفضل مضى في الإيقاع على هذه النغمة ثنيا بعد ثني، ومرة إثر أخرى، وقدح في ذلك قريحته، واستخدم شتى وسائل أمثاله ونظرائه حتى أزال محمدا عن رأيه، وقد ذكر المؤرخون أن أول ما بدأ به محمد عن رأي الفضل بن الربيع فيما دبر من ذلك، أن كتب إلى جميع العمال في الأمصار كلها بالدعاء لابنه موسى بالإمرة بعد الدعاء له، وللمأمون والقاسم بن الرشيد.
والآن، بعد أن وقفت على تصرف محمد وجماعة محمد مع المأمون وجماعة المأمون، لك أن تستنبط ما يفعله الفريق الآخر إجابة على تصرف الفريق الأول، ولك أن تنتظر من المأمون أن يدبر أمره تدبير من يرى أن أخاه يدبر عليه خلعه، ولك أن تنتظر مثل ذلك من جماعة المأمون وأنصاره.
وهكذا تنبئنا حوادث السنة نفسها؛ إذ ينبئنا الطبري أن فيها قطع المأمون البريد عن محمد، وفيها أسقط اسمه من الطرز، وفيها لحق رافع بن الليث بالمأمون، وهو من سلالة نصر بن سيار لما انتهى إليه من الخبر عن المأمون، وحسن سيرته في أهل عمله، وإحسانه إليهم، فيما يرويه المؤرخون، أو سعي المأمون ورجالات المأمون كهرثمة وطاهر في إصلاح ما بينه وبين المأمون، وطلب الأمان له؛ ليكون عدة وظهيرا للحزب المأموني، كما نستسيغه نحن ونستخلصه، وفيها ولى المأمون هرثمة رياسة الحرس، ولهرثمة مكانته وشهرته، وله سيرته ونجدته، ولرافع بيته وأنصاره، وكتائبه وفرسانه، كما أن لطاهر بن الحسين حزمه وشجاعته وفروسته ومرانه، ولابن سهل بلا ريب حذقه في تصرفاته التي بمثلها ترد الأهواء الشاردة، وتستصرف الأبصار الطامحة، وعلى رأسهم أو إلى جانبهم إن شئت المأمون، وقد تسربل بالثوب الذي نصح إليه بلبسه، فأضحى محمود الشيم، مرضي الخلال، وهو باستعداده ونزعته ذلك الرجل السياسي المعتدل المزاج، الهادئ الأعصاب، السديد التصرف، السمح الأخلاق ، اللين العريكة، الكريم المهزة، مع أناة وجلد وعزم وحزم ونفاذ ومضاء.
ومن المعقول أيضا أن ينكر الأمين ذلك من ناحيته أيضا، والمعقول أن يبدأ بالتدبير على المأمون ليصدف عنه قلوب رجاله، وأن تتسلسل الحلقات وتستطرد الإجراءات المحتومة الوقوع في مثل هذه الحالات.
وربما كنا على حق إذا قلنا: إن النزاع أضحى بين الفضلين؛ ابن سهل وابن الربيع، وانقلب عنيفا أعظم العنف، فقد كان بين كفايتين لا يعرفان الونية والتضجيع،
2
ولهما من الحصافة وثقوب البصيرة، ومن سعة الحيلة وفدح الختل، ومن وفرة الحنكة وغناء الاختبار، ومن مضاء العزيمة وثروة الذهن، لهما من ذلك كله وما إلى ذلك من شتى الصفات السياسية ما لا قبل لأحدهما به من صاحبه، فلكل من صاحبه بواء ونديد، ومنازل عنيد، وكمي صنديد.
انظر إلى الأمين قد كتب إلى العباس بن عبد الله بن مالك، وهو عامل المأمون على الري، وأمره بأن يبعث إليه بغرائب غروس الري، فبعث إليه المسكين بما أمره به، غير عالم أن للمأمون ورجاله عيونا وأرصادا، ولهم قبل ذلك يقظتهم التي لا تني ولا تغفل، فماذا كان من المأمون؟
بلغ المأمون ما كان من عامله الساذج المسكين فعزله، ووجه مكانه الحسن بن علي المأموني، وأردفه بالرسغي على البريد، وهكذا حاولت الديبلوماتيقية «الربيعية» أن تصرف قلب عامل كبير عن أمر المأمون والقضية المأمونية؛ نكاية بالديبلوماتيقية «السهلية» التي اكتسبت رافعا وضمت إلى حزبها بيت ابن سيار، وناهيك ببيت ابن سيار!
ولنتطرق الآن إلى التكلم عن الحرب الكلامية التي نشبت بين الأخوين، والتي كانت بلا ريب مقدمة لوقوع الحرب العامة، وبعبارة أدق: لنتكلم عن الوفود السياسية محاولين على قدر استطاعتنا، واستنادا إلى ما بين أيدينا من مصادر ووثائق وصف الكفايات السياسية في ذلك العصر الغني حقا برجالاته ودهاته. (4) الوفود السياسية
لنتساءل أولا: ماذا حدث في السنة التي نحن في صددها، وهي سنة أربع وتسعين ومائة؟ فإنها مليئة - والحق يقال - بمنتجات هاتين العقليتين العاتيتين حقا، الجبارتين بلا مبالغة ولا إغراق، ونعني بهما عقليتي الفضل بن الربيع والفضل بن سهل.
حدث أن وجه الأمين وفدا سياسيا إلى المأمون قوامه العباس بن موسى، وصالح صاحب المصلى، ومحمد بن عيسى بن نهيك، وطلبوا إليه تقديم موسى بن الأمين الذي سماه «الناطق بالحق» على نفسه، وقد يكون من الطريف الممتع حقا أن نوضح ما كان من أمر هذا الوفد، وهل وفق الحزب المأموني فيما حاول من الأخذ بقلوب رجاله، أو بعضهم على الأقل؟ فإن في توضيحنا لذلك ما يمدنا بصورة لا بأس في جملتها، من صور الديبلوماتيقية في ذلك العصر، وإن في تفهمنا هذه الصورة ووقوفنا عليها نفعا عظيما يعيننا، بلا ريب، على تفهم العصر وروح سياسته.
يحدثنا التاريخ أن العباس بن موسى، أحد رجال الوفد الأميني، قال للمأمون: «وما عليك أيها الأمير من ذلك، أي من تقديم موسى عليه، فهذا جدي عيسى بن موسى قد خلع، فما ضره ذلك؟!» ويحدثتا أيضا بأن الفضل بن سهل كان موجودا، كما هو المنتظر، في ذلك المؤتمر السياسي، وأنه لما سمع كلمة العباس هذه صاح به: «أسكت فجدك كان في أيديهم أسيرا، وهذا بين أخواله وشيعته!»
أتعرف ماذا كان من أمر الوفد؟
إنه قد انصرف، ولكن لا إلى الأمين، بل إلى منازل خصصها لهم المأمون، حيث أفرد لكل واحد من أعضاء الوفد منزلا، وأكرمهم مثل ذلك النوع من الإكرام السياسي الذي تتلقى به الحكومات الحاضرة الوفود السياسية، فتأمل.
ثم لننظر معا، معتصمين بالأناة والصبر قليلا، في تصرف الفريق الآخر في السنة عينها، فنرى أن الوفد قد عاد إلى الأمين وأخبره بامتناع المأمون، فألح عليه الفضل به الربيع وعلي بن ماهان في البيعة لابنه موسى «الناطق بالحق»، وخلع المأمون، فأجاب الأمين إلى ذلك، وأحضن ابنه علي بن موسى الذي ولاه العراق، وتسارع بعض ولاة الأمين في انتهاز الفرصة للتقرب منه، والتحبب إليه بالمبادرة بأخذ البيعة له قبلهم، وقد كان أول من فعل ذلك بشر بن السعيد الأزدي وصاحب مكة وصاحب المدينة.
لم يكتف الفضل بهذا ولا بالكثير من أمثاله مما ينتظر من مثله في مثل تلك الظروف، من نهيه عن ذكر عبد الله المأمون والقاسم بن الرشيد، وحظر الدعاء لهما على شيء من المنابر، بل دس من ذكر المأمون بسوء، وحط من قدره، ولصق به أقبح النقائص والمثالب، ووصمه بأشنع الوصمات والمعايب.
ولم يكتب الفضل بهذا، بل وجه إلى مكة كتابا مع محمد بن عبد الله، أحد سدنة البيت الحرام، فأتاه بالكتابين اللذين كان الرشيد كتبهما لعبد الله المأمون على محمد الأمين، وكان حظهما من الأمين لما صارا إليه حظ غيرهما من العهود في ذلك العصر، و«المعاهدات» و«قصاصات الورق» في عصرنا الحاضر، فمزقهما وأبطلهما، وأجاز سارقهما.
ثم تعال معي لننظر معا نظرة إنعام وترو في مشاورة المأمون لشيعته، حينما حزبه الأمر، وضاق به السبيل، فهي لعمرك آية في الحكمة والمهارة السياسية.
يقول الطبري: «كان محمد، فيما ذكر، كتب إلى المأمون، قبل مكاشفة المأمون إياه بالخلاف عليه، يسأله أن يتجافى له عن كور من كور خراسان سماها، وأن يوجه العمال إليها من قبل محمد، وأن يحتمل توجيه رجل من قبله يوليه البريد عليه ليكتب إليه بخبره، فلما ورد إلى المأمون الكتاب بذلك كبر ذلك عليه واشتد، فبعث إلى الفضل بن سهل وإلى أخيه الحسن فشاورهما في ذلك، فقال الفضل: «الأمر خطير، ولك من شيعتك وأهل بيتك بطانة، ولهم تأنيس بالمشاورة، وفي قطع الأمل دونهم وحشة، وظهور قلة ثقة، فرأي الأمير في ذلك»، وقال الحسن: كان يقال: «شاور في طلب الرأي من تثق بنصيحته، وتألف العدو فيما لا اكتتام له بمشاروته.»
فأحضر المأمون الخاصة من الرؤساء والأعلام، وقرأ عليهم الكتاب، فقالوا جميعا له: «أيها الأمير، تشاور في مخطر، فاجعل لبديهتنا حظا من الروية»، فقال المأمون: ذلك هو الحزم، وأجلهم ثلاثا، فلما اجتمعوا بعد ذلك قال أحدهم: «أيها الأمير، قد حملت على كرهين، ولست أرى خطأ مدافعة بمكروه أولهما مخافة مكروه آخرهما»، وقال آخر: «كان يقال، أيها الأمير أسعدك الله: إذا كان الأمر مخطرا فإعطاؤك من نازعك طرفا من بغيته أمثل من أن تصير بالمنع إلى مكاشفته»، وقال آخر: «إنه كان يقال: إذا كان علم الأمور مغيبا عنك، فخذ ما أمكنك من هدية يومك؛ فإنك لا تأمن أن يكون فساد يومك راجعا بفساد غدك»، وقال آخر: «لئن خفت للبذل عاقبة، إن أشد منها لما يبعث ألا تأمن الفرقة»، وقال آخر: «لا أرى مفارقة منزلة سلامة، فلعلي أعطى معها العافية»، فقال الحسن: فقد وجب حقكم باجتهادكم، وإن كنت من الرأي على مخالفتكم، قال المأمون: فناظرهم! قال: لذلك ما كان الاجتماع! وأقبل الحسن عليهم فقال: هل تعلمون أن محمدا تجاوز إلى طلب شيء ليس له بحق؟ قالوا: نعم، ويحتمل ذلك لما نخاف من ضرر منعه، قال: تثقون بكفه بعد إعطائه إياها فلا يتجاوز الطلب إلى غيرها؟
قالوا: لا، ولعل سلامة تقع من دون ما نخاف ونتوقع، قال: فإن تجاوز بعدها بالمسألة، أفما ترونه قد توهن بما بذل منها في نفسه؟ قالوا: ندفع ما يعرض له في عاقبته بمدافعة ما تنجزون في عاجله، قال: فهذا خلاف ما سمعناه من قول الحكماء قبلنا؛ قالوا: استصلح عاقبة أمرك باحتمال ما عرض من كره يومك، ولا تلتمس هدية يومك بإخطار أدخلته على نفسك في غدك، قال المأمون للفضل: ما تقول فيما اختلفوا فيه؟ قال: «أيها الأمير، أسعدك الله، هل يؤمن محمد أن يكون طالبك بفضل قوتك ليستظهر بها عليك غدا على مخالفتك؟ وهل يصير الحازم إلى فضلة من عاجل الدعة بخطر يتعرض له في عاقبته؟ بل إنما أشار الحكماء بحمل ثقل فيما يرجون به صلاح عواقب أمورهم»، فقال المأمون: «بل بإيثار العاجلة صار من صار إلى فساد العاقبة في أمر دنيا وآخرة»، قال القوم: قد قلنا بمبلغ الرأي، والله يؤيد الأمير بالتوفيق، فقال: اكتب يا فضل إليه، فكتب».
ويستطرد الطبري بعد ذلك في القول بأن المأمون أملى على الفضل هذا الكتاب ليبعث به إلى أخيه، وهو: «قد بلغني كتاب أمير المؤمنين يسأل التجافي عن مواضع سماها، مما أثبته الرشيد في العقد، وجعل أمره إلي، وما أمر رآه أمير المؤمنين أحد يجاوز أكثره ، غير أن الذي جعل إلي الطرف الذي أنابه لا ظنين في النظر لعامته، ولا جاهل بما أسند إلي من أمره ولو لم يكن ذلك مثبتا بالعهود والمواثيق المأخوذة، ثم كنت على الحال التي أنا عليها من إشراف عدو مخوف الشوكة، وعامة لا تتألف عن هضمها، وأجناد لا يستتبع طاعتها إلا بالأموال، وطرف من الإفضال، لكان في نظر أمير المؤمنين لعامته، وما يحب من لم أطرافه ما يوجب عليه أن يقسم له كثيرا من عنايته، وأن يستصلحه ببذل كثير من ماله، فكيف بمسألة ما أوجبه الحق، ووكدته مأخوذه العهد؟ وإني لأعلم أن أمير المؤمنين لو علم من الحال ما علمت لم يطلع ما كتب بمسألته إلي، ثم أنا على ثقة من القبول بعد البيان إن شاء الله».
ألا يجدر بنا - وقد اطلعنا على تلك المشاورة السياسية التي يجوز لك أن تقول عنها، بالنسبة لوقتها وجيلها، وموضوعات وقتها وجيلها: إنها لا تقل في دقتها وحذقها وقوة مناحيها عما يجري حول المائدة الخضراء بين ساسة اليوم - أن نقول: إن المأمون قد حصن بساسة عتاة ومشيرين دهاة.
ثم انظر إلى مبالغة المأمون في حذره، أو مبالغة حزبه في الحيطة والحذر، فقد أثبت المؤرخون أنهم قد وجهوا حراسا من قبلهم على الحدود حتى لا يتركوا للأمين أو لرجاله فرصة الاتصال برعية المأمون، وبالغوا أيما مبالغة في تدبيرهم حتى جاء كما يقول الرواة: «تدبيرا مؤيدا، وعقدا مستحصدا متأكدا، فضمنوا بذلك ألا تحمل رعيتهم على منوال خلاف أو مفارقة».
وهنا لا نرى مندوحة من إثبات ذلك المجهود العظيم الذي بذله الفضل بن الربيع أو الأمين، كيفما شئت التعبير، في استمالة القلوب النافرة من الجماعة المأمونية، فقد كان، والحق يقال، طلق اليدين، ندي الكفين، كثيرة جدواه، وافرة حذياه، عظيمة عطاياه، ولم يأل جهدا في إرسال دعاته وأنصاره لبث الدعوة الأمينية في العامة، وإظهارهم على رجحانها وحقها وعدلها، وإظهار الحجة المفارقة، والدعاء لأهل القوة إلى المخالفة. وكان هؤلاء الدعاة يبذلون المال، ويضمنون للأنصار معظم الولايات والقطائع، وصفوة القول أن تصرف الأمين وجماعته من هذه الناحية كان قريب الشبه بتصرف المأمون وجماعته.
ولكن هؤلاء الدعاة وجدوا جميع ذلك ممنوعا محسوما، حتى صاروا إلى باب المأمون، وهنا يجب أن نقول: إن الحرب الكلامية قد بدأت تشتد بين الأخوين، والحرب الكلامية، أيدك الله، هي ميزة هامة من ميزات العصر العباسي، وقد صدق «كشاجم» في قوله مشيرا إلى عداوة أصحاب الأقلام في تلك الدولة ومهادنة أصحاب السيوف:
هنيئا لأصحاب السيوف بطالة
تقضى بها أوقاتهم في التنعم
فكم فيهم من وادع العيش لم يهج
لحرب ولم ينهد لقرن مصمم
يروح ويغدو عاقدا في نجاده
حساما سليم الحد لم يتثلم
ولكن ذوو الأقلام في كل ساعة
سيوفهم ليست تجف من الدم
وإن المطلع على تاريخ العصر، المستقصي لدقائقه وجلائله، الواقف على أسراره وخفياته، وآدابه ومشاوراته، ليوافق أولئك الذين يذهبون في القول بأن قوام السياسة في هذه الدولة كان على التحيل والمخادعة أكثر مما كان على القوة والشدة.
لننتقل الآن إلى ذكر الكتاب الذي بعث به الأمين إلى أخيه مع رسله الذين بعثهم للدعوة وإثارة رجالات المأمون قبل كل اعتبار، فهاكه: «أما بعد، فإن أمير المؤمنين الرشيد وإن كان أفردك بالطرف، وضم ما ضم إليك من كور الجبل تأييدا لأمرك، وتحصينا لطرفك، فإن ذلك لا يوجب لك فضلة المال عن كفايتك، وقد كان هذا الطرف وخراجه كافيا لحدثه، ثم يتجاوز بعد الكفاية إلى ما يفضل من رده، وقد ضم لك إلى الطرف كورا من أمهات كور الأموال لا حاجة لك فيها، فالحق فيها أن تكون مردودة في أهلها ومواضع حقها، فكتبت إليك أسألك رد تلك الكور إلى ما كانت عليه من حالها؛ لتكون فضول ردها مصروفة إلى مواضعها، وأن تأذن لقائم بالخبر يكون بحضرتك يؤدي إلينا علم ما نعنى به من خبر طرفك، فكتبت تلط دون ذلك بما إن تم أمرك عليه صيرنا الحق إلى مطالبتك، فانثن عن همك أنثن عن مطالبتك، إن شاء الله».
ورد الكتاب على المأمون، وقرأه المأمون وجماعته، فسرعان ما رد المأمون وحزبه عليه بهذا الكتاب: «أما بعد، فقد بلغني كتاب أمير المؤمنين، ولم يكتب فيما جهل فأكشف له عن وجهه، ولم يسأل ما لا يوجبه حق فيلزمني الحجة بترك إجابته، وإنما يتجاوز المناظران منزلة النصفة ما ضاقت النصفة عن أهلها، فمتى تجاوزها متجاوز، وهي موجودة الوسع، لم يكن تجاوزها إلا عن نقضها واحتمال ما في تركها، فلا تبعثني يا ابن أبي على مخالفتك وأنا مذعن بطاعتك، ولا على قطيعتك وأنا على إيثار ما تحب من صلتك، وارض بما حكم به الحق في أمرك أكن بالمكان الذي أنزلني به الحق فيما بيني وبينك، والسلام».
ثم انظر إلى نعومة المأمون السياسية - ونثق أنها ستروقك كثيرا، وأنك ستشهد بعلو كعب صاحبها في الفنون السياسية - فإن التاريخ يحدثنا أنه أحضر رسل أخيه وقال لهم: «إن أمير المؤمنين كتبت إليه في أمر كتب إلي جوابه، فأبلغوه الكتاب، وأعلموه أني لا أزال على طاعته، حتى يضطرني بترك الحق الواجب إلى مخالفته»، فأراد أعضاء الوفد الأميني أن يذهبوا في أفانين القول، وأرادوا المحاجة والمدافعة، وأرادوا المفاوضة والمناقشة، ولكن المأمون السياسي المتيقظ جبار العقل قطع عليهم سبيل القول وسبيل التفكير؛ إذ جابههم بقوله: «قفوا أنفسكم حيث وقفنا بالقول بكم! وأحسنوا تأدية ما سمعتم، فقد أبلغتمونا من كتابنا ما لا عسى أن تقولوه لنا».
انصرف أعضاء الوفد ولم يستطيعوا أن يثبتوا لأنفسهم حجة قبل المأمون، ولم يوفقوا إلى حمل خبر يؤدونه إلى صاحبهم، ورأوا من المأمون وجماعة المأمون كما يقول الطبري: «جدا غير مشوب بهزل في منع ما لهم من حقهم الواقع بزعمهم».
وصل الخبر إلى الأمين فأرغى وأزبد، واستمرت الحرب الكلامية على حدتها بين الأخوين بشأن المال الذي تركه الرشيد وبشأن غير المال، مما يصح الاطلاع عليه، وعلى ما رواه سهل بن هارون وأضرابه وصفا لذلك في مظانه.
على أنه يجدر بنا هنا أن نشير إلى ما كان من نصيحة قدمها للأمين أحد رجالات عصره المشهود لهم بالحزم ونضوج الرأي، وهو يحيى بن سليم، حينما عزم على خلع أخيه ، لعلاقتها بما نحن في سبيل القول فيه من ناحية، ولأنها تساعدنا فوق ذلك على تفهم «الدبلوماتيقية العباسية» في ذلك العصر من ناحية أخرى ، وأخيرا لأنها تبين لنا فرق ما بين الأمين والمأمون في تقدير المشورة والأخذ بالنصيحة.
قال يحيى بن سليم للأمين حين مشاورته له في خلع المأمون: «يا أمير المؤمنين، كيف بذلك لك مع ما قد وكد الرشيد من بيعته، وتوثق بها من عهده، والأخذ للأيمان والشرائط في الكتاب الذي كتبه؟» فقال له محمد: «إن رأي الرشيد كان فلتة شبهها عليه جعفر بن يحيى بسحره، واستماله برقاه وعقده، فغرس لنا غرسا مكروها لا ينفعنا ما نحن فيه معه إلا بقطعه، ولا تستقيم لنا الأمور إلا باجتثاثه والراحة منه» فقال: «أما إذا كان رأي أمير المؤمنين خلعه فلا تجاهره مجاهرة، فيستنكرها الناس ويستشنعها العامة، ولكن تستدعي الجند بعد الجند، والقائد بعد القائد، وتؤنسه بالألطاف والهدايا، ونفرق في ثقاته ومن معه، وترغبهم بالأموال وتستميلهم بالأطماع، فإذا وهنت قوته واستفرغت رجاله أمرته بالقدوم عليك، فإن قدم صار إلى الذي تريد منه، وإن أبى كنت قد تناولته وقد كل حده وهيض جناحه، وضعف ركنه وانقطع عزه» فقال محمد: «ما أقطع أمرا كصريمة! أنت مهذار خطيب، ولست بذي رأي، فزل عن هذا الرأي إلى الشيخ الموفق والوزير الناصح، قم فالحق بمدادك وأقلامك».
ونرى من المستصوب، بعد هذا الاستطراد، أن نشير هنا إلى ما رواه الطبري من أن الفضل بن سهل كان قد دس قوما اختارهم ممن يثق بهم من القواد والوجوه ببغداد؛ ليكاتبوه بأخبار الأمين وجماعته يوما فيوما. وكان التجسس لذلك العهد فنا منظما متقدما، فكان للأمين، وهو ولي عهد، على والده الرشيد عيون، وكان لأخيه حين ذاك عيون، وكان للخليفة على ولاته وعماله وأولاده عيون، ولولاته وعماله عليه عيون، وكان للوزراء والكبراء والزعماء وغيرهم مثل ذلك من العيون والأرصاد بعضهم على بعض، وكانت روح العصر تساعد على ذيوع الجاسوسية واستفحال أمرها، فمن المعقول إذا شاور الأمين أو الفضل بن الربيع أحدا وقال بما فيه مصلحة القضية المأمونية، أن يصل خبر ذلك من فوره إلى المأمون، فيقف بذلك المأمون وجماعته على جلية الخبر وحقيقة الحال عند خصومهم السياسيين. ونكاد نرجح من ناحيتنا أن لتقدم فن الجاسوسية عند المأمون أثره العظيم في غلبته وظهوره على أخيه.
ولننتقل الآن إلى أخبار سنة خمس وتسعين ومائة، ولننظر في حوادثها الجسام نظرة عجلى فيما يهمنا مما نحن في صدده من بحوثنا هذه، فنجد أن الخصومة السياسية بين الأخوين حملت الأمين على أن يأمر بإسقاط ما كان ضرب لأخيه عبد الله المأمون من الدنانير والدراهم بخراسان في السنة التي قبلها؛ وذلك لأن المأمون كان أمر ألا يثبت فيها اسم محمد، وقال بعض المؤرخين: إن تلك الدنانير والدراهم كانت لا تجوز في بعض الأحايين، وكانت تدعى بالرباعية.
وقد سبق لنا القول: إن الأمين أمر بالامتناع عن الدعاء لأخويه: المأمون والقاسم، وإنه أمر بالدعاء لنفسه ولطفله الصغير من بعده، وإنه صدر في ذلك كله عن رأي الفضل بن الربيع وجماعة الفضل بن الربيع، مما كان من نتائجه نشوب الحرب الكلامية بين الأخوين، وإنذارها بوقوع شر مستطير بين الأميرين. (5) نفور الرأي العام واستمرار الوفود السياسية
ونريد الآن أن نقفك على مبلغ نفور الرأي العام من فعل الأمين وجماعته مما رواه لنا المؤرخون، وسنلخصه لك - كطريقتنا التي أخذنا بها أنفسنا، والتي لم نحد عنها إلا إذا دعت الضرورة والمصلحة إلى تصوير أمر هام يحتاج إلى الشرح والإيضاح - ونعتمد في تلخيصنا هذا على مصادر عدة؛ منها: الطبري وابن الأثير واليعقوبي وغيرهم من الفرنجة الذين كتبوا في التاريخ الإسلامي في العصر الذي نحن بسبيل القول فيه.
روى المؤرخون أن محمدا الأمين عقد في السنة التي نسرد عليك مجمل أخبارها لعلي بن عيسى بن ماهان على كور الجبل كلها: نهاوند وهمذان وقم وأصفهان، حربها وخراجها، وضم إليه جماعة من القواد، وأمر له، فيما ذكر، بمائتي ألف دينار، ولولده بخمسين ألف دينار، وأعطى الجند مالا عظيما، وأمر له بألفي سيف من السيوف المحلاة، وستة آلاف ثوب للخلع ، وقيل: إن محمدا الأمين أحضر بعد ذلك رجال بيته ومشيريه وتكلم فيهم بما كان بين الأخوين، وكان من المنتظر لو أن للأمين ظهيرا من الرأي العام أن يجد من يمتدح فعلته، أو يخطب في نشر الدعوة له، وبيان أنه على حق فيما يريد أن يفعل، ولكنا نجد أنه انتهى إلى آخر كلامه فلم يتكلم بعده إلا ثلاثة من جماعته الظاهرين ممن عرفنا مصالحهم في الزلفى إليه والتقرب منه؛ وهم: سعيد بن الفضل الخطيب، ومحمد بن عيسى بن نهيك، والفضل بن الربيع.
على أنا يجب أن نقول: إن الفضل بن الربيع كان ماكرا أعظم ماكر، ولكن مكره كان مفضوحا في هذا الموقف، فقد قال في معرض كلامه: «إن الأمير موسى بن أمير المؤمنين قد أمر لكم، يا معاشر أهل خراسان، من صلب ماله بثلاثة آلاف درهم تقسم بينكم».
نقول: إن مكره كان مفضوحا لأنا نعلم أن موسى كان طفلا غرا لا يفهم هذه الأمور ولا يعقلها، ولكن الفضل أراد أن يقر عين الأمين، ولا يمكن أن يكون جادا في رغبته في إثارة الخراسانيين بهذه الطريقة المكشوفة، ولكنها البطانة يأبى عليها رياؤها ونفاقها وتزلفها إلا أن تصور لولي نعمتها أمير المؤمنين أنه الحكمة والعدل، وأنه النباغة والعبقرية، وأن سلالته قد جمع أحداثها مرانة الشيوخ وكفايتهم، وأصالة المجربين ودرايتهم، وذكاء النوابغ ومواهبهم، وهكذا تستمر البطانة على نغمتها هذه؛ لا صفة بمن عداه وعدا حامته وخاصته، ما شاء هوى الخليفة، حتى يقع في روعه أن حاشيته لا تنطق إلا حقا، ولا تقول إلا صدقا.
ولنتساءل الآن: ماذا كان من المأمون إزاء تصرفات أخيه؟
إنه لم يتهاون البتة في أموره صغيرها وكبيرها، وكان يقابل كل تصرف من أخيه بمثيله ونظيره، مع وضع كل شيء موضعه، واستقصاء المصلحة والصواب في تصرفه.
وقد تراسل الأخوان بعد ذلك بكتب عدة، وإنا نثبت هنا نص كتاب المأمون ردا على كتاب بعث به إليه الأمين مع وفد سياسي في شأن البيعة لابنه موسى، قال: «أما بعد، فقد انتهى إلي كتاب أمير المؤمنين منكرا لإبائي منزلة تهضمني بها، وأرادني على خلاف ما يعلم من الحق فيها، ولعمري إن أورد أمير المؤمنين موارد النصفة، فلم يطالب إلا بها ولم يوجب نكرة تركها لانبسطت بالحجة مطالع مقالته، ولكنت محجوجا بمفارقة ما يوجب من طاعته، فأما وأنا مذعن بها، وهو على ترك أعمالها، فأولى به أن يدير الحق في أمره، ثم يأخذ به ويعطي من نفسه، فإن صرت إلى الحق فرغت عن قلبه، وإن أبيت الحق قام بمعذرته، وأما ما وعد من بر طاعته، وأوعد من الوطأة بمخالفته، فهل أحد فارق الحق في فعله فأبقى للمتبين موضع ثقة بقوله؟! والسلام».
ولقد كان من تصرفات المأمون إزاء تصرفات أخيه وحاشيته أن كتب إلى علي بن عيسى، قائد الجيوش الأمينية، لما بلغه ما عزم عليه:
أما بعد، فإنك في ظل دعوة لم تزل أنت وسلفك بمكان ذب عن حريمها، وعلى العناية لحفظها، ورعاية لحقها، توجبون ذلك لأئمتكم، وتعتصمون بحبل جماعتكم، وتعطون بالطاعة من أنفسكم، وتكونون يدا على أهل مخالفتكم، وحزبا وإخوانا لأهل موافقتكم تؤثرونهم على الآباء والأبناء، وتتصرفون فيما تصرفوا فيه من منزلة شديدة ورخاء لا ترون شيئا أبلغ في صلاحكم من الأمر الجامع لألفتكم، ولا أجرى لبواركم مما دعا بشتات كلمتكم، ترون من رغب عن ذلك جائزا عن القصد، ومن أمه على منهاج الحق، ثم كنتم على منهاج الحق، ثم كنتم على أولئك سيوفا من سيوف نقم الله، فكم من أولئك قد صاروا وديعة مسبعة وجزرا جامدة، قد سفت الرياح في وجهه، وتداعت السباع إلى مصرعه غير ممهد ولا موسد قد صار إلى أمه ... وغير عاجل حظه ممن كانت الأئمة تنزلكم لذلك بحيث أنزلتم أنفسكم من الثقة بكم في أمورها، والتقدمة في آثارها، وأنت مستشعر دون كثير من ثقاتها وخاصتها، حتى بلغ الله بك في نفسك أن كنت قريع أهل دعوتك، والعالم القائم بمعظم أمر أمتك، إن قلت ادنوا دنوا وإن أشرت أقبلوا أقبلوا، وإن أمسكت وقفوا وقروا وئاما لك واستنصاحا، وتزداد نعمة مع الزيادة في نفسك، ويزدادون نعمة مع الزيادة لك بطاعتك، حتى حللت المحل الذي قربت به من يومك، وانقرض فيما دونه أكثر مدتك، لا ينتظر بعدها إلا ما يكون ختام عملك من خير فيرضى به ما تقدم من صالح فعلك، أو خلاف فيضل له متقدم سعيك. وقد ترى، يا أبا يحيى، حالا عليها جلوت أهل نعمتك، والولاة القائمة بحق إمامتك، من طعن في عقدة كنت القائم بشدها، وبعهود توليت معاقد أخذها، يبدأ فيها بالأخصين حتى أفضى الأمر إلى العامة من المسلمين، بالأيمان المحرجة والمواثيق المؤكدة، وما طلع مما يدعو إلى نشر كلمة وتفريق أمة وشت جماعة، وتتعرض به لتبديل نعمة وزوال ما وطأت الأسلاف من الأئمة. ومتى زالت نعمة من ولاة أمركم وصل زوالها إليكم في خواص أنفسكم، ولن يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم. وليس الساعي في نشرها بساع فيها على نفسه دون السعي على حملتها القائمين بحرمتها، قد عرضوهم أن يكونوا جزرا لأعدائهم، وطعمة قوم تتظفر مخالبهم في دمائهم، ومكانك المكان الذي إن قلت رجع إلى قولك، وإن أشرت لم تتهم في نصيحتك، ولك مع إيثار الحق الحظوة عند أهل الحق - ولا سواء من حظي بعاجل مع فراق الحق فأوبق نفسه في عاقبته، ومن أعان الحق فأدرك به صلاح العاقبة مع وفور الحظ في عاجلته - وليس لك ما تستدعى ولا عليه ما تستعطف، ولكنه حق من حق أحسابك يجب ثوابه على ربك، ثم على من قمت بالحق فيه من أهل إمامتك، فإن أعجزك قول أو فعل، فصر إلى الدار التي تأمن فيها على نفسك، وتحكم فيها برأيك، وتجاوز إلى من يحسن تقبلا لصالح فعلك، ويكون مرجعك إلى عقدك وأموالك، ولك بذلك الله، وكفى بالله وكيلا، وإن تعذر ذلك بقية على نفسك فإمساكا بيدك وقولا بحق ما لم نخف وقوعه بكرهك، فلعل مقتديا بك ومغتبطا بنهيك، ثم أعلمني رأيك أعرفه إن شاء الله.
على أن ما يرمي إليه الرواة من تحقير شأن الأمين لا يحول بينك وبين تبين حقيقة الأمين ورجاله؛ لأنك ستلاحظ بلا ريب، في ثنايا سطورهم وفلتات الحوادث التي يروونها لك، ما قد يتيح لك أن تؤمن أن عند الأمين بعض رجالات أفذاذ، فإن الطبري يحدثنا في حوادث سنة خمس وتسعين ومائة، أن ابن الربيع أشار على الأمين بأن يكتب لأخيه كتابا تستطيب به نفسه وتسكن وحشته؛ فإن ذلك أبلغ في التدبير وأحسن في القالة من مكاثرة بالجنود، ومعاجلته بالكيد، وإنه لذلك أحضر له إسماعيل بن صبيح للكتابة إلى عبد الله، قال: «يا أمير المؤمنين، إن مسألتك الصفح عما في يديه توليد للظن، وتقوية للتهمة، ومدعاة للحذر، ولكن اكتب إليه فأعلمه حاجتك إليه، وما تحب من قربه والاستعانة برأيه، وسله القدوم إليك؛ فإن ذلك أبلغ وأحرى أن يبلغ فيما يوجب طاعته وإجابته».
3
فقال الفضل: القول ما قال يا أمير المؤمنين.
قال: فليكتب بما رأى، قال: فكتب إليه:
من عند الأمين محمد أمير المؤمنين إلى عبد الله بن هارون أمير المؤمنين
أما بعد، فإن أمير المؤمنين رأى في أمرك والموضع الذي أنت فيه من ثغرك، وما يؤمل في قربك من المعاونة والمكانفة على ما حمله الله وقلده من أمور عباده وبلاده، وفكر فيما كان أمير المؤمنين الرشيد أوجب لك من الولاية، وأمر به من إفرادك على ما يصير إليك منها، فرجا أمير المؤمنين ألا يدخل عليه وكف في دينه، ولا نكث في يمينه، إذ كان إشخاصه إياك فيما يعود على المسلمين نفعه، ويصل إلى عامتهم صلاحه وفضله.
وعلم أمير المؤمنين أن مكانك بالقرب منه أسد للثغور وأصلح للجنود وآكد للفيء، وأرد على العامة من مقامك ببلاد خراسان منقطعا عن أهل بيتك، متغيبا عن أمير المؤمنين وما يحب الاستماع به من رأيك وتدبيرك. وقد رأى أمير المؤمنين أن يولي موسى ابن أمير المؤمنين فيما يقلده من خلافتك ما يحدث إليه من أمرك ونهيك، فاقدم على أمير المؤمنين على بركة الله وعونه، بأبسط أمل، وأفسح رجاء، وأحمد عاقبة، وأنفذ بصيرة، فإنك أولى من استعان به أمير المؤمنين على أموره، واحتمل عنه النصب فيما فيه صلاح أهل بيته وذمته. والسلام.
ولننظر إلى ما يرويه لنا ابن جرير الطبري عن أعضاء هذا الوفد، فإنه يقول :
لما وصلوا إلى عبد الله أذن لهم، فدفعوا إليه كتاب محمد وما كان بعث به معهم من الأموال والألطاف، ثم تكلم العباس بن موسى بن عيسى فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيها الأمير! إن أخاك قد تحمل من الخلافة ثقلا عظيما، ومن النظر في أمور الناس عبئا جليلا، وقد صدقت نيته في الخير، فأعوزه الوزراء والأعوان والكفاة على العدل، وقليل ما يأنس بأهل بيته، وأنت أخوه وشقيقه وقد فزع إليك في أموره وأملك للمؤازرة والمكانفة، ولسنا نستبطئك في بره اتهاما لنصرك له، ولا نحضك على طاعته تخوفا لخلافك عليه، وفي قدومك عليه أنس عظيم وصلاح لدولته وسلطانه، فأجب أيها الأمير دعوة أخيك، وآثر طاعته، وأعنه على ما استعانك عليه في أمره، فإن في ذلك قضاء الحق، وصلة الرحم، وصلاح الدولة، وعز الخلافة. عزم الله للأمير على الرشد في أموره، وجعل له الخيرة والصلاح في عواقب رأيه.
وتكلم عيسى بن جعفر بن أبي جعفر فقال: إن الإكثار على الأمير - الله! الله! - في القول خرق، والاقتصار في تعريفه ما يجب من حق أمير المؤمنين تقصير، وقد غاب الأمير - أكرمه الله - عن أمير المؤمنين، ولم يستغن عن قربه من شهد غيره من أهل بيته، ولا يجد عنه غنى، ولا يجد منه خلفا ولا عوضا، والأمير أولى من بر أخاه وأطاع إمامه؛ فليعمل الأمير فيما كتب به إليه أمير المؤمنين بما هو أرضى وأقرب من موافقة أمير المؤمنين ومحبته، فإن القدوم عليه فضل وحظ عظيم، والإبطاء عنه وكف في الدين، وضرر ومكروه على المسلمين.
وتكلم محمد بن عيسى بن نهيك فقال: أيها الأمير، إنا لا نزيدك بالإكثار والتطويل فيما أنت عليه من المعرفة بحق أمير المؤمنين، ولا نشحذ نيتك بالأساطير والخطب فيما يلزمك من النظر والعناية بأمور المسلمين.
وقد أعوز أمير المؤمنين الكفاة والنصحاء بحضرته، وتناولك فزعا إليك في المعونة والتقوية له على أمره، فإن تجب أمير المؤمنين فيما دعاك إليه فنعمة عظيمة يتلافى بها رعيتك وأهل بيتك، وإن تقعد يغن الله أمير المؤمنين عنك، ولن يضعه ذلك مما هو عليه من البر بك، والاعتماد على طاعتك ونصيحتك.
وتكلم صالح صاحب المصلى فقال: أيها الأمير، إن الخلافة ثقيلة، والأعوان قليل، ومن يكيد هذه الدولة وينطوي على غشها والمعاندة لأوليائها من أهل الخلاف والمعصية كثير، وأنت أخو أمير المؤمنين وشقيقه، وصلاح الأمور وفسادها راجع عليك وعليه؛ إذ أنت ولي عهده والمشارك في سلطانه وولايته، وقد تناولك أمير المؤمنين بكتابه، ووثق بمعاونتك على ما استعانك عليه من أموره، وفي إجابتك إياه إلى القدوم عليه صلاح عظيم في الخلافة، وأنس وسكون لأهل الملة والذمة. وفق الله الأمير في أموره، وقضى له بالذي هو أحب إليه وأنفع له.
ثم انظر، رعاك الله، إلى مبلغ دهاء الفضل ودقة سياسته ومحكم أمره وما يرويه بنفسه عن صنيعه مع أحد أعضاء الوفد في إحدى الدفعات التي أرسل فيها إلى المأمون، لأنا نلاحظ وفود الأمين قد أرسلت إلى أخيه المأمون أكثر من مرة، قال: «أعجبني ما رأيت من ذكاء العباس بن موسى، فخلوت به فقلت: يذهب عليك بعقلك وسنك أن تأخذ بحظك من الإمام - أي المأمون؛ إذ سمي بذلك بسبب خلع الأمين له - فقال له العباس: قد سميتموه بالإمام!» فأجابه الفضل: «قد يكون إمام المسجد والقبيلة! فإن وفيتم لم يضركم، وإن غدرتم فهو ذاك» ثم وصل إلى أن قال للعباس: «لك عندي ولاية الموسم، ولا ولاية أشرف منها، ولك من مواضع الأعمال بمصر ما شئت ...»
وصل الفضل إلى ذلك القول وما برح به حتى أخذ عليه البيعة للمأمون بالخلافة، وتحول الأمر إلى أن أصبح للحزب المأموني من العباس العين التي تبلغهم الأخبار، والمتفاني في المأمونية يمدهم بالأفكار، ويشير عليهم بالآراء، وحتى أضحى منه الشخص الذي يقول لعلي بن يحيى السرخسي: إن ذا الرياستين أكبر مما وصفت، وإنه قد صافح المأمون الإمام، وإنه لذلك يمسح يده على رأس علي بن يحيى لتناله البركة والخير. فتأمل!
وإنه جميل حقا أن نرى المأمون يتريث في أمره تريث العاقل الحكيم لما جاءه الوفد الأميني، ويتصرف تصرف الكيس الحاذق إذ قال لهم، فيما أثبت الرواة، بعد أن حاجوه وناقشوه في أمر الأمين: قد عرفتموني من حق أمير المؤمنين، أكرمه الله، ما لا أنكره، ودعوتموني من الموالاة والمعونة إلى ما أوثره ولا أدفعه، وأنا لطاعة أمير المؤمنين مقدم، وعلى المسارعة إلى ما سره ووافقه حريص، وفي الروية تبيان الرأي، وفي إعمال الرأي نصح الاعتزام. والأمر الذي دعاني إليه أمير المؤمنين أمر لا أتأخر عنه تثبطا ومدافعة، ولا أتقدم عليه اعتسافا وعجلة وأنا في ثغر من ثغور المسلمين كلب عدوه شديد شوكته، وإن أهملت أمره لم آمن دخول الضرر والمكروه على الجنود والرعية، وإن أقمت عليه لم آمن فوت ما أحب من معونة أمير المؤمنين ومؤازرته وإيثار طاعته؛ فانصرفوا حتى أنظر في أمري ونصح الرأي فيما أعتزم عليه من مسيري إن شاء الله، ثم أمر بإنزالهم وإكرامهم والإحسان إليهم.
تريث المأمون مع الوفد تريث العاقل الحكيم وإن كان في الواقع قد هاله الأمر وخشي سوء مغبته، ويذكر لنا أحد المعاصرين، وهو سفيان بن محمد، أن المأمون لما قرأ الكتاب سقط في يده، وتعاظمه ما ورد عليه منه، ولم يدر ما يرد عليه، فدعا الفضل بن سهل فأقرأه الكتاب وقال: ما عندك في هذا الأمر؟ قال: أرى أن تتمسك بموضعك، ولا تجعل علينا سبيلا وأنت تجد من ذلك بدا، قال: وكيف يمكنني التمسك بموضعي ومخالفة محمد وعظم القواد والجنود معه، وأكثر الأموال والخزائن قد صارت إليه، مع ما قد فرق في أهل بغداد من صلاته وفوائده، وإنما الناس مائلون مع الدراهم منقادون لها، لا ينظرون إذا وجدوها حفظ بيعة ولا يرغبون في وفاء عهد ولا أمانة؟ فقال له الفضل: إذا وقعت التهمة حق الاحتراس، وأنا لغدر محمد متخوف، ومن شرهه إلى ما في يديك مشفق، ولأن تكون في جندك وعزك مقيما بين ظهراني أهل ولايتك أحرى ، فإن دهمك منه أمر جردت له وناجزته وكايدته، فإما أعطاك الله الظفر عليه بوفائك ونيتك، أو كانت الأخرى فمت محافظا مكرما غير ملق بيديك ولا ممكن عدوك من الاحتكام قي نفسك ودمك، قال: إن هذا الأمر لو كان أتاني وأنا في قوة من أمري وصلاح من الأمور كان خطبه يسيرا، والاحتيال في دفعه ممكنا، ولكنه أتاني بعد إفساد خراسان، واضطراب عامرها وغامرها، ومفارقة جيغويه الطاعة، والتواء خاقان صاحب التبت، وتهيؤ ملك «كابل» للغارة على ما يليه من بلاد خراسان، وامتناع ملك أترابنده بالضريبة التي كان يؤديها، وما لي بواحدة من هذه الأمور يد، وأنا أعلم أن محمدا لم يطلب قدومي إلا لشر يريده، وما أرى إلا تخلية ما أنا فيه واللحاق بخاقان ملك الترك والاستجارة به وببلاده، فبالحرى أن آمن على نفسي وأمتنع ممن أراد قهري والغدر بي، فقال له الفضل: أيها الأمير، إن عاقبة الغدر شديدة، وتبعة الظلم والبغي غير مأمون شرها، ورب مستذل قد عاد عزيزا، ومقهور قد عاد قاهرا مستطيلا، وليس النصر بالقلة والكثرة، وحرج الموت أسلم من حرج الذل والضيم، وما أرى أن تفارق ما أنت فيه، وتصير إلى طاعة محمد متجردا من قوادك وجندك كالرأس المختزل عن بدنه، يجري عليك حكمه فتدخل في جملة أهل مملكته من غير أن تبلي عذرا في جهاد ولا قتال، ولكن اكتب إلى جيغويه وخاقان، فولهما بلادهما، وعدهما التقوية لهما في محاربة الملوك، وابعث إلى ملك كابل بعض هدايا خراسان وطرفها وسله الموادعة تجده على ذلك حريصا، وسلم لملك أترابنده ضريبته في هذه السنة، وصيرها صلة منك وصلته بها، ثم اجمع إليك أطرافك، واضمم إليك من شذ من جندك، ثم اضرب الخيل بالخيل والرجال بالرجال، فإن ظفرت وإلا كنت على ما تريد من اللحاق بخاقان قادرا. فعرف عبد الله صدق ما قال، فقال: اعمل في هذا الأمر وغيره من أموري بما ترى. فتدبر، وفقك الله، هذا التفكير الدقيق، وهذه السياسة المحكمة الأطراف من كليهما.
ثم انظر إلى تصرف المأمون الحكيم ، بعد ما قدمناه لك، فإنه أنفذ الكتب إلى رجاله وأنصاره، وعمل على لم شعثه ورأب صدعه، واستقدم طاهر بن الحسين، عامله على الري ، ليعهد إليه في قيادة جنده، ثم مكث يدبر الرأي فيما يجيب به أخاه، واستقر رأيه على مناجزة أخيه ومنازلته، بعد أن أعلمه ابن سهل أن النصر له، وأن النجوم تنبئ بذلك.
وانظر ما يرويه لنا المؤرخون من أنه كتب إلى الأمين:
أما بعد، فقد وصل إلي كتاب أمير المؤمنين، وإنما أنا عامل من عماله، وعون من أعوانه، أمرني الرشيد، صلوات الله عليه، بلزوم هذا الثغر، ومكايدة من كايد أهله من عدو أمير المؤمنين، ولعمري إن مقامي به أرد على أمير المؤمنين، وأعظم غناء عن المسلمين من الشخوص إلى أمير المؤمنين، وإن كنت مغتبطا بقربه، مسرورا بمشاهدة نعمة الله عنده، فإن رأى أن يقرني على عملي، ويعفيني من الشخوص إليه فعل إن شاء الله. والسلام.
ثم دعا العباس بن موسى وعيسى بن جعفر ومحمدا وصالحا فدفع إليهم الكتاب، وأحسن إليهم في جوائزهم، وحمل إلى محمد ما تهيأ له من ألطاف خراسان، وسألهم أن يحسنوا أمره عنده، وأن يقوموا بعذره لديه. (6) إعلان الحرب
ولننتقل الآن إلى الكلام عن الحرب العملية التي تلت هذه الحرب الكلامية، كما هو المنتظر، إن التاريخ يحدثنا أن الأمين ورجال الأمين بدءوا في تعبية الجنود، كما بدأ المأمون ورجال المأمون في حشد الكتائب، وإنا لنرتاب كثيرا في صحة ما ذكره الرواة من أن طاهر بن الحسين، القائد العام للجيوش المأمونية، كان في جيش عدته ثمانمائة وثلاثة آلاف، بينما كان علي بن عيسى بن ماهان، القائد العام للجيوش الأمينية، في زهاء أربعين ألفا، ونرجح كثيرا أن الرواة قد نقصوا عدد الجنود المأمونية ليظهروا للناس مبلغ كفاية طاهر، وأنه استطاع بجند قليل عددهم أن ينازل جيوشا جرارة ويغلبها على أمرها؛ لأنهم كثيرا ما يجنحون إلى الإغراق والمبالغة في مثل هذه المواقف من مظاهرتهم للأقوياء وانتقاصهم للضعفاء، كما أسلفنا.
نشك في صحة ذلك كثيرا، ونشك كذلك فيما يروونه من أن الجيوش المأمونية قد عثرت في عسكر ابن ماهان على سبعمائة كيس، في كل كيس ألف درهم، وأنها عثرت كذلك على صناديق عدة فيها خمر سوادي وقناني عدة!
قد يكون أمر الأموال صحيحا، ولكننا نميل إلى الافتراض بأن أمر الصناديق العدة إن لم يكن مكذوبا في جملته بقصد الزراية بالجماعة الأمينية، فهو مغالى فيه كثيرا.
ويذهب ابن الأثير في بيان غرور علي بن عيسى بن ماهان إلى أنه لما قرب من الري ظن أن طاهر بن الحسين، قائد القوات المأمونية، لا يثبت له، وأن عليا قال: «ما طاهر إلا شوكة من أغصاني وشرارة من ناري، وما مثل طاهر يؤمر على جيش، وما بينه وبين الأمين
4
إلا أن تقع عينه على سوادكم، فإن السخال لا تقوى على نطاح الكباش، والثعالب لا تقوى على لقاء الأسد»، وأن علي بن عيسى بن ماهان قال لابنه لما أشار عليه بأن يبعث طلائع ويرتاد موضعا لعسكره: «ليس طاهر يستعد له بالمكايد والتحفظ؛ إن حال طاهر يؤدي إلى أمرين: إما أن يتحصن بالري فيثب به أهلها ويكفونا مئونته، أو يخليها ويدبر»، فقال له ابنه: «إن الشرارة ربما صارت ضراما»، فأجابه: «إن طاهرا ليس قرنا في هذا الموضع، وإنما تحترس الرجال من أقرانها».
ونحن نقول: إن من الجائز أن يكون شيء من هذا قد وقع، ومن الجائز أن يكون بعلي بن ماهان زهو وغرور وقصر نظر وسوء تدبير، وقد يكون علي حين المقارنة والموازنة أقل شأنا من منازله وخصمه طاهر بن الحسين، ولكنا مع ذلك نحس إحساسا لا يعدو الواقع كثيرا أن هذا الحديث المعزو إليه من قبيل الروايات المنحولة، والقصص المخترعة التي كثيرا ما تخترع وتنحل في مثل تلك الظروف.
على أنا مع ذلك نقرر أن الجيوش المأمونية كانت على أتم تعبية، وأكمل كفاية، وأدق نظام، وأحسن حال، وأن خديعة طاهر وقواد طاهر من حمل صورة البيعة على أسنة رماحهم
5
تعيد إلى الأذهان ما كان بين جند معاوية وجند علي من حمل جند معاوية المصاحف على الرماح.
لننتقل الآن إلى مسألة أخرى لها علاقة بعلي بن عيسى بن ماهان من ناحية، كما أن لها علاقات بما يقع فيه القصاص والمؤرخون والرواة من تناقض من ناحية أخرى، تلك المسألة هي ما يعزى إلى زبيدة من نصيحتها لابن ماهان باحترام المأمون وإجلاله، وأنها قالت له: «يا علي، إن أمير المؤمنين وإن كان ولدي، إليه تناهت شفقتي، وعليه تكامل حذري، فإني على عبد الله متعطفة مشفقة لما يحدث عليه من مكروه وأذى، وإنما ابني ملك نافس أخاه في سلطانه، وغاره على ما في يده، والكريم يأكل لحمه ويمنعه غيره، فاعرف لعبد الله حق والده وإخوته، ولا تجبهه بالكلام؛ فإنك لست نظيره، ولا تقتسره اقتسار العبيد، ولا ترهقه بقيد ولا غل، ولا تمنع منه جارية ولا خادما، ولا تعنف عليه في السير، ولا تساوه في المسير، ولا تركب قبله، ولا تستقل على دابتك حتى تأخذ بركابه، وإن شتمك فاحتمل منه، وإن سفه عليك فلا تراده».
معقول أن يكون ذلك من زبيدة لابن زوجها الرشيد! ولكن التاريخ يحدثنا عن قيد من الفضة قيل إنها أعدته ليقيد به المأمون، كما يحدثنا أن المأمون نفسه اعترف بمسألة هذا القيد، بيد أن نص النصيحة وما اشتملت عليه من الأوامر وما جبلت عليه نفسية السيدة زبيدة مما يرجح عدم صحة القول بإعدادها قيد فضة أو ذهب ليقيد به المأمون. (7) انتصار الجيوش المأمونية ومقولات الشعراء
وقد كتب الله للجيوش المأمونية الفلج والنصر على الجيوش الأمينية. ونترك هنا الكلمة لطاهر بن الحسين، قائد المأمون، فإنه ينبئ خليفته عن ذلك الانتصار بقوله: «أطال الله بقاءك، وكبت أعداءك، وجعل من يشنؤك فداءك، كتبت إليك ورأس علي بن عيسى بين يدي، وخاتمه في أصبعي، والحمد لله رب العالمين».
وذكر بعض أهل خراسان أن المأمون لما أتاه كتاب طاهر بخبر علي بن عيسى بن ماهان، وما نالته جيوشه من فوز وانتصار، وما أوقع الله بجند خصمه من فشل وانكسار، قعد للناس، فكانوا يدخلون عليه فيهنئونه ويدعون له بدوام العز والنصر ، وأن المأمون في ذلك اليوم أعلن خلع محمد، كما أعلن خلافته في جميع كور خراسان وما يليها، وسر بذلك أهل خراسان وخطبت الخطباء وأنشدت الشعراء، وفي ذلك يقول الشاعر:
أصبحت الأمة في غبطة
من أمر دنياها ومن دينها
إذ حفظت عهد إمام الهدى
خير بني حواء مأمونها
على شفا كانت، فلما وفت
تخلصت من سوء تحيينها
قامت بحق الله إذ دبرت
في ولده كتب دواوينها
ألا تراها كيف بعد الردى
وفقها الله لتزيينها؟!
وهي أبيات كثيرة.
وذكر علي بن صالح الحربي أن علي بن عيسى لما قتل أرجف الناس ببغداد إرجافا شديدا، وندم محمد على ما كان من نكثه وغدره، ومشى القواد بعضهم إلى بعض، وذلك يوم الخميس للنصف من شوال سنة 195، فقالوا: إن عليا قد قتل، ولسنا نشك أن محمدا يحتاج إلى الرجال واصطناع أصحاب الصنائع، وإنما يحرك الرجال أنفسها، ويرفعها بأسها وإقدامها، فليأمر كل رجل منكم جنده بالشغب وطلب الأرزاق والجوائز، فلعلنا أن نصيب منه في هذه الحالة ما يصلحنا ويصلح جندنا.
خبرني، لعمرك! أليست هذه بوادر الفوضى وعلامات الانتقاض؟ أوليست هذه هي هي بعينها مبادئ الثورة وأمارات زوال الملك وسقوط العروش وأفول نجم أصحابها؟ أجل إنها لكذلك، وإن في انقسام كلمة الزعماء وإثارتهم النفوس بالاضطراب والقلاقل، وإضرامهم نيران الفتن، وتحريكهم الجند وما إلى الجند للشغب والهياج تقطيعا لأوصال البلاد، ونذيرا بالهدم والفناء.
ولننظر ماذا كان من حماقات رجال الأمين؟
إن التاريخ ليحدثنا أن رأيهم قد اجتمع على الشغب والاصطياد في الماء العكر، وأنهم أصبحوا فتوافوا إلى باب الجسر وكبروا، فطلبوا الأرزاق والجوائز، وبلغ الخبر عبد الله بن خازم، فركب إليهم في أصحابه وفي جماعة غيره من قواد الأعراب، فتراموا بالنشاب والحجارة واقتتلوا قتالا شديدا، وسمع محمد التكبير والضجيج، فأرسل بعض مواليه أن يأتيه الخبر، فرجع إليه فأعلمه أن الجند قد اجتمعوا وشغبوا لطلب أرزاقهم، قال: فهل يطلبون شيئا غير الأرزاق؟ قال: لا، قال: ما أهون ما طلبوا! ارجع إلى عبد الله بن خازم فمره فلينصرف عنهم، ثم أمر لهم بأرزاق أربعة أشهر، ورفع من كان دون الثمانين إلى الثمانين، وأمر للقواد والخواص بالصلات والجوائز.
ولنتساءل الآن إزاء إجابة الأمين لسؤل القادة والجند ومبادرته إلى رفدهم، وإسراعه بمنحهم الأعطيات والهبات والجوائز والصلات: أكان في تصرفه حكيما، وفي عمله مسددا موفقا؟
لا نظن ذلك، وكان الحزم به أولى ليقدع الفتنة، وليضع حدا صارما لشهوات ذوي الغايات والمنتفعين الذين يكثر وجودهم وتتوافر جماعتهم في إبانها وفتراتها. •••
وقد كان اختيار الأمين لعلي بن عيسى بن ماهان خطلا سياسيا؛ لأن سابقة ابن ماهان في خراسان أيام الرشيد كانت سابقة سوء، فهو ممقوت أشد المقت عندهم، ونقرر بهذه المناسبة أنه يخيل إلينا، إلى حد غير قليل، اختلاق تلك القصة التي تعزى إلى الفضل بن سهل، من أنه كتب إلى الدسيس الذي كان ممن يشاورهم الفضل بن الربيع في أمره، أنه إن أبى جماعة الأمين إلا عزمة في الخلاف، فألطف لأن تجعل أمرهم لعلي بن عيسى.
وقال الطبري: وإنما خص ذو الرياستين عليا بذلك لسوء أثره في أهل خراسان، واجتماع رأيهم على كرهه، وأن العامة قائله بحربه، فشاور الفضل الدسيس الذي كان مشاوره، فقال: علي بن عيسى! وإنه إن فعل فلم يرمهم بمثله في بعد صوبه، وسخاوة نفسه، وكان في بلاد خراسان في طول ولايته وكثرة صنائعه، ثم هو شيخ الدعوة وبقية أهل المشايعة. فأجمعوا على توجيهه.
نميل إلى القول بأن نسبة اختيار ابن ماهان إلى تدبير ابن سهل، وإسناد كل فضل إليه من باب الدعوة لابن سهل، ونحن ممن يقر بذكائه وسعة حيلته، كما أسلفنا.
ولكننا نقرر أيضا أن صلة ابن ماهان بالأمين وبدولة الأمين وبابن الربيع كانت مما يحتم على الأمين لا محالة تقليده أمر جيوشه، وتفضيله على غيره من القادة، لا أن دسيس جماعة المأمون هو الذي أشار بندبه واختياره، فلنحترس كثيرا من مبالغة المؤرخين والرواة، ولنجعل من عقولنا ومنطقنا محكا وحكما.
ونلفت النظر هنا إلى تناقض وقع فيه الرواة من الحزب المأموني، فبينا نراهم يقررون أن جيش المأمون عثر على صناديق عدة من الخمر فيما غنمه من علي بن عيسى بن هامان، إذ بالدسيس يصفه بقوله: «ليس مثله في بعد صوبه وسخاوة نفسه !»
ومهما قيل بأن وصفه كذلك من باب الختل والخديعة، وبأنه كان في حقيقة الأمر سكيرا معربدا، فإنا نرى أثر التأليف القصصي في الروايتين ظاهرا جليا.
وسبق لنا أن قد فندنا، حينما كنا بسبيل القول في الأمين، ما رواه محمد بن يحيى بن عبد الملك النيسابوري من أن الأمين قال لما نعى الناعي إليه قائده: «ويلك! دعني فإن كوثرا قد اصطاد سمكتين وأنا ما اصطدت شيئا بعد»، وترك الناعي وخبره وأقبل على الصيد وكوثره، فلنضم هذه إلى تلك. •••
ويجدر بنا الآن أن نطلعك على بعض مقولات الشعراء في موقف الأخوين، مع ملاحظة ما لاحظناه من مبالغتهم في تمداحهم للقوي وغلوهم في زرايتهم على الضعيف.
قال أحد الشعراء البغداديين:
أضاع الخلافة غش الوزير
وفسق الإمام وجهل المشير
ففضل وزير وبكر مشير
يريدان ما فيه حتف الأمير
وما ذاك إلا طريق غرور
وشر المسالك طرق الغرور
لواط الخليفة أعجوبة
وأعجب منه خلاق الوزير
فهذا يدوس وهذا يداس
كذاك لعمري اختلاف الأمور
فلو يستعينان هذا بذاك
لكانا بعرضة أمر ستير
ولكن ذا لج في كوثر
ولم يشف هذا دعاس الحمير
فشنع فعلاهما منهما
وصارا خلافا كبول البعير
وأعجب من ذا وذا أننا
نبايع للطفل فينا الصغير
ومن ليس يحسن غسل استه
ولم يخل متنه من حجر ظير
وما ذاك إلا بفضل وبكر
يريدان نقض الكتاب المنير
وهذان لولا انقلاب الزمان
أفي العير هذان أم في النفير؟
ولكنها فتن كالجبال
ترفع فيها الوضيع الحقير
فصبرا ففي الصبر خير جميل
وإن كان قد ضاق صبر الصبور
فيا رب فاقبضهما عاجلا
إليك وأورد عذاب السعير
ونكل بفضل وأشياعه
وصلبهم حول هذي الجسور (8) عود على بدء، مجهودات الأمين في سبيل الفوز
ولقد سبق أن قلنا لك: إنه مع ما يرمي إليه الرواه من تحقير شأن الأمين ورجالات الأمين يمكننا مع ذلك تبين حقيقة أمره مما يلاحظ في ثنايا السطور وفلتات الحوادث، وقلنا: إن تلك الفلتات قد تتيح لنا أن نؤمن بأن عند الأمين بعض رجالات أفذاذ. ونريد الآن أن نثبت لك ذلك.
وهذا الطبري يحدثنا في حوادث سنة ست وتسعين ومائة، أنه لما قوي طاهر واستعلى أمره، وهزم من هزم من قواد محمد وجيوشه، دخل عبد الملك بن صالح على محمد - وكان عبد الملك محبوسا في حبس الرشيد، فلما توفي الرشيد وأفضى الأمر إلى محمد أمر بتخلية سبيله، وذلك في ذي القعدة سنة 193، فكان عبد الملك يشكر ذلك لمحمد ويوجب به على نفسه طاعته ونصيحته - فقال: يا أمير المؤمنين، إني أرى الناس قد طمعوا فيك، وأهل العسكرين قد اعتمدوا ذلك، وقد بذلت سماحتك، فإن أتممت على أمرك أفسدتهم وأبطرتهم، وإن كففت أمرك عن العطاء والبذل أسخطتهم وأغضبتهم، وليست تملك الجنود بالإمساك، ولا تبقى بيوت الأموال على الإنفاق والسرف، ومع هذا فإن جندك قد رعبتهم الهزائم، ونهكتهم وأضعفتهم الحرب والوقائع، وامتلأت قلوبهم هيبة لعدوهم، ونكولا عن لقائهم ومناهضتهم، فإن سيرتهم إلى طاهر غلب بقليل من معه كثيرهم، وهزم بقوة نيته ضعف نصائحهم ونياتهم، وأهل الشام قوم قد ضرستهم الحروب، وأدبتهم الشدائد، وجلهم منقاد إلي مسارع إلى طاعتي، فإن وجهني أمير المؤمنين اتخذت له منهم جندا تعظم نكايتهم في عدوه، ويؤيد الله بهم أولياءه وأهل طاعته، فقال محمد: فإني موليك أمرهم، ومقويك بما سألت من مال وعدة، فعجل الشخوص إلى ما هنالك، فاعمل عملا يظهر أثره، وتحمد بركته برأيك ونظرك فيه، إن شاء الله. فولاه الشام والجزيرة واستحثه بالخروج استحثاثا شديدا، ووجه معه كنفا من الجند والأبناء.
حاول الأمين بعد ذلك أن ينتصر على أخيه بكل ما في مقدوره، وبعث له الجند تلو الجند، وإنا مع اعترافنا بكفاية قادته، أمثال عبد الرحمن بن جبلة الذي ندب أهل البأس والنجدة والغناء، نقرر أن طريقة الإرجاف وبث الدعاة التي اتبعها القادة المأمونيون كانت خطرة جدا.
انظر إلى من يقول لأهل حمص: يا أهل حمص، الهرب أهون من العطب، والموت أهون من الذل! إنكم بعدتم عن بلادكم، وخرجتم من أقاليمكم، ترجون الكثرة بعد القلة، والعزة بعد الذلة، ألا وفي الشر وقعتم، وإلى حومة الموت أنختم. إن المنايا في شوارب المسودة وقلانسهم، النفير النفير! قبل أن ينقطع السبيل وينزل الأمر الجليل، ويفوت المطلب ويعسر المذهب، ويبعد العمل ويقترب الأجل. وقام رجل من كلب في غرز ناقته ثم قال:
شؤبوب حرب خاب من يصلاها
قد شرعت فرسانها قناها
فأورد الله لظى لظاها
إن عمرت كلب بها لحاها
ثم انظر لمن يقول: «يا معشر كلب، إنها الراية السوداء، والله ما ولت ولا عدلت، ولا ذل نصيرها ولا ضعف وليها، وإنكم لتعرفون مواقع سيوف أهل خراسان في رقابكم، وآثار أسنتهم في صدوركم، اعتزلوا الشر قبل أن يعظم، وتخطوه قبل أن يضطرم شامكم، داركم داركم! الموت الفلسطيني خير من العيش الجزري، ألا وإني راجع، فمن أراد الانصراف فلينصرف معي!» ثم سار وسار معه عامة أهل الشام.
أرأيت إلى أي مدى كان أثر الدعاية المأمونية؟
لقد كان المأمون موفقا بلا ريب، وكانت ظروف النصر والإقبال تواتيه من هنا ومن هناك، وتظاهره على النجاح من جراء حكمته وكفاية رجالاته، كما كانت تظاهره من جراء حماقة خصومه وقلة غنائهم.
ثم انظر ما كان من أمر العصبية في حوادث سنتي خمس وتسعين ومائة وست وتسعين ومائة، وما كان من اشتطاط جند الأمين في طلب المال، وما كان من عدم قدرته على إجابة طلبات القادة الكماة، أمثال أسد بن يزيد، وما كان من تقلب الحسين بن علي معه وعليه، وما كان من ليان الأمين معه بعد أن حبسه، فإن التاريخ يحدثنا بأن كل ما فعله الأمين معه هو أن لامه على خلافه وقال له: «ألم أقدم أباك على الناس، وأوله أعنة الخيل، وأملأ يده من الأموال، وأشرف أقداركم في أهل خراسان، وأرفع منازلكم على غيركم من القواد؟!» فقال له: بلى، قال: «فما الذي استحققت به منك أن تخلع طاعتي وتؤلب الناس علي وتندبهم إلى قتالي؟» قال: الثقة بعفو أمير المؤمنين ، وحسن الظن بصفحه وتفضله، قال: «فإن أمير المؤمنين قد فعل ذلك بك، وولاك الطلب بثأرك ومن قتل من أهل بيتك» ثم دعا له بخلعة فخلعها عليه، وحمله على مراكب وأمره بالمسير إلى حلوان، وولاه ما وراء بابه.
انظر إلى ذلك كله، فإنك تستطيع أن تقتنع معنا بأن لسوء التدبير حظا غير قليل في خذلان الأمين وضياع ملكه. (9) مظاهر الثورة وخطباؤها
على أن هناك ظاهرة في الجيش الأميني والأطراف الأمينية مثل ظاهرة الثورة الفرنسية من بعض وجوهها يجدر بنا أن نقيدها لك ولو «على الهامش» كما يقولون.
ذلك أن الزواقيل واللصوص والثوار لعبوا دورهم الخطير، كما أن الفوضى ضربت بجرانها على كل البقاع الأمينية، ولم يكن ثمة من طاعة ولا نظام لا في الجند الأميني ولا في قادة الجند الأميني.
وقد كان هناك خطباء كما كان في الثورة الفرنسية، وإن الطبري ليحدثنا أن محمد بن أبي خالد قام بباب الشام فقال: أيها الناس، والله ما أدري بأي سبب يتأمر الحسين بن علي علينا، ويتولى هذا الأمر دوننا؟ ما هو بأكبرنا سنا، ولا أكرمنا حسبا، ولا أعظمنا منزلة! وإن فينا من لا يرضى بالدنية ولا يقاد بالمخادعة، وإني أولكم نقضا لعهده، وإظهارا للتغيير عليه والإنكار لفعله، فمن كان رأيه رأيي فليعتزل معي، وقام أسد الحربي فقال: يا معشر الحربية، هذا يوم له ما بعده، إنكم قد نمتم وطال نومكم، وتأخرتم فقدم عليكم غيركم، وقد ذهب أقوام بذكر خلع محمد وأسره، فاذهبوا بذكر فكه وإطلاقه.
يحدثنا التاريخ عن ذلك كله كما يحدثنا بأن شيخا كبيرا من أهل الكفاية قد أقبل على فرس فصاح بالناس: اسكتوا! فسكتوا فقال: أيها الناس، هل تعتدون على محمد بقطع منه لأرزاقكم؟ قالوا: لا، قال: فهل قصر بأحد منكم أو من رؤسائكم وكبرائكم؟ قالوا: ما علمنا، قال: فهل عزل أحدا من قوادكم؟ قالوا: معاذ الله أن يكون فعل ذلك، قال: فما بالكم خذلتموه وأعنتم عدوه على اضطهاده وأسره؟! أما والله ما قتل قوم خليفتهم قط إلا سلط الله عليهم السيف القاتل والحتف الجارف. انهضوا إلى خليفتكم وادفعوا عنه وقاتلوا من أراد خلعه والفتك به.
أما ما أصاب بغداد من سلب ونهب وتحريق وتخريب، وفتنة شعواء وقتل ودماء، فإنا نترك الكلمة في ذلك لشعراء العصر مما أثبتناه لك في باب المنظوم من الكتاب الثالث من المجلد الثالث، فلتراجع ثمة. (10) قتل الأمين
ولقد ضيق طاهر وهرثمة على الأمين الخناق، وفكرا فيمن يتسلم الأمين ليكون له قصب السبق، وإنه لمن المؤلم حقا أن ترى الأمين وهو يقبل أولاده، ومن المؤلم أن تسمعه وهو يقول: «وددت أن الله قتل الفريقين جميعا، فما منهم إلا عدو من معي ومن علي، أما هؤلاء فيريدون مالي، وأما أولئك فيريدون نفسي!» وقال:
تفرقوا ودعوني
يا معشر الأعوان
فكلكم ذو وجوه
كثيرة الألوان
وما أرى غير إفك
وترهات الأماني
ولست أملك شيئا
فسائلوا خزاني
فالويل لي ما دهاني
من نازل البستان؟
وإنه لمن المؤلم حقا أن يتفقا على أن يأخذ أحدهما بدنه، والآخر خاتم الخلافة وشاراتها! ومن المؤلم حقا أن تختم حياته بمأساته المروعة.
هوامش
الفصل الرابع
الخليفة المأمون
(1) توطئة
من تحصيل الحاصل أن نقول ما يقوله الفخري وغيره من أن المأمون كان من أفاضل الخلفاء وعلمائهم، وحلمائهم وحكمائهم، أو أنه كان دينا، عارفا بالعلم، فيه دهاء وسياسة، أو أنه كان فطنا ذكيا، أو أنه كان كاملا عالما جوادا، عظيم العفو، ميمون النقيبة، حسن التدبير، جليل الصنائع، لا تخدعه الأماني، ولا تجوز عليه الخدائع، علمه بما بعد عنه كعلمه بما حضر، أو أنه كان متصفا بالعدل والحلم.
من تحصيل الحاصل أن نقول ذلك لأنه معلوم متعارف من ناحية، ولأن خطتنا في كتابتنا ومنجهنا في بحوثنا أن نترك للحوادث الكلمة الفاصلة في تحليل صفاته اتباعا للطريقة التحليلية التي اتبعناها فيما كتبناه عن سواه.
وقد أسلفنا لك القول في بيان حياة المأمون قبل الخلافة، وفصلنا لك ما كان من أمر النزاع بين الأخوين، ووصلنا بك إلى مأساة تلك الحرب الشعواء والفتنة العمياء، ألا وهي قتل محمد الأمين في 25 محرم سنة ثمان وتسعين ومائة، والآن نتقدم إلى القول بأن المأمون بويع له بالخلافة العامة في ذلك التاريخ، واستمر كذلك إلى أن توفي غازيا في 19 رجب سنة 218ه، فتكون خلافته قد أنافت على عشرين سنة، أقام منها في خراسان حتى منتصف صفر سنة 204، حين انتقل إلى بغداد مقر الخلافة العباسية.
فيمكننا إذن أن نقسم كلامنا عن حكم المأمون إلى مدتين: المدة الخراسانية، والمدة البغدادية، وفي بيان هاتين المدتين بيان للحالة السياسية الداخلية في عصره، وهو ما سنعالج الكلام فيه الآن. (2) السياسة الداخلية
ملخص الحالة العامة في المدة الخراسانية
اطلعنا في دور النزاع بين الأخوين على شيء غير قليل من تصرفات الفضل بن سهل وتدبيراته، ووقفنا على أثره العظيم في الدولة، كما اطلعنا على ما كان من نجاح طاهر بن الحسين وهرثمة بن أعين في حروبهما للجيوش الأمينية.
ونتساءل الآن، بعد أن تم الأمر للمأمون وحزبه وخلا الجو إلى حد كبير للفضل بن سهل: أمن المعقول أن تستطيع هذه الشخصية البارزة، الفارسية المنبت والنزعة، ذات البيت الكبير والحماة والأصدقاء، والعفاة والأنصار، أن تحتمل أن يكون إلى جانبها شخصيات بارزة من العرب كهرثمة بن أعين، وأبطال من ذوي الفضل العظيم والدور الأول في النجاح كطاهر بن الحسين؟
نحن نعلم ما كان من أبي مسلم الخراساني مع أمثاله من القادة والكماة، كما نعلم ما كان نصيبه من الخليفة المنصور، نعلم ذلك كما نعلم الكثير من أمثال ذلك، وإنه ليلوح لنا من غير أن نعدو الصواب كثيرا أنه في مقدورنا أن نجيب عن تساؤلنا هذا. إن المعقول في طبيعة هذه الشخصيات الفذة في تلك الأزمان المطلقة الحكم أنها تعمل على إزالة كل الشخصيات البارزة من طريقها؛ ليكون ذلك لأطماعها ممهدا، ولخططها معبدا.
يلوح لنا أنا لا نعدو الصواب إذا قلنا ذلك؛ إذ إن هذا هو ما فعله الفضل بن سهل مع الظاهرين وأصحاب الكلمة في الدولة، فإن التاريخ ينبئنا أنه رأى مستقبله ومستقبل حزبه يكون مهددا إذا بقى طاهر وهرثمة في العراق، فاستصدر أمرين ملكيين: أولهما بتولية شقيقه الحسن بن سهل جميع ما فتح بجهود طاهر وقيادته الحكيمة وإخلاصه للقضية المأمونية. ينبئنا بأنه نصبه على كور الجبال وفارس وعلى الأهواز والبصرة، وعلى الكوفة والحجاز واليمن، كما ينبئنا بأنه ولى طاهرا الموصل والجزيرة والشام والمغرب. ولكي يتم الأمر بإبعاده كتب إليه أن يسلم الحسن بن سهل جميع ما بيده من الأعمال، وأن يبادر في الشخوص إلى الرقة لمحاربة نصر بن شبث. وثانيهما إلى هرثمة بن أعين يكلفه به أن يشخص إلى خراسان.
ولنتساءل الآن: هل كان من المصلحة السياسية هذه الصدمة العنيفة لزعيمين قويين أحسنا البلاء في الدولة، ولهما مكانتهما ولهما حزبهما؟
وهل كل من المصلحة السياسية إخلاء العراق وهو مصدر الشقاق والنفاق والعصيان والعدوان من هرثمة وطاهر؟
وهل كان من المصلحة السياسية أن يترك المأمون مسألة كمسألة تعيين الحسن بن سهل وإقصاء هرثمة وطاهر تمر هكذا؛ فيستغلها الدعاة على ملكه من بني هاشم ممن لم يكن لهم حظ في دولته، ومن غير بني هاشم ممن يودون زوال الملك الهاشمي، فيقول - فيما يقولون عنه: إنه غلب على أمره، أو أن الفرس ملكوا زمامه، أو أن الفضل بن سهل أنزله قصرا فحجبه عن رجالات دولته، وأن السلطان ومقاليد السلطان قد نزعت منه؟
نعود نتساءل: أكان ذلك كله من مصلحته السياسية؟
لم يكن ذلك من المصلحة السياسية طبعا، لا سيما أنه لم تسكن الفتن والثورات بعد في الأقطار المأمونية، ولكنا نميل إلى اعتقاد أن المأمون كان مرغما على الوقوع في هذه الغلطة السياسية وهو ذلك السياسي المحنك والداهية القدير، كما رأيت وكما سترى في موضعه؛ لأن لظروف الأحوال نصيبها في ذلك التصرف منه ومن غيره ممن يكون في مكانه، ولأنه ربما تحاشى بتصرفه ذلك خطرا أجسم، وأوسع نطاقا، وأبعد مدى؛ وهو خطر إغضاب الفضل بن سهل وجماعة الفضل بن سهل.
ومهما يكن من شيء، فإن هذه التصرفات التي كانت من الفضل بن سهل وإقرار المأمون لها، وبقاء المأمون بعد أن تم له الأمر في مرو دون بغداد عاصمة الخلافة العباسية، كانت لها نتائجها السيئة في شيعة المأمون وأنصاره من جهة، وفي أعدائه والراغبين عن سلطانه من جهة أخرى، ذلك بأن أنصار المأمون وقواده ، ونخص بالذكر منهم طاهر بن الحسين وهرثمة بن أعين، قد كسر قلوبهم وفل من عزائمهم، أن يكون جزاؤهم على فوزهم وحسن بلائهم وإخلاصهم تلك التصرفات السيئة التي كانت نصيبهم من المأمون ومن حاشية المأمون.
هذا كان أثرها في شيعته وخاصة أنصاره، وأما غير هؤلاء فقد جعلت هذه التصرفات ألسنتهم تنطلق باتهام المأمون بأنه يميل إلى الخراسانيين، وأنه أصبح آلة في أيديهم يحركونه كما يشاءون، وقد حدث من جراء هذه الإشاعات وفتور همة أنصار المأمون الذين لم يجازوا الجزاء الأوفى أن اضطربت الأمور وكثرت الفتن، ووجد أعداء المأمون الفرصة سانحة لتحقيق أطماعهم، ومن تلك الفتن ما يحدثنا التاريخ عنه من خروج محمد بن إبراهيم العلوي المعروف بابن طباطبا بالكوفة، وقد قام بتدبير أمره رجل من رجالات هرثمة بن أعين وكبار أنصاره، وقد خرج لأنه حبس عنه ما كان يعطاه من رزق. هذا الرجل هو أبو السرايا السري بن منصور، وكان هو الخارج على المأمون في الواقع لا ابن طباطبا، وقد بلغ من أمره أن ضرب الدراهم وجند الجنود حتى اضطر الحسن بن سهل أن يسترضي هرثمة ويستعينه؛ ليكفيه شر هذا الخارج القوي.
ويظهر أن موت الزعماء كان طلسما من الطلاسم أو سرا من الأسرار، أو صناعة من الصناعات الخفية؛ فإنا نجد أن محمد بن إبراهيم هذا، الذي سمت منزلته بين أتباعه وعظمت طاعتهم له، قد مات بعد أن كتب النصر للقائم بتدبير أموره على سليمان بن جعفر والي الكوفة من قبل المأمون، ثم نرى هذا المنتصر يولي مكانه غلاما أمرد حدثا هو محمد بن محمد بن زيد العلوي.
وتعال معي لننظر في حوادث سنة تسع وتسعين ومائة؛ ففيها ما يكشف القناع عن أمور جسام تفيدنا في تفهم الروح الحزبية بين العلويين والعباسيين، وتفيدنا أيضا في إماطة اللثام عن سبب هام من الأسباب التي يرجع إليها تبرم بعض الولاة الكفاة بدولة الفضل بن سهل، وانفراده هو وجماعته بمراتب الدولة ووظائفها.
تعال ننظر في حوادث تلك السنة، فنجد فيها أن هرثمة جد في طلب أبي السرايا صديقه بالأمس ومنازله اليوم، حتى وصل إلى قصر ابن هبيرة، فكانت بينهما وقعة شديدة قتل فيها من أصحاب أبي السرايا خلق كثير، أليس في هذا ما يقنعك بأن إيماضة رضا وابتسامة تشجيع، لرجل من رجالات الدولة، كافية لأن ينهض فيحارب زميله ويقاتل خدنه؟ ثم نجد في تلك السنة فيها أن محمد بن محمد وثب ومعه الحزب الطالبي على دور بني العباس ودور مواليهم وأتباعهم بالكوفة، فانتهبوها وخربوها وأخرجوهم من الكوفة، واستخرجوا الودائع التي كانت لهم عند الناس فأخذوها، وعملوا في ذلك عملا قبيحا، وتجد كذلك فيها أن مسرورا الكبير، الخادم الرشيدي، قد حج تلك السنة في مائتي فارس من أصحابه، وأنه عبي لحرب من يريد دخول مكة وأخذها من الطالبيين، وأنه قال لعامل مكة داود بن عيسى: أقم لي شخصك أو شخص بعض ولدك وأنا أكفيك قتالهم، فقال له داود: لا أستحل القتال في الحرم، والله لئن دخلوا من هذا الفج لأخرجن من الفج الآخر، فقال له مسرور: تسلم ملكك وسلطانك إلى عدوك ومن لا تأخذه فيك لومة لائم في دينك ولا حرمك ولا مالك؟! قال له: أي ملك لي؟! والله لقد أقمت معهم حتى شخت فما ولوني ولاية حتى كبرت سني، وفني عمري، فولوني من الحجاز ما فيه القوت، إنما هذا الملك لك ولأشباهك، فقاتل إن شئت أو دع.
هذه حالة نفسية لبعض الولاة العرب قد يكون من النفع أن تلاحظ تبرمها وسخطها من سياسة العصر، أو من الهيمنة الفارسية على شتى أمور الدولة عامة، والجسيمات منها خاصة في ذلك العصر، وربما كانت هذه الحالة النفسية تمثل لك حالات كثيرة من نفسيات العرب لذلك العهد.
ثم لننظر في حوادث سنة مائتين، فنجد أن زيد بن موسى الطالبي المعروف ب «زيد النار» كان بالبصرة، وإنما سمي «زيد النار» لكثرة ما حرقه من دور العباسيين وأتباعهم في البصرة، وكان إذا أتي برجل من المسودة العباسية كانت عقوبته عنده أن يحرق بالنار، ونجد فيها أن إبراهيم بن موسى الطالبي قد خرج باليمن، ونجد أيضا أن الكعبة وخزائنها وأحجارها الكريمة لم تسلم من أبي السرايا وأتباعه العلويين، وكم حبس من العباسيين وكم آذى! حتى ندب محمد بن مسلمة الكوفي لتولي عذاب العباسيين، فأسرف في ذلك حتى سميت داره ب «دار العذاب»، ونجد أيضا أن خارجيا آخر وهو حسن بن حسين أراد اقتفاء ما رسمه أبو السرايا، فذهب إلى علوي وداع محبب معروف في مكة والمدينة وهو محمد بن جعفر ونصبه خليفة اسما، وجعل السلطان بيده فعلا.
ونجد فيها قبائح وفضائح لحسن بن حسين هذا مع زوجة قرشية من بني فهر، وزوجها من بني مخزوم، ولها جمال بارع، فاغتصبها من زوجها، ونجد فيها مثل ذلك الصنيع المعيب من علي بن محمد، الخليفة المنصوب، مع ابن القاضي إسحاق بن محمد، وكان جميلا بارعا في الجمال.
نجد ذلك كله ونجد الكثير من أمثاله مما أدى إلى إثارة الرأي العام في مكة، فاحتجوا حتى رد الصبي لأبيه مكرها مرغما! ونجد فيها أمثلة عدة لاستلاب أموال الناس، كما نجد فيها رجلا عباسيا موتورا من العلويين، وهو محمد بن الحكيم، ممن كان الطالبيون قد انتهبوا داره وعذبوه عذابا شديدا، عثر على محمد بن جعفر الطالبي الخليفة المنصوب، وقد طرد شر طردة، وكان في مقدوره أن يقتله فلم يفعل، فلنقيد هذه الحادثة فإنها تنفعنا في تفهم السر الذي كان كثيرا ما يحدو بالمأمون إلى احترام العلويين وتقدير مكانتهم والعمل على إرضائهم؛ لأن لهم حرمة في نفوس حزب غير قليل من الشعب.
ونجد في السنة ذاتها أن الحج قد تولاه أكثر من شخص لتعدد السلطات، فندب المأمون أبا إسحاق بن هارون الرشيد، ووجه إبراهيم بن موسى الطالبي الذي خرج باليمن رجلا من ولد عقيل بن أبي طالب، كما وجه غيره من يمثله، مما يدل على الفرقة والانقسام وعلى الفوضى والاضطراب، فلتتعرف ذلك جيدا.
ويجدر بنا هنا أن نبين نتائج الحالة الحزبية بين الفريقين؛ فقد بلغ أبا إسحاق بن الرشيد أن الجماعة الطالبية التي أتت من اليمن للحج قد مرت بها قافلة من الحاج والتجار، وفيها كسوة الكعبة وطيبها، فاستلبت أموالهم وطيبهم، فندب لهم محمد بن عيسى بن يزيد الجلودي الذي أحدق بهم فأسر أكثرهم، وهرب من هرب منهم، وأخذ منهم الطيب وأموال التجار والحاج فوجه به إلى مكة، ودعا بمن أسر من أصحاب العقيلي العلوي فأمر بهم فقنع كل رجل منهم عشرة أسواط، ثم قال لهم: «اعزبوا يا كلاب النار، فوالله ما قتلكم وعر، ولا في أسركم جمال» وخلى سبيلهم. ولنلاحظ تسميته لهم ب «كلاب النار».
وإنا نلخص لك الحوادث التي وقعت بعد أن قمع هرثمة ثورة أبي السرايا التي انتهت بقتله عام 200ه وإخماد فتنته، معتمدين في ذلك على الطبري والأستاذ «ميور» خاصة.
لما قمع هرثمة ثورة أبي السرايا عاد إلى نهروان دون أن يعرج على والي بغداد، وهناك وافاه أمر الخليفة بتوليه حكم سوريا وبلاد العرب، وكان قد اعتزم الذهاب بعد ذلك إلى «مرو» مباشرة ليكشف للخليفة عن حقيقة الموقف وحرجه الذي يخفيه عنه وزيره الفضل، بسبب بقاء الخليفة في «مرو»، وأن الغرب سينتقض عليه سريعا ويخرج من يده إذا هو لم يبادر إلى العودة إلى بغداد، فلما أحس الفضل عزم هرثمة على القدوم فطن إلى ما ينويه، فدس له عند المأمون حتى أوغر صدره عليه، وكادت السنة تنتهي قبل أن يذهب هرثمة إلى «مرو»، فلما ذهب خشى أن يكتم الفضل خبر قدومه عن المأمون، فدق الطبول عند دخوله المدينة، فلما علم الخليفة الموغر الصدر بقدومه أمر بإحضاره، فلما مثل بين يديه بالغ في تقريعه وتأنيبه على توانيه في تسكين ثورة أبي السرايا، وفي مخالفة ما أصدره إليه من أمره بالذهاب إلى ما ولاه من أعمال، وما كاد هذا القائد يهم بالكلام ويشرح لمولاه الحالة حتى هجم عليه الحرس الذين أسر إليهم الفضل أن يغلظوا في تعذيبه، فانهالوا عليه ضربا ولكما على وجهه وجسمه ثم سحبوه بسرعة إلى السجن حيث مات به بعد زمن قصير متأثرا بجروحه، ولقد اعتقد عامة الناس أن الذي أماته هو الفضل.
وهكذا انطوت صحيفة هذا الباسل العظيم الذي ذب عن ملك المأمون، وكافح في توطيد دعائم الدولة من إفريقية إلى خراسان، والذي يرجع إليه الفضل الأكبر في انتصار المأمون على أخيه المخلوع.
ومات هذا القائد العظيم ضحية للسعاية ونكران الجميل كما مات أمثاله من قبل من صناديد هذه الدولة من جراء السعاية والمنافسة، ومن جراء أعمال البطانة ودسائس الحاشية.
ولنتساءل: ماذا كانت نتيجة قتل هرثمة؟
يحدثنا التاريخ أن هرثمة كان محبوبا في الغرب، وأن موته أحدث فتنا وقلاقل في بغداد، وثارت الجنود في وجه الحسن بن سهل؛ إذ عدوه آلة في يد أخيه الفضل الذي كانوا ينعتونه بالمجوسي، وبعد قتال دام ثلاثة أيام طردوا الحسن من المدينة، فلجأ إلى «المدائن» ثم ارتد إلى «واسط»، واستمرت الفتن والقلاقل بعد ذلك قائمة ببغداد شهورا عدة نشطت في خلالها عصابات اللصوص وشراذمة الصعاليك، وشمرت عن ساعدها في أعمال النهب والسلب حتى طغى سيل غاراتهم على تلك المدينة المنكودة التي أصبحت تحت رحمتهم.
ويحدثنا التاريخ أنهم قد أسرفوا في ذلك إسرافا عظيما مما فزع له أعيان المدينة ووجهاؤها، فأجمعوا أمرهم على صد هؤلاء السفلة الأشرار ودفع غائلتهم عن المدينة وأهلها، ولما تم لهم ما أرادوا اختاروا من بينهم رجلين من ذوي الفضل والمكانة فيهم وولوهما تدبير الحكم ريثما تستقر الحال ويعود الأمن إلى نصابه، ثم عرضوا عرش الخلافة على المنصور بن المهدي والبيعة له، فتأبى عليهم ولكنه عاد وقبل أن يتولى الحكم باسم الخليفة المأمون.
ولم توشك هذه السنة أن تنتهي حتى كان قواد الجند في بغداد قد سئموا القتال، فاتفقوا مع الحسن بن سهل الوالي فعاد إلى بغداد بعد أن أصدر عفوا عاما، ووعد بأنه يدفع للجند رواتبهم عن ستة أشهر، وبأن يدفع كذلك لذوي المعاشات أرزاقهم حسبما هو مدرج بقوائمهم. •••
ولنتساءل الآن: ماذا حدث بعد ذلك؟
حدث أنه ما كاد الأمر ينتهي على هذه الشروط حتى عادت الفتنة والاضطراب أشد مما كانا عليه؛ ذلك بأن المأمون لغرض سياسي أو لنزعة شيعية أو لتقدير كفاية خاصة استدعى واحدا من سلالة سيدنا علي، وهو «علي الرضا» رضي الله عنه، وهو ثامن أئمة الشيعة أو حزب العلويين إلى «مرو»، واختاره وليا لعهد الخلافة مع أنه يكبره باثنتين وعشرين سنة.
وربما كان المأمون في رأيه هذا صادرا عن رأي وزيره الفضل الذي زين له أن هذه أنجح وسيلة لتسكين ثورة العلويين في الغرب، وربما كانت تنجح هذه الوسيلة في التوفيق بين البيتين العلوي والعباسي قبل استفحال الخلف بينهما.
أما وقد استطار الشر بينهم، وقلب بعضهم لبعض ظهر المجن، ولبسوا جلد النمر وتحفزوا للقتال وتداعوا للجلاد، فإن أمر الوفاق بينهم صار حلما، وعاد الإقدام عليه سخفا وحماقة مهلكة.
وماذا ترتب على إسناد ولاية العهد لفرد من العلويين؟
إن التاريخ يحدثنا أنه ترتب على إسناد ولاية العهد لعلي الرضا أن أمر الخليفة ولاته في جميع أنحاء الدولة بأخذ البيعة لولي عهده، ولكي يجعل المأمون الدولة تصطبغ بصبغة العلويين خلع الشعار الأسود، شعار العباسيين، وارتدى الشعار الأخضر، شعار الشيعة، وأمر عماله بالاقتداء به.
وفي أواخر هذه السنة تلقى الحسن بن سهل من أخيه الفضل أمرا بإعلان ذلك وتنفيذه، فكان لذلك الأمر أسوأ أثر في أهل بغداد؛ إذ وقع عليهم كالصاعقة لأن أهلها كانوا يخافون الشيعة ويمقتونهم، وكذلك شعر العباسيون بأن الضربة موجهة للقضاء على خلافتهم، فشقوا عصا الطاعة وهموا بخلع المأمون واختيار خليفة سواه، ولم يعارض زعماء البيت الملكي من العباسيين في ذلك، فلم تأت آخر جمعة من هذه السنة حتى دعي لإبراهيم بن المهدي على المنابر خليفة بدلا من المأمون، وسرعان ما بويع له بالخلافة، وكان إبراهيم بارعا في الموسيقى والغناء والشعر، ولكن كانت تنقصه المؤهلات التي يستطيع بها أن يضطلع بأعباء الملك التي ألقيت على عاتقه، والتي ناء بحملها مدة سنتين.
ثم ماذا كان بعد ذلك؟
نشب القتال بين جنود المأمون وجنود إبراهيم المغتصب للخلافة، فاضطر الحسن بن سهل نائب المأمون أن يرتد إلى واسط مرة أخرى، وخيل إليه أنه إذا جارى أهل الكوفة في ميولهم الشيعية يستطيع أن يضمها إليه، وبدأ ذلك بأن ولى عليها أحد إخوة علي الرضا، ولم يدر أن التوفيق بين عائلتي علي والعباس في مدينة كهذه متقلبة الأهواء ضرب من المستحيل؛ فإن أهلها كانوا على استعداد في أول أمرهم للقاء الحسن كقائد من صميم العلويين، ولكنهم انتقضوا عليه باعتباره الوالي الفارسي من قبل المأمون؛ وعلى ذلك قامت الثورات في هذه المدينة أيضا كما قامت في غيرها.
ثم ماذا حدث بعد ذلك؟
إن التاريخ يحدثنا أنه بينما كان الغرب غارقا في لجج هذه الفوضى حدث في مرو تغيير جديد ذو شأن؛ ذلك أن المأمون قد تنبه في آخر الأمر لحرج الموقف وخطورة الحالة، ومن الغريب أن أول من نبه الخليفة إلى هذا الخطر المحدق به وبعرش آبائه وأجداده هو علي الرضا نفسه، فتبين المأمون أن ولايته للعهد كانت شؤما على الدولة؛ إذ سارت الأمور فيها من سيئ إلى أسوأ زهاء عام منذ توليه.
ويحدثنا التاريخ أن عليا الرضا خلا بالخليفة وكاشفه أن الفضل وزيره يكاتمه حقيقة الحال ويخفي عنه أمور الدولة، وأن أهل العراق يقولون عنه، أي الخليفة: إنه مجنون أو مسحور، وأن الخلافة توشك أن تفلت من يده بين إبراهيم والعلويين، وأن الحسين أخا الفضل يعمل في القضاء على الغرب، بينما طاهر ذلك القائد الباسل الذي يستطيع أن يقود سفينة الدولة إلى شاطئ النجاة منبوذ في سوريا.
وقد أيد هذه الحقائق للمأمون جماعة من قواد الدولة وزعمائها بعد أن أمنهم المأمون من غضب وزيره، ونصحوا إليه بأن خير علاج لسلامة الدولة أن يعجل بالعودة إلى بغداد، وقالوا له: إن هذه كانت نصيحة هرثمة التي جاء من أجلها منذ سنتين ليسرها إليه لو أنه أمهله واستمع له.
فأيقن المأمون أخيرا أن استسلامه للفضل وانقياده له كانا سببا لكل ما حدث من الفتن والثورات، فأمر بانتقال بيت الخلافة إلى بغداد، وما كادوا يحلون بسرخس وهم في طريقهم إلى بغداد حتى وجدوا الفضل قتيلا في حمامه - وكان الفضل قبل ذلك قد اضطهد جماعة القواد والزعماء الذين كشفوا أمره عند الخليفة - فوعد الخليفة بمكافأة لمن يأتيه بالقتلة، ولما قبض عليهم دافعوا عن أنفسهم بأنهم إنما قتلوه بأمر مولاهم الخليفة، ولكن لم يغنهم دفاعهم شيئا وضربت أعناقهم، وبعث الخليفة برءوسهم إلى الحسن بن سهل مشفوعة بكتاب تعزية منه، ووعده فيه بأنه سيستوزره خلفا من أخيه، وبلغ من عطف الخليفة عليه، أو من سياسته وحكيم تدبيره أن عقد زواجه من ابنته بوران التي كانت إذ ذاك، فيما قيل، طفلة في الحول العاشر من عمرها، ولم يدخل بها إلا بعد ثمان سنين بعد ذلك، وفي الوقت نفسه زوج إحدى بناته لعلي الرضا الذي كان في ذلك الوقت قد بلغ الرابعة والخمسين من عمره، كما زوج بنتا له أخرى من ابن علي الرضا، وكذلك ولى أحد إخوة علي الرضا إمرة الحج، وبهذه المصاهرة تمت مظاهر حسن العلاقات وتوثيق العرا بينه وبين الحزب العلوي، وكانت هذه المصاهرة في ذاتها تصرفا سياسيا آية في الحكمة والسداد.
لم يمض بعد ذلك غير قليل حتى حدث حادث آخر لم يكن متوقعا؛ ذلك أنه في أثناء سفر الخليفة إلى بغداد نزل بطوس في فصل الخريف، وهناك مات علي الرضا فجأة وقيل: إن موته كان بسبب إفراطه في أكلة عنب، فدفنه المأمون بجوار قبر أبيه الرشيد، فاهتزت الدولة لموته الفجائي الذي جاء عقب مقتل الفضل، وإنه لمن المعقول في مثل هذه الأحوال أن تنتشر الإشاعات، وتكثر الأراجيف في سبب موته، كما أنه من المعقول أيضا في مثل هذه الأحوال أن يصعب الوقوف على الحقيقة لتضارب الإشاعات وتناقض الأراجيف واختلاف وجهات النظر، وقد قيل فيما قيل: إن المأمون دس له السم في العنب، بيد أن الرعاية التي أظهرها المأمون لعلي الرضا خصوصا بعد توثيق عرا العلاقات بعد المصاهرة قد تدفع هذه الشبهة عن الخليفة.
إنا لا نمنعك من أن تفترض من جهة أخرى أن الفضل وعليا كانا عقبة كأداء في سبيل المأمون لا يزيلها من سبيله إلا موتهما، ويجوز لك أن تذهب في التدليل على أن المأمون كان يعد عليا عقبة في سبيل إرضاء أهالي بغداد، إلى أنه في الوقت الذي كتب فيه كتاب تعزية إلى الحسن بن سهل ينعى فيه موت علي أرسل كتابا آخر إلى أهل بغداد يقول لهم فيه: إن عليا الذي أظهروا سخطهم وتبرمهم من إسناد ولاية العهد له قد قضى، فلا شيء إذن يمنعهم الآن من العودة إلى طاعته وموالاته.
على أنا لا نجاريك في هذا الافتراض لما بيناه لك من ناحية، ولأن نفسية المأمون وخلقه، مما ستقف عليه قريبا، لمما يجعل هذا الافتراض واهنا ضعيفا.
أما فيما يختص بكتاب المأمون إلى البغداديين بشأن موت علي الرضا فنقول لك: إنه وإن لم يحدث أثره المطلوب تماما في نفوس البغداديين لأنهم أجابوا عنه بكتاب جاف فاتر، إلا أنه قد خطا به خطوة ما في سبيل استمالة أهل بغداد، وفي هذا الوقت أخذ أنصار إبراهيم القلائل ينفضون من حوله لضعفه وسوء تدبيره في إدارة الحكم، وتخلى عنه جنوده ولم يتقدموا لمدافعة جنود المأمون، وسقطت المدائن التي كان فيها مقر خلافته في أيدي جنود المأمون وساءت أحواله واضطرب نظام ملكه في فصل الشتاء، ولما دنا قواد المأمون وجنوده للعاصمة لمهاجمتها خرج إليهم قواد المدينة وزعماؤها يظهرون ولاءهم وطاعتهم للمأمون.
وما كادت تنتصف السنة حتى استولى قواد المأمون على المدينة، وحتى اختفى إبراهيم كما اختفى غيره ممن كانوا قد خرجوا على المأمون، وذلك بعد أن عانت ما عانت من ضروب الفوضى واختلال الأمن وسقم الحال مدة سنتين تقريبا، وبقى مختفيا فيما يقال ثماني سنين ثم قبض عليه متنكرا في زي امرأة، ثم عفا عنه المأمون. وسنذكر ذلك في موضعه.
ملخص الحالة العامة في المدة البغدادية - دخول المأمون بغداد (في صفر سنة 204ه/أغسطس سنة 819م)
لما خمدت ثورة بغداد وفر إبراهيم بن المهدي مختفيا، واستقر النظام وعاد أهلوها إلى الطاعة والولاء لخليفتهم تقدم إليها المأمون متئدا في سيره، إذ كان يقف في أثناء سفره بالمدائن التي يمر بها كي يعيد إليها الأمن ويقر فيها النظام، فأقام في جرجان شهرا كما أقام في النهروان ثمانية أيام، فخرج لاستقباله أهل بغداد يتقدمهم أهل بيته وقواده ووجوه المدينة احتفاء بقدومه إليهم.
وكان المأمون قد كتب في أثناء سفره إلى طاهر وهو في الرقة أن يوافيه في النهروان، فوافاه بها، ثم تقدم بعد ذلك ودخل بغداد في صفر سنة 204ه/أغسطس سنة 819م.
وكان لا يزال الشعار الأخضر شعار العلويين الذي اتخذه المأمون وهو في مرو شعار الدولة، فما زال به كبار قواده وأهل بيته حتى طرحه واستبدل به الشعار الأسود شعار العباسيين.
ويحدثنا يحيى بن الحسن أن المأمون لبس الخضرة بعد دخوله بغداد تسعة وعشرين يوما ثم مزقت، ثم خلع الخلع السنية على من حضر من القواد والأشراف ورجالات الدولة، وعفا عن الفضل بن الربيع وزير الأمين الذي كان اختفى بعد مقتله ثم ظهر مساعدا لإبراهيم بن المهدي في ثورته، وكذلك عفا عن عيسى وزير إبراهيم مع أنهما كانا رأسي الفتن والقلاقل التي أثيرت على حكم المأمون، فكان موقف المأمون معهما غاية في التسامح والكرم.
ولم يكن قد استقر الأمر والنظام في جميع أنحاء الدولة بدخول المأمون بغداد، فقد كان لا يزال نصر بن شبث خارجا في سوريا، وكانت لا تزال مصر مسرحا للفتن والقلاقل، وبابك الخرمي يعظم خطره في شمال فارس، والزط لا يزالون يعيثون في الأرض فسادا على الخليج الفارسي. وسنقص عليك في موضعه ما وصلت إليه هذه الثورات وكيف أخمدت.
ثم ولي المأمون طاهرا حاكما على بغداد، وأقام ابنه عبد الله واليا على الرقة خلفا من أبيه، غير أن المأمون لم يلبث أن تنكر لطاهر وأظهر له الجفوة، ثم نرى بعد قليل أن طاهرا ولي حاكما على خراسان.
وقد كنا نكون في حيرة من أمر هذا التنكر الفجائي من الخليفة على رجله العظيم من غير سبب ظاهر، ثم ينتهي ذلك بأن يكون حاكما على خراسان، لولا أن ابن طيفور يروي لنا أسباب كل هذا في قصة ممتعة ملخصها: أن طاهرا دخل على المأمون ذات يوم في حاجة، وكان المأمون فيما قيل في مجلس شراب، فأمر له برطلين من النبيذ، ثم بكى المأمون وتغرغرت عيناه فقال له طاهر: يا أمير المؤمنين، لم تبكي، لا أبكي الله عينك؟! فوالله لقد دانت لك البلاد، وأذعن لك العباد، وصرت إلى المحبة في كل أمرك، فقال: أبكى لأمر ذكره ذل، وستره حزن، ولن يخلو أحد من شجن؛ فتكلم بحاجة إن كانت لك. فما زال طاهر بعد ذلك يتخذ الوسائل إلى معرفة السبب حتى وفق بالمال إلى إغراء ساقي المأمون أن يتعرف كنه ذلك السبب، فلما تغدى المأمون ذات يوم قال لساقيه: يا حسين، اسقني، قال: لا والله لا أسقيك أو تقول لم بكيت حين دخل عليك طاهر! قال: يا حسين، وكيف عنيت بهذا حتى سألتني عنه؟ قال: لغمي بذلك، قال: هو أمر إن خرج من رأسك قتلتك، قال: يا سيدي، ومتى أخرجت لك سرا؟! قال: إني ذكرت محمدا أخي وما ناله من الذلة فخنقتني العبرة، فاسترحت إلى الإفاضة، ولن يفوت طاهرا مني ما يكره! قال: فأخبر حسين طاهرا بذلك، فركب طاهر إلى أحمد بن أبي خالد وهو وزير المأمون فقال له: إن الثناء مني ليس برخيص، وإن المعروف عندي ليس بضائع، فغيبني عن عينه، فقال له: سأفعل؛ فبكر علي غدا.
قال وركب ابن أبي خالد إلى المأمون، فلما دخل عليه قال له: ما نمت الليلة، فقال له: ولم ويحك! قال: لأنك وليت غسان خراسان وهو ومن معه أكلة رأس،
1
فأخاف أن يخرج عليك خارجة من الترك فيصطلمه؛ قال: لقد فكرت فيما فكرت فيه، قال: فمن ترى؟ قال: طاهر بن الحسين، قال: ويلك يا أحمد! أهو والله خالع؟ قال: أنا الضامن له، قال له: فأنفذه، قال: فدعا بطاهر من ساعته.
ويظهر أن المأمون، فيما ذكر الرواة، لم يكن مطمئنا مع ضمان وزيره لطاهر إلى تعيينه حاكما على خراسان، فإن بعض الرواة يقول: إن المأمون أسر إلى خصي له أمين بمرافقة طاهر حتى إذا رأى منه خروجا دس له السم.
ثم لم يلبث طاهر بعد أن تولى شئون خراسان وأدارها بحزم وسداد رأي حتى ظهر منه ما كان يخشاه المأمون من خروج وعصيان، فقد أسقط اسم المأمون من خطبة الجمعة، وذكر دعاء مبهما لنصرة الدين، فأنفذ عين المأمون عامل البريد فورا بكتاب إلى المأمون يخبره فيه بما وقع من طاهر، ثم نرى المأمون يتوقع مجيء كتاب آخر وينتظره بفارغ الصبر في اليوم التالي لورود الكتاب الأول، وقد جاءه هذا الكتاب فعلا ينعى طاهرا الذي وجد ميتا في فراشه.
ونحن نرى بعد أن ذكرنا ما ذكرنا أنه لم يبق شيء من الغموض في هذه الناحية من عصر المأمون، وأن تصرفات المأمون مع طاهر ثم خروج طاهر عليه ثم موت طاهر بعد ذلك كلها حوادث واضحة الأسباب معقولة النتائج، ولا نستطيع أن نماشي الأستاذ «ميور» الذي يرى أن على هذه الحوادث جميعها غشاء من الغموض كثيفا.
ثم رأى المأمون بعد موت طاهر أن يولي مكانة ابنه طلحة، وأن يستبقي ابنه عبد الله واليا على الجانب الغربي من الخلافة، ليقمع ما فيه من ثورات ويسكن ما به من اضطراب، ثم أرسل وزيره مع طلحة ليقوي دعائم سلطانه في ولايته، فشخص الوزير إلى ما وراء النهر وقام بحملة موفقة على بعض العصاة ثم قفل راجعا إلى بغداد مزودا، فيما يقول الرواة، بهدية نفيسة له من طلحة مقدارها ثلاث آلاف ألف درهم، ولكاتبه بأخرى مقدارها خمسمائة ألف درهم.
أما طاهر الذي توفي في فراشه، وربما كان الذي يعلم سر وفاته قبل سواه هو المأمون وبطانته؛ فقد قدمنا لك شيئا في كلمتنا عن النزاع بين الأخوين عن عظيم خطره، وحسن بلائه وخبرته بالحروب، ولا يقل خطره في تدبير الحكم وشئون السياسة عن خطره في الحرب، وكان مع ذلك مشغوفا بالعلم والأدب مشجعا لأربابهما، حاثا على تعلمهما، وليس أدل على تبريزه في العلم والأدب وخبرته بشئون السياسة وبصره بتصرف الأيام من عهده الذي كتبه إلى ابنه عبد الله. ولسنا نرى ما نقدم به إليك هذا العهد خيرا من وصف المأمون له حين بلغه، وتقديره له واحتفائه به واستنساخه ثم إرساله إلى عماله في الولايات، قال ابن طيفور: لما عهد طاهر بن الحسين إلى عبد الله ابنه هذا العهد تنازعه الناس وكتبوه وتدارسوه، وشاع أمره حتى بلغ المأمون فدعا به وقرئ عليه وقال: ما بقى أبو الطيب شيئا من أمر الدين والدنيا والتدبير والرأي والسياسة، وإصلاح الملك والرعية وحفظ البيعة وطاعة الخلفاء وتقويم الخلافة إلا أحكمه وأوصى به وتقدم فيه. وأمر أن يكتب بذلك إلى جميع العمال في نواحي الأعمال.
وكانت كتابة هذا العهد من طاهر لابنه عبد الله حين اختار المأمون عبد الله لولاية مصر ولمحاربة نصر بن شبث؛ لما رآه فيه من حزم وفطنة وكفاية وحسن بلاء، وكان عهد أبيه إليه قانونا يطبقه على نفسه أحزم تطبيق، وكان لا يورد شيئا في شأن من شئونه أو يصدره إلا على منهجه وفي حدود إرشاداته.
ولما كان هذا العهد من الوثائق التاريخية التي لها قيمتها العلمية والأدبية والاجتماعية والسياسية آثرنا ذكره، وقد أثبتناه في باب المنثور من الكتاب الثالث في المجلد الثالث فراجعه.
ثورة نصر بن شبث
أما نصر بن شبث الذي وجه عبد الله بن طاهر لمحاربته بعد أن وجه إليه أبوه، فقد كان ممن خرجوا حين اضطرب نظام الدولة وكثرت الأراجيف ونشط أعداء المأمون خاصة والعباسيين عامة؛ لبقاء المأمون في مرو بعيدا عن عاصمة الملك وحاضرة الخلافة.
وكان من الممكن أن يكون مصير ثورة نصر مصير غيرها من الثورات التي خمدت بسرعة لولا أن طاهرا لم يجد في محاربته، وقد ذكر أنه قال للحسن بن سهل حينما ندبه للخروج إلى محاربة نصر بن شبث: حاربت خليفة، وسقت الخلافة إلى خليفة، وأؤمر بمثل هذا! وإنما كان ينبغي أن توجه لهذا قائدا من قوادي! وذكر بعض المؤرخين أن طاهرا فر كالمنهزم أمام نصر بعد معارك حامية بين جنديهما ، ولكنه حرص بعد ذلك على ما بقي في يده من البلاد أن يغير نصر عليها.
ويظهر أن ما يقوله بعض المؤرخين من أن فتور طاهر في محاربة نصر بن شبث يرجع إلى الصدمة التي صدمه بها آل سهل حين حرموه من ثمار فتوحه في العراق له حظ كبير من الحق؛ فإننا لا نسيغ عجز طاهر عن مناهدة نصر وإخضاعه مع ما هو معروف عنه من الدهاء والبصر بالحرب وحسن تعبئته للجيوش، ووضع أدق الخطط لحملاتها، ومع أن وراءه الدولة تمده بما يحتاج إليه من جند وسلاح ومال.
ومهما يكن من شيء فقد كثف أنصار نصر وعظم خطره حتى ذهب إليه نفر من شيعة الطالبيين فقالوا له: قد وترت بني العباس وقتلت رجالهم، فلو بايعت لخليفة لكان ذلك أقوى لأمرك! فقال: من أي الناس؟ فقالوا: تبايع لبعض آل علي بن أبي طالب، فقال: أبايع بعض أولاد السوداوات فيقول: إنه خلقني ورزقني! قالوا: فتبايع لبعض بني أمية، قال: أولئك قوم قد أدبر أمرهم، والمدبر لا يقبل أبدا، ولو سلم علي رجل مدبر لأعداني إدباره، وإنما هواي في بني العباس، وإنما حاربتهم محاماة عن العرب لأنهم يقدمون عليهم العجم. فتأمل قوله هذا طويلا؛ فهو يميط لنا اللثام عن حقائق يجب أن نقف عليها.
يروى لنا التاريخ أن عبد الله بن طاهر الذي نهد لمحاربة نصر بن شبث كتب إلى المأمون يعلمه أنه حصره وضيق عليه وقتل رؤساء من معه، وأنه قد عاذ بالأمان وطلبه، فأمره أن يكتب له كتاب أمان، فكتب إليه أمانا نسخته: «أما بعد، فإن الإعذار بالحق حجة الله المقرون بها النصر، والاحتجاج بالعدل دعوة الله الموصول بها العز، ولا يزال المعذر بالحق المحتج بالعدل في استفتاح أبواب التأييد، واستدعاء أسباب التمكين حتى يفتح الله وهو خير الفاتحين، ويمكن وهو خير الممكنين، ولست تعدو أن تكون فيما لهجت به أحد ثلاثة: طالب دين، أو ملتمس دنيا، أو متهورا يطلب الغلبة ظلما؛ فإن كنت للدين تسعى بما تصنع فأوضح ذلك لأمير المؤمنين يغتنم قبوله إن كان حقا، فلعمري ما همته الكبرى ولا غايته القصوى إلا الميل مع الحق حيث مال، والزوال مع العدل حيث زال، وإن كنت للدنيا تقصد فأعلم أمير المؤمنين غايتك فيها، والأمر الذي تستحقها به، فإن استحققتها وأمكنه ذلك فعله بك؛ فلعمري ما يستجيز منع خلق ما يستحقه وإن عظم، وإن كنت متهورا فسيكفي الله أمير المؤمنين مؤنتك، ويعجل ذلك كما عجل كفايته مؤن قوم سلكوا مثل طريقك كانوا أقوى يدا، وأكثف جندا، وأكثر جمعا وعددا ونصرا منك، فيما أصارهم إليه من مصارع الخاسرين، وأنزل بهم من جوائح الظالمين.
وأمير المؤمنين يختم كتابه بشهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله
صلى الله عليه وسلم ، وضمانه لك في دينه وذمته الصفح عن سوالف جرائمك، ومتقدمات جرائرك، وإنزالك ما تستأهل من منازل العز والرفعة إن أنبت وراجعت إن شاء الله. والسلام».
وقد ذهب عبد الله بن طاهر إلى وجهه في محاربة نصر ولبث في مناهدته حتى اضطره إلى التسليم نحو خمس سنين، وفي أثناء هذه المدة سعى المأمون إلى إخماد الثورة من طريق الصلح، فندب جعفر بن محمد العامري ليؤدي رسالة منه إلى نصر يطلب منه فيها ترك الحرب والجنوح إلى السلم.
وقد كاد يتم الصلح بين الفريقين وتحقن الدماء ويذهب عن الناس في تلك النواحي ما أصابهم من فزع وهلع، لولا خنزوانة
2
في رأس نصر قابلتها أخرى، فيما يقول الرواة، في رأس المأمون، حالتا دون هذه الغاية السامية؛ ذلك بأن نصرا قبل ما اقترحه المأمون، لكنه شرط ألا يطأ بساطه، فلما بلغ المأمون هذا الشرط قال: لا أجيبه والله إلى هذا أبدا ولو أفضيت إلى بيع قميصي حتى يطأ بساطي! ثم كتب إليه المأمون بعد ذلك كتابا هذه نسخته:
أما بعد، فإنك يا نصر بن شبث قد عرفت الطاعة وعزها، وبرد ظلها وطيب مرتعها، وما في خلافها من الندم والخسار وإن طالت مدة الله بك؛ فإنه إنما يملي لمن يلتمس مظاهرة الحجة عليه ، لتقع عبره بأهلها على قدر إصرارهم واستحقاقهم، وقد رأيت إذكارك وتبصيرك لما رجوت أن يكون لما أكتب به إليك موقع منك، فإن الصدق صدق والباطل باطل، وإنما القول بمخارجه وبأهله الذين يعنون به، ولم يعاملك من عمال أمير المؤمنين أحد أنفع لك في مالك ودينك ونفسك ولا أحرص على استنقاذك والانتياش
3
لك من خطائك مني، فبأي أول أو آخر أو سطة أو إمرة إقدامك يا نصر على أمير المؤمنين تأخذ أمواله، وتتولى دونه ما ولاه الله، وتريد أن تبيت آمنا أو مطمئنا أو وادعا أو ساكنا أو هادئا؟ فوعالم السر والجهر، لئن لم تكن للطاعة مراجعا، وبها خانعا لتستوبلن وخم العاقبة، ثم لأبدأن بك قبل كل عمل، فإن قرون الشيطان إذا لم تقطع كانت في الأرض فتنة وفسادا كبيرا، ولأطأن بمن معي من أنصار الدولة كواهل رعاع أصحابك، ومن تأشب
4
إليك من أداني البلدان وأقاصيها، وطغامها
5
وأوباشها، ومن انضوى إلى حوزتك من خراب
6
الناس، ومن لفظه بلده ونفته عشيرته لسوء موضعه فيهم، وقد أعذر من أنذر. والسلام.
ثم أخذ عبد الله يجد في محاربته وحصره حتى ضيق عليه واضطره إلى طلب الأمان، وقد احتفي بنصر وهو ذاهب إلى بغداد خاضعا للخليفة احتفاء عظيما، بيد أن جماعة ممن كانوا ناقمين على المأمون لم يرقهم أن ينتهي الخلاف بينه وبين ثائر قوي، فأرادوا أن يكدروا صفاء السرور فدبروا مؤامرة، وهي أن يقطعوا جسر الزوارق عند اقتراب نصر بموكبه الحافل، فقبض عليهم، ولأمر ما كان المأمون على غير عادته قاسيا في عقابهم، فقد جاء بزعيمهم ابن عائشة، فيما قال الرواة، وهو من بني العباس، ووضعه على باب داره في أشعة الشمس المحرقة ثلاثة أيام، ثم أمر بضربه بالسياط، ثم أمر بضرب عنقه مع كثير ممن كانوا معه.
نقول لأمر ما كان المأمون قاسيا في عقابهم لأن الرجل الذي يصل به عفوه وحلمه إلى أن يعفو عن إبراهيم بن المهدي والفضل بن الربيع وغيرهما من أصحاب الكبائر وممن كادوا له حقا، وسعوا في ضياع ملكه واستلاب عرشه، لا بد أن يكون الدافع له إلى القسوة في عقاب هؤلاء الأشخاص حاجة في نفسه عميت علينا، ونحن نعترف بأن المصادر التي بين أيدينا لم تفسر لنا تفسيرا مقنعا السر في هذا الاشتطاط وهذه المبالغة في العقوبة من المأمون الوديع الحليم.
على أن هذه الحادثة تحتاج إلى تحقيق دقيق، ولم تتح لنا المصادر الحاضرة القيام بتعرف وجه الحق فيها، ولا يستبعد البتة أن يكون المأمون منها براء. وليت أعضاء المجمع العلمي العربي وغيرهم من رجال العلم والتاريخ والأدب يعنون بتمحيص مثل هذه النقط المهمة في تاريخ أزهى عصورنا الإسلامية.
الزط
أما الزط فهم المعروفون بالنورة،
7
وقد قال ابن خلدون عنهم: إنهم قوم من أخلاط الناس غلبوا على طريق البصرة وعاثوا فيها وأفسدوا البلاد.
أما نحن فلا نستطيع من ناحيتنا أن نسلك هؤلاء القوم في سلك أصحاب الثورات، أو الخارجين على الخليفة لنحلة دينية أو مذهب سياسي، وإنما هم طائفة من هنود آسيا كانوا يسكنون شواطئ الخليج الفارسي، قد وجدوا به حين اضطراب الأمن في أطراف الدولة وضعف سلطان الحكومة، وانصراف القائمين بتدبير الشئون العامة إلى أمر الفتنة القائمة بين الأمين والمأمون التي انتهزها الزط وأمثال الزط فرصة للسلب والنهب والعيث في الأرض فسادا، فتجمعوا واستولوا على طريق البصرة، فهم بقرصان البحر وقطاع الطرق أشبه منهم بالثائرين وأصحاب المبادئ.
ويظهر أنهم كما يقول الأستاذ المرحوم محمد الخضري بك: كانوا إذا أخرجهم الجند تفرقوا في تلك الفيافي، فإننا نرى المأمون يكلف غير مرة أكثر من قائد أمر القضاء عليهم، ثم نراهم لا يزالون يعيثون في الأرض فسادا حتى السنة الأولى من عهد المعتصم الذي كلف أحد قواده، عجيف بن عنبسة، القضاء عليهم، فاهتم عجيف بحربهم وضيق عليهم طريق البر والبحر وحصرهم من كل وجه، ثم حاربهم وأسر منهم نحو خمسمائة رجل، وقتل منهم نحو ثلاثمائة، وقطع رءوس الأسرى وبعث بالرءوس جميعا إلى المعتصم، وجد في حربهم حتى اضطرهم إلى التسليم، فإذا عدتهم سبعة وعشرون ألف شخص بين رجل وامرأة وصبي، وكان من هذا العدد اثنا عشر ألف مقاتل، ثم حملهم في السفن إلى بغداد، فمروا على المعتصم بأبواقهم وهيئتهم الحربية ثم نقلوا آخر الأمر إلى قرية تسمى عين زربة.
8
وقد ذكر ابن الأثير في حوادث سنة 241ه في عهد المتوكل أن الروم أغارت على عين زربة هذه فأخذت من كان فيها أسيرا من الزط مع نسائهم وذراريهم وذويهم.
ثورة مصر
أما مصر فقد كانت مسرحا للقلاقل والفتن، وكان رأس الفتنة وزعيمها عبيد الله بن السري بن الحكم الذي عظم خطره باشتغال عبد الله بن طاهر بمحاربة نصر بن شبث وإخضاعه، ومما زاد في اضطراب النظام في مصر قدوم جماعة من أفاقي الأندلس إلى الإسكندرية يحدثنا عنهم الطبري بقوله: حدثني غير واحد من أهل مصر أن مراكب أقبلت من بحر الروم من قبل الأندلس فيها جماعة كبيرة أيام شغل الناس قبلهم بفتنة الجروي وابن السري، حتى أرسوا مراكبهم بالإسكندرية، ورئيسهم يومئذ يدعى أبا حفص، فلم يزالوا بها مقيمين حتى قدم عبد الله مصر.
ويحدثنا عن الفتنة التي كانت بمصر بقوله: قال لي يونس بن عبد الأعلى: قدم علينا من قبل المشرق فتى حدث، يعني عبد الله بن طاهر، والدنيا عندنا مفتونة قد غلب على كل ناحية من بلادنا غالب، والناس منهم في بلاء، فأصلح الدنيا وأمن البريء وأخاف السقيم واستوثقت له الرعية بالطاعة.
أما ما كان من أمر عبد الله بن طاهر في مصر، فإن التاريخ يحدثنا أنه لما انتهى أمر نصر بن شبث، كما قدمنا، كتب المأمون إلى عبد الله يأمره بالتوجه إلى مصر لإخماد ما فيها من فتنة، فذهب إليها وجاد الثائرين القتال حتى اضطرهم جميعا إلى طلب الأمان فأجابهم إليه.
وأما الأندلسيون الذين حضرت جماعة كبيرة منهم إلى الإسكندرية فقد طلبوا الأمان على أن يرتحلوا عنها إلى بعض أطراف الروم، فرحلوا إلى جزيرة إقريطش «كريت» فاستوطنوها وأقاموا بها.
وأما ما كان من ابن السري فإنه طلب الأمان إلى عبد الله، وذلك بعد قتال عنيف وانهزامه شر هزيمة .
ولما أخمدت الفتنة في مصر وبلغ المأمون الخبر كتب إلى عبد الله يهنئه، وجعل في أسفل كتابه أبياتا من الشعر إن ثبت صدورها من المأمون حقا ولم تكن من وضع القصاص والرواة، فإنها تعتبر آية في كرم أخلاق المأمون. وقد ذكرناها في علاقة المأمون مع عماله.
وقد كتب إليه أحمد بن يوسف وزير المأمون يهنئه بهذا الفوز كتابا بليغ اللفظ رشيق الأسلوب هذه نسخته:
بلغني، أعز الله الأمير، ما فتح الله عليك وخروج ابن السري إليك، فالحمد لله الناصر لدينه، المعز لدولة خليفته على عباده، المذل لمن عند
9
عنه وعن حقه، ورغب عن طاعته، ونسأل الله أن يظاهر له النعم، ويفتح له بلدان الشرك، والحمد لله على ما وليك مذ ظعنت لوجهك، فإنا ومن قبلنا نتذاكر سيرتك في حربك وسلمك، ونكثر التعجب لما وفقت له من الشدة والليان في مواضعهما، ولا نعلم سائس جند ورعية عدل بينهم عدلك، ولا عفا بعد القدرة عمن آسفه
10
وأضغنه عفوك، ولقلما رأينا ابن شرف لم يلق بيده متكلا على ما قدمت له أبوته، ومن أوتي حظا وكفاية وسلطانا وولاية لم يخلد إلى ما عفا له حتى يخل بمساماة ما أمامه، ثم لا نعلم سائسا استحق النجح لحسن السيرة وكف معرة الأتباع استحقاقك، وما يستجيز أحد ممن قبلنا أن يقدم عليك أحدا يهوي عند الحاقة والنازلة المعضلة، فليهنك منة الله ومزيده، ويسوغك الله هذه النعمة التي حواها لك، بالمحافظة على ما به تمت لك، من التمسك بحبل إمامك ومولاك ومولى جميع المسلمين، وملاك وإيانا العيش ببقائه، وأنت تعلم أنك لم تزل عندنا وعند من قبلنا مكرما مقدما معظما، وقد زادك الله في أعين الخاصة والعامة جلالة وبجالة، فأصبحوا يرجونك لأنفسهم، ويعدونك لأحداثهم ونوائبهم، وأرجو أن يوفقك الله لمحابه كما وفق لك صنعه وتوفيقه، فقد أحسنت جوار النعمة فلم تطغك ولم تزدد إلا تذللا وتواضعا، فالحمد لله على ما أنالك وأبلاك وأودع فيك. والسلام.
وقد خرج المأمون إلى مصر في 16 من ذي الحجة سنة 216 هجرية أثر شخوصه إلى دمشق للمرة الثانية، وكان خروجه إلى مصر، فيما يقول الرواة، لإخماد ما قام فيها من فتن واضطرابات، وذلك أن أهالي الوجه البحري خرجوا ومعهم أقباط البلاد على عيسى بن منصور عامل مصر؛ لسوء سيرته فيهم ولقبح صنيعه معهم.
ويحدثنا التاريخ أن عيسى هذا قد بذل ما في مقدوره لإخماد الفتنة والقضاء على الثورة، فلم يحالفه الظفر، وأخرجه الثوار أقبح مخرج من البلاد، فقدم القائد التركي المعروف بالأفشين وعمل على قمع الفتنة وإخماد الثورة، وقتل مقتلة ذريعة من الأهلين فسكنت الفتنة إلى حين.
ثم عادت الفتنة ثانية واندلع لهيبها واستدعت خطورتها قدوم المأمون إلى مصر، فجاء إليها ونظر في شكاة الأهلين وعمل على إنصافهم، وسخط على عيسى بن منصور ونسب إليه وإلي سيئ أعماله كل ما حدث في طول البلاد وعرضها من فتن وثورات.
ويظهر أن الثورة المصرية لم تخمد تماما، وأنها تطلبت من المأمون إلى جانب ما أظهره من رغبة في إحقاق الحق وإجراء العدل شيئا من الحزم واستعمال القوة، فجاد الثائرين القتال حتى أذعنوا أخيرا، ويقول المؤرخون: إنه لبث في مصر أربعين يوما أو يزيد؛ إذ قدمها في الخامس من محرم سنة 217ه وبقي بها إلى الثامن عشر من صفر.
ويظهر أنه قضى هذه المدة إلى جانب اشتغاله بحرب أهلها بالتنقل بين العاصمة وبعض الأعمال مثل سنجار وحلوان وغيرهما.
ومن أعماله في مصر تعمير مقياس النيل وبعض إصلاحات أخرى بالجزيرة تجاه الفسطاط. وعاد المأمون أخيرا إلى دمشق بعد أن شهد المصريين وخربهم وعدم احتمالهم ظلم الحكام والولاة.
بابك الخرمي
يخبرنا المؤرخون أن بابك الخرمي قد ظهر من كورة في شمال بلاد فارس تسمى «البذ»، وقد كان خروجه للدعوة إلى مذهبه الإباحي سنة 201ه، وكان المأمون لا يزال في «مرو» قبل أن ينتقل إلى عاصمة ملكه بغداد، وقد امتدت فتنة بابك عنيفة طوال عهد المأمون وصدرا من عهد المعتصم.
وقال أبو سعيد عبد الكريم بن محمد السمعاني المروزي في كتاب الإنساب: «الخرمي»
11
هذه النسبة إلى طائفة من الباطنية يقال لهم الخرمدينية، قوم يدينون بما يريدون ويشتهون، وإنما لقبوا بذلك لإباحتهم المحرمات من الخمر وسائر اللذات ونكاح ذوات المحارم وفعل ما يتلذذون به، فلما شابهوا في هذه الإباحة المزدكية من المجوس الذين خرجوا في أيام قباذ وأباحوا النساء كلهن وأباحوا سائر المحرمات إلى أن قتلهم أنوشروان بن قباذ، قيل لهم بهذه المشابهة خرمدينية كما قيل للمزدكية.
وقبل أن نخوض في تفصيل حوادث هذا الرجل وما بذله المأمون ثم المعتصم في قتاله، ثم ما كان من مصيره بعد ذلك على يد الأفشين قائد المعتصم التركي سنة 221ه، قبل كل هذا نحب أن نورد لك ما ذكره ابن النديم في فهرسته عن مذهب الخرمية البابكية وما يتعلق به؛ لتكون على بصيرة من مذهب الرجل وما كان يدعو إليه من نحلة وبدعة.
قال محمد بن إسحاق: «الخرمية صنفان: الخرمية الأولون ويسمون المحمرة، وهم منتشرون بنواحي الجبال فيما بين أذربيجان وأرمينية، وبلاد الديلم وهمذان ودينور، وفيما بين أصفهان وبلاد الأهواز، وهؤلاء أهل مجوس في الأصل ثم حدث مذهبهم، وهم ممن يعرف باللقطة، وصاحبهم مزدك القديم أمرهم بتناول اللذات والانعكاف على بلوغ الشهوات، والأكل والشرب والمواساة والاختلاط، وترك الاستبداد بعضهم على بعض، ولهم مشاركة في الحرم والأهل لا يمتنع الواحد منهم من حرمة الآخر ولا يمنعه، ومع هذه الحال فيرون أفعال الخير وترك القتل وإدخال الآلام على النفوس، ولهم مذهب في الضيافات ليس هو لأحد من الأمم؛ إذا أضافوا الإنسان لم يمنعوه من شيء يلتمسه كائنا ما كان، وعلى هذا المذهب مزدك الأخير الذي ظهر في أيام قباذ بن فيروز وقتله أنوشروان وقتل أصحابه، وخبره مشهور معروف. وقد استقصى البلخي أخبار الخرمية ومذاهبهم وأفعالهم في شربهم ولذاتهم وعبادتهم في كتاب «عيون المسائل والجوابات» ولا حاجة بنا إلى ذكر ما قد سبقنا إليه غيرنا». «فأما الخرمية البابكية فإن صاحبهم بابك الخرمي، وكان يقول لمن استغواه: إنه إله، وأحدث في مذاهب الخرمية القتل والغصب والحروب والمثلة، ولم يكن الخرمية يعرفون ذلك.»
ثم ذكر صاحب الفهرست بعد ذلك نشأته وما وقع له في بدء أمره حتى صار إمام هذه النحلة التي تنسب إليه، نقلا عن واقد بن عمرو التميمي الذي عمل أخبار بابك، فقال: وكان أبوه رجلا من أهل المدائن دهانا، نزع إلى ثغر أذربيجان فسكن قرية تدعى «بلال أباد» من رستاق «ميمند»، وكان يحمل دهنه في وعاء على ظهره ويطوف في قرى الرستاق، فهوى امرأة عوراء، وهي أم بابك، وكان يفجر بها برهة من دهره، فبينما هي وهو منتبذان عن القرية متوحدان في غيضة ومعهم شراب يعتكفان عليه، إذ خرج من القرية نسوة يستقين الماء من عين في الغيضة، فسمعن صوتا نبطيا يترنم به فقصدن إليه، فهجمن عليهما فهرب عبد الله وأخذن بشعر أم بابك، وجئن بها إلى القرية وفضحنها فيها، قال واقد: ثم إن ذلك الدهان رغب إلى أبيها فزوجه منها فأولدها «بابكا»، ثم خرج في بعض سفراته إلى جبل سيلان واعتراضه من استقفاه وجرحه فقتله، فمات بعد مديدة، وأقبلت أم بابك ترضع للناس بأجرة إلى أن صار لبابك عشر سنين، فيقال: إنها خرجت في يوم من الأيام تلتمس بابكا وكان يرعى بقرا لقوم، فوجدته تحت شجرة قائلا وهو عريان، وإنها رأت تحت كل شعرة من صدره ورأسه دما، فانتبه من نومه فاستوى قائما وحال ما رأت من الدم فلم تجده، قالت: فعلمت أنه سيكون لابني نبأ جليل.
قال واقد: وكان أيضا بابك مع الشبل بن المنقى الأزدي برستاق سراة يعمل في سياسة دوابه، وتعلم ضرب الطنبور من غلمانه ثم صار إلى تبريز من عمل أذربيجان، فاشتغل مع محمد بن الرواد الأزدي نحو سنتين ثم رجع إلى أمه وله ثمان عشرة سنة، فأقام عندها، قال واقد بن عمرو: وكان بجبل البذ وما يليه من جباله رجلان من العلوج متحرمين ولهما جدة وثروة، وكان متشاجرين في التملك على من بجبال البذ من الخرمية ليتوحد أحدهما بالرياسة، يقال لأحدهما: «جاويدان بن سهرك»، والآخر غلبت عليه الكنية يعرف ب «أبي عمران»، وكانت تقوم بينهما الحرب في الصيف وتحول بينهما الثلوج في الشتاء لانسداد العقاب، فإن جاويدان، وهو أستاذ بابك، خرج من مدينته بألف شاة يريد بها مدينة رنجان من مدائن ثغور قزوين، فدخلها وباع غنمه وانصرف إلى جبل البذ، فأدركه الثلج والليل برستاق ميمند، فعاج إلى قرية «بلال أباد» فسأل جريرها إنزاله، فمضى به بالاستخفاف منه بجاويدان فأنزله على أم بابك وما تستبيت من ضنك وعدم، فقامت إلى نار فأججتها ولم تقدر على غيرها، وقام بابك إلى غلمانه ودوابه فخدمهم وأسقى لهم الماء، وبعث به جاويدان فابتاع له طعاما وشرابا وعلفا وأتاه به، وخاطبه وناطقه فوجده على رداءة حاله وتعقد لسانه بالأعجمية فهما، ورآه خبيثا شهما، فقال لأمه: أيتها المرأة، أنا رجل من جبل البذ ولي به حال ويسار، وأنا محتاج إلى ابنك هذا؛ فادفعيه إلي لأمضي به معي فأوكله بضياعي وأموالي وأبعث بأجرته إليك في كل شهر خمسين درهما، فقالت له: إنك لشبيه بالخير، وإن آثار السعة عليك ظاهرة، وقد سكن قلبي إليك، فأنهضه معك إذا نهضت. ثم إن أبا عمران نهض من جبله إلى جاويدان فحاربه فهزم، فقتل جاويدان أبا عمران ورجع إلى جبله وبه طعنة أخافته، فأقام في منزله ثلاثة أيام ثم مات - وكانت امرأة جاويدان تتعشق بابكا، وكان يفجر بها - فلما مات جاويدان قالت له: إنك جلد شهم! وقد مات ولم أرفع بذلك صوتي إلى أحد من أصحابه، فتهيأ لغد، فإني جامعتهم إليك، ومعلمتهم أن جاويدان قال: إني أريد أن أموت في هذه الليلة، وإن روحي تخرج من بدني وتدخل في بدن بابك وتشترك مع روحه، وإنه سيبلغ بنفسه وبكم أمرا لم يبلغه أحد ولا يبلغه بعده أحد، وإنه يملك الأرض ويقتل الجبابرة ويرد المزدكية، ويعز به ذليلكم ويرتفع به وضيعكم، فطمع بابك فيما قالت له واستبشر به وتهيأ له.
فلما أصبحت تجمع إليها جيش جاويدان فقالوا: كيف لم يدع بنا ويوص إلينا؟! قالت: ما منعه من ذلك إلا أنكم كنتم متفرقين في منازلكم من القرى، وأنه إن بعث وجمعكم انتشر خبره، فلم يأمن عليكم شرة العرب، فعهد إلي بما أنا أؤديه إليكم إن قبلتموه وعملتم به، فقالوا لها: قولي ما عهد إليك؛ فإنه لم تكن منا مخالفة لأمره أيام حياته، وليس منا مخالفة له بعد موته ، قالت: قال لي: إني أموت في ليلتي هذه، وإن روحي تخرج من جسدي وتدخل بدن هذا الغلام خادمي، وقد رأيت أن أملكه على أصحابي، فإذا مت فأعلميهم ذلك، وإنه لا دين لمن خالفني فيه واختار لنفسه خلاف اختياري، قالوا: قد قبلنا عهده إليك في هذا الغلام! فدعت ببقرة فأمرت بقتلها وسلخها وبسط جلدها، وصيرت على الجلد طستا مملوءا خمرا وكسرت فيه خبزا، فصيرته حوالي الطست، ثم دعت برجل رجل فقالت: طأ الجلد برجلك، وخذ كسرة واغمسها في الخمر وكلها وقل: آمنت بك يا روح بابك كما آمنت بروح جاويدان، ثم خذ بيد بابك فكفر عليها وقبلها، ففعلوا ذلك إلى وقت ما تهيأ لها فيه طعام، ثم أحضرتهم الطعام والشراب وأقعدته على فراشها، وقعدت معه ظاهرة لهم، فلما شربوا ثلاثا ثلاثا أخذت طاقة ريحان فدفعتها إلى بابك، فتناولها من يدها، وذلك تزويجهم، فنهضوا وكفروا لهما رضا بالتزويج، والمسلمون غريبهم ومواليهم. •••
وبعد، فإنا نستطيع أن نقول مستندين إلى ما ذكره ابن النديم وغيره عن نشأة بابك ومذهبه وتعاليمه: إن الباعث الذي دفعه إلى الخروج غير البواعث التي دفعت نصر بن شبث في الشام، وإبراهيم بن المهدي في بغداد، ومحمد بن إبراهيم المعروف بابن طباطبا في الكوفة، وغيرهم ممن كانوا منقادين بفكرة سياسية أو عامل جنسي، وإنما كان خارجا على النظم السياسية والاجتماعية والاقتصادية في ذلك العصر، وكذلك كانت وجهة نظر بغداد في قتاله ومطاردته.
أجل! لم تكن الغاية في نظر بغداد من قتاله إخضاعه لسلطان الخلافة، حتى إذا أتيح لها إخضاعه رضيت عنه وكفت القتال دونه، وإنما كانت الغاية التي ترمي إليها القضاء على مذهبه وتعاليمه الضارة بنظم الحياة والاجتماع.
وربما جاز لنا أن نقول: إن موقفه من الخلافة الإسلامية في ذلك العصر أشبه شيء بموقف البلاشفة من الأمم المتحضرة في عصرنا الحاضر.
وهاك ما فعله الخليفة المأمون مع بابك والبابكيين بعد ما عاثوا في الأرض فسادا وأخافوا السبل وأثاروا الاضطراب، بعث المأمون لمحاربتهم بعد أن انتقل إلى بغداد يحيى بن معاذ ، فكانت بينهما وقعة لم يتح الفوز فيها لأحدهما على الآخر، ثم اختار المأمون قائدا آخر هو عيسى بن محمد، فولاه أرمينية وأذربيجان ومحاربة بابك، فنكب وفشل، ثم وجه إليه صدقة بن علي المعروف بزريق، وندب للقيام بأمره أحمد بن الجنيد الإسكافي، فأسره بابك، ثم بعث إليه محمد بن حميد الطوسي فقتله بابك سنة 214ه بهشتادسر وفض عسكره وقتل جمعا كثيرا ممن كان معه.
وهكذا كان أمر بابك؛ كلما وجهت إليه حملة هزمها؛ لمكانه الحصين وقوته الكبيرة وشدة تأثيره في قلوب أتباعه وأنصاره، وأخيرا انصرف عنه المأمون لانشغاله بمناوأة الروم، حتى إذا شعر بدنو منيته كتب في وصيته إلى المعتصم بشأن بابك يقول:
والخرمية فأغزهم ذا حزامة وصرامة وجلد، واكنفه بالأموال والسلاح والجنود، من الفرسان والرجالة، فإن طالت مدتهم فتجرد لهم بمن معك من أنصارك وأوليائك، واعمل في ذلك مقدم النية فيه راجيا ثواب الله عليه.
وقد عظم خطر بابك وكثر الداخلون في مذهبه في أول عهد المعتصم سنة 218ه، وما زال به المعتصم يجرد إليه الحملات تلو الحملات حتى انتهى أمره في سنة 221ه بأسره، وقتله ب «سر من رأى»، هو ورهط من أتباعه، على يد قائد المعتصم التركي العظيم حيدر بن كاوس الأشروستي المعروف بالأفشين.
مذاهب ونحل
ويحسن بنا أن نشير هنا إلى أن هذا العصر من العصور الإسلامية قد كثر فيه الاختلاط بين أمم الشرق والغرب، فظهرت في العالم الإسلامي مقالات دينية وفلسفية كثيرة غريبة، أشار إليها مؤرخو الآراء والمذاهب، تجد طرفا منها في فهرست ابن النديم، وطرفا في كتب «الملل والنحل»، وطرفا في كتاب الأستاذ «برون» الذي وضعه عن «تاريخ الفرس الأدبي»، ففيه شيء عن المانية
12
وغيرها، وقد وقف أبو العلاء المعري عند هذه الآراء والمذاهب في «رسالة الغفران» وقفة ممتعة.
على أنا لا نحب أن نعرض لهذه المقالات بشرح أو تفصيل؛ لأنا نحس إحساسا صادقا، وربما كنا فيه على حق، أن الكثير من هذه الآراء والمذاهب لا يزال غامضا لقلة النصوص وعدم غناء المصادر وكفايتها، ونظن أن الاحتياط في مثل هذا الموقف أسلم وأبقى، وكل ما نأمله هنا ونرجوه حقا أن يتجرد لمثل هذا البحث الممتع النافع بعض الذين يعنون بتاريخ الآراء والمذاهب الفلسفية والدينية في الإسلام.
افتراضات
أما وقد انتهينا من كلمتنا الموجزة عن السياسة الداخلية في عصر المأمون، فقد حق علينا أن نتساءل: لماذا مكث المأمون شطرا طويلا من سني حكمه في خراسان دون بغداد عاصمة الخلافة الإسلامية؟
أما أن نزعم لك أنا سنجيبك إجابة دقيقة مقنعة، فهذا ما لا نقبله لك ولا لأنفسنا؛ لأن المصادر التي بين أيدينا لم تكشف لنا القناع عن وجه الصواب في ذلك.
إذن فسنقدم لك آراء لنا في هذا الصدد يجدر بنا أن نعتبرها بمثابة افتراضات لا أكثر ولا أقل.
نفترض أن الفضل بن سهل وجماعة الفضل بن سهل، وحولهم حولهم وسلطانهم سلطانهم، آثروا بقاء المأمون في «مرو» عاصمة خراسان حيث تجبى أموال الدولة إليه؛ ليكون نصيب البقاع الفارسية والشيعة الفارسية من هذه الأموال أوفر.
ونفترض أن المأمون وجماعته كانوا يحسون إحساسا، ربما كان صادقا، أن كبار رجالات الدولة من العرب القاطنين بغداد لم يكن هواهم مع دولته الفارسية الطابع والميول، وأنهم كانوا لذلك يخشون النزوح إلى بغداد قبل لم شعثهم وتقوية سلطانهم.
ونفترض أنهم آثروا القرب من الولايات التي تمدهم بجندها ورجالها، كما آثروا أن يكونوا في أوساطهم الفارسية التي من مصلحتها نصرة المأمون وتوطيد دعائم ملكه، والعمل على خذلان مناوئيه.
هذه افتراضات رأينا أن نقيدها لك لتتأمل فيها، فربما كان بعضها سائغا معقولا، على أن تكون حذرا كل الحذر فلا تتورط في اعتبار كل فرض سائغ معقول لازم الوقوع في التاريخ، فكثيرا ما يقع في التاريخ غير المعقول من الحوادث. (3) السياسة الخارجية
نعتقد أن الوقت لم يأن بعد لدرس السياسة الخارجية في أيام المأمون وغيره من خلفاء المسلمين دراسة علمية محققة؛ ذلك لأن كل ما نعرف من أمر هذه السياسة إنما هو الروايات العربية التي تناقلها المؤرخون متأثرين بأشياء كثيرة.
فقد كان الكثيرون من هؤلاء الرواة يجهلون لغات الأمم الأجنبية التي كانت العلاقات متصلة بينها وبين المسلمين، كما كانوا متأثرين بالحرص على رفع شأن الدولة الإسلامية والتنويه بمجدها وسلطانها؛ فاضطرها هذا كله إلى الغلو حينا، وإلى التقصير حينا آخر.
ولم يظفر البحث بعد بنصوص تاريخية واضحة معاصرة كتبت في غير اللغة العربية، ومع أن الباحثين في تاريخ الإمبراطورية البيزنطية «الروم» جادون في التنقيب على النصوص والآثار التي تجلو تاريخ هذه الدولة في القرون الوسطى، فهم لم يصلوا بعد إلى شيء ذي غناء فيما يمس علاقتها بالدول الإسلامية، فأما الأمم الشرقية الأخر التي كانت على اتصال بالمسلمين فلم تترك لنا شيئا، أو لم نظفر من آثارها التاريخية بشيء ذي قيمة، وإذن فنحن مضطرون إلى أن نعتمد اعتمادا مؤقتا ملؤه الاحتياط والتحفظ على ما كتبه العرب.
ونحن نعلم أن السياسة الخارجية في عصر المأمون كانت تنقسم إلى قسمين متمايزين: الأول سياسته مع دول إسلامية مستقلة عن الخلافة. والثاني سياسته مع دول أجنبية غير إسلامية.
وليس هناك شك في أن سياسة المأمون مع الدول الإسلامية المستقلة كانت واضحة بينة الأسلوب؛ فقد اعتقدت الخلافة العباسية دائما أن المسلمين جميعا يجب أن يذعنوا لسلطانها، وإذن فلم تعترف في وقت من الأوقات باستقلال الأمويين في الأندلس، ولا الأدارسة في المغرب الأقصى، وإنما اعتبرتهم بغاة وعجزت مع ذلك عن إخضاعهم لسلطانها فعلا أو اسما، فاضطرت إلى أن تتقيهم من ناحية، وتؤلب عليهم من ناحية أخرى.
على ذلك نستطيع أن نفهم تشجيعها دولة بني الأغلب في إفريقية وعطفها عليها؛ فقد كانت هذه الدولة تستمتع بشيء من الاستقلال غير قليل، وتظفر بحماية الحلافة؛ لأنها كانت بمثابة الحرس الأمامي الذي يرد عن الخلافة غارات هؤلاء البغاة، ويحول بينهم وبين التوسع على ساحل البحر الأبيض المتوسط.
نستطيع أن نفهم هذا، وأن نفهم أيضا ما نلمحه لمحا في القصص من اتصال علاقات ودية بين بغداد وملوك الفرنج الذين كانوا يناوئون بني أمية في الأندلس.
أما القسم الثاني من السياسة الخارجية فينقسم أيضا إلى قسمين: أحدهما سياسة الخلافة مع أهل الشرق الذين لم يخضعوا لسلطان المسلمين كالترك والديلم، وهذه السياسة واضحة أيضا - على قلة النصوص - فقد كانت سياسة توسع وبسط للسلطان، ولكن في احتياط وتحفظ ومصانعة، وكانت بغداد تعتبر كل هذه الناحية من الشرق منطقة نفوذ تسلك في استغلالها واتقائها عند الحاجة طريقا كلها حكمة وفطنة، فبينما نراها تهاجم فتفتح وتأسر نراها مرة أخرى موادعة محالفة مستخدمة، وهي تستفيد في الحالين، ولكنك تعلم حق العلم ما أنتجته هذه السياسة آخر الأمر حين ضعف الخلفاء، من تسلط أهل هذه المنطقة على أمور الدولة وعبثهم بعظمة الخلافة.
والقسم الثاني هو سياسة الخلافة مع قياصرة «قسطنطينية»، وهذا القسم هو الذي نستطيع أن نقول في غير تردد: إنه احتاج حقا إلى جهود الخلفاء وكفاياتهم؛ فقد كانت العلاقة بين «قسطنطينية» و«دمشق» أيام الأمويين، وبينها وبين «بغداد» أيام العباسيين شديدة الاضطراب والتعقد لا تكاد تستقر على حال، وإنما هي حرب حينا، وسلم حينا آخر.
ومهما يكن من شيء فقد كانت القاعدة الأساسية لهذه السياسة أن الحرب هي الحال الطبيعية بين الدولتين، فأما السلم فحال عارضة؛ ولذلك كانت تسمى دائما هدنة، وربما كان من المعقول أن نقول: إن أصحاب «قسطنطينية» و«بغداد» كانوا يضطرون إليها اضطرارا.
غزو المأمون للروم
قدمنا لك في الكلام عن بابك الخرمي أن المأمون أرسل إليه آخر حملة بقيادة محمد بن حميد الطوسي سنة 212ه، وأن هذه الحملة باءت بالهزيمة والفشل كما باء غيرها مما سبقها من حملات، وأن المأمون انصرف عن بابك مؤقتا لاشتغاله بغزو الروم الذين يعلل بعضهم سبب تحفز المأمون إلى غزوهم، بعد أن ظل السلم المسلح بينه وبينهم زهاء ست عشرة سنة، بما تأكده المأمون من مشايعتهم لبابك وإمدادهم إياه بالمعونة.
ويقول الأستاذ «ميور» في بيان سبب هذه المهادنة الطويلة بين الخلافة والروم، وعدم انتهاز المسلمين فرصة الثورة التي نشبت في بلاد الروم بين «توماس» و«ميخائيل» لغزو آسيا الصغرى: «إنه لا شك أن تريث العرب عن اقتحام بلاد الروم في ذلك الوقت يرجع إلى أن بطريق أنطاكية ببلاد سوريا كان قد توج توماس إمبراطورا، ولو نجح في تأميره وسلطانه لكفى العرب مئونة القتال، ولكان توماس هذا تابعا للخليفة المأمون».
على أن المأمون قد شخص سنة 215ه إلى بلاد الروم ليغزوها سالكا إليها طريق الموصل، ثم منبج ثم دابق ثم أنطاكية ثم المصيصة، ومنها خرج إلى طرسوس، وهي الثغر الإسلامي، ومن طرسوس دخل بلاد الروم في منتصف جمادى الأولى (يوليو سنة 830م) ففتح وغنم كثيرا من الحصون ثم شخص إلى الشام، وورد عليه في دمشق الخبر بأن ملك الروم قتل قوما من أهل طرسوس والمصيصة، فأعاد الكرة إلى بلاد الروم، وكان الظفر والتوفيق حليفه في هذه الكرة أيضا.
وفي المدة التي قضاها المأمون بين مصر ودمشق بدأت المناوشات بين عماله وملك الروم، ثم اشتدت حتى اضطر إلى أن يشخص إلى بلاد الروم للمرة الثالثة، وهي المرة التي توفي فيها.
وفيما هو سائر إليها معتزما تحقيق خطة رسمها لنفسه؛ إذ يقول: أوجه إلى العرب فآتي بهم من البوادي ثم أنزلهم كل مدينة افتتحها حتى أضرب إلى القسطنطينية، إذ جاءه رسول ملك الروم يحمل إليه كتاب مولاه يطلب فيه الصلح والمهادنة، وهذه نسخته فيما يقول الرواة العرب: «أما بعد، فإن اجتماع المختلفين على حظهما أولى بهما في الرأي مما عاد بالضرر عليهما، ولست حريا أن تدع لحظ يصل إلى غيرك حظا تحوزه إلى نفسك، وفي علمك كاف عن إخبارك، وقد كنت كتبت إليك داعيا إلى المسالمة، راغبا في فضيلة المهادنة، لتضع أوزار الحرب عنا، ونكون كل واحد لكل واحد وليا وحزبا، مع اتصال المرافق والفسح في المتاجر وفك المستأسر وأمن الطرق والبيضة، فإن أبيت فلا أدب لك في الخمر،
13
ولا أزخرف لك في القول، فإني لخائض إليك غمارها، آخذ عليك أسدادها، شان خيلها ورجالها، وإن أفعل فبعد أن قدمت المعذرة، وأقمت بيني وبينك علم الحجة. والسلام».
أما رد المأمون عليه، فيقول المؤرخون العرب إن نسخته كانت: «أما بعد، فقد بلغني كتابك فيما سألت من الهدنة، ودعوت إليه من الموادعة، وخلطت فيه من اللين والشدة مما استعطفت به من شرح المتاجر واتصال المرافق وفك الأسارى ورفع القتل والقتال، فلولا ما رجعت إليه من إعمال التؤدة، والأخذ بالحظ في تقليب الفكرة، وألا أعتقد الرأي في مستقبلة إلا في استصلاح ما أوثر في معتقبه، لجعلت جواب كتابك خيلا تحمل رجالا من أهل البأس والنجدة والبصيرة، ينازعونكم عن ثكلكم، ويتقربون إلى الله بدمائكم، ويستقلون في ذات الله ما نالهم من ألم شوكتكم، ثم أوصل إليهم من الأمداد، وأبلغ لهم كافيا من العدة والعتاد؛ هم أظمأ إلى موارد المنايا منكم إلى السلامة من مخوف معرتهم عليكم، موعدهم إحدى الحسنيين: عاجل غلبة، أو كريم منقلب، غير أني رأيت أن أتقدم إليك بالموعظة التي يثبت الله بها عليك الحجة؛ من الدعاء لك ولمن معك إلى الوحدانية والشريعة الحنيفية، فإن أبيت ففدية توجب ذمة، وتثبت نظرة، وإن تركت ذلك ففي يقين المعاينة لنعوتنا ما يغني عن الإبلاغ في القول والإغراق في الصفة. والسلام على من اتبع الهدى». (4) كلمة ختامية عن وفاة المأمون ورجالاته ومعاصريه ووصيته
لقد عاجلت المنية المأمون دون تحقيق خطته بموضع يقال له «البدندون» بين «لؤلؤة» و«طرسوس»، وكانت وفاته لثلاث عشرة ليلة بقيت من رجب سنة 218ه وسنه ثمان وأربعون سنة وأربعة أشهر.
أما عن كبار رجالات المأمون وولاته فيقول اليعقوبي: وكان الغالب عليه في خلافته ذو الرياستين ثم جماعة منهم: الحسن بن سهل، وأحمد بن أبي خالد، وأحمد بن يوسف، وكان على شرطته العباس بن المسيب بن زهير، ثم عزله وولى طاهر بن الحسين ثم عبد الله بن طاهر الذي استخلف إسحاق بن إبراهيم ببغداد، فوجه إسحاق بأخيه خليفة له على شرطته.
وكان على حرسه شبيب بن حميد بن قحطبة، ثم عزله وولاه قومس، واستعمل مكانه هرثمة بن أعين ثم عبد الواحد بن سلامة الطحلاوي قرابة هرثمة، ثم علي بن هشام ثم قتله وولى عجيف بن عنبسة، وكانت حجابته إلى أحمد بن هشام وعلي بن صالح صاحب المصلى، قال: وخلف من الولد الذكور ستة عشر ذكرا؛ وهم: محمد، وإسماعيل، وعلي ، والحسن، وإبراهيم، وموسى، وهارون، وعيسى، وأحمد، والعباس، والفضل، والحسين، ويعقوب، وجعفر، ومحمد الأكبر - وهو ابن معللة وتوفي في حياته - ومحمد الأصغر وعبيد الله أمهما أم عيسى بنت موسى الهادي.
أما صاحب «نهاية الأرب» فقد ذكر في الجزء العشرين من كتابه أن حجابه هم: عبد الحميد بن شبث، ثم محمد وعلي ابنا صالح مولى المنصور، ثم إسماعيل بن محمد بن صالح.
وذكر أن قضاته هم: محمد بن عمر الواقدي، ثم محمد بن عبد الرحمن المخزومي، ثم بشر بن الوليد. وكان نقش خاتمه فيما ذكره المسعودي في التنبيه والإشراف: «الله معه عبد الله به نؤمن». •••
وقد يكون من المفيد لنا من وجهة نظر التاريخ المصري أن نقف على ولاة مصر وقضاتها في عهد المأمون؛ وذلك ييسره لنا كتابان ممتعان وافيان في هذا الموضوع، وهما: كتاب «النجوم الزاهرة» لابن تغري بردي الأتابكي، وكتاب «الولاة والقضاة» الذين ولوا أمر مصر وقضاءها للكندي. ونحن ذاكرون لك هؤلاء الولاة والقضاة على وجه الاختصار:
أما الولاة فهم: مالك بن دلهم، وحاتم بن هرثمة، وجابر بن الأشعث، وعباد بن محمد، والمطلب بن عبد الله، والعباس بن موسى، والسري بن الحكم، وسليمان بن غالب، ومحمد بن السري، وعبيد الله بن السري، وعبد الله بن طاهر، وعيسى بن يزيد، وعمير بن الوليد، وعبدويه بن جبلة.
ولقد حدثنا المؤرخون في أيامه عما سمي في مصر بالبدع المأمونية الأربع: فالبدعة الأولى منها هي لبس الخضرة وتقريب العلوية وإبعاد بني العباس. والثانية: القول بخلق القرآن، والثالثة: ما كتبه المأمون إلى نائبه ببغداد أن يأخذ الجند بالتكبير إذا صلوا الجمعة وبعد الصلوات الخمس.
ثم أباح المأمون في هذه السنة - وهي سنة 215ه - «المتعة»، فقال الناس: هذه بدعة رابعة. وبعد ولاية ابن جبلة هذا ولاية عيسى بن منصور ونصر بن عبد الله، وشهرته كيدر، والمظفر بن كيدر.
أما قضاة مصر في عهده فهم: عبد الرحمن العمري، وهاشم بن أبي بكر البكري، وإبراهيم بن البكاء، ولهيعة بن عيسى الحضرمي، والفضل بن غانم، وإبراهيم بن إسحاق العاري، وعطاف بن غزوان، وجعله عبد الله بن طاهر على المظالم، وبعدئذ ولي القضاء من قبله عيسى بن المنكدر، وأخيرا هارون بن عبد الله.
أما معاصروه فقد كان يعاصره في الأندلس الحكم بن هشام ثالث أمراء بني أمية، ثم ابنه عبد الرحمن، وفي عهدهما سمعنا رأي الأندلس في القول بخلق القرآن؛ فقد قال أبو خلف المعافري:
لا والذي رفع السما
ء بلا عماد للنظر
ما قال خلق في القرا
ن بخلقه إلا كفر
لكن كلام منزل
من عند خلاق البشر
وكان يعاصر المأمون في بلاد المغرب الأقصى إدريس بن إدريس بن عبد الله ثم ابنه محمد بن إدريس، ويعاصره في إفريقيا من بني الأغلب عبد الله بن إبراهيم بن الأغلب ثم ابنه زيادة الله بن إبراهيم فاتح صقلية، ويعاصره في فرنسا «شارلمان» صديق أبيه، ثم «لويز الأول» الملقب باللين، ويعاصره في القسطنطينية «ليون الأرمني» و«ميخائيل» الملقب بالتمتام، ثم ابنه «توفيل».
أما صفته فهي كما ذكرها صاحب «نهاية الأرب»: «كان المأمون ربعة أبيض طويل اللحية رقيقها قد وخطه الشيب، وقيل: كان أسمر تعلوه صفرة، أجنى أعين ضيق الجبهة، بخده خال أسود» وكذلك وصفه الطبري وغيره.
ولما حضرته الوفاة أوصى لأخيه المعتصم من بعده، وعلل بعضهم أن الوصية كانت للمعتصم دون ابنه العباس بأن الثاني كان متغيبا عنه ساعة وفاته.
ولقد أثبتنا لك في باب المنثور من الكتاب الثالث في مجلدنا الثالث وصيته التي أوصى بها حين مماته؛ لقيمتها التاريخية، ولأنها توضح بعض آرائه وتفصح عن السر في بعض تصرفاته، فراجعها ثمة.
هوامش
الفصل الخامس
الوزارة والأعمال الحكومية في عصر المأمون
تاريخ الوزارات المأمونية (1) توطئة
لسنا نريد أن نتكلم عن تاريخ الوزارة ومكانتها في العصر العباسي، فقد تعرض لدرسها كثيرون نذكر منهم ، على سبيل التمثيل، الأستاذ «برون» في كتابه تاريخ الفرس الأدبي، والمؤرخ ابن طباطبا في الآداب السلطانية، وإنما قصارى ما نرمى إليه كتابة فذلكة موجزة عن حياة البارزين من وزراء المأمون، حتى تقف بذلك على صورة كاملة قدر المستطاع عن العصر الذي تصدرنا للكتابة عنه ومكانة رجالاته البارزين فيه فنقول:
وزارتا الفضل بن سهل وأخيه الحسن
يحدثنا التاريخ أن أول وزراء المأمون الفضل بن سهل، وهو من رجال جعفر البرمكي، فلا غرو إذا نزع في سياسة الملك منزع البرامكة، ولا غرو إذا ائتم بهم وتلا تلوهم في تدبير أمور السلطان، ولا غرو إذا كانت دولة بني سهل غرة في جبين الدهر ودرة على مفرق العصر؛ لأنها كانت كما يقول الفخري: مختصر الدولة البرمكية.
أما طريقة اتصاله بالمأمون، فإن المظان التاريخية والأدبية تحدثنا أن جعفرا البرمكي لما عزم على استخدامه للمأمون وصفه يحيى بن خالد بحضرة الرشيد، فقال له الرشيد: أوصله إلي، فلما وصل إليه أدركته حيرة فسكت، فنظر الرشيد إلى يحيى نظر منكر لاختياره، فقال ابن سهل: يا أمير المؤمنين، إن من أعدل الشواهد على فراهة المملوك أن يملك قلبه هيبة سيده، فقال الرشيد: لئن كنت سكت لتصوغ هذا الكلام فلقد أحسنت، وإن كان بديهة إنه لأحسن وأحسن، ثم لم يسأله بعد ذلك عن شيء إلا أجابه بما يصدق وصف يحيى له.
ويروي لنا أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ، وهو - كما تعلم - شيخ من مشيخة الأدب والبيان في عصرنا المأموني، في كتابه «الحيوان»: أن جعفرا الضبي وصف الفضل بن سهل بقوله: أيها الأمير، أسكتني عن وصفك تساوي أفعالك في السؤدد، وحيرني فيها كثرة عددها، فليس إلى ذكر جميعها سبيل، وإن أردت وصف واحدة اعترضت أختها إذ لم تكن الأولى أحق بالذكر، ولست أصفها إلا بإظهار العجز عن وصفها.
ويقول ابن طباطبا: إن الفضل كان سخيا كريما يجاري البرامكة في جوده، شديد العقوبة، سهل الانعطاف، حليما بليغا عالما بآداب الملوك، بصيرا جيد الحدس محصلا للأموال، وكان يقال له: الوزير الأمير.
وكان الفضل بن سهل يتشيع كمذهب غالب الفرس، وكانت له إصابة حسنة بعلم النجوم، كما أسلفنا لك القول في كلمتنا عن المأمون في صباه، ومما يؤيد ذلك ما رواه أبو الحسين علي بن أحمد السلامي في تاريخ ولاة خراسان، أن المأمون لما عزم على إرسال طاهر بن الحسين إلى محاربة أخيه محمد الأمين، نظر الفضل بن سهل في مسألته، فوجد الدليل في وسط السماء، وكان ذا يمينين، فأخبر المأمون بأن طاهرا يظفر بالأمين ويلقب بذي اليمينين، فتعجب المأمون من إصابة الفضل ولقب طاهرا بذلك.
وكان الفضل بن سهل شبيها بأساتذته البرامكة في رفد الشعراء وتشجيع الشعر، وكان منتجع القصاد منهم قبل وزارته، فإن كتب الأدب تحدثنا أن مسلم بن الوليد قال فيه حين ذاك وكان من ندمائه وسماره:
وقائل ليست له همة
كلا ولكن ليس لي مال
وهمة المقتر أمنية
عون على الدهر وأثقال
لا جدة ينهض عزمي بها
والناس سؤال وبخال
فاصبر على الدهر إلى دولة
يرفع فيها حالك الحال
ويقول لنا الفخري: إن الفضل لما علت حاله وتولى الوزارة قصده مسلم بن الوليد، فلما رآه سر به وقال له: هذه الدولة التي يرفع فيها حالك الحال، وأمر له بثلاثين ألف درهم، وولاه بريد جرجان، فاستفاد من ثم مالا طائلا.
ويحدثنا ابن خلكان أن الفضل بن سهل قال يوما لثمامة بن الأشرس المتكلم المعروف: ما أدري ما أصنع بطلاب الحاجات، فقد كثروا علي وأضجروني، فقال له: زل عن موضعك وعلي ألا يلقاك أحد منهم! فقال: صدقت! وانتصب لقضاء أشغالهم، وكان قد مرض بخراسان وأشفى على التلف، فلما أصاب العافية جلس للناس فدخلوا عليه وهنئوه بالسلامة وتصرفوا في الكلام، فلما فرغوا من كلامهم أقبل على الناس وقال: إن في العلل لنعما لا ينبغي للعقلاء أن يجهلوها: تمحيص الذنوب، والتعرض لثواب الصبر، والإيقاظ من الغفلة، والإذكار بالنعمة في حال الصحة، واستدعاء التوبة، والحض على الصدقة.
وقد مدحه جماعة من أعيان الشعراء، وفيه يقول إبراهيم بن عباس الصولي:
للفضل بن سهل يد
تقاصر عنها المثل
فنائلها للغنى
وسطوتها للأجل
وباطنها للندى
وظاهرها للقبل
ويقول ابن خلكان: إن ابن الرومي أخذ من قول الصولي هذا مدحته التي صاغها في الوزير القاسم بن عبيد الله التي فيها:
أصبحت بين خصاصة وتجمل
والحر بينهما يموت هزيلا
فامدد إلي يدا تعود بطنها
بذل النوال وظهرها التقبيلا
وفيه يقول آخر:
لعمرك ما الأشراف في كل بلدة
وإن عظموا للفضل إلا صنائع
ترى عظماء الناس للفضل خشعا
إذا ما بدا والفضل لله خاشع
تواضع لما زاده الله رفعة
وكل جليل عنده متواضع
وحكى الجهشياري أن الفضل بن سهل أصيب بابن له يقال له: العباس، فجزع عليه أشد الجزع، فدخل عليه إبراهيم بن موسى بن جعفر العلوي وأنشده:
خير من العباس أجرك بعده
والله خير منك للعباس
وقال فيه مسلم بن الوليد من قصيدة له:
لو نطق الناس أو أثنوا بعلمهم
ونبأت عن معالي دهرك الكتب
لم يبلغوا منك أدنى ما يمت به
إذا تفاخرت الأملاك وانتسبوا
فأمر له عن كل بيت من هذه القصيدة بألف درهم.
وإنه ليلوح لنا من قراءتنا الطويلة لكتب الأدب والتاريخ أن جماعة الشعراء الذين كانوا يمتدحون البرامكة - وما أكثرهم - هم بأنفسهم الذين امتدحوا آل سهل، واتخذوا منهم برامكة آخرين.
كما يلوح لنا أن لمقولاتهم وقصائدهم في امتداحهم وإظهار قوتهم واستفحال سلطانهم بعض الأثر في نكبتهم؛ لأنه غير معقول البتة أن يمر على المأمون قول مثل قول القائل:
أقمت خلافة وأزلت أخرى
جليل ما أقمت وما أزلتا
من غير أن يترك في نفسه بعض ما كانت تتركه على البرامكة أمثال تلك الأقوال في نفس الرشيد، ومهما قيل عن حلم المأمون وعفوه واعتدال مزاجه وسعة صدره؛ فإن النفس الإنسانية هي هي.
وقد مر بك فيما أجملناه لك من الحوادث التي وقعت في حكم المأمون، أنه جعل في سنة 201ه علي بن موسى العلوي ولي عهد المسلمين والخليفة من بعده، وسماه الرضا من آل محمد
صلى الله عليه وسلم ، وأنه أمر جنده بطرح السواد ولبس الخضرة، وبينا ما كان لذلك من ثورات وفتن لم تهدأ إلا بعد أن عاد إلى مقر ملكه، وأعلم آله وأنصاره بوفاة الرضا، وعاد إلى لبس السواد وهو شعار العباسيين.
ونريد الآن أن نشير هنا إلى ما كان من الفضل بن سهل فيما نحن في صدده، ونعتمد على ما رواه الطبري، قال: إن علي بن موسى بن جعفر بن محمد العلوي أخبر المأمون بما فيه الناس من الفتنة والقتال منذ قتل أخوه، وبما كان الفضل بن سهل يستر عنه من الأخبار، وأن أهل بيته والناس قد نقموا عليه أشياء، وأنهم يقولون: إنه مسحور مجنون، وأنهم لما رأوا ذلك بايعوا لعمه إبراهيم بن المهدي بالخلافة، فقال المأمون: إنهم لم يبايعوا له بالخلافة وإنما صيروه أميرا يقوم بأمرهم على ما أخبر به الفضل، فأعلمه أن الفضل قد كذبه وغشه، وأن الحرب قائمة بين إبراهيم والحسن بن سهل، وأن الناس ينقمون عليك مكانه ومكان أخيه، ومكاني ومكان بيعتك لي من بعدك، فقال: ومن يعلم هذا من أهل عسكري؟ فقال له: يحيى بن معاذ وعبد العزيز بن عمران وعدة من وجوه أهل العسكر، فقال له: أدخلهم علي حتى أسائلهم عما ذكرت، فأدخلهم عليه، وهم: يحيى بن معاذ، وعبد العزيز بن عمران، وموسى وعلي بن أبي سعيد، وهو ابن أخت الفضل، وخلف المصري، فسألهم عما أخبره فأبوا أن يخبروه حتى يجعل لهم الأمان من الفضل بن سهل ألا يعرض لهم فضمن ذلك لهم وكتب لكل رجل منهم كتابا بخطه ودفعه إليهم، فأخبروه بما فيه الناس من الفتن وبينوا ذلك له، وأخبروه بغضب أهل بيته ومواليه وقواده عليه في أشياء كثيرة، وبما موه عليه الفضل من أمر هرثمة، وأن هرثمة إنما جاء لينصحه وليبين له ما يعمل عليه، وأنه إن لم يتدارك أمره خرجت الخلافة منه ومن أهل بيته، وأن الفضل دس إلى هرثمة من قتله، وأنه أراد نصحه، وأن طاهر بن الحسين قد أبلى في طاعته ما أبلى، وافتتح ما افتتح، وقاد إليه الخلافة مزمومة حتى إذا وطأ الأمر أخرج من ذلك كله، وصير في زاوية من الأرض بالرقة قد حظرت عليه الأموال حتى ضعف أمره، فشغب عليه جنده، وأنه لو كان على خلافتك ببغداد لضبط الملك ولم يجترأ عليه بمثل ما اجترئ به على الحسن بن سهل، وأن الدنيا قد تفتقت من أقطارها، وأن طاهرا بن الحسين قد تنوسي في هذه السنين منذ قتل محمد في الرقة لا يستعان به في شيء من هذه الحروب، وقد استعين بمن هو دونه أضعافا، وسألوا المأمون الخروج إلى بغداد؛ فإن بني هاشم والموالي والقواد والجند لو رأوا غرتك سكنوا إلى ذلك، وبخعوا بالطاعة لك.
فلما تحقق ذلك عند المأمون أمر بالرحيل إلى بغداد، فلما أمر بذلك علم الفضل بن سهل ببعض ذلك من أمرهم، فتعنتهم حتى ضرب بعضهم بالسياط وحبس بعضا ونتف لحى بعض، فعاوده علي بن موسى في أمرهم، وأعلمه ما كان من ضمانه لهم، فأعلمه أنه يداري ما هو فيه، ثم ارتحل من مرو، فلما أتى سرخس شد قوم على الفضل بن سهل وهو في الحمام فضربوه بالسيوف حتى مات، وذلك يوم الجمعة لليلتين خلتا من شعبان سنة 202 فأخذوا. وكان الذين قتلوا الفضل من حشم المأمون، وهم أربعة نفر: غالب المسعودي الأسود، وقسطنطين الرومي، وفرج الديلمي، وموفق الصقلي، وقتلوه وله ستون سنة وهربوا، فبعث المأمون في طلبهم، وجعل لمن جاء بهم عشرة آلاف دينار، فجاء بهم العباس بن الهيثم بن بزرجمهر الدينوري، فقالوا للمأمون: أنت أمرتنا بقتله، فأمر بهم فضربت أعناقهم، وقد قيل: إن الذين قتلوا الفضل لما أخذوا سألهم المأمون، فمنهم من قال: إن علي بن أبي سعيد، ابن أخت الفضل، دسهم، ومنهم من أنكر ذلك، وأمر بهم فقتلوا، ثم بعث إلى عبد العزيز بن عمران وعلي وموسى وخلف فسألهم فأنكروا أن يكونوا علموا بشيء من ذلك، فلم يقبل ذلك منهم، وأمر بهم فقتلوا، وبعث برءوسهم إلى الحسن بن سهل في واسط، وأعلمه ما دخل عليه من المصيبة بقتل الفضل، وأنه قد صيره مكانه، وتزوج المأمون من ابنته بوران، وأظهر الحسن في حفلة زواجها من الكرم الخارق، والجود الحاتمي ما دعا المأمون إلى أن نسبه فيه إلى السرف، ولقد قدم على الحسن بن سهل شاعر يلتمس صلته وعارفته، فاشتغل عنه مديدة فكتب إليه:
المال والعقل مما يستعان به
على المقام بأبواب السلاطين
وأنت تعلم أني منهما عطل
إذا تأملتني يا ابن الدهاقين
أما تدلك أثوابي على عدمي
والوجه أني رئيس في المجانين
والله يعلم ما للملك من رجل
سواك يصلح للدنيا وللدين
فقيل: إن الحسن أمر له بعشرة آلاف درهم ووقع في رقعته:
أعجلتنا فأتاك عاجل برنا
قلا ولو أنظرتنا لم يقلل
فخذ القليل وكن كأنك لم تنل
ونكون نحن كأننا لم نسأل
ويظهر لنا مما قرأناه عن الحسن بن سهل في أمالي أبي علي القالي وغيره من مظان الكتب الأدبية، أن له بصرا بالأدب عظيما، ومكانة في الكتابة سامية، وحظا بأفانين القول ومناحيه وفيرا.
فقد روي عنه أنه كتب إلى محمد بن سماعة القاضي: «أما بعد، فإني احتجت لبعض أموري إلى رجل جامع لخصال الخير، ذي عفة ونزاهة طعمة،
1
قد هذبته الأخلاق وأحكمته التجارب، ليس بظنين في رأيه، ولا بمطعون في حسبه، إن اؤتمن على الأسرار قام بها، وإن قلد مهما من الأمور أجزأ فيه، له سن مع أدب ولسان، تقعده الرزانة ويسكنه الحلم، قد فر عن ذكاء وفطنة، وعض على قارحة من الكمال، تكفيه اللحظة، وترشده السكتة، قد أبصر خدمة الملوك وأحكمها، وقام في أمورهم فحمد فيها، له أناة الوزراء وصولة الأمراء، وتواضع العلماء وفهم الفقهاء وجواب الحكماء، لا يبيع نصيب يومه بحرمان غده، يكاد يسترق قلوب الرجال بحلاوة لسانه وحسن بيانه، دلائل الفضل عليه لائحة وأمارات العلم له شاهدة، مضطلعا بما استنهض مستقلا بما حمل، وقد آثرتك بطلبه وحبوتك بارتياده؛ ثقة بفضل اختيارك ومعرفة بحسن تأتيك».
ويقول ابن طباطبا: إن الحسن بن سهل كان أعظم الناس منزلة عند المأمون، وكان المأمون شديد المحبة لمفاوضته، فكان إذا حضر عنده طاوله في الحديث، وكلما أراد الانصراف منعه، فانقطع زمان الحسن بذلك وثقلت عليه الملازمة، فصار يتراخى عن الحضور بمجلس المأمون، ويستخلف أحد كتابه كأحمد بن أبي خالد وأحمد بن يوسف وغيرهما، ثم عرضت له سوداء كان أصلها جزعه على أخيه، فكانت سبب انقطاعه في داره واحتجابه عن الناس . وقد هجاه حين ذاك بعض الشعراء فقال:
تولت دولة الحسن بن سهل
ولم أبلل لهاتي من نداها
فلا تجزع على ما فات منها
وأبكى الله عيني من بكاها
وقد قرأنا في كتاب الأغاني ما يستدل منه على أن الحسن بن سهل هو صاحب الوساطة في العفو عن إبراهيم بن المهدي، وذلك يختلف مع ما رواه البعض من أن بوران ابنته هي التي طلبت العفو عنه، وما وراه البعض الآخر من أن طاهر بن الحسين هو صاحب الوساطة.
وتفصيل الرواية: أن الحسن بن سهل دخل على المأمون وهو يشرب فقال له: بحياتي وبحقي عليك يا أبا محمد إلا شربت معي قدحا، وصب له من نبيذه قدحا، فأخذه بيده وقال: من تحب أن يغنيك؟ فأومأ إلى إبراهيم بن المهدي، فقال له المأمون: غنه يا عم، فغناه:
تسمع للحلي وسواسا إذا انصرفت
يعرض به لما كان لحقه من السوداء أو الاختلاط، فغضب المأمون حتى ظن إبراهيم أنه سيوقع به، ثم قال له: أبيت إلا كفرا يا أكفر خلق الله لنعمه! والله ما حقن دمك غيره، ولقد أردت قتلك فقال لي: إن عفوت عنه فعلت فعلا لم يسبقك إليه أحد! فعفوت والله عنك لقوله، فحقه أن تعرض به ولا تدع كيدك ولا دغلك! أو أنفت من إيمائه إليك بالغناء! فوثب إبراهيم قائما وقال: يا أمير المؤمنين، لم أذهب حيث ظننت ولست بعائد، فأعرض عنه.
وزارة أحمد بن أبي خالد
يظهر أن المأمون كان قد صدم صدمة عنيفة من وزارة الفضل بن سهل ومن أخيه، لاستبدادهما بجل الأمور من دونه، ويظهر أنه فكر جديا في ألا يستوزر بعد الفضل أحدا، ويقال: إنه لما دعا إليه أحمد بن أبي خالد - وكان أبوه كاتب سر ابن عبيد الله كاتب المهدي ووزيره - قال له: إني كنت عزمت ألا أستوزر أحدا، ثم عرض عليه الوزارة، فتنصل أحمد منها وقال: يا أمير المؤمنين، أعفني من التسمي بالوزارة، وطالبني بالواجب فيها، واجعل بيني وبين العامة منزلة يرجوني لها صديقي ويخافني لها عدوي، فما بعد الغايات إلا الآفات!
وتدل هذه المناقشة، وإن كانت قصيرة، على أن أحمد بن أبي خالد قد وجد العبرة في تاريخ الفضل بن سهل وأمثاله، فرأى أن يكون مقتصدا في مكانته وسلطانه، وقد أعجب المأمون بكلامه واستوزره.
وسترى في كلمتنا المجملة التي عقدناها عن تقدير المأمون للشجاعة الأدبية طرفا من تصرفات أحمد بن أبي خالد وحسن تخلصه في حادثة عمرو بن مسعدة، وكيف كان شجاعا وصادقا، وكيف كان مخلصا للمأمون عاملا على إصلاح ما بينه وبين رجالات دولته.
ويقول صاحب الآداب السلطانية والدول الإسلامية: إن المأمون لما ولي طاهر بن الحسين خراسان استشار فيه أحمد بن أبي خالد، فصوب أحمد الرأي في تولية طاهر، فقال المأمون لأحمد: إني أخاف أن يغدر ويخلع ويفارق الطاعة، فقال أحمد: الدرك في ذلك علي - ويجب أن نشير هنا إلى ما جاء بكتاب عيون الأخبار عن دقة المأمون في مثل هذا الموقف، فإن المعلى بن أيوب أحد المعاصرين يحدثنا عن ذلك بقوله: سمعت المأمون يقول: من مدح لنا رجلا فقد تضمن عيبه - فولاه المأمون، فلما كان بعد مدة أنكر عليه المأمون أمورا وكتب إليه كتابا يتهدده فيه، فكتب طاهر جوابا أغلظ فيه للمأمون، ثم قطع اسمه من الخطبة ثلاث جمع، فبلغ ذلك المأمون فقال لأحمد بن أبي خالد: أنت الذي أشرت بتولية طاهر وضمنت ما يصدر منه، وقد ترى ما صدر منه من قطع الخطبة ومفارقة الطاعة، فوالله لئن لم تتلطف لهذا الأمر وتصلحه كما أفسدته وإلا ضربت عنقك! فقال أحمد: يا أمير المؤمنين، طب نفسا؛ فبعد أيام يأتيك البريد بهلاكه، ثم إن أحمد بن أبي خالد أهدى لطاهر هدايا فيها كواميخ مسمومة - وكان طاهر يحب الكامخ
2 - فأكل منها فمات من ساعته.
3
فإن صحت هذه الرواية دلت على أن المأمون ورجاله لم يكونوا قد صرفوا أنفسهم يومئذ عن التذرع إلى الخلاص من بعض رجال الدولة بالقضاء على حياتهم.
قال الفخري: إن أحمد بن أبي خالد لما تولى طاهر خراسان حسب هذا الحساب؛ فوهب له خادما وناوله سما وقال له: متى قطع خطبة المأمون فاجعل له هذا السم في بعض ما يحب من المآكل، فلما قطع طاهر خطبة المأمون جعل الخادم له السم في كامخ، فأكل منه فمات في ساعته، ووصل الخبر على البريد بموته إلى المأمون بعد أيام، فكان ذلك مما عظم به أمر أحمد بن أبي خالد. فتأمل طريقة التخلص من الزعماء في ذلك الحين، ولاحظ كيف كانت عندهم خاتمة الحياة لمن يتبرمون لهم من كبار القواد والوزراء، ولتعلل بعد ذلك لم أقفرت البلاد من قادتها وكماتها، ولم أضحت الكلمة النافذة فيما بعد للغلمة الأتراك وغيرهم من الغرباء!
وكان أحمد بن أبي خالد إلى جانب كفايته وبصره بالأمور مصابا بالشره، وقد قال أحد المعاصرين لما ناقب المأمون أحمد بن أبي خالد هذا: ما أظن أن الله خلق في الدنيا نفسا أنبل ولا أكرم من نفس المأمون، فلما سئل: لماذا؟ قال: لأنه عرف نفس الرجل، يعني أحمد بن أبي خالد، وشرهه فكان إذا وجهه إلى رجل برسالة أو في حاجة قال: ائته بالغداة واخلع ثيابك واطمئن عنده، فإن انصرفت وقد قمت فاكتب إلي بجواب ما جئت به في رقعة، وادفعها إلى فتح يوصلها إلي.
ومما ينسب إليه أنه ولى رجلا كورة عظيمة القدر بخوان فالوذج أهداه إليه، وقيل: إن جماعة من أهل كورة الأهواز شكوا عاملا كان عليهم فعزل وصار إلى مدينة السلام، فتكلموا فيه فأنهي خبرهم إلى المأمون، فأحضرهم وخصمهم وأمر أحمد بن أبي خالد بالنظر في أمورهم، فقال رجل من خصوم العامل: يا أمير المؤمنين، جعلني الله فداءك، تقدم إلى أحمد ألا يقبل من هذا الفاجر هدية حتى يقطع أمرنا، فوالله لئن أكل من طعامه رغيفا ومن فالوذجه جاما ليدحضن الله حجتنا على يديه، وليبطلن حقنا على يديه، فكان من جراء ما قاله متكلم الجماعة أن المأمون طلب إليهم أن يحضروا إليه يوم الأربعاء لينظر في شكايتهم بنفسه، وكان من جراء مثل هذه الشكاوى وما قيل في ابن أبي خالد من أنه «يقتل المظلوم ويعين الظالم بأكلة»، أن أجرى المأمون عليه في كل يوم ألف درهم لمائدته لئلا يشره إلى طعام أحد من بطانته أو من طعام الناس.
ومن طريف حوادثه مع المأمون، وهي تؤيد لنا صحة ما يرمى به من هذه الناحية وتدل على اقتناع المأمون بإصابته بها، ما يرويه لنا ابن طيفور في تاريخه قال: «حدثني بعض أصحابنا قال: قال المأمون يوما لأحمد بن أبي خالد: اغد علي باكرا لأخذ القصص التي عندك؛ فإنها قد كثرت لنقطع أمور أصحابها، فقد طال انتظارهم إياها. فبكر، وقعد له المأمون، فجعل يعرضها عليه ويوقع عليها إلى أن مر بقصة رجل من اليزيديين يقال له: فلان اليزيدي، فصحف وكان جائعا فقال: الثريدي، فضحك المأمون وقال: يا غلام! ثريدة ضخمة لأبي العباس؛ فإنه أصبح جائعا، فخجل أحمد وقال: ما أنا بجائع يا أمير المؤمنين، ولكن صاحب هذه القصة أحمق، وضع نسبته ثلاث نقط، قال: دع هذا عنك فالجوع أضر بك حتى ذكرت الثريد، فجاءوه بصحفة عظيمة كثيرة العراق
4
والودك، فاحتشم أحمد، فقال المأمون: بحياتي عليك لما عدلت نحوها، فوضع القصص ومال إلى الثريد، فأكل حتى انتهى والمأمون ينظر إليه، فلما فرغ دعا بطست فغسل يده ورجع إلى القصص، فمرت به قصة فلان الحمصي، فقال: فلان الخبيصي! فضحك المأمون وقال: يا غلام، جاما ضخما فيه خبيص؛
5
فإن غداء أبي العباس كان مبتورا، فخجل أحمد وقال: يا أمير المؤمنين، صاحب هذه القصة أحمق، فتح الميم فصارت كأنها سنتان! قال: دع عنك هذا؛ فلولا حمقه وحمق صاحبه لمت جوعا، فجاءوه بجام خبيص فخجل، فقال له المأمون: بحياتي عليك إلا ملت إليها! فانحرف فانثنى عليه وغسل يده ثم عاد إلى القصص، فما أسقط حرفا حتى أتى على آخرها».
وبعد، فإنا نستنبط - من هذه الرواية ومما جرى من الحديث بينه وبين المأمون في شأن أكلة ابن أبي خالد عند دينار بن عبد الله التي كلفت المأمون ألف ألف
6 - شره هذا الوزير الجليل.
ويجدر بنا أن نقيد هنا ملاحظة أخرى ، وهي طول احتمال المأمون وكبير جلده وقوة اصطباره على مطالعة شكاوى الجمهور ومظالمهم، غير مكترث لألم الجوع ولا جانح إلى الرغد والراحة في سبيل نظرها وإنصاف أصحابها.
على أن هذه الهنة في هذا الوزير وإن كانت عائبة للرجل ناقصة من كرامته، فكفايته مقطوع بها، وليس أدل على عظيم قدره وسمو مكانته من حضور المأمون جنازته وصلاته بنفسه عليه، وقوله عنه بعد أن دلي في حفرته وترحم عليه: أنت والله كما قال القائل:
أخو الجد إن جد الرجال وشمروا
وذو باطل إن كان في القوم باطل
وزارة أحمد بن يوسف
وقد استوزر المأمون بعد ابن أبي خالد أحمد بن يوسف الكاتب، ولما كنا سنعقد له بحثا خاصا في قسم الآداب والعلوم، فستجد ثمة طرفا عن حياته وأثره.
وزارة يحيى بن أكثم التميمي
استوزر المأمون بعد أحمد يحيى بن أكثم، وهو من أصحاب ثمامة بن أشرس المتكلم المعروف، ولاه المأمون وظيفتي الوزارة وقاضي القضاة.
ولم أجد اختلافا قويا، هو اختلاف النقيضين، كاختلاف القدماء في يحيى بن أكثم، ولما كان له مظهر بارز في الدولة المأمونية من الوجهة العلمية والأدبية - لأنه كان كما يقول أحمد بن حنبل رضي الله عنه: متفننا فيها؛ فكان إذا نظر إلى رجل يحفظ الفقه سأله عن الحديث، وإذا رآه يحفظ الحديث سأله في النحو، وإذا رآه يعلم النحو سأله عن الكلام ليقطعه ويخجله - آثرنا أن نلم بحياته وأقوال الناس فيه من قادح ومادح، ونبين قدره على وجه الإجمال لا التفصيل، وسنورد كلامنا فيه أيضا في قسم العلوم والآداب من هذا الكتاب.
وزارات أخرى
وقد ذكر أن المأمون استوزر بعد من قدمناه لك أبا عباد ثابت بن يحيى بن يسار وأبا عبد الله بن يزداد، وقد ائتما في سيرتيهما بمن سبقهما، كما أنه ذكر أنه استوزر عمرو بن مسعدة، وهو صنو أحمد بن يوسف نباهة وكفاية وكتابة. وإنا لا نرى مدعاة لإثبات ما هو من لون واحد، ففي ذلك إضاعة للوقت وتكرار للقول. (2) الجند والقواد في عصر المأمون
لا نريد هنا أن نتكلم عن ديوان الجند وتاريخه ولا عن مرتبات الجند وتحولهم منذ العهود الأولى فإن ذلك يطول كثيرا، على أنا نحيلك مع ذلك إلى ما جاء بالجزء الأول من تاريخ التمدين الإسلامي في هذا الباب، وقصارى ما نريد قوله الآن أن راتب الجندي الراجل، وهو مثل «النفر» في النظام العسكري الحديث، هو 240 درهما في السنة، فضلا عن حصته في الغنائم عند الغزوات. ويظهر أن حصة الجنود من الغنائم كانت حبست عنهم حتى ردها عليهم الأمين سنة 198 هجرية، فأصاب الرجل ستة دنانير.
ولما قام النزاع بين الأمين والمأمون جعل المأمون راتب الجندي ثمانين درهما في الشهر، على أن هذا الراتب عاد إلى ما كان عليه بعد انتهاء الفتنة.
أما القواد العظام في هذا العصر، فإنا نكتفي بما وقفت عليه أثناء النزاع بين الأخوين؛ لأن من التكرار في القول أن نعيد هنا ما قلناه هناك. (3) ديوان القضاء والمظالم والحسبة
ستقف من بحوثنا التي أفردناها لتحليل أخلاق المأمون على شيء من سلطان القضاة في ذلك العهد، ونحيلك هنا إلى المحاضرة القيمة التي ألقيت في المجمع العلمي بدمشق عن تاريخ القضاة في الإسلام، كما نحيلك إلى الفصل المسهب الذي أفرده في هذا الموضوع صاحب التمدين الإسلامي.
ويكفينا هنا أن نقول: إن نظام الحكم أو الفصل في الدعاوى في ذلك العهد كان متشعبا بقدر ما كان محكما؛ إذ قد كان يوجد إلى جانب ديوان القضاء ديوان المظالم وديوان نظر الحسبة، وهذه الدواوين كلها كانت تنظر فيما يرفع إليها من دعاوى.
ويطول بنا الحديث في هذا المقام لو أردنا استيعاب بيان كل نوع من هذه الدواوين وما يختص بالنظر فيه.
على أنه يجوز لك أن تفترض إلى حد ما أن ديوان المظالم كان يشبه في بعض نظامه وسلطته المحاكم العليا كمحاكم الاستئناف والنقض والإبرام، كما يشبه إلى حد غير قليل المجالس التأديبية.
وإنا نحيلك هنا إلى الفصول الممتعة التي أفردها أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي في كتابه القيم «الأحكام السلطانية»، فقد عالج فيها الكلام عن القضاة وما يختصون به من الدعاوى، وعن ولاة المظالم وما يختصون به أيضا، وكذلك عن ولاة الحسبة وحدود سلطانهم، وقد نقل عنه صاحب نهاية الأرب في نهاية الجزء السادس جملة صالحة منه؛ فراجعها.
أما راتب القضاة فنقول: إن راتب القاضي بلغ في أيام المأمون 4000 درهم في الشهر، أي حوالي 270 دينارا، وهذا الراتب في ذاته يدل على ما وصلت إليه الثروة في ذلك العصر. وقد كنا نود أن نختص الولاة وراتبهم بكلمة لولا أن المصادر في ذلك تنقصنا، وفيما بيناه عن القضاة مقياس لمن كان في مكانتهم ولمن كان أرفع منهم أو أقل مرتبة؛ فعليك أن تفكر وتقارن.
هوامش
الفصل السادس
خلاصة الحياة السياسية والاجتماعية
(1) توطئة
أما أثر المال في النفوس وأثر الأحزاب السياسية وكيف تغيرت وجهات النظر في كثير من الأمور الدينية، فإنك قد وقفت على شيء من ذلك فيما سردناه لك.
على أنا نظن أنه قد آن لنا أن ندون بعض ملاحظاتنا في هذا العصر، وآن لنا أن نتكلم عن نصيب الوزراء والقواد والزعماء في هذه الدولة التي كان للوزراء والقواد والزعماء الأثر الكبير في تدعيم بنيانها وتقوية أركانها وتشييد سلطانها. (2) نكبة الوزراء
نريد أن نلاحظ أن حياة الوزراء وحياة القواد والزعماء كانت تنتهي في الغالب بنكبتهم في حياتهم أو استصفاء أموالهم.
ومع أنا نحيلك إلى بعض المصادر القيمة في هذا الموضوع مثل كتاب تحفة الأمراء في تاريخ الوزراء لأبي الحسن الهلالي بن المحسن بن إبراهيم الصابي الكاتب، وإلى ما كتب من الفصول في غيره، نريد أن نلاحظ أن جلهم قد نكبه خليفته مثل نكبة المنصور لأبي مسلم وعبد الله بن علي وأبي سلمة الخلال وأبي الجهل، ونكبته لأبي أيوب المورياني، ونكبة الربيع بن يونس الذي سمه الهادي، ونكبة المهدي ليعقوب بن داود، ونكبة الرشيد للبرامكة، والمأمون لمن رأيت.
نلاحظ ذلك ونلاحظ أن غدر الخلفاء بوزرائهم في ذلك العهد قد لاكته الألسنة وتكلمت في الشعراء؛ فقد قال بعضهم حينما قتل المتوكل وزيره محمد بن عبد الملك الزيات:
يكاد القلب من جزع يطير
إذا ما قيل قد قتل الوزير
أمير المؤمنين قتلت شخصا
عليه رحاكم كانت تدور
فمهلا يا بني العباس مهلا
لقد كويت بغدركم الصدور
كما نلاحظ أيضا تنصل شخصيات عظيمة من قبول الوزارة في ذلك العهد لما عهدوه من وخيم عواقبها، وسوء مغبة الاضطلاع بها، فقد ذكر ابن طيفور أن ثمامة بن أشرس المتكلم المعروف قال: لما قتل الفضل بن سهل بعث إلي المأمون وكنت لا أنصرف من عنده إلا الوقعة إلى منزلي، ثم يأتيني رسوله في جوف الليل فآتيه، وكان قد أهلني لمكان الفضل بن سهل من الوزارة، فلما رأيته قد ألح علي في ذلك تعاللت عليه، فقال لي: إنما أردتك لكذا وكذا، فقلت: يا أمير المؤمنين، إني لا أقوم بذلك، وأحر بي أن أضن بموضعي من أمير المؤمنين وحالي أن تزول عنده، فإني لم أر أحدا تعرض للخدمة والوزارة إلا لم يكن لتسلم حاله ولا تدوم منزلته. ورشح له أحمد بن أبي خالد الأحول، ثم انظر إلى اعتلاله عليه مرة أخرى حينما رشح له يحيى بن أكثم؛ فإنك توقن معنا بنفور رجال الدولة من الوزارة وهربهم من شركها وسوء عقباها. (3) الاستصفاء
هم ينفرون من الوزارة لأن خاتمة حياتهم كانت التقتيل كما رأيت، وينفرون منها لأن مصير أموالهم وأموال ذويهم كان في الغالب إلى الاستصفاء والاغتصاب.
ولقد عم الاستصفاء سائر رجال الحكومة حتى الرعية، وأصبحت بتوالي الأيام المصدر الأول لتحصيل المال.
فالعامل يستصفي مما للرعية، والوزير يستصفي مما للعمال، والخليفة يستصفي مما للوزراء ومما للناس على اختلاف طبقاتهم، حتى لقد أنشئوا للاستصفاء ديوانا خاصا مثل سائر دواوين الحكومة، فكان المال يتداول بالاستصفاء كما يتداول بالمتاجرة.
أما أنواع الاستصفاء ومقاديره في ذلك العصر فنترك الكلمة في هذا للوزير ابن الفرات قريب العهد بالمأمون، قال: «تأملت ما صار إلى السلطان من مالي فوجدته 10000000 دينار، وحسبت ما أخذته من الحسين بن عبد الله الجوهري بن الجصاص فكان مثل ذلك». فكأنه لم يخسر شيئا لأنهم يقبضون بالاستصفاء ويدفعون بالاستصفاء، وإذا استصفي أحدهم من مال لم يكن في وسعه أداؤه كله معجلا أجلوه بالباقي، وساعدوه على تحصيله أو جمعه برد جاهه وتغيير زيه وإنزاله في دار كبيرة فيها الفرش والآلة الحسنة؛ ليستطيع التدخل في جمع الأموال من الناس.
وتعددت أسباب الاستصفاء وجهاته حتى أصبح كل صاحب مال أو منصب عرضة له، وهاك بيانا لما قبضه ابن الفرات من الاستصفاء على أيام الراضي بالله ننشرها لك لتكون أنموذجا لأنواع الاستصفاءات ومقاديرها:
دينار
7300
من أحمد بن محمد بن إبراهيم البسطامي، عن النصف مما بقى عليه من استصفائه في سنة 300ه.
11000
من علي بن الحسين الباذبيني الكاتب، عما تولاه من الموصل.
30000
من محمد بن عبد الله الشافعي، عما تصرف فيه لعلي بن عيسى.
80000
من محمد بن علي بن مقلة، عما تصرف فيه.
100000
من محمد بن الحسن المعروف بأبي طاهر.
13000
من الحسن بن أبي عيسى الناقد، عما ذكر أنه وديعة لعلي بن عيسى.
4000
ومنه أيضا صلحا عن نفسه.
20000
من إبراهيم بن أحمد المادرائي.
36330
من عبد الواحد بن عبيد الله بن عيسى، عن بقية استصفاء والده.
10000
من أحمد بن يحيى بن حاني الكاتب عن مصلحة وجبت.
6000
من إبراهيم بن أحمد بن إدريس الجهبذ، عن صلحه.
4000
من محمد بن عبد السلام بن سهل، عما عنده من الوديعة لمحمد بن علي وإبراهيم بن أحمد المادرائي.
40000
من عبد الوهاب بن أحمد بن ما شاء الله، عن صلحه.
10000
من محمد بن عبد الله بن الحارث، عن صلحه.
250000
من محمد بن أحمد بن حماد، عما تصرف فيه بالموصل وغيرها.
15000
من إبراهيم بن أحمد المادرائي، عن الباقي عليه من جملة خمسين ألفا.
3000
من أبي عمر محمد بن أحمد الصباح الجرجراي، عن ضمانه الباقي على أبي العباس أحمد بن محمد بن علي المعروف بقرقر.
700000
من علي بن محمد بن الحواري وقتل.
7000
من هارون بن أحمد الهمذاني.
2050
من عبد الله بن زيد بن إبراهيم.
15000
من عبد الله بن زيد، صلحا عن نفسه.
60000
من علي بن مأمون بن عبد الله الإسكافي كاتب ابن الحواري وقتل.
700000
من يحيى بن عبد الله بن إسحاق، عما تصرف فيه مع حامد.
1300000
من حامد بن العباس وقتل.
150000
من محمد بن محمد بن حمدون الواسطي.
321000
من أبي الحسن علي بن عيسى.
100000
من إبراهيم بن يوحنا جهبذ حامد بن العباس.
1200000
من أبي محمد الحسن بن أحمد المادرائي.
1000000
ومنه أيضا.
1001000
من أبي بكر محمد بن علي المادرائي.
10000
ومنه أيضا.
7305680
درهم
50000
من أبي الفضل محمد بن أحمد بن بسطام
200000
من علي بن الحسن الباذبيني، صلحا عما تصرف فيه بالموصل وقتل
100000
من أبي عمر محمد بن أحمد بن الصباح الجرجراي، عن ضمان الباقي من استصفاء أبي ياسر إسحاق بن أحمد
100000
من عبيد الله بن أحمد اليعقوبي
100000
من الحسن بن إبراهيم الخرائطي، صلحا عما اقتطعه من مال الرئيس
100000
من الحسين بن علي بن نصير أخي نصير بن علي
2500
من علي بن محمد بن أحمد بن السمان، عن ورثة قرقر
10000
من أبي بكر أحمد بن القاسم الأزرق الجرجاني، عن ضياع علي بن عيسى
130000
من الحسين سعد بن القطربلي
1500000
من محمد بن أحمد
3000000
من أبي الحسن محمد بن أحمد بن بسطام
50000
من أحمد بن محمد بن حامد بن العباس
130000
من سليمان بن الحسن بن مخلد
ومن المعقول أن نستنبط من ذلك أن الوزير أو العامل لا بد أن يجنح إلى الرشوة، فيعوض المال الذي سيستصفى منه والثروة التي ستغتصب منه.
ومن المعقول أيضا أن نعلل لم تعددت الثورات في بعض الولايات، ولم كثرت الشكايات من بعض الولاة في ذلك العهد. وإنه وإن لم يهتم المؤرخون القدماء بإثبات شكايات العامة وأسباب ثوراتهم، فقد عثرنا بين السطور على العبارة الآتية في الجزء الثاني من اليعقوبي، نثبتها لك بنصها: «أخذ الرشيد العمال والتناء
1
والدهاقين
2
وأصحاب الضياع والمبتاعين للغلات والمقبلين،
3
وكان عليهم أموال مجتمعة، فولى مطالبتهم عبد الله بن الهيثم بن سام، فطالبهم بصنوف من العذاب - وكان ذلك سنة 184، واعتل الرشيد في تلك السنة علة شديدة وشفي منها - فدخل إليه الفضيل فرأى الناس يعذبون في الخراج فقال: ارفعوا عنهم، إني سمعت رسول الله
صلى الله عليه وسلم
يقول: «من عذب النفس في الدنيا عذبه الله يوم القيامة» فأمر بأن يرفع عن الناس فارتفع العذاب من تلك السنة».
4
ويجوز لنا أن نستدل من هذه العبارة ومما ذكره الطبري وسواه من تخفيض بعض الخلفاء لخراج بعض البلدان عقب ثورة من الرعية أو زيارة ملكية، على أن العمال كانوا يجنحون إلى الشدة والعسف وجمع المال بشتى الوسائل، وكل ذلك من جراء النظام المتبع معهم كما أسلفنا، فتأمل كيف يكون عسف الولاة للرعية بسبب عسف الملوك للولاة والعمال.
يعسفون
5
ويظلمون والرعية وحدها هي التي تحتمل وتصبر، بيد أن التاريخ يحدثنا دائما في كافة الدول وكافة الأجيال أن نهاية هذا الاحتمال وذلك الصبر هي يقظة الأمم وانتباهها، ونهضة الشعوب ونضوجها، ورفضها في إباء وشمم، وفي عقيدة وإيمان، وفي شجاعة وحرية، وفي تصميم وقوة إرادة، احتمال أمثال هذه الأدران والمآثم، وتلك الإساءات والمظالم ممن تسلموا مقاليد الرعية من الحكام وذوي السلطان. (4) ثروة الخلفاء ورجال الدولة وبذخهم
نريد أن نقيد ملاحظة أخرى وهي نتيجة لازمة من نتائج الاستصفاء والاغتصاب، تلك الملاحظة هي استفحال ثروة الخلفاء طبعا، واستفحال ثروة كبار رجالاتهم والمقربين من أفراد البيت الملكي من بطانة وحاشية، واستفحال بذخهم، واستفحال أعطياتهم، ونحن وإن كنا لم نجد مصدرا منظما في هذا الموضوع، وخاصة في العصر المأموني، فقد عثرنا في كتاب «لطائف المعارف» للثعالبي أن «المكتفي» وهو قريب الصلة بعصر المأمون قد خلف مائة مليون دنيار! وهذا تفصيلها:
دينار
20000000
من العين والورق والأواني المعمولة
20000000
من الفرش
20000000
من الكراع والسلاح والغلمان
20000000
الضياع والعقار والأملاك
20000000
الجوهر والطيب وما يجرى معهما
ومن المعقول أن نتخذ من حالة هذا الخليفة العباسي مقياسا لغيره، وإن كنا نعلم أن غيره مثل الرشيد والمأمون كانا أبسط منه سلطانا وأكثر أعوانا، فهما إن لم يكونا أرفع منه شأنا ليسا بأقل منه بالثروة مكانا.
أما ثروة كبار رجالهم، فإنا نذكر لك هنا على سبيل المثال نصا هاما يصح أن نتخذه أساسا لتقدير ثروة أسرة الفضل بن سهل أو أسرة طاهر بن الحسين أو غيرهما من أساطين الدولة وأقطاب المملكة، وهو النص الذي رواه سهل بن هارون، أحد المعاصرين، خاصا بثروة البرامكة، وكلامه حجة لا محالة لأنه إلى جانب كونه من المعاصرين الواقفين على مجريات الأمور وبواطنها في ذلك العهد، فقد كان يشغل وظيفة خازن دار الحكمة في أيام المأمون، قال: «... وأمر الرشيد بضم أموالهم فوجد من العشرين ألف ألف التي كانت مبلغ جبايتهم اثني عشر ألف ألف مكتوب على بدرها صكوك مختومة تفسيرها رقيما حبوا بها، فما كان منها حباء على غريبة أو استطراف ملحة تصدق به يحيى، وأثبت ذلك في ديوانها على تواريخ أيامها، فكان ديوان إنفاق واكتساب فائدة، وقبض من سائر أموالهم ثلاثين ألف ألف وستمائة ألف وستة وسبعين ألفا إلى سائر ضياعهم وغلاتهم ودورهم ورياشهم، والدقيق والجليل من مواعينهم، فإنه لا يصف أقله ولا يعرف أيسره إلا من أحصى الأعمال وعرف منتهى الآجال».
ويجوز لنا كذلك أن نستخلص مما صرف على زواج بوران بالمأمون مبلغ ثروة الحسن بن سهل، كما يجوز لنا أن نتبين مقدار ثروة عبد الله بن طاهر من رواية صاحب النجوم الزاهرة الخاصة بإحدى مواقفه في الكرم ومؤداها: أنه افتدى الأسرى من الترك بنحو ألفي ألف درهم، ثم انظر ما رواه المسعودي في مروجه خاصا بما فعله إبراهيم بن المهدي في زيارة للرشيد له؛ إذ اصطنع له طاهيه جملة أطعمة فخمة وكان من جملتها جام سمك مقطع، فاستصغر الرشيد قطعه واستفسر منه عن حقيقتها، فأجابه إبراهيم بن المهدي: يا أمير المؤمنين، هذه ألسنة السمك. وقدرت نفقة ما في ذلك الجام بألف درهم.
ثم انظر بذخهم في لباسهم وقد سبق لنا أن أشرنا إلى ما كانوا يلبسونه في المنادمة من مختلف الثياب وغاليها، ونريد أن نبين هنا ما وقفنا عليه من مخلفات بعض المعاصرين من الخلفاء والقواد؛ ليكون مثالا تقريبيا لحالة من لم يصل إلى علمنا خبره، فقد ذكر أن ما خلفه المكتفي من الألبسة هو:
عدد
4000000
من الثياب المقصورة سوى الخامات
63000
من الأثواب الخراسانية المروية
8000
من الملاءات
13000
العمائم المروية
1800
الحلل الموشاة اليمانية وغيرها منسوجة بالذهب
180000
البطائن التي من كرمان في أنابيب القصب
18000
الأبسطة الأرمنية
وذكروا أن ذا اليمينين توفي وفي خزانته ألف وثلاثمائة سراويل ديبقي لم يستعملها، وقيل إنهم وجدوا في كسوة بختيشوع الطبيب 400 سراويل ديبقي.
وقد اطلعنا في الجزء العشرين من «كتاب نهاية الأرب» على أن ملك التبت قدم على المأمون ومعه صنم من ذهب على سرير من ذهب مرصع بالجوهر، فأسلم الملك وأخذ المأمون الصنم وأرسله إلى الكعبة، وطالعنا فيه أيضا أن ملك الهند أهدى إليه هدية نفيسة وكتب إليه معددا أمواله وثروته، مما يدل على بذخ العصر وثروة الملوك فيه.
وقد استفحل أمر البذخ في ذلك العصر حتى أصبحنا نرى أبا العتاهية مثلا وهو المعروف ببخله يهدي إلى الرشيد في سبيل طلبه لعتبة ثلاث مراوح - وكان العباسيون قد تفننوا فيها وفي المذاب التي اخترعت في أيامهم - وكتب على كل مروحة بيتا قال في مجموعها:
ولقد تنسمت الرياح لحاجتي
فإذا لها من راحتيه شميم
أعلقت نفسي من رجائك ماله
عنق يحث إليك بي ورسيم
ولربما استيأست ثم أقول لا
إن الذي ضمن الرياح كريم
ولعلك إذا تذكرت أمر سفن الأمين وبذخه وإسرافه مضافا إليه ما ذكرنا هنا وغيره تؤمن بما نقول من بذخ العصر واستفحال ثروته، على أنا قد عثرنا على مصدرين ننشرهما مع الحيطة والحذر لبيان ثروة العصر، يتضمن الأول بيان الجباية في أيام المأمون، ويتضمن الثاني حالتها في أيام أخيه المعتصم مفترضين في كلتا الحالتين جواز المبالغة في التقدير؛ في المصدرين نرى مع ذلك أن أي تقدير متواضع للخراج في ذلك العصر لا بد أن يكون عظيما ودالا على الثروة والغنى والبذخ. (5) الخراج في عهد المأمون
يمتاز عهد المأمون بوجود أثر تاريخي يدل على مقدار الجباية الخراجية في جميع الأقاليم التي كانت تحت حكم الدولة العباسية، وهو الثبت الذي نقله العلامة ابن خلدون في تاريخه، وقد أحببنا لما في ذلك الثبت من الفائدة أن ننقله عنه، وها هو ذا:
الإقليم
الجباية من الدراهم والدنانير
الجباية من العروض
درهم
السواد
27800000
200 حلة نجرانية
240 رطلا من طين الختم
كسكر
11600000
كور دجلة
20800000
حلوان
4800000
الأهواز
25000000
30000 رطل سكر
فارس
27000000
30000 قارورة ماء ورد
20000 رطل زيت أسود
كرمان
4200000
500 ثوب متاع يماني
20000 رطل تمر
مكران
400000
السند وما يليه
11500000
150 رطل عود هندي
سجستان
4000000
300 ثوب معين
20 رطل من الفانيد
خراسان
28000000
2000 نقرة فضة
4000 برذون
1000 رأس رقيق
20000 ثوب متاع
30000 رطل إهليلج
جرجان
12000000
1000 شقة إبريسم
قومس
1500000
1000 نقرة فضة
طبرستان والريان ودماوند
6300000
600 قطعة فرش طبري
200 كساء و500 ثوب
300 منديل و300 جام
الري
12000000
20000 رطل عسل
همدان
11300000
1000 رطل رب الرمانين
12000 رطل عسل
ماها البصرة والكوفة
10700000
ماسبذان والريان
4000000
شهرزور
6700000
الموصل وما يليها
24000000
20000 رطل عسل
أذربيجان
4000000
الجزيرة وما يليها من أعمال الفرات
34000000
1000 رأس رقيق
12000 زق عسل
10 بزاة
20 كساء
أرمينية
13000000
20 قسط محفور
530 رطل رقم
10000 رطل من المسايح السرماهي
10000 رطل صونج
200 بغل
30 مهرا
برقة
1000000
إفريقية
13000000
120 بساط
المجموع
318600000
درهم
من الدنانير
قنسرين
400000
1000 حمل زيت
دمشق
420000
الأردن
97000
فلسطين
310000
300000 رطل زيت
مصر
2920000
اليمن
370000
سوى المتاع (الذي لم يذكر)
الحجاز
300000
4817000
دينار، وتساوي 72255000 درهم باعتبار الدينار 15 درهما، وهو تقديره في ذلك العصر،
فيكون المجموع بالدراهم
72255000
يضاف إليه جباية الأقاليم المذكورة أعلاه
318600000
الجملة
390855000
درهم (6) الخراج في عهد المعتصم
أما جباية الدولة في أيام المعتصم، فهاك هي نقلا عن قدامة بن جعفر: كانت جباية السواد معظمها من الحنطة والشعير، وقد ذكر قدامة مقدار كل منهما مفصلا باعتبار طساسيج السواد، أي نواحيه في الشرق والغرب:
اسم الناحية
مقدار الحنطة بالكر
مقدار الشعير بالكر
الدراهم
طساسيج السواد في الجانب الغربي:
الأنبار ونهر عيسى
11800
6400
400000
طسوج مسكن
3000
1000
150000
طسوج قطربل
2000
1000
300000
طسوج بادوريا
3500
1000
1000000
بهر سبر
1700
1700
150000
الرومقان
3300
3300
250000
كوثى
3000
2000
350000
نهر درقيط
2000
2000
200000
نهر جوبر
1500
6000
150000
باروسما ونهر الملك
3500
4000
122000
الزوابي الثلاثة
1400
7200
250000
بابل وخطرنية
3000
5000
350000
الفلوجة العليا
500
500
70000
الفلوجة السفلى
2000
3000
280000
طسوج النهرين
300
400
45000
طسوج عين التمر
300
400
45000
طسوج الجبة والبداة
1500
1600
150000
سورا وبرنسيما
1500
4500
250000
البرس الأعلى والأسفل
500
5500
150000
فرات بادقلي
2000
2500
62000
طسوج السيلحين
1000
1500
140000
روذستان وهرمزجرد
500
500
20000
تستر
2200
2000
300000
إيغار يقطين
1200
2000
204800
كسكر
30000
20000
270000
طساسيج السواد في الجانب الشرقي:
طسوج بزرجسابور
2500
2200
300000
طسوج الراذانين
4800
4800
120000
طسوج نهر بوق
200
1000
100000
كلواذى ونهر بين
1600
1500
330000
جازر والمدينة العتيقة
1000
1500
240000
روستقباد
1000
1400
246000
سلسل ومهروذ
2000
1500
150000
جلولا وجللتا
1000
1000
100000
الذيبين
1900
1300
40000
الدسكرة
1800
1400
60000
البنذنيجين
600
500
35000
طسوج براز الروذ
3000
5100
120000
النهروان الأعلى
1700
1800
350000
النهروان الأوسط
1000
500
100000
بدرايا وبكسايا
4700
5000
330000
كور دجلة
900
4000
430000
نهر الصلة
1000
3121
59000
النهروان الأسفل
1700
1300
53000
مجموع خراج السواد
115600
123921
8821800
فمجموع جباية السواد باعتبار نواحيه 115600 كر حنطة، و123921 كر شعير، و8821800 درهم، على أن هذا المجموع يختلف عما قاله قدامة المذكور بعد أن أورد خراج كل ناحية بالتفصيل كما تقدم، فقد قال في إيراد المجموع: «ذلك ارتفاع السواد سوى صدقات البصرة من الحنطة 177200 كر، ومن الشعير 99721 كرا، ومن الورق 8095800 درهم»، وقد قال المرحوم جرجي بك زيدان: ولعل سبب هذا الفرق خطأ في قراءة بعض الأعداد، على أن الفرق على كثرته لا يعتد به فيما نحن فيه. بقي علينا أن نحول الحنطة والشعير إلى دراهم، وقد فعل جعفر ذلك فحولهما باعتبار ثمن الكرين المقرونين من الحنطة والشعير 60 دينارا، والدينار على صرف 15 درهما بدينار، فبلغ ذلك 100361850 درهما وقال: إن صدقات البصرة ترتفع في السنة 6000000 درهم، فإذا جمعت ذلك كله بلغ 114457650 درهما على هذه الصورة:
8095800
الدراهم المجموعة ورقا
100361850
قيمة الحنطة والشعير بالدرهم
6000000
صدقات البصرة
114457650
درهما
هذا هو ارتفاع السواد، فلنتقدم إلى إيراد جبايات سائر الأقاليم بالمشرق والمغرب وهي مع السواد:
أقاليم المشرق
درهم
السواد
114457650
الأهواز
23000000
فارس
24000000
كرمان
6000000
مكران
1000000
أصبهان
10500000
سجستان
1000000
خراسان
37000000
حلوان
900000
ماه الكوفة
5000000
ماه البصرة
4800000
همدان
1700000
ماسبذان
1200000
مهرجان قذق
1100000
الإيغارين
3100000
قم وقاشان
3000000
أذربيجان
4500000
الري ودماوند
20080000
قزوين وزنجان وأبهر
1828000
قومس
1150000
جرجان
4000000
طبرستان
4280700
تكريت والطيرهان
900000
شهرزور والصامغان
2750000
الموصل وما يليها
6300000
قردي وبذيدي
3200000
ديار ربيعة
9635000
أرزن وميافارقين
4200000
طرون
100000
آمد
2000000
ديار مضر
6000000
أعمال طريق الفرات
2900000
المجموع
311581350
أقاليم المغرب
دنانير
قنسرين والعواصم
360000
جند حمص
218000
جند دمشق
110000
جند الأردن
109000
جند فلسطين
295000
مصر والإسكندرية
2500000
الحرمين
100000
اليمن
600000
اليمامة والبحرين
510000
عمان
300000
المجموع
5102000
وإذا ما حولنا هذه الدنانير إلى دراهم باعتبار الدينار 15 درهما؛ فإنها تساوي 76710000 درهم، وبإضافتها إلى مجموع جباية أقاليم المشرق والجزيرة يكون مجموع ذلك كله 388291350 درهما، وهو ارتفاع الخراج على تقدير قدامة. (7) السعايات والجاسوسية
وهناك ملاحظة أخرى جديرة بالقيد وهي انتشار السعايات والدسائس في ذلك العصر انتشارا مروعا، ولعل سبب ذلك جنوح العباسيين إلى استعمال الجواسيس والرقباء بكثرة هائلة، فانظر مثلا ما جاء في الجزء العشرين من كتاب «نهاية الأرب» عن المأمون؛ إذ يقول: إنه كان يحب سماع أخبار الناس حتى جعل برسم الأخبار ببغداد ألف عجوز وسبعمائة عجوز، فتأمل جاسوسية العصر التي لا يبعد البتة أن تكون لها يومئذ إدارات خاصة.
وبعد، فمهما يكن من افتراضك للمبالغة والغلو فيما يرويه لنا صاحب نهاية الأرب، فإن اطلاعك على كتاب ابن طيفور الذي كان معاصرا لكثير من رواته، والذي كان قريب العهد بالمأمون وعصره، يقنعك بكثرة العيون وكثرة الأرصاد كثرة قد تهولك حقا وتدهشك صدقا.
وقد سبق أن قلنا: إن جل الساسة العباسيين كانوا يوصون بحفظ الأسرار، ويحبون الرجل الكتمة القفلة، وكان لحفظ الأسرار عندهم مكانة عظيمة، وإنك إذا نظرت إلى قول المأمون: «تحتمل الملوك كل شيء إلا ثلاثة: إفشاء السر، والقدح في الملك، والتعرض للحرم» علمت حينئذ مكانة حفظ السر عندهم، وأنها في المنزلة الأولى من اعتبارهم، واستطعت أن تعلل لم كانت خططهم غير واضحة ولا جلية، وربما كانت معماة مبهمة. (8) الدعاوة «البروپاچندا»
وهناك مسألة أخرى نحدثك بها، وهي جديرة بالملاحظة قمينة بالبحث، تلك هي عنايتهم بأمر الدعاوة وتقويتهم حملاتهم فيما يريدون الدفاع عنه، فقد كان إتقانهم لأمرها وعلمهم بأفانينها ووقوفهم على نظمها بالغا مبلغا عظيما؛ إذ كان في مكنتهم وطوع بنانهم أن يصوروا الحق باطلا والباطل حقا، وإن فيما رواه الطبري وغير الطبري عن سني حياة المأمون واستخدامه للرقاع تعلق على ظهر من يقتل أو يعاقب من رجالات دولته الغنية والكفاية فيما نحن بسبيل القول فيه.
وإنا نسوق إليك مثلين لتأييد ما ذهبنا إليه:
فقد ذكر الطبري أن المأمون لما قتل علي بن هشام أمر أن تكتب رقعة وتعلق على رأسه ليقرأها الناس، فكتب - وقد ذكرنا هذا الكتاب فيما سبق لمناسبة أخرى:
أما بعد، فإن أمير المؤمنين كان دعا علي بن هشام فيمن دعا من أهل خراسان أيام المخلوع إلى معاونته والقيام بحقه، وكان فيمن أجاب وأسرع الإجابة، وعاون فأحسن المعاونة، فرعى أمير المؤمنين ذلك له واصطنعه وهو يظن به تقوى الله وطاعته، والانتهاء إلى أمر أمير المؤمنين في عمل إن أسند إليه في حسن السيرة وعفاف الطعمة، وبدأه أمير المؤمنين بالإفضال عليه، فولاه الأعمال السنية ووصله بالصلات الجزيلة التي أمر أمير المؤمنين بالنظر في قدرها، فوجدها أكثر من خمسين ألف ألف درهم، فمد يده إلى الخيانة والتضييع لما استرعاه من الأمانة، فباعده عنه وأقصاه، ثم استقال أمير المؤمنين عثرته، فأقاله إياها وولاه الجبل وأذربيجان وكور أرمينية ومحاربة أعداء الله الخونة، على ألا يعود لما كان منه، فعاود أكثر ما كان بتقديمه الدينار والدرهم على العمل لله ودينه، وأساء السيرة، وعسف الرعية، وسفك الدماء المحرمة، فوجه أمير المؤمنين عجيف بن عنبسة مباشرا لأمره، وداعيا إلى تلافي ما كان منه، فوثب بعجيف يريد قتله، فقوى الله عجيفا بنيته الصادقة في طاعة أمير المؤمنين حتى دفعه عن نفسه، ولو تم ما أراد بعجيف لكان في ذلك ما لا يستدرك ولا يستقال، ولكن الله إذا أراد أمرا كان مفعولا، فلما أمضى أمير المؤمنين حكم الله في علي بن هشام، رأى ألا يؤاخذ من خلفه بذنبه، فأمر أن يجرى لولده ولعياله ولمن اتصل بهم ومن كان يجري عليهم مثل الذي كان جاريا لهم في حياته، ولولا أن علي بن هشام أراد العظمى بعجيف لكان في عداد من كان في عسكره ممن خالف وخان كعيسى بن منصور ونظرائه. والسلام.
فأنت ترى من هذا إلى أية درجة من العناية والاهتمام وصلت الدعاوة «البروباجندة» المأمونية.
ولا غرو فقد أفادت المأمون أيما إفادة، وقد كان المسلمون بسبب نشاط العباسين في الدعوة لأنفسهم أطوع لهم مما كانوا لبني أمية، واعتقدوا أن خلافتهم تبقى أبد الدهر حتى يأتي السيد المسيح، وغرس في أذهان الناس بتوالي الأزمان أن الخليفة العباسي إذا قتل اختل نظام العالم، واحتجبت الشمس وامتنع القطر وجف النبات! كل ذلك من أثر عناية العباسيين بالدعاوة لأنفسهم، واهتمامهم أيما اهتمام بتبرير تصرفاتهم وتزكية أعمالهم.
ثم انظر ماذا حصل لإبراهيم بن المهدي تر أن الدعوة المأمونية أبت إلا أن يقعد في دار المأمون لينظر إليه بنو هاشم والقواد والجند، وصير الدعاة المقنعة التي كان متنقبا بها في عنقه، والملحفة التي كان ملتحفا بها في صدره ليراه الناس ويعلموا كيف أخذ.
وانظر أخيرا - رعاك الله ووفقك - إلى ما يحدثنا به أحمد بن أبي دواد عن كلمة المأمون في هذا الصدد، قال: «قال لي المأمون: لا يستطيع الناس أن ينصفوا الملوك من وزرائهم، ولا يستطيعون أن ينظروا بالعدل بين الملوك وحماتهم وكفاتهم، وبين صنائعهم وبطانتهم، وذلك أنهم يرون ظاهر حرمة وخدمة واجتهاد ونصيحة، ويرون إيقاع الملوك بهم ظاهرا، حتى يزال الرجل يقول: ما أوقع به إلا رغبة في ماله أو رهبة في بعض ما لا تجود النفوس به، ولعل الحسد والملالة وشهوة الاستبدال اشتركت في ذلك، وهناك خيانات في صلب الملك أو في بعض الحرم فلا يستطيع الملك أن يكشف للعامة موضع العورة في الملك، ولا أن يحتج لتلك العقوبة بما يستحق ذلك الذنب، ولا يستطيع الملك ترك عقابه لما في ذلك من الفساد على علمه بأن عذره غير مبسوط للعامة ولا معروف عند أكثر الخاصة». (9) صعوبة مهمة المؤرخ
والحق أنها مهمة صعبة أن تستكشف حقيقة الظالم من المظلوم، والغالب من المغلوب، والهادي والضال في هذه الدولة التي لعبت فيها الأقلام والألسنة دورا عظيما، ولولا ما جنحنا إليه من الاطلاع على شتى المصادر، وقضينا في ذلك تمهيدا طويلا ودرسا مملا متعبا، فطالعنا أقوال الأحزاب المتضاربة، ووازنا بين كلمة هذا ودفاع ذاك لما كنا بالغين بعض ما بلغناه من إماطة اللثام عن بعض الحقائق التاريخية. وفي هذا القدر الكفاية عن حياة المأمون الخليفة، وآن لنا أن نتكلم عن نواحيه الخلقية.
هوامش
الفصل السابع
شخصية المأمون
(1) توطئة
نريد هنا أن نحلل أخلاق المأمون، ونريد أن نستقصي كل ما قيل عنه، وأن ندرس شتى نواحيه الخلقية بما تستحقه من العناية والتعليق والتوضيح، وسنعتمد فيما سنكتبه على الحوادث وما رواه المعاصرون عنه، ونرجو أن نوفق فيما سنعانيه. (2) كرمه وسخاؤه
يقول صاحب النجوم الزاهرة: إنه لم يفرق ملك ولا سلطان في يوم واحد مثل ما فرقه المأمون يوم ولى ولده العباس على الجزيرة؛ إذ أمر لكل من المعتصم والعباس بخمسمائة ألف دينار، وأمر بمثل ذلك لعبد الله بن طاهر.
وقد يكون من نافلة القول أن نذكر أن المأمون كان من أكثر خلفاء العباسيين جودا وأبسطهم يدا وأسخاهم نفسا، بعد أن نرى كتب التاريخ والأدب مفعمة بما كان له من حوادث غريبة في السخاء والجود.
والذي يتتبع ما ذكره المؤرخون من حوادث جوده وفيض إنعامه يرى أن كرم المأمون وسخاءه يرجع إلى عناصر مختلفة في نفسه، فمنها ما يرجع إلى ما في فطرته من أريحية واهتزاز للمعروف، ومنها ما يرجع إليه كسياسي يريد أن يظفر ويتملك القلوب ويوطد أركان سلطانه بالمال.
ونحن إذا نظرنا إلى الدوحة الهاشمية التي تفرع عنها المأمون، وأنه نشأ في حجر الخلافة في النعيم والترف، ومن هذا شأنه قل حرصه على المال، وإذا نظرنا أيضا إلى أنه خاض معمعة سياسية وحربية كان المال من أفعل آلاتها وأبعدها أثرا - وقد بينا لك في العصر الأموي ما كان للمال من أثر قوي في إقامة سلطان بني أمية وتوطيده - لم نر غلوا كبيرا فيما أترعت به كتب الأدب والتاريخ من حوادث جود المأمون وكرمه، ولننظر فيما يرويه لنا ابن طيفور في هذا السبيل فإنه قال: إن المأمون لما فتح «حصن فرة» وغنم ما فيه اشترى السبي بستة وخمسين ألف دينار، ثم خلى سبيلهم وأعطاهم دينارا دينارا.
وهاك مثالا مما يصح أن يكون من آثار أريحية المأمون وإرادته توطيد سلطانه:
يحدثنا ابن الأثير والطبري أن العبسي صاحب إسحاق بن إبراهيم قال: كنت مع المأمون بدمشق وكان قد قل المال عنده حتى أضاق وشكا ذلك إلى أبي إسحاق المعتصم، فقال له: يا أمير المؤمنين، كأنك بالمال وقد وافاك بعد جمعة، وكان قد حمل إليه ثلاثين ألف ألف ألف
1
درهم من خراج ما يتولاه له، قال: فلما ورد عليه ذلك المال قال المأمون ليحيى بن أكثم: اخرج بنا ننظر إلى هذا المال، قال: فخرجا حتى أصحرا ووقفا ينظرانه، وكان قد هيئ بأحسن هيئة، وحليت أباعره، وألبست الأحلاس الموشاة والجلال المصبغة، وقلدت العهن، وجعلت البدر بالحرير الصيني الأحمر والأخضر والأصفر، وأبديت رءوسها، قال: فنظر المأمون إلى شيء حسن، واستكثر ذلك فعظم في عينه، واستشرفه الناس ينظرون إليه ويعجبون منه، فقال المأمون ليحيى: يا أبا محمد، ينصرف أصحابنا هؤلاء الذين تراهم الساعة خائبين إلى منازلهم، وننصرف بهذه الأموال وقد ملكناها دونهم، إنا إذن للئام! ثم دعا محمد بن يزداد فقال له: وقع لآل فلان بألف ألف، ولآل فلان بمثلها، ولآل فلان بمثلها، قال: فوالله إن زال كذلك حتى فرق أربعة وعشرين ألف ألف درهم ورجله في الركاب ثم قال: ادفع الباقي إلى المعلى يعطي جندنا، قال العبسي: فجئت حتى قمت نصب عينه، فلم أرد طرفي عنها لا يلحظني إلا رآني بتلك الحال، فقال: يا أبا محمد، وقع لهذا بخمسين ألف درهم من ستة آلاف الألف، قال: فلم يأت علي ليلتان حتى أخذت المال.
ومما يدل على كرم نفس المأمون وحسن تبسطه ما رواه القاسم بن محمد الطيفوري قال: شكا اليزيدي إلى المأمون خلة أصابته ودينا لحقه فقال: ما عندنا في هذه الأيام ما إن أعطيناكه بلغت به ما تريد، فقال: يا أمير المؤمنين، إن الأمر قد ضاق علي، وإن غرمائي قد أرهقوني، قال: فرم لنفسك أمرا تنل به نفعا، فقال: لك منادمون فيهم من إن حركته نلت منه ما أحب، فأطلق لي الحيلة فيهم، قال: قل ما بدا لك، قال: فإذا حضروا وحضرت فمر فلانا الخادم أن يوصل إليك رقعتي، فإذا قرأتها فأرسل إلي: «دخولك في هذا الوقت متعذر، ولكن اختر لنفسك من أحببت»، قال: فلما علم أبو محمد بجلوس المأمون واجتماع ندمائه إليه، وتيقن أنهم قد ثملوا من شربهم أتى الباب فدفع إلى ذلك الخادم رقعة قد كتبها، فأوصلها إلى المأمون فقرأها فإذا فيها:
يا خير إخواني وأصحابي
هذا الطفيلي لدى الباب
خبر أن القوم في لذة
يصبو إليها كل أواب
فصيروني واحدا منكم
أو أخرجوا لي بعض أترابي
قال: فقرأها المأمون على من حضره، فقالوا: ما ينبغي أن يدخل هذا الطفيلي على مثل هذه الحالة، فأرسل إليه المأمون: «دخولك في هذا الوقت متعذر؛ فاختر لنفسك من أحببت تنادمه» فقال: ما أرى لنفسي اختيارا غير عبد الله بن طاهر، فقال له المأمون: قد وقع اختياره عليك فسر إليه، قال: يا أمير المؤمنين، فما أكون شريك الطفيلي، قال: ما يمكن رد أبي محمد عن أمرين؛ فإن أحببت أن تخرج وإلا فافتد نفسك، فقال: يا أمير المؤمنين، له علي عشرة آلاف درهم! قال: لا أحسب ذلك يقنعه منك ومن مجالستك، قال: فلم يزل يزيده عشرة عشرة والمأمون يقول له: لا أرضى له بذلك حتى بلغ مائة ألف، قال: فقال له المأمون: فعجلها له، قال: فكتب له بها إلى وكيله ووجه معه رسولا، فأرسل إليه المأمون: «قبض هذه في هذه الحال أصلح لك من منادمته على مثل حاله وأنفع عاقبة».
ويتجلى سخاء المأمون مع الوفاء وطيب النفس في موقفه مع غلام سعيد الجوهري الذي كان قد لز بالمأمون في الكتاب، فكان إذا احتاج المأمون إلى محو لوحه بادر إليه فأخذ اللوح من يده فمحاه، وغلب على غلمان المأمون ومسحه وجاء به فوضعه على المنديل في حجره، فلما سار المأمون إلى خراسان وكان من أخيه محمد الأمين ما كان، خرج إليه غلام سعيد هذا فوقف بالباب حتى جاء أبو محمد اليزيدي، فلما رآه عرفه فدخل فأخبر المأمون، فقال له مستبشرا بقدومه: لك البشرى! ثم أذن له فدخل عليه، فضحك إليه حين رآه ثم قال: أتذكر وأنت تبادر إلى محو لوحي؟ قال: نعم يا سيدي. فوصله بخمسمائة ألف درهم.
وانظر فيما يحدثنا به الطبري عن محمد بن أيوب قال: إنه كان بالبصرة رجل من بني تميم، وكان شاعرا ظريفا خبيثا ماكرا، وكنت أنا والي البصرة آنس به وأستحليه، فأردت أن أخدعه وأستنزله فقلت له: أنت شاعر، وأنت ظريف، والمأمون أجود من السحاب الحافل والريح العاصف، فما يمنعك منه؟ قال: ما عندي ما يقلني، قلت: فأنا أعطيك نجيبا فارها ونفقة سابغة وتخرج إليه وقد امتدحته، فإنك إن حظيت بلقائه صرت إلى أمنيتك، قال: والله أيها الأمير، ما إخالك أبعدت فأعد لي ما ذكرت، قال: فدعوت له بنجيب فاره فقلت: شأنك به فامتطه، قال: هذه إحدى الحسنيين، فما بال الأخرى؟
فدعوت له بثلثمائة درهم وقلت: هذه نفقتك، قال: أحسبك أيها الأمير قصرت في النفقة، قلت: لا، هي كافية إن قصرت عن السرف، قال: ومتى رأيت في أكابر سعد سرفا حتى تراه في أصاغرها؟ فأخذ النجيب والنفقة ثم عمل أرجوزة ليست بالطويلة فأنشدنيها وحذف منها ذكري والثناء علي، وكان ماردا، فقلت له: ما صنعت شيئا، قال: وكيف؟ قلت: تأتي الخليفة ولا تثني على أميرك! قال: أيها الأمير، أردت أن تخدعني فوجدتني خداعا، أما والله ما لكرامتي حملتني على نجيبك ولا جدت لي بمالك الذي ما رامه أحد قط إلا جعل الله خده الأسفل، ولكن لأذكرك في شعري وأمدحك عند الخليفة، افهم هذا، قلت: قد صدقت، فقال: أما إذ أبديت ما في ضميرك، فقد ذكرتك وأثنيت عليك، قلت: فأنشدني ما قلت، فأنشدنيه، فقلت: أحسنت.
ثم ودعني وخرج فأتى الشام وإذا المأمون «بسلغوس»، قال: فأخبرني قال: بينا أنا في غزاة قرة قد ركبت نجيبي ذاك، ولبست مقطعاتي وأنا أروم العسكر، فإذا أنا بكهل على بغل فاره ما يقر قراره ولا تدرك خطاه، قال: فتلقاني مكافحة ومواجهة وأنا أردد نشيد أرجوزتي، فقال: سلام عليكم - بكلام جهوري ولسان بسيط - فقلت: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته! قال: قف إن شئت، فوقفت، فتضوعت منه رائحة العنبر والمسك الأذفر، فقال: ما أولك؟ قلت: رجل من مضر، قال: ونحن من مضر، ثم قال: ثم ماذا ؟ قلت: رجل من بني تميم، قال: وما بعد تميم؟ قلت: من بني سعد، قال: هيه! فما أقدمك هذا البلد؟ قال: قصدت هذا الملك الذي ما سمعت بمثله أندى رائحة، ولا أوسع راحة، ولا أطول باعا، ولا أمد يفاعا، قال: فما الذي قصدته به؟ قلت: شعر طيب يلذ على الأفواه وتقتفيه الرواة ويحلو في آذان المستمعين، قال: فأنشدنيه، فغضبت وقلت: يا ركيك! أخبرتك أني قصدت الخليفة بشعر قلته ومديح حبرته، تقول أنشدنيه! قال: فتغافل والله عنها وتطامن لها وألغى عن جوابها، قال: وما الذي تأمل منه؟ قلت: إن كان على ما ذكر لي عنه فألف دينار، قال: فأنا أعطيك ألف دينار إن رأيت الشعر جيدا والكلام عذبا، وأضع عنك العناء وطول الترداد، ومتى تصل إلى الخليفة وبينك وبينه عشرة آلاف رامح ونابل؟ قلت: فلي الله عليك أن تفعل، قال: نعم، لك الله علي أن أفعل، قلت: ومعك الساعة مال؟ قال: هذا بغلي، وهو خير من ألف دينار، أنزل لك عن ظهره، قال: فغضبت أيضا وعارضني نزق سعد وخفة أحلامها، فقلت: ما يساوي هذا البغل هذا النجيب، قال: فدع عنك البغل، ولك الله علي أن أعطيك الساعة ألف دينار، قال: فأنشدته:
مأمون يا ذا المنن الشريفه
وصاحب المرتبة المنيفه
وقائد الكتيبة الكثيفه
هل لك في أرجوزة طريفه
أظرف من فقه أبي حنيفه
لا والذي أنت له خليفه
ما ظلمت في أرضنا ضعيفه
أميرنا مؤنته خفيفه
وما اجتبى شيئا سوى الوظيفه
فالذئب والنعجة في سقيفه
واللص والتاجر في قطيفه
قال: فوالله ما عدا أن أنشدته، فإذا زهاء عشرة آلاف فارس قد سدوا الأفق، يقولون: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته!
قال: فأخذني أفكل
2
ونظر إلي بتلك الحالة فقال: لا بأس عليك أي أخي.
قلت: يا أمير المؤمنين، جعلني الله فداءك، أتعرف لغات العرب؟
قال: إي لعمر الله!
قلت: فمن جعل الكاف منه مكان القاف؟
قال: هذه حمير.
قلت: لعنها الله ولعن من استعمل هذه اللغة بعد اليوم!
فضحك المأمون وعلم ما أردت، والتفت إلى خادم إلى جانبه فقال: أعطه ما معك، فأخرج إلي كيسا فيه ثلاثة آلاف دينار.
فقال: هاك، ثم قال: السلام عليك ومضى، فكان آخر العهد به.
أما عن كرم نفسه، فإن ابن طيفور يحدثنا أن مخارقا قال: كنا عند المأمون أنا والمغنون بدمشق وعريب معنا .
فقال: غن يا مخارق.
فقلت: أنا محموم.
فقال: يا عريب، جسيه.
فرفعت يدها إلى عضدي، فقال لها المأمون: قد اشتهيته، تحبين أن أزوجك؟
قالت: نعم!
فقال: من تريدين؟
قالت: هذا، وأومأت إلى محمد بن حامد، فقال: اشهدوا أني قد زوجتها منه، ثم انظر ما يستطرد به مخارق من أن المعتصم لما ولي كتب إلى إسحاق بن إبراهيم أن: مر محمد بن حامد أن يطلق عريبا، فأمره فتأبى، فكتب إليه أن: اضربه، فضربه بالمقارع حتى طلقها، ففي هذه الرواية ما يساعد على الوصول إلى تنظير في هذه الناحية بين المأمون وأخيه المعتصم.
أما كرم بطانته واقتفاؤهم أثره وترسمهم خطواته، فإن الحديث في ذلك يطول، وقصارانا أن نحيل إلى ما فعل طلحة بن طاهر وعبد الله بن طاهر وغيرهما، فاطلب ذلك في مظانه.
وبعد، فإنه لمن الجميل الممتع حقا أن يكون الملك كريما بسجيته، جوادا بنزعته، وقد يكون أجمل وأمتع وأبلغ وأوقع أن يكون من وراء فواضله وإنعاماته تشجيع الكفايات على الظهور، واستحثاث أصحاب الهمم والعزمات، والمواهب والعبقريات، وعلى التبريز والإحسان، والإجادة والإتقان خدمة لبني الإنسان ورفعة للأوطان. (3) كيف تملك المأمون قلوب بطانته؟
نريد أن نترك الكلمة في تصوير هذه الناحية لما يرويه لنا ولاة المأمون أنفسهم، فقد قال رجل من إخوة المأمون للمأمون: يا أمير المؤمنين، إن عبد الله بن طاهر يميل إلى ولد أبي طالب، وكذا كان أبوه قبله، فدفع المأمون ذلك وأنكره، ثم عاد بمثل هذا القول، فدس إليه رجلا ثم قال له: امض في هيئة القراء والنساك إلى مصر، فادع جماعة من كبرائها إلى القاسم بن إبراهيم بن طباطبا، واذكر مناقبه وعلمه وفضائله، ثم صر بعد ذلك إلى بعض بطانة عبد الله بن طاهر، ثم ائته فادعه ورغبه في استجابته له، وابحث عن دفين نيته بحثا شافيا، وائتني بما تسمع منه.
قال: ففعل الرجل ما قال له وأمره به، حتى إذا دعا جماعة من الرؤساء والأعلام قعد يوما بباب عبد الله بن طاهر وقد ركب إلى عبيد الله بن السري بعد صلحه وأمانه، فلما انصرف قام إليه الرجل فأخرج من كمه رقعة فدفعها إليه، فأخذها بيده، فما هو إلا أن دخل فخرج الحاجب إليه، فأدخله عليه وهو قاعد على بساطه ما بينه وبين الأرض غيره، وقد مد رجليه وخفاه فيهما.
فقال له: قد فهمت ما في رقعتك من جملة كلامك، فهات ما عندك.
قال: ولي أمانك وذمة الله معك؟
قال: لك ذلك.
قال: فأظهر له ما أراد ودعاه إلى القاسم فأخبره بفضائله وعلمه وزهده.
فقال له عبد الله: أتنصفني؟
قال: نعم.
قال: هل يجب شكر الله على العباد؟
قال: نعم.
قال: فهل يجب شكر بعضهم لبعض عند الإحسان والمنة والتفضل؟
قال: نعم.
قال: فتجيء إلي وأنا في هذه الحال التي ترى؛ لي خاتم في المشرق جائز وفي المغرب كذلك، وفيما بينهما أمري مطاع وقولي مقبول، ثم ما التفت يميني ولا شمالي وورائي وقدامي إلا رأيت نعمة رجل أنعمها علي، ومنة ختم بها رقبتي، ويدا لائحة بيضاء ابتدأني بها تفضلا وكرما، فتدعوني إلى الكفر بهذه النعمة وهذا الإحسان، وتقول: اغدر بمن كان أولا لهذا وآخرا، واسع في إزالة خيط عنقه وسفك دمه! تراك لو دعوتني إلى الجنة عيانا من حيث أعلم أكان الله يحب أن أغدر به، وأكفر إحسانه ومنته، وأنكث بيعته! فسكت الرجل، فقال له عبد الله: أما إنه قد بلغني أمرك، وتالله ما أخاف عليك إلا نفسك، فارحل عن هذا البلد فإن السلطان الأعظم إن بلغه أمرك - وما آمن ذلك عليك - كنت الجاني على نفسك ونفس غيرك، فلما أيس الرجل مما عنده جاء إلى المأمون فأخبره الخبر، فاستبشر وقال: ذلك غرس يدي، وإلف أدبي، وترب تلقيحي، ولم يظهر من ذلك لأحد شيئا ولا علم به عبد الله إلا بعد موت المأمون.
وانظر إلى تلك النصيحة التي تقدم بها عبد الله بن طاهر لمنصور بن طلحة ينهاه عن الكلام في الإمامة؛ إذ يقول: «إنما نبت شعرنا على رءوسنا ببني العباس»، ثم انظر إلى ما كتبه المأمون إلى عبد الله المذكور:
أخي أنت ومولاي
ومن أشكر نعماه
فما أحببت من أمر
فإني الدهر أهواه
وما تكره من شيء
فإني لست أرضاه
لك الله على ذاك
لك الله لك الله
وانظر إلى ما رواه الطبري عما قاله عبد الله بن طاهر وهو محاصر بمصر عبيد الله بن السري إذ قال:
بكرت تسبل دمعا
أن رأت وشك براحي
وتبدلت صقيلا
يمنيا بوشاحي
وتماديت بسير
لغدو ورواح
زعمت جهلا بأني
تعب غير مراح
أقصرى عني فإني
سالك قصد فلاحي
أنا للمأمون عبد
منه في ظل جناح
إن يعاف الله يوما
فقريب مستراحي
أو يكن هلك فقولي
بعويل وصياح
حل في مصر قتيل
ودعى عنك التلاحي
ألا يجوز لنا أن نستخلص مما قدمناه لك أن المأمون كان محبوبا عند بطانته؟ ولسنا ننفي بذلك أن الأمين لم يكن محبوبا، وأن موته آلم أهل بغداد وجندها، ولا ننكر أن بعضا من جند طاهر بن الحسين انضم إلى الأمين طمعا في ماله، وحبا في سخائه مما بيناه لك في موضعه، ولكنا الآن بموقف الذين يحللون أخلاق المأمون، وفي عنقنا ألا نترك ناحية من نواحيه من غير أن نفيها حقها من البحث، ونعطيها نصيبها من الاستقراء.
وبعد، فإنه مما لا مندوحة للمليك عنه أن يكون وادعا محببا إلى بطانته وحاشيته بإحسانه إليهم، وتعهده إياهم بعطفه ورعايته، وأن يحدب عليهم ويرعاهم بعناية تشملهم ألطافها، وتقلد أعناقهم مننها، وتكون أشمل للرعية وأرعى للأفراد لحقهم من شخصه الجليل؛ إذ هو ملك للرعية جميعها، على اختلاف ألوانها وتباين مراتبها، وهو عظيم التبعة أمام الله والتاريخ عمن تملك عليهم وتولى أمر دنياهم وآخرتهم. (4) تقديره لرجال الدولة
كان المأمون أكثر توفيقا من أخيه الأمين في كفاية بطانته، وقدرة قادته، وحزم مشيريه، وبصر ولاته، وكان مع ظفره بالناصحين من خاصته كثير التأمل لما يجري في ملكه من مظاهر الضعف والقوة، حريصا على تدبر ما يمر به من مختلف الشئون في تعرف الشخصيات القوية التي يرجو أن يستند إليها الملك ويتأيد بها النظام.
ولقد حدثنا الطبري في تاريخه عن إسحاق بن إبراهيم أن المعتصم قال له: يا إسحاق، في قلبي أمر أنا مفكر فيه منذ مدة طويلة، وإنما بسطتك في هذا الوقت لأفشيه إليك، فقلت: قل يا سيدي يا أمير المؤمنين، فإنما أنا عبدك وابن عبدك، قال: نظرت إلى أخي المأمون وقد اصطنع أربعة أنجبوا، واصطنعت أنا أربعة لم يفلح أحد منهم، قلت: ومن الذين اصطنعهم أخوك؟ قال: طاهر بن الحسين، فقد رأيت وسمعت، وعبد الله بن طاهر، فهو الرجل الذي لم ير مثله، وأنت، فأنت والله الذي لا يعتاض السلطان منك أبدا، وأخوك محمد بن إبراهيم، وأين مثل محمد؟ وأنا فاصطنعت الأفشين، فقد رأيت إلى ما صار أمره، وإشناس ففشل رأيه، وإيتاخ فلا شيء، ووصيفا فلا مغني فيه، فقلت: يا أمير المؤمنين، جعلني الله فداك، أجيب عن أمان من غضبك؟ قال: قل، قلت: يا أمير المؤمنين، أعزك الله، نظر أخوك إلى الأصول فاستعملها فأنجبت فروعها، واستعمل أمير المؤمنين فروعا لم تنجب؛ إذ لا أصول لها، فقال: يا إسحاق، لمقاساة ما مر بي في طول هذه المدة أسهل علي من هذا الجواب.
ولقد كان المأمون، إلى جانب هذه الخبرة بما يحتاج إليه من صفوة الرجال، بصيرا بما في مملكته من ألوان المكر وصنوف الرياء؛ فقد حدثنا ابن طيفور عن إبراهيم بن المهدي قال: قال المأمون يوما وفي مجلسه جماعة: هاتوا من عسكرنا من يطلب ما عندنا بالرياء، قال: فقال كل واحد بما عنده؛ إما أن يقول في عدو بما يقدح فيه، أو يقول بما يعلم أنه يسر خليفته، فلما قالوا ذلك قال: ما أرى عند أحد منكم ما يبلغ إرادتي، ثم أنشأ يحدث عن أهل عسكره أهل الرياء ، حتى والله لو كان قد أقام في رحل كل واحد منهم حولا محرما ما زاد على معرفته، قال: فكان مما حفظت عنه في ثلب أصحابه أن قال حين ذكر أهل الرياء وما يعاملون به الناس: تسبيح حميد الطوسي، وصلاة قحطبة، وصيام النوشجاني، ووضوء المريسي، وبناء مالك بن شاهي المساجد، وبكاء إبراهيم بن بريهة على المنبر، وجمع الحسن بن قريش اليتامي، وقصص منجى، وصدقة علي بن الجنيد، وحملان إسحاق بن إبراهيم في السبيل، وصلاة أبي رجاء الضحى، وجمع علي بن هشام القصاص، قال: حتى عددنا جماعة كثيرة، فقال لي رجل من عظماء العسكر حين خرجنا من الدار: بالله هل رأيت أو سمعت بملك قط أعلم برعيته ولا أشد تنقيرا من هذا؟ قلت: اللهم لا! فحدث بهذا الحديث رجلا من أصحاب الأخبار والعلم، فقال: وما نصنع بهذا؟ قد شهدت رسالته إلى إسحاق بن إبراهيم في الفقهاء يخبر بمعايبهم رجلا رجلا، حتى لهو بها أعلم منهم بما في منازلهم.
وإن في ذيوع هذه الأخبار عن المأمون دليلا على عنايته بنشر دعوة الملك الموطد الذي ييئس المخاتلون من التنكر له والخروج عليه، فإن ظهور الملوك بالنفاذ إلى سرائر الرعية، يزيدهم قوة إلى قوة وسلطانا إلى سلطان.
وإنا إذا نظرنا إلى من استوزره وأعلى مكانه واستخلصه لنفسه من رجالات دولته وقواد ملكه؛ لم نتردد في الحكم للمأمون وأنه كان الموفق المسدد في اختيار أهل الكفايات والنبوغ.
وقد كان إلى جانب هذا يقدر الكفاية في خصومه، ونظرة فيما رواه ابن طيفور عن الحسن بن عبد الخالق خاصا برأي المأمون في الفضل بن الربيع، وهو الذي تعلم مقدار إساءته إليه، تدلك على هذا، فقد قال المأمون في معرض الحديث عن الفضل:
كان يدبرالخطأ فيقع صوابا، ويبعث بالجيش الضعيف فيقع به النصر، وأدبر أنا فيقع بغير ذلك، فلما وقفت على البصيرة من أمري، وفكرت في نفسي، وعملت بالأحزم في ذلك ملت إلى الحزم فوردت العراق. وإن الفضل بن الربيع بقية الموالي، فلا تخبره بذلك عني؛ فإني أكره أن يبلغه عني ما يسره.
ويؤيد صحة هذه الرواية ما ذكره بشر السلماني من المعاصرين إذ يقول: «سمعت أحمد بن أبي خالد يقول: كان المأمون إذا أمرنا بأمر فظهر من أحدنا فيه تقصير يقول: أترون أني لا أعرف رجلا ببابي لو قلدته أموري كلها لقام بها؟ فقال بشر : فقلت لأحمد بن أبي خالد: يا أبا العباس، من يعني؟ قال: الفضل بن الربيع».
ويظهر أن خطة المأمون في تقدير الكفايات أني وجدت قد اتبعها قادة المأمون نفسه، فإن ابن طيفور يحدثنا أنه لما ولي طاهر بن الحسين على شرطة المأمون سنة أربع ومائتين، وكان عليها من قبل العباس بن المسيب بن زهير، كتب طاهر إلى الفضل بن الربيع: «إن في رأيك البركة، وفي مشورتك الصواب، فإن رأيت أن تختار لي رجلين للجسر!» فكتب إليه ابن الربيع: «قد وجدتهما لك، وهما: خيار السندي بن يحيى، وعياش بن القاسم». فولاهما طاهر الجسرين.
وبعد، فإنا نظن أن في هذا القدر الكفاية لإثبات ما كان من تقدير المأمون ورجاله لأهل الكفاية والاقتدار، وحرصهم على استعمال أصحاب المواهب، والاستعانة بهم وبكفاياتهم في خدمة الدولة. (5) قدره للشجاعة الأدبية
كان المأمون يرضيه أن يكون الرجل نقي السريرة، رابط الجأش، يقدم على كلمة الحق غير هياب، وقد حدثنا ابن أبي طاهر طيفور عمن روى عنه قال: «حدثني أحمد بن أبي خالد الأحول بخراسان فيما كان يخبرني به عن كرم المأمون وفضله واحتماله وحسن معاشرته، أنه سمع المأمون يوما وعنده علي بن هشام وأخواه أحمد والحسين ذكر عمرو بن مسعدة فاستبطأه، وقال: أيحسب عمرو أني لا أعرف أخباره وما يجبي إليه وما يعامل به الناس؟ بلي والله، ثم بعثه ألا يسقط علي منه شيء! ونهض وانصرفنا، فقصدت عمرا من ساعتي فخبرته بما جرى، وأنسيت أن أستحله من حكايته عني، فراح عمرو إلى المأمون، فظن المأمون أنه لم يحضر إلا لأمر مهم؛ لموقعه من الرسائل والمظالم والوزارة، فأذن له، فخبرني عمرو أنه لما دخل عليه وضع سيفه بين يديه وقال: يا أمير المؤمنين، أنا عائذ بالله من سخطه، ثم عائذ بك من سخطك يا أمير المؤمنين، أنا أقل من أن يشكوني أمير المؤمنين إلى أحد، أو يسر علي ضغنا يبعثه بعض الكلام على إظهاره ما يظهر منه! فقال لي: وما ذاك؟ فخبرته بما بلغني ولم أسم له مخبري، فقال لي: لم يكن الأمر كما بلغك، وإنما كانت جملة من تفصيل كنت على أن أخبرك به، وإنما أخرج مني ما أخرج معنى تجاريناه، وليس لك عندي إلا ما تحب، فليفرخ روعك، وليحسن ظنك. فأعدت الكلام، فما زال يسكن مني ويطيب من نفسي حتى تحلل بعض ما كان في قلبي، ثم بدأ فضمني إلى نفسه، وقبلت يده، فأهوى ليعانقني فشكرته، وتبينت في وجهه الحياء والخجل مما تأدى إلي، قال أحمد: فلما غدوت على المأمون قال لي: يا أحمد، أما لمجلسي حرمة؟ فقلت: يا أمير المؤمنين، وهل الحرم إلا لما فصل عن مجلسك! قال: ما أراكم ترضون بهذه المعاملة فيما بينكم! قلت: وأية معاملة يا أمير المؤمنين؟ هذا كلام لا أعرفه، قال: بلى، أما سمعت ما كنا فيه أمس من ذكر عمرو؟ ذهب بعض من حضر من بني هاشم فخبره به، فراح إلي عمرو مظهرا منه ما وجب عليه أن يظهره، فدفعت منه ما أمكن دفعه، وجعلت أعتذر إليه منه بعذر قد تبين في الخجل منه، وكيف يكون اعتذار إنسان من كلام قد تكلم به إلا كذلك يتبين في عينيه وشفتيه ووجهه، ولقد أعطيته ما كان يقنع مني بأقل منه، وما حداني عليه إلا ما دخلني من الخساسة، وإنما كان نطق به اللسان عن غير روية ولا احتمال مكروه به، فقلت: يا أمير المؤمنين، أنا أخبرت عمرا به لا أحد من ولد هاشم، فقال: أنت! قلت: أنا، فقال: ما حملك على ما فعلت؟ فقلت: الشكر لك والنصح والمحبة لأن تتم نعمتك على أوليائك وخدمك، أنا أعلم أن أمير المؤمنين يحب أن يصلح له الأعداء والبعداء، فكيف الأولياء والأقرباء؟ ولا سيما مثل عمرو في دنوه من الخدمة، وموقعه من العمل ومكانه من رأي أمير المؤمنين، أطال الله بقاءه. سمعت أمير المؤمنين أنكر منه شيئا، فخبرته به ليصلحه ويقوم من نفسه أودها لسيده ومولاه، ويتلافى ما فرط منه ولا يفسده مثله ولا يبطل العناء فيه، وإنما كان يكون ما فعلت عيبا لو أشعت سرا فيه قدح في السلطان، أو نقض تدبير قد استتب، فأما مثل هذا فما حسبته يبلغ أن يكون ذنبا علي، فنظر إلي مليا ثم قال: كيف قلت؟ فأعدت عليه، ثم قال: أعد، فأعدت الثالثة، فقال: أحسنت والله يا أحمد، لما خبرتني به أحب إلي من ألف ألف وألف ألف وألف ألف! وعقد خنصره وبنصره والوسطى ثم قال: أما ألف ألف فلنفيك عني سوء الظن، وأطلق وسطاه، وأما ألف ألف فلصدقك إياي عن نفسك، وأطلق البنصر، وأما ألف ألف فلحسن جوابك، وأطلق الخنصر، وأمر لي بمال».
وهذه الشجاعة من أتباع المأمون تدلنا على ما كان فيه من الاستعداد لقدر كرائم الخلال، فلو أنه كان معروفا بالاستبداد لما أمكن هذه النفوس أن تبلغ ما كانت تطمح إليه من النبل والكرامة، وفي استماعه لاحتجاج جليسه حرص على استبقائه واستكناه ما في نفسه، فضلا عما يتوقعه من عواقب هذا التشجيع المقصود من التفاف حول شخصه، وتفان في الوفاء له، وإمعان في خدمته وخدمة بلاده، خدمة الحر للحر بباعث وجداني، لا خدمة العبد للسيد بعامل الإرهاب والإكراه. ولن تكون الخدمة الخالصة للبلاد بالإرهاب والإكراه، ولن تكون خدمة الملوك على وجهها الصحيح بدافع العسف والإعنات، وإنما يكون ذلك جميعه بحسن الصنيع وجميل الأثر، والإحسان بالقول والفعل، وصفاء النفوس من عوامل البغضاء والغل والعدوان.
ثم انظر فيما يرويه لنا أبو الشماخ قال: قال لي المأمون وعنده الزيدي والنقفي مولي الخيزران، وإسماعيل بن نوبخت، وتذاكروا الشعراء فقالوا: النابغة وقالوا: الأعشى وخاضوا فيهم، فقال: لا أشعرهم إلا واحدا كان خليعا؛ الحسن بن هانئ، فقالوا: صدق أمير المؤمنين، قال: الصدق على المناظرة أحسن من الصدق على الهيبة، فقالوا: فبم قدمته؟ قال بقوله:
يا شقيق النفس من حكم
نمت عن ليلى ولم أنم
ثم لم يسبقه إلى هذا البيت أحد:
ثم دبت في عروقهم
كدبيب البرء في السقم
وفي عبارة «الصدق على المناظرة أحسن من الصدق على الهيبة» دلالة على رغبته في إحياء الغرائز الأدبية التي تميتها المصانعة، ويقبرها الرياء، ولا يفوتنا أن نشير إلى أن تقديمه ابن هانئ لتجويده في وصف الراح له دلالته وله مغزاه، فهو يدل إلى حد غير قليل إلى جانب ما علمناه عن المأمون؛ أصيد الهمة، مستحصد العزم، على أنه كان في أوقات أنسه ومرحه الرجل المرح الطروب الذي يتذوق المعاني الفرحة وما لها من مجاملات وأفانين.
وبعد، فإن تربية الشعوب على قدر كرامتها الخاصة ورفعة شأنها بين الأمم لتتطلب تعهدا خاصا ممن يتولى أمرها في هذا السبيل، فيعمل على أن يحس الأفراد والحكام ممن هم في عنقه وتحت هيمنته ما لهم من مكانة ومنزلة، وما لآرائهم وتصرفاتهم من احترام وقدر، أخذا لهم بالشجاعة في المجاهرة بمعتقداتهم، وتنمية للروح الذي تفيده هذه الألفاظ «حرية، إخاء، مساواة» في نفوسهم، وإن في انتهاجهم هذا السبيل لأجل خدمة لممالكهم وشعوبهم وعروشهم. (6) عدله وإنصافه
كان المأمون عدلا منصفا إلى حد بعيد، وقد عرف فيه الناس هذه الخلة، فكانوا يطمعون في أنصاره والمقربين إليه، ويجهرون بالشكوى من كل من يسوءهم طمعه أو ينفذ إليهم عدوانه.
حدث بعض المعاصرين قال: «شهدت المأمون وقد ركب بالشماسية وخلف ظهره أحمد بن هشام، فصاح به رجل من أهل فارس: الله الله يا أمير المؤمنين! فإن أحمد بن هشام ظلمني واعتدى علي، فقال: كن بالباب حتى أرجع، ثم مضى، فلما جاز الموضع بعدوة التفت إلى أحمد فقال: ما أقبح بنا وبك أن نقفك وصاحبك هذا رءوس هذه الجماعة، ويقعد في مجلس خصمك، ويسمع منه كما يسمع منك، ثم تكون محقا، ثم تكون مبطلا، فكيف إن كنت في صفته لك، فوجه إليك من يحوله من بابنا إلى رحلك، وأنصفه من نفسك، وأعطه ما أنفق في طريقه إلينا، ولا تجعل لنا ذريعة إلى ما تكره من لائمتك، فوالله لو ظلمت العباس ابني كنت أقل نكيرا عليك من أن تظلم ضعيفا لا يجدني في كل وقت ولا مجلوا له وجهي، وسيما من تجشم السفر البعيد وكابد حر الهواجر وطول المسافة».
قال المحدث المعاصر: فوجه إليه أحمد فجاء به وكتب إلى عامله يرد عليه ما أخذ منه، ويشتمه ويعنفه، ووصل الرجل بأربعة آلاف درهم وأمره بالخروج من يومه.
وهناك الكثير من هذا المثل؛ كموقفه مع موسى بن الحسن وإنصافه بأن أخذ حقه من محمد بن أبي العباس الطوسي، وموقفه مع النصراني الذي من أهل
3
كشكر.
ثم انظر موقفه المشرف له وللقضاء في أيامه؛ فقد قالوا: إن رجلا دخل على المأمون وفي يده رقعة فيها مظلمة من أمير المؤمنين، فقال: أمظلمة مني؟ فقال الرجل: أفأخاطب يا أمير المؤمنين سواك؟ قال: وما هي ظلامتك؟ قال: إن سعيدا وكيلك اشترى مني جواهر بثلاثين ألف دينار، قال: فإذا اشترى سعيد منك الجوهر تشكو الظلامة مني! قال: نعم، إذ كانت الوكالة قد صحت له منك! قال: لعل سعيدا قد اشترى منك الجوهر وحمل إليك المال أو اشتراه لنفسه، وعليه فلا يلزمني لك حق، ولا أعرف لك ظلامة، فقال له - بعد كلام طويل: إن في وصية عمر بن الخطاب لقضاتكم: «البينة على من ادعى، واليمين على من أنكر»، قال المأمون: إنك قد عدمت البينة، فما يجب لك إلا حلفة، ولئن حلفتها لأنا صادق إذ كنت لا أعرف لك حقا يلزمني، قال: فإذن أدعوك إلى القاضي الذي نصبته لرعيتك، قال: نعم، يا غلام، علي بيحيى بن أكثم، فإذا هو قد مثل بين يديه، فقال له المأمون: اقض بيننا! قال: في حكم وقضية؟ قال: نعم، قال: إنك لم تجعل ذلك مجلس قضاء، قال: قد فعلت، قال: فإني أبدأ بالعامة أولا ليصلح المجلس للقضاء، قال: افعل، ففتح الباب وقعد في ناحية من الباب وأذن للعامة، ثم دعي بالرجل المتظلم فقال له يحيى: ما تقول؟ قال: أقول أن تدعو بخصمي أمير المؤمنين المأمون، فنادى المنادي، فإذا المأمون قد خرج ومعه غلام يحمل مصلى حتى وقف على يحيى وهو جالس، فقال له: اجلس، فطرح المصلى ليقعد عليها، فقال له يحيى: يا أمير المؤمنين، لا تأخذ على خصمك شرف المجلس، فطرح له مصلى آخر، ثم نظر في دعوى الرجل، وطالب المأمون باليمين فحلف ، ووثب يحيى بعد فراغ المأمون من يمينه فقام على رجليه، فقال له المأمون: ما أقامك؟ فقال: إني كنت في حق الله جل وعز حتى أخذته منك، وليس الآن من حقي أن أتصدر عليك، ثم أمر المأمون أن يحضر ما ادعى الرجل من المال، فقال له: خذه إليك، والله ما كنت أحلف على فجرة ثم أسمح لك فأفسد ديني ودنياي، والله يعلم ما دفعت إليك هذا المال إلا خوفا من هذه الرعية، لعلها ترى أني تناولتك من وجه القدرة، وإنها لتعلم الآن أني ما كنت أسمح لك باليمين وبالمال.
ويحق لنا أن نستنبط من هذا الموقف قيمة القضاء في تلك الأيام، واحترام الخلفاء أو من يمت إلى الخلفاء لشعائره وأحكامه، ولا نستبعد البتة صحة تلك الرواية؛ لأن تصرفات المأمون العباسي تجعلنا نقرها ونؤمن بصدقها من جهة، ولأنا قرأنا شبيهاتها من جهة أخرى، فقد قيل: إن إبراهيم بن المهدي تنازع وابن بختيشوع الطبيب بين يدي أحمد بن أبي دواد في مجلس الحكم في عقار بناحية السواد، فأربى عليه إبراهيم وأغلظ، فأحفظ ذلك ابن أبي دواد فقال: يا إبراهيم، إذا نازعت في مجلس الحكم بحضرتنا امرأ فلا أعلمن أنك رفعت عليه صوتا ولا أشرت بيد، وليكن قصدك أمما وريحك ساكنة، وكلامك معتدلا، ووف مجالس الخليفة حقوقها من التعظيم والتوقير والاستكانة والتوجه إلى الواجب، فإن ذلك أشكل بك وأشمل لمذهبك في محتدك وعظيم خطره، ولا تعجلن؛ فرب عجلة تهب ريثا، والله يعصمك من خطل القول والعمل، وأن يتم نعمته عليك كما أتمها على أبويك من قبل، إن ربك حكيم عليم، فقال إبراهيم: أصلحك الله تعالى، أمرت بسداد وحضضت على رشاد، ولست عائدا لما يثلم مروءتي عندك، ويسقطني من عينيك، ويخرجني من مقدار الواجب إلى الاعتذار، فهأنذا معتذر إليك من هذه البادرة اعتذار مقر بذنبه معترف بجرمه، ولا يزال الغضب يستفزني بمواده، فيردني مثلك بحلمه، وتلك عادة الله عندك وعندنا منك، وقد جعلت حقي من هذا العقار لابن بختيشوع؛ فليت ذلك يكون وافيا بأرش الجناية عليه، ولم يتلف مال أفاد موعظة، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
فترى مما قدمناه لك مبلغ سلطان القضاء وحرمته عند البيت المالك.
وقد يكون أجمل من هذا كله - فيما لو صح - ذلك الموقف الروائي الذي تقدمت إلى المأمون فيه امرأة تشكو ظلم ابنه العباس؛ فقد شكت إليه بأبيات رقيقة فلم يسعه إلا أن يعدها الإنصاف بأبيات رقيقة على الوزن والقافية، وكانت تلك الأبيات في خفتها وجودة الخاطر بها في ساعتها بردا وسلاما على قلب تلك المرأة المظلومة.
قال الشيباني: جلس المأمون يوما للمظالم، فكان آخر من تقدم إليه وقد هم بالقيام امرأة عليها هيئة السفر، وعليها ثياب رثة، فوقفت بين يديه فقالت: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته، فنظر المأمون إلى يحيى بن أكثم، فقال لها يحيى: وعليك السلام يا أمة الله، تكلمي في حاجتك، فقالت:
يا خير منتصف يهدى له الرشد
ويا إماما به قد أشرق البلد
تشكو إليك عميد القوم أرملة
عدا عليها فلم يترك لها سبد
وابتز مني ضياعي بعد منعتها
ظلما وفرق مني الأهل والولد
فأطرق المأمون حينا ثم رفع رأسه إليها وهو يقول:
في دون ما قلت زال الصبر والجلد
عني وأقرح مني القلب والكبد
هذا أذان صلاة العصر فانصرفي
وأحضري الخصم في اليوم الذي أعد
والمجلس السبت إن يقض الجلوس لنا
ننصفك منه وإلا المجلس الأحد
فلما كان اليوم الأحد جلس، فكان أول من تقدم إليه تلك المرأة فقالت: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته، فقال: وعليك السلام، أين الخصم؟ فقالت الواقف على رأسك يا أمير المؤمنين. وأومأت إلى العباس ابنه، فقال لأحمد بن أبي طالب: خذ بيده فأجلسه معها مجلس الخصوم، فجعل كلامها يعلو كلام العباس، فقال لها أحمد بن أبي طالب: يا أمة الله، إنك بين يدي أمير المؤمنين، وإنك تكلمين الأمير، فاخفضي من صوتك، فقال المأمون: دعها يا أحمد، فإن الحق أنطقها وأخرسه، ثم قضى لها برد ضيعتها إليها، وظلم العباس بظلمه لها، وأمر بالكتاب لها إلى العامل ببلدها أن يوفر لها ضيعتها ويحسن معاونتها، وأمر لها بنفقة.
وبعد فإن المؤرخ المنصف لجدير به أن يقف أمام هذه المثل العليا وقفة احترام وإجلال، وعظة واعتبار، وأن يرغب رغبة صادقة في إذاعة هذه المثل ونشرها، والعمل على تداولها وذكرها؛ لأنها قدوة صالحة لحملة التيجان في إنصاف زميلهم الإنسان، وإن قدس العدالة لواجب احترامه، وأحق الناس باحترامه هم الولاة وحملة التيجان، وإن في شعور الرعية وعامة الناس بأنهم وحكامهم سواسية لمدعاة للرضا والاغتباط، والإمعان في خدمة الأوطان، والذب بأرواحهم وقلوبهم عن الملوك وأصحاب السلطان. (7) عفوه
كان المأمون مضرب المثل في العفو حتى لقد كان يخشى أن لا يؤجر عليه؛ إذ صار فطرة فيه، وأظرف أنواع عفوه تغاضيه عما كان يحدث في قصره.
قالت شكر مولاة أم جعفر بنت جعفر بن المنصور: سمعت المأمون أمير المؤمنين وكانت عنده أم جعفر فدعا بمقاريض،
4
فقال الغلام: قد ذهب بالمقاريض إلى الشماسية، ثم قال: يا غلام، بل لنا الخيش
5
فوق، فقال الغلام: لا، قال: يبل، فقالت أم جعفر: سبحان الله يا أمير المؤمنين! ما هذا؟ وأنكرت أن يكون سأل عن شيئين فلم يعملا، فقال المأمون: من قدرت على عقوبته لسوء فعله وقبيح جرمه، فقدرتك عليه كافيتك نصرا لك منه، ولا معنى لعقوبة بعد قدرة، الحلم عن الذنب أبلغ من الأخذ به.
وهو هنا يعلل العفو تعليلا مقبولا جديرا بأن يكون درسا في الأخلاق.
ثم انظر مبلغ عفوه وحلمه وسماحة نفسه فيما يرويه أبو الفضل أحمد بن أبي طاهر طيفور في كتابه، قال: «كان للمأمون خادم يتولى وضوءه، فكان يسرق طساسه، فبلغ ذلك المأمون فعاتبه، ثم قال له يوما وهو يوضئه: ويحك! لم تسرق هذه الطساس؟ لو كنت إذا سرقتها أتيتي بها اشتريتها منك! قال: فاشتر هذا الذي بين يديك! قال: بكم؟ قال: بدينارين، قال المأمون: أعطوه دينارين، قال: هذا الآن في الأمان».
ومهما يكن على هذه الرواية من مسحة المبالغة، أو أنها أقصوصة أكثر منها حقيقة، فإن طبيعة المأمون وسجيته وجنوحه إلى العفو وأخذه بالحلم لمما يؤيد لبابها وعصارتها، ويقرر جوهرها وخلاصتها، ولمما يصدق فيه قول من قال له:
أمير المؤمنين عفوت حتى
كأن الناس ليس لهم ذنوب
أما حديث حلمه مع عمه إبراهيم بن المهدي فمتعارف مشهور، ومذاع مذكور، فقد أبي إبراهيم أن يبايعه ثم ذهب إلى الري وادعى فيها الخلافة لنفسه، وأقام مالكها سنة وأحد عشر شهرا واثني عشر يوما، والمأمون يتوقع منه الانقياد إلى الطاعة، والانتظام في سلك الجماعة، حتى يئس من عوده، فركب بخيله ورجله، وذهب إلى الري وحاصر المدينة وافتتحها، فهرب إبراهيم وتنكر ثم أخذ بعد لأي، وقدم إلى المأمون في زي امرأة، فلما مثل بين يديه سلم عليه بالخلافة، فقال المأمون: لا سلم الله عليك، ولا حياك ولا رعاك! فقال إبراهيم: مهلا يا أمير المؤمنين، إن ولي الثأر محكم في القصاص، ولكن العفو أقرب للتقوى، ومن تناوله الاغترار بما مد له من أسباب الشقاء، أمكن عادية الدهر من نفسه، وقد جعلك الله فوق كل ذي ذنب، كما جعل كل ذي ذنب دونك، فإن أخذت فبحقك، وإن عفوت فبفضلك، ثم أنشد:
ذنبي إليك عظيم
وأنت أعظم منه
فخذ بحقك أو لا
فاصفح بفضلك عنه
إن لم أكن في فعالي
من الكرام فكنه
فقال المأمون: شاورت أبا إسحاق والعباس في قتلك فأشارا به، فقال: فما قلت لهما يا أمير المؤمنين؟ قال المأمون: قلت لهما: نبدؤه بإحسان، ونستأمره فيه، فإن غير فالله يغير ما به، قال: أما أن يكونا قد نصحا في عظيم بما جرت عليه السياسىة فقد فعلا، وبلغا ما يلزمهما، وهو الرأي السديد، ولكنك أبيت أن تستجلب النصر إلا من حيث عودك الله، ثم استعبر باكيا، فقال له المأمون: ما يبكيك؟ قال : جذلا إذ كان ذنبي إلى من هذه صفته في الإنعام، ثم قال: إنه وإن كان قد بلغ جرمي استحلال دمي، فحلم أمير المؤمنين وفضله يبلغانني عفوه، ولي بعدهما شفاعة الإقرار بالذنب، وحق الأبوة بعد الأب، فقال المأمون: يا إبراهيم، لقد حبب إلي العفو حتى خفت ألا أؤجر عليه. أما لو علم الناس ما لنا في العفو من اللذة لتقربوا إلينا بالجنايات! لا تثريب
6
عليك، يغفر الله لك، ولو لم يكن في حق نسبك ما يبلغ الصفح عن جرمك، لبلغك ما أملت حسن تفضلك ولطف توصلك، ثم أمر برد ضياعه وأمواله، فقال إبراهيم:
رددت مالي ولم تبخل علي به
وقبل ردك مالي قد حقنت دمي
وقام علمك بي فاحتج عندك لي
مقام شاهد عدل غير متهم
فلو بذلت دمي أبغى رضاك به
والمال حتى أسل النعل من قدمي
ما كان ذاك سوى عارية سلفت
لو لم تهبها لكنت اليوم لم تلم
وبعد، فشد ما يحتاج الولاة والقادة والزعماء إلى خلة العفو والإحسان في حزم وحسن مواتاة؛ ليستلوا من القلوب عداوتها، وليستأصلوا من النفوس سخيمتها، وليضمنوا من الرعية والأتباع الإخلاص المحض والود الصحيح. (8) احتماله
ومن الدلائل على صلاحية المأمون لما أعدته له الأيام اتصافه بالاحتمال الذي لا يقوم الملك إلا به، ولا تسير الأمور بدونه، وهو خلق يراه البعض سماحة، ونراه من المأمون سياسة هي من الصميم في آداب الملوك، وإنه ليحتمل حتى لتحسبه من الغافلين، ولكن الرجل كان يعرف أن للملك مصاعب ومتاعب أقلها مداراة الناس، والنزول لهم عن بعض ما يشتهون.
روى بعضهم عن قثم بن جعفر أنه قال: قال المأمون في يوم الخميس، وقد حضر الناس الدار، لعلي بن صالح: ادع إسماعيل، قال: فخرج ابن صالح فأدخل إسماعيل بن جعفر، وأراد المأمون إسماعيل بن موسى، فلما بصر به من بعيد، وكان أشد الناس له بغضا، رفع يديه مادهما إلى السماء ثم قال: اللهم أبدلني من ابن صالح مطيعا؛ فإنه لصداقته لهذا آثر هواه على هواي، قال: فلما دنا إسماعيل بن جعفر سلم فرد عليه، ثم دنا فقبل يده، فقال: هات حوائجك؟ قال: ضيعتي بالمغيثة غصبتها وقهرت عليها، قال: نأمر بردها عليك، ثم قال: حاجتك؟ قال: يأذن لي أمير المؤمنين في الحج، قال: أذنا لك، ثم قال: حاجتك؟ قال: وقف أبي أخرج من يدي وصار إلى قثم والقاسم ابني جعفر، قال: فتريد ماذا؟ قال: يرد إلي، قال: أما ما كان يمكننا من أمرك فقد جدنا لك به، وأما وقف أبيك فذاك إلى ورثته ومواليه، فإن رضوا بك واليا عليهم وقيما لهم رددناه إليك، وإلا أقررناه في يد من هو في يده، ثم خرج، فقال المأمون لعلي بن صالح: ما لي ولك عافاك الله! متى رأيتني نشطت لإسماعيل بن جعفر وعنيت به وهو صاحبي بالأمس بالبصرة؟! قال: ذهب عن فكري يا أمير المؤمنين، قال: صدقت، لعمري ذهب عن فكرك ما كان يجب عليك حفظه، وحفظ فكرك ما كان يجب عليك ألا يخطر به، فأما إذ أخطأت فلا تعلم إسماعيل ما دار بيني وبينك في أمره.
فظن علي أنه عنى بقوله هذا إسماعيل بن موسى، فأخبر إسماعيل بن جعفر القصة حرفا حرفا، فأذاعها، وبلغ الخبر المأمون فقال: الحمد لله الذي وهب لي هذه الأخلاق التي أصبحت أحتمل بها علي بن صالح وابن عمران وابن الطوسي وحميد بن عبد الحميد ومنصور بن النعمان ورعامش.
وبعد، فالاحتمال خلة محببة إلى النفوس تدعو إلى الوفاق والوئام، وهي بالملوك أولى وأجدر لمكانهم من الزعامة والقيادة، ولمنزلتهم من الرياسة والسلطان، ولأنهم أحق الناس بكل سجية تحببهم إلى الناس، وتكون قدوة يرتسمها من عداهم ممن يتصرفون في شئون العباد ومستقبل البلاد. (9) بصره بالأدب
سترى فيما نعرض له في القسم الأدبي من آثار المأمون وكتابته مبلغ تبريزه في الفنون الأدبية، وتملكه أعنة البلاغة، وحسن تصريفه لكل أفانين الثقافة العربية، إلى جانب حسن تصريفه لشتى أمور ملكه.
والآن وسبيلنا تحليل شخصية المأمون، نرى من الواجب لتوفية البحث حقه من مختلف وجوهه أن نشير إلى كلفه بالأدب، مفترضين على كل حال ما قد يكون بمثله من تشيع المغالين من الولاء له وما قد يضاف إليه من الآثار.
ولكن ذلك كله لن يؤثر في اللب والجوهر، وهو أن المأمون كان أديبا عالما بأفانين القول ومناحيه، وليس ذلك ببعيد على من تتلمذ على شيوخ الأدب العربي، كسيبويه واليزيدي ويحيى بن المبارك بن المغيرة، الذي أخذ العربية عن أمثال أبي عمرو بن العلاء وابن أبي إسحاق الحضرمي، وأخذ اللغة والعروض عن الخليل بن أحمد، والذي ألف كتابا في النحو لبعض أولاد المأمون.
فقد أفاد المأمون من هؤلاء وأمثالهم من رجال الأدب والكفاية أيما إفادة، قال عمارة بن عقيل: أنشدت المأمون قصيدة مائة بيت، فأبتدئ بصدر البيت فيبادرني إلى قافيته كما قفيته، فقلت: والله يا أمير المؤمنين، ما سمعها مني أحد قط، فقال: هكذا ينبغي أن يكون، ثم قال لي: أما بلغك أن عمر بن أبي ربيعة أنشد عبد الله بن عباس قصيدته التي يقول فيها:
تشط غدا دار جيراننا
فقال ابن عباس:
وللدار بعد غد أبعد
حتى أنشده القصيدة يقفيها ابن عباس، ثم قال: أنا ابن ذاك. ورووا أن المأمون قال:
بعثتك مرتادا ففزت بنظرة
وأغفلتني حتى أسأت بك الظنا
فناجيت من أهوى وكنت مباعدا
فيا ليت شعري عن دنوك ما أغني
أرى أثرا منه بعينيك بينا
لقد أخذت عيناك من عينه حسنا
ومهما قيل: إن المأمون أخذ هذا المعنى من العباس بن الأحنف الذي يقول:
إن تشق عيني بها فقد سعدت
عين رسولي وفزت بالخبر
وكلما جاءني الرسول لها
رددت عهدا في عينه نظري
خذ مقلتي يا رسول عارية
فانظر بها واحتكم على بصري
فإن شعر المأمون يدل في جملته على تذوقه الحسن بالشعر الحسن، والخيال الحسن، ثم لتنظر معي في الحديث الذي دار بين عبد الله بن أبي السمط وعمارة بن عقيل، فإن أولهما يقول لعمارة: أعلمت أن المأمون لا يبصر الشعر؟ فقال عمارة: ومن يكون أعلم منه؟ فوالله إنا لننشده أول البيت فيسبقنا إلى آخره، قال عبد الله: إني أنشدته بيتا أجدت فيه فلم يتحرك له، فقال عمارة: وما هو؟ قال:
أضحى إمام الهدى المأمون مشتغلا
بالدين والناس بالدنيا مشاغيل
فقال عمارة: والله ما صنعت شيئا، هل زدت على أن جعلته عجوزا في محرابها؟ فإذن من الذي يقوم بأمر الدنيا إذا تشاغل عنها وهو المطوق بها؟ ألا قلت كما قال جدي جرير في عبد العزيز بن الوليد:
فلا هو في الدنيا مضيع نصيبه
ولا عرض الدنيا عن الدين شاغله
فقال عبد الله: الآن علمت أني قد أخطأت.
ولقد كان المأمون واقفا أتم وقوف وأكمله على شعر العصر ومقولات الشعراء، مع حسن بصر وأتم حذق وأدق تفهم، يدلك على ذلك ما ذكره أبو نزار الضرير الشاعر قال: قال لي علي بن جبلة: قلت لحميد بن عبد الحميد: يا أبا غانم، قد امتدحت أمير المؤمنين بمدح لا يحسن مثله أحد من أهل الأرض، فاذكرني له، فقال: أنشدنيه، فأنشدته، فقال: أشهد أنك صادق، فأخذ المديح فأدخله على المأمون، فقال: يا أبا غانم، الجواب في هذا واضح، إن شاء عفونا عنه وجعلنا ذلك ثوابا لمديحه، وإن شاء جمعنا بين شعره فيك وفي أبي دلف القاسم بن عيسى، فإن كان الذي قال فيك وفيه أجود من الذي مدحنا به، ضربنا ظهره وأطلقنا حبسه، وإن كان الذي قال فينا أجود أعطيته بكل بيت من مديحه ألف درهم، وإن شاء أقلناه، فقلت: يا سيدي، ومن أبو دلف ومن أنا حتى يمدحنا بأجود من مديحك، فقال: ليس هذا الكلام من الجواب عن المسألة في شيء، فاعرض ذلك على الرجل، قال علي بن جبلة: فقال لي حميد: ما ترى؟ قلت: الإقالة أحب إلي، فأخبر المأمون، فقال: هو أعلم، قال حميد: فقلت لعلي بن جبلة، إلى أي شيء ذهب في مدحك أبا دلف وفي مدحك لي؟ قال: إلى قولي في أبي دلف:
إنما الدنيا أبو دلف
بين مبداه ومحتضره
فإذا ولى أبو دلف
ولت الدنيا على أثره
وإلى قولي فيك:
لولا حميد لم يكن
حسب يعد ولا نسب
يا واحد العرب الذي
عزت بعزته العرب
ثم انظر سعة عطفه وكثير تسامحه وما جبلت عليه نفسه من العفو والحلم فيما رواه أحد قرابة دعبل الشاعر حيث قال: إن دعبلا هجا المأمون بقوله:
أيسومني المأمون خطة عاجز
أوما رأى بالأمس رأس محمد
يوفي على هام الخلائف مثلما
توفي الجبال على رءوس القردد
7
ويحل في أكناف كل ممنع
حتى يذلل شاهقا لم يصعد
إن التراث مسهد طلابها
فاكفف لعابك عن لعاب الأسود
فلم يتقدم المأمون بإيذاء دعبل، وكل ما فعل أن قال: هو يهجو أبا عباد ولا يهجروني. يريد حدة أبي عباد.
وكان بصيرا بأخبار العرب واقفا على تاريخ مجاويدهم وغطاريفهم؛ فقد ذكر عمارة بن عقيل قال: قال لي المأمون يوما وأنا أشرب عنده: ما أخبثك يا أعرابي! قال: قلت: وما ذاك يا أمير المؤمنين؟ وهمتني نفسي، قال: كيف قلت:
قالت مفداة لما أن رأت أرقى
والهم يعتاده من طيفه لمم
نهبت مالك في الأدنين آصرة
وفي الأباعد حتى حفك العدم
فاطلب إليهم ثرى ما كنت من حسن
تسدي إليهم فقد باتت لهم صرم
8
فقلت عذلك قد أكثرت لأئمتي
ولم يمت حاتم هزلا ولا هرم
فقال لي المأمون: أين رميت بنفسك إلى هرم بن سنان سيد العرب وحاتم الطائي؟ فعلا كذا وفعلا كذا، وأقبل ينثال
9
علي بفضلهما، قال: فقلت: يا أمير المؤمنين، أنا خير منهما، أنا مسلم وكانا كافرين، وأنا رجل من العرب.
ثم انظر بلاغته ومتانة عبارته في مشافهاته ومبادهاته؛ فقد روى إبراهيم بن عيسى قال: لما أراد المأمون الشخوص إلى دمشق هيأت له كلاما مكثت فيه يومين وبعض آخر، فلما مثلت بين يديه قلت: أطال الله بقاء أمير المؤمنين في أدوم العز وأسبغ الكرامة، وجعلني من كل سوء فداه، إن من أمسى وأصبح يتعرف من نعمة الله - له الحمد كثيرا - عليه برأي أمير المؤمنين أيده الله فيه، وحسن تأنيسه له، حقيق بأن يستديم هذه النعمة، ويلتمس الزيادة فيها، بشكر الله، وشكر أمير المؤمنين - مد الله في عمره - عليها، وقد أحب أن يعلم أمير المؤمنين، أيده الله، أني لا أرغب بنفسي عن خدمته، أيده الله، بشيء من الخفض والدعة؛ إذ كان هو، أيده الله، يتجشم خشونة السفر ونصب الظعن، وأولى الناس بمواساته في ذلك وبذل نفسه فيه أنا؛ لما عرفني الله من رأيه، وجعل عندي من طاعته، ومعرفة ما أوجب الله من حقه، فإن رأى أمير المؤمنين، أكرمه الله، أن يكرمني بلزوم خدمته والكينونة معه فعل.
فقال لي المأمون مبتدئا من غير تروية: لم يعزم أمير المؤمنين في ذلك على شيء، وإن استصحب أحدا من أهل بيتك بدأ بك وكنت المقدم عنده في ذلك، ولا سيما إذ أنزلت نفسك بحيث أنزلك أمير المؤمنين من نفسه، وإن ترك ذلك فمن غير قلى لمكانك ولكن بالحاجة إليك، قال إبراهيم: فكان والله ابتداؤه أكثر من ترويتي.
قال أبو العتاهية: وجه إلي المأمون يوما فصرت إليه، فألفيته مطرقا مفكرا، فأحجمت عن الدنو منه في تلك الحال، فرفع رأسه فنظر إلي وأشار بيده أن ادن فدنوت، ثم أطرق مليا ورفع رأسه فقال: يا أبا إسحاق، شأن النفس الملل، وحب الاستطراف، تأنس بالوحدة كما تأنس بالألفة، قلت: أجل يا أمير المؤمنين، ولي في هذا بيت، قال: ما هو؟ قلت:
لا يصلح النفس إذ كانت مدبرة
إلا التنقل من حال إلى حال
ثم انظر إلى بلاغة المأمون التي كانت سليقة فيه وإن نزلت بساحته الهموم والفوادح؛ فقد ذكر المؤرخون أنه أصيب بابنة له كان يجد عليها وجدا شديدا، فجلس وأمر أن يؤذن لمن بالباب، فدخل عليه العباس بن الحسن العلوي فقال له: يا أمير المؤمنين، إنا لم نأتك معزين، ولكن أتيناك مقتدين، ثم قال: يا أمير المؤمنين، إن لساني ينطلق بمدحك غائبا، وأحب أن يتزيد عنك حاضرا، أفتأذن فأقول، قال المأمون: قل فإنك تقول فتحسن، وتشهد فتزين، وتغيب فتؤتمن، فقال العباس له - وصدق فيما يقول: يا أمير المؤمنين، ما أقول بعد هذا؟! لقد بلغت من مدحي ما لا أبلغه من مدحك.
وانظر إلى حلاوته في بلاغته، وفراهته في طلاوته، ومتانته في عبارته حين نصح لابنه العباس فقال له: ينبغي يا بني لمن أسبغ الله عليه نعمه، وشركه في ملكه وسلطانه، وبسط له في القدرة أن ينافس في الخير بما يبقى ذكره، ويجب أجره، ويرجى ثوابه، وأن يجعل همته في عدل ينشره، أو جور يدفنه، وسنة صالحة يحييها أو بدعة يميتها، أو مكرمة يعتقدها، أو صنيعة يسديها، أو يد يودعها ويوليها، أو أثر محمود يتبعه.
ويقول لنا الجاحظ في البيان والتبيين: كان سهل بن هارون شديد الإطناب في وصف المأمون بالبلاغة والجهارة، وبالحلاوة والفخامة، وجودة اللهجة والطلاوة.
ويقول ثمامة بن أشرس النميري: ما رأيت رجلا أبلغ من جعفر بن يحيى والمأمون.
وإن فيما ذكره ابن الجوزي والعاملي وغيرهما في طرب المأمون للطرف واللغة، لمما يثبت بصره بالأدب وحذقه للغة، وتمكنه في النحو، وإنا نختتم كلمتنا هذه بما قاله المأمون لولده وعنده عمرو بن مسعدة ويحيى بن أكثم؛ فإنها في السماك بلاغة ودقة معنى، وحلاوة أسلوب، وسمو سجايا، وحسن تدبير، ونضوج دربة، ولا يقولها إلا من كان إلى جانب ما وصفناه حمال أعباء نهاضا
10
ببزلاء، قصيا مرمى همته، رفيعا مناط عزمته، وهي مع كل ذلك من عفو الخاطر ونتاج البديهة.
قال: اعتبروا في علو الهمة بمن ترون من وزرائي وخاصتي، إنهم والله ما بلغوا مراتبهم عندي إلا بأنفسهم، إنه من تبع منكم صغار الأمور تبعه التصغير والتحقير، وكان قليل ما يفتقد من كبارها أكثر من كثير ما يستدرك من الصغار، فترفعوا عن دناءة الهمة، وتفرغوا لجلائل الأمور والتدبير، واستكفوا الثقات، وكونوا مثل كرام السباع التي لا تشتغل بصغار الطير والوحش، بل بجليلها وكبارها، واعلموا أن أقدامكم إن لم تتقدم بكم، فإن قائدكم لا يقدمكم ولا يغني الولي عنكم شيئا ما لم تعطوه حقه، وأنشده:
نحن الذين إذا تخمط عصبة
من معشر كنا لها أنكالا
ونرى القروم مخالة لقرومنا
قبل اللقاء تقطر الأبوالا
نرد المنية لا نخاف ورودها
تحت العجاجة والعيون تلالا
نعطي الجزيل فلا نمن عطاءنا
قبل السؤال ونحمل الأثقالا
وإذا البلاد على الأنام تزلزلت
كنا لزلزلة البلاد جبالا
وبعد، فشد ما يروق الرعية تبريز ولاتها في البلاغة والبيان، وشد ما يثلج الأفئدة ويقر العيون تملكهم لأعنة القول، واطلاعهم على الغرر والملح وتشجيعهم لذوي الإحسان.
وجميل جدا أن تنشر الكفايات، وأن يتخذ الولاة من كلمة المأمون: «إن وزرائي والله ما بلغوا مراتبهم عندي إلا بأنفسهم.» سنة يترسمونها، وقاعدة يتبعونها، وحكمة يذيعونها لترتفع النفوس، وتسمو النزعات، ولينال الإحسان أهل الإحسان. (10) علم المأمون
كان المأمون وافر العلم غزير الاطلاع، وليس ذلك بعزيز على خليفة ملأ عصره بأنواع المعارف الإنسانية، ونفخ فيه من روحه القوي حتى استطاع الباحث أن يسمه بسمته، وأن يرجع فضل الحضارة العباسية إليه.
ولكن المأمون في علمه وثقافته لم يقف عند حد الثقافة الذاتية، وإنما وجه حرصه إلى أن يثير في نفوس أصحابه كوامن الرغبة إلى التعمق في الدرس، والشوق إلى إدراك حقائق الأشياء، وكانت له في ذلك طريقه معروفة هي توجبه السمر والحديث إلى فنون العلم وضروب العرفان، فكان حديث الليل وحديث المائدة يفتح لجلسائه أبوابا من القول ما كانت تخطر لهم ببال.
قال جعفر بن محمد الأنماطي: إن المأمون لما دخل بغداد وقر بها قراره، وأمر أن يدخل عليه من الفقهاء والمتكلمين وأهل العلم جماعة يختارهم لمجالسته ومحادثته، وكان يقعد في صدر نهاره على لبود في الشتاء وعلى حصر في الصيف ليس معها شيء من سائر الفرش، ويقعد للمظالم في كل جمعة مرتين لا يمتنع منه أحد، قال: واختير له من الفقهاء لمجالسته مائة رجل، فما زال يختارهم طبقة بعد طبقة حتى حصل منهم عشرة، كان أحمد بن أبي دواد أحدهم، وبشر المريسي. قال جعفر بن محمد الأنماطي: وكنت أحدهم، قال: فتغدينا يوما عنده، فظننت أنه وضع على المائدة أكثر من ثلاثمائة لون، فكلما وضع لون نظر المأمون إليه فقال: هذا يصلح لكذا، وهذا نافع لكذا، فمن كان منكم صاحب بلغم ورطوبة فليجتنب هذا، ومن كان صاحب صفراء فليأكل من هذا، ومن غلبت عليه السوداء فليأكل من هذا، ومن أحب الزيادة في لحمه فليأكل من هذا، ومن كان قصده قلة الغذاء فليقتصر على هذا، قال: فوالله إن زالت تلك حاله في كل لون يقدم حتى رفعت الموائد، قال: فقال له يحيى بن أكثم: يا أمير المؤمنين، إن خضنا في الطب كنت جالينوس في معرفته! أو في النجوم كنت هرمس في حسابه! أو الفقه كنت علي بن أبي طالب صلوات الله عليه في علمه! أو ذكرنا السخاء فأنت فوق حاتم في جوده! أو ذكرنا صدق الحديث كنت أبا ذر في صدق لهجته! أو الكرم كنت كعب بن مامة في إيثاره على نفسه! قال: فسر بذلك الكلام وقال: يا أبا محمد، إن الإنسان إنما فضل على غيره من الهوام بفعله وعقله وتمييزه، ولولا ذلك لم يكن لحم أطيب من لحم، ولا دم أطيب من دم، وإنك إذا قلت: إن يحيى بن أكثم قد بالغ في تحليل المأمون وغلا في صفته، فأنا معك في ذلك، ولكنني ألاحظ أن هذا الغلو لا يخلو من أثارة من حق وصدق.
ولتنظر معي نظرة مستقص لاطلاع المأمون وتدفق المعاني إليه، ومواتاة الأفكار له حينما ارتد رجل من أهل خراسان وأمر المأمون بحمله إلى مدينة السلام، فلما أدخل عليه أقبل بوجهه إليه ثم قال له: «أخبرني ما الذي أوحشك مما كنت به آنسا من ديننا، فوالله لأن أستحييك بحق أحب إلي من أن أقتلك بحق، وقد صرت مسلما بعد أن كنت كافرا، ثم عدت كافرا بعد أن صرت مسلما، فإن وجدت عندنا دواء دائك تعالجت به؛ إذ كان المريض يحتاج إلى مشاورة الأطباء، فإن أخطأك الشفاء ونبا عن دائك الدواء، كنت قد أعذرت ولم ترجع على نفسك بلائمة، فإن قتلناك بحكم الشريعة ترجع أنت في نفسك إلى الاستبصار والثقة، وتعلم أنك لم تقصر في اجتهاد ولم تدع الأخذ بالحزم» فقال المرتد: «أوحشني ما رأيت من كثرة الاختلاف في دينكم» فقال المأمون: «فإن لنا اختلافين؛ أحدهما: كالاختلاف في الأذان وتكبير الجنائز، والاختلاف في التشهد وصلاة الأعياد وتكبير التشريق ووجوه القراءات واختلاف وجوه الفتيا وما أشبه ذلك، وليس هذا باختلاف إنما هو تخيير وتوسعة وتخفيف من المحنة، فمن أذن مثنى وأقام فرادى لم يؤثم من أذن مثنى وأقام مثنى، لا يتعايرون ولا يتعايبون، أنت ترى ذلك عيانا، وتشهد عليه بيانا، والاختلاف الآخر: كنحو الاختلاف في تأويل الآية من كتابنا، وتأويل الحديث عن نبينا
صلى الله عليه وسلم ، مع إجماعنا على أصل التنزيل واتفاقنا على عين الخبر، فإن كان الذي أوحشك هذا حتى أنكرت كتابنا فقد ينبغي أن يكون اللفظ بجميع ما في التوارة والإنجيل متفقا على تأويله كالاتفاق على تنزيله، ولا يكون بين الملتين من اليهود والنصارى اختلاف في شيء من التأويلات، وينبغي لك ألا ترجع إلا إلى لغة لا اختلاف في ألفاظها، ولو شاء الله أن ينزل كتبه ويجعل كلام أنبيائه وورثة رسله لا تحتاج إلى تفسير لفعل، ولكنا لم نر شيئا من الدين والدنيا دفع إلينا على الكفاية، ولو كان الأمر كذلك لسقطت البلوى والمحنة، وذهبت المسابقة والمنافسة ولم يكن تفاضل، وليس على هذا بنى الله جل وعز الدنيا» فقال المرتد: «أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن المسيح عبد الله ورسوله، وأن محمدا
صلى الله عليه وسلم
صادق، وأنك أمير المؤمنين حقا» قال: فانحرف المأمون نحو القبلة فخر ساجدا، ثم أقبل على أصحابه فقال: «وفروا عليه عرضه، ولا تبروه في يومه، ريثما يعتق إسلامه، كيلا يقول عدوه: إنه يسلم رغبة، ولا تنسوا نصيبكم من بره ونصرته وتأنيسه والفائدة عليه.»
وهذا المنحى الذي نحاه المأمون في إقناع ذلك المرتد يدلنا على ناحيتين من نواحي تفكيره:
الأولى:
بصره بأسرار الشريعة وعلمه بدقائق الدين وتدقيقه في فهم أنواع الخلاف بين المسلمين، ويكاد هذا التقسيم يقضي على كل شبهة عند من يريبهم هذا النزاع الذي طال بين الفرق الإسلامية، وتشعبت به مذاهب الفقهاء.
الثانية:
تعمقه في درس النفسيات واستقصاء خلجات القلب وهجسات الضمير، وذلك ظاهر في مراجعته لحياة الرجل الروحية، وتأمله لما ألفته نفسه وسكن إليه وجدانه قبل إسلامه، فقد بنى على هذه السابقة طريقة التآلف والتسامح التي قضى بها على ما مني به الرجل من الكفر بعد الإيمان.
وبعد، فإن المأمون في علمه وعرفانه أهل للاحتذاء والارتسام من أقرانه، قمين بالتمثل به والاقتفاء من أخذانه، ليكون زمانهم غرة في جبين الدهر كزمانه ، وليكون نصيبهم نصيبه في مهابته ورفعة شأنه، ورسوخ عرشه، وقوة بنيانه. (11) احترامه للدين
كان المأمون شديد الاحترام للتقاليد الدينية يرى فيها صيانة لنفسه واستبقاء لقلوب رعيته، ولكنه كان يشتط في ذلك فيعاقب على هفوة مرت عليها عشرات السنين، وسنقص عليك حادثة هي دلالة على هذا الإسراف، وهي أيضا عنوان على ذوقه في نقد الشعر، وإنا لنرجح أن للظرف الذي وقعت فيه هذه الحادثة تعليلا لما اجترح فيها، فلولا مجلس الغناء ولعبه بالنفس لما عزل قاض لهفوة لفظية طال على عهدها الزمان، وإليك الحديث:
ذكر أحد المعاصرين، وهو أبو حشيشة محمد بن علي بن أمية بن عمرو، قال: كنا قدام أمير المؤمنين المأمون بدمشق: فغنى علويه:
برئت من الإسلام إن كان ذا الذي
أتاك به الواشون عنى كما قالوا
ولكنهم لما رأوك سريعة
إلي تواصوا بالنميمة واحتالوا
فقال: يا علويه، لمن هذا الشعر؟ فقال: للقاضي، قال: أي قاض ويحك؟ قال: قاضي دمشق، فقال: يا أبا إسحاق، اعزله، قال: قد عزلته، قال: فيحضر الساعة، قال: فأحضر شيخ مخضوب قصير، فقال له المأمون: من تكون؟ قال: فلان بن فلان الفلاني، قال: تقول الشعر؟ قال: قد كنت أقوله، فقال: يا علويه، أنشده الشعر، فأنشده، فقال: هذا الشعر لك؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، ونساؤه طوالق وكل ما يملك في سبيل الله إن كان قال الشعر منذ ثلاثين سنة إلا في زهد أو معاتبة صديق، فقال: يا أبا إسحاق، اعزله؛ فما كنت أولي رقاب المسلمين من يبدأ في هزله بالبراءة من الإسلام ... ثم قال: يا علويه، لا تقل: برئت من الإسلام، ولكن قل:
حرمت مناي منك إن كان ذا الذي
أتاك به الواشون عني كما قالوا
وهذا الموقف من المأمون شبيه كل الشبه بموقفه مع يحيى بن أكثم وزيره وقاضيه، حيث قال له المأمون: «لا أترك قاضيا يشرب النبيذ!»
ثم لننظر ما يروى عن سعيد بن زياد أحد المعاصرين؛ فإنه يدلك على تقديس المأمون لآثار النبي واحترامه لها، وتيمنه لها مع ورع وخشوع، فقد قيل : إنه لما دخل المأمون دمشق قال له: «أرني الكتاب الذي كتبه رسول الله
صلى الله عليه وسلم
لكم» فأراه سعيد إياها، فقال له: «إني لأشتهي أن أدري أي شيء هذا الغشاء على هذا الخاتم» فقال له أبو إسحاق: حل العقدة حتى ترى ما هو، فقال المأمون: ما أشك أن النبي
صلى الله عليه وسلم
عقد هذا العقد، وما كنت لأحل عقدا عقده رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، ثم قال للواثق: خذه فضعه على عينيك؛ لعل الله أن يشفيك، وجعل المأمون يضعه على عينيه ويبكي.
على أنا نرى من الوفاء للنقد العلمي أن نحيل القارئ هنا إلى كلمتنا عن سياسة المأمون، وإلى مذهبه الديني في الاعتزال، كما نحيله إلى مبحثنا في الحياة العلمية والأدبية في عصره، ونظن أنه سيلاحظ معنا أن هذه السذاجة الطيبة، وذلك الإيمان الجميل في تقدير المأمون للآثار النبوية لا تتفق في حقيقة جوهرها مع ما أجمع عليه المؤرخون في سياسته، ولا مع اعتزاله
11
أو توغله فيما ترك الفلاسفة الأولون، ولا مع ما أخذ به المأمون بعض معاصريه من ألوان النقد في شئون دينهم ودنياهم.
والمأمون عند صحة هذه الرواية بين اثنتين: إما أن يكون قوي العاطفة الدينية رقيق الحس يخضع لوجدانه وإيمانه، وإما أن يكون في مثل هذه الأحوال رجل سياسة ودهاء يحسب ألف حساب لعواطف الجماهير، ويحترم ميول الجماعات الدينية.
وبعد، فالدين للديان جل جلاله، وأنعم بالولاة الذين يحترمون ما للجماعات من آراء ومعتقدات وديانات. (12) سياسته
ولقد كان المأمون سياسيا فذا، وليس أدل على «ديبلوماطيقيته» من خطته التي لا نجد لها في عصره ما هو أحكم منها ولا أسد، مع ركونه إلى مشاورة شيعته وأنصاره إذا حزبه أمر ، ولا أدل على كياسته وكبير مهارته من تصرفاته مع سفراء أخيه الأمين مما وقفتك على طرف منه في فصل النزاع بين الأخوين.
وكان سياسيا فذا في تزوجه من بوران بنت الحسن بن سهل ليكتسب الحزب الفارسي، وفي تزويجه علي بن موسى الرضا ابنته أم حبيب، ومحمد بن علي بن موسى ابنته أم الفضل ليكتسب الحزب العلوي، راميا بذلك كله إلى ضمان تأييد الأحزاب له، عارفا لنفسيات الجمهور وأمزجة الجماعات.
وكان سياسيا فذا مصيبا لباب الصواب في قوله لأحمد بن أبي دواد عن أهل بغداد: «الناس على طبقات ثلاث في هذه المدينة: ظالم، ومظلوم، ولا ظالم ولا مظلوم، فأما الظالم فليس يتوقع إلا عفونا وإمساكنا، وأما المظلوم فليس يتوقع أن ينصف إلا بنا، ومن كان لا ظالما ولا مظلوما فبيته يسعه.»
وكان سياسيا فذا، في مداراته عماله، وليس أدل على ذلك من تصرفه مع إبراهيم بن السندي صاحب الأخبار وقد رفع إليه خبرا عن حادثة بمصر، فكذبه عبد الله بن طاهر، فعنف المأمون السندي آلم التعنيف أمام ابن طاهر، ثم بعث إليه وقال له: «إني آمر وأداري عمالي وعمالهم مداراة الخائف، والله ما أجد إلى حملهم على المحجة البيضاء سبيلا، فاعمل لي على حسب ما تراني أعمل، ولن لهم تسلم لك أيامك، ويغض دينك».
وكان سياسيا فذا حينما رفع إليه صاحب خبره: «إنا أصبنا يا أمير المؤمنين رقاعا فيها كلام السفهاء والسفلة، وفيها تهديد ووعيد، وبعضها عندنا محفوظ إلى أن يأمر أمير المؤمنين فيها بأمره، فكتب المأمون بخطه: «هذا أمر إن أكبرناه كثر غمنا به، واتسع علينا خرقه، فمر أصحاب أخبارك متى وجدوا من هذه الرقاع رقعة أن يمزقوها قبل أن ينظروا فيها، فإنهم إذا فعلوا ذلك لم ير لها أثر ولا عين» ففعلوا ذلك فكان الأمر كما قال.»
وتعال ننظر نظرة تحليلية قصيرة فيما يرويه لنا زيد بن علي بن الحسين قال: «لما كان في العيد، بعد قدوم المأمون سنة أربع ومائتين، والمأمون يتغدى وعلى مائدته طاهر بن الحسين، وسعيد بن سلم، وحميد بن عبد الحميد، وعلى رأسه سعيد الخطيب وهو يقرظه ويذكر مناقبه ويصف سيرته ومجلسه، إذ انهملت عينا المأمون بالدموع، فرفع يده عن الطعام، فأمسك القوم حين رأوه بتلك الحال حتى إذا كف قال لهم: كلوا، قالوا: يا أمير المؤمنين، وهل نسيغ طعاما أو شرابا وسيدنا بهذه الحال، قال: أما والله ما ذلك من حدث ولا لمكروه هممت به بأحد، ولكنه جنس من أجناس الشكر لله لعظمته، وذكر نعمته التي أتمها علي، كما أتمها علي أبوي من قبلي، أما ترون ذلك الذي في صحن الدار، يعني الفضل بن الربيع - قال: وكانت الستور قد رفعت ووضعت الموائد للناس على مراتبهم، وكان يجلس الفضل مع أصحاب الحرس - وكان في أيام الرشيد وحاله حاله، يراني بوجه أعرف فيه البغضاء والشنآن، وكان له عندي كالذي لي عنده، ولكني كنت أداريه خوفا من سعايته وحذرا من أكاذيبه، فكنت إذا سلمت عليه فرد علي أظل لذلك فرحا وبه مبتهجا، وكان صغوه إلى المخلوع فحمله على أن أغراه بي ودعاه إلى قتلي، وحرك الآخر ما يحرك القرابة والرحم الماسة فقال: أما القتل فلا أقتله، ولكني أجعله بحيث إذا قال لم يطع، وإذا دعا لم يجب، فكان أحسن حالاتي عنده أن وجه مع علي بن عيسى قيد فضة بعدما تنازعا في الفضة والحديد ليقيدني به، وذهب عنه قول الله جل وعز:
ثم بغي عليه لينصرنه الله
فذاك موضعه من الدار بأخس مجالسها وأدنى مراتبها، وهذا الخطيب على رأسي، وكان بالأمس يقف على هذا المنبر الذي بإزائي مرة، وعلى المنبر الغربي أخرى، فيزعم أني المأفون ولست بالمأمون، ثم هو الساعة يقرظني تقريظه المسيح ومحمدا عليهما السلام، فقال طاهر بن الحسين: يا سيدنا، فما عندنا فيهما وقد أباحك الله إراقة دمائهما فحصنتهما بالعفو والحلم! قال: فعلت ذلك لموضع العفو من الله، ثم قال المأمون: مدوا أيديكم إلى طعامكم، فأكل وأكلوا.»
ألا يسوغ لنا أن نستنبط مما قدمناه لك أن المأمون كان سياسيا ذهنا، حاذقا في تصرفه مع الفضل ؟ ألم يكن للفضل مكانة عند الرشيد ونفوذ بعيد المدى في الدولة؟ ألا يجوز أن سعايته بالمأمون وأكاذيبه عليه، إن لم يداره، تجد آذانا مصغية، وأنها قد تجر عليه من الشرور ما ليس في حاجة إليه؟
ألم يكن خير سبيل لاتقاء شانئته أن يداريه عملا بقول أبي الدرداء : «إنا لنبش في وجوه قوم وقلوبنا تلعنهم.»
فهل ترى سياسة أحكم وبصرا بالأمور أتم من تصرف المأمون ومداراته؟ ثم انظر ما كان من مداراته للفضل بن سهل، كما صرح بذلك لولي عهده علي بن موسى الرضا، ومداراته لطاهر بن الحسين قاتل أخيه، وما كان من تصرفاته مع الوفود الأمينية؛ تؤمن معنا أن المأمون كان سياسيا، ولعل لاطلاعه على ما ترجم من المؤلفات اليونانية والفارسية مع استعداده الخاص ونزوعه إلى البحوث الكلامية عامة، وحبه للمشاورة واكتنافه بالرءوس المفكرة الناضجة، لعل لهذا وأمثاله الفضل في تكوين المأمون على ما رأيت وتخريجه على ما شاهدت.
وبعد، فإن للحياة تقاليدها، وإن لسياسة الشعوب أسرارها، كما أن للصراحة محامدها، وللمداراة ضرورتها، وأنعم بمن يضع الأمور في مواضعها، ويزن المواقف بميزانها، ويطب لكل حاجة دواءها وعلاجها. (13) مذهب المأمون الديني
أما مذهب المأمون الديني أو السياسي إن شئت، وهل كان يميل للفرس حقا ويؤثرهم على غيرهم من العرب في خدمة الدولة، وهل كان شيعيا علويا، أو معتدلا في التشيع أو معتزليا؟ فهذا باب يستفيض القول في شتى نواحيه وتزدحم معانيه؛ لاختلاف وجهات النظر فيه، ولعلك تبينت مما كتبناه عن المأمون السياسي بعض ما يساعدك على تفهم مذهبه الديني.
ولما كنا قد أرجأنا الكلام في موضوع المحنة والقول بخلق القرآن إلى قسم العلوم والآداب، فنحن نلفت النظر هنا إلى ذلك.
بيد أنا نرى من واجبنا أن نشير هنا إلى أن المأمون كان محوطا بشيوخ الاعتزال والكلام، أمثال ثمامة بن أشرس ويحيى بن المبارك وغيرهما، ويجوز لنا أن نفترض أن المأمون قد أخذ مذهب الاعتزال من يحيى بن المبارك مؤدبه، فإن ياقوتا الرومي قد ذكر عنه - في الجزء السابع من معجمه - أنه كان يتهم بالميل إلى الاعتزال، فلا يستبعد إذن، وصلته بالمأمون صلة الأستاذ بتلميذه، أن يكون المأمون قد تأثر بميله خصوصا، أنه اتصل به منذ صباه في أيام الرشيد، وكذلك كان محوطا بشيوخ آخرين لهم آثارهم ومكانتهم في الدولة مثل يحيى بن أكثم وغير يحيى بن أكثم.
وكان على ذلك متأثرا بما ترجم من أخلاقيات فلاسفة اليونان وعلومهم، وآداب الفرس وفنونهم، كما كان، إلى حد غير قليل، تحت سلطان الفرس ووزرائهم أمثال الفضل بن سهل، وكان يحسب للعلويين حسابهم، وللعباسيين حسابهم، فلا غرو إذن أن يكون لكل هذه العوامل أثر غير قليل في تكييف مزاجه الديني، وقد يفتر بعض هذه العوامل حينا وقد يشتد حينا آخر طبقا للأحوال.
هذا هو رأينا في مذهبه الديني أو السياسي على وجه عام، على أن هذا لا يمنعنا، وقد اتخذنا لأنفسنا خطة الحيدة في تدوين التاريخ من أن نثبت آراء القدماء فيه، وأن نذكر طرفا مما جاء منها في هذا الصدد.
قال ابن الأثير في كامله: «قال أبو العباس أحمد بن عبد الله بن عمار: كان المأمون شديد الميل إلى العلويين والإحسان إليهم، وخبره مشهور معهم، وكان يفعل ذلك طبعا لا تكلفا، فمن ذلك أنه توفي في أيامه يحيى بن الحسين بن زيد بن علي بن الحسين العلوي، فحضر الصلاة عليه بنفسه، ورأى الناس عليه من الحزن والكآبة ما تعجبوا منه، ثم إن ولدا لزينب بنت سليمان بن علي بن عبد الله بن عباس، وهي ابنة عم المنصور، توفي بعده، فأرسل له المأمون كفنا وسير أخاه صالحا ليصلي عليه ويعزي أمه، فإنها كانت عند العباسيين بمنزلة عظيمة، فأتى إليها وعزاها عنه، واعتذر عن تخلفه عن الصلاة عليه، فظهر غضبها وقالت لابن ابنها: تقدم فصل على أبيك، وتمثلت:
سبكناه ونحسبه لجينا
فأبدى الكير عن خبث الحديد
ثم قالت لصالح: قل له: يا ابن مراجل، أما لو كان يحيى بن الحسين بن زيد لوضعت ذيلك على فيك وعدوت خلف جنازته.»
ثم تعال معي نتدبر ما يرويه لنا التغلبي أحد المعاصرين، قال: سمعت
12
يحيى بن أكثم يقول: أمرني المأمون عند دخوله بغداد أن أجمع له وجوه الفقهاء وأهل العلم من أهل بغداد، فاخترت له من أعلامهم أربعين رجلا وأحضرتهم، وجلس لهم المأمون فسأل عن مسائل وأفاض في فنون الحديث والعلم، فلما انقضى ذلك المجلس الذي جعلناه للنظر في أمر الدين، قال المأمون: يا أبا محمد، كره هذا المجلس الذي جعلناه للنظر طوائف من الناس بتعديل أهوائهم وتزكية آرائهم، فطائفة عابوا علينا ما نقول في تفضيل علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وظنوا أنه لا يجوز تفضيل علي إلا بانتقاص غيره من السلف، والله ما أستجيز أن أنتقص الحجاج! فكيف السلف الطيب؟! وإن الرجل ليأتيني بالقطيعة من العود أو بالخشبة أو بالشيء الذي لعل قيمته لا تكون إلا درهما أو نحوه فيقول: إن هذا كان للنبي
صلى الله عليه وسلم
قد وضع يده عليه أو شرب فيه أو مسه، وما هو عندي بثقة ولا دليل على صدق الرجل، إلا أني بفرط النية والمحبة أقبل ذلك فأشتريه بألف دينار وأقل وأكثر، ثم أضعه على وجهي وعيني وأتبرك بالنظر إليه وبمسه، فأستشفي به عند المرض يصيبني أو يصيب من أهتم به، فأصونه كصيانتي نفسي، وإنما هو عود لم يفعل شيئا ولا فضيلة له تستوجب المحبة إلا ما ذكر من مس رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، فكيف لا أرعى حق أصحابه وحرمة من قد صحبه وبذل ماله ودمه دونه، وصبر معه أيام الشدة وأوقات العسرة، وعادى العشائر والعمائر والأقارب، وفارق الأهل والأولاد، واغترب عن داره ليعز الله دينه ويظهر دعوته، يا سبحان الله! والله لو لم يكن هذا في الدين معروفا لكان في الأخلاق جميلا، وإن من المشركين لمن يرعى في دينه من الحرمة ما هو أقل من هذا. معاذ الله مما نطق به الجاهلون، ثم لم ترض هذه الطائفة بالعيب لمن خالفها حتى نسبته إلى البدعة في تفضيله رجلا على أخيه ونظيره ومن يقاربه في الفضل، وقد قال الله جل من قائل:
ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض
ثم وسع لنا في جهل الفاضل من المفضول، فما فرض علينا ذلك ولا ندبنا إليه إذ شهدنا لجماعتهم بالنبوة، فمن دون النبيين من ذلك بعد إذ شهد لهم بالعدالة والتفضيل امرؤ لو جهله جاهل رجونا ألا يكون اجترح إثما. وهم لم يقولوا بدعة فيمن قال بقول واحد من أصحاب النبي
صلى الله عليه وسلم
وشك الآخر، واحتج في كسره وإبطاله من الأحكام في الفروج والدماء والأموال التي النظر فيها أوجب من النظر في التفصيل، فيغلط في مثل هذا أحد يعرف شيئا، أو له روية أو حسن نظر، أو يدفعه من له عقل، أو معاند يريد الإلطاط،
13
أو متبع لهواه ذاب عن رياسة اعتقدها.
وطائفة قد اتخذ كل رجل منهم مجلسا اعتقد به رياسة لعله يدعو فئة إلى ضرب من البدعة، ثم لعل كل رجل منهم يعادي من خالفه في الأمر الذي قد عقد به رياسة بدعة، ويشيط
14
بدمه، وهو قد خالفه من أمر الدين فيما هو أعظم من ذلك، إلا أن ذلك أمر لا رياسة له فيه، فسالمه عليه وأمسك عنه عند ذكر مخالفته إياه فيه، فإذا خولف في نحلته، ولعلها مما وسع الله في جهله بها، أو فيما اختلف السلف في مثله، فلم يعاد بعضهم بعضا، ولم يروا في ذلك إثما، ولعله يكفر مخالفه أو يبدعه أو يرميه بالأمور التي حرمها الله عليه من المشركين دون المسلمين، بغيا عليهم، وهم المترقبون الفتن، والراسخون فيها، لينهبوا أموال الناس ويستحلوها بالغلبة، وقد حال العدل بينهم وبين ما يريدون، يزأرون على الفتنة زئير الأسد على فرائسها.
وإني لأرجو أن يكون مجلسنا هذا - بتوفيق الله وتأييده ومعونته على إتمامه - سببا لاجتماع هذه الطوائف على ما هو أرضى وأصلح للدين، إما شاك فيتبين ويتثبت فينقاد طوعا، وإما معاند فيرد بالعدل كرها.
ولقد هم في سبيل علويته هذه أن يلعن معاوية، وأن يكتب بذلك كتابا يقرأ يوم الدار وحفل الناس، فثناه عن ذلك يحيى بن أكثم . وقد يكون من الممتع الطريف حقا أن نذكر لك ما قاله يحيى وغيره لتتبين نفسية الزعماء فيما نحن بسبيله. «قال يحيى بن أكثم: يا أمير المؤمنين، إن العامة لا تحتمل هذا، ولا سيما أهل خراسان، ولا تأمن أن تكون لهم نفرة وإن كانت لم تدر ما عاقبتها ، والرأي أن تدع الناس على ما هم عليه، ولا تظهر لهم أنك تميل إلى فرقة من الفرق، فإن ذلك أصلح في السياسة، وأحرى في التدبير، فركن المأمون إلى رأيه، ثم دخل عليه ثمامة، أحد المعاصرين، فقال له المأمون: يا ثمامة، قد علمت ما كنا دبرناه في معاوية، وقد عارضنا رأي هو أصلح في تدبير المملكة وأبقى ذكرا في العامة، ثم أخبره أن ابن أكثم خوفه إياها، وأخبره بنفورها عن هذا الرأي، فقال ثمامة: يا أمير المؤمنين، والعامة في هذا الموضع الذي وصفها به يحيى، والله لو وجهت إنسانا على عاتقه سواد ومعه عصا لساق إليك بعصاه عشرة آلاف منها، والله يا أمير المؤمنين، ما رضي الله جل ثناؤه أن سواها بالأنعام حتى جعلها أضل منها سبيلا، فقال تبارك وتعالى:
أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا
والله يا أمير المؤمنين، لقد مررت منذ أيام في شارع الخلد وأنا أريد الدار، فإذا إنسان قد بسط كساءه، وألقى عليه أدوية وهو قائم ينادي عليها: هذا الدواء لبياض العين والعشا والغشاوة والظلمة وضعف البصر، وإن إحدى عينيه لمطموسة، وفي الأخرى مؤسى له، والناس قد انثالوا عليه وأجفلوا إليه يستوصفونه، فنزلت عن دابتي ناحية ودخلت في غمار تلك الجماعة فقلت: يا هذا، أرى عينك أحوج هذه الأعين إلى العلاج وأنت تصف هذا الدواء وتخبر أنه شفاء لوجع العين، فلم لا تستعمله؟ فقال: أنا في هذا الموضع منذ عشر سنين ما مر بي شيخ أجهل منك، فقلت له: وكيف؟ قال: يا جاهل، أين اشتكت عيني؟ قلت: لا أدري، قال: بمصر، فأقبلت علي تلك الجماعة فقالوا: صدق الرجل، أنت جاهل، وهموا بي، فقلت: لا والله، ما علمت أن عينه اشتكت بمصر، فما تخلصت منهم إلا بهذه الحجة.»
نريد بعد ما قدمناه لك أن نقول لك: إن مذهب المأمون الديني كان متمشيا تماما مع مذهبه السياسي، وإنه إذا كان يريد من وراء خطته السياسية من التزوج من هذا الحزب وذاك، ومن إرضاء هذا الطرف وذاك أن يظفر بتكوين وحدة سياسية من شتى الأحزاب ولو أدى ذلك أن يكون من العلويين خليفة، ثم من العباسيين خليفة ما دامت بغيته متحققة من استتباب الأمن، وامتزاج الأحزاب، وتوحيد القوى، فكذلك كان يريد أن يتخذ من مذهبه الديني مذهبا وسطا. ويخيل إلينا من النتائج التي وقفنا عليها من دراسة هذا العصر أن المأمون لم يظفر بغايته لا من الوجهة السياسية كما علمت من انتهاء حياة الرضا من آل محمد، ولا من الوجهة الدينية.
وبعد، فقد قلنا لك: إن الدين للديان جل جلاله، وأكبرنا وأكبرت معنا أولئك الولاة الذين يحترمون ما للجماعات من آراء ومعتقدات وديانات، ويظهر أن المأمون لم يكن فيما رامه في هذا السبيل موفقا توفيقه فيما عداه، وأن له زلة كان يجدر ألا يقع مثله في مثلها، وسترى ذلك موضحا في الفصل الذي عقدناه عن «محنة القرآن». (14) كلمة ختامية عن المأمون
وإنا بعد أن حللنا شخصية المأمون بما يجب من التفصيل والتوضيح، نرى من المستصوب أن نضم إلى آراء المؤرخين العرب وروايات المعاصرين للمأمون التي لا تخلو من مبالغة في تمدحهم بفضائله، رأي مؤرخ متشرق عكف على دراسة عصر المأمون، وهو السير وليم موير، فربما أفادنا كثيرا من ناحية استيعاب وجهات النظر عند الفرنجة من المؤرخين، ذلك لأن الحقيقة العلمية لا تخدم بمثل ما يخدمها تباين الآراء واختلاف المصادر وتناقض الروايات، وليس من مهمتنا أن نعرض للرد على «السير موير»، وإنما نحن بسبيل إثبات وجهات النظر المختلفة كما قلنا.
قال الأستاذ موير في كتاب الخلافة في مختتم بحثه عن المأمون ما نترجمة لك بنصه: «فمما لا نزاع فيه أن المأمون كان على وجه العموم متصفا بالعدل والحلم، وإنما يؤخذ بأنه كان متقلبا في آرائه وشعوره، سواء أكان ذلك في المسائل السياسية أم الدينية».
ويرجع السبب في ذلك إلى نزعته الفارسية التي ورثها عن أمه، والبيئة التي ربي فيها من جهة، وإلى غريزة حبه للاستسلام بتأثير من حوله كما كان حاله مع الفضل من جهة أخرى.
على أننا مع اعترافنا بعدله لا نستطيع أن ننزهه عن الجنوح في بعض الأحايين إلى الجور واستعمال القسوة من غير مسوغ، فإنه قد تصرف في بعض الحوادث تصرف الجبابرة والقساة من أسلافه الذين أتوا من المنكرات ما سودوا به صحائف تاريخهم.
وسأذكر على سبيل المثال حادثة استعمل فيها المأمون وحشية غريبة، ذلك أن أبا دلف - وكان بطلا من أشراف العرب وزعيما لإمارة همذان؛ إذ كان من أسرة كريمة نالت شهرة عظيمة وصيتا واسعا بين عشائرها وذوي البيوتات فيها - كان من الذين انضموا إلى نصرة الأمين وشايعوه، فلما قتل واستقل المأمون بالخلافة، أبي أبو دلف أن يدخل في طاعته، وآثر العودة إلى مسقط رأسه في فارس، فمدحه شاعر أعمى بقصيدة رائعة، وغالى في مدحه وإطرائه، ووصفه بأنه أشرف العرب والمقدم عليهم، فاغتاظ المأمون من الشاعر غيظا شديدا؛ إذ ظن أن الشاعر يقصد إهانته، فأمر بتعذيبه وقتله شر قتلة، ولكن لم يمض على ذلك غير قليل من الزمن حتى دخل أبو دلف في طاعة المأمون، فاحتفل به وقربه إليه، فإن كان تجاوزه عن أبي دلف وسعة حلمه عليه مما يعظم شأن المأمون، ويدل على رحابة صدره، فهذا التجاوز لا يغير حكمنا عليه بالقسوة الوحشية في قتل ذلك الشاعر الأعمى، ولو أغضينا عن الشبهات التي حامت حول مقتل الفضل وموت علي الرضا غدرا وغيلة، فإننا لا نستطيع أن نغضي عن معاملته الجائرة لابن عائشة، وما لقيه هرثمة وطاهر مع تفانيهما في نصرته وتوطيد حكمه، واضطهاده لكثير من أجلاء المفكرين وأصحاب الآراء المخالفة لرأيه في بعض مسائل الدين في مجلس المناظرة، مما يدل على قسوته، إلا أننا إذا راعينا طول مدة حكمه وموقفه النبيل في عفوه عن الخارجين عليه في بغداد، نرى كفة عدله وحلمه أرجح من كفة جوره وقسوته، وقصارى القول أن عصر خلافته كان بوجه الإجمال من أزهى عصور التاريخ الإسلامي. ا.ه. •••
وبعد، فلقد حللنا شخصية المأمون الفذة البارزة بما استحقته من الاستقصاء والاستيعاب والدرس والتحليل، وأعقبنا كل كلمة عن سجاياه ما نعتبره موضع العظة والاعتبار من دراسة هذا العصر المترع بالمثل العليا، ونأمل أن نكون قد وفقنا فيما رمناه من إصابة شاكلة الحق ولباب الصواب.
هوامش
الفصل الثامن
الحياة العلمية في عصر المأمون
(1) توطئة
قيل: إن سهل بن هارون كان يتولى الهيمنة على إدارة دار الكتب الخاصة بالدولة المأمونية في بغداد، وكانت تعرف ببيت الحكمة، كما كان يتولى تنظيم خزانة المأمون، وقيل: إن بيت الحكمة هذا أنشئ في الغالب أيام الرشيد، حيث قد جمع له فيه البرامكة من الكتب ما وفقوا إليه هندية كانت أو فارسية أو يونانية.
وقيل: إن يحيى بن أبي منصور الموصلي، المنجم المعروف وأحد أصحاب الأرصاد في العصر المأموني، ومحمد بن موسى الخوارزمي، صاحب الأزياج وصورة الأرض، كانا من خزنة دار الحكمة المأمونية، كما كان جد أحمد الطيبي المعروف بالصنوبري الحلبي والفضل بن نوبخت وأولاد شاكر وغيرهم من رجالات بيت الحكمة في العصر المأموني، أو ممن كان يتردد على هذه الدار للعمل فيها بصفة رسمية أو للمطالعة أو النسخ أو الترجمة أو التأليف.
وقيل: إن الراوية النسابة المعروف علان الشعوبي الفارسي الأصل كان ممن ينسخ في بيت الحكمة، أو في أحد بيوت الحكمة هذه؛ إذ يلوح لنا أنها كانت على الأرجح أكثر من بيت للرشيد والبرامكة والمأمون.
وقيل: إن المأمون بعث إلى حاكم صقلية المسيحي أن يبادر بأن يرسل إليه مكتبة صقلية الشهيرة الغنية بكتبها الفلسفية والعلمية الكثيرة، وإن الحاكم تردد في إرسالها، وكان بين الضن بها والحرص عليها والخوف من القوة المأمونية والهيبة المأمونية، ومن أجل ذلك جمع كبار رجالات الدولة وأدلى إليهم بطلب المأمون، فأشار عليه المطران الأكبر بقوله: «أرسلها إليه؛ فوالله ما دخلت هذه العلوم في أمه إلا أفسدتها.» فأذعن الحاكم لمشورته وعمل بها.
ويقول الأستاذ كرد علي: «إن المأمون هو الذي جمع بعض حكماء عصره على صنعة الصورة التي نسبت إليه، ودعيت الصورة المأمونية، صوروا فيها العالم بأفلاكه ونجومه، وبره وبحره وعامره وغامره، ومساكن الأمم والمدن إلى غير ذلك، وهي أحسن مما تقدمها من جغرافية بطلميوس وجغرافية مارينوس، وقد وضع له علماء رسم الأرض - وقال الزهري: إنهم كانوا سبعين رجلا من فلاسفة العراق - كتابا في الجغرافية أعان عمال الدولة على التعرف إلى البلاد والأمم التي أظلتها الراية العباسية، هذا إلى عنايته بالفلك، وفلكيه الفزاري أول من استعمل الأسطرلاب من العرب، وعني بالطبيعة والرياضيات فوق عنايته بالطب ومعرفة العقاقير والنبات والحيوان، إلى ما شاكل تلك العلوم مما كان له الأثر المحسوس في إدخال المدنية على دولة العرب، وفتح به المأمون باب العقل على مصراعيه في كل مطلب وشأن.»
قيل هذا، وقيل أكثر من هذا مما يدلنا دلالة صحيحة أو دلالة تقريبية على كثرة الكتب في العهد المأموني، ومما يشير إلى عدم قلتها في أيام من سبقه من الخلفاء العباسيين.
والآن يحق لنا أن نتساءل: هل أفاد المأمون من هذه الكتب؟ وماذا أفادنا المأمون خاصة؟ وما هي الحركة العملية المأمونية، ومن هم رجالها؟ وما هي مؤلفاتها؟!
يحق لنا أن نتساءل عن ذلك وعن مثل ذلك، ويحق لنا أن نعرض لهذه البحوث وأن نوضح بعض ما كنا أجملناه في كلمتنا عن الحياة العلمية في العصر العباسي.
أما أن المأمون أفاد من كتب عصره سواء أكانت مترجمة عن اليونانية أوالفارسية أو غيرهما، أم كانت مؤلفة موضوعة، فهذا ما لا شك فيه مما قد تبينته فيما وضحناه لك عند تعرضنا لتحليل شخصية المأمون، وحين تكلمنا عنه تلميذا، وولي عهد، وخليفة، وأديبا، وعالما، وسياسيا، وباحثا دينيا.
وأما أن المأمون أفاد عصره بمؤلفاته الخاصة، فهذا ما لا ريب فيه أيضا، وهاك ابن النديم يحدثنا في فهرسته أن للمأمون من الكتب كتاب جواب ملك البرغر فيما سأل عنه من أمور الإسلام والتوحيد، ورسالته في إعلان النبوة.
وأما عن الحركة العلمية المأمونية ورجالاتها ومؤلفاتهم، فهذا ما نحن مقبلون على بحثه؛ يحدثنا ابن أبي أصيبعة في طبقاته عن أوكد الأسباب عند المأمون لاستخراج الكتب، فيقول: «قال يحيى بن عدي: قال المأمون: رأيت فيما يرى النائم كأن رجلا على كرسي جالسا في المجلس الذي أجلس فيه فتعاظمته وتهايبته وسألت عنه، فقيل لي: هو أرسطوطاليس، فقلت: أسأله عن شيء، فسألته فقلت: ما الحسن؟ فقال: ما استحسنته العقول، فقلت: ثم ماذا؟ قال: ما استحسنته الشريعة، قلت: ثم ماذا؟ قال: ما استحسنه الجمهور، قلت: ثم ماذا؟ قال: ثم لا ثم، فكان هذا المنام من أوكد الأسباب في إخراج الكتب.»
فإن المأمون كان بينه وبين ملك الروم مراسلات، وقد استظهر عليه المأمون، فكتب إلى ملك الروم يسأله الإذن في إنفاذ ما يختار من العلوم القديمة المخزونة في بلد الروم، فأجاب إلى ذلك بعد امتناع، فأخرج المأمون لذلك جماعة منهم الحجاج بن مطر، وابن البطريق، وسلم صاحب بيت الحكمة وغيرهم، فأخذوا مما وجدوا ما اختاروا، فلما حملوه إليه أمرهم بنقله فنقل، وقد قيل: إن يوحنا بن ماسويه ممن نفذ إلى بلد الروم، وأحضر المأمون أيضا حنين بن إسحاق، وكان فتي السن، وأمره بنقل ما يقدر عليه من كتب الحكماء اليونانيين إلى العربي وإصلاح ما ينقله غيره، فامتثل أمره.
ومما يحكى عنه أن المأمون كان يعطيه من الذهب زنة ما ينقله من الكتب إلى العربي مثلا بمثل، وقال أبو سليمان المنطقي: «إن بني شاكر؛ وهم: محمد وأحمد والحسن كانوا يرزقون جماعة من النقلة منهم حنين بن إسحاق، وحبيش بن الحسن، وثابت بن قرة وغيرهم في الشهر نحو خمسمائة دينار للنقل والملازمة.»
ويقول القاضي صاعد بن أحمد الأندلسي: «إن العرب في صدر الإسلام لم تعن بشيء من العلوم إلا بلغتها ومعرفة أحكام شريعتها، حاشا صناعة الطب، فإنها كانت موجودة عند أفراد منهم غير منكرة عند جماهيرهم؛ لحاجة الناس طرا إليها، فهذه كانت حال العرب في الدولة الأموية، فلما أدال
1
الله تعالى للهاشمية، وصرف الملك إليهم ثابت الهمم من غفلتها، وهبت الفطن من موتتها، فكان أول من عني منهم بالعلوم الخليفة الثاني أبو جعفر المنصور، وكان مع براعته في الفقه كلفا بالفلسفة وعلم النجوم، ثم لما أفضت الخلافة فيهم إلى الخليفة السابع عبد الله المأمون بن هارون الرشيد تمم ما بدأ به جده المنصور، فأقبل على طلب العلم في مواضعه، وداخل ملوك الروم وسألهم صلته بما لديهم من كتب الفلسفة، فبعثوا إليه بما حضرهم من كتب أفلاطون وأرسطوطاليس وأبقراط وجالينوس وأوقليدس وبطلميوس وغيرهم من الفلاسفة، فاستجاد لها مهرة التراجمة وكلفهم إحكام ترجمتها، فترجمت له على غاية ما أمكن، ثم حض الناس على قراءتها ورغبهم في تعليمها، وكان يخلو بالحكماء ويأنس بمناظرتهم ويلتذ بمذاكراتهم، علما منه بأن أهل العلم هم صفوة الله من خلقه، ونخبته من عباده، وأنهم صرفوا عنايتهم إلى نيل فضائل النفس الناطقة، وزهدوا فيما يرغب فيه الصين والترك ومن نزع منزعهم من التنافس في دقة الصناعة العملية، والتباهي بأخلاق النفس والتفاخر بالقوى؛ إذ علموا أن البهائم تشركهم فيها، وتفضلهم في كثير منها.» فلهذا السبب كان أهل العلم مصابيح الدجى، وسادة البشر، وأوحشت الدنيا لفقدهم.
فهذا الحلم الذي قيل: إنه دفع بالمأمون إلى الاستهامة بأرسطو ومؤلفات أرسطو، أو بعبارة عملية أدق: هذا الميل إلى الفلسفة والمنطق عند المأمون كان من آثاره حركة نقل وتأليف عنيفة قوية، ويخيل إلينا أن المأمون لاتساع دائرة معارفه العامة، ورغبته في القياس العقلي، وتأثره بمذهب الاعتزال - كما سترى في كلمتنا التي عقدناها لك في القول بخلق القرآن - كان لذلك كله وأمثاله أكبر رجل عمل في انتشار حركة الترجمة والتأليف، وخاصة في مؤلفات أرسطو، وكان من نتائج إقبال العرب وغيرهم على تلك المؤلفات وأمثالها أن تولد عندهم علم الكلام والفلسفة الأفلاطونية الجديدة. (2) حركة الترجمة والنقل
يقول الأستاذ «سنتلانه» في مفتتح محاضراته في تاريخ المذاهب الفلسفية بالجامعة المصرية: «إن تاريخ الترجمة في عهد آل عباس على ثلاثة أدوار: فالدور الأول من خلافة أبي جعفر المنصور إلى وفاة هارون الرشيد، أي من سنة 136 إلى سنة 193، وهي الطبقة الأولى من المترجمين؛ منهم: يحيى بن البطريق مترجم المجسطى في أيام المنصور، وجورجيس بن جبرائيل الطبيب عاش سنة 148، وعبد الله بن المقفع الذي مات نحو سنة 143 وترجم بعض الكتب المنطقية لأرسطوطاليس، ويوحنا بن ماسويه، وكان في أيام الرشيد، وقد أدرك أيام المتوكل، واعتنى في الأغلب بالكتب الطبية، وسلام الأبرش، وكان في أيام البرامكة، وباسيل المطران.
والدور الثاني من ولاية المأمون سنة 198 إلى سنة 300، وهي الطبقة الثانية من المترجمين؛ منهم: يوحنا بن البطريق، والحجاج بن مطر الذي عاش سنة 214، وقسطا بن لوقا البعلبكي وعاش سنة 220، وعبد المسيح بن ناعمة الحمصي وعاش سنة 220، وحنين بن إسحاق وتوفي سنة 260، وقيل سنة 262، وابنه إسحاق بن حنين وتوفي سنة 298، وثابت بن قرة الصابي المتوفى سنة 288، وحبيش بن الحسن، ويدعى حبش الأعسم ابن أخت حنين، وتوفى سنة 300، ومما ترجم في هذا العصر أغلب كتب أبقراط وجالينوس وأرسطوطاليس، وشيء من كتب أفلاطون ومن التفاسير على الكتب المذكورة.
والدور الثالث من سنة ثلاثمائة للهجرة، وهي تاريخ وفاة حبيش، إلى منتصف القرن الرابع، ومن مترجمي هذه الطبقة متى بن يونس، وتاريخ وفاته مجهول إلا أنه يذكر عنه أنه كان ببغداد بين سنة 320 وسنة 330، ومنهم سنان بن ثابت بن قرة، المتوفى سنة 360، ويحيى بن عدي وتوفي سنة 364، وأبو علي بن زرعة، من سنة 331 إلى سنة 398، وهلال بن هلال الحمصي، وعيسى بن سهرنجت، وكان أكثر اشتغالهم بالكتب المنطقية والطبيعية لأرسطو، وبالمفسرين كالإسكندر الأفروديسي ويحيى النحوي وغيرهما» ا.ه.
وبعد، فقد سبق لنا أن بينا لك طرفا عن الحياة العلمية في العصر الأموي وفي صدر العصر العباسي، وآن لنا الآن أن نذكر لك بعض أسماء أقطاب الحركة العلمية سواء أكانت في علم الفلك أم الطب أم الفلسفة ترجمة وتأليفا في العصر المأموني، معتمدين في ذلك على الفهرست لابن النديم، وطبقات الأطباء لابن أبي أصيبعة، وكتاب أخبار الحكماء للقفطي، وهاك جملة منهم؛ وهم: أحمد بن محمد بن كثير الفرغاني، أحد منجمي المأمون، وبختيشوع جورجيس، وجبرائيل بن بختيشوع، وجبرائيل الكحال المأموني، والحارك المنجم صاحب الحسن بن سهل، والحسن بن سهل بن نوبخت، وزكريا الطيفوري، وسهل بن سابور بن سهل المعروف بالكوسج الذي كان يجتمع مع يوحنا بن ماسويه، وجورجيس بن بختيشوع، وعيسى بن الحكم، وزكريا الطيفوري، ثم سند بن علي المنجم المأموني، وسلمويه بن بنان صاحب المعتصم، وصالح بن بهلة الهندي صاحب الرشيد، والعباس بن سعيد الجوهري المنجم صاحب المأمون، وعبد الله بن سهل بن نوبخت المنجم المأموني، وأبو حفص عمر بن الفرخان الطبري، أحد رؤساء التراجمة والمتحققين بعلم النجوم، وموسى بن شاكر وبنوه محمد وأحمد والحسن من منجمي المأمون، وكان بنوه الثلاثة فيما ذكره القفطي من أبصر الناس بالهندسة وعلم الحيل، وموسى بن إسرائيل صاحب أبي إسحاق بن إبراهيم بن المهدي، وما شاء الله المنجم اليهودي، وميخائيل بن ماسويه، ويحيى بن أبي منصور المنجم المأموني، ويعقوب بن إسحاق وتلاميذه: حسنويه ونفطويه وسلمويه ورحمويه وأحمد بن الطيب، ثم يوحنا بن البطريق الترجمان مولى المأمون، ويوحنا بن ماسويه النصراني السرياني، وأبو قريش المعروف بعيسى الصيدلاني وغيرهم كآل ثابت وماسرجويه، وآل الكرخي، وابن دهن الهندي مدير بيمارستان البرامكة، وكان فيما يذكره ابن النديم ينقل من الهندية إلى العربية، ومنكه طبيب الرشيد الهندي، وكان ينقل من الهندية «السنسكريتية»، وعشرات غيرهم ممن لا يقع تحت حصر.
ولو أردنا أن نكتب عن واحد واحد من رجال هذه الحركة العلمية العنيفة لخرجنا عن وضع كتاب في العصر المأموني إلى وضع موسوعة أو معجم، وإذا لم نكتب عنهم فقد رمينا بالتقصير المعيب ولم نصور العصر بما ينبغي أن يصور به، لذلك آثرنا أن نكتب كلمة عن جبرائيل بن بختيشوع، وقدره في العصر قدره ومنزلته منزلته؛ لتكون مثالا وتوضيحا لسواه من رجالات العلم في ذلك العصر الغني حقا، والغني برجالاته صدقا، وستقف على هذه الكلمة في موضعها من الفصل العاشر من هذا الكتاب. (3) كتب العصر
وإنا ننقل لك هنا طرفا من أسماء الكتب التي ترجمت في ذلك العصر من اليونانية والفارسية والهندية والقبطية والعبرانية واللاتينية والنبطية، معتمدين في ذلك على البحث الطريف الذي كتبه صاحب التمدن الإسلامي، ولخص فيه ما كتبه ابن النديم، وصاحب الطبقات وتراجم الحكماء، منوهين بجهده أمانة للعلم واعترافا بالفضل.
أولا: الكتب المنقولة عن اليونانية (أ) كتب الفلسفة والأدب
كتب أفلاطون (1)
كتاب السياسة نقله حنين بن إسحاق. (2)
كتاب المناسبات نقله يحيى بن عدي. (3)
كتاب النواميس نقله حنين ويحيى. (4)
كتاب طيماوس نقله ابن البطريق وأصلحه حنين. (5)
كتاب أفلاطن إلى أقرطن نقله يحيى بن عدي. (6)
كتاب التوحيد نقله يحيى بن عدي. (7)
كتاب الحس واللذة نقله يحيى بن عدي. (8)
كتاب أصول الهندسة نقله قسطا بن لوقا.
كتب أرسطوطاليس (1)
قاطيغورياس (المقولات) نقله حنين بن إسحاق. (2)
كتاب العبارة نقله حنين بن إسحاق إلى السريانية وإسحاق إلى العربية. (3)
تحليل القياس نقله ثيادورس وأصلحه حنين. (4)
كتاب البرهان نقله إسحاق إلى السرياني ومتى إلى العربي. (5)
كتاب الجدل نقله إسحاق إلى السرياني ويحيى إلى العربي. (6)
كتاب المغالطات أو الحكمة المموهة نقله ابن ناعمة وأبو بشر إلى السرياني ويحيى إلى العربي. (7)
كتاب الخطابة نقله إسحاق وإبراهيم بن عبد الله. (8)
كتاب الشعر نقله أبو بشر من السرياني إلى العربي. (9)
كتاب السماع الطبيعي نقله أبو روح الصابي وحنين ويحيى وقسطا وابن ناعمة. (10)
كتاب السماء والعالم نقله ابن البطريق وأصلحه حنين. (11)
كتاب الكون والفساد نقله حنين إلى السرياني وإسحاق والدمشقي إلى العربي. (12)
كتاب الآثار العلوية نقله أبو بشر ويحيى. (13)
كتاب النفس نقله حنين إلى السرياني وإسحاق إلى العربي. (14)
كتاب الحس والمحسوس نقله أبو بشر متى بن يونس. (15)
كتاب الحيوان نقله ابن البطريق. (16)
كتاب الحروف أو الإلهيات نقله إسحاق ويحيى وحنين ومتى. (17)
كتاب الأخلاق نقله إسحاق. (18)
كتاب المرآة نقله الحجاج بن مطر. (19)
كتاب أثولوجيا نقله الحجاج بن مطر.
ولكتب أرسطو شروح وتعاليق لبعض تلامذته، أو من جاء بعده كثاوفرسطس، وديدوخس برقلس، والإسكندر الأفروديسي، وفرفوريوس، وأمونيوس، وتامسطيوس، ونيقولاوس، وفلوطرخس، ويحيى النحوي وغيرهم.
ولبعض هؤلاء مؤلفات خاصة، وكلها في الفلسفة وفروعها، وقد نقل كثير منها إلى العربية ولم يعلم ناقلها؛ فأغضينا عن ذكرها، وقد ذكرها صاحب الفهرست.
وذكروا لجالينوس في جملة كتبه الطبية الآتي بيانها بضعة كتب في الفلسفة والأدب، وهي: كتاب ما يعتقده رأيا ترجمه ثابت وكتاب تعريف المرء عيوب نفسه نقله توما وأصلحه حنين وكتاب الأخلاق نقله حبيش وكتاب انتفاع الأخيار بأعدائهم نقله حبيش والمحرك الأول لا يتحرك نقله حبيش وعيسى، وغير ذلك. (ب) كتب الطب وفروعه
كتب أبقراط (1)
كتاب عهد أبقراط نقله حنين إلى السريانية وحبيش وعيسى إلى العربية. (2)
كتاب الفصول نقله حنين لمحمد بن موسى. (3)
كتاب الكسر نقله حنين لمحمد بن موسى. (4)
كتاب تقدمة المعرفة نقله حنين وعيسى بن يحيى. (5)
كتاب الأمراض الحادة نقله عيسى بن يحيى. (6)
كتاب أبيذيميا نقله عيسى بن يحيى. (7)
كتاب الأخلاط نقله عيسى بن يحيى لأحمد بن موسى. (8)
كتاب قاطيطيون نقله حنين لمحمد بن موسى. (9)
كتاب الماء والهواء نقله حنين وحبيش. (10)
كتاب طبيعة الإنسان نقله حنين وعيسى.
كتب جالينوس
وأشهر كتب جالينوس الكتب الستة عشر، وهي: كتاب الفرق، الصناعة، كتاب النبض، شفاء الأمراض، المقالات الخمس، الاسطقصات، كتاب المزاج، القوى الطبيعية، العلل والأمراض، تعرف علل الأعضاء الباطنة، كتاب النبض الكبير، كتاب الحمايات، البحران، أيام البحران، تدبير الأصحاء، حيلة البرء، وقد نقلها كلها حنين بن إسحاق إلى العربية إلا كتاب العلل الباطنة، وكتاب النبض الكبير، وكتاب تدبير الأصحاء، وكتاب حيلة البرء فقد نقلها حبيش، أما ما بقي من كتب جالينوس الطبية، فإليك أسماءها مع أسماء ناقليها: (1)
التشريح الكبير: حبيش الأعسم. (2)
اختلاف التشريح: حبيش الأعسم. (3)
تشريح الحيوان الحي: حبيش الأعسم. (4)
تشريح الحيوان الميت: حبيش الأعسم. (5)
علم أبقراط بالتشريح: حبيش الأعسم. (6)
الحاجة إلى النبض: حبيش الأعسم. (7)
علوم أرسطو: حبيش الأعسم. (8)
تشريح الرحم: حبيش الأعسم. (9)
آراء أبقراط وأفلاطون: حبيش الأعسم. (10)
العادات: حبيش الأعسم. (11)
خصب البدن: حبيش الأعسم. (12)
المني: حبيش الأعسم. (13)
منافع الأعضاء: حبيش الأعسم. (14)
تركيب الأدوية: حبيش الأعسم. (15)
الرياضة بالكرة الصغيرة: حبيش الأعسم. (16)
الرياضة بالكرة الكبيرة: حبيش الأعسم. (17)
الحث على تعليم الطب: حبيش الأعسم. (18)
قوى النفس ومزاج البدن: حبيش الأعسم. (19)
حركات الصدر: نقله أصطفان وأصلحه حنين. (20)
علل النفس: أصطفان وأصلحه حنين. (21)
حركة العضل: أصطفان وأصلحه حنين. (22)
الحاجة إلى النفس: أصطفان وأصلحه حنين. (23)
الامتلاء: أصطفان وأصلحه حنين. (24)
المرة والسوداء: أصطفان وأصلحه حنين. (25)
علل الصوت: حنين. (26)
الحركات المجهولة: حنين. (27)
أفضل الهيئات: حنين. (28)
سوء المزاج المختلف: حنين. (29)
الأدوية المفردة: حنين. (30)
المولود لسبعة أشهر: حنين. (31)
رداءة التنفس: حنين. (32)
الذبول: حنين. (33)
قوى الأغذية: حنين . (34)
التدبير الملطف: حنين. (35)
مداواة الأمراض: حنين. (36)
أبقراط في الأمراض الحادة: حنين. (37)
إلى تراسوبولوس: حنين. (38)
الطبيب والفيلسوف: حنين. (39)
كتب أبقراط الصحية: حنين. (40)
محنة الطبيب: حنين. (41)
أفلاطون في طيماوس: حنين وإسحاق. (42)
تقدمة المعرفة: عيسى. (43)
الفصد: عيسى وأصطفان. (44)
صفات لصبي يصرخ: ابن الصلت. (45)
الأورام: ابن الصلت. (46)
الكيموس: ثابت وحبيش. (47)
الأدوية والأدواء: عيسى. (48)
الترياق: ابن البطريق.
وهناك كتب في الطب وتوابعه ذكرها صاحب الفهرست ولم يذكر ناقليها، وأما مؤلفوها فمنها بضعة وعشرون كتابا لروفس من أهل أفسس - كان قبل جالينوس - ولعلها لم تنقل كلها، ومما ذكر ناقلوه بضعة كتب لأوريباسيوس، وهي؛ كتاب الأدوية المستعملة نقله أصطفان بن باسيل، وكتاب السبعين مقالة نقله حنين وعيسى بن يحيى إلى السريانية، وكتاب إلى ابنه أسطاث نقله حنين، وكتاب إلى أبيه أونافيس نقله حنين، ولديسقوريدس العين زربى، ويقال له: السائح في البلاد؛ لسياحته في طلب العقاقير والحشائش، كتاب في الحشائش سيأتي تاريخ نقله، ولإسكندروس كتاب البرسام نقله ابن البطريق، وغير هذه مما لم يعرف ناقلوها. (ج) كتب الرياضيات والنجوم وسائر العلوم
ويشتمل النظر في ذلك على علم النجوم والهندسة والحساب والموسيقى والميكانيكيات، وهاك خلاصة الكلام فيها: (1)
كتب أقليدس، منها: أصول الهندسة نقله الحجاج بن مطر نقلين؛ الهاروني والمأموني، ونقله إسحاق بن حنين وأصلحه ثابت بن قرة، ونقله أبو عثمان الدمشقي. ولا يزال هذا الكتاب باقيا إلى الآن. ومن كتب أقليدس التي لم يعرف مترجموها: كتاب الظاهرات، وكتاب اختلاف المناظر، وكتاب الموسيقى، وكتاب القسمة، وكتاب القانون، وكتاب الثقل والخفة. (2)
كتب أرخميدس، وهي عشرة ولم يعرف ناقلوها. (3)
أبلونيوس، صاحب كتاب المخروطات، وكتاب قطع السطوح، وقطع الخطوط، والنسبة المحدودة، والدوائر المماسة، ولم يعرف ناقلوها. (4)
منالاوس، له كتاب الأشكال الكروية، وكتاب أصول الهندسة، نقله إلى العربي ثابت بن قرة. (5)
بطليموس القلوذي، صاحب كتاب المجسطي الشهير، وقد تقدم خبر نقله وتفسيره على يد يحيى البرمكي، ولبطليموس أيضا كتاب الأربعة، نقله إبراهيم بن الصلت وأصلحه حنين، وكتاب جغرافيا المعمور وصفة الأرض، نقله ثابت إلى العربي نقلا جيدا، ولبطليموس 15 كتابا آخر في الجغرافيا وغيرها لم يعرف ناقلوها. (6)
أبرخس، له كتاب صناعة الجبر ويعرف بالحدود، وكتاب قسمة الأعداد لم يعرف ناقلهما. (7)
ذيوفنطس، له كتاب صناعة الجبر لم يعرف ناقله.
وهناك كتب عديدة في الرياضيات والهيئة والأزياج ونحوها ذكرها ابن النديم ولم يذكر ناقليها، منها: كتاب العمل بالأسطرلاب المسطح لأبيون البطريق، وكتاب جرم الشمس والقمر لأرسطرخس، وكتاب العمل بذات الحلق، وكتاب جداول زيج بطليموس المعروف بالقانون المسير، وكتاب العمل بالأسطرلاب، وكلها لثاون الإسكندري.
أضف إلى ذلك كتب الرياضة التي تقدم ذكرها أثناء ذكر كتب الفلسفة رغبة في إيرادها لأصحابها مع سائر مؤلفاتهم، وقد نقل للمسلمين من كتب الموسيقى عن اليونانية كتاب الموسيقى الكبير لنيقوماخس الجهراسيني، وكتاب الموسيقى المنسوب لأقليدس، وقد تقدم ذكره، ومقالات في الموسيقى لفيثاغورس وغيره، وكتاب الريموس، وكتاب الإيقاع لأرسطكاس، وكتاب الآلات المصونة المسماة بالأرغن البوقي، والأرغن الزمري لمورطس.
ونقل لهم من كتب الميكانيكيات غير ما جاء في كتب أرخميدس كتاب الحيل الروحانية، وكتاب رفع الأثقال لأيرن، وكتاب استخراج المياه لبادروغوغيا، وكتاب الآلات المصونة على ستين ميلا لمورطس.
ثانيا: الكتب المنقولة عن الفارسية
أكثر الكتب المنقولة عن الفارسية في النهضة العباسية من قبيل الآداب والأخبار والسير والأشعار وبعضها في النجوم مما نقله آل نوبخت وعلي بن زياد التميمي وغيرهم، أما ما بقي من كتبهم المنقولة إلى العربية فهي مع أسماء ناقليها. (1)
كتاب رستم وأسفنديار: جبلة بن سالم. (2)
كتاب بهرام شوس: جبلة بن سالم. (3)
كتاب خداينامه في السير: عبد الله بن المقفع. (4)
كتاب آيين نامه: عبد الله بن المقفع. (5)
كتاب كليلة ودمنة: عبد الله بن المقفع. (6)
كتاب مزدك: عبد الله بن المقفع. (7)
كتاب التاج في سيرة أنوشروان: عبد الله بن المقفع. (8)
كتاب الأدب الكبير: عبد الله بن المقفع. (9)
كتاب الأدب الصغير: عبد الله بن المقفع. (10)
كتاب اليتيمة: عبد الله بن المقفع. (11)
كتاب هزار أفسانه: لم يذكر ناقله. (12)
كتاب شهريزاد مع أبرويز: لم يذكر ناقله. (13)
كتاب الكارنامج أنوشروان: لم يذكر ناقله. (14)
كتاب دارا والصنم الذهب: لم يذكر ناقله. (15)
كتاب بهرام ونرسي: لم يذكر ناقله. (16)
كتاب هزاردستان: لم يذكر ناقله. (17)
كتاب الدب والثعلب: لم يذكر ناقله. (18)
سير ملوك الفرس: وهي غير كتاب، ترجم أحدهما محمد بن جهم البرمكي، وآخر ترجمه زادويه بن شاهويه الأصفهاني، وآخر محمد بن بهرام بن مطيار الأصفهاني.
ومما يجب ذكره من مترجمات الفرس وإن كان من مؤلفاتهم بعد نشوء التمدن الإسلامي: كتاب «شاهنامه» التي نظمها الفردوسي للسلطان محمود الغزنوي سنة 384ه في نحو 60000 بيت على نسق إلياذة هوميروس، وقد تضمنت تاريخ الفرس القديم، نقلها إلى العربية الفتح بن علي البنداري الأصبهاني نثرا للملك المعظم عيسى الأيوبي، أتم ترجمتها سنة 697ه، ولا ريب أن العرب نقلوا من اللغة الفارسية كتبا أخرى تاريخية وأدبية وخصوصا ما يتعلق بالمذاهب القديمة ونحوها.
ثالثا: الكتب المنقولة عن اللغة الهندية
نقل العرب عن اللغة الهندية (السنسكريتية) كثيرا من كتب الطب والنجوم والرياضيات والحساب والأسمار والتواريخ، والكتب الطبية المنقولة عنها كثيرة وإن لم يصل إلينا من أخبارها إلا القليل؛ لأن بغداد كانت في إبان الزهو العباسي كعبة العلماء والأطباء والنجار والسياح من كل الملل، وكان للبرامكة عناية باستقدام أطباء الهند إليها، وقد بعث يحيى بن خالد فاستقدم بضعة صالحة، منهم: «كنكه» و«بازيكر» و«قليرفل» و«سندباز» وغيرهم.
ويظهر مما كتبه المسلمون بعد العصر العباسي في الأدب أو الطب أو الصيدلة أو السير أنهم اعتمدوا في جملة مصادرهم على كتب هندية الأصل، فإنك إذا راجعت مثلا قانون ابن سينا، أو الملكي للرازي، أو غيرهما من كتب الطب الكبرى، رأيتهم يذكرون بعض الأمراض ويشيرون إلى أن الهنود يسمونها مثلا كذا وكذا، أو يعالجونها بكذا وكذا، وإذا قرأت العقد الفريد لابن عبد ربه، أو سراج الملوك للطرطوشي، أو غيرهما من كتب الأدب المهمة رأيت مؤلفيها إذا ذكروا بعض الآداب أو الأخلاق أو نحوها قالوا: «وفي كتاب الهند كذا وكذا.»
كتب الطب وفروعها
على أننا نعلم ما كتبه صاحب طبقات الأطباء أنه اشتهر حوالي العصر العباسي جماعة من علماء الهند في الطب والنجوم والفلسفة وغيرها، منهم كنكه الهندي، وهو من متقدميهم وأكابرهم، وخصوصا في علم النجوم فضلا عن الطب، وله مؤلفاته كثيرة منها: كتاب النموذار في الأعمار، وكتاب أسرار المواليد، وكتاب القرانات الكبير والصغير، وكتاب في الطب يجري مجرى الكناش، وكتاب في التوهم، وكتاب في إحداث العالم والدور في القرآن. ومنهم أيضا صنجهل وباكهر وغيرهما.
وقد نقل كثير من مؤلفاتهم في النجوم والطب إلى اللغة العربية إما رأسا أو بوساطة اللغة الفارسية، بأن ينقل الكتاب من الهندي إلى الفارسي، ثم ينقل من الفارسي إلى العربي، منها كتاب سيرك الهندي، وقد نقله من الفارسي إلى العربي عبد الله بن علي، وكتاب آخر في علامات الأدواء ومعرفة علاجها، أمر يحيى بن خالد البرمكي بنقله، وكتاب فيما اختلف فيه الروم والهند في الحار والبارد، وقوى الأدوية، وكتب أخرى في فروع الطب.
ومن مشهوريهم منكه الهندي المتقدم ذكره بين المترجمين، وقد أتى بغداد بإشارة يحيى بن خالد لمعالجة الرشيد فشفاه، فأجرى عليه الرشيد رزقا واسعا، وكان منكه يعرف الفارسية أيضا، فكان ينقل من الهندي إلى الفارسي، وله حديث طويل ذكره صاحب طبقات الأطباء، ومنهم صالح بن بهلة الهندي، جاء العراق في أيام الرشيد أيضا، ونال شهرة واسعة وخالط أطباءها يومئذ واختلطوا به، فإن لم يكونوا نقلوا شيئا من كتبه فلا بد أن يكونوا قد اقتبسوا شيئا من آراء الهند فيه.
ومن مشهوريهم أيضا شاناق، وله كتاب في السموم خمس مقالات، نقله من اللسان الهندي إلى الفارسي منكه الهندي، وأوعز يحيى بن خالد إلى رجل يعرف بأبي حاتم البلخي بنقله إلى العربي، ثم نقل للمأمون على يد العباس بن سعيد الجوهري مولاه، ولجودر الحكيم كتاب في المواليد نقل إلى العربي أيضا.
ومن الكتب الطبية التي نقلت من الهندية إلى لسان العرب في العصر العباسي غير ما تقدم ذكره: (1)
كتاب سسرد في الطب نقله منكه. (2)
كتاب أسماء عقاقير الهند نقله منكه لإسحق بن سليمان. (3)
كتاب إستانكر الجامع نقله ابن دهن. (4)
كتاب صفوة النجح ابن دهن. (5)
كتاب مختصر الهند في العقاقير لم يذكر ناقله. (6)
كتاب علاجات الحبالى للهند لم يذكر ناقله. (7)
كتاب كتاب روسا الهندية في علاجات النساء لم يذكر ناقله. (8)
كتاب السكر للهند لم يذكر ناقله. (9)
كتاب التوهم في الأمراض والعلل لم يذكر ناقله. (10)
كتاب رأي الهند في أجناس الحيات وسمومها لم يذكر ناقله.
كتب النجوم والرياضيات
أما الرياضيات والكواكب فللهند شأن كبير فيها، وقد ذكرنا خبر السند هند فيما تقدم، وكان لنقل هذا الزيج تأثير في علم النجوم عند العرب، وقد قلدوه وألفوا على مذهبه. فممن ألف على هذا المذهب محمد بن إبراهيم الفزاري، وحبش بن عبد الله البغدادي، ومحمد بن موسى الخوارزمي وغيرهم. والفزاري أول من عمل إسطرلابا في الإسلام، وما من فلكي من فلكيي المسلمين أراد التوسع في علم النجوم إلا طالع كتبهم، إما في اللغة الهندية أو في ترجمتها إلى العربية، وأكثر المسلمين عناية في ذلك واطلاعا على آداب الهند وعلومهم أبو ريحان البيروني المتوفى سنة 440ه، فإنه طاف بلاد الهند واطلع على علومهم وآدابهم، ثم ألف كتابه «الآثار الباقية عن القرون الخالية»، وله من المؤلفات ما يعد بالعشرات، ومنها كثير في علوم الهند إما ترجمة أو تصحيحا أو نقدا.
ومما ذكره من كتبه التي ألفها في هذا الصدد قوله: وعملت في السند هند كتابا سميته «جوامع الموجود لخواطر الهنود في حساب التنجيم» جاء ما تم منه 550 ورقة، وهذبت زيج الأركند وجعلته بألفاظي؛ إذ كانت الترجمة الموجودة منه غير مفهومة وألفاظ الهند فيها متروكة لحالها، وعملت كتابا في المدارين المتحدين والمتساويين، وسميته بخيال الكسوفين عند الهند، وهو معنى مشتهر فيما بينهم لا يخلو منه زيج من أزياجهم، وليس بمعلوم عند أصحابنا، وعملت تذكرة في الحساب والعد بأرقام السند والهند في 30 ورقة، وكيفية رسوم الهند في تعلم الحساب، وتذكرة في أن رأي العرب في مراتب العدد أصوب من رأي الهند فيها، وفي راسكيات الهند وترجمة ما في إبرهم سدهاند من طرق الحساب، ومقالة في تحصيل الآن من الزمان عند الهند، ومقالة في الجوابات على المسائل الواردة من منجمي الهند، ومقالة في حكاية طريقة الهند في استخراج العمر، وترجمة كلب باره ، وهي مقالة للهند في الأمراض التي تجري مجرى العفونة وغير ذلك.
فيؤخذ من هذا أن الهنود أهل علم ورأي في النجوم وعلومها، وأن المسلمين نقلوا عنهم شيئا كثيرا.
كتب الأدب
وأما ما نقل إلى العربية فمنها: كتب الهند في الأدب والتاريخ والمنطق والأسمار والخرافات: (1)
كتاب كليلة ودمنة، وقد نقل عن طريق الفارسية كما تقدم، وبعد نقله إلى العربية نظموه شعرا كما نظمه الفرس من قبلهم، وممن نظمه في العربية أبان بن عبد الحميد بن لاحق بن عفير الرقاشي، وعلي بن داود. (2)
كتاب سندباد الكبير. (3)
كتاب سندباد الصغير. (4)
كتاب البد. (5)
كتاب يوذاسف. (6)
يوذاسف مفرد. (7)
كتاب أدب الهند والصين. (8)
كتاب هابل في الحكمة. (9)
كتاب الهند في قصة هبوط آدم. (10)
كتاب طرق. (11)
كتاب دبك الهندي في الرجل والمرأة. (12)
كتاب حدود منطق الهند. (13)
كتاب ساديرم. (14)
كتاب ملك الهند القتال والسباح. (15)
كتاب بيدبا في الحكمة.
ومما نقله العرب عن الهنود كتاب في الموسيقى اسمه في الهندية «بيافر» ومعناه ثمار الحكمة، وفيه أصول الألحان وجوامع تأليف النغم.
رابعا: الكتب المنقولة عن النبطية
قد رأيت فيما تقدم كتبا كثيرة فلسفية وطبية نقلت من اليوناني إلى العربي بوساطة اللغة السريانية أخت النبطية، أو هي عينها، فلا نتعرض لذكرها، وإنما نريد هنا الكتب التي كانت مكتوبة في اللغة الكلدانية أو النبطية، ونقلت إلى العربي رأسا، ولولا نقلها لضاعت، وأهم تلك الكتب: (1)
كتاب الفلاحة النبطية، فإنه فريد في بابه، وقد نقله إلى العربية أحمد بن علي بن المختار النبطي المعروف بابن وحشية سنة 291ه، وظل معتمد أهل الزراعة إلى أمد غير بعيد، وقد نقل إلى اللغات الإفرنجية، ولولا نقله إلى العربية لضاع وخسره العالم كما يؤخذ من مطالعة مقدمته، فقد قال ابن وحشية وهو يملي الكتاب على علي بن محمد بن الزيات سنة 318ه: «اعلم يا بني أني وجدت هذا الكتاب في كتب الكسدانيين «الكلدان أو النبط» يترجم معناه في العربية كتاب فلاحة الأرض وإصلاح الزرع والشجر والثمار ودفع الآفات عنها، وكان هؤلاء الكسدانيون أشد غيرة عليها، لئلا يظهر هذا الكتاب، فكانوا يخفونه بجهدهم، وكان الله عز وجل قد رزقني المعرفة بلغتهم ولسانهم، فوصلت إلى ما أردت من الكتب بهذا الوجه، وكان هذا الكتاب عند رجل متميز، فأخفى عني علمه، فلما اطلعت عليه لمته في إخفاء الكتاب عني، وقلت له: إنك إن أخفيت هذا العلم دثر ومضى ولا يبقى لأسلافك ذكر، وما يصنع الإنسان بكتب لا يقرؤها ولا يدع من يقرؤها، فهي عنده بمنزلة الحجارة والمدر، فصدقني في ذلك وأخرج إلي الكتب، فجعلت أنقل كتابا بعد كتاب، فكان أول كتاب نقلته كتاب دواناي البابلي في معرفة أسرار الفلك والأحكام على حوادث النجوم، وهو كتاب عظيم المحل، ونقلت كتاب الفلاحة هذا بتمامه.» إلخ ... (2)
كتاب طرد الشياطين ويعرف بالأسرار. (3)
كتاب السحر الكبير. (4)
كتاب السحر الصغير. (5)
كتاب دوار على مذهب النبط. (6)
كتاب مذاهب الكلدانيين في الأصنام. (7)
كتاب الإشارة في السحر. (8)
كتاب أسرار الكواكب. (9)
كتاب الفلاحة الصغير. (10)
كتاب في الطلسمات. (11)
كتاب الحياة والموت في علاج الأمراض. (12)
كتاب الأصنام. (13)
كتاب القرابين. (14)
كتاب الطبيعة. (15)
كتاب الأسماء.
وأكثرها من نقل ابن وحشية غير ما لا بد من نقله من كتب الدين وأخبار الكلدان القدماء.
خامسا: الكتب المنقولة عن العبرانية واللاتينية والقبطية
لا ريب أن كثيرا من تعاليم اليهود وآدابهم المدونة في التلمود وغيره من كتبهم قد نقل إلى العربية، وإن كنا لا نرى شيئا منها مدونا على أنه مترجم؛ لأنهم كانوا ينقلونها شفاها للصحابة وغيرهم على ما تقدم، وربما دونوا منها شيئا وضاع، وأما ما وصل إلينا خبره من المنقول عن العبرانية، فترجمة أسفار التوراة، نقلها سعيد الفيومي المتوفى سنة 330ه، وهو أقدم من نقل التوراة إلى العربية مما وصل إلينا خبره، وله أيضا شروح وتفاسير عليها .
ولا يبعد أن يكون قد نقل إلى العربية بعض الكتب عن اللاتينية؛ لأنها كانت تحوي كثيرا من العلوم الفلسفية والتاريخية والشرعية وغيرها، وربما فات نقلة الأخبار ذكر ما نقل عنها، وقد رأينا في جملة المترجمين يحيى بن البطريق لا يعرف غير اللغة اللاتينية، وأنه ترجم عدة كتب، فالظاهر أنه ترجمها عن اللاتينية.
وأما القبطية فإذا لم ينقل العرب عنها رأسا، فلا نشك في أنهم نقلوا كثيرا من علوم المصريين بوساطة اللغة اليونانية، وخصوصا صناعة الكيمياء القديمة وغيرها مما برع فيه المصريون، وأما الكيمياء فقد نقلت عن القبطي واليوناني معا بأمر خالد بن يزيد. (4) آثار النهضة المأمونية
هذه هي بعض كتب العصر، وكانت لها آثارها ونتائجها في العقلية العربية أولا، وفي المدينة العربية ثانيا، حتى أصبحنا نرى المأمون يضرب به المثل في عظم الحركة العلمية، وحتى نرى «نولدكا» ومحرري دائرة المعارف البريطانية وغيرهم يمثلون المأمون بأنوشروان وغيره من خدمة الإنسانية ورسل الثقافة العامة.
والحق أن المأمون وعصر المأمون كانا متقدمين عن زمنهما، إذ كانت حالة المأمون وحالة المملكة المأمونية في ذلك الحين أرقى بمراحل من حالة ملوك أوروبا وممالك أوروبا.
ويقول الدكتور «طوطح» في رسالته الإنجليزية عن حالة التعليم عند العرب: «إنه بينما كان شارلمان يتعلم القراءة مكبا على مطالعة رسائله مع أترابه في مدرسة القصر كان المأمون يعالج الفلسفة ومناقشة أقضيتها هناك في بغداد»، ويقول في مكان آخر من رسالته القيمة: «إن المأمون أوفد عميد بيت الحكمة إلى بلاد اليونان لنقل حكمة اليونان وعلوم اليونان إلى اللغة العربية.» وهناك أقوال كثيرة عن آثار النهضة المأمونية، وهي لا تخرج عما قدمناه لك من رأي السير وليام ميور عن ازدهار العلوم والمعارف في عصر المأمون، فنكتفي بما قدمناه عن التبسط في القول في هذه الناحية الهامة حقا.
على أن لهذه النهضة المأمونية آثارها ونتائجها أيضا في زيادة الثروة اللفظية في اللغة العربية، وقد بينا لك طرفا منه في كلمتنا عن حالتها في الصدر العباسي، فلا حاجة إذن بنا إلى تكراره هنا، وقصارى ما نقوله أنا نحيلك إلى بعض المصادر القيمة فيما نحن في صدده من بيان تأثر اللغة بهذه النهضة التي تشبه في كل وجوهها حركة التجديد «رينساينس» في أوروبا، وهي: كتاب خطي منسوب للجاحظ عن الألفاظ الفارسية في اللغة العربية، وبحوث العلامة أنستانس الكرملي البغدادي في السنة الأولى من المشرق عن الكلم اليونانية في اللغة العربية، كما أحيلك إلى بحوث «مجلة المجمع العلمي» في شأن تفسير الألفاظ العباسية الواردة في كتاب «نشوار المحاضرة».
أما فن التاريخ والجغرافيا فلم تبدأ العناية الجدية بهما إلا منذ أيام اليعقوبي وابن خرداذيه
2
في نهاية القرن الثاني.
وأما العلوم القرآنية وما تفرع عنها فقد سبق أن أشرنا إليها في بابها من العصر العباسي، ويظهر أن عناية المأمون بها لم تكن مثل عنايته بالفلسفة اليونانية وما إليها، اللهم إذا كانت موجهة إلى الناحية الاعتزالية الكلامية.
وقد آن لنا الآن أن نتكلم عن القول بخلق القرآن لاتصاله وكبير أثره في الحياة العلمية والعقلية في عصر المأمون. (5) القول بخلق القرآن
يقول ابن الأثير في تاريخه عن هشام بن عبد الملك: إن الجعد بن درهم قد أظهر مقالته بخلق القرآن أيام هشام، فأخذه وأرسله إلى خالد القسري، وهو أمير العراق، وأمره بقتله، فحبسه خالد ولم يقتله، فبلغ الخبر هشاما، فكتب إلى خالد يلومه ويعزم عليه أن يقتله، فأخرجه خالد من الحبس في وثاقه، فلما صلى العيد يوم الأضحى قال في آخر خطبته: انصرفوا وضحوا يقبل الله منكم، فإني أريد أن أضحي اليوم بالجعد بن درهم، فإنه يقول: ما كلم الله موسى، ولا اتخذ إبراهيم خليلا، تعالى الله عما يقول الجعد علوا كبيرا، ثم نزل وذبحه.
ويقول ابن الأثير في حياة مروان بن محمد: إن سبب تسميته بالجعدي ذهابه مذهب الجعد بن درهم في القول بخلق القرآن، والقدر وغير ذلك.
ومن هذا تعلم أن القول بخلق القرآن بدعة نبتت في العصر الأموي، ثم لم تجد الجو الذي تنمو فيه وترعرع حتى كان عصر المأمون، فوجدت من شخصيته العالمة، ومن نفوذه العظيم ونفوذ علمائه خير متعهد لنمائها، حريص على نصرتها، شديد اليد بالبطش على مخالفيها.
ولعلك تتساءل لم وجد القول بخلق القرآن من المأمون الصدر الرحب والعامل على نصرته؟ وهل كان موفقا فيما أخذه على عاتقه أو قد اشتد به الغلو في تأييد وجهة نظره حتى خرج به عن القصد؟
ونحن قبل أن نجيبك عن هذه الأسئلة وقبل أن نعرض للموضوع من وجهاته المختلفة، نريد أن ننقل لك كلمة للأستاذ «ميور» في هذا الصدد، وهي وإن لم تكن تتفق مع وجهة نظرنا في هذا المبحث، تبين لنا وجهة نظر متشرق بحاثة كبير فيما نحن بصدده.
يقول الأستاذ «ميور» في الفصل الذي عقده عن المأمون في كتابه الممتع «الخلافة»: «وفي الحق أن المأمون كان متعصبا لفارس مسقط رأس أمه وزوجه، شديد الميل إلى العلويين، ونشأ عن ذلك في السنوات الأخيرة من حكمه مزيج من حرية الأفكار والتعصب، وكان المأمون في بعض هذه المسائل واسع الحرية حقا لدرجة مدهشة، وقد ألغى من بضع سنوات مضت الأمر الذي كان أسلافه في أصدروه يحرمون فيه ذكر معاوية أو أحد الأمويين بخير، وأباح للمسيحيين حرية المناقشة في أي الدينين أفضل: الإسلام أم المسيحية، غير أن ميوله الفارسية التي كان يجنح إليها دائما دفعته أخيرا أن يتناقش بحماسة في نظريات المعتزلة الذين أباحوا حرية التفكير، ثم أحاط المأمون نفسه بالفقهاء وعلماء الدين من كل فئة، وأباح لهم المناقشة في حضرته في نظريات كان البحث ممنوعا فيها؛ كعلاقة الإنسان بخالقه، وطبيعة الألوهية وغير ذلك، وأخيرا أعلن تحوله إلى عقائد تخالف تعاليم الدين الصحيحة، فمن ذلك أنه كان يعتقد بمذهب الذين يقولون بالاختيار لا بالجبر، وأن القرآن وإن كان وحيا إلا أنه مخلوق، بدلا من العقيدة
3
التي كانت لا تنازع؛ وهي أن القرآن أزلي غير مخلوق، وأعلن المأمون أيضا أن عليا أشرف الخلق بعد النبي، وعلى هذه النظرية بنيت نظرية الإمامة المقدسة أو الزعامة الدينية التي كانت تنتقل من عضو إلى آخر من بيت علي، وبدأ في تلقين الناس أنه يوجد مصادر أخرى غير القرآن والحديث يمكن الاسترشاد بها في مسائل الدين، وفسر القرآن تفسيرا من غير تقييد بلفظه، وبذلك ذللت صعوبات كثيرة كانت تعترض حرية التفكير أو تقف عثرة في تقدم العمران؛ كإباحة شرب الخمر «كذا!» وزواج المتعة.
4
وعلى ممر السنين تحولت فكرة المأمون في خلق القرآن من مجرد رأي إلى إعلانه المشئوم الذي حمل فيه رعاياه بالاضطهاد والعقوبات على اتخاذه عقيدة لهم.
وقد أرسل إلى والي بغداد وهو في حملته الأخيرة على الروم أمرا بأن يجمع كبار العلماء والفقهاء ويمتحنهم في هذه المسألة الخطيرة، ويرسل إليه إجابتهم، وقد تأثر كثير من العلماء في مجلس المناظرة الذي كان أشبه بمحكمة التفتيش، حتى أظهروا القول بخلق القرآن، إلا أن البعض بقي ثابتا على عقيدته بأن القرآن غير مخلوق؛ كأحمد بن حنبل صاحب المذهب الحنبلي الذي حملوه مكبلا بالحديد إلى معسكر الخليفة.
ولقد ذكر التاريخ أن اثنين من هؤلاء المخالفين هددا بالقتل، وأرسل عشرون منهم تحت خفارة حراس لينتظروا في «طرسوس» عودة الخليفة من حروبه، ولكن جاءتهم الأنباء في أثناء سيرهم في الطريق بموت المأمون. ولقد سودت أمثال هذه الفظائع سمعة المأمون في سنوات كثيرة.» ا.ه.
ذلك هو رأي المتشرق «ميور»، ولنرجع الآن إلى معالجة الإجابة عما تساءلت عنه فنقول: إنك جد عالم بأن المأمون كان تلميذا ليحيى بن المبارك الزيدي المتهم بالاعتزال، جد عالم بصلته بثمامة بن أشرس، زعيم المذهب الثمامي في الاعتزال وإعجابه به، حتى عرض عليه الوزارة مرتين، كما أسلفنا لك القول في باب الوزارة، جد عالم بأن المأمون كان يعقد مجالس للكلام في مختلف البحوث، وكان من نتائج هذه المجالس أن قرب إليه كل متكلم حاذق أو مفكر بصير بمداخل القول ومخارجه؛ مثال أبي الهذيل العلاف، وإبراهيم بن سيار وغيرهم، وأنت جد عالم بأن ثمامة والعلاف وإبراهيم كانوا من مشيخة الاعتزال، أنت جد عالم بهذا كله، فلا غرو أن حبب هؤلاء القوم إلى المأمون مذهبهم، ولا غرو أن كانت مهمتهم ميسورة معبدة؛ لأنهم وجدوا من المأمون ذلك التلميذ المتأثر بمذهب أستاذه ابن المبارك.
كل هذه العوامل كانت في الواقع ناحية واحدة، ولها أثرها القوي في تنمية النزعة الاعتزالية في نفس المأمون، بيد أن هنالك ناحية قوية أخرى لها أثرها القوي أيضا، تلك الناحية هي حركة النقل والترجمة، تلك الحركة التي حببت إلى المأمون الفلسفة وما إلى الفلسفة، ووجهت عنايته إلى المنطق وما إلى المنطق، وبعثت في نفسه حب أرسططاليس، حتى أصبح موضع تفكيره في يقظته ونومه. وصفوة القول أن الناحية الثانية لم تكن لتقل عن الأولى أثرا، فقد هيأت منه ذلك التسامح الذي يتبع ما توحي به سلسلة أفكاره.
وسترى في أخذه بالقول بخلق القرآن إلى أي مدى دفعت به حرية التفكير حتى وصلت به إلى ما يناقض حرية التفكير؛ لأنه ليس من حرية التفكير في شيء تلك الطريقة الشاذة في إلزام العلماء وجلة الفقهاء الأخذ بمذهبه، وليس من حرية التفكير في شيء تلك النتائج السيئة التي انتهت إليها مأساة القول بخلق القرآن في أيام المعتصم وأيام غير المعتصم.
وقد أثبتنا لك في باب المنثور في الكتاب الثالث من مجلدنا الثالث مثلا مما كتبه المأمون إلى ولاته في الأخذ بمذهبه في القول بخلق القرآن، وهو كتابه إلى إسحاق بن إبراهيم، كما أثبتنا لك ما رواه لنا الطبري مما حصل وقتئذ، فراجعهما ثمة.
هوامش
الفصل التاسع
الحياة الأدبية في عصر المأمون
(1) توطئة
لكتاب الخلافة «للسير وليام ميور» مكانة رفيعة في التاريخ العربي، ولا سيما عصرنا المأموني، بناحيتيه العلمية والأدبية؛ ذلك لأن الرجل إلى جانب دراسته الدقيقة لمؤلفات العرب وكتابات العرب وبحوث المؤرخين العرب، لم يترك مصدرا من مصادر المتشرقين أمثال: «نولدكه» و«كريمر» و«هرزلد» و«أمرز» و«بربياد» و«مينارد» و«چوچ»، وغيرهم من عشرات المؤرخين إلا وقد استوعبه واستقصى البحث فيه، كذلك لم يترك مصدرا من مصادر التاريخ الفارسي، وهو كما نعلم شديد الصلة بعصرنا المأموني، من غير أن يدرسه حق دراسته ويفهمه حق فهمه، فطالع فيما طالعه في ذلك الباب آثار «ماكولم» و «فرازر » و«برون» و«سيكس» و«جوجينس» وغيرهم.
من أجل هذا، ومن أخذ ذلك المؤرخ البحاثة بالدقة في كل ما تصدر له جاءت جل بحوثه أفضل من سواه، وأرفع مكانة من غيره، ونحن نستبيح لأنفسنا أن ننقل إليك ما ذكره في هذا الباب، قال: «كان حكم المأمون مجيدا عادلا، وكان عصره مزدهرا بأنواع العلوم والفنون والفلسفة، وكان أديبا مولعا بالشعر متمكنا منه، ولقد حدث مرة أن شاعرا كان ينشد بين يديه قصيدة من مائة بيت، فكان الشاعر كلما أنشد شطر بيت بادره المأمون بشطره الآخر، حتى دهش الشاعر وحار في سرعة بديهته. وكان مجلسه حافلا بالعلماء والأدباء والشعراء والفلاسفة؛ إذ كان يقربهم إليه، ويجزل لهم العطاء، وكما كان عصره عامرا بالعلماء والأدباء والنحاة؛ فإنه كان كذلك حافلا بجماعة المحدثين والمؤرخين والفقهاء؛ كالبخاري والواقدي الذي نحن مدينون له بأوثق السير عن حياة النبي، والشافعي
1
وابن حنبل. وكان المأمون يجل علماء اليهود والنصارى ويحتفي بهم في مجلسه، لا لعلمهم فحسب بل لثقافتهم في لغة العرب وحذقهم في معرفة لغة اليونان وآدابها. ولقد أخرجوا من أديرة سوريا وآسيا الصغرى وسواحل الشام وفلسطين كتبا خطية في الفلسفة والتاريخ وعلم الهندسة لعلماء اليونان وفلاسفتهم، ثم ترجموها إلى العربية بدقة وعناية عظيمة، وبهذه الوسيلة انتقلت علوم الغرب إلى العالم الإسلامي، ولم تقتصر جهود هؤلاء الجهابذة على نقل هذه الكتب القديمة إلى اللغة العربية، بل توسعوا وأضافوا إليها ما اكتسبوه من مباحثهم واطلاعهم، وأقاموا مرصدا في «سهل تدمر» مجهزا بجميع الآلات التي تمكنهم من النجاح في دراسة علمي الفلك والهندسة والتوسع فيهما، وقد صنفوا كتبا في الرحلات والتاريخ ولا سيما كتب الطب، وعنوا عناية كبيرة ببعض علوم تافهة، إلا أنها كانت أكثر ذيوعا وانتشارا كالتنجيم والكيمياء، وكان لمجهود هؤلاء العلماء الأثر الأكبر في نهضة أوروبا التي كانت غارقة في بحار الجهالة في العصور الوسطى؛ حيث أيقظتهم من غفلتهم، وأنارت لهم سبل علومهم التي كانوا أغفلوها، وهي علوم اليونان وفلسفتها.» ا.ه.
ويقول الأستاذ البحاثة «كرد علي» في بحث طريف له: إن عصر المأمون قد ازدان بكثير من حملة الشريعة والأدب، منهم: يحيى بن أكثم، وأبو محمد اليزيدي، والحسن بن زياد، وأبو داود الطيالسي، وأبو عبيد القاسم بن سلام، وابن الأعرابي، والنضر بن شميل، وأبو عمرو الشيباني، ومحمد بن عمر الواقدي، وأبو عبيدة، والفراء، والأخفش، والأصمعي، والصغاني، والضبي، والشافعي، وابن سعد، وأبو داود، وابن أبي دواد، وابن حرب، وابن حنبل، والجاحظ، والقواريري، وقتيبة، وسعدويه الواسطي، وابن الجعد، وابن علية الأكبر، وأبو نصر التمار، وأبو معمر القطيعي، وأبو العوام البزاز، وابن شجاع، وبشر المريسي، وبشر بن الوليد، وسجادة، ومحمد بن نوح، وأبو هارون بن البكاء، والهذيل محمد بن الهذيل، وأبو زكريا المري، ومحمد بن مبشر، إلى مئات غيرهم كانوا فخر الدولة وعنوان نبوغ الأمة.
أما الشعراء والكتاب فكانوا طبقة عالية كثيرة العدد كالحصى، جيدة المنحى والأسلوب، تغلب الرقة والجزالة على أهل هاتين الصناعتين، تأثروا كلهم بالحضارة الجديدة حتى غدا الشعر المدني البديع ظاهر الاختلاف عن الشعر الجاهلي، بعيدا عن وصف الأطلال والدمن والركاب وطلب الثأر والمفاخرات الفارغة. هذا، وكان الجمهور يشارك الأدباء في فهم الشعر، وقدر الخطب والرسائل قدرها، فلم يكن الشعراء في واد والأمة في آخر، بل كان الشاعر أو الكاتب إذا قرض شعرا أو حبر خطابا تتناقله الأيدي في الحال، وتتعاوره الرواة فيفشو في الأمصار، وهذا ما كان يزيد في طلاوة أدب الأديب، وشعر الشاعر، وخطبة الخطيب، ويحثه على تجويد مقاله. ا.ه.
وبعد، فقد بينا في كلمتنا عن الحياة الأدبية في صدر العصر العباسي ما أخذت تتحول إليه الآداب العربية عامة في الألفاظ والأساليب والمعاني والأغراض، وبينا لك الأسباب التي كانت تبعث على هذا التحول، من شدة الامتزاج بين العناصر المختلفة التي خضعت لسلطان العرب بالغرب، وما استتبعه هذا الامتزاج من إضافة ثقافات ومدنيات جديدة إلى ما كان للعرب من ثقافة ومدنية، ومن اتساع السلطان وامتداد أطرافه، ومن تشجيع الخلفاء لأهل العلم، وإكرامهم لرجال الأدب، ومن انصراف همم أولي الفضل إلى التأليف والترجمة، ومن كثرة حاجات الناس وتنوعها، حتى اضطرت اللغة أمام هذه العوامل وغيرها، مما سبق أن بيناه لك، أن تنفرج جوانبها لتسع هذه الأغراض، ولتقوم بحاجات الناس طبقا لمقتضيات العصر وخضوعا لسنة التحول.
بينا لك كل هذا، وقد يكون من التعسف أن نعرض لتحول الآداب في أيام المأمون خاصة، فإنه إذا افترضنا أن الآداب تحولت تحولا خاصا في أيام المأمون، فقد يكون من العسير تبيين هذا التحول وتحديد مداه، ذلك بأن تحول الآداب بطيء، ولا يمكن تبيينه إلا بعد ظهور آثاره ظهورا لا سبيل إلى الشك فيه، بخلاف الحوادث السياسية، فإنك تستطيع أن تؤقت الحوادث السياسية بالسنة، بل بالشهر، بل باليوم، ولا تستطيع ذلك في الآداب إلا بعشرات السنين.
إذن رأينا في الآداب لعصر المأمون هو رأينا في الآداب لصدر العصر العباسي، وإنما الذي حدث أن السبيل التي سلكتها الآداب في صدر العصر العباسي قد بلغت غايتها في أيام المأمون، فعصر المأمون إذن هو الثمرة الناضجة لتغير الآداب في العصر العباسي، أو بعبارة أخرى: يعتبر عصر المأمون العصر الذي بلغت فيه الآداب العربية الذروة من الكمال المقدور لها.
وسبيلنا الآن أن نورد لك من آثار عصر المأمون ما يقوم لديك دليلا على هذه النتيجة، وقد أوردنا من هذه الآثار في المجلد الثالث ما فيه الكفاية. (2) المحادثة أو لغة التخاطب
بدأت لغة التخاطب تنحدر مدارجة عن الفصحى منذ الفتوح الإسلامية بسبب اتصال العرب بغير العرب ممن دان لسلطانهم، وانتظم في ملكهم.
ولقد لاحظنا أثناء مطالعتنا في الطبري وفي غير الطبري في الفترة المأمونية، أن بعض جند خراسان كانوا لا يفهمون العربية فيقولون مثلا: «پسر زبيدة» و«مكن» وغيرها من الألفاظ الفارسية التي أثبتها المؤرخون.
وقد يكون من الممتع حقا أن يخصص باحث ممن لهم اطلاع على لغات البلدان التي فتحها العرب كتابا لدراسة مبلغ تأثر اللغة العربية بلغات من خضع لسلطان العرب في الأرجاء المختلفة، وقصارى ما نقرره هنا أن اللغة العربية تأثرت حقا من أثر الفتوح، سواء أكانت فتوح سيف أم فتوح ثقافات وترجمات قد أضعفت من بلاغة اللسان، ومتانة اللفظ، بقدر ما أغنت من ثروة ذهنية عظيمة.
وإنك إذا ذكرت ما كتبناه في الفصل السادس وفي نظيره من كتابنا عن الصدر العباسي في شأن ما زيد في الألفاظ العربية، من ألفاظ العلوم المترجمة في ذلك العصر، وذكرت أن الموالي الفرس وغيرهم هم الذين قد عهد إليهم بالترجمة والنقل والتحرير، إذا ذكرت هذا إلى جانب ما قدمناه لك، فإنك تسوغ معنا ما نذهب إليه من القول بتأثر اللغة في ذلك العصر.
وفي هذا القدر الكفاية، ولنتدرج إلى ذكر كلمة عن الخطابة. (3) الخطابة
قلنا فيما سبق: إن عصر المأمون كان الثمرة الناضجة للآداب العربية في العصر العباسي، فهل كان الأمر كذلك في الخطابة أيضا؟
أنت تعلم أن قوة الشيء ترجع إلى قوة عوامله وأسبابه، ونحن نرى، معتمدين على ما لدينا من آثار خطابية لهذا العصر، أن أسباب الخطابة وعواملها كانت ضعيفة ضعفا نسبيا، ومن ثم لم تماش الخطابة سائر أنواع الآداب في سبيلها إلى الكمال المقدور لها، ولعل ذلك يرجع إلى ضيق مجالها وضعف الحاجة إليها، فبعد أن كنا نراها في العصر الأموي الوسيلة إلى قمع الفتن ورد البدع، ولسان الخليفة في رعيته، والقائد في جنده، والزعيم في أتباعه، وبعد أن كنا نرى حظها في عصر الانتقال وصدر العصر العباسي لا يقل عن حظها في العصر الأموي لحاجة الدعاية والزعماء إليها، أصبحنا نرى مجالها في عصر المأمون يضيق، حتى كادت تقصر على التهنئة والتعزية والخطب الدينية؛ كالجمعة والعيدين. وضيق مجالها يرجع إلى استغناء الخلفاء العباسيين وعمالهم وقوادهم عنها بالمنشورات العامة، حيث يتبسطون فيها ويضمنونها ما يريدون من أغراض، ثم تتلى على من يراد أن تتلى عليهم، ولعل ذلك لاصطباغ الخلافة العباسية بالصبغة الفارسية، ولاحتجاب الخلفاء عن مخالطة الجماهير، ولأن جل عمال بني العباس في ذلك العصر كانوا من الموالي، وهؤلاء وإن أوتوا حظا عظيما من بلاغة القول وحسن البيان، فقد كانت لا تزال بألسنتهم لوثة من العجمة تحول بينهم وبين ما تقتضيه الخطابة من اندفاع الألفاظ وتدفقها.
لعل لكل هذا أو بعضه أثرا ما في تضييق مجال الخطابة والاستغناء عنها بالرسائل والمنشورات العامة، ومهما يكن من شيء فقد ألقيت في عصر المأمون خطب قليلة القدر والقيمة، ننشر لك منها على سبيل المثال خطبتين: إحداهما للمأمون في عيد الفطر، والآخرى تهنئة بمقدم المأمون إلى بغداد.
خطبة المأمون
ألا وإن يومكم هذا يوم عيد وسنة وابتهال ورغبة، يوم ختم به الله صيام شهر رمضان، وافتتح به حج بيته الحرام، فجعله أول أيام شهور الحج، وجعله معقبا لمفروض صيامكم، ومتنفل قيامكم؛ فاطلبوا إلى الله حوائجكم، واستغفروه لتفريطكم؛ فإنه يقال: لا كثير مع ندم واستغفار، ولا قليل مع تماد وإصرار. اتقوا الله عباد الله، وبادروا الأمر الذي لم يحضر الشك فيه أحدا منكم، وهو الموت المكتوب عليكم؛ فإنه لا يستقال بعده عثرة، ولا يحظر قبله توبة، واعلموا أنه لا شيء بعده إلا فوقه، ولا يعين على جزعه وعلزه وكربه، وعلى القبر وظلمته، ووحشته وضيقه، وهول مطلعه، ومسألة ملكيه إلا العمل الصالح الذي أمر الله به، فمن زلت عند الموت قدمه، فقد ظهرت ندامته وفاتته استقالته، ودعا من الرجعة ما لا يجاب إليه، وبذل من الفدية ما لا يقبل منه، فالله الله عباد الله، كونوا قوما سألوا الرجعة فأعطوها إذ منعها الذين طلبوها، فإنه ليس يتمنى المتقدمون قبلكم إلا هذا الأجل المبسوط لكم، فاحذروا ما حذركم الله منه، واتقوا اليوم الذي يجمعكم الله فيه لوضع موازينكم، ونشر صحفكم الحافظة لأعمالكم، فلينظر عبد ما يضع في ميزانه مما يثقل به، ومما يملى في صحيفته الحافظة لما عليه، ولست أنهاكم عن الدنيا بأكثر مما نهتكم به الدنيا عن نفسها، فإن كل ما بها يحذر منها وينهى عنها، وكل ما فيها يدعو إلى غيرها، وأعظم ما رأته أعينكم من فجائعها وزوالها ذم الله لها والنهي عنها، فإنه يقول تبارك وتعالى:
فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور ، وقال:
أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد ، فانتفعوا بمعرفتكم بها وبإخبار الله عنها، واعلموا أن قوما من عباد الله أدركتهم عصمة الله فحذروا مصارعها، وجانبوا خدائعها، وآثروا طاعة الله فيها، وأدركوا الجنة بما يتركون منها.
خطبة التهنئة
قال ابن أبي طاهر: دخل المأمون بغداد فتلقاه وجوهها، فقال له رجل منهم: يا أمير المؤمنين، بارك الله لك في مقدمك، وزاد في نعمتك، وشكرك عن رعيتك، تقدمت من قبلك، وأتعبت من بعدك، وأيأست أن يعاين مثلك، أما فيما مضى فلا نعرفه، وأما فيما يبقى فلا نرجوه، فنحن جميعا ندعو لك ونثني عليك، خصب لنا جنابك، وعذب ثوابك، وحسنت نظرتك، وكرمت مقدرتك، جبرت الفقير، وفككت الأسير، والخير بفنائك، والشر بساحة أعدائك، والنصر منوط بلوائك، والخذلان مع ألوية حسادك، والبر فعلك، قد طحطح عدوك غضبك، وهزم مغايبهم مشهدك، وسار في الناس عدلك، وشسع بالنصر ذكرك، وسكن قوارع الأعداء ظفرك، الذهب عطاؤك، والدواة رمزك، والأوراق لحظك وأطرافك. (4) الكتابة
قلنا في كلمتنا عن الكتابة في صدر العصر العباسي: إن أسبابا كثيرة وقوية - ذكرناها هناك - دفعت الكتابة فتعددت أغراضها وتنوعت أساليبها، ومال الكتاب إلى السهولة في العبارة، والتأنق في اللفظ، والجودة في الرصف، وأطالوا في المقدمات، ونوعوا المبدأ والختام، والألقاب والدعاء، ومالوا إلى الغلو والمبالغة.
ثم قلنا بعد كلام: أما الإطناب في الكتابة فكان صفة غالبة في كل ما شمل بيعة أو عهدا أو احتجاجا، أو انتصارا أو تقريرا لمذهب، أو استهواء أو دفعا لشبهة، أو طلبا لنعمة ... إلخ، وقد أثبتنا لك جملة صالحة من آثار العصر المأموني مما يقوم حجة على ما ذهبنا إليه، ونحيلك إلى رسالة أبي الربيع محمد بن الليث إلى قسطنطين ملك الروم، وإلى رسالة يحيى بن زياد الحارثي في تقريظ أمير المؤمنين الرشيد، وقد أثبتناهما لك، نقلا عن النسخة الخطية من كتاب «المنظوم والمنثور» لابن طيفور، في باب المنثور في الكتاب الثاني من المجلد الثاني، كما أثبتنا لك في الكتاب الثالث من المجلد الثالث رسالة قيمة للمأمون تسمى «رسالة الخميس»، كان بعث بها إلى أهل خراسان كمنشور من الخليفة، ورسالة ممتعة لسهل بن هارون خازن بيت الحكمة في عهده، فراجع ذلك ثمة.
ولو قد ذهبنا نورد من آثار عصر المأمون الكتابية لعدونا القصد وأمللنا، فحسبنا ما أحلناك إلى مراجعته الآن، وهو فيه الكفاية لإثبات ما ذهبنا إليه، وقد أوردنا هذه الرسائل من غير أن نعرض لها بتحليل أو بيان، فهي في وضوحها ودلالتها على ما أردنا من إيرادها غير محتاجة إلى شيء. (5) مجالس المناظرة و«أبهاء» الأدب والغناء والمنادمة
أما مجالس المناظرة ومكانتها السامية في العصر المأموني، فقد وقفت على طرف عظيم منه في الفصول التي عقدناها لك عن المأمون وعلمه وأدبه ودينه وسياسته، فمن نافلة القول وتكراره أن ننقلها لك هنا، وقصارانا أن نقول: إن المناقشات الحادة بين سيبويه والكسائي في شأن مسألة نحوية، وبين الشعراء والأدباء في تفضيل شاعر على شاعر، وبين السنيين والمعتزلة في القول بخلق القرآن، وأبهاء الأدب عند الأمين والمأمون وأنصارهما، وأمراء العرب كأبي دلف وعبد الله بن طاهر وغيرهما، لتدل أوضح الدلالة على ما كان للمناظرة في هذا العصر من مكانة، حتى أصبحت من أهم مميزاته وكبريات آثاره.
وأما المنادمة والغناء، فقد سبق أن نقلنا لك ما رواه صاحب «التاج» عن حالة المنادمة في الصدر العباسي، وقد آن لنا أن نتم لك القول في حالتها في العصر المأموني، ونحيلك في الوقت نفسه إلى كتاب «حلبة الكميت»، و«الأغاني»، و«نهاية الأرب» وغيرها من كتب الأدب، فهي مترعة بأخبار الغناء والمنادمة، غنية بأخبار المنادمين والمغنين.
سئل إسحاق بن إبراهيم الموصلي عن رأيه في حال المنادمة في تلك الأيام، فقال عن الأمين: ما كان أعجب أمره كله، فأما تبذله فما كان يبالي أين قعد ومع من قعد، وكان لو كان بينه وبين ندمائه مائة حجاب خرقها كلها وألقاها عن وجهه، حتى يقعد حيث قعدوا، وكان من أعطى الخلق لذهب وفضة، وأنهبهم للأموال إذا طرب أو لها، وقد رأيته وقد أمر لبعض أهل بيته في ليلة بوقر زورق ذهبا فانصرف به، وأمر لي ذات ليلة بأربعين ألف دينار فحملت أمامي، ولقد غناه إبراهيم بن المهدي غناء لم أرتضه، فقام عن مجلسه فأكب عليه فقبل رأسه، فقام إبراهيم فقبل ما وطئت رجلاه من بساطه، فأمر له بمائتي ألف دينار، ولقد رأيته يوما وعلى رأسه بعض غلمانه فنظر إليه فقال: ويلك! ثيابك هذه تحتاج إلى أن تغسل، انطلق فخذ ثلاثين بدرة فاغسل بها ثيابك .
ولقد حدثني علويه الأعسر، وهو أبو الحسن علي بن عبد الله بن سيف عنه قال: لما أحيط به وبلغت حجارة المنجنيق بساطه كنا عنده، فغنته جارية له بغناء تركت فيه شيئا لم تجد حكايته، فصاح: يا زانية، تغنينني الخطأ! خذوها فحملت، وكان آخر العهد بها.
وسئل عن حال المنادمة عند المأمون فقال: أقام بعد قدومه عشرين شهرا لم يسمع حرفا من الغناء، ثم سمعه من وراء حجاب متشبها بالرشيد، فكان كذلك سبع حجج، ثم ظهر للندماء والمغنين، قال: وكان حين أحب السماع ظاهرا بعينه، أكبر ذاك أهل بيته وبنو أبيه.
ويقال: إنه سأل عن إسحاق بن إبراهيم الموصلي، فغمزه بعض من حضر وقالوا: ما يغادر تيها وبأوا، فأمسك عن ذكره، قال: فجاءه زرزر يوما فقال له: يا إسحاق، نحن اليوم عند أمير المؤمنين، فقال إسحاق: فغنه بهذا الشعر:
يا سرحة الماء قد سدت موارده
أما إليك طريق غير مسدود
لحائم حام حتى لا حراك به
محلأ عن سبيل الماء مطرود
فلما غناه به زرزر أطربه وبهجه، وحرك له جوارحه وقال: ويلك! من هذا؟ قال: عبدك المجفو المطرح يا سيدي؛ إسحاق، قال: يحضر الساعة، فجاءه رسوله وإسحاق مستعد قد علم أنه إن سمع الغناء من مجيد مؤد أنه سيبعث إليه، فجاءه الرسول، فحدثت أنه لما دخل عليه ودنا منه مد يده إليه ثم قال: ادن مني فأكب عليه، واحتضنه المأمون وأدناه، وأقبل عليه بوجهه مصغيا إليه مسرورا به.
وحسبنا هذا القدر، وإن أردت زيادة وإفاضة فإنا نحيلك إلى بعض أخبارها في الجزء السادس من كتاب بغداد مع ما ذكرناه لك من المراجع. (6) الشعر
أشرنا في كلمتنا عن حالة الشعر وفنونه في صدر العصر العباسي إلى ما أخذ يتحول هو إليه أيضا تبعا لمقتضيات العصر وظروف الزمان، ومسايرة للحياة الاجتماعية والاقتصادية، ولما جد على أحوال الناس ومعايشهم من الغنى والترف، وما يستلزمه الغنى والترف من الاستمتاع بألوان اللهو واللذات، والافتنان في بناء القصور والسفن، وإنشاء الحدائق والمتنزهات. ولقد كان في مرجونا أن نفرد لك فصلا خاصا نضمنه ما كان من الخلفاء في إقامة مبان وقصور وحدائق ودور لم يكن للعرب بها ولا بنظيراتها سابقة عهد، وإنما ألجأتهم إليها المدنية والبذخ، وما أصابوه فيها من رفاهة عيش، وسعة يد، ووفرة غنى، بيد أن ذلك يطول ويخرج بنا عما رسمناه لأنفسنا من القصد والإيجاز، مع الإلمام بكافة النواحي لهذا العصر.
على أنه من الميسور لك أن تتصور مبلغ ما وصل إليه الخلفاء العباسيون وأمراء البيت المالك ورجالات الدولة من الثروة والبذخ، بما أومأنا إليه في كلمتنا عن خراج الدولة وما كان فيها من استصفاء وأعطيات عظيمة.
وقد كانت أيضا الحياة السياسية والفكرية حادة عنيفة، فقد اشتدت الملاحاة بين شيعة العلويين والعباسيين، وبلغ النزاع غايته بين أصحاب المذاهب وزعماء الآراء، ولا تنس أن تضيف إلى ما تقدم ما كان لترجمة العلوم اليونانية وغير اليونانية من أثر بعيد في أفكار الناس وأخيلتهم وأساليبهم، والدقة في تعبيراتهم، والتنظيم فيما لهم من آثار.
وقد كانت الآثار الشعرية لهذا العصر إلى حد ما مرآة صادقة لأحواله وما كان يجري فيه من شئون.
أسرف الناس في شرب الخمر فافتن الشعراء في وصف الخمر ووصف كئوسها، وتخير الناس السقاة من الغلمان ومن في زي الغلمان، فوصف الشعراء السقاة وتغزلوا في الغلمان، وولع الناس بالصيد، فوصف الشعراء الصيد وما يجري في مجال الصيد، وافتن الناس كما قلنا في بناء القصور وغير القصور، ففتحوا المجال واسعا لخيال الشعراء في شتى الأبواب، واشتدت المنافسة السياسية بين شيعة العلويين والعباسيين، فأخذ شعراء كل فريق ينضحون عن رأيهم، ويؤيدون مذهبهم، وألف العلماء في الفقه والأخلاق والكلام، فأخذ الشعراء يعالجون نظم الفقه والأخلاق والكلام ، وهكذا تعددت أغراض الشعر، وتنوعت ألوانه.
وتحضر الناس في بغداد وغير بغداد من الحواضر الإسلامية، فرقت طباعهم، ولانت أخلاقهم، ونبت عن الحوشية أذواقهم، فرق شعر أهل الحواضر، وسلست ألفاظه، وبعدت من الحوشية، وترجمت العلوم اليونانية وغير اليونانية من فلسفة ومنطق وأخلاق، فكان لهذه العلوم أثرها في تنظيم أفكار الشعراء ودقة خيالاتهم.
ولو ذهبنا نورد لك شواهد على كل هذا وغيره لأطلنا وأمللنا، وإنما نحيلك على آثار شعراء هذا العصر، كأبي نواس في الخمر وكئوسها، وأوقات شرابها وسقاتها، والغزل بالغلمان، والصيد والطرد، ووصف مظاهر الحضارة العباسية، وكدعبل الخزاعي والسيد الحميري في النزاع السياسي بين العلويين والعباسيين، وكأبي العتاهية في الأخلاق، وأبان بن عبد الحميد في نظم العلوم كالفقه وغير الفقه، وهذه الإحالة لا تمنعنا أن نورد لك أمثالا من آثار هذا العصر الشعرية.
وهنا تعرض لنا ملاحظة نرى إيرادها حتما علينا، وهذه الملاحظة هي أن الشعر في عصر المأمون كان مرآة صادقة للحياة وما يجري فيها من شئون إلى حد ما.
نقول: «إلى حد ما»، ويدفعنا إلى هذا القول معتقدنا القوي الذي تكون لنا من دراستنا لروح هذا العصر، ذلك بأنا نرى كثيرا من شعراء الحاضرة المجيدين في هذا العصر وفي العصر الذي قبله ينحلون نتائج أفكارهم وما تجود به قرائحهم شعراء الجاهلية وأعراب البادية.
ونرى أيضا أن كبار الرواة وأهل الأدب ينشدون الشعر الجيد لمحدث، فيعجبون به على أنه قديم أو لأعرابي، حتى إذا تبين لهم أنه لمحدث أنكروه وازوروا عنه.
هذا يدلنا على أن جماعة قوية يعتد بها في هذا العصر كانت تميل إلى إيثار الشعر القديم وشعر أعراب البادية على الشعر الجديد ورجال الشعر الجديد، وإذا كان هذا حقا كان من الطبيعي أن يعيش الشعراء من الناحية الشعرية في غير عصرهم، وأن يكونوا بأخيلتهم في غير حاضرتهم، لكي يتملقوا الروح الغالبة، ويظفروا برضا العلماء، وقد يكون لهؤلاء العلماء والرواة حظ كبير في صرف أذهان الناس إلى الشعر القديم.
وليس معنى ذلك أن شعر المحدثين لم تكن له مكانة رفيعة عند القوم، بل على النقيض كانت له منزلة رفيعة في النفوس.
لذلك نحن نميل إلى القول بأن خير من يمثل هذا العصر أولئك المجددون الذين لم يتقيدوا ببكاء الأطلال، والحنين إلى الرسوم؛ كأبي نواس وأضراب أبي نواس.
على أنه يجدر بنا أن نورد لك مثلين مما كانوا يتذوقونه في هذا العصر من شعر المحدثين وما قاله أبو دلف ناعيا منهح التقعر، بعد إيرادنا لك ما وعدناك بإيراده من شعر لهذا العصر في شتى الأنحاء.
وقد نشرنا لك في باب المنظوم من الكتاب الثالث من المجلد الثالث أمثلة من شعر هذا العصر، كما نشرنا لك تلك القصيدة التي أنشدها محمد بن عبد الملك للمأمون يحرضه فيها على قتل إبراهيم بن المهدي حين ظفر به، فقال المأمون: لا والله أشمته به، بل أعفو عنه! وانظر إلى مطلع القصيدة تر الفلسفة اليونانية جاثمة فيه:
ألم تر أن الشيء للشيء علة
يكون له كالنار تقدح بالزند
وكان للمأمون جارية تسمى عريب - كانت تعشق جعفر بن حامد - وكان يتعشقها، فلما وجدت من المأمون غفلة وضعت على فراشها مثال رخام يحسب من رآه من بعيد أنها نائمة، وكان جعفر بن حامد قد نزل إلى جانب قصر المأمون، فصعدت إلى السطح ونزلت في زنبيل، فلما قضى نهمته منها قعدت في الزنبيل فصعدت ورجعت إلى مكانها، وطلبها المأمون قبل أن ترجع إلى فراشها فلم يجدها، فعلم إلى أين صارت، فقال أبو موسى حاكيا لهذه القصة:
قاتل الله عريبا
فعلت فعلا عجيبا
ركبت والليل داج
مركبا صعبا مهيبا
فارتقت متصلا بالن
نجم أو منه قريبا
صبرت حتى إذا ما
أقصد النوم الرقيبا
مثلت بين حشايا
ها لكي لا يستريبا
خلفا منها إذا نو
دي لم يلف مجيبا
ومضت يحملها الخو
ف قضيبا وكثيبا
محة لو حركت خف
ت عليها أن تذوبا
فتدلت لمحب
فتلقاها حبيبا
جذلا قد نال بالد
نيا من الدنيا رغيبا
أيها الظبى الذي تس
حر عيناه القلوبا
والذي يأكل بعضا
بعضه حسنا وطيبا
كنت نهبا لذئاب
فلقد أطمعت ذيبا
وكذا الشاة إذا لم
يك راعيها لبيبا
لا يبالي وبأ المر
عى إذا كان خصيبا
ولقد أصبح عبد
الله كشخانا
2
حريبا
قد لعمري لطم الخد
د وقد شق الجيوبا
وجرت منه دموع
بلت الذقن الخضيبا
ومما يعتبر من الهجاء السياسي قصيدة جحشويه الشاعر في يحيى بن أكثم قاضي المأمون بالبصرة، إذ فيه أيضا هجو لآل العباس وخلافتهم، قال:
أنطقنى الدهر بعد إخراس
بحادثات أطلن وسواسي
يا بؤس للدهر لا يزال كما
يرفع ناسا يحط من ناس
لا أفلحت أمة وحق لها
بطول لعن وطول إتعاس
ترضى بيحيى يكون سائسها
وليس يحيى لها بسواس
قاض يرى الحد من الزناء ولا
يرى على من يلوط من باس
يحكم للأمرد الظريف على
مثل جوين ومثل عداس
3
فالحمد لله قد ذهب ال
جود وقل الوفاء في الناس
أميرنا جائر وقاضينا
يلوط والرأس شر ما راس
لو قصد الرأس واستقام لقد
قام على القصد كل مرتاس
ما أحسب الجور ينقضي وعلى ال
ناس أمير من آل عباس
وقد أثبتنا لك في باب المنظوم من الكتاب الثالث في مجلدنا الثالث مثلا آخر من الهجاء قاله بعض الشعراء في يحيى بن أكثم، فراجعه ثمة.
وهناك نوع من الشعر يمثل لك ناحية من نواحي العصبية بين القبائل، وهو إلى حد ما يعتبر من الشعر السياسي، وهذا النوع مثل ما قاله مسلم بن الوليد في هجاء قريش والافتخار بالأنصار، ورد ابن قنبر عليه، وإنا نحيلك على موضع ذلك من مجلدنا الثاني للاطلاع عليه؛ لضيق المقام عن إيراده هنا.
وفي هذه القصة الآتية طرافة من الفراسة في العصر آثرنا إثباتها لذلك، وهي:
قال أبو السمراء: خرجنا مع الأمير عبد الله بن طاهر متوجهين إلى مصر، حتى إذا كنا بين الرملة ودمشق إذ نحن بأعرابي قد اعترض، فإذا شيخ فيه بقية على بعير له أورق، فسلم علينا فرددنا عليه السلام، قال أبو السمراء: وأنا وإسحاق بن إبراهيم الرافقي وإسحاق بن أبي ربعي ونحن نساير الأمير، وكنا يومئذ أفره من الأمير دواب، وأجود منه كسا، قال: فجعل الأعرابي ينظر في وجوهنا، قال: فقلت: يا شيخ، قد ألححت في النظر، أعرفت شيئا أم أنكرته؟ قال: لا والله ما عرفتكم قبل يومي هذا، ولا أنكرتكم لسوء أراه فيكم، ولكني رجل حسن الفراسة في الناس جيد المعرفة بهم، قال: فأشرت له إلى إسحاق بن أبي ربعي فقلت: ما تقول في هذا؟ فقال:
أرى كاتبا داهي الكتابة بين
عليه وتأديب العراق منير
له حركات قد يشاهدن أنه
عليم بتقسيط الخراج بصير
ونظر إلى إسحاق بن إبراهيم الرافقي فقال:
ومظهر نسك ما عليه ضميره
يحب الهدايا بالرجال مكور
أخال به جبنا وبخلا وشيمة
تخبر عنه إنه لوزير
ثم نظر إلي وأنشأ يقول:
وهذا نديم للأمير ومؤنس
يكون له بالقرب منه سرور
وأحسبه للشعر والعلم راويا
فبعض نديم مرة وسمير
ثم نظر إلى الأمير وأنشأ يقول:
وهذا الأمير المرتجى سيب كفه
فما إن له فيمن رأيت نظير
عليه رداء من جمال وهيبة
ووجه بإدراك النجاح بشير
لقد عصم الإسلام منه بذائد
به عاش معروف ومات نكير
ألا إنما عبد الإله بن طاهر
لنا والد بر بنا وأمير
قال: فوقع ذلك من عبد الله أحسن موقع، وأعجبه ما قال الشيخ، فأمر له بخمسمائة دينار وأمره أن يصحبه.
هذا، وقد حدث بعضهم قال: احتج أصحاب المأمون عنده يوما فأفاضوا في ذكر الشعر والشعراء، فقال بعضهم: أين أنت يا أمير المؤمنين من مسلم بن الوليد حيث يقول؟ قال: ماذا قال؟ قال: حيث يقول ورثى رجلا:
أرادوا ليخفوا قبره عن عدوه
فطيب تراب القبر دل على القبر
وهجا رجلا بقبح الوجه والأخلاق فقال:
قبحت مناظره فحين خبرته
حسنت مناظره لقبح المخبر
ومدح رجلا بالشجاعة فقال:
يجود بالنفس إن ضن الجواد بها
والجود بالنفس أقصى غاية الجود
وتغزل فقال:
هوى يجد وحبيب يلعب
أنت لقى
4
بينهما معذب
ومما كان يستحسنه المأمون من دعبل الحزاعي هجاء المأمون المعروف قوله:
ألم يأن للسفر الذين تحملوا
إلى وطن قبل الممات رجوع
فقلت ولم أملك سوابق عبرة
نطقن بما ضمت عليه ضلوع
تبين فكم دار تفرق شملها
وشمل شتيت عاد وهو جميع
طوال الليالي صرفهن كما ترى
لكل أناس جدبة وربيع
وقد حدث ابن طيفور عن مشيخته أن منصورا النمري والحسن بن هانئ وأبا العتاهية وأبا زغبة
5
اجتمعوا فتذاكروا أبياتا على وزن واحد، ففضل أبو العتاهية عليهم، فقال النمري:
أعمير كيف بحاجة
طلبت إلى صم الصخور
لله در عداتكم
كيف انتسبن إلى الغرور
ولقد تبيت أناملي
يجنين رمان النحور
وقال أبو العتاهية:
لهفي على الزمن القصير
بين الخورنق والسدير
إذ نحن في غرف الجنا
ن نعوم في بحر السرور
وقال الحسن بن هانئ:
وعظتك واعظة القتير
6
وعلتك أبهة الكبير
ورددت ما كنت استعر
ت من الشباب إلى المعير
ولقد تحل بعقوة ال
7
ألباب من بقر القصور
صور إليك مؤنثا
ت الدل في زي الذكور
أرهفن إرهاف الأعن
نة والحمائل والسيور
أصداغهن معقربا
ت والشوارب من عبير
قال المحدث: ولا أحفظ ما قال أبو زغبة، ففضلوا أبا العتاهية، وأبو نواس عندي أشعرهم.
وقد روى ابن طيفور أن عامل أبي دلف قد قصر في أمره، فبعث إليه من عزله وقيده وحبسه، فكتب إلى أبي دلف من السجن كتابا تنطع فيه وقعر وطول، فكتب إليه أبو دلف:
يا صاحب التطويل في كتبه
وصاحب التقصير في فعله
وراكب الغامض من جهله
وتارك الواضح من عقله
لم يحظ من ألزمه قيده
بل صير القيد إلى أهله
قيده للحبس تقعيره
فالقيد لم يخرج من رجله
والله لا فارقه قيده
أو يقطع التقعير من أصله
وفي الختام نرى لزاما في عنقنا أن نحيلك على ما قاله الشعراء وصفا لثورة بغداد وحريقها، وعلى رثائهم للأمين، ونماذج أخرى لمختلف مقولاتهم في مختلف المناحي، وقد نشرنا لك من هذا جملة صالحة في باب المنظوم من الكتاب الثالث من مجلدنا الثالث، فإنها تعطيك صورة صادقة لدرجة الشعر في ذلك العصر، فراجعة ثمة.
هوامش
الفصل العاشر
نماذج لبعض الشخصيات البارزة في العصر
المأموني
(1) توطئة
أعترف أنه من الصعوبة بمكان أن أختار لك أشخاص هذه النماذج؛ لأن الكثرة من رجالات العصر من النباهة والكفاية بمكان، وقد كان يحلو لي حقا ويسرني أيما سرور لو اتسعت رسالتي للكتابة عن رجالات العصر من وزراء وعلماء وقضاة وشعراء وكتاب وأطباء ومغنين وندماء، بيد أن ذلك يتطلب سعة لا يحتملها هذا المقام.
على أنا قد رأينا أن نكتب لك كلمات مجملة عن «جبرائيل بن بختيشوع» من أطباء العصر، وعن «الجاحظ» من ملوك الكتاب ورؤساء الاعتزال، وعن «أبان اللاحقي» الشاعر وصاحب نظم كليلة ودمنة، وعن «أحمد بن يوسف» الوزير المأموني ومدبج رسالاته، وعن «يحيى بن أكثم» قاضي قضاته، وأخيرا عن «إسحاق بن إبراهيم» وهو مجموعة هؤلاء.
ونعترف لك بأن في كتابنا شيئا من التقصير نحسه، وسببه حاجة هذه الموضوعات إلى الإفاضة في الشرح والبيان، وإلى التحليل والإسهاب مما لا قبل لرسالتنا به.
وبعد، فلنبدأ بهذا النماذج فنقول: (2) جبرائيل بن بختيشوع الطبيب النسطوري
لسنا نريد أن نستطرد في الحديث عن بختيشوع الطبيب الشهير، وإنما نريد أن نلم إلمامة به يتعرف منها القارئ ما كان للرجل من أثر في عصره، فنقول: إن هذه الأسرة هي الأسرة الوحيدة النسطورية التي استقام دور عزها ثلاثة قرون، كان لها خلالها حظ وجاه، وكانت لأفرادها حظوة، فاستعملهم الخلفاء العباسيون، فانتفعوا من الخلفاء، ونفعوا الطب وغير الطب من العلوم بآثارهم ومنتجات عقولهم.
أما هذه التسمية فسريانية، وهي مركبة من لفظتين سريانيتين، بخت ومعناه العبد، ويشوع ومعناه يسوع أي عبد يسوع، وكانت هذه الأسرة من مدينة جنديسابور، وأول من عرفه التاريخ منها هو ديورجيس بن جبرائيل بن بختيشوع، وكان يزاول مهنة الطب فبرع فيها، ونبه ذكره، وأقيم رئيسا لمستشفى مدينته حتى إن أبا جعفر المنصور قد أرسل وفدا من قبله إلى جنديسابور يستدعيه إليه؛ إذ كان قد انتابه مرض فعجزت عن شفائه نطس الأطباء، فتأبى بختيشوع بادئ الرأي حتى اعتقله العامل، ولكن أعيان بلده من مطارنة وقساوسة وغير هؤلاء نصحوا له بأن يمتثل للأمر، فانقاد لنصيحتهم، وولي وجهه شطر دار السلام، ثم كانت له حظوة عند المنصور، وما كنا لنستطرد في الحديث عن هذه الأسرة، وإنما سقنا هذه الكلمة لنأتي على شيء من أخبار أسرة جبرائيل، لنظهر ما لهذا الرجل من المكانة في عالم الطب، وأنه من سلالة كانت تتوارث أخلافها عن أسلافها هذه الصناعة.
نقول: إن جبرائيل هذا قد نبغ على مثال ذويه، وظهرت فيه عوامل الوراثة، فورث عن آبائه الصفات الأدبية، وبرع في صناعة الطب، وكان إلى جانب هذا وديع الخلق، لطيف المحضر، كريم السجايا، عرف في جو الطب سنة 175ه/سنة 791م، ذلك بأن جعفر بن خالد بن برمك بعد أن أبل من مرضة باعتناء بختيشوع، رغب إليه أن يبقى معه طبيبا له، فاعتذر وأناب عنه ابنه جبرائيل هذا، فلقى منه كل رعاية، وكاشفه جعفر بداء خفي كان قد أصابه، فعالجه جبرائيل في ثلاثة أيام، وشفي جعفر، فزادت مكانة جبرائيل عنده وقربه منه، فكان جليسه وكان نديمه، وكان لا يفارقه ساعة واحدة، وحدث أن جارية من جواري هارون الرشيد قد يبست ذراعها، فأبرأها جبرائيل بحيلة لطيفة بعد أن أخفق الأطباء في معالجتها، فحباه بخمسين ألف درهم، وقد عظم شأنه حتى قال الرشيد لأصحابه: كل من كانت له إلي حاجة فليخاطب بها جبرائيل؛ لأني أقبل كل ما يسألني فيه ويطلبه مني، وكان في صحبة الرشيد أينما حل وحيثما ارتحل، فقد ذهب معه إلى الرقة وصار معه إلى الحجاز.
ولما تولى الأمين الخلافة عرض جبرائيل على الخليفة أن يكون له خادما، فقبله ورحب به، ولم يكن يأكل شيئا إلا بإذنه، ولما بلغ ذلك المأمون اعتقل جبرائيل، ولم يطلق سراحه حتى شفع فيه الحسن بن سهل، وفي سنة 210ه/826م مرض المأمون مرضا أعجز أطباءه، وكان في مقدمتهم ميخائيل صهر جبرائيل، فأخذ جبرائيل على نفسه شفاء المأمون، وكان موفقا، فلم تمض أيام حتى شفي المأمون، فغمره بنعمائه واتخذه أنيسا ونديما، ولم يقف احترام المأمون لجبرائيل وإكرامه له عند هذا الحد، بل قد عداه إلى غيره من عمال الدولة، فقد أصدر المأمون أمره إلى الموظفين والعمال والقواد بأن يوقروا جبرائيل ويجلوه، وكان الرجل يتدخل في شئون طائفته كلها، حتى الشئون الكنسية، وبتأثيره انتخب البطريرك جيورجيس المعروف بابن الصباغ، فتولى الرياسة الدينية في طائفته وهو في سن الشيخوخة، ولما كانت سنة 213ه/828م مرض جبرائيل، واتفق أن الخليفة المأمون كان في ذلك العهد قد سافر إلى بلاد الروم، فأقعد المرض جبرائيل عن ملازمته، ولكنه أناب عنه ابنه بختيشوع، ولم يرجع المأمون وبختيشوع من رحلتهما حتى كان جبرائيل قد توفي.
فأقيم له مأتم حافل قلما كان لمثله في ذلك العصر، ودفن في مدفن القديس سرجيس بالمدينة، وترك مالا كثيرا، وملكا واسعا، فكانت له ضياع بجنديسابور والسوس والبصرة والسواد، حصل عليها بما ناله من الخلفاء من التخصيصات الجزيلة، والهدايا الكثيرة في المواسم والمعاشات، وله من الكتب رسالة في المطعم والمشرب قدمها إلى المأمون، وكتاب المدخل إلى صناعة المنطق، ورسالة مختصرة في الطب، وهي مختصر تأليف ديروكوريدس وجالينوس وبولس الإيجيني، وله أيضا كتاب في صناعة البخور، وقد نسب إليه السمعاني في مكتبته الشرقية معجما سريانيا على أن هذا مشكوك في روايته. (3) الجاحظ «الكتاب وعاء ملئ علما، وظرف حشي ظرفا، وبستان يحمل في ردن، وروضة تقلب في حجر، ينطق عن الموتى، ويترجم كلام الأحياء، ولا أعلم جارا أبر، ولا خليطا أنصف، ولا رفيقا أطوع، ولا معلما أخضع، ولا صاحبا أظهر كفاية، وأقل جناية، ولا أقل إملالا وإبراما، ولا أقل خلافا وإجراما، ولا أقل غيبة، ولا أبعد من عضيهة،
1
ولا أكثر أعجوبة وتصرفا، ولا أقل صلفا وتكلفا، ولا أبعد من مراء، ولا أترك لشغب، ولا أزهد في جدال، ولا أكف عن قتال من كتاب.
ولا أعلم قرينا أحسن مواتاة، ولا أعجل مكافأة، ولا أحضر معونة، ولا أقل مئونة، ولا شجرة أطول عمرا، ولا أجمع أمرا، ولا أطيب ثمرة، ولا أقرب مجتنى، ولا أسرع إدراكا في كل أوان، ولا أوجد في غير إبان من كتاب.
ولا أعلم نتاجا في حداثة سنه، وقرب ميلاده، ورخص ثمنه، وإمكان جوده ، يجمع من التدابير الحسنة، والعلوم الغريبة، ومن آثار العقول الصحيحة، ومحمود الأخبار اللطيفة، ومن الحكم الرقيقة، ومن المذاهب القويمة، والتجارب الحكيمة، والإخبار عن القرون الماضية، والبلاد المتراخية، والأمثال السائرة، والأمم البائدة ما يجمع الكتاب.»
بهذا الأسلوب الحسن في منحاه، الناصع البيان في مبناه، الداني القطوف، السديد في منهجه، العذب في مورده، يخاطبنا شيخ الكتاب غير مدافع، والمتفنن في الرسالات غير منازع أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ بعبارات تستساغ في غير مئونة ولا كد ذهن، وتستوعب بلا إرهاق خاطر ولا إعنات روية.
والجاحظ، أيدك الله، ليس وراء كتاباته، كما تعلم، مذهب لمستفيد، ولا مراد لراغب فقرها متناسبة متراصفة، وألفاظها متنخلة متخيرة، وعباراتها مطردة منسجمة، وجملها مما يوطأ له مهاد الطبع، ويرتفع له حجاب السمع، وهي - وأنت جد عليم - من ذلك النوع الذي يدخل الآذان بلا استئذان لمكانها من الألباب، وهو من أجل ذلك يتطلب منا درسا تحليليا مطولا، وليس هذا في مقدورنا لتعدد الموضوعات التي نعالجها، ولأنها تستلزم عناية ببحثها والإشارة إليها، بقدر ما يتطلبه الجاحظ من عناية ودرس، فلنكتف بإلماعة موجزة عن حياة النابغة الفذ الذي تسنم ذروة الكمال، وبلغ غاية النضج في الأدب العربي وفنونه، وكان إلى جانب هذا صاحب مذهب في الاعتزال، هو المذهب الجاحظي، معتمدين فيها على ما كتبه ابن خلكان وصاحب معجم الأدباء ومؤلفات الجاحظ نفسه.
نشأته
هو أبو عثمان عمرو بن بحر بن محبوب الجاحظ، ولم تكن أسرته برفيعة القدر ولا سامية المكانة، بل على النقيض كانت خدما وخولا لمولاهم أبي القلمس عمرو بن قلع الكناني ثم الفقيمي النساب، وقد قيل: إن فزارا جد الجاحظ كان جمالا، وإن الجاحظ نفسه كان يبيع الخبز والسمك بسيحان.
قال الجاحظ: أنا أسن من أبي نواس بسنة، ولدت في أول سنة 150ه وولد في آخرها، وانكب الجاحظ على العلم منذ طفولته انكبابا عظيما، وشغف بالمطالعة والقراءة، وعكف على الدرس والحفظ، وقد قال عنه أبو هفان أحد معاصريه: لم أر قط ولا سمعت من أحب الكتب والعلوم أكثر من الجاحظ، فإنه لم يقع بيده كتاب قط إلا استوفى قراءته كائنا ما كان، حتى إنه كان يكتري دكاكين الوراقين ويبيت للنظر فيها، ثم ثنى أبو هفان بالفتح بن خاقان، وذكر بعده إسماعيل بن إسحاق القاضي.
سمع الجاحظ من أبي عبيدة والأصمعي وأبي زيد الأنصاري، وأخذ النحو عن صديقه أبي الحسن الأخفش، وأخذ الحديث عن يزيد بن هارون والسري بن عبدويه وأبي يوسف القاضي والحجاج بن محمد بن حماد بن سلمة، والكلام عن أبي إسحاق إبراهيم بن سيار النظام المعتزلي النابه الذكر، وبه تأثر وعليه تخرج في مذهبه في الكلام والاعتزال.
وإذ كانت ميوله إلى الاطلاع واستيعاب ما يقع تحت يديه من المؤلفات على ما وصفنا، وكان قصاري همه، في مغداته ومراحته وبكوره وآصاله، أن يحفظ كتابا أو يفهم بابا، وكان العصر الذي فيه درج ونما على ما علمت من غزارة المادة، وتعدد التآليف، وازدحام المعارف، ووفرة مختلف الثقافات، فلا غرو إذا أخبرنا الجاحظ عن نفسه بقوله: «لقد نسيت كنيتي، لقد تغيبت ثلاثة أيام حتى أتيت أهلي فقلت لهم: بم أكنى؟ فقالوا: بأبي عثمان.» ولا غرو إذا كان الجاحظ قد اتصل بكثير من علماء ونوابغ عصره وشهيري الكتاب والمترجمين من فرس وسريان، فتأثر بلا ريب ذكاؤه بهذا الاختلاط، وطالع جماع ما ترجم في أزمان المنصور والرشيد والمأمون، فما كان يقع بيده كتاب إلا استوفى قراءته كائنا ما كان، حتى إنه كان يكتري دكاكين الوراقين ويبيت فيها للنظر، كما قلنا آنفا، فكان لذلك من نوابغ العالم.
وغلب عليه أمران اثنان: الكلام على طريقة المعتزلة، والأدب ممزوجا بالفلسفة والفكاهة.
ولقد قضى عامة عمره بالبصره موفور الكرامة، محبوا من خلائق الله سيما رؤساء الموالي وأعيان الهاشمية والعثمانية بالعطايا والمنح، لما كان يصنفه لهم من الرسائل التي كان يتعمد في كتابتها التشيع لمذهبهم، ومعاضدة مزاعمهم، ونقض أقوال مخالفيهم، وكانت له مهارة في التلاعب بعقولهم، وابتزاز أموالهم، واقتدار على التعبير في كل ما يعالجه، وفي كل موقف، وكان يحج كثيرا إلى بغداد في أواخر عصر المأمون وغيره، فكان المأمون يرفده، ثم انقطع إلى الانتجاع إلى محمد بن الزيات طوال وزاراته الثلاث، ثم أقام بعد موت ابن الزيات بالبصرة حتى أصيب بالفالج، فبقى مفلوجا حتى أسلم الروح.
ذكاؤه وخلقه
كان له حظ كبير وقسط وفير من الذكاء ورقة الشعور، ودقة العاطفة، وله في ذلك نوادر هي من خوارق الطبيعة، وكان غريب الأطوار، به شذوذ في أحواله وأطواره ؛ ذلك لأنه كان يجمع بين الجد والفكاهة، حاضر النكتة، حاضر البديهة، سريع الخاطر، وكانت به دعابة وتظرف وتماجن، وكان لا يحتفل لما يأخذ الناس به أنفسهم وما يتواضعون عليه من العادات والرسوم وأنواع العصبية والمذهبية والجنسية، وكان كريم الأخلاق، كريم اليد، سخيا سمحا، ولطيف المحضر، خفيف الروح، وكان على ما به من دمامة غاية في الظرف وحلاوة اللفظ، وهو من أجل ذلك كان يجمع بين الضدين.
اعتقاده ومذهبه
قلنا: إنه تخرج على أبي إسحاق إبراهيم بن سيار النظام، زعيم الفرقة التي تنسب إليه من المعتزلة، وكان يلازم أستاذه هذا ويتوفر على دروسه، فمن أجل ذلك كان الجاحظ معتزليا، وزعيم الفرقة الجاحظية في الاعتزال، وقد انتفع بمواهبه وما حباه الله من فصاحة الكلام وطلاقة اللسان وحسن البيان في ترويح مذهبه والدعاوة له، فكان لسان المعتزلة الناطق، وسلاحهم القاطع، وبرع في الكلام، وخلطه بالفلسفة اليونانية، ويرميه كثيرون بالضلالة، وأنه ماجن مهذار، متناقض نقال، يتلاعب بالناس، وينقض اليوم ما بناه أمس، وقد دافع عنه أبو الحسن الخياط في كتابه «الانتصار» على انتقادات ابن الراوندي العنيفة المرة التي تناول فيها عقيدة الجاحظ بالتجريح الشديد.
ومما قاله أبو الحسن الخياط فيما يفند به هجمات ابن الراوندي: «وأما رميك للجاحظ ببغض الرسول
صلى الله عليه وسلم ، فهو دليل على أنك لا تعرف المحب من المبغض، ولا الولي من العدو؛ لأنه لا يعرف المتكلمون أحدا منهم نصر الرسالة واحتج للنبوة بلغ في ذلك ما بلغه الجاحظ، ولا يعرف كتاب في الاحتجاج لنظم القرآن وعجيب تأليفه، وأنه حجة لمحمد
صلى الله عليه وسلم
على نبوته غير كتاب الجاحظ ، وهذه كتبه في إثبات الرسالة، وكتبه في تصحيح مجيء الأخبار مشهورة، وهل يستدل على حب الرسول
صلى الله عليه وسلم
والإيمان به وتصديقه فيما جاء به بشيء أوكد مما يستدل به على حب الجاحظ الرسول وتصديقه إياه!»
وقد تناول كبار المؤلفين من العرب؛ كابن قتيبة، والأزهري، والمسعودي، والبديع الهمذاني، وأبي العباس أحمد بن يحيى، وأبي العباس محمد بن يزيد المبرد ، والفتح بن خاقان، والرئيس أبي الفضل بن العميد وغيرهم شخصية الجاحظ بما تستحقه من العناية والدرس، ومن النقد والتقريظ مما لا نثبته لك هنا مخافة الإطالة والملل، فلتراجع في مظانها ومواضعها.
علمه
يقول صاحب المعجم: «كان الجاحظ من الذكاء وسرعة الخاطر والحفظ بحيث شاع ذكره، وعلا قدره، واستغنى عن الوصف»، وقال غيره: إنه كان واسع العلم بفنون الكلام، كثير التبحر فيه، شديد الضبط لحدوده، ومن أعلم الناس به وبغيره من علوم الدين والدنيا، ولا غرو فإن مؤلفاته العديدة تشهد بأنه كان واسع الاطلاع حقا، غزير المادة، خصب الذهن، كثير المحصول العقلي، وقد أكثر التصنيف في الأدب واللطائف والفكاهات، وأتيح له أن يكون من أئمة الدين وكبار السمار.
ويقول الفتح بن خاقان في كتاب له إلى الجاحظ: «إن أمير المؤمنين يجد بك، ويهش عند ذكرك، ولولا عظمتك في نفسه، لعلمك ومعرفتك، لحال بينك وبين بعدك عن مجلسه، ولغصبك رأيك وتدبيرك فيما أنت مشغول به ومتوفر عليه، ولقد كان ألقى إلي من هذا عنوانه، فزدتك في نفسه زيادة كف بها عن تجشيمك، فاعرف لي هذه الحال، واعتقد هذه المنة على كتاب «الرد على النصارى»، وافرغ منه وعجل به إلي، وكن ممن جدا به على نفسه، وتنال مشاهرتك، وقد استطلقته لما مضى، واستسلفت لك لسنة كاملة مستقبلة، وهذا مما لم تحتكم به نفسك، وقد قرأت رسالتك في «بصيرة غنام»، ولولا أني أزيد في مخيلتك لعرفتك ما يعتريني عند قراءتها. والسلام.»
رسائله
للجاحظ كثير من قصار الرسائل وطوالها، منها: أنه كتب إلى عبد الله بن خاقان في يوم عيد: «أخرتني العلة عن الوزير، أعزه الله، فحضرت بالدعاء في كتابي لينوب عني، ويعمر ما أخلفت العوائق مني، وأسأل الله تعالى أن يجعل هذا العيد أعظم الأعياد السالفة بركة على الوزير، ودون الأعياد المستقبلة فيما يحب ويحب له، ويقبل منا ما نتوسل به إلى مرضاته، ويضاعف الإحسان إليه على الإحسان منه، ويمتعه بصحة النعمة ولباس العافية، ولا يريه في مسرة نقصا، ولا يقطع عنه مزيدا، ويجعلني من كل سوء فداءه، فيصرف عيون الغير عنه وعن حظي منه».
وكتب إلى محمد بن عبد الملك الزيات يستعطفه: «أعاذك الله من سوء الغضب، وعصمك من سرف الهوى، وصرف ما أعارك من القوة إلى حب الإنصاف، ورجح في قلبك إيثار الأناة، فقد خفت، أيدك الله، أن أكون عندك من المنسوبين إلى نزق السفهاء، ومجانبة الحكماء.
وبعد، فقد قال عبد الرحمن بن حسان بن ثابت:
وإن امرأ أمسى وأصبح سالما
من الناس إلا ما جنى لسعيد
وقال الآخر:
ومن دعا الناس إلى ذمه
ذموه بالحق وبالباطل
فإن كنت اجترأت عليك، أصلحك الله، فلم أجترئ إلا لأن دوام تغافلك عني شبيه بالإهمال الذي يورث الإغفال، والعفو المتتابع يؤيس من المكافأة، ولذلك قال عيينة بن حصن بن حذيفة لعثمان رحمه الله: عمر كان خيرا لي منك! أرهبني فاتقاني، وأعطاني فأغناني، فإن كنت لا تهب عقابي، أيدك الله، لخدمة سلفت لي عندك، فهبه لأياديك عندي، فإن النعمة تشفع في النقمة، وإلا تفعل ذلك لذلك، فعد إلى حسن العادة، وإلا فافعل ذلك لحسن الأحدوثة، وإلا فائت ما أنت أهله من العفو دون ما أنا أهله من العقوبة، فسبحان من جعلك تعفو عن المتعمد، وتتجافى عن عقاب المصر، حتى إذا صرت إلى من هفوته ذكر، وذنبه نسيان، ومن لا يعرف الشكر إلا لك، والإنعام إلا منك، هجمت عليه بالعقوبة.
واعلم، أيدك الله، أن شين غضبك علي كزين صفحك عني، وأن موت ذكري مع انقطاع سببي منك كحياة ذكري مع اتصال سببي بك، واعلم أن لك فطنة عليم، وغفلة كريم. والسلام.»
وللجاحظ رسائل في الاستعطاف وشكوى الزمان آية في البلاغة أثبتناها في المجلد الثالث من هذا الكتاب.
وقد قال فيه بديع الزمان الهمذاني في المقامة الجاحظية: «إن الجاحظ في أحد شقي البلاغة يقطف، والآخر يقف، والبليغ من لم يقصر نظمه عن نثره، ولم يزر كلامه بشعره، فهل تروون للجاحظ شعرا رائقا؟ قلنا: لا، قال: فهلموا إلى كلامه، فهو بعيد الإشارات، قريب العبارات، قليل الاستعارات، منقاد لعريان الكلام يستعمله، نفور من معتاصه يهمله؛ فهل سمعتم له لفظة مصنوعة أو كلمة غير مسموعة؟»
شعره
قيل: إن للجاحظ شعرا، ولكننا نظرنا فيما ينسبه له يموت بن المزرع وأبو العيناء وأبو الحسن البرمكي وغيرهم فوجدناه أقل طبقة من بلاغته، فمما ينسب إليه قوله:
يطيب العيش أن تلقى حكيما
غذاه العلم والفهم المصيب
فيكشف عنك حيرة كل جهل
وفضل العلم يعرفه اللبيب
سقام الحرص ليس له شفاء
وداء الجهل ليس له طبيب
مصنفاته
صنف الجاحظ أكثر من مائتي كتاب.
قال المسعودي: وكتب الجاحظ مع انحرافه تجلو صدأ الأذهان، وتكشف واضح البرهان، لأنه نظمها أحسن نظم، ورصفها أحسن رصف، وكساها من كلامه أحسن وأجزل لفظ، وكان إذا تخوف ملل القارئ وسآمة السامع خرج من جد إلى هزل، ومن كلمة بليغة إلى نادرة طريفة، وله كتب حسان؛ فمنها «البيان والتبيين»، وهو أشرفها لأنه جمع فيه من المنثور والمنظوم، وغرر الأشعار، ومستحسن الأخبار وبليغ الخطب ما لو اقتصر عليه مقتصر لاكتفى، و«كتاب الحيوان» و«كتاب الطفيليين» و«كتاب البخلاء»، وسائر كتبه في نهاية الكمال ما لم يقصد منها إلى تصعيب ولا إلى دفع حق، ولا يعلم ممن سلف وخلف أفصح منه.
وقال ابن العميد: كتب الجاحظ تعلم العقل أولا والأدب ثانيا.
أخباره
حدثنا أبو معاذ عبد الله الخولي المتطبب قال: دخلنا يوما ب «سر من رأى» على عمرو بن بحر الجاحظ نعوده وقد فلج، فلما أخذنا مجالسنا أتى رسول المتوكل فيه فقال: وما يصنع أمير المؤمنين بشق مائل، ولعاب سائل، ثم أقبل علينا فقال: ما تقولون في رجل له شقان، أحدهما لو غرز بالمسال ما أحس، والشق الآخر يمر به الذباب فيغوث، وأكثر ما أشكوه الثمانون؟ ثم أنشدنا أبياتا من قصيدة عوف بن محلم الخزاعي، قال أبو معاذ: وكان سبب هذه القصيدة أن عوفا دخل على عبد الله بن طاهر فسلم عليه عبد الله فلم يسمع، فأعلم بذلك، فزعموا أنه ارتجل هذه القصيدة ارتجالا:
يا ابن الذي دان له المشرقان
طرا وقد دان له المغربان
إن الثمانين وبلغتها
قد أحوجت سمعي إلى ترجمان
وبدلتني بالشطاط انحنى
وكنت كالصعدة تحت السنان
وبدلتني من زماع الفتى
وهمتي هم الجبان الهدان
وقاربت مني خطى لم تكن
مقاربات وثنت من عنان
وأنشأت بيني وبين الورى
عنانة من غير نسج العنان
ولم تدع في لمستمتع
إلا لساني، وبحسبي لسان
أدعو به الله وأثني به
على الأمير المصعبي الهجان
فقرباني، بأبي أنتما،
من وطني قبل اصفرار البنان
وقبل منعاي إلى نسوة
أوطانها حران والرقمتان
والجاحظ، أيدك الله، قد جمع إلى مواقفه الكبار في الجدل والتناظر، ومتانة الأسلوب وتدفقه، وسمو المنحى وبلاغته، وقوة اللفظ وفخامته، جنوحا عظيما إلى الدعابة واللطائف والتندر والطرائف، والملح والنخب، والنكت مع الأدب، مع خفة ظل، وظرف روح حبباه إلى النفوس، ومع نباغة وعبقرية جعلتاه فوق الهام والرءوس، وعذوبة عبارة ومائية أسلوب كأنهما الراح في الكئوس.
ومن جملة أخباره أنه قال: ذكرت للمتوكل لتأديب بعض ولده، فلما رآني استبشع منظري، فأمر لي بعشرة آلاف درهم وصرفني، فخرجت من عنده فلقيت محمد بن إبراهيم وهو يريد الانصراف إلى مدينة السلام، فعرض علي الخروج معه والانحدار في حراقته، وكنا بسر من رأى، فركبنا في الحراقة، فلما انتهينا إلى فم نهر القاطول ضرب ستارا وأمرنا بالغناء، فاندفعت عوادة فغنت:
كل يوم قطيعة وعتاب
ينقضي دهرنا ونحن غضاب
ليت شعري أنا خصصت بهذا
دون ذا الخلق أم كذا الأحباب
وسكتت، فأمر الطنبورية فغنت:
وارحمتا للعاشقينا
ما إن أرى لهم معينا
كم يهجرون ويصرمو
ن ويقطعون فيصبرونا
قال: فقالت لها العوادة، فيصنعون ماذا؟ قالت: هكذا يصنعون، وضربت بيدها إلى الستار فهتكته، وبرزت كأنها فلقة قمر فألقت نفسها في الماء، وعلى رأس محمد غلام يضاهيها في الجمال وبيده مذبة، فأتى الموضع ونظر إليها وهي بين الماء وأنشد:
أنت التي غرقتني
بعد القضا لو تعلمينا
وألقى نفسه في أثرها، فأدار الملاح الحراقة، فإذا بهما متعانقان، ثم غاصا فلم يريا، فاستعظم محمد ذلك وهاله أمرهما، ثم قال: يا عمرو، لتحدثني حديثا يسليني عن فعل هذين وإلا ألحقتك بهما، قال: فحضرني حديث يزيد بن عبد الملك وقد قعد للمظالم يوما وعرضت عليه القصص، فمرت به قصة فيها: «إن رأى أمير المؤمنين أن يخرج إلي جاريته فلانة حتى تغنيني ثلاثة أصوات فعل»، فاغتاظ يزيد من ذلك وأمر من يخرج إليه ويأتيه برأسه، ثم أتبع الرسول رسولا آخر، يأمره أن يدخل إليه الرجل فأدخله، فلما وقف بين يديه قال له: ما الذي حملك على ما صنعت؟ قال: الثقة بحلمك، والاتكال على عفوك، فأمره بالجلوس حتى لم يبق أحد من بني أمية إلا خرج، ثم أمر فأخرجت الجارية ومعها عودها، فقال لها الفتى غني:
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل
وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
فغنته، فقال له يزيد: قل، فقال: غني:
تألق البرق نجديا فقلت له
يا أيها البرق إني عنك مشغول
فغنته، فقال له يزيد: قل، فقال: يا مولاي، تأمر لي برطل شراب، فأمر له به، فما استتم شربه حتى وثب وصعد على أعلى قبة ليزيد فرمى نفسه على دماغه فمات، فقال يزيد:
إنا لله وإنا إليه راجعون
أتراه الأحمق الجاهل ظن أني أخرج إليه جاريتي وأردها إلى ملكي! يا غلمان، خذوها بيدها واحملوها إلى أهله إن كان له أهل، وإلا فبيعوها وتصدقوا بثمنها، فانطلقوا بها إلى أهله، فلما توسطت الدار نظرت إلى حفيرة في وسط دار يزيد قد أعدت للمطر، فجذبت نفسها من أيديهم وأنشدت:
من مات عشقا فليمت هكذا
لا خير في عشق بلا موت
فألقت نفسها في الحفيرة على دماغها فماتت، فسري عن محمد وأجزل صلتي.
وبعد، فإن رسالتنا لا تسع التبسط في القول ، ولا سيما شخصية بارزة كشخصية الجاحظ، التي تطلب كما قلنا رسالة مسهبة؛ لمكانة الرجل، ففيما قدمناه لك عنه الغنية والكفاية، ونرى واجبا علينا قبل أن نختم كلمتنا أن نحيلك هنا على رسالة خطية منسوبة إليه عثرنا عليها بدار الكتب المصرية، قيل إنه كتبها عن بني أمية، وسبق أن أشرنا إليها في كلمتنا عن العصر الأموي، وهي وحدها تنطق بوجهة نظر الرجل ومذهبه في الاعتزال، وتشهد بطول باعه في التبسط والإسهاب، مع فخامة اللفظ وحلاوته، وفراهة الأسلوب وطلاوته، وسمو البيان ومكانته. وقد أثبتناها لك في باب المنثور من الكتاب الثالث من المجلد الثالث، فراجعها ثمة. (4) أبان بن عبد الحميد اللاحقي
هو أبان بن عبد الحميد بن لاحق بن عفر مولى بني رقاش، كان بالبصرة ثم رحل إلى البرامكة ببغداد، فاتصل بهم ومدحهم ونال جوائزهم، ثم قويت الصلة بينهم وبينه حتى اتخذوه لهم معلما ونصيحا، يستشيرونه في مهام أمورهم وتدبير شئونهم، وبلغ من حفاوتهم به وإكرامهم له أن جعلوا إليه امتحان الشعراء، وتقدير ما يستحقون من الجوائز والصلات، لكن هذا المنصب جعله غرضا لهجو الشعراء وذمهم؛ لأنه ليس في مقدوره أن يرضيهم جميعا من جهة، ولأنهم كانوا يرونه دون أن يكون لهم حكما من جهة أخرى.
وكان أبو نواس من أشد هؤلاء الشعراء نقمة على أبان، فإن أبا الفرج الأصبهاني يحدثنا أن أبا نواس لم يرض المرتبة التي جعله فيها أبان، فقال يهجوه بهذه الأبيات:
جالست يوما أبانا
لا در در أبان
ونحن حضر رواق ال
أمير بالنهروان
حتى إذا ما صلاة ال
أولى دنت لأوان
فقام منذر ربي
بالبر والإحسان
فكلما قال قلنا
إلى انقضاء الأذان
فقال كيف شهدتم
بذا بغير عيان
لا أشهد الدهر حتى
تعاين العينان
فقلت: سبحان ربي
فقال: سبحان ماني
2
وبقية القصيدة في ديوان أبي نواس.
فقال أبان يجيبه:
أن يكن هذا النوا
سي بلا ذنب هجانا
فلقد ... حينا
وصفعناه زمانا
هانئ الجون أبوه
زاده الله هوانا
سائل العباس واسمع
فيه من أمك شانا
عجنوا من جلنار
ليكيدوك عجانا
وجلنار هذه هي أم أبي نواس، كان قد تزوجها العباس بعد أبيه، وربما كان لباعث هذه المهاترة بين أبي نواس وأبان أثر كبير فيما كان بين أبي نواس والبرامكة من كراهية وبغضاء، فإن أبا نواس كان معروفا بسمو المكانة في الشعر، فلا يستطيع مثل أبان أن ينزله عن منزلته التي هو جدير بها، إلا إذا كان في ذلك هوى للبرامكة، وقد يكون بوحي منهم، لكن أبا نواس لم يجد مصدرا للحكم غير أبان فهجاه، ولم يكن هجوه أبانا ليشفي غليله، وإنما يشفي غليله لو استطاع أن ينال بالهجو من يراهم خليقين بهجوه، وهم البرامكة، ولكنه لا يستطيع أن ينالهم بالهجو وهم أصحاب الدولة والسلطان.
كان أبان شديد الإعجاب بنفسه، مدلا بعلمه وأدبه، والقصيدة التي قدمها للبرامكة حين حاول أن يتصل بهم، على زعم أن يكون له شفيع من ترغيبهم فيه، تعطينا صورة واضحة عنه. وهذه هي القصيدة:
أنا من بغية الأمير وكنز
من كنوز الأمير ذو أرباح
كاتب حاسب خطيب أديب
ناصح زائد على النصاح
شاعر مفلق أخف من الري
شة مما يكون تحت الجناح
لي في النحو فطنة واتقاد
أنا فيه قلادة بوشاح
ثم أروى من ابن سيرين للعل
م بقول منور الإفصاح
ثم أروى من ابن سيرين للشع
ر وقول النسيب والأمداح
وظريف الحديث في كل فن
وبصير بترهات الملاح
كم وكم قد خبأت عندي حديثا
هو عند الملوك كالتفاح
فبمثلي تخلو الملوك وتلهو
وتناجي في المشكل الفداح
أيمن الناس طائرا يوم صيد
لغدو دعيت أو لرواح
أبصر الناس بالجواهر والخي
ل وبالخرد الحسان الصباح
كل ذا قد جمعت والحمد لله
على أنني ظريف المزاح
لست بالناسك المشمر ثوبي
ه ولا الماجن الخليع الوقاح
لو رمى بي الأمير أصلحه الله
رماحا ثلمت حد الرماح
ما أنا واهن ولا مستكين
لسوى أمر سيدي ذي السماح
لست بالضخم يا أميري ولا القز
م ولا بالمجحدر الدحداح
لحية جعدة ووجه صبيح
واتقاد كشعلة المصباح
إن دعاني الأمير عاين مني
شمريا كالبلبل الصياح
على أن أبانا مع إعجابه بنفسه وإدلاله بعلمه وأدبه لم يكن في مقدوره أن يساير كبار معاصريه من الشعراء؛ كأبي نواس وأضرابه في قوة الشعر، واختلاف فنونه، وحسن لفظه، ورقة معانيه.
ولعل ذلك يرجع إلى أنه كان ينقصه خصب النفس، وقوة الحس، والخيال المبدع للصور الشعرية، أي قوة الابتكار والاختراع، فإن هذه القوى جميعا لا بد منها للشاعر لكي يحس وينتزع ويصور، وهذا يفضي بنا إلى إحدى نتيجتين: إما أن نشك فيما وصف به نفسه من جمال الظرف، وخفة الروح، واتقاد الذهن، نشك في اتصافه حقا بهذه الصفات، التي تملأ النفس شعورا بما في الحياة من صور للشعر، وإما أنه كان قصير الباع في تصوير ما تحسه نفسه، وكلا الأمرين يبعد البون بينه وبين أبي نواس وأضراب أبي نواس، ولئن نقصته القوى التي تمده بالصور الشعرية، فقد وفق إلى فن جديد نحسب أنه لم يسبق إليه، وهذا الفن لا يضطره إلى كد القريحة وإعمال الفكر في تصيد المعاني الجميلة، وإبرازها في أثواب زاهية جذابة؛ بل لا يحتاج معه إلى أكثر من أن تكون لديه ملكة النظم ووزن الكلام؛ إذ المعاني بين يديه لا يتكلف في سبيلها سعيا، أو كد قريحة، وهذا الفن الجديد هو النظم التعليمي، وهو أن يعمد الشاعر إلى كتاب معروف منثور فينظمه، أو إلى قواعد عامة في الشريعة أو في اللغة أو في فرع من فروعهما، فينظمها أيضا، ليسهل حفظها ويقرب تناولها، وهذا ما فعله أبان وما جعلنا نؤثره بالكلام، فإن هذا النوع من النظم يمثل ناحية طريفة من نواحي الأدب الجديدة في عصرنا المأموني، فقد نكون مقصرين كل التقصير، إذا أغفلنا ذكر مبدعه ومبتكره، نقول: «وهذا ما فعله أبان» فإن الصولي وأبا الفرج الأصفهاني يحدثاننا بأن أبانا نظم للبرامكة كتاب كليلة ودمنة، ليسهل عليهم حفظه، فأعطاه يحيى بن خالد عشرة آلاف دينار، وأعطاه الفضل بن يحيى خمسة آلاف دينار، ولم يعطه جعفر شيئا وقال له: يكفيك أن أحفظه فأكون راويتك، وقد نقل الأصفهاني من هذا الكتاب بيتين هما:
هذا كتاب أدب ومحنه
وهو الذي يدعى كليله دمنه
فيه احتيالات وفيه رشد
وهو كتاب وضعته الهند
وقد أبادت الأيام هذا الكتاب كما أبادت كثيرا غيره من الكتب العربية القيمة، حتى يئس الأدباء والمؤرخون في العصر الحديث من العثور على شيء منه، وقد يكون من حسن الحظ أن نعلن سرورنا بأنا قد وفقنا إلى جزء كبير من هذا الكتاب، في جزء أو أوراق من جزء من كتاب الأوراق المنسوب للصولي؛ إذ عثرنا عليه بدار الكتب المصرية منذ أمد طويل حينما كنا نبحث فيها عما وضعه العرب من الموسوعات والمعلمات، وسنذكر في المجلد الثاني ما وجدناه فيه.
ويحدثنا أبو الفرج بأنه عمل أيضا القصيدة التي ذكر فيها مبدأ الخلق وأمر الدنيا وشيئا من المنطق، وسماها «ذات الحلل»، ومن الناس من ينسبها إلى أبي العتاهية، والصحيح أنها لأبان، وسياق أبي الفرج هذا لا يدع سبيلا إلى الشك في وجود هذه القصيدة، ومع الأسف لم ينقل إلينا منها شيئا.
ويحدثنا الصولي، بسنده، أن أبانا لما عمل كتاب كليلة ودمنة شعرا، في قصيدته المزدوجة، أعطاه البرامكة على ذلك مالا عظيما، فقيل له بعد ذلك: ألا تعمل شعرا في الزهد؟ فعمل قصيدة مزدوجة في الصيام والزكاة، وقد وجدت هذه القصيدة، وترجمتها «قصيدة الصيام والزكاة نقل أبان من فم الرواة» ثم ذكر القصيدة، وقد نشرنا ذلك كله في موضعه من المجلد الثاني. (5) أحمد بن يوسف الكاتب
هو أبو جعفر أحمد بن يوسف بن القاسم بن صبيح الكاتب من أهل الكوفة ومن موالي بني عجل، كان مذهبه الرسائل والإنشاء، وزره المأمون بعد أحمد بن أبي خالد، فقد كان يتولى ديوان الرسائل له، وكان معروفا بين أهل عصره بسمو المكانة في العلم والأدب والكتابة والشعر، حكى عن المأمون وعبد الحميد بن يحيى الكاتب، وحكى عنه ابنه محمد بن أحمد بن يوسف وعلي بن سليمان الأخفش وغيرهما.
كتابته
أما مكانته في الكتابة فرسائله وتوقيعاته التي تحلت بها صدور الأدب، وتزينت بها كتب التاريخ تجعله في مقدمة الكتاب ومن أئمتهم، وهي بما فيها من جودة وإحكام، وتخير للألفاظ، وسلاسة في المعاني، تدل على أنه كان خصيب النفس، سريع الخاطر، وعلى أنه مالك أعنة المعاني، ونواصي الكلام، ولقد شهد له بالسبق في الكتابة والرسائل كبار رجال عصره ومن جاء بعده.
قال الصولي: لما مات أحمد بن أبي خالد الأحول شاور المأمون الحسن بن سهل فيمن يكتب له ويقوم مقامه، فأشار عليه بأحمد بن يوسف، وبأبي عباد ثابت بن يحيى الرازي، وقال: هما أعلم الناس بأخلاق أمير المؤمنين وخدمته وما يرضيه، فقال له: اختر لي أحدهما، فقال الحسن: إن صبر أحمد على الخدمة، وجفا لذته قليلا، فهو أحبهما إلي؛ لأنه أعرف في الكتابة، وأحسنهما بلاغة، وأكثر علما، فاستكتبه المأمون.
وروى الصولي، بسنده، أن الكتاب اجتمعوا عند أحمد بن إسرائيل، فذكروا الماضين من الكتاب، فأجمعوا أن أكتب من كان في دولة بني العباس أحمد بن يوسف، وإبراهيم بن العباس، وأن أشعر كتاب دولتهم: إبراهيم بن العباس، ومحمد بن عبد الملك الزيات، فإبراهيم أجودهما شعرا، ومحمد أكثرهما شعرا، ثم الحسن بن وهب وأحمد بن يوسف.
فأنت ترى، أعزك الله، أن هؤلاء الكتاب لم يقدموا أحدا من كتاب دولة بني العباس على أحمد بن يوسف في الكتابة، وإن قدموا عليه في الشعر. والحق أن نبوغه في الكتابة هو الذي كان سببا إلى ظهوره ورفعته، فقد روى العلماء أنه لما قتل الأمين أمر طاهر بن الحسين الكتاب أن يكتبوا إلى المأمون فأطالوا، فقال طاهر: أريد أقصر من هذا! فوصف له أحمد بن يوسف، فأحضره لذلك، فكتب:
أما بعد، فإن المخلوع وإن كان قسيم أمير المؤمنين في النسب واللحمة، فقد فرق حكم الكتاب بينه وبينه في الولاية والحرمة، لمفارقته عصمة الدين، وخروجه عن إجماع المسلمين، قال الله عز وجل لنوح عليه السلام في ابنه:
يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح
ولا صلة لأحد في معصية الله، ولا قطيعة ما كانت في ذات الله، وكتبت إلى أمير المؤمنين وقد قتل الله المخلوع، وأحصد لأمير المؤمنين أمره، وأنجز له وعده، فالأرض بأكنافها أوطأ مهاد لطاعته، وأتبع شيء لمشيئته، وقد وجهت إلى أمير المؤمنين بالدنيا وهو رأس المخلوع، وبالآخرة وهي البردة والقضيب، والحمد لله الآخذ لأمير المؤمنين بحقه، والكائد له من خان عهده ونكث عقده، حتى رد الألفة، وأقام به الشريعة. والسلام على أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته.
قيل: فرضي طاهر ذلك وأنفذه، ووصل أحمد بن يوسف وقدمه.
وقيل: إن المأمون لما حمل رأس المخلوع إليه وهو بمرو، أمر بإنشاء كتاب عن طاهر بن الحسين ليقرأ على الناس، فكتبت عدة كتب لم يرضها المأمون ولا الفضل بن سهل، فكتب أحمد بن يوسف هذا الكتاب، فلما عرضت النسخة على ذي الرياستين رجع نظره فيها، ثم قال لأحمد بن يوسف: ما أنصفناك، ودعا بقهرمانه، وأخذ القلم والقرطاس، وأقبل يكتب بما يفرغ له من المنازل ويعد له فيها من الفرش والآلات والكسوة والكراع وغير ذلك، ثم طرح الرقعة إلى أحمد بن يوسف وقال له: إذا كان في غد فاقعد في الديوان، وليقعد جميع الكتاب بين يديك واكتب إلى الآفاق.
قيل: ومما كتبه للمأمون حين كثر الطلاب للصلات ببابه: «داعي نداك يا أمير المؤمنين، ومنادي جدواك جمعا الوفود ببابك يرجون نائلك المعهود، فمنهم من يمت بحرمة، ومنهم من يدل بخدمة، وقد أجحف بهم المقام، وطالت عليهم الأيام، فإن رأى أمير المؤمنين أن ينعشهم بسيبه، ويحقق حسن ظنهم بطوله، فعل إن شاء الله تعالى»، فوقع المأمون: «الخير متبع، وأبواب الملوك مغان لطالبي الحاجات، ومواطن لهم؛ ولذلك قال الشاعر:
يسقط الطير حيث يلتقط الح
ب وتغشى منازل الكرماء
فاكتب أسماء من ببابنا منهم، واحك مراتبهم، ليصل إلى كل رجل قدر استحقاقه، ولا تكدر معروفنا عندهم بطول الحجاب وتأخير الثواب؛ فقد قال الشاعر:
فإنك لن ترى طردا لحر
كإلصاق به طرف الهوان.»
وقال إبراهيم بن العباس: سمعت أحمد بن يوسف يقول: أمرني المأمون أن أكتب إلى النواحي في الاستكثار من القناديل في المسجد، فبت لا أدري كيف أفتتح الكلام، ولا كيف آخذ به، فأتى آت في منامي فقال: قل: فإن في ذلك أنسا للسابلة، وإضاءة للمتهجدة، ونفيا لمكامن الريب، وتنزيها لبيوت الله عن وحشة الظلم. فانتبهت وقد انفتح لي ما أريد، فابتدأت بهذا وأتممت عليه.
ومن رسائله أيضا: «لقد أحلك الله في الشرف أعلى ذروته، وبلغك من الفضل أبعد غايته، فالآمال إليك مصروفة، والأعناق إليك معطوفة، عندك تنتهي الهمم السامية، وعليك تقف الظنون الحسنة، وبك تثنى الخناصر، وتستفتح أغلاق المطالب، ولا يستريث النجح من رجالك، ولا تعروه النوائب في دارك.» وإنا نحيلك على ما أثبتناه لك في المجلد الثالث من آثاره الممتعة.
شعره
كان أحمد بن يوسف شاعرا معرقا في الشعر كما كان معرقا في الكتابة، إلا أن حظه من الشعر كان دون حظه من الكتابة، فإن نقاد عصره لم يقدموا عليه أحدا في الكتابة من كتاب بني العباس ووزرائهم، وقد قدموا عليه كثيرا في الشعر، وقد ذكرنا - فيما سبق من ترجمته - إجماع فريق من الكتاب على سبقه في الكتابة دون الشعر. وقد روى الصولي، بسنده، أن قعنب بن محرز الباهلي قال: كنا نقول لم يل الوزارة أشعر من أحمد بن يوسف، حتى ولي محمد بن عبد الملك فكان أشعر منه.
ولم يكن المدح كثيرا في شعر أحمد بن يوسف؛ فإنه كان بحكم مركزه كوزير للمأمون ورئيس ديوان رسائله غير محتاج إلى أن يتكسب بشعره أو يمدح الناس، ولذلك لا نرى في شعره مدحا لغير المأمون وليه ورب نعمته، وكذلك كان هجاؤه قليلا؛ فإن مروءته وأدبه ومركزه واعتداده بنفسه كل ذلك كان يرفعه عن أن يكون هجاء مقذعا، وإنما كان يضطر أحيانا إلى ذم أعدائه ومنافسيه في غير إقذاع ولا فحش، فمن ذلك قوله في سعيد بن سالم الباهلي وولده وقد كانت بينهم وبينه عداوة، فذكرهم يوما فقال: «لولا أن الله عز وجل ختم رسالته بمحمد
صلى الله عليه وسلم ، وكتبه بالقرآن؛ لبعث فيكم نبي نقمة، وأنزل عليكم قرآن غدر، وما عسيت أن أقول في قوم محاسنهم مساوئ السفل، ومساوئهم فضائح الأمم»، وقال يهجوهم:
أبني سعيد إنكم من معشر
لا تحسنون كرامة الأضياف
قوم لباهلة بن أعصر إن همو
فخروا حسبتهمو لعبد مناف
مطلوا الغداء إلى العشاء وقربوا
زادا لعمر أبيك ليس بكاف
بينا أتاك أتاهم كبراؤهم
يلحون في التبذير والإسراف
وكأنني لما حططت إليهمو
رحلي حططت بأبرق العزاف
أخلاقه وسيرته
كان أحمد بن يوسف فطنا بصيرا بأدوات الملك وآداب السلاطين، ذكيا سريع الخاطر ذا مروءة وكرم، وكان مع ذلك يضرب في المجون واللهو بسهم، ومما يدل على عظيم مروءته ما قاله عبد الله بن طاهر حين خرج من بغداد إلى خراسان لابنه محمد، وما وقع بين محمد هذا وبينه بعد ذلك، قال عبد الله لابنه: إن عاشرت أحدا بمدينة السلام فعليك بأحمد بن يوسف الكاتب؛ فإن له مروءة. فما عرج محمد حين انصرف من توديع أبيه على شيء حتى هجم على أحمد بن يوسف في داره، فأطال عنده، ففطن له أحمد فقال: يا جارية، غدينا. فأحضرت طبقا وأرغفة نقية، وقدمت ألوانا يسيرة وحلاوة، وأعقب ذلك بأنواع من الأشربة في زجاج فاخر وآنية حسنة وقال: يتناول الأمير من أيها شاء، ثم قال: إن رأى الأمير أن يشرف عبده ويجيئه في غد فأنعم بذلك. فنهض وهو متعجب من وصف أبيه له، وأراد فضيحته، فلم يترك قائدا جليلا ولا رجلا مذكورا من أصحابه إلا عرفهم أنه في دعوة أحمد بن يوسف، وأمرهم بالغدو معه، فلما أصبحوا قصدوا دار أحمد بن يوسف وقد أخذ أهبته وأظهر مروءته، فرأى محمد من النضائد والفرش والستور والغلمان والوصائف ما أدهشه، ونصب ثلاثمائة مائدة وقد حفت بثلاثمائة وصيفة، ونقل إلى كل مائدة ثلاثمائة لون في صحاف الذهب والفضة ومثارد الصين، فلما رفعت الموائد قال ابن طاهر: هل أكل من بالباب؟ فنظروا فإذا جميع من بالباب قد نصبت لهم الموائد فأكلوا، فقال: شتان بين يوميك يا أبا الحسن! «كذا في هذه الرواية كناه بأبي الحسن» فقال: أيها الأمير، ذاك قوتي، وهذه مروءتي!
أما اللهو والمجون فقد كان حظه منهما غير قليل، وحسبنا أن نذكر ما قاله الحسن بن سهل حين شاوره المأمون فيمن يختاره بعد أحمد بن أبي خالد، فأشار عليه بأحمد بن يوسف وبأبي عباد ثابت بن يحيى الرازي، فقال له: اختر لي أحدهما، فقال الحسن: إن صبر أحمد وجفا لذاته قليلا فهو أحبهما إلي.
ولقد كان به ما كان ببعض معاصريه من الكتب والشعراء والأدباء من ميل إلى الغلمان ...! لذلك لم يكن غزله بريئا، ولم يعالجه على أنه فن من فنون الشعر، وإنما كان غزله يترجم ترجمة صادقة عن شعوره ونوازع نفسه؛ فإنك لا تستطيع أن تسمع ما كان بينه وبين موسى بن عبد الملك ثم تحكم له بأنه اصطنع الغزل فنا من فنون الشعر، فقد كان موسى هذا في ناحيته، وهو الذي قدمه وخرجه، وكان يرمى بما كان يرمى به مما نمسك عن ذكره.
حدث موسى نفسه فقال: وهب لي أحمد بن يوسف ألف ألف درهم في مرات. وقد لامه محمد بن الجهم على تقديمه موسى بن عبد الملك على صباه، فكتب إليه أحمد بن يوسف شعرا يلتمس إليه فيه أن يكف عن عذله، وقد أمسكنا عن ذكره أيضا لما فيه من مجون.
ومن غزله ما قاله في محمد بن سعيد بن حماد الكاتب - وكان يميل إليه وقيل عنه: إنه كان صبيا مليحا:
صد عني محمد بن سعيد
أحسن العالمين ثاني جيد
صد عني لغير جرم إليه
ليس إلا لحسنه في الصدود
وكان محمد بن سعيد يكتب بين يديه، فنظر إلى عارضه قد اختط في خده، فأخذ رقعة وكتب فيها:
لحاك الله من شعر وزادا
كما ألبست عارضه الحدادا
أغرت على تورد وجنتيه
فصيرت احمرارهما سوادا
ورمى بها إلى محمد بن سعيد فكتب مجيبا: عظم الله أجرك في يا سيدي، وأحسن لك العوض مني!
وكان لظرفه وفطنته وبصره بالأمور موضعا لرضا المأمون وعطفه عليه، ويظهر أن علاقته بالمأمون وثقته به وملء يديه منه جعلته لا يتحرز في كلامه كثيرا، فكان يسقط السقطة بعد السقطة حتى أتلف نفسه في بعض سقطاته، فقد حكي أن المأمون كان إذا تبخر طرح له العود والعنبر، فإذا تبخر أمر بإخراج المجمرة ووضعها تحت الرجل من جلسائه إكراما له، وحضر أحمد بن يوسف وتبخر المأمون على عادته، ثم أمر بوضع المجمرة تحت أحمد بن يوسف، فقال: هانوا ذا المروءة! فقال المأمون: ألنا يقال هذا ونحن نصل رجلا واحدا من خدمنا بستة آلاف دينار؟ إنما قصدنا إكرامك وأن أكون أنا وأنت قد اقتسمنا بخورا واحدا، يحضر عنبر! فأحضر منه شيء في الغاية من الجودة، في كل قطعة ثلاثة مثاقيل، وأمر أن تطرح القطعة في المجمرة يتبخر بها أحمد بن يوسف، ويدخل رأسه في زيقه حتى ينفد بخورها، وفعل به ذلك بقطعة ثانية وثالثة وهو يستغيث ويصيح، وانصرف إلى منزله وقد احترق دماغه، واعتل ومات سنة 213، وقيل: سنة 214ه.
وكانت له جارية يقال لها: نسيم، لها من قلبه مكان خطير، فقالت ترثيه:
ولو أن ميتا هابه الموت قبله
لما جاءه المقدار وهو هيوب
ولو أن حيا قبله هابه الردى
إذن لم يكن للأرض فيه نصيب
وقالت أيضا ترثيه:
نفسي فداؤك لو بالناس كلهم
ما بي عليك تمنوا أنهم ماتوا
وللورى موتة في الدهر واحدة
ولي من الهم والأحزان موتات (6) يحيى بن أكثم القاضي
هو أبو محمد يحيى بن أكثم بن محمد بن قطن ينتهي نسبه إلى أكثم بن صيفي التميمي حكيم العرب المعروف.
عرف التاريخ يحيى بن أكثم حدثا في مجلس سفيان بن عيينة، المعروف بعلمه وورعه ونفوذه؛ إذ يقول ابن خلكان في كتابه «وفيات الأعيان»: ورأيت في بعض المجاميع أن سفيان خرج يوما إلى من جاءه يسمع منه وهو ضجر، فقال: أليس من الشقاء أن أكون جالست صخرة بن سعيد، وجالس هو أبا سعيد الخدري، وجالست عمرو بن دينار، وجالس هو عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، وجالست الزهري وجالس هو أنس بن مالك، حتى عد جماعة، ثم أنا أجالسكم، فقال له حدث في المجلس: انتصف يا أبا محمد ، قال: إن شاء الله تعالى، فقال: والله لشقاء أصحاب أصحاب رسول الله بك أشد من شقائك بنا! فأطرق سفيان وأنشد قول أبي نواس:
خل جنبيك لرام
وامض عنه بسلام
مت بداء الصمت خير
لك من داء الكلام
إنما السالم من أل
جم فاه بلجام
فتفرق الناس وهم يتحدثون برجاحة الحدث، وكان ذلك الحدث يحيى بن أكثم التميمي، فقال سفيان: هذا الغلام يصلح لصحبة هؤلاء، يعني السلاطين. ا.ه.
هذا كل ما نعلمه عن حداثة يحيى بن أكثم، وهي حداثة تبشر بما سيكون لهذا الناشئ من مكانة ونفوذ جديرين بما وهبه الله من ذكاء وسرعة خاطر، وقوة قلب وسلاطة لسان. تلك المخايل كانت واضحة فيه، وقد جعلته حديث حاضري مجلس سفيان، وحملت سفيان على أن يقول عنه: هذا الغلام يصلح لصحبة هؤلاء - مشيرا إلى ولاة الأحكام.
لقد صدقت الأيام حدس سفيان فيه، فقد انخرط يحيى في سلك القضاة صغيرا لنجابته، ثم درج في مناصب القضاء حتى تبوأ أسمى مناصب الدولة؛ تبوأ منصب قاضي القضاة، ومنصب الوزارة للمأمون، منظورا إليه في كل ما تولاه من المناصب بالتجلة والإكبار من الخاصة والعامة.
ونحن ذاكرون لك حياته وما تولاه من مناصب ومكانته العلمية والأدبية، وما كان متصفا به من الحزم وحسن السياسة، وأقوال الناس فيه وفي أخلاقه، ووجهة نظر كل فريق من الناس فيه، معتمدين في ذلك على ما بين أيدينا من مصادر تاريخية وأدبية، منبهين على ما يمكن أن يقع بينهما من خلاف كثير أو قليل.
أول عمل تولاه
أما أول عمل تولاه فيحدثنا عنه ابن طيفور بقوله: «قال: حدثني أحمد بن صالح الأضجم، قال: هل تدري ما كان سبب يحيى بن أكثم؟ قلت: لا، وإني أحب أن أعرفه، قال: يحيى بن خاقان هو وصله بالحسن بن سهل وقربه من قلبه وكثره في صدره حتى ولاه قضاء البصرة، ثم استوزره المأمون فغلب عليه، وحدثني عبد الله بن أبي مروان الفارسي قال: كان ثمامة سبب يحيى بن أكثم في قضاء البصرة مرتين، وسبب تخلصه من الخادم الذي أمر بتكشيفه بالبصرة، ويقال: إنه قطع خصيته في تعذيبه بالقصب.» ا.ه.
ويقول ابن خلكان في سبب اتصاله بالقضاء: أراد المأمون أن يولي رجلا القضاء، فوصف له يحيى بن أكثم فاستحضره، فلما حضر دخل عليه، وكان دميم الخلق فاستحقره المأمون لذلك، فعلم ذلك يحيى فقال: يا أمير المؤمنين، سلني إن كان القصد علمي لا خلقي، فسأله المأمون المسألة المعروفة في الميراث بالمسألة المأمونية، وهي أبوان وبنتان لم تقسم التركة حتى ماتت إحدى البنتين وخلفت من في المسألة، فقال يحيى: يا أمير المؤمنين، الميت الأول رجل أم امرأة؟ فعرف المأمون أنه قد عرف المسألة فقلده القضاء.
ثم يذكر لنا ابن خلكان بعد ذلك نقلا عن تاريخ بغداد للخطيب، أن يحيى بن أكثم ولي قضاء البصرة وسنه عشرون سنة أو نحوها، فاستصغره أهل البصرة فقالوا: كم سن القاضي؟ فعلم أنه قد استصغر فقال: أنا أكبر من عتاب بن أسيد الذي وجه به النبي
صلى الله عليه وسلم
قاضيا على مكة يوم الفتح، وأنا أكبر من معاذ بن جبل الذي وجه به النبي
صلى الله عليه وسلم
قاضيا على اليمن، وأنا أكبر من كعب بن سور الذي وجه به عمر بن الخطاب رضي الله عنه قاضيا على أهل البصرة، فجعل جوابه احتجاجا.
قد عرفت - مما ذكرناه عن ابن طيفور المعاصر ليحيى وعن ابن خلكان - أن بين روايتي المؤرخين في سبب اتصال يحيى بالقضاء خلافا، فابن طيفور يروي لنا أنه اتصل أولا بالحسن بن سهل، نائب الخليفة المأمون في بغداد، ثم ولاه قضاء البصرة.
وابن خلكان يروي لنا أنه اتصل بالمأمون، وبعد أن امتحنه وعرف فضله ولاه القضاء، فهل يمكن التوفيق بين روايتيهما؟
يخيل إلينا أن كلتا الروايتين صحيحة، خصوصا إذا ذكرنا ما رواه ابن طيفور من أن ثمامة كان سبب يحيى بن أكثم في قضاء البصرة مرتين؛ إذ يمكن أن تكون توليته قضاء البصرة في المرة الأولى كانت عن طريق اتصاله بالحسن بن سهل، وأن توليته في المرة الثانية كانت عن طريق اتصاله بالخليفة المأمون، وأن ما ذكره ابن خلكان في تاريخه من استصغار أهل البصرة له ثم احتجاجه عليهم بما فعله النبي
صلى الله عليه وسلم
وبما فعله عمر رضي الله عنه كان في المرة الأولى.
وبهذا التحليل نستطيع أن نفهم ما يذكره المؤرخون من أنه عزل من قضاء البصرة لأمره بتعذيب خادم بالقصب بعد تكشيفه حتى قطعت خصيته، ثم ما يذكرونه من أنه عزل لقوله أبياتا من الشعر تغزلا في ابني مسعدة، وكانا على نهاية الجمال.
ومهما يكن من شيء فنحن نرجح أنه تولى قضاء البصرة مرتين: الأولى عن طريق الحسن بن سهل، ثم عزل لأحد السببين المذكورين أو غيرهما مما لا نقطع به، والثانية عن طريق المأمون.
بقى شيء آخر فيما يرويه ابن خلكان نريد أن نلفت النظر إليه، فقد يكون فيه شيء من التناقض أو السهو؛ ذلك بأنه يروي لنا أن يحيى حين ولي قضاء البصرة كانت سنه نحو عشرين سنة، وأن أهل البصرة استصغروه فاحتج عليهم بما فعله النبي وعمر، وسواء أكانت توليته عن طريق الحسن بن سهل أم عن طريق المأمون فهي لا تعدو أوائل القرن الثالث الهجري، ثم يذكر بعد ذلك أنه توفي بالربذة سنة اثنتين وأربعين ومائتين وقبل غرة ثلاث وأربعين وعمره ثلاث وثمانون سنة، إذ مهما بالغنا في سنه متمشين مع رواية ابن خلكان، نقلا عن تاريخ بغداد، من أنه تولى قضاء البصرة وسنه نحو العشرين، فلن نعدو به الستين إلا قليلا، فكيف يمكن التوفيق بين هذا وبين ما يقوله ابن خلكان من أنه توفي وعمره ثلاث وثمانون سنة، ولو فرضنا صحة ما يقوله ابن خلكان في عمره حين الوفاة، وفرضنا أيضا صحة ما نقله عن تاريخ بغداد من أنه تولى قضاء البصرة وسنه نحو العشرين؛ لكانت توليته قضاء البصرة في النصف الأول من عهد الرشيد لا في عهد المأمون، وهو خلاف المجمع عليه وخلاف ما ينقله هو أيضا من أن توليته البصرة كانت سنة اثنتين ومائتين.
ثم نرى يحيى بعد أن عزل من قضاء البصرة في بغداد ثاويا في دار شادها له صديقه الحميم ثمامة بن أشرس بحضرته - وكان ثمامة بن أشرس هذا عالما متكلما سليط اللسان قوي الحجة ذا آراء في الاعتزال، وإليه تنسب الطائفة الثمامية من المعتزلة، وكان متصلا بالمأمون محببا إليه، موثوقا به منه، فكان خير وسيلة لاتصال صديقه يحيى بالخليفة المأمون - ثم عرف المأمون ما في يحيى من علم وذكاء وحزم فأدناه إليه وقربه منه، وخصه برعايته وعطفه حتى غلب عليه دون الناس جميعا.
ويحدثنا ابن طيفور أن يحيى بن أكثم قال للمأمون: أظهر لكل قاض ما تريد أن توليه إياه وأمره بكتمانه، ثم انظر أيفعل أم لا، وضع عليهم أصحاب أخبار، فقال له المأمون: أوليك قضاء القضاة، وقال لغيره ما يريد أن يوليه، فشاع ذلك كله إلا خبر يحيى، فإنه أتاه أن الناس ذكروا أنه يريد الخروج إلى البصرة على قضائها، فذمهم، وقال له: كيف شاع هذا وأمرت باكتراء السفن إلى البصرة؟ قال يحيى: يا أمير المؤمنين، ليس يستقيم كتمان شيء إلا بإذاعة غيره وإلا وقع الناس عليه، قال: صدقت وحمده.
من المجمع عليه أن يحيى بن أكثم كان قاضي القضاة للخليفة المأمون، ولكن هل توزر له؟ لم يذكره الفخري في وزراء المأمون، لكن ابن طيفور ذكر فيما نقلناه عنه أن المأمون استوزره، فهل يمكن أن يكون المراد من استيزار المأمون له ما ذكره طلحة بن محمد بن جعفر؟ إذ يقول في آخر وصفه لفضل يحيى بن أكثم وعلمه وأخلاقه: «وكان المأمون ممن برع في العلوم فعرف من حال ابن أكثم وما هو عليه من العلم والعقل ما أخذ بمجامع قلبه حتى قلده قضاء القضاة، وتدبير أهل مملكته، فكانت الوزراء لا تعمل في تدبير الملك شيئا إلا بعد مطالعة يحيى بن أكثم.» ليس يبعد أن يكون هذا هو المراد، على أنا قد عددناه من وزراء المأمون في كلمتنا المجملة عن وزرائه.
ومهما يكن من شيء، فقد كان يحيى بن أكثم قاضي القضاة وصاحب الكلمة العليا والأمر النافذ في الدولة، وكانت مكانته من المأمون لا تدنو منها مكانة، ولكي تقدر حظوته لدى المأمون وأدب المأمون معه نورد لك ما يروى عن يحيى بن أكثم نفسه، قال:
بت ليلة عند المأمون فانتبه في بعض الليل فظن أني نائم، فعطش ولم يدع الغلام لئلا أنتبه، وقام متسللا خائفا هادئا في خطاه حتى أتى البرادة، فشرب ثم رجع وهو يخفي صوته كأنه لص حتى اضطجع، وأخذه سعال فرأيته يجمع كمه في فمه كي لا أسمع سعاله، وطلع الفجر فأراد القيام وقد تناومت، فصبر إلى أن كادت تفوت الصلاة فتحركت، فقال: الله أكبر، يا غلام، نبه أبا محمد، فقلت: يا أمير المؤمنين، رأيت بعيني جميع ما كان الليلة من صنيعك، وكذلك جعلنا الله لكم عبيدا، وجعلكم لنا أربابا.
وهاك حكاية أخرى تدل على أدب المأمون وحظوة يحيى لديه، وهي مروية عن ثمامة بن أشرس صديق يحيى وثقة المأمون، قال ثمامة: «كان يحيى بن أكثم يماشي المأمون يوما في بستان موسى والشمس عن يسار يحيى والمأمون في الظل وقد وضع يده على عاتق يحيى وهما يتحادثان حتى بلغ حيث أراد، ثم كر راجعا في الطريق التي بدأ فيها، فقال ليحيى: كانت الشمس عليك لأنك كنت عن يساري، وقد نالت منك، فكن الآن حيث كنت وأتحول أنا إلى حيث كنت، فقال يحيى: والله يا أمير المؤمنين لو أمكنني أن أقيك هول المطلع بنفسي لفعلت، فقال المأمون: لا والله ما بد من أن تأخذ الشمس مني مثلما أخذت منك، فتحول يحيى وأخذ من الظل مثل الذي أخذ منه المأمون.» ا.ه.
ولم يزل في هذه الرعاية من المأمون والحظوة لديه يفوض إليه المأمون جليل الأعمال، ويرسله في مهام الأمور، حتى كانت سنة 216ه؛ إذ نرى المأمون بمصر يسخط على يحيى بن أكثم الذي كان في حاشيته، ويرسله مغضوبا عليه إلى العراق، ثم يبلغ من حنقه عليه أن يكتب في وصيته إلى ولي عهده المعتصم محذرا إياه من اصطناع الوزراء والركون إليهم، ضاربا بيحيى بن أكثم مثلا في سوء السيرة وقبيح الفعال، ونحن نلقي على مسامعك ما كتبه في وصيته متعلقا بيحيى: «ولا تتخذن بعدي وزيرا تلقي إليه شيئا؛ فقد علمت ما نكبني به يحيى بن أكثم في معاملة الناس وخبث سيرته، حتى أبان الله ذلك منه في صحة مني، فصرت إلى مفارقته قاليا له غير راض بما صنع في أموال الله وصدقاته، لا جزاه الله عن الإسلام خيرا.»
ثم لم تزل تختلف الأحوال على يحيى بن أكثم بعد ذلك، وتتقلب به الأيام حتى أيام المتوكل على الله، فلما عزل القاضي محمد بن القاضي أحمد بن أبي دواد فوض ولاية القضاء إلى القاضي يحيى، وخلع عليه خمس خلع، ثم غضب عليه المتوكل وعزله سنة أربعين ومائتين وأخذ أمواله، وألزم منزله. ثم حج بعد ذلك وأخذ معه أخته واعتزم أن يجاور، ثم بلغه رضا المتوكل عنه ورجوعه له، فبدا له في المجاورة ورجع يريد العراق، فلما كان بالربذة في طريقه إلى العراق وافته المنية يوم الجمعة منتصف ذي الحجة سنة أربعين ومائتين، وقيل: غرة ثلاث وأربعين ومائتين، ودفن هناك. وقد قدمنا لك ما ذكره ابن خلكان في عمره حين الوفاة، وشفعناه بما يمكن أن يكون في كلامه من تناقض أو سهو أو تحريف.
كان يحيى بن أكثم فقيها عالما بالفقه، بصيرا بالأحكام، وقد عده الدارقطني في أصحاب الشافعي رضي الله عنه، راويا للحديث، آخذا بحظ كبير من كل فن، سمع الحديث عن عبد الله بن المبارك وسفيان بن عيينة وغيرهما، ويروي عنه الترمذي وغيره من رجال السنة وحفظة الحديث، وكانت له منزلة سامية لدى رجال الدين وعلماء الجماعة.
ومما رفع منزلته لدى الناس جميعا موقفه المشهور مع المأمون، مما يدل على سعة علمه، وقوة حجته، وعظيم جراءته؛ ذلك بأن المأمون رأى وهو في طريقه إلى الشام جواز نكاح المتعة، فوقف له يحيى موقفا أكسبه حمد أئمة الدين وثناءهم عليه. ونحن نزجى إليك هذا الحديث نقلا عن ابن خلكان، قال: «حدث محمد بن منصور قال: كنا مع المأمون في طريق الشام فأمر فنودي بتحليل المتعة، فقال يحيى بن أكثم لي ولأبي العيناء: بكرا غدا إليه؛ فإن رأيتما للقول وجها فقولا، وإلا فأمسكا إلى أن أدخل، قال: فدخلنا عليه وهو يستاك ويقول وهو مغتاظ: متعتان كانتا على عهد رسول الله
صلى الله عليه وسلم
وعلى عهد أبي بكر رضي الله عنه وأنا أنهى عنها! ومن أنت يا جعل حتى تنهى عما فعله رسول الله
صلى الله عليه وسلم
وأبو بكر رضي الله عنه! فأومأ أبو العيناء إلى محمد بن منصور وقال: رجل يقول في عمر بن الخطاب ما يقوله نكلمه نحن! فأمسكنا، فجاء يحيى بن أكثم فجلس وجلسنا، فقال المأمون ليحيى: ما لي أراك متغيرا؟ فقال: هو غم يا أمير المؤمنين لما حدث في الإسلام، قال: وما حدث فيه؟ قال: النداء بتحليل الزنا! قال: الزنا؟ قال: نعم، المتعة زنا، قال: ومن أين قلت هذا؟ قال: من كتاب الله عز وجل وحديث رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، قال الله تعالى:
قد أفلح المؤمنون
إلى قوله:
والذين هم لفروجهم حافظون * إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين * فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون
يا أمير المؤمنين، زوجة المتعة ملك يمين؟ قال: لا، قال: فهي الزوجة التي عند الله ترث وتورث وتلحق الولد ولها شرائطها؟ قال: لا، قال: فقد صار متجاوز هذين من العادين، وهذا الزهري، يا أمير المؤمنين، روى عن عبد الله والحسن ابني محمد بن الحنفية، عن أبيهما، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: أمرني رسول الله
صلى الله عليه وسلم
أن أنادي بالنهي عن المتعة وتحريمها بعد أن كان قد أمر بها، فالتفت إلينا المأمون فقال: أمحفوظ هذا من حديث الزهري؟ فقلنا: نعم، يا أمير المؤمنين، رواه جماعة منهم مالك رضي الله عنه، فقال: أستغفر الله! نادوا بتحريم المتعة، فنادوا بها.» ا.ه.
أما آراء يحيى الكلامية فإن المؤرخ يقف أمامها موقف حيرة وإحجام، ويحتاج إذا أراد أن يبدي رأيا فيها إلى شيء غير قليل من الأناة والروية؛ ذلك بأن يحيى كان يقف موقفا قريبا من الفتنة العنيفة التي كانت مضطرمة في وقته، فهو قاضي قضاة المأمون، ومنزلته منه منزلة يغبط عليها، والمأمون زعيم القائلين بخلق القرآن، وهي بدعة اعتزالية، ثم هو في الوقت نفسه مرضي عنه من الجماعة وأهل السنة، ثم نراه حينا يقف موقف المعارضة من صديقه وحميمه ثمامة بن أشرس المعتزلي وزعيم الطائفة الثمامية، معارضة تشتد في بعض الأحيان إلى المخاشنة والمهاترة، وأنت تعلم من هو ثمامة وما علاقته بالمأمون وثقة المأمون به، ثم تعلم ما كانت علاقته بيحيى نفسه وكم له من يد عليه، أضف إلى كل هذا ما يرويه ابن خلكان من أنه كان يقول: «القرآن كلام الله، فمن قال: إنه مخلوق يستتاب، فإن تاب وإلا ضربت عنقه» ولاحظ أن المأمون زعيم القائلين بذلك.
فهل يمكن مع ذلك إبداء رأي في عقيدة يحيى الكلامية؟ وهل يمكن أن تكون كل هذه الروايات صحيحة مع ما يبدو عليها من شبه تناقض؟
نظن أنه باستعمال شيء من التحليل يمكن إبداء الرأي، ويمكن التوفيق أيضا؛ ذلك بأن يحيى بن أكثم كان كيسا حازما، خفيف الروح، حلو اللسان، فاستطاع بذلك أن يداري الناس جميعا، خاصتهم وعامتهم، وأن يكتسب رضاهم جميعا، فإذا حوور وجودل فاشتد أحيانا؛ فإنما يكون ذلك إلى الحد الذي لا يمس مكانته ونفوذه، فبقي في حظوة لدى المأمون وإخوان المأمون دونها كل حظوة، وكان في الوقت نفسه بموضع الكرامة والرضا من أهل السنة والجماعة.
إلى هنا لم نستطع أن نبدي شيئا في رأيه، وكل ما يمكن أن يستنبط مما تقدم أنه كان حسن التقية، بارعا في المداراة والمصانعة والرياء، وكانت هذه الخلة من أظهر مميزات العصر؛ فالخليفة يداري فيقابل قاتل أخيه بالترحاب، فإذا ما خرج القائد القاتل وسئل المأمون عن عبرة استعبرها كانت إجابته: «قتلني الله إن لم أقتل طاهرا» ثم هو بعد يوصي صاحب أخباره بالرياء، ويعدد لنا أهل الرياء في عصره. وهاك مثلا قاضي قضاته كما ترى من سيرته.
ولكن هل من الممكن أن نستسيغ مشادته العنيفة أحيانا في محاورة صديقه ومصطنعه ثمامة بن أشرس، مع ما في هذه المشادة من نكران للجميل، ومن تعريض نفوذه للضياع، دون أن يكون على خلف معه في الرأي، ودون أن نميل إلى صحة ما يرويه المؤرخون من أنه كان سليما من البدعة ينتحل مذهب أهل السنة؟
هذا ما يمكن أن تؤدي إليه المقدمات وإن كانت حياة يحيى والبيئة التي تحيط به تجعله إلى الجانب الآخر أقرب. نريد من كل هذا أن نستنبط رأي يحيى الكلامي وإن كان، وهو قاضي القضاة، حريصا على أن يكون بنجوة عن منازعات الأحزاب الكلامية، إذ نظن أن الذي ينصح إلى المأمون حين أراد أن يلعن معاوية، وأن يكتب بذلك كتابا يقرأ في حفل من الناس بقوله: «يا أمير المؤمنين، إن العامة لا تحتمل هذا، ولا سيما أهل خراسان، ولا تأمن أن تكون لهم نفرة، وإن كانت لم تدر ما عاقبتها، والرأي أن تدع الناس على ما هم عليه، ولا تظهر
3
لهم أنك تميل إلى فرقة من الفرق، فإن ذلك أصلح في السياسة، وأحرى في التدبير.» نظن أن الذي يفعل ذلك هو من أحرص الناس.
هذا كله كان في الفترة التي كان فيها متصلا بمناصب الدولة أو على أمل الاتصال بها، أما بعد أن سخط عليه المأمون وأقصاه من مناصب الدولة، وأوصى إلى المعتصم بأن يتدرع بالحذر منه ومن أمثاله، فقد ظهر يحيى بن أكثم معارضا عنيفا لبدعة خلق القرآن، ومن هنا نميل إلى أن نفترض أن الجملة التي رواها ابن خلكان صحيحة النسبة إليه، وأنها من آثاره بعد غضب المأمون عليه.
أدبه
ذكر أن يحيى بن أكثم كان فقيها بصيرا بالأحكام، راويا للحديث، آخذا من كل فن بطرف، ويظهر أن حظه من الأدب الإنشائي لم يكن كحظه من غيره، فإنه لم يؤثر عنه في المصادر التي بين أيدينا من القطع الرائعة النثرية أو الشعرية إلا أبيات من الشعر نسبت إليه في الغزل بالمذكر ، من ذلك ما عزي إليه حين دخل عليه ابنا مسعدة، وكانا في نهاية الجمال، وكانا كلما يمشيان في الصحن أنشد قوله:
يا زائرينا من الخيام
حياكم الله بالسلام
لم تأتياني وبي نهوض
إلى حلال ولا حرام
يحزنني أن وقفتما بي
وليس عندي سوى الكلام
ويقال: إن هذه الأبيات كانت سببا لعزله كما قدمنا.
ومما ينسب إليه من الشعر قوله في غلام جميل كان يكتب بين يديه، فقرص القاضي خده، فخجل الغلام وطرح القلم من يده، فأملى عليه هذه الأبيات:
أيا قمرا جمشته فتغضبا
وأصبح لي من تيهه متجنبا
إذا كنت للتجميش والعض كارها
فكن أبدا يا سيدي متنقبا
ولا تظهر الأصداغ للناس فتنة
وتجعل منها فوق خديك عقربا
فتقتل مسكينا وتفتن ناسكا
وتترك قاضي المسلمين معذبا
وقيل: إن هذه الأبيات قالها في الحسن بن وهب وهو صبي، وقد لاعبه وجمشه فغضب الحسن.
أخلاقه
حسبنا أن نذكر لك دلالة على ما لهذا الرجل من فطنة وحزم وتدبير وحسن سياسة أنه تملك قلب المأمون، الذي قدمنا لك عنه ما قدمنا، حتى غلب عليه دون الناس جميعا، وكان مع ذلك مهيبا، خفيف الروح، سليط اللسان، قوي القلب، سريع الخاطر، وحسبك دلالة على قوة قلبه وسرعة خاطره ما روي من أن المأمون قال له معرضا به: من الذي يقول:
قاض يرى الحد في الزناء ولا
يرى على من يلوط من باس؟
قال: أوما يعرف أمير المؤمنين من القائل؟ قال: لا، قال: يقوله الفاجر أحمد بن أبي نعيم الذي يقول:
لا أحسب الجور ينقضي وعلى ال
أمة وال من آل عباس
فأفحم المأمون خجلا وقال: ينبغي أن ينفى أحمد بن أبي نعيم إلى السند. وهذان البيتان من قصيدته التي قد ذكرناها في الحياة الأدبية لعصر المأمون.
وقد جعل العلماء مقارنة بين أحمد بن أبي دواد ويحيى بن أكثم في أخلاقهما وآرائهما ونفوذهما لدى الملوك، فيقال: إن كليهما غلب على سلطانه في عصره، ووصفهما بعض البلغاء وقد سئل عن أيهما أنبل فقال: كان أحمد يجد مع جاريته وابنته، ويحيى يهزل مع خصمه وعدوه.
سيرته
أما سيرته فلم نر رجلا في مركزه الديني والاجتماعي حامت حوله الريب والإشاعات مثلما حامت حول هذا القاضي، ومع هذه الريب والإشاعات فقد كان مرعي الجانب، موفور الكرامة، ويظهر أن جل الناس حتى أخص أصدقائه به كانوا يجنحون إلى تصديق هذه الإشاعات، إلا أئمة الدين، فقد كانوا يكبرونه وينكرون أن يكون لهذه الإشاعات ظل من الحق، فقد سئل أحمد بن حنبل عن هذه الإشاعات فأنكرها إنكارا.
ولعل الذي يفسر موقف رجال الدين منه هذا الموقف وإنكارهم ما ينسب إليه من إشاعات موقف يحيى من المأمون يوم «المتعة» وغير يوم المتعة، مما جعله في نظرهم بطلا من أبطال الدين، وخليقا بمثله أن يكون بنجوة من كل منكر.
أما يحيى نفسه، فيحدثنا ابن خلكان نقلا عن ابن الأنباري، أنه قال لرجل كان يأنس له ويمازحه: ما تسمع الناس يقولون في؟ قال: ما أسمع إلا خيرا، قال: ما أسألك لتزكيني، قال: أسمعهم يرمون القاضي ... قال: فضحك، وقال: اللهم غفرا المشهور عنا غير هذا.
ويقال: إن المأمون لما تواترت هذه الإشاعات أراد أن يمتحنه فأخلى له مجلسا واستدعاه، وكان قد أسر إلى غلام خزري أن يكون في خدمتهما وحده حتى إذا خرج المأمون عابث القاضي، فلما استقر بهم المقام وخرج المأمون أخذ الغلام يعابث القاضي، فسمع المأمون - وكان يستمع حديثهما - القاضي يقول: «لولا أنتم لكنا مؤمنين»، فدخل عليهما منشدا قول أبي حكيمة راشد بن إسحاق الكاتب:
وكنا نرجي أن نرى العدل ظاهرا
فأعقبنا بعد الرجاء قنوط
متى تصلح الدنيا ويصلح أهلها
وقاضي قضاة المسلمين يلوط
وقد قلنا: إن أخص أصدقائه به كان يجنح إلى تصديق هذه الإشاعات، فقد قيل: إن صديقه أبا عبد الله الحسين بن عبد الله بن سعيد اشتهى بعد أن مات يحيى أن يراه في المنام ليعلم ما فعل الله به، فأوحت إليه الأحلام أن الله غفر له بعد أن وبخه على تخليطه، وأن يحيى حاج ربه بالحديث المشهور: «إني لأستحي أن أعذب ذا شيبة بالنار.» فهل يستوحي الأحلام ليعلم ما فعل الله بصديقه من يعتقد براءته؟
تآليفه
يحدثنا المؤرخون أن يحيى بن أكثم ألف كتبا في الفقه، وأخرى في الأصول، وله كتاب أورده على العراقيين أصحاب أبي حنيفة سماه «كتاب التنبيه». وهذا يؤيد ما قاله الدارقطني من أنه كان من أصحاب الشافعي. (7) إسحاق بن إبراهيم الموصلي
قد يكون حظ المغنين وأهل الموسيقى المسلمين من عناية المؤرخين في العصور الإسلامية أكثر من حظ غيرهم، وقد عني المؤرخون بتسجيل حوادثهم وألحانهم وإيقاعاتهم، وما كان يقع بينهم من خلاف منشؤه المنافسة والحسد، أو التقرب إلى ذوي السلطان، وما كان يتفق لهم من مفاكهات لطيفة، ونكات طريفة. وهذه العناية ظاهرة من الكتب الكثيرة التي أرصدت لهذه الناحية من تاريخ الحضارة الإسلامية، وقد عبث الدهر بجل هذه الكتب ولم يبق منها إلا القليل، وعلى رأس هذا القليل الباقي - وهو الحجة في هذا الموضوع - كتاب «الأغاني» لأبي الفرج الأصفهاني.
وقبل أن نعرض للكلام على إسحاق وتفصيل حياته، نقرر أننا عاجزون كل العجز عن أن نجلو الناحية الفنية من شخصيته، فإن جلاء هذه الناحية وكشفها لا يتسق إلا لرجل أوتي حظا كبيرا من الموسيقى، يستطيع به أن يقدر مواهب أهل الفن وما وفقوا إليه من إجادة، ونرجو أن يتاح لإسحاق من يتوافر له هذا الحظ، فيجلو لنا شخصيته الفنية، ومبلغ المدى الذي قطعه في سبيل الكمال الموسيقي، كما أتيح «لبتهوفن» وغير «بتهوفن» من أصحاب المواهب الكبيرة في الموسيقى من أبرز شخصياتهم الفنية للناس، وأبان ما لعبقرياتهم من آيات خالدات في الفن.
ولن يستطيع أحد مهما أوتي من مواهب واتخذ من أسباب أن يجلو شخصية إسحاق الفنية ما بقيت مصطلحات الموسيقى العربية مغلقة لم تفتح، وما بقيت تعاليمها ألغازا لم تحل.
وإذ كان هذا هو موقفنا من الناحية الفنية إزاء شخصية إسحاق، فلنكن مؤرخين ليس غير، نورد لك الحوادث كما رواها المؤرخون مع تحليل ما نوفق إلى تحليله من أخلاقه وأعماله فنقول: هو أبو محمد إسحاق بن إبراهيم بن ميمون بن بهمن بن نسك، ووالده إبراهيم وهو ماهان، وسبب نسبته إلى ميمون أنه كتب كتابا إلى صديق له فعنونه: من إبراهيم بن ماهان ... فقال بعض إخوانه من فتيان الكوفة: أما تستحي من هذا الاسم؟ قال: هو اسم أبي، قال: فغيره، قال: فكيف أغيره؟ فأخذ الفتى الكوفي الكتاب فمحا ماهان وكتب ميمونا، فصار من ذلك الحين إبراهيم بن ميمون.
وأصل أسرة إسحاق من فارس، من بيت شريف في العجم، كان هرب جده ماهان من جور بعض عمال بني أمية لخراج طولب بأدائه، فنزل الكوفة، وأم إبراهيم والد إسحاق من بنات الدهاقين الذين هربوا كما هرب ماهان، وتزوجها ماهان بالكوفة، فولدت له إبراهيم ثم مات وسن إبراهيم سنتان أو ثلاث، فكفل إبراهيم آل خزيمة بن خازم، ومن هذا صار ولاؤه إلى تميم.
وقد سأل الرشيد إبراهيم عن السبب بينه وبين تميم، فقال له: ربونا يا أمير المؤمنين فأحسنوا تربيتنا، ونشأت فيهم، وكان بيننا وبينهم رضاع فتولونا بهذا السبب. وقال إسحاق يفتخر بأصله وبيته وكافلي أبيه:
إذا كانت الأشراف أصلي ومنصبي
ودافع ضيمي حازم وابن خازم
عطست بأنف شامخ وتناولت
يداي الثريا قاعدا غير قائم
وسبب قولهم: الموصلي أنه لما اشتد إبراهيم وأدرك صحب الفتيان واشتهى الغناء وطلبه، فاشتد أخواله عليه في ذلك وبلغوا منه، فهرب إلى الموصل وأقام بها سنة، فلما رجع إلى الكوفة قال له إخوانه من الفتيان: مرحبا بالفتى الموصلي، فغلبت عليه.
ثم ما زال إبراهيم يأخذ بأسباب الغناء حتى حذقه، واتصل بأحد عمال المهدي، ثم بلغ المهدي أمره فطلبه إليه، وبقي بعد ذلك متصلا بالخلفاء ورجالات الدولة حتى توفي في عهد الرشيد سنة 188ه.
أما ابنه إسحاق الذي عقدنا هذا الفصل لتحليل شخصيته وللكشف عن مواهبه وأخلاقه، فولد سنة 150ه ولم يظهر شأنه وتتم منزلته إلا في أيام الرشيد، ثم أخذ نجمه يتألق في سماء الخلافة العباسية أيام الرشيد والأمين والمأمون والمعتصم والواثق، ثم توفي سنة 235ه في صدر أيام المتوكل، وكان يحل من هؤلاء الخلفاء جميعا بموضع العطف والتجلة، وسنذكر شيئا من صلته بكل خليفة، وما كان يغدقه عليه كل خليفة من عطف ومال.
نشأته
كان حظ إسحاق من وسائل التهذيب والتثقيف خيرا من حظ والده إبراهيم، فإن والده نشأ يتيما فكفله غير أبيه، حتى إذا شب وترعرع وظهر ميله إلى نوع خاص من الفنون لم يجد من القائمين بأمره ومن لهم سلطان عليه من يقدر استعداده الفطري، ونزعاته النفسية، حتى اضطر - من إلحاح ضغط أخواله عليه، ومطالبتهم إياه أن يترك الغناء، وألا يأخذ في شيء من أسباب الموسيقى - أن يهيم على وجهه في الأرض، في سبيل تحقيق ما تميل إليه نفسه، ويهيئه له استعداده.
أما إسحاق فقد نشأ في بيت أبيه، وشب وترعرع بعينه،
4
وقد وجد من أبيه الذي فهم الحياة ولذعته آلامها من يهتم بتثقيفه، ويحترم نزعاته الفطرية وميوله النفسية. وإسحاق يعد ابن رجل أثير عند الخلفاء، مقدم لدى رجالات الدولة، وفي وفرة من الثراء وحظ عظيم من الترف، مما يصله به الخلفاء وغير الخلفاء، فاستطاع إسحاق لجاه أبيه وماله أن يختلف إلى جلة العلماء وكبار رجال الفن، وأن يرتاد خير البيئات والأوساط التي لا يقل أثرها في تهذيب النفوس عن أثر التعليم، وقد كان من حظ الموسيقى والآداب أن تتهيأ الأسباب وتستوى الوسائل لرجلها الفذ ونابغتها العظيم.
ويحدثنا إسحاق عن شيء من تربيته وتثقيفه فيقول: «أقمت دهرا أغلس كل يوم إلى هشيم، فأسمع منه ثم أصير إلى الكسائي أو إلى الفراء فأقرأ عليه جزءا من القرآن، ثم أتي منصور زلزل، فيضاربني طريقتين أو ثلاثا، ثم آتي عاتكة بنت شهدة فآخذ منها صوتا أو صوتين، ثم آتي الأصمعي وأبا عبيدة فأناشدهما وأحادثهما وأستفيد منها، ثم أصير إلى أبي فأعلمه بما صنعت وأخذت، وأتغدى معه وأروح معه عشاء إلى أمير المؤمنين.»
فأنت ترى من حديث إسحاق عن فترة من فترات نشأته وتثقيفه أنه كان يختلف كل يوم إلى رجال الحديث، ثم رجال القرآن والنحو، ثم أهل الفن الضاربين على الآلات والملحنين، ثم يذهب بعد ذلك إلى أهل الأدب والرواية، فيناشدهم ويحادثهم، ويستفيد منهم، ثم يجتمع بأبيه بعد ذلك كله يخبره بما صنع وأخذ، حتى إذا جاء المساء ذهب مع أبيه إلى دار الخلافة، وهي - أيدك الله - خير منتدى لرجال العلم والأدب والسياسة في الدولة.
هذه التربية المنظمة والبيئات الراقية أخرجت من طفل إبراهيم الموصلي - ذلك الطفل الذكي النشيط - رجلا يصفه صاحب الأغاني بقوله: «موضعه من العلم، ومكانه من الأدب، ومحله من الرواية ، وتقدمه في الشعر، ومنزلته في سائر المحاسن أشهر من أن يدل عليها بوصف، وسترى في مطاوي ما نورده عليك من أحاديثه ونوادره أنه ما عالج علما من العلوم أو فنا من الفنون إلا برع فيه وبرز.»
فأما الغناء، فحدثنا أبو الفرج صاحب الأغاني أنه كان أصغر علومه، وأدنى ما يوسم به، وإن كان الغالب عليه وعلى ما كان يحسنه، فإنه كان له في سائر أدواته نظراء وأكفاء، ولم يكن له في هذا نظير لحق بمن مضى فيه، وسبق من قد بقي، وسهل طريق الغناء وأنارها، فهو إمام أهل صناعته جميعا، وقدوتهم ورأسهم ومعلمهم، يعرف ذلك منه الخاص والعام، ويشهد له الموافق والمفارق، على أنه كان أكره الناس للغناء وأشدهم بغضا له، لئلا يدعى عليه ويسمى به.
وهذه الجملة الأخيرة، وهي أنه كان من أكره الناس للغناء ... إلخ، تدلنا بوضوح على نفسية إسحاق ومطامحه من جهة، وعلى ما كان للمغنين وأهل الموسيقى عامة من قيمة ومنزلة من جهة أخرى، كما تدلنا على أن المغنين وأهل الموسيقى كانت منزلتهم مهما نالوا من حظوة لدى الخلفاء وأرباب السلطان دون منزلة الرواة وأهل الأدب، من الفقهاء ورجال الحديث، وتدلنا أيضا على أن إسحاق كان عالي النفس، بعيد الهمة، يكره أن يتصل بفن يقعد به دون ما هو خليق به من منزلة ومكانة، وماذا يصنع إسحاق وقد أوتي موهبة لم يؤتها أحد غيره، وهي موهبة تأبى إلا أن تعلن نفسها، كما يعلن الزهر نفسه بأرجه، والقمري بهديله؟ وماذا يجدي عليه كرهه للغناء وبغضه له وقد يطالبه به من لا يرى سبيلا إلى مخالفته؟
ولقد كان إسحاق في كراهيته للغناء صادق الشعور، صادق الحس، فإنه لم يحل بين المأمون وبين أن يوليه أسمى المناصب إلا شهرته بالغناء؛ إذ يقول المأمون: «لولا ما سبق لإسحاق على ألسنة الناس وشهرته عندهم بالغناء لوليته القضاء بحضرتي، فإنه أولى به وأعف وأصدق، وأكثر دينا وأمانة من هؤلاء القضاة.» وقد يكون من حق إسحاق أن يكره الغناء ويألم لاتصاله به؛ إذ يرى المناصب السامية في الدولة يتبوؤها قوم هم دونه فيما وصلوا إليها به، وهم وصلوا إليها بالعلم، وقد كان هو عالما بالفقه والحديث وعلم الكلام، وباللغة والشعر وأخبار الشعراء وأيام الناس، وكان لا يدع فرصة دون أن يعلن سخطه وما ناله من ظلم، فقد حدثنا ابن خلكان أن محمد بن عطية العطوي الشاعر قال: كنت في مجلس القاضي يحيى بن أكثم، فوافى إسحاق بن إبراهيم الموصلي، وأخذ يناظر أهل الكلام حتى انتصف منهم، ثم تكلم في الفقه فأحسن، وقاس واحتج، وتكلم في الشعر واللغة ففاق من حضر، ثم أقبل على القاضي يحيى فقال: أعز الله القاضي، أفي شيء مما ناظرت فيه وحكيته نقض أو مطعن، قال: لا، قال: فما بالي أقوم بسائر هذه العلوم قيام أهلها وأنتسب إلى فن واحد قد اقتصر الناس عليه، يعني الغناء؟ قال العطوي: فالتفت إلي القاضي يحيى وقال لي: الجواب في هذا عليك - وكان العطوي من أهل الجدل - فقال للقاضي يحيى: نعم، أعز الله القاضي، الجواب علي. ثم أقبل على إسحاق فقال: يا أبا محمد، أنت كالفراء والأخفش في النحو؟ فقال: لا، فقال: أنت في اللغة ومعرفة الشعر كالأصمعي وأبي عبيدة؟ قال: لا، قال: فأنت في علم الكلام كأبي الهذيل العلاف والنظام البلخي؟ قال: لا، قال: فأنت في الفقه كالقاضي - وأشار إلى القاضي يحيى؟ فقال: لا، قال: فأنت في قول الشعر كأبي العتاهية وأبي نواس؟ قال: لا، قال: فمن ها هنا نسبت إلى ما نسبت إليه؛ لأنه لا نظير لك فيه، وأنت في غيره دون رؤساء أهله. فضحك وقام وانصرف ، فقال القاضي يحيى للعطوي: لقد وفيت الحجة حقها، وفيها ظلم قليل لإسحاق، وإنه ممن يقل في الزمان نظيره. ا.ه.
ومهما يكن من شيء فقد اشتهر إسحاق بالغناء دون غيره مما كان يحسنه من سائر العلوم، وقد كان إسحاق مع ذكائه وعلمه، وعلو نفسه، وبعد همته، مهيبا كريما، جم الأدب، عفيف اللسان.
أما عن كرمه فيروي لنا صاحب الأغاني أنه كان يجري على أبي عبد الله الأعرابي في كل سنة ثلاثمائة دينار، وأن ابن الأعرابي هذا وقف على المدائني يوما فقال له المدائني: إلى أين يا أبا عبد الله؟ فقال: أمضي إلى رجل هو كما قال الشاعر:
نرمي بأشباحنا إلى ملك
نأخذ من ماله ومن أدبه
قال: ومن ذلك؟ قال: إسحاق بن إبراهيم!
وإنا نسوق إليك قصة أخرى، وهي مع دلالتها على شغف إسحاق بالعلم والحرص على استثباته تدل أيضا على سخاء نفسه وكرمه.
قال إسحاق: جئت يوما إلى أبي معاوية الضرير ومعي مائة حديث، فوجدت حاجبه يؤمئذ رجلا ضريرا، فقال لي: إن أبا معاوية قد ولاني حجابته لينفعني، فقلت له: معي مائة حديث، وقد جعلت لك مائة درهم إذا قرأتها، فأستأذن لي. فدخلت على أبي معاوية، فلما عرفني دعاه فقال له: أخطأت؛ إنما جعلت لك ذلك على الضعفاء من أصحاب الحديث، فأما أبو محمد وأمثاله فلا، ثم أقبل علي يرغبني في الإحسان إليه، ويذكر ضعفه وعنايته به، فقلت له: احتكم في أمره، فقال: مائة دينار، فأمرت الغلام بإحضارها، وقرأت عليه ما أردت وانصرفت. وهذه القصة تدل على أريحيته إلى جانب دلالتها على علمه.
قال أحمد بن الهيثم: كنت يوما جالسا ب «سر من رأى» عند إخوان لي، وكان طريق إسحاق في مضيه إلى دار الخليفة ورجوعه علينا، فجاءني الغلام يوما وعندي أصدقائي فقال: إسحاق بن إبراهيم الموصلي بالباب، فقلت: يدخل، أوفي الأرض من يستأذن عليه لإسحاق؟! فذهب الغلام يأذن له وبادرت إلى تلقيه، فدخل وجلس منبسطا آنسا، فعرضنا عليه ما عندنا، فأجاب إلى الشراب، فأحضرنا نبيذا مشمسا، فشرب منه ثم قال: أتحبون أن أغنيكم؟ فقلنا: إي والله، أطال الله بقاءك، إنا نحب ذلك، قال: فلم لا تسألونني؟ قلنا: هبناك، قال: فلا تفعلوا، ثم دعا بعود فأحضرناه، فاندفع يغني، فشربنا وطربنا، فلما فرغ قال: أحسنت أم لا؟ فقلنا: بلى والله، جعلنا فداك، لقد أحسنت، قال: فما منعكم أن تقولوا لي أحسنت؟ قلنا: الهيبة والإجلال لك، قال: فلا تفعلوا هذا فيما تستأنفون؛ فإن المغني يحب أن يقال له: أحسنت، ثم غنى:
خليلي هبا نصطبح بسواد
ونرو قلوبا هامهن صوادي
وقولا لساقينا زياد يرقها
فقد هد بعض القوم سقي زياد
فقلت: يا أبا محمد، فمن هو زياد؟ قال: غلامي الواقف على الباب، ادعه يا غلام، فدخل فإذا هو غلام خلاسي،
5
قيمته عشرون دينارا أو نحوها، فقال: أتسألونني عنه، فأعرفكم إياه، وأدخله إليكم، ويخرج كما دخل! وقد سمعتم شعري فيه وغنائي، أشهدكم أنه حر لوجه الله تعالى، وقد زوجته أختي فلانة، فأعينوه على أمره، قال: فلم يخرج حتى أوصلنا إليه عشرين ألف درهم. ولعل في هذه القصة المتقدمة أيضا مقنعا لك بما كان لإسحاق في نفوس الناس من هيبة وكرامة.
منزلة إسحاق في الغناء
قدمنا لك أننا نعترف بالعجز عن أن نجلو الناحية الفنية من حياة إسحاق، وأن ذلك لا يتسق إلا لرجل أوتي من المواهب الفنية حظا عظيما، وقدمنا لك أن إسحاق كان يحسن كثيرا من العلوم إحسانا قل أنه يتسق لغيره، وأنه كان مع إجادته الغناء، وتبريزه فيه، وسبقه أقرانه، يكره أن ينتسب إليه أو يسمى به؛ لأنه كان عالي النفس، بعيد مرامي الهمة، ويرى أن انتسابه إلى الغناء يقصر به عن بلوغ مرامي همته. والآن نقول: إنه كان مع هذا شديد الغيرة على الغناء، كثير الذب عنه، وله العذر، فإن صاحب الفن، أيا كان الفن، لا يجد إلى الصبر سبيلا إذا عبث بفنه العابثون أو تهجم المتهجمون.
وإذا كنا نعترف بالعجز عن أن نجلو الناحية الفنية لإسحاق، فإن ذلك لا يمنعنا من أن ننقل إليك شيئا مما رواه المؤرخون؛ لتعلم ما كان يحيط به من إكبار وإعجاب من الخلفاء، ورجالات الدولة، وأصحاب الفن؛ لنبوغه في فنه، وتبريزه فيه، ولتعلم - أيضا مما كان يبديه من ملاحظات - مبلغ ما كان له من دقة حس، وقوة ذوق، وحدة شعور، وسلامة فطرة.
ويعدو بنا الكلام عن القصد لو أطلقنا لأنفسنا العنان في إيراد كل ما نراه حسنا وظريفا من أحاديث إسحاق ومجالسه، وما كان يتفق له من مفاكهات ونوادر ؛ لذلك نكتفي بإيراد بعض حوادثه مما يتصل بالخلفاء الذين عاشرهم وما كانوا يحيطونه به من عطف ورعاية.
وقدمنا لك أن إسحاق ظهر في عهد الرشيد، وتوفي في صدر أيام المتوكل، فلنذكر لك شيئا من تاريخه ونوادره مع كل خليفة من خلفاء هذه الفترة من العصر العباسي.
أما الرشيد فقد كان يلقبه من إعجابه به بأبي صفوان، ولقبه «إسحاق أبو محمد» كما رأيت، وقد بلغ من إعجابه به أن استأثر به لنفسه، ونهاه عن أن يغني أحدا غيره، ويحدثنا إسحاق عن هذا بقوله: نهاني الرشيد أن أغني أحدا غيره، ثم استوهبني جعفر بن يحيى، وسأله أن يأذن له في أن أغنيه ففعل، واتفقنا يوما عند جعفر وعنده أخوه الفضل، والرشيد يومئذ عقيب علة قد عوفي منها وليس يشرب، فقال لي الفضل: انصرف الليلة حتى أهب لك مائة ألف درهم، فقلت له: إن الرشيد نهاني أن أغني إلا له ولأخيك، وليس يخفى عنه خبري، وأنا متهم بالميل إليكم، ولست أتعرض له ولا أعرضك، فلما نكبهم الرشيد، وقال: إيه يا إسحاق، تركتني بالرقة وجلست ببغداد تغني الفضل بن يحيى! فحلفت بحياته أنني ما جالسته قط إلا علي الحديث والمذاكرة، وأنه ما سمعني قط إلا عند أخيه، وحلفته بتربة المهدي أن يسأل عن هذا في دارهم من نسائهم، فسأل عنه فحدث بمثل ما ذكرته وعرف خبر المائة ألف الدرهم التي بذلها لي ورددتها، فلما دخلت عليه ضحك ثم قال: سألت عن أمرك فعرفته مثلما عرفتني، وقد أمرت لك بمائة ألف درهم عوضا عما بذله لك الفضل.
ويقول الأصمعي: دخلت أنا وإسحاق بن إبراهيم الموصلي يوما على الرشيد، فرأيناه لقس
6
النفس، فأنشده إسحاق:
وآمرة بالبخل قلت لها اقصري
فذلك شيء ما إليه سبيل
أرى الناس خلان الكرام ولا أرى
بخيلا له حتى الممات خليل
وإني رأيت البخل يزري بأهله
فأكرمت نفسي أن يقال بخيل
ومن خير حالات الفتى لو علمته
إذا نال خيرا أن يكون ينيل
فعالى فعال المكثرين تجملا
ومالي كما قد تعلمين قليل
وكيف أخاف الفقر أو أحرم الغنى
ورأي أمير المؤمنين جميل
قال: فقال الرشيد: لا تخف إن شاء الله، ثم قال: لله در أبيات تأتينا بها، ما أشد أصولها، وأحسن فصولها، وأقل فضولها، وأمر له بخمسين ألف درهم، فقال له إسحاق: وصفك والله، يا أمير المؤمنين، أحسن منه، فعلام آخذ الجائزة؟ فضحك الرشيد، وقال: اجعلوها مائة ألف درهم، قال الأصمعي: فعلمت يومئذ أن إسحاق أحذق بصيد الدراهم مني.
وكان من أشد منافسي إسحاق في الغناء إبراهيم بن المهدي أخو الرشيد الذي كان يعتز عليه بجاهه، وبما له من حظ في الفن كبير، ومن أشد الملاحاة التي حدثت بينهما ما كانت في مجلس الرشيد؛ قال إسحاق: كنت عند الرشيد يوما وعنده ندماؤه وخاصته، وفيهم إبراهيم بن المهدي، فقال الرشيد: غن:
أعاذل قد نهيت فما انتهيت
وقد طال العتاب فما ارعويت
أعاذل ما كبرت وفي ملهى
ولو أدركت غايتك انثنيت
شربت مدامة وسقيت أخرى
وراح المنتشون وما انتشيت
فغنيته، فأقبل علي إبراهيم بن المهدي فقال لي: ما أصبت يا إسحاق ولا أحسنت، فقلت له: ليس هذا مما تعرفه ولا تحسنه، وإن شئت فغنه، فإن لم أجدك أنك مخطئ فيه منذ ابتدائك إلى انتهائك، فدمي حلال! ثم أقبلت على الرشيد فقلت: يا أمير المؤمنين، هذه صناعتي، وصناعة أبي، وهي التي قربتنا منك، وأوطأتنا بساطك، فإذا نازعنا أحد بلا علم لم نجد بدا من الإيضاح والذب، فقال: لا لوم عليك، وقام الرشيد ليبول، فأقبل إبراهيم بن المهدي علي وقال لي: ويلك يا إسحاق، أتجترئ علي وتقول ما قلت يا ابن الزانية! فداخلني ما لم أملك نفسي معه، فقلت له: أنت تشتمني ولا أقدر على إجابتك وأنت ابن الخليفة وأخو الخليفة، ولولا ذلك لقلت لك: يا ابن الزانية كما قلت لي يا ابن الزانية، أوتراني لا أحسن أن أقول لك: يا ابن الزانية، ولكن قولي لك ذلك ينصرف إلى خالك، ولولا ذلك لذكرت صناعته ومذهبه - قال: وكان بيطارا - ثم سكت، وعلمت أن إبراهيم سيشكوني إلى الرشيد ، وسوف يسأل من حضر عما جرى، فيخبرونه، فتلافيت ذلك بأن قلت: أنت تظن أن الخلافة لك، فلا تزال تهددني بذلك، وتعاديني كما تعادي سائر أولياء وغلمان أخيك حسدا له ولولده على الأمر، وأنت تضعف عنه وعنهم، وتستخف بأوليائهم تشفيا، وأرجو ألا يخرجها الله تعالى عن الرشيد ولا عن ولده، وأن يقتلك دونها، فإن صارت إليك - والعياذ بالله تعالى - فحرام علي العيش حينئذ، والموت أطيب من الحياة معك، فاصنع حينئذ ما بدا لك.
فلما خرج الرشيد وثب إبراهيم فجلس بين يديه فقال: يا أمير المؤمنين، شتمني وذكر أمي واستخف بي، فغضب الرشيد وقال لي: ويلك ما تقول؟ قلت: لا أعلم، فسل من حضر، فأقبل على مسرور وحسين فسألهما عن القصة، فجعلا يخبرانه ووجهه يتربد إلى أن انتهيا إلى ذكر الخلافة، فسري عنه ورجع لونه، وقال: لا ذنب له، شتمته فعرفك أنه لا يقدر على جوابك، ارجع إلى موضعك، وأمسك عن هذا! فلما انقضى المجلس وانصرف الناس أمر بألا أبرح، وخرج كل من حضر حتى لم يبق غيري، فساء ظني وأوهمتني نفسي، فأقبل علي وقال: يا إسحاق، أتراني لم أفهم قولك ومرادك وقد زينته ثلاث مرات؟ أتراني لا أعرف وقائعك وإقدامك وأين ذهبت؟ ويلك لا تعد! حدثني عنك لو ضربك إبراهيم أكنت أضربه وهو أخي يا جاهل! أتراه لو أمر غلمانه فقتلوك! أكنت أقتله بك؟! فقلت: والله يا أمير المؤمنين، قتلتني بهذا الكلام، وإن بلغه ليقتلني، فما أشك في أن بلغه الآن، فصاح بمسرور وقال: علي بإبراهيم، فأحضر، فقال لي: قم فانصرف.
فقلت لجماعة من الخدم - وكلهم كان له محبا وإلي مائلا ولي مطيعا: أخبروني بما يجري، فأخبروني من غد أنه لما دخل عليه وبخه وجهله وقال له: أتستخف بخادمي وصنيعتي، وابن خادمي وصنيعتي وصنيعة أبي في مجلسي! وتقدم علي وتستخف بمجلسي وحضرتي! هاه هاه! وتقدم على هذا وأمثاله! وأنت ما لك وما للغناء؟ وما يدريك ما هو؟ ومن أخذك به وطارحك إياه حتى تتوهم أنك تبلغ فيه مبلغ إسحاق الذي غذي به وعلمه، وهو من صناعته؟ ثم تظن أنك تخطئه فيما لا تدريه، ويدعوك إلى إقامة الحجة عليه فلا تثبت لذلك وتعتصم بشتمه، هذا مما يدل على السقوط، وضعف العقل، وسوء الأدب، من دخولك فيما لا يشبهك، وغلبة لذتك على مروءتك وشرفك، ثم إظهارك إياه ولم تحكمه، وادعائك ما لا تعلمه حتى ينسبك إلى إفراط الجهل، ألا تعلم أن هذا سوء أدب وقلة معرفة، وعدم مبالاة للخطأ والرد القبيح والتكذيب؟ ثم قال: والله العظيم، وحق رسوله، وإلا فأنا بريء من المهدي إن أصابه أحد بمكروه، أو سقط عليه حجر من السماء، أو وقع من دابته، أو سقطت عليه سقيفة، أو مات فجأة، لأقتلنك به، والله والله وأنت أعلم، قم الآن فاخرج ولا تعرض له. فخرج وقد كاد أن يموت، فلما كان بعد ذلك دخلت عليه وإبراهيم عنده، فجعل ينظر إليه مرة وإلي مرة ويضحك، ثم قال له: إني لأعلم محبتك لإسحاق وميلك إليه وإلى الأخذ عنه، وإن هذا لا يجيئك من جهته كما تريد إلا بعد أن يرضى، والرضا لا يكون بمكروه، ولكن أحسن إليه وأكرمه، واعرف حقه وصله، فإذا فعلت ذلك، وخالف ما تهواه، عاقبته بيد مستطيلة، ولسان منطلق، ثم قال لي: قم الآن إلى مولاك وابن مولاك، فقبل رأسه. فقمت إليه وقام إلي واصطلحنا.
ولعل ما قدمناه لك يعطيك صورة واضحة عما كان لإسحاق من مكانة لدى الرشيد، وما كان للرشيد من حدب عليه وبر به.
أما مكانة إسحاق عند الأمين وبطانته، فإنها لا تقل - أيدك الله - عن مكانته عند الرشيد وبطانة الرشيد، ولا ترى خيرا في الدلالة على هذه المكانة من كلام إسحاق نفسه؛ قال إسحاق: استدناني الأمين يوما وهو مستلق على فراش حتى صارت ركبتي على الفراش، ثم قال: يا إسحاق، أشكو إليك أصحابي، فعلت بفلان كذا ففعل كذا، وفعلت بفلان كذا ففعل كذا، حتى عدد جماعة من خواصه، فقلت له: أنت يا سيدي تتفضل علي وتحسن رأيك في، ظننت أني ممن يشاور في مثل هذا الحديث ، تجاوزت بي حدي ومقداري، وهذا رأي يجل ولا يبلغه قدري، فقال: ولم؟ أنت عندي عالم عاقل ناصح، قلت: هذه المنزلة عند سيدي علمتني ألا أقول إلا ما أعرف، ولا أطلب إلا ما أنال، فضحك وقال: بلغني أنك عملت في هذه الأيام لحنا في شعر الراعي، فلم أسمعه منك، فقلت: يا سيدي، ما سمعه أحد إلا جواري، ولا حضرت عندك منذ صنعته، فقال: غنه، فقلت: الهيبة والصحو يمنعانني من أن أؤديه كما أريد، فلو آنس أمير المؤمنين عبده بشيء يطربه ويقوي طبعه كان أجود، قال: صدقت، ثم أمر بالغداء فتغدينا، وأمر بالستائر فمدت، وغنى من وراءها وشربنا أقداحا، فقال: يا إسحاق، ما جاء أوان الصوت؟ فقلت: بلى يا سيدي، وغنيت في شعر الراعي:
ألم تسأل بعارمة الديارا
عن الحي المفارق أين سارا
بلى ساءلتها فأبت جوابا
وكيف تسائل الدمن القفارا
فاستحسنه وطرب عليه وقال: يا إسحاق، لا تطلب بعد البغية ووجود المنية، وما أشرب بقية يومي إلا على هذا الصوت، ووصلني وخلع علي من ثيابه.
ومما حدث بين الأمين وإسحاق أن الأمين اصطبح ذات يوم، وأمر بالتوجيه إلى إسحاق، فوجه إليه عدة رسل كلهم لا يصادفه، حتى جاء أحدهم به، فجاء منتشيا ومحمد مغضب، فقال له: أين كنت؟ ويلك! قال: أصبحت يا أمير المؤمنين نشيطا، فبكرت إلى بعض المتنزهات، فاستطبت الموضع فأقمت فيه، وسقاني زياد فذكرت أبياتا للأخطل وهو يسقيني، فدارك فيها لحن حسن، فصنعته وقد جئتك به، فتبسم وقال: هاته، فما تزال تأتي بما يرضي عنك عند السخط، فغناه:
إذا ما زياد علني ثم علني
ثلاث زجاجات لهن هدير
خرجت أجر الذيل حتى كأنني
عليك أمير المؤمنين أمير
فقال: بل على أبيك، قبح الله فعلك! فما زال إحسانك في غنائك يمحو إساءتك في فعلك، وأمر له بألف دينار. وأصله قول الأخطل:
إذا ما نديمي علني
وزياد هذا غلام لإسحاق، وقد ذكرنا فيما سبق أنه أعتقه وزوجه من أخته بدافع من أريحيته وأثر الشراب فيه.
أما عبد الله المأمون، فيحدثنا إسحاق عن ناحية من شخصيته، وهي موقفه من الغناء وسماعه، وقد ألمعنا إليها حين عرضنا للكلام عن المنادمة في عصره، ثم نسوق إليك بعد هذا الحديث ما كان لإسحاق من مكانة لدى المأمون أيضا.
قال إسحاق: أقام المأمون بعد قدومه بغداد عشرين شهرا لم يسمع حرفا من الأغاني، ثم كان أول من تغني بحضرته أبو عيسى بن الرشيد، ثم واظب على السماع مستترا متشبها في أول أمره بالرشيد، فأقام على ذلك أربع حجج، ثم ظهر للندماء والمغنين، وكان حين أحب السماع سأل عني، فخرجت بحضرته وقال الطاعن علي: ما يقول أمير المؤمنين في رجل يتيه على الخلافة، وما أبقى من التيه شيئا حتى استعمله؟ فأمسك المأمون عن ذكري وجفاني من كان يصلني لسوء رأيه في، فأضر ذلك بي، حتى جاءني علويه يوما فقال لي: أتأذن لي في ذكرك عند المأمون؛ فإنا قد دعينا اليوم؟ فقلت: لا، ولكن غنه بهذا الشعر؛ فإنه سيبعثه على أن يسألك لمن هذا الشعر، فإذا سألك فتح لك ما تريد، وكان الجواب أسهل عليك من الابتداء، فقال: هات، فألقيت عليه لحني في شعري:
يا سرحة الماء قد سدت موارده
أما إليك طريق غير مسدود
لحائم حام حتى لا حراك به
محلأ عن طريق الماء مطرود
ومضى علويه، فلما استقر به المجلس غناه، فما عدا المأمون أن يسمع الغناء حتى قال: ويحك يا علويه! لمن هذا الشعر؟ قلت: يا سيدي، لعبد من عبيدك جفوته واطرحته بغير جرم، فقال: إسحاق تعني؟ فقلت: نعم، فقال: يحضر الساعة، فجاءني رسوله، فحضرت، فلما دخلت قال: ادن، فدنوت ، ورفع يديه مادهما إلي، فأكببت عليه فاحتضنني بيديه، وأظهر من بري ما لو أظهره صديق مؤانس لصديقه لسره.
7
ثم ما زالت تعظم مكانته عند المأمون حتى سأله يوما أن يكون دخوله مع أهل العلم والأدب والرواة لا مع المغنين، فإذا أراد الغناء غناه، فأجابه إلى ذلك، ثم سأله بعد مدة طويلة أن يأذن له بالدخول مع الفقهاء، فأذن له، فدخل يوما مع يحيى بن أكثم متماسكين، وعلويه ومخارق في حجرة لهما جالسين ينتظران جلوس المأمون، فرأياهما وقد دخلا حتى جلسا بين يدي المأمون، فكاد علويه أن يجن وقال: يا قوم، سمعتم بأعجب من هذا! يدخل قاضي القضاة ويده في يد مغن حتى يجلسا بين يدي الخليفة! ثم مضت مدة فسأل إسحاق المأمون في لبس السواد يوم الجمعة والصلاة معه في المقصورة، فضحك المأمون وقال: ولا كل هذا يا إسحاق! وقد اشتريت منك هذه المسألة بمائة ألف درهم، وأمر له بها. وهذا الخبر يؤيد ما ذكرناه في أول كلامنا على إسحاق من أنه كان يطمح إلى أن يكون في مرتبة غير مرتبة المغنين.
وانظر إلى دقة إحساس إسحاق وقوة ذوقه في تبينه الخطأ في وتر واحد بين ثمانين وترا، وكان ذلك في مجلس المأمون؛ قال إسحاق: دعاني المأمون يوما وعنده إبراهيم بن المهدي، وفي مجلسه عشرون جارية قد أجلس عشرا عن اليمين وعشرا عن يساره، فلما دخلت سمعت من الناحية اليسرى خطأ فأنكرته، فقال المأمون: أسمعت خطأ؟ فقلت: نعم يا أمير المؤمنين، فقال لإبراهيم بن المهدي: هل تسمع خطأ؟ قال: لا، فأعاد علي السؤال، فقلت: بلى يا أمير المؤمنين، فإنه لفي الجانب الأيسر، فأعاد إبراهيم سمعه إلى الناحية اليسرى ثم قال: لا والله يا أمير المؤمنين ما في هذه الناحية خطأ! فقلت: يا أمير المؤمنين، مر الجواري اللائي على اليمين يمسكن، فأمرهن فأمسكن، ثم قلت لإبراهيم: هل تسمع خطأ؟ فتسمع ثم قال: ما ها هنا خطأ، فقلت: يا أمير المؤمنين، يمسكن وتضرب الثامنة، فأمسكن وضربت الثامنة، فعرف إبراهيم الخطأ فقال: نعم يا أمير المؤمنين، ها هنا خطأ؛ فقال المأمون عند ذلك لإبراهيم بن المهدي: لا تمار إسحاق بعدها؛ فإن رجلا عرف الخطأ بين ثمانين وترا وعشرين حلقا لجدير ألا تماريه، قال: صدقت يا أمير المؤمنين - وكان في الأوتار كلها مثنى فاسد التسوية - فطرب المأمون وقال: لله درك يا أبا محمد، فكناني يومئذ.
وخبر آخر يدل على حذق إسحاق بفنه في مجلس آخر للمأمون، قال إسحاق: دخلت على المأمون يوما وعقيد يغنيه مرتجلا وغيره يضرب عليه، فقال: يا إسحاق، كيف تسمع مغنينا هذا؟ فقلت: هل سأل أمير المؤمنين غيري عن هذا؟ فقال: نعم، سألت عمي إبراهيم فقرظه واستحسنه، فقلت: يا أمير المؤمنين - أدام الله سرورك وأطاب عيشك - إن الناس قد أكثروا في أمري حتى نسبتني فرقة إلى التزيد في علمي، قال: فلا يمنعك ذلك من قول الحق إذا لزمك، فقلت لعقيد: اردد الصوت الذي غنيته، فرده وتحفظ فيه وضرب عليه ضاربه، فقلت لإبراهيم بن المهدي: كيف رأيته؟ فقال: ما رأيت شيئا أنكره مما سمعته، فأقبلت على عقيد وقلت له لما استوفاه: في أي طريقة غنيت؟ فقال: في الرمل، فقلت للضارب: في أي طريقة ضربت؟ فقال: في الهزج الثقيل، فقلت: يا أمير المؤمنين، ما عسى أن أقول في صوت يغنيه مغنيه رملا، ويضربه ضاربه هزجا ثقيلا، وليس هو صحيحا في إيقاعه الذي ضرب عليه؟ قال: وتفهمه إبراهيم بن المهدي فقال: صدق يا أمير المؤمنين، والأمر فيه بين! فعجب المأمون من ذلك كيف خفي على كل من حضر.
أما منزلته عند الواثق، فيقول ابن حمدون: سمعت الواثق يقول: ما غناني إسحاق قط إلا ظننت أنه قد زيد في ملكي، ولا سمعته قط يغني غناء ابن سريج إلا ظننت ابن سريح قد نشر، وإني ليحضرني غيره إذا لم يكن حاضرا فيتقدمه عندي بطيب الصوت، حتى إذا اجتمع عندي رأيت إسحاق يعلو، ورأيت من ظننت أنه يتقدمه ينقص، وإن إسحاق لنعمة من نعم الملوك التي لم يحظ أحد بمثلها، ولو أن العمر والشباب والنشاط مما يشترى لاشتريتهن له بشطر ملكي.
أما المتوكل الذي توفي إسحاق في أول عصره، فيحدثنا ابن حمدون أنه سأل عن إسحاق، فعرف أنه كف، وأنه بمنزله ببغداد، فكتب في إحضاره، فلما دخل عليه رفعه حتى أجلسه قدام السرير، وأعطاه مخدة، وقال: بلغني أن المعتصم دفع إليك في أول يوم جلست بين يديه مخدة وقال: إنه لا يستجلب ما عند حر مثل إكرامه، ثم سأله: هل أكل؟ فقال : نعم، فأمر أن يسقى، فلما شرب أقداحا قال: هاتوا لأبي محمد عودا، فجيئ به، فاندفع يغني بشعره:
ما علة الشيخ عيناه بأربعة
تغرورقان بدمع ثم تنسكب
قال ابن حمدون: فما بقي غلام من الغلمان الوقوف إلا وجدته يرقص طربا وهو لا يعلم بما يفعل، فأمر له بمائة ألف درهم، ثم انحدر المتوكل إلى الرقة - وكان يستطيبها لكثرة تغريد الطير فيها - فغناه إسحاق:
أأن هتفت ورقاء في رونق الضحى
على فنن غض النبات من الرند
بكيت كما يبكي الوليد فلم تكن
جليدا وأبديت الذي لم تكن تبدي
فضحك المتوكل ثم قال: يا إسحاق، هذه أخت فعلتك بالواثق لما غنيته بالصالحية:
طربت إلى أصيبية صغار
وذكرني الهوى قرب المزار
فكم أعطاك لما أذن لك في الانصراف؟ قال: مائة ألف دينار. فأمر له بمائة ألف دينار وأذن له بالانصراف.
وإنا لو ذهبنا نذكر لك من أخبار إسحاق وما كان له من نوادر في مجالس الخلفاء وغير مجالس الخلفاء من رجالات الدولة لعدونا حد القصد، وإنما نحيل من يريد التزيد من أمر إسحاق على كتاب الأغاني، ونختم هذا الفصل من أخبار إسحاق بما قاله محمد بن عمران الجرجاني، حين ذكر عنده، قال: كان - والله - إسحاق غرة في زمانه، وواحدا في عصره، علما وفهما وأدبا ووقارا، وجودة رأي، وصحة مودة، وكان والله يخرس الناطق إذا نطق، ويحير السامع إذا تحدث، لا يمل جليسه في مجلسه، ولا تمج الآذان حديثه، ولا تنبو النفس عن مطاولته، إن حدثك ألهاك، وإن ناظرك أفادك، وإن غناك أطربك، وما كانت خصلة من الأدب ولا جنس من العلم يتكلم فيه إسحاق فيقدم أحد على مساجلته أو مناوأته فيه.
قال إسحاق بن إبراهيم: رأيت في منامي جريرا جالسا ينشد وأنا أسمع، فلما فرغ أخذ كبة من شعري فألقاها في في فابتلعتها، فأول ذلك بعض من ذكرته له أنه ورثني الشعر، قال زيد بن محمد المهلبي: وكذلك كان، لقد مات إسحاق وهو أشعر أهل زمانه.
وقال أبو الفرج الأصفهاني: وكان إسحاق جيد الشعر ، كان يقول وينسبه للعرب، فمن ذلك قوله:
لفظ الخدور عليك حورا عينا
أنسين ما جمع الكناس قطينا
فإذا بسمن فعن كمثل غمامة
أو أقحوان الرمل بات معينا
وأصح ما رأت العيون محاجرا
ولهن أمرض ما رأيت عيونا
فكأنما تلك الوجوه أهلة
أقمرن بين العشر والعشرينا
وكأنهن إذا نهضن لحاجة
ينهض بالعقدات من يبرينا
وأشعاره في هذا النوع كثيرة، ولعل الذي كان يدفع أولئك الشعراء إلى أن ينسبوا خير ما تجود به قرائحهم إلى العرب الجاهلين أو أعراب الصحراء روح ذلك العصر، وأنها كانت روحا تميل إلى القديم، ولا سيما إذا زين هذا القديم بإطار من خيال الرواة والقصاصين، ويظهر أن ما كانوا يظفرون به رواة للشعر العربي أكثر مما كانوا يظفرون به شعراء مجيدين، وإلا فهل يتصور أن ينسب المرء نتاج قريحته إلى غيره ما لم يكن ثمن ذلك عظيما؟
ومن شعر إسحاق ما اعتذر به إلى الواثق حين عتب عليه في تأخره عنه، وهو قوله:
أشكو إلى الله بعدي عن خليفته
وما أعالج من سقم ومن كبر
لا أستطيع رحيلا إن هممت به
إليه يوما ولا أقوى على السفر
أنوي إليه رحيلا ثم يمنعني
ما أحدث الدهر والأيام في بصري
ومن شعره أيضا عند علو سنه:
سلام على سير القلاص من الركب
ووصل الغواني والمدامة والشرب
سلام امرئ لم يبق منه بقية
سوى نظر العينين أو شهوة القلب
ومن جيد شعر إسحاق ما كان يستحسنه ابن الأعرابي ويعجب به أيما إعجاب، وهو قوله:
هل إلى أن تنام عيني سبيل
إن عهدي بالنوم عهد طويل
غاب عني من لا أسمي فعيني
كل يوم وجدا عليه تسيل
إن ما قل منك يكثر عندي
وكثير ممن تحب القليل
وكان إسحاق إذا غنى هذه الأبيات تفيض عيناه، ولما سئل عن بكائه أجاب: تعشقت جارية فقلت لها هذه الأبيات، ثم ملكتها، فكنت مشغوفا بها، حتى كبرت واعتلت عيني، فإذا غنيت هذا الشعر ذكرت أيامي المتقدمة، وأنا أبكي على دهري الذي كنت فيه.
وقال إسحاق : أنشدت الأصمعي الأبيات الثلاثة فجعل يعجب بها ويرددها، فقلت له: إنها بنت ليلتها، فقال: لا جرم أن أثر التوليد فيها ظاهر، فقال إسحاق: ولا جرم أن أثر الحسد فيك ظاهر! ولعل هذا هو سبب الجفوة التي كانت بين إسحاق والأصمعي.
فإن ابن منظور يروي لنا في مختصره، أن إسحاق كان يأخذ عن الأصمعي ويذكر عنه الروايات، ثم فسد ما بينهما، فهجاه إسحاق وثلبه، وذكر عند الرشيد أنه قليل الشكر، بخيل، ساقط النفس، لا تزكو الصنيعة عنده، وذكر له أبا عبيدة معمر بن المثنى بالثقة والصدق والسماحة، واشتماله على جميع علوم العرب، وفعل مثل ذلك عند الفضل بن الربيع، ولم يزل بهما حتى وضع منزلة الأصمعي عندهما، ثم أنفذا إلى أبي عبيدة مالا جليلا واستقدماه، فكان إسحاق سبب ذلك.
وكان إسحاق قليل الهجو، فإذا هجا رأيت في هجوه عفة اللسان، وجمال التعريض، ونريد أن نذكر لك من هذا الباب قوله في أحمد بن هشام، وكان إسحاق يألف أحمد هذا وأخاه عليا وسائر أهله إلفا شديدا، فوقعت بينهم نبوة ووحشة فهجاهم، وهذا مما قاله في أحمد:
وصافية تعشي العيون رقيقة
رهينة عام في الدنان وعام
أدرنا بها الكأس الروية موهنا
من الليل حتى انجاب كل ظلام
فما ذر قرن الشمس حتى كأننا
من العي نحكي أحمد بن هشام
ويقال إن أحمد سأله: ما ذنبي؟ فقال: لأنك قعدت على طريق القافية ...!
وكان إسحاق يسأل الله ألا يبتليه بالقولنج لما رأي من صعوبته على أبيه، فرأى في منامه كأن قائلا يقول: قد أجيبت دعوتك، ولست تموت بالقولنج، ولكنك تموت بضده، ثم أصابه ذرب في شهر رمضان سنة 235ه، فكان يتصدق في كل يوم يمكنه صومه بمائه درهم، ثم ضعف عن الصوم فلم يطقه ومات في الشهر.
ولما نعى إلى المتوكل غمه وحزن عليه وقال: ذهب صدر عظيم من جمال الملك وبهائه وزينته!
مؤلفاته
علمت مما أوردناه لك في الكلام على إسحاق أنه كان يحسن كل ما كان عالجه من العلوم إحسانا قل أن يستوي لغيره ، ولكنه قصر تأليفه على ما قصرته عليه وظيفته وعمله، فألف في الأغاني والإيقاع والنغم، وآداب الشراب، والندماء والمنادمات، وأخبار الشعراء، وأهل الفن من المغنين والمغنيات، فمن مؤلفاته: كتاب الأغاني الكبير، وكتاب اللحظ والإشارات، وكتاب الرقص والزفن، وكتاب النغم والإيقاع، وكتاب الندماء والمنادمات، وله مؤلفات عمن سبقه من أهل الفن رجالا ونساء، أمثال: معبد، وابن مسجح، وعزة الميلاء وغيرهم، وله أيضا كتاب الهذليين، وكتاب تفضيل الشعر، وكتاب أخبار ذي الرمة، وكتاب جواهر الكلام، وله كتاب منادمة الإخوان وتسامر الخلان، وكتاب القيان، وغير ذلك مما ينطق بعلو كعبه في شتى الفنون، ويشهد بأنه دائرة معارف عامة.
هوامش
المجلد الثاني
ملحق الكتاب الأول
باب المنثور
ذكرنا في مقدمة المجلد الأول من «عصر المأمون» أننا قسمنا المجلد الثاني إلى ملحقات للكتب الثلاثة عن العصور الثلاثة، وعنينا عناية خاصة إلى جانب ذلك بذكر جملة صالحة من آثار كاتب خاص وشاعر خاص لتمثيل عصرهما. واتخذنا من عبد الحميد الكاتب وعمر بن أبي ربيعة أنموذجا أمويا، ومن أبي الربيع محمد بن الليث وبشار بن برد مثالا عباسيا، ومن عمرو بن مسعدة وأبي نواس نموذجا لتصوير الحياة الكتابية والشعرية في عصر الأمين والمأمون، إلى غير ذلك من النماذج والآثار مما يستدعيه المقام، وقد أوردناها من غير أن نعرض لها بتحليل أو بيان - اللهم إلا تفسير بعض ألفاظها الغريبة وشرح كلماتها الغامضة - فهي في وضوحها ودلالتها على ما أردنا من إيرادها غير محتاجة إلى شيء. وها نحن أولاء نذكر ما وعدناك به. (1) رسالتا أبي بكر وعلي
قال
1
أبو حيان علي بن محمد التوحيدي البغدادي: سمرنا ليلة عند القاضي أبي حامد أحمد بن بشر المروروذي ببغداد، فتصرف في الحديث كل متصرف؛ وكان غزير الرواية، لطيف الدراية، فجرى حديث السقيفة، فركب كل مركبا، وقال قولا، وعرض بشيء، ونزع إلى فن. فقال: هل فيكم من يحفظ رسالة لأبي بكر
2
الصديق، رضي الله عنه، إلى علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، وجواب علي عنها، ومبايعته إياه عقيب تلك المناظرة؟ فقال الجماعة لا والله؛ فقال: هي والله من بنات الحقائق، ومخبآت الصنادق، ومنذ حفظتها ما رويتها إلا لأبي محمد المهلبي في وزارته، فكتبها عني بيده. وقال: لا أعرف رسالة أعقل منها ولا أبين؛ وإنها لتدل على علم وحلم، وفصاحة ونباهة، وبعد غور، وشدة غوص. فقال له العباداني: أيها القاضي، فلو أتممت المنة علينا بروايتها! أسمعناها، فنحن أوعى لك من المهلبي، وأوجب ذماما عليك؛ فاندفع وقال: حدثنا الخزاعي بمكة عن أبي ميسرة، قال حدثنا محمد بن أبي فليح عن عيسى بن دوأب بن المتاح، قال سمعت مولاي أبا عبيدة يقول: لما استقامت الخلافة لأبي بكر رضي الله عنه بين المهاجرين والأنصار، بعد فتنة كاد الشيطان بها، فدفع الله شرها ويسر خيرها، بلغ أبا بكر عن علي تلكؤ وشماس،
3
وتهمم
4
ونفاس،
5
فكره أن يتمادى الحال فتبدو العورة، وتشتعل الجمرة، وتتفرق ذات البين؛ فدعاني بحضرته في خلوة، وكان عنده عمر ابن الخطاب رضي الله عنه وحده، فقال: يا أبا عبيدة، ما أيمن ناصيتك، وأبين الخير بين عينيك، وطالما أعز الله بك الإسلام وأصلح شأنه على يديك، ولقد كنت من رسول الله
صلى الله عليه وسلم
بالمكان المحوط، والمحل المغبوط؛ ولقد قال فيك في يوم مشهود: «لكل أمة أمين وأمين هذه الأمة أبو عبيدة»، ولم تزل للدين ملتجا، وللمؤمنين مرتجى؛ ولأهلك ركنا، ولإخوانك ردءا. قد أردتك لأمر خطره مخوف، وإصلاحه من أعظم المعروف، ولئن لم يندمل جرحه بيسارك ورفقك، ولم تجب
6
حيته برقيتك، وقع اليأس، وأعضل البأس؛ واحتيج بعد ذلك إلى ما هو أمر منه وأعلق، وأعسر منه وأغلق؛ والله أسأل تمامه بك، ونظامه على يديك. فتأت
7
له أبا عبيدة وتلطف فيه، وانصح لله عز وجل ولرسوله
صلى الله عليه وسلم ، ولهذه العصابة غير آل جهدا، ولا قال حمدا، والله كالئك وناصرك، وهاديك ومبصرك، إن شاء الله.
امض إلى علي واخفض له جناحك، واغضض عنده صوتك، واعلم أنه سلالة أبي طالب، ومكانه ممن فقدناه بالأمس
صلى الله عليه وسلم
مكانه، وقل له: البحر مغرقة، والبر مفرقة، والجو أكلف،
8
والليل أغدف،
9
والسماء جلواء،
10
والأرض صلعاء،
11
والصعود متعذر، والهبوط متعسر، والحق عطوف رءوف، والباطل عنوف عسوف، والعجب قداحة الشر، والضغن رائد البوار، والتعريض شجار الفتنة، والقحة ثقوب العدواة، وهذا الشيطان متكئ على شماله، متحيل بيمينه، نافخ حضنيه
12
لأهله، ينتظر الشتات والفرقة، ويدب بين الأمة بالشحناء والعداوة، عنادا لله عز وجل أولا، ولآدم ثانيا، ولنبيه
صلى الله عليه وسلم
ودينه ثالثا، يوسوس بالفجور، ويدلي بالغرور، ويمني أهل الشرور. يوحي إلى أوليائه زخرف القول غرورا بالباطل، دأبا له منذ كان على عهد أبينا آدم
صلى الله عليه وسلم ، وعادة له منذ أهانه الله تعالى في سالف الدهر، لا منجى منه إلا بعض الناجذ على الحق، وغض الطرف عن الباطل، ووطء هامة عدو الله بالأشد فالأشد، والآكد فالآكد، وإسلام النفس لله عز وجل في ابتغاء رضاه. ولا بد الآن من قول ينفع إذا ضر السكوت وخيف غبه؛ ولقد أرشدك من أفاء
13
ضالتك، وصافاك من أحيا مودته بعتابك، وأراد لك الخير من آثر البقاء معك؛ ما هذا الذي تسول لك نفسك، ويدوى به قلبك، ويلتوي عليك رأيك، ويتخاوص
14
دونه طرفك، ويسري فيه ظعنك، ويتراد معه نفسك، وتكثر عنده صعداؤك، ولا يفيض به لسانك، أعجمة بعد إفصاح! أتلبيس بعد إيضاح! أدين غير دين الله! أخلق غير خلق القرآن! أهدي غير هدي النبي
صلى الله عليه وسلم ! أمثلي «تمشي
15
له الضراء وتدب له الخمر!» أم مثلك ينقبض عليه الفضاء، ويكسف في عينه القمر! ما هذه القعقعة بالشنان!
16
وما هذه الوعوعة باللسان! إنك والله جد عارف باستجابتنا لله عز وجل ولرسوله
صلى الله عليه وسلم ، وبخروجنا عن أوطاننا وأموالنا وأولادنا وأحبتنا، هجرة إلى الله عز وجل، ونصرة لدينه في زمان أنت فيه في كن الصبا، وخدر الغرارة، وعنفوان الشبيبة، غافل عما يشيب ويريب، لا تعي ما يراد ويشاد، ولا تحصل ما يساق ويقاد، سوى ما أنت جار عليه إلى غايتك التي إليها عدل بك، وعندها حط رحلك، غير مجهول القدر ولا مجحود الفضل؛ ونحن في أثناء ذلك نعاني أحوالا تزيل الرواسي؛ ونقاسي أهوالا تشيب النواصي، خائضين غمارها، راكبين تيارها، نتجرع صابها، ونشرج
17
عيابها، ونحكم آساسها، ونبرم أمراسها،
18
والعيون تحدج بالحسد، والأنوف تعطس بالكبر، والصدور تستعر بالغيظ، والأعناق تتطاول بالفخر، والشفار تشخذ بالمكر، والأرض تميد بالخوف؛ لا ننتظر عند المساء صباحا، ولا عند الصباح مساء، ولا ندفع في نحر أمر إلا بعد أن نحسو الموت دونه، ولا نبلغ مرادا إلا بعد الإياس من الحياة عنده؛ فادين في جميع ذلك رسول الله
صلى الله عليه وسلم
بالأب والأم، والخال والعم، والمال والنشب، والسبد
19
واللبد، والهلة
20
والبلة، بطيب أنفس، وقرة أعين، ورحب أعطان، وثبات عزائم، وصحة عقول، وطلاقة أوجه، وذلاقة ألسن؛ هذا مع خفيات أسرار، ومكنونات أخبار، كنت عنها غافلا، ولولا سنك لم تكن عن شيء منها ناكلا، كيف وفؤادك مشهوم،
21
وعودك معجوم! والآن قد بلغ الله بك وأنهض الخير لك، وجعل مرادك بين يديك، وعن علم أقول ما تسمع؛ فارتقب زمانك، وقلص أردانك، ودع التقعس والتجسس لم لا يظلع لك إذا خطا، ولا يتزحزح عنك إذا عطا؛
22
فالأمر غض، والنفوس فيها مض، وإنك أديم هذه الأمة فلا تحلم
23
لجاجا، وسيفها العضب، فلا تنب اعوجاجا، وماءها العذب فلا تحل أجاجا. والله لقد سألت رسول الله
صلى الله عليه وسلم
عن هذا الأمر، فقال لي: «يا أبا بكر هو لمن يرغب عنه لا لمن يجاحش
24
عليه، ولمن يتضاءل عنه لا لمن يتنفج إليه،
25
هو لمن يقال هو لك لا لمن يقول هو لي.»
ولقد شاورني رسول الله
صلى الله عليه وسلم
في الصهر، فذكر فتيانا من قريش، فقلت: أين أنت من علي! فقال
صلى الله عليه وسلم : إني أكره لفاطمة ميعة شبابه، وحداثة سنه. فقلت له: متى كنفته يدك، ورعته عينك، حفت بهما البركة، وأسبغت عليهما النعمة؛ مع كلام كثير خاطبته به رغبة فيك، وما كنت عرفت منك في ذلك لا حوجاء
26
ولا لوجاء، فقلت ما قلت وأنا أرى مكان غيرك، وأجد رائحة سواك؛ وكنت إذ ذاك خيرا لك منك الآن لي. ولئن كان عرض بك رسول الله
صلى الله عليه وسلم
في هذا الأمر، فلم يكن معرضا عن غيرك: وإن كان قال فيك فما سكن عن سواك؛ وإن تلجلج في نفسك شيء فهلم، فالحكم مرضي، والصواب مسموع، والحق مطاع. ولقد نقل رسول الله
صلى الله عليه وسلم
إلى الله عز وجل، وهو عن هذه العصابة راض، وعليها حذر، يسره ما سرها ويسوءه ما ساءها، ويكيده ما كادها، ويرضيه ما أرضاها، ويسخطه ما أسخطها. أما تعلم أنه لم يدع أحدا من أصحابه وأقاربه وسجرائه،
27
إلا أبانه بفضيلة، وخصه بمزية، وأفرده بحالة! أتظن أنه
صلى الله عليه وسلم
ترك الأمة سدى بددا، عباهل
28
مباهل، طلاحى مفتونة بالباطل، مغبونة عن الحق، لا رائد ولا ذائد، ولا ضابط ولا حائط، ولا ساقي ولا واقي، ولا هادي ولا حادي! كلا! والله ما اشتاق إلى ربه تعالى ولا سأله المصير إلى رضوانه وقربه، إلا بعد أن ضرب المدى، وأوضح الهدى، وأبان الصوى
29
وأمن المسالك والمطارح، وسهل المبارك والمهايع،
30
وإلا بعد أن شدخ يافوخ
31
الشرك بإذن الله، وشرم وجه النفاق لوجه الله سبحانه، وجدع أنف الفتنة في ذات الله، وتفل في عين الشيطان بعون الله، وصدع بملء فيه ويده بأمر الله عز وجل.
وبعد، فهؤلاء
32
المهاجرون والأنصار عندك ومعك في بقعة واحدة ودار جامعة، إن استقالوني لك وأشاروا عندي بك، فأنا واضع يدي في يدك، وصائر إلى رأيهم فيك. وإن تكن الأخرى فادخل فيما دخل فيه المسلمون، وكن العون على مصالحهم، والفاتح لمغالقهم، والمرشد لضالتهم، والرادع لغوايتهم. فقد أمر الله تعالى بالتعاون على البر والتقوى، والتناصر على الحق. ودعنا نقضي هذه الحياة الدنيا بصدور بريئة من الغل، ونلقى الله تعالى بقلوب سليمة من الضغن.
وبعد، فالناس ثمامة فارفق بهم واحن عليهم ولن لهم، ولا تشق نفسك بنا خاصة فيهم، واترك ناجم الحقد حصيدا، وطائر الشر واقعا، وباب الفتنة مغلقا، فلا قال ولا قيل ولا لوم ولا تبيع، والله على ما نقول شهيد، وبما نحن عليه بصير .
قال أبو عبيدة: فلما تأهبت للنهوض، قال عمر رضي الله عنه: كن لدى الباب هنيهة فلي معك دور من القول؛ فوقفت وما أدري ما كان بعدي، إلا أنه لحقني بوجه يندى تهللا، وقال لي: قل لعلي: الرقاد محلمة، والهوى مقحمة، وما منا إلا له مقام معلوم، وحق مشاع أو مقسوم، ونبأ ظاهر أو مكتوم؛ وإن أكيس الكيس من منح الشارد تألفا، وقارب البعيد تلطفا، ووزن كل شيء بميزانه، ولم يخلط خبره بعيانه، ولم يجعل فتره مكان شبره، دينا كان أو دنيا، ضلالا كان أو هدى. ولا خير في علم مستعمل في جهل، ولا خير في معرفة مشوبة بنكر. ولسنا كجلدة رفغ
33
البعير بين العجان والذنب. وكل صال فبناره، وكل سيل فإلى قرار. وما كان سكوت هذه العصابة إلى هذه الغاية لعي وشي،
34
ولا كلامها اليوم لفرق أو رفق. وقد جدع الله بمحمد
صلى الله عليه وسلم
أنف كل ذي كبر، وقصم ظهر كل جبار، وقطع لسان كل كذوب، فماذا بعد الحق إلا الضلال. ما هذه الخنزوانة
35
التي في فراش رأسك! ما هذا الشجا المعترض في مدارج أنفاسك! ما هذه القذاة التي تغشت ناظرك! وما هذه الوحرة
36
التي أكلت شراسيفك! وما هذا الذي لبست بسببه جلد النمر، واشتملت عليه بالشحناء والنكر! ولسنا في كسروية كسرى، ولا في قيصرية قيصر! تأمل لإخوان فارس وأبناء الأصفر! قد جعلهم الله جزرا لسيوفنا، ودريئة لرماحنا، ومرمى لطعاننا، وتبعا لسلطاننا؛ بل نحن في نور نبوة، وضياء رسالة، وثمرة حكمة، وأثرة رحمة، وعنوان نعمة، وظل عصمة، بين أمة مهدية بالحق والصدق ، مأمونة على الرتق والفتق، لها من الله قلب أبي، وساعد قوي، ويد ناصرة، وعين باصرة. أتظن ظنا يا علي أن أبا بكر وثب على هذا الأمر مفتاتا على الأمة خادعا لها أو متسلطا عليها! أتراه حل عقودها وأحال عقولها! أتراه جعل نهارها ليلا، ووزنها كيلا، ويقظتها رقادا، وصلاحها فسادا! لا والله! سلا عنها فولهت له، وتطامن لها فلصقت به، ومال عنها فمالت إليه، واشمأز دونها فاشتملت عليه، حبوة حباه الله بها، وعاقبة بلغه الله إليها، ونعمة سربله جمالها، ويد أوجب الله عليه شكرها، وأمة نظر الله به إليها. والله أعلم بخلقه، وأرأف بعباده، يختار ما كان لهم الخيرة. وإنك بحيث لا يجهل موضعك من بيت النبوة، ومعدن الرسالة، ولا يجحد حقك فيما آتاك الله، ولكن لك من يزاحمك بمنكب أضخم من منكبك، وقرب أمس من قرابتك، وسن أعلى من سنك، وشيبة أروع من شبيبتك، وسيادة لها أصل في الجاهلية وفرع في الإسلام، ومواقف ليس لك فيها جمل ولا ناقة، ولا تذكر منها في مقدمة ولا ساقة، ولا تضرب فيها بذراع ولا إصبع، ولا تخرج منها ببازن ولا هبع.
37
ولم يزل أبو بكر حبة قلب رسول الله
صلى الله عليه وسلم
وعلاقة نفسه، وعيبة سره، ومفزع رأيه ومشورته، وراحة كفه، ومرمق طرفه. وذلك كله بمحضر الصادر والوارد من المهاجرين والأنصار، شهرته مغنية عن الدليل عليه. ولعمري إنك أقرب إلى رسول الله قرابة، ولكنه أقرب منك قربة، والقرابة لحم ودم، والقربة نفس وروح. وهذا فرق عرفه المؤمنون، ولذلك صاروا إليه أجمعون. ومهما شككت في ذلك، فلا تشك أن يد الله مع الجماعة، ورضوانه لأهل الطاعة. فادخل فيما هو خير لك اليوم وأنفع لك غدا، والفظ من فيك ما يعلق بلهاتك، وانفث سخيمة صدرك عن تقاتك، فإن يك في الأمد طول، وفي الأجل فسحة، فستأكله مريئا أو غير مريء، وستشربه هنيئا أو غير هنيء، حين لا راد لقولك إلا من كان آيسا منك، ولا تابع لك إلا من كان طامعا فيك، يمض
38
إهابك ، ويعرك
39
أديمك، ويزري على هديك. هنالك تقرع السن من ندم، وتجرع الماء ممزوجا بدم، وحينئذ تأسى على ما مضى من عمرك ودارج قوتك، فتود أن لو سقيت بالكأس التي أبيتها، ورددت إلى حالتك التي استغويتها. ولله تعالى فينا وفيك أمر هو بالغه، وغيب هو شاهده، وعاقبة هو المرجو لسرائها وضرائها، وهو الولي الحميد، الغفور الودود.
قال أبو عبيدة: فتمشيت متزملا أنوء كأنما أخطو على رأسي، فرقا من الفرقة، وشفقا على الأمة، حتى وصلت إلى علي
40
رضي الله عنه في خلاء، فابتثثته بثي كله، وبرئت إليه منه، ورفقت به. فلما سمعها ووعاها، وسرت في مفاصله حمياها، قال: «حلت معلوطة،
41
وولت مخروطة»،
42
وأنشأ يقول:
إحدى لياليك فهيسى
43
هيسى
لا تنعمي الليلة بالتعريس
نعم يا أبا عبيدة، أكل هذا في أنفس القوم، ويحسون به، ويضطغنون
44
علي! قال أبو عبيدة: فقلت: لا جواب لك عندي، إنما أنا قاض حق الدين، وراتق فتق المسلمين، وساد ثلمة الأمة، يعلم الله ذلك من جلجلان
45
قلبي، وقرارة نفسي.
فقال علي رضي الله عنه: والله ما كان قعودي في كن هذا البيت قصدا للخلاف، ولا إنكارا للمعروف، ولا زراية على مسلم، بل لما قد وقذني به رسول الله
صلى الله عليه وسلم
من فراقه، وأودعني من الحزن لفقده. وذلك أنني لم أشهد بعده مشهدا إلا جدد علي حزنا، وذكرني شجنا. وإن الشوق إلى اللحاق به كاف عن الطمع في غيره. وقد عكفت على عهد الله أنظر فيه، وأجمع ما تفرق، رجاء ثواب معد لمن أخلص لله عمله، وأسلم لعلمه ومشيئته، وأمره ونهيه. على أني ما علمت أن التظاهر علي واقع، ولا عن الحق الذي سيق إلي دافع. وإذ قد أفعم الوادي بي، وحشد النادي من أجلي، فلا مرحبا بما ساء أحدا من المسلمين وسرني، وفي النفس كلام لولا سابق عقد وسالف عهد، لشفيت غيظي بخنصري وبنصري، وخضت لجته بأخمصي ومفرقي، ولكنني ملجم إلى أن ألقى الله ربي، وعنده أحتسب ما نزل بي. وإني غاد إلى جماعتكم، فمبايع صاحبكم، صابر على ما ساءني وسركم، ليقضي الله أمرا كان مفعولا.
قال أبو عبيدة: فعدت إلى أبي بكر رضي الله عنه فقصصت عليه القول على غرة،
46
ولم أختزل شيئا من حلوه ومره، وبكرت غدوة إلى المسجد، فلما كان صباح يومئذ وإذا علي مخترق الجماعة إلى أبي بكر رضي الله عنهما فبايعه، وقال خيرا، ووصف جميلا، وجلس زميتا،
47
واستأذن للقيام فمضى وتبعه عمر مكرما له، مستأثرا لما عنده.
فقال علي رضي الله عنه: ما قعدت عن صاحبكم كارها، ولا أتيته فرقا، ولا أقول ما أقول تعلة. وإني لأعرف منتهى طرفي، ومحط قدمي، ومنزع قوسي، وموقع سهمي؛ ولكن قد أزمت على فأسي
48
ثقة بربي في الدنيا والآخرة.
فقال له عمر رضي الله عنه: كفكف غربك، واستوقف سربك، ودع العصي بلحائها، والدلاء على رشائها. فإنا من خلفها وورائها، إن قدحنا أورينا، وإن متحنا أروينا، وإن قرحنا أدمينا. ولقد سمعت أماثيلك التي لغزت بها عن صدر أكل بالجوى، ولو شئت لقلت على مقالتك ما إن سمعته ندمت على ما قلت. وزعمت أنك قعدت في كن بيتك لما وقذك به رسول الله
صلى الله عليه وسلم
من فقده، فهو وقذك ولم يقذ غيرك! بل مصابه أعظم وأعم من ذلك، وإن من حق مصابه ألا تصدع شمل الجماعة بفرقة لا عصام لها، ولا يؤمن كيد الشيطان في بقائها. هذه العرب حولنا، والله لو تداعت علينا في صبح نهار لم نلتق في مسائه. وزعمت أن الشوق إلى اللحاق به كاف عن الطمع في غيره! فمن علامة الشوق إليه نصرة دينه، ومؤازرة أوليائه ومعاونتهم. وزعمت أنك عكفت على عهد الله تجمع ما تفرق منه؛ فمن العكوف على عهد الله النصيحة لعباد الله، والرأفة على خلق الله، وبذل ما يصلحون به، ويرشدون عليه. وزعمت أنك لم تعلم أن التظاهر واقع عليك، وأي حق لط
49
دونك! قد سمعت وعلمت ما قال الأنصار بالأمس سرا وجهرا، وتقلبت عليه بطنا وظهرا، فهل ذكرت أو أشارت بك، أو وجدت رضاهم عنك؟ هل قال أحد منهم بلسانه إنك تصلح لهذا الأمر؟ أو أومأ بعينه أو هم في نفسه؟ أتظن أن الناس ضلوا من أجلك، وعادوا كفارا زهدا فيك، وباعوا الله تحاملا عليك؟ لا والله! لقد جاءني عقيل ابن زياد الخزرجي في نفر من أصحابه ومعهم شرحبيل بن يعقوب الخزرجي وقالو: إن عليا ينتظر الإمامة، ويزعم أنه أولى بها من غيره، وينكر على من يعقد الخلافة؛ فأنكرت عليهم، ورددت القول في نحرهم حيث قالوا: إنه ينتظر الوحي ويتوكف
50
مناجاة الملك؛ فقلت: ذاك أمر طواه الله بعد نبيه محمد
صلى الله عليه وسلم
أكان الأمر معقودا بأنشوطة،
51
أو مشدودا بأطراف ليطة؟
52
كلا! والله لا عجماء بحمد الله إلا أفصحت، ولا شوكاء إلا وقد تفتحت. ومن أعجب شأنك قولك: «ولولا سالف عهد وسابق عقد، لشفيت غيظي» وهل ترك الدين لأهله أن يشفوا غيظهم بيد أو بلسان؟ تلك جاهلية وقد استأصل الله شأفتها واقتلع جرثومتها، وهور ليلها، وغور سيلها، وأبدل منها الروح والريحان، والهدى والبرهان. وزعمت أنك ملجم؛ ولعمري إن من اتقى الله، وآثر رضاه، وطلب ما عنده، أمسك لسانه وأطبق فاه، وجعل سعيه لما وراه.
فقال علي رضي الله عنه: مهلا يا أبا حفص، والله ما بذلت وأنا أريد نكثه، ولا أقررت ما أقررت وأنا أبتغي حولا عنه، وإن أخسر الناس صفقة عند الله من آثر النفاق، واحتضن الشقاق، وفي الله سلوة عن كل حادث، وعليه التوكل في جميع الحوادث. ارجع يا أبا حفص إلى مجلسك ناقع القلب، مبرود الغليل، فسيح اللبان،
53
فصيح اللسان، فليس وراء ما سمعت وقلت إلا ما يشد الأزر، ويحط الوزر، ويضع الإصر، ويجمع الألفة بمشيئة الله وحسن توفيقه.
قال أبو عبيدة رضي الله عنه: فانصرف علي وعمر رضي الله عنهما. وهذا أصعب ما مر علي بعد رسول الله
صلى الله عليه وسلم . (2) ومن كلام عائشة
54
رضي الله عنها في الانتصار لأبيها
يروى أنه بلغ عائشة رضي الله عنها أن أقواما يتناولون أبا بكر رضي الله عنه، فأرسلت إلى أزفلة
55
من الناس، فلما حضروا، أسدلت أسنارها، وعلت وسادها، ثم قالت: أبي، وما أبيه! أبي والله لا تعطوه
56
الأيدي، ذاك طود منيف؛ وفرع مديد، هيهات، كذبت الظنون! أنجح إذ أكديتم، وسبق إذ ونيتم؛ سبق الجواد إذا استولى على الأمد. فتى قريش ناشئا، وكهفها كهلا، يفك عانيها، ويريش مملقها، ويرأب شعبها، ويلم شعثها، حتى حليته قلوبها، ثم استشرى في دين الله فما برحت شكيمته في ذات الله عز وجل حتى اتخذ بفنائه مسجدا يحيى فيه ما أمات المبطلون. وكان رحمه الله غزير الدمعة، وقيذ الجوانح، شجي النشيج، فانقضت إليه نسوان مكة وولدانها يسخرون منه ويستهزئون به
الله يستهزئ بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون
فأكبرت ذلك رجالات من قريش فحنت قسيها، وفوقت سهامها، وامتثلوه غرضا، فما فلوا له صفاة، ولا قصفوا له قناة، ومر على سيسائه،
57
حتى إذا ضرب الدين بجرانه، ورست أوتاده، ودخل الناس فيه أفواجا، ومن كل فرقة أرسالا وأشتاتا، اختار الله لنبيه ما عنده؛ فلما قبض الله نبيه
صلى الله عليه وسلم
ضرب الشيطان رواقه، ومد طنبه، ونصب حبائله، وأجلب بخيله ورجله، واضطرب حبل الإسلام، ومرج عهده وماج أهله، وبغي الغوائل، وظنت رجال أن قد أكثبت أطماعهم نهزها، ولات حين الذي يرجون، وأنى والصديق بين أظهرهم! فقام حاسرا مشمرا، فجمع حاشيتيه ورفع قطريه، فرد رسن الإسلام على غربه، ولم شعثه بطبه، وانتاش الدين فنعشه، فلما أراح الحق على أهله، وقرر الرءوس على كواهلها، وحقن الدماء في أهبها، آلته منيته، فسد ثلمته بنظيره في الرحمة، وشقيقه في السيرة والمعدلة، ذاك ابن الخطاب، لله در أم حملت به ودرت عليه! لقد أوحدت به، ففنخ
58
الكفرة وديخها، وشرد الشرك شذر مذر، وبعج الأرض وبخعها، فقاءت أكلها، ولفظت خبأها،
59
ترأمه ويصدف عنها، وتصدى له ويأباها. ثم وزع فيها فيئها وودعها كما صحبها. فأروني ماذا ترتئون، وأي يومي أبي تنقمون: أيوم إقامته إذ عدل فيكم، أم يوم ظعنه إذ نظر لكم؟ أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم. ثم أقبلت على الناس بوجهها فقالت: أنشدكم الله هل أنكرتم مما قلت شيئا؟ قالوا: اللهم لا. (3) كلمة أم الخير بنت الحريش
60
ومن كلام أم الخير بنت الحريش البارقية يوم صفين في الانتصار لعلي رضي الله عنه: يروى أن معاوية كتب إلى واليه بالكوفة أن يحمل إليه أم الخير بنت الحريش البارقية برحلها، وأعلمه أنه مجازيه بقولها فيه بالخير خيرا وبالشر شرا. فلما ورد عليه كتابه، ركب إليها فأقرأها الكتاب، فقالت: أما أنا فغير زائغة عن طاعة ولا معتلة بكذب! ولقد كنت أحب لقاء أمير المؤمنين لأمور تختلج في صدري. فلما شيعها وأراد مفارقتها قال لها: يا أم الخير، إن أمير المؤمنين كتب إلي أنه يجازيني بقولك في بالخير خيرا وبالشر شرا؛ فما عندك؟ قالت: يا هذا لا يطمعنك برك بي أن أسرك بباطل، ولا تؤيسك معرفتي بك أن أقول فيك غير الحق. فسارت خير مسير حتى قدمت على معاوية، فأنزلها مع حريمه ثلاثا، ثم أدخلها عليه في اليوم الرابع، وعنده جلساؤه، فقالت: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته؛ قال لها: وعليك السلام يا أم الخير، وبالرغم منك دعوتني بهذا الاسم؛ قالت: مه يا أمير المؤمنين! فإن بديهة السلطان مدحضة لما يجب علمه ولكل أجل كتاب؛ قال: صدقت، فكيف حالك يا خالة؟ وكيف كنت في مسيرك؟ قالت: لم أزل في عافية وسلامة حتى صرت إليك فأنا في مجلس أنيق، عند ملك رفيق؛ قال معاوية: بحسن نيتي ظفرت بكم؛ قالت: يا أمير المؤمنين أعيذك بالله من دحض المقال وما تردي عاقبته، قال: ليس هذا أردنا، أخبريني كيف كان كلامك يوم قتل عمار بن ياسر؟ قالت: لم أكن والله زورته
61
قبل ولا رويته بعد، وإنما كانت كلمات نفثهن لساني حين الصدمة، فإن شئت أن أحدث لك مقالا غير ذلك فعلت؛ قال: لا أشاء ذلك. ثم التفت إلى أصحابه فقال: أيكم يحفظ كلام أم الخير؟ فقال رجل من القوم: أنا أحفظه يا أمير المؤمنين كحفظي سورة الحمد؛ قال: هاته؛ قال: نعم كأني بها يا أمير المؤمنين في ذلك اليوم عليها برد زبيدي كثيف الحاشية ، وهي على جمل أرمك
62
وقد أحيط حولها، وبيدها سوط منتشر الضفر، وهي كالفحل يهدر في شقشقته تقول:
يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم
إن الله قد أوضح الحق، وأبان الدليل، ونور السبيل، ورفع العلم، فلم يدعكم في عمياء مبهمة! ولا سوداء مدلهمة، فإلى أين تريدون رحمكم الله! أفرارا عن أمير المؤمنين، أم فرارا من الزحف، أم رغبة عن الإسلام، أم ارتدادا عن الحق! أما سمعتم الله عز وجل يقول:
ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم .
ثم رفعت رأسها إلى السماء وهي تقول: قد عيل الصبر، وضعف اليقين، وانتشر الرعب، وبيدك يا رب أزمة القلوب، فاجمع الكلمة على التقوى، وألف القلوب على الهدى. هلموا رحمكم الله إلى الإمام العادل، والوصي الوفي، والصديق الأكبر! إنها إحن بدرية، وأحقاد جاهلية، وضغائن أحدية؛ وثب بها معاوية حين الغفلة ليدرك بها ثارات بني عبد شمس.
ثم قالت:
فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون . صبرا معشر المهاجرين والأنصار، قاتلوا على بصيرة من ربكم، وثبات من دينكم، وكأني بكم غدا قد لقيتم أهل الشأم كحمر مستنفرة، فرت من قسورة، لا تدري أين يسلك بها من فجاج الأرض، باعوا الآخرة بالدنيا، واشتروا الضلالة بالهدى، وباعوا البصيرة بالعمى، وعما قليل ليصبحن نادمين، حين تحل بهم الندامة، فيطلبون الإقالة! إنه والله من ضل عن الحق وقع في الباطل، ومن لم يسكن الجنة نزل في النار. أيها الناس، إن الأكياس استقصروا عمر الدنيا فرفضوها واستبطئوا مدة الآخرة فسعوا لها. والله أيها الناس لولا أن تبطل الحقوق، وتعطل الحدود، ويظهر الظالمون، وتقوى كلمة الشيطان، لما اخترنا ورود المنايا على خفض العيش وطيبه، فإلى أين تريدون - رحمكم الله - عن ابن عم رسول الله
صلى الله عليه وسلم
وزوج ابنته وأبي ابنيه؟ خلق من طينته، وتفرع عن نبعته، وخصه بسره، وجعله باب مدينته، وأعلم بحبه المسلمين، وأبان ببغضه المنافقين. فلم يزل كذلك يؤيده الله بمعونته، ويمضي على سنن استقامته، لا يعرج لراحة اللذات. وهو مفلق الهام، ومكسر الأصنام، إذ صلى والناس مشركون، وأطاع والناس مرتابون. فلم يزل كذلك حتى قتل مبارزي بدر، وأفنى أهل أحد، وفرق جمع هوازن؛ فيا لها وقائع زرعت في قلوب قوم نفاقا، وردة وشقاقا، وقد اجتهدت في القول، وبالغت في النصيحة، وبالله التوفيق. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
فقال معاوية: والله يا أم الخير ما أردت بهذا إلا قتلى! والله لو قتلتك ما حرجت في ذلك.
قالت : والله ما يسوءني يابن هند أن يجري الله ذلك على يدي من يسعدني الله بشقائه؛ قال: هيهات يا كثيرة الفضول، ما تقولين في عثمان بن عفان؟ قالت: وما عسيت أن أقول فيه، استخلفه الناس وهم كارهون، وقتلوه وهم راضون؛ فقال: إيها يا أم الخير، هذا والله أصلك الذي تبنين عليه؛ قالت: لكن الله يشهد وكفى بالله شهيدا، ما أردت بعثمان نقصا، ولقد كان سباقا إلى الخيرات، وإنه لرفيع الدرجة. قال: فما تقولين في طلحة بن عبيد الله؟ قالت: وما عسى أن أقول في طلحة، اغتيل من مأمنه، وأتي من حيث لم يحذر، وقد وعده رسول الله
صلى الله عليه وسلم
الجنة. قال: فما تقولين في الزبير؟ قالت: يا هذا لا تدعني كرجيع الصبيغ يعرك في المركن؛
63
قال: حقا لتقولن ذلك وقد عزمت عليك؛ قالت: وما عسيت أن أقول في الزبير ابن عمة رسول الله
صلى الله عليه وسلم
وحواريه، وقد شهد له رسول الله
صلى الله عليه وسلم
بالجنة، ولقد كان سباقا إلى كل مكرمة في الإسلام. وإني أسألك بحق الله يا معاوية، فإن قريشا تحدث أنك من أحلمها، أن تسعني بفضل حلمك، وأن تعفيني من هذه المسائل، وامض لما شئت من غيرها؛ قال: نعم وكرامة، قد أعفيتك؛ وردها مكرمة إلى بلدها. (4) كلمة الزرقاء
64
بنت عدي
ومن كلام الزرقاء بنت عدي بن قيس الهمدانية ما قالته يوم صفين أيضا: يروى أنها ذكرت عند معاوية يوما، فقال لجلسائه: أيكم يحفظ كلامها؟ قال بعضهم: نحن نحفظه يا أمير المؤمنين؛ قال: فأشيروا علي في أمرها؛ فأشار بعضهم بقتلها، فقال: بئس الرأي! أيحسن بمثلي أن يقتل امرأة! ثم كتب إلى عامله بالكوفة أن يوفدها إليه مع ثقة من ذوي محرمها وعدة من فرسان قومها، وأن يمهد لها وطاء لينا، ويسترها بستر خصيف،
65
ويوسع لها في النفقة. فلما دخلت على معاوية، قال: مرحبا بك وأهلا! قدمت خير مقدم قدمه وافد، كيف حالك؟ قالت: بخير يا أمير المؤمنين، أدام الله لك النعمة! قال: كيف كنت في مسيرك؟ قالت: ربيبة بيت أو طفلا ممهدا؛ قال: بذلك أمرناهم. أتدرين فيم بعثت إليك؟ قالت: وأنى لي بعلم ما لم أعلم؟ وما يعلم الغيب إلا الله عز وجل؛ قال: ألست الراكبة الجمل الأحمر، والواقفة بين الصفين بصفين تحضين الناس على القتال، وتوقدين الحرب؟ فما حملك على ذلك؟ قالت: يا أمير المؤمنين، مات الرأس، وبتر الذنب، ولن يعود ما ذهب؛ والدهر ذو غير، ومن تفكر أبصر، والأمر يحدث بعده الأمر؛ قال لها معاوية: أتحفظين كلامك يومئذ؟ قالت: لا والله، ولقد أنسيته؛ قال: لكني أحفظه، لله أبوك حين تقولين:
أيها الناس، ارعووا وارجعوا! إنكم أصبحتم في فتنة غشتكم جلابيب الظلم، وجارت بكم عن قصد المحجة. فيا لها فتنة عمياء، صماء بكماء، لا تسمع لناعقها، ولا تسلس لقائدها. إن المصباح لا يضيء في الشمس، والكواكب لا تنير مع القمر، ولا يقطع الحديد إلا الحديد. ألا من استرشد أرشدناه، ومن سألنا أخبرناه.
أيها الناس، إن الحق كان يطلب ضالته فأصابها! فصبرا يا معاشر المهاجرين والأنصار على الغصص؛ فكان قد اندمل شعب الشتات، والتأمت كلمة التقوى، ودمغ الحق باطله! فلا يجهلن أحد فيقول: كيف العدل وأنى! ليقضي الله أمرا كان مفعولا. ألا وإن خضاب النساء الحناء، وخضاب الرجال الدماء! ولهذا اليوم ما بعده، والصبر خير في عواقب الأمور. إيها إلى الحرب قدما غير ناكصين ولا متشاكسين.
ثم قال لها: يا زرقاء، لقد شركت عليا في كل دم سفكه؛ قالت: أحسن الله بشارتك، وأدام سلامتك؛ فمثلك من بشر بخير وسر جليسه؛ قال: ويسرك ذلك؟ قالت: نعم سررت بالخبر فأنى لي بتصديق الفعل! فضحك معاوية وقال: لوفاؤكم له بعد موته أعجب عندي من حبكم له في حياته! اذكري حاجتك؛ قالت: يا أمير المؤمنين، آليت على نفسي ألا أسأل أميرا أعنت عليه أبدا، ومثلك من أعطى من غير مسألة، وجاد من غير طلبة؛ قال: صدقت، وأمر لها وللذين جاءوا معها بجوائز وكسا. (5) عكرشة بنت الأطرش
ومن كلام عكرشة بنت الأطرش ما قالته يوم صفين أيضا: يروى أنها دخلت على معاوية متوكئة على عكاز لها، فسلمت عليه بالخلافة ثم جلست؛ فقال لها معاوية: الآن صرت عندك أمير المؤمنين؟ قالت: نعم إذ لا علي حي! قال: ألست المتقلدة حمائل السيف بصفين وأنت واقفة بين الصفين تقولين: أيها الناس، عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم. إن الجنة لا يحزن من قطنها، ولا يهرم من سكنها، ولا يموت من دخلها؛ فابتاعوها بدار لا يدوم نعيمها، ولا تنصرم همومها. وكونوا قوما مستبصرين في دينهم، مستظهرين على حقهم؛ إن معاوية دلف إليكم بعجم العرب، لا يفقهون الإيمان، ولا يدرون ما الحكمة. دعاهم إلى الباطل فأجابوه، واستدعاهم إلى الدنيا فلبوه. فالله الله عباد الله في دين الله! وإياكم والتواكل فإن ذلك ينقض عرى الإسلام، ويطفئ نور الحق. هذه بدر الصغرى، والعقبة الأخرى. يا معشر المهاجرين والأنصار، امضوا على بصيرتكم، واصبروا على عزيمتكم، فكأني بكم غدا وقد لقيتم أهل الشأم كالحمر الناهقة تقصع قصع
66
البعير.
ثم قال: فكأني أراك على عصاك هذه قد انكفأ عليك العسكران يقولون هذه عكرشة بنت الأطرش، فإن كدت لتفلين أهل الشأم لولا قدر الله، وكان أمر الله قدرا مقدورا، فما حملك على ذلك؟ قالت: يا أمير المؤمنين، يقول الله جل ذكره:
يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم
الآية، وإن اللبيب إذا كره أمرا لا يحب إعادته؛ قال: صدقت، فاذكري حاجتك؛ قالت: كانت صدقاتنا تؤخذ من أغنيائنا فترد على فقرائنا، وقد فقدنا ذلك، فما يجبر لنا كسير، ولا ينعش لنا فقير؛ فإن كان عن رأيك فمثلك من انتبه من الغفلة وراجع التوبة، وإن كان عن غير رأيك فما مثلك من استعان بالخونة، ولا استعمل الظلمة؛ قال معاوية: يا هذه، إنه ينوبنا من أمور رعيتنا ثغور تتفتق، وبحور تتدفق؛ قالت: سبحان الله! والله ما فرض الله لنا حقا فجعل فيه ضررا لغيرنا وهو علام الغيوب؛ قال معاوية: هيهات يا أهل العراق، نبهكم علي فلن تطاقوا. ثم أمر برد صدقاتهم فيهم وإنصافهم. (6) رسالة لعبد الحميد الكاتب
67
كتب عبد الحميد
68
بن يحيى الكاتب عن مروان بن محمد لبعض من ولاه:
69
أما بعد، فإن أمير المؤمنين - عندما اعتزم عليه من توجيهك إلى عدو الله الجلف الجافي الأعرابي، المتسكع في حيرة الجهالة، وظلم الفتنة، ومهاوي الهلكة، ورعاعة الذين عاثوا في أرض الله فسادا، وانتهكوا حرمة الإسلام استخفافا، وبدلوا نعمة الله كفرا، واستحلوا دماء أهل سلمه جهلا - أحب أن يعهد إليك في لطائف أمورك، وعوام شئونك، ودخائل أحوالك، ومصطرف تنفلك عهدا يحملك فيه أدبه، ويشرع لك به عظته، وإن كنت بحمد الله من دين الله وخلافته بحيث اصطعنك الله لولاية العهد مختصا لك بذلك دون لحمتك وبني أبيك. ولولا ما أمر الله تعالى به دالا عليه، وتقدمت فيه الحكماء آمرين به: من تقديم العظة، والتذكير لأهل المعرفة، وإن كانوا أولى سابقة في الفضل وخصيصاء في العلم، لاعتمد أمير المؤمنين على اصطناع الله إياك وتفضيله لك بما رآك أهله في محلك من أمير المؤمنين، وسبقك إلى رغائب أخلاقه، وانتزاعك محمود شيمه، واستيلائك على مشابه تدبيره. ولو كان المؤدبون أخذوا العلم من عند أنفسهم، أو لقنوه إلهاما من تلقائهم ولم نصبهم تعلموا شيئا من غيرهم، لنحلناهم علم الغيب، ووضعناهم بمنزلة قصر بها عنهم خالقهم المستأثر بعلم الغيب عنهم بوحدانيته في فردانيته وسابق لاهوتيته، احتجابا منهم لتعقب في حكمه، وتثبت في سلطانه وتنفيذ إرادته، على سابق مشيئته. ولكن العالم الموفق للخير، المخصوص بالفضل، المحبو بمزية العلم وصفوته، أدركه معانا عليه بلطف بحثه، وإذلال كنفه، وصحة فهمه، وهجر سآمته.
وقد تقدم أمير المؤمنين إليك، آخذا بالحجة عليك، مؤديا حق الله الواجب عليه في إرشادك وقضاء حقك، وما ينظر به الوالد المعنى الشفيق لولده. وأمير المؤمنين يرجو أن ينزهك الله عن كل قبيح يهش له طمع، وأن يعصمك من كل مكروه حاق بأحد، وأن يحصنك من كل آفة استولت على امرئ في دين أو خلق، وأن يبلغه فيك أحسن ما لم يزل يعوده ويريه من آثار نعمة الله عليك، سامية بك إلى ذروة الشرف، متبحبحة بك بسطة الكرم، لائحة بك في أزهر معالي الأدب، مورثة لك أنفس ذخائر العز؛ والله يستخلف عليك أمير المؤمنين ويسأل حياطتك، وأن يعصمك من زيغ الهوى، ويحضرك داعي التوفيق، معانا على الإرشادا فيه، فإنه لا يعين على الخير ولا يوفق له إلا هو.
اعلم أن للحكمة مسالك تفضي مضايق أوائلها بمن أمها سالكا، وركب أخطارها قاصدا، إلى سعة عاقبتها، وأمن سرحها، وشرف عزها. وأنها لا تعار بسخف الخفة، ولا تنشأ بتفريط الغفلة، ولا يتعدى فيها بامرئ حده. وربما أظهرت بسطة الغي مستور العيب. وقد تلقتك أخلاق الحكمة من كل جهة بفضلها، من غير تعب البحث في طلبها، ولا متطاول لمناولة ذروتها؛ بل تأثلت منها أكرم نبعاتها، واستخلصت منها أعتق جواهرها؛ ثم سموت إلى لباب مصاصها،
70
وأحرزت منفس ذخائرها، فاقتعد ما أحرزت، ونافس فيما أصبت.
واعلم أن احتواءك على ذلك وسبقك إليه بإخلاص تقوى الله في جميع أمورك مؤثرا لها، وإضمار طاعته منطويا عليها، وإعظام ما أنعم الله به عليك شاكرا له، مرتبطا فيه للمزيد بحسن الحياطة له والذب عنه من أن تدخلك منه سآمة ملال، أو غفلة ضياع، أو سنة تهاون، أو جهالة معرفة، فإن ذلك أحق ما بدئ به ونظر فيه، معتمدا عليه بالقوة والآلة والعدة والانفراد به من الأصحاب والحامة. فتمسك به لاجئا إليه، واعتمد عليه مؤثرا له، والتجئ إلى كنفه متحيزا إليه: فإنه أبلغ ما طلب به رضا الله وأنجحه مسألة، وأجزله ثوابا، وأعوده نفعا، وأعمه صلاحا؛ أرشدك الله لحظك، وفهمك سداده، وأخذ بقلبك إلى محموده. ثم اجعل لله في كل صباح ينعم عليك ببلوغه، ويظهر منك السلامة في إشراقه، من نفسك نصيبا تجعله له شكرا على إبلاغه إياك يومك ذلك بصحة جوارح وعافية بدن، وسبوغ نعم، وظهور كرامة، وأن تقرأ فيه من كتاب الله - تبارك وتعالى - جزءا تردد رأيك في آية، وترتل
71
لفظك بقراءته، وتحضره عقلك ناظرا في محكمه، وتتفهمه مفكرا في متشابهه: فإن في القرآن شفاء الصدور من أمراضها، وجلاء وساوس الشيطان وصعاصعه،
72
وضياء معالم النور، تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون. ثم تعهد نفسك بمجاهدة هواك، فإنه مغلاق الحسنات، ومفتاح السيئات، وخصم العقل.
واعلم أن كل أهوائك لك عدو يحاول هلكتك، ويعترض غفلتك، لأنها خدع إبليس، وخواتل مكره، ومصايد مكيدته؛ فاحذرها مجانبا لها، وتوقها محترسا منها؛ واستعذ بالله عز وجل من شرها، وجاهدها إذا تناصرت عليك بعزم صادق لا ونية
73
فيه، وحزم نافذ لا مثنوية
74
لرأيك بعد إصداره، وصدق غالب لا مطمع في تكذيبه؛ ومضاءة صارمة لا أناة معها، ونية صحيحة لا خلجة شك فيها: فإن ذلك ظهري صدق لك على ردعها عنك، وقمعها دون ما تتطلع إليه منك؛ فهي واقية لك سخطة ربك، داعية إليك رضا العامة عنك، ساترة عليك عيب من دونك؛ فازدن بها متحليا، وأصب بأخلاقك مواضعها الحميدة منها، وتوق عليها الآفة التي تقتطعك عن بلوغها، وتقصر بك دون شأوها: فإن المئونة إنما اشتدت مستصعبة، وفدحت باهظة أهل الطلب لأخلاق أهل الكرم المنتحلين سمو القدر، بجهالة مواضع ذميم الأخلاق ومحمودها، حتى فرط أهل التقصير في بعض أمورهم، فدخلت عليهم الآفات من جهات أمنوها، فنسبوا إلى التفريط، ورضوا بذل المنزل، فأقاموا به جاهلين بموضع الفضل، عمهين عن درج الشرف، ساقطين دون منزلة أهل الحجا. فحاول بلوغ غاياتها محرزا لها بسبق الطلب إلى إصابة الموضع، محصنا أعمالك من العجب: فإنه رأس الهوى، وأول الغواية، ومقاد الهلكة؛ حارسا أخلاقك من الآفات المتصلة بمساوي الألقاب وذميم تنابزها، من حيث أتت الغفلة، وانتشر الضياع، ودخل الوهن. فتوق غلوب الآفاق على عقلك، فإن شواهد الحق ستظهر بأماراتها تصديق آرائك عند ذوي الحجا حال الرأي وفحص النظر.
فاجتلب لنفسك محمود الذكر وباقي لسان الصدق بالحذر لما تقدم إليك فيه أمير المؤمنين، متحرزا من دخول الآفات عليك من حيث أمنك وقلة ثقتك بمحكمها: من ذلك أن تملك أمورك بالقصد، وتداري جندك بالإحسان، وتصون سرك بالكتمان، وتداوي حقدك بالأنصاف، وتذلل نفسك بالعدل، وتحصن عيوبك بتقويم أودك، وتمنع عقلك من دخول الآفات عليه بالعجب المردي. وأناتك فوقها الملال وفوت العمل ، ومضاءتك فدرعها روية النظر واكنفها بأناة الحلم. وخلوتك فاحرسها من الغفلة واعتماد الراحة، وصمتك فانف عنه عي اللفظ، وخف سوء القالة؛ واستماعك فأرعه حسن التفهم، وقوه بإشهاد الفكر؛ وعطاءك فامهد له بيوتات الشرف وذوي الحسب، وتحرز فيه من السرف واستطالة البذخ وامتنان الصنيعة؛ وحياءك فامنعه من الخجل وبلادة الحصر؛ وحلمك فزعه عن التهاون وأحضره قوة الشكيمة؛ وعقوبتك فقصر بها عن الإفراط، وتعمد بها أهل الاستحقاق؛ وعفوك فلا تدخله تعطيل الحقوق، وخذ به واجب المفترض، وأقم به أود الدين؛ واستئناسك فامنع منه البداء وسوء المناقثة.
75
وتعهدك أمورك فحده أوقاتا، وقدره ساعات لا تستفرغ قوتك، ولا تستدعي سآمتك؛ وعزماتك فانف عنها عجلة الرأي، ولجاجة الإقدام؛ وفرحاتك فاشكمها عن البطر، وقيدها عن الزهو؛ وروعاتك فحطها من دهش الرأي واستسلام الخضوع؛ وحذراتك فامنعها من الجبن، واعمد بها الحزم؛ ورجاءك فقيده بخوف الفائت، وامنعه من أمن الطلب.
هذه جوامع حلال، دخال النقص منها واصل إلى العقل بلطائف أبنه، وتصاريف حويله،
76
فأحكمها عارفا بها، وتقدم في الحفظ لها، معتزما على الأخذ بمراشدها والانتهاء منها إلى حيث بلغت بك عظة أمير المؤمنين وأدبه إن شاء الله.
ثم لتكن بطانتك وجلساؤك في خلواتك ودخلاؤل في سرك، أهل الفقه والورع من خاصة أهل بيتك، وعامة قوادك ممن قد حنكته السن بتصاريف الأمور، وخبطته فصالها بين فراسن
77
البزل منها، وقلبته الأمور في فنونها، وركب أطوارها، عارفا بمحاسن الأمور ومواضع الرأي وعين المشورة؛ مأمون النصيحة، منطوي الضمير على الطاعة. ثم أحضرهم من نفسك وقارا يستدعي لك منهم الهيبة، واستئناسا يعطف إليك منهم المودة، وإنصاتا يفل إفاضتهم له عندك بما تكره أن ينشر عنك من سخافة الرأي وضياع الحزم. ولا يغلبن عليك هواك فيصرفك عن الرأي ويقتطعك دون الفكر. وتعلم أنك وإن خلوت بسر فألقيت دونه ستورك، وأغلقت عليه أبوابك، فذلك لا محالة مكشوف للعامة، ظاهر عنك وإن استترت بربما ولعل وما أرى إذاعة ذلك وأعلم، بما يرون من حالات من ينقطع به في تلك المواطن. فتقدم في إحكام ذلك من نفسك ، واسدد خلله عنك: فإنه ليس أحد أسرع إليه سوء القالة ولغط العامة بخير أو شر ممن كان في مثل حالك ومكانك الذي أصبحت به من دين الله والأمل المرجو المنتظر فيك. وإياك أن يغمز فيك أحد من حامتك وبطانة خدمتك بضعفة يجد بها مساغا إلى النطق عندك بما لا يعتزلك عيبه، ولا تخلو من لائمته، ولا تأمن سوء الأحدوثة فيه، ولا يرخص سوء القالة به إن نجم ظاهرا أو علن باديا، ولن يجترئوا على تلك عندك إلا أن يروا منك إصغاء إليها وقبولا لها وترخيصا لهم في الإفاضة بها. ثم إياك وأن يفاض عندك بشيء من الفكاهات والحكايات والمزاح والمضاحك التي يتسخف بها أهل البطالة، ويتسرع نحوها ذوو الجهالة؛ ويجد فيها أهل الحسد مقالا لعيب يذيعونه، وطعنا في حق يجحدونه؛ مع ما في ذلك من نقص الرأي، ودرن العرض، وهدم الشرف، وتأثيل الغفلة، وقوة طباع السوء الكامنة في بني آدم ككمون النار في الحجر الصلد، فإذا قدح لاح شرره، وتلهب وميضه، ووقد تضرمه. وليست في أحد أقوى سطوة، وأظهر توقدا، وأعلى كمونا، وأسرع إليه بالعيب وتطرق الشين منها لمن كان في مثل سنك: من أغفال
78
الرجال وذوي العنفوان في الحداثة الذين لم يقع عليهم سمات الأمور، ناطقا عليهم لائحها، ظاهرا فيهم وسمها، ولم تمحضهم شهامتها، مظهرة للعامة فضلهم، مذيعة حسن الذكر عنهم؛ ولم يبلغ بهم الصيت في الحنكة مستمعا يدفعون به عن أنفسهم نواطق ألسن أهل البغي، ومواد أبصار أهل الحسد.
ثم تعهد من نفسك لطيف عيب لازم لكثير من أهل السلطان والقدرة: من إبطار
79
الذرع ونخوة الشرف والتيه وعيب الصلف؛ فإنها تسرع بهم إلى فساد وتهجين عقولهم في مواطن جمة، وأنحاء مصطرفة، منها قلة اقتدارهم على ضبط أنفسهم في مواكبهم ومسايرتهم العامة: فمن مقلقل شخصه بكثرة الالتفات عن يمينه وشماله، تزدهيه الخفة، ويبطره إجلاب الرجال حوله؛ ومن مقبل في موكبه على مداعبة مسايره بالمفاكهة له والتضاحك إليه، والإيجاف في السير مرحا، وتحريك الجوارح متسرعا يخال أن ذلك أسرع له وأحث لمطيته. فلتحسن في ذلك هيئتك، ولتجمل فيه دعتك؛ وليقل على مسايرك إقبالك إلا وأنت مطرق النظر، غير ملتفت إلى محدث، ولا مقبل عليه بوجهك في موكبك لمحادثته، ولا موجف في السير مقلقل لجوارحك بالتحريك والاستنهاض؛ فإن حسن مسايرة الوالي واتداعه في تلك الحالة دليل على كثير من غيوب أمره ومستتر أحواله.
واعلم أن أقواما يتسرعون إليك بالسعاية، ويأتونك على وجه النصيحة، ويستميلونك بإظهار الشفقة، ويستدعونك بالإغراء والشبهة، ويوطئونك عشوة الحيرة؛ ليجعلوك لهم ذريعة إلى استئكال العامة بموضعهم منك في القبول منهم والتصديق لهم على من قرفوه بتهمة، أو أسرعوا بك في أمره إلى الظنة؛ فلا يصلن إلى مشافهتك ساع بشبهة، ولا معروف بتهمة، ولا منسوب إلى بدعة فيعرضك لإيتاغ
80
دينك، ويحملك على رعيتك بما لا حقيقة له عندك، ويلحمك
81
أعراض قوم لا علم لك بدخلهم،
82
إلا بما أقدم به عليهم ساعيا وأظهر لك منهم منتصحا. وليكن صاحب شرطتك المتولي لإنهاء ذلك هو المنصوب لأولئك، والمستمع لأقاويلهم، والفاحص عن نصائحهم؛ ثم لينه ذلك إليك على ما يرفع إليه منه لتأمره بأمرك فيه، وتقفه على رأيك من غير أن يظهر ذلك للعامة، فإن كان صوابا نالتك خيرته، وإن كان خطأ أقدم به عليك جاهل، أو فرطة سعى بها كاذب، فنالت الساعي منها أو المظلوم عقوبة، أو بدر من واليك إليه عقوبة ونكال، لم يتعصب
83
ذلك الخطأ بك ولم تنسب إلى تفريط، وخلوت من موضع الذم فيه محضرا إليه ذهنك وصواب رأيك.
وتقدم إلى من تولى ذلك الأمر وتعتمد عليه فيه ألا يقدم على شيء ناظرا فيه، ولا يحاول أخذ أحد طارقا له، ولا يعاقب أحدا منكلا به، ولا يخلي سبيل أحد صافحا عنه لإصحار
84
برائته وصحة طريقته، حتى يرفع إليك أمره، وينهي إليك قضيته على جهة الصدق، ومنحى الحق، ويقين الخبر؛ فإن رأيت عليه سبيلا لمحبس أو مجازا لعقوبة، أمرته بتولي ذلك من غير إدخاله عليك، ولا مشافهة لك منه؛ فكان المتولي لذلك ولم يجر على يديك مكروه رأي ولا غلظة عقوبة. وإن وجدت إلى العفو عنه سبيلا، أو كان مما قرف به خليا، كنت أنت المتولي للإنعام عليه بتخلية سبيله، والصفح عنه بإطلاق أسره؛ فتوليت أجر ذلك واستحققت ذخره، وأنطقت لسانه بشكرك، وطوقت قومه حمدك، وأوجبت عليهم حقك؛ فقرنت بين خصلتين، وأحرزت حظوتين: ثواب الله في الآخرة، ومحمود الذكر في الدنيا.
ثم إياك أن يصل إليك أحد من جندك وجلسائك وخاصتك وبطانتك بمسألة يكشفها لك، أو حاجة يبدهك بطلبها، حتى يرفعها قبل ذلك إلى كاتبك الذي أهدفته لذلك ونصبته له، فيعرضها عليك منهيا لها على جهة الصدق عنها، وتكون على معرفة من قدرها: فإن أردت إسعافه بها ونجاح ما سأل منها، أذنت له في طلبها، باسطا له كنفك، مقبلا عليه بوجهك؛ مع ظهور سرورك بما سألك، وفسحة رأي وبسطة ذرع، وطيب نفس. وإن كرهت قضاء حاجته، وأحببت رده عن طلبته؛ وثقل عليك إجابته إليها وإسعافه بها، أمرت كاتبك فصفحه
85
عنها، ومنعه من مواجهتك بها؛ فخفت عليك في ذلك المئونة، وحسن لك الذكر، ولم ينشر عنك تجهم الرد، وينلك سوء القالة في المنع، وحمل على كاتبك في ذلك لائمة أنت منها بريء الساحة.
وكذلك فليكن رأيك وأمرك فيمن طرأ عليك من الوفود وأتاك من الرسل، فلا يصلن إليك أحد منهم إلا بعد وصول علمه إليك، وعلم ما قدم له عليك، وجهة ما هو مكلمك به، وقدر ما هو سائلك إياه إذا هو وصل إليك، فأصدرت رأيك في حوائجه، وأجلت فكرك في أمره، واخترت معتزما على إرادتك في جوابه، وأنفذت مصدور رويتك في مرجوع مسألته قبل دخوله عليك، وعلمه بوصول حاله إليك؛ فرفعت عنك مئونة البديهة، وأرخيت عن نفسك خناق الروية، وأقدمت على رد جوابه بعد النظر وإجالة الفكر فيه. فإن دخل إليك أحد منهم فكلمك بخلاف ما أنهى إلى كاتبك وطوى عنه حاجته قبلك، دفعته عنك دفعا جميلا، ومنعته جوابك منعا وديعا؛ ثم أمرت حاجبك بإظهار الجفوة له والغلظة عليه، ومنعه من الوصول إليك؛ فإن ضبطك لذلك مما يحكم لك تلك الأسباب، صارفا عنك مئونتها، ومسهلا عليك مستصعبها.
احذر تضييع رأيك وإهمالك أدبك في مسالك الرضا والغضب واعتوارهما إياك، فلا يزدهيك إفراط عجب تستخفك روائعه، ويستهويك منظره، ولا يبدرن منك ذلك خطأ ونزق خفة لمكروه إن حل بك، أو حادث إن طرأ عليك. وليكن من نفسك ظهري ملجأ تتحرز به من آفات الردى، وتستعضده في مهم
86
نازل، وتتعقب به أمورك في التدبير. فإن احتجت إلى مادة من عقلك، وروية من فكرك، أو استنباط من منطقك؛ كان انحيازك إلى ظهريك مزدادا مما أحببت الامتياح منه والامتياز؛ وإن استدبرت
87
من أمورك بوادر جهل أو مضي زلل أو معاندة حق أو خطل تدبير، كان ما احتجنت إليه من رأيك عذرا لك عند نفسك، وظهريا قويا على رد ما كرهت، وتخفيفا لمئونة الباغين عليك في القالة وانتشار الذكر؛ وحصنا من غلوب الآفات عليك، واستعلائها على أخلاقك.
وامنع أهل بطانتك وخاصة خدمك من استلحام أعراض الناس عندك بالغيبة، والتقرب إليك بالسعاية، والإغراء من بعض ببعض؛ أو النميمة إليك بشيء من أحوالهم المستترة عنك، أو التحميل لك على أحد منهم بوجه النصيحة ومذهب الشفقة: فإن ذلك أبلغ بك سموا إلى منالة الشرف، وأعون لك على محمود الذكر، وأطلق لعنان الفضل في جزالة الرأي وشرف الهمة وقوة التدبير.
واملك نفسك عن الانبساط في الضحك والانفهاق، وعن القطوب بإظهار الغضب وتنحله: فإن ذلك ضعف عن ملك سورة الجهل، وخروج من انتحال اسم الفضل. وليكن ضحكك تبسما أو كشرا في أحايين ذلك وأوقاته، وعند كل رائع مستخف مطرب، وقطوبك إطراقا في مواضع ذلك وأحواله ، بلا عجلة إلى السطوة ولا إسراع إلى الطيرة، دون أن تكنفها روية الحلم؛ وتملك عليها بادرة الجهل.
إذا كنت في مجلس ملئك، وحيث حضور العامة مجلسك، فإياك والرمي بنظرك إلى خاص من قوادك، أو ذي أثرة عندك من حشمك. وليكن نظرك مقسوما في الجميع، وإراعتك سمعك ذا الحديث بدعة هادئة، ووقار حسن، وحضور فهم مجتمع، وقلة تضجر بالمحدث. ثم لا يبرح وجهك إلى بعض حرسك وقوادك متوجها بنظر ركين، وتفقد محض. وإن وجه إليك أحد منهم نظرة محدقا، أو رماك ببصره ملحا، فاخفض عنه إطراقا جميلا باتداع وسكون. وإياك والتسرع في الإطراق، والخفة في تصريف النظر، والإلحاح على من قصد إليك في مخاطبته إياك رامقا بنظره.
واعلم أن تصفحك وجوه جلسائك وتفقدك مجالس قوادك من قوة التدبير، وشهامة القلب، وذكاء الفطنة، وانتباه السنة. فتفقد ذلك عارفا بمن حضرك وغاب عنك، عالما بمواضعهم من مجلسك، ثم اعد بهم عن ذلك سائلا لهم عن أشغالهم التي منعتهم من حضور مجلسك، وعاقتهم بالتخلف عنك.
إن كان أحد من حشمك وأعوانك تثق منه بغيب ضمير، وتعرف منه لين طاعة، وتشرف منه على صحة رأي، وتأمنه على مشورتك، فإياك والإقبال عليه في كل حادث يرد عليك، والتوجه نحوه بنظرك عند طوارق ذلك، وأن تريه أو أحدا من أهل مجلسك أن بك حاجة إليه موحشة، أو أن ليس بك عنه غنى في التدبير، أو أنك لا تقضي دونه رأيا، إشراكا منك له في رويتك، وإدخالا منك له في مشورتك، واضطرارا منك إلى رأيه في الأمر يعروك، فإن ذلك من دخائل العيوب التي ينتشر بها سوء القالة عن نظرائك، فانفها عن نفسك خائفا لاعتلاقها ذكرك، واحجبها عن رويتك قاطعا لأطماع أوليائك عن مثلها عندك، أو غلوبهم عليها منك.
واعلم أن للمشورة موضع الخلوة وانفراد النظر، ولكل أمر غاية تحيط بحدوده، وتجمع معالمه. فابغها محرزا لها، ورمها طالبا لنيلها؛ وإياك والقصور عن غايتها أو العجز عن دركها، أو التفريط في طلبها. إن شاء الله تعالى.
إياك والإغرام عن حديث ما أعجبك، أو أمر ما ازدهاك بكثرة السؤال، أو القطع لحديث من أرادك بحديثه حتى تنقضه عليه بالخوض في غيره أو المسألة عما ليس منه: فإن ذلك عند العامة منسوب إلى سوء الفهم وقصر الأدب عن تناول محاسن الأمور والمعرفة بمساويها، ولكن أنصت لمحدثك وأرعه سمعك حتى يعلم أن قد فهمت حديثه، وأحطت معرفة بقوله؛ فإن أردت إجابته فعن معرفة بحاجته وبعد علم بطلبته؛ وإلا كنت عند انقضاء كلامه كالمتعجب من حديثه بالتبسم والإغضاء، فأجزى عنك الجواب، وقطع عنك ألسن العتب.
إياك وأن تظهر منك تبرم بطول مجلسك، أو تضجر ممن حضرك؛ وعليك بالتثبت عند سورة الغضب، وحمية الأنف، وملال الصبر في الأمر تستعجل به والعمل تأمر بإنفاذه؛ فإن ذلك سخف شائن، وخفة مردية، وجهالة بادية. وعليك بثبوت المنطق، ووقار المجلس، وسكون الريح، والرفض لحشو الكلام، والترك لفضوله والإغرام بالزيادات في منطقتك، والترديد للفظك: من نحو اسمع، وافهم عني، ويا هناه، وألا ترى، أو ما يلهج به من هذه الفضول المقصرة بأهل العقل، الشائنة لذوي الحجا في المنطق، المنسوبة إليهم بالعي، المردية لهم بالذكر. وخصال من معايب الملوك، والسوقة عنها غبية النظر إلا من عرفها من أهل الأدب، وقلما حامل لها، مضطلع بها، صابر على ثقلها آخذ لنفسه بجوامعها، فانفها عن نفسك بالتحفظ منها، واملك عليها اعتيادك إياها معتنيا بها، منها كثرة التنخم، والتبصق، والتنخع، والثؤباء، والتمطي، والجشاء، وتحريك القدم، وتنقيض
88
الأصابع، والعبث بالوجه واللحية أو الشارب أو المخصرة أو ذؤابة السيف، أو الإيماض بالنظر، أو الإشارة بالطرف إلى بعض خدمك بأمر إن أردته، أو السرار في مجلسك، أو الاستعجال في طعمك أو شربك. وليكن طعمك متدعا، وشربك أنفاسا، وجرعك مصا. وإياك والتسرع إلى الأيمان فيما صغر أو كبر من الأمور، والشتيمة بقول: يابن الهناه؛ أو الغميزة
89
لأحد من خاصتك بتسويغهم مقارفة الفسوق بحيث محضرك أو دارك وفناؤك: فإن ذلك كله مما يقبح ذكره، ويسوء موقع القول فيه، وتحمل عليك معايبه، وينالك شينه، وينتشر عليك سوء النبإ به. فاعرف ذلك متوقيا له، واحذره مجانبا لسوء عاقبته.
استكثر من فوائد الخير: فإنها تنشر المحمدة، وتقيل العثرة؛ واصبر على كظم الغيظ: فإنه يورث الراحة، ويؤمن الساحة؛ وتعهد العامة بمعرفة دخلهم، وتبطن أحوالهم، واستثارة دفائنهم؛ حتى تكون منها على رأى عين، ويقين خبرة؛ فتنعش عديمهم، وتجبر كسيرهم؛ وتقيم أودهم، وتعلم جاهلهم، وتستصلح فاسدهم: فإن ذلك من فعلك بهم يورثك العزة، ويقدمك في الفضل؛ ويبقي لك لسان الصدق في العاقبة، ويحرز لك ثواب الآخرة، ويرد عليك عواطفهم المستنفرة منك، وقلوبهم المتنحية عنك.
قس بين منازل أهل الفضل في الدين والحجا والرأي والعقل والتدبير والصيت في العامة وبين منازل أهل النقص في طبقات الفضل وأحواله، والخمول عند مباهاة النسب؛ وانظر بصحبة أيهم تنال من مودته الجميل، وتستجمع لك أقاويل العامة على التفضيل؛ وتبلغ درجة الشرف في أحوالك المتصرفة بك. فاعتمد عليهم مدخلا لهم في أمرك، وآثرهم بمجالستك لهم مستمعا منهم؛ وإياك وتضييعهم مفرطا، وإهمالهم مضيعا.
هذه جوامع خصال قد لخصها لك أمير المؤمنين مفسرا، وجمع لك شواذها مؤلفا، وأهدها إليك مرشدا؛ فقف عند أوامرها، وتناه عن زواجرها، وتثبت في مجامعها؛ وخذ بوثائق عراها، تسلم من معاطب الردى، وتنل أنفس الحظوظ ورغيب الشرف؛ وأعلى درج الذكر، وتأثل
90
سطر العز. والله يسأل لك أمير المؤمنين حسن الإرشاد، وتتابع المزيد، وبلوغ الأمل، وأن يجعل عاقبة ذلك بك إلى غبطة يسوغك إياها، وعافية يحلك أكنافها، ونعمة يلهمك شكرها: فإنه الموفق للخير، والمعين على الإرشاد؛ منه تمام الصالحات، وهو مؤتي الحسنات، عنده مفاتيح الخير، وبيده الملك وهو على كل شيء قدير.
فإذا أفضيت نحو عدوك، واعتزمت على لقائهم، وأخذت أهبة قتالهم، فاجعل دعامتك التي تلجأ إليها، وثقتك التي تأمل النجاة بها، وركنك الذي ترتجي منالة الظفر به وتكتهف
91
به لمعالق الحذر، تقوى الله مستشعرا لها بمراقبته، والاعتصام بطاعته متبعا لأمره، مجتنبا لسخطه، محتذيا سنته، والتوقي لمعاصيه في تعطيل حدوده، أو تعدي شرائعه؛ متوكلا عليه فيما صمدت له، واثقا بنصره فيما توجهت نحوه، متبرئا من الحول والقوة فيما نالك من ظفر وتلقاك من عز، راغبا فيما أهاب
92
بك أمير المؤمنين إليه من فضل الجهاد، ورمى بك إليه محمود الصبر فيه عند الله من قتال عدو المسلمين، أكلبهم
93
عليه وأظهره عداوة لهم، وأفدحه ثقلا لعامتهم، وآخذه بربقهم، وأعلاه عليهم بغيا، وأظهره عليهم فسقا وفجورا، وأشده على فيئهم الذي أصاره الله لهم وفتحه عليهم مئونة وكلا.
94
والله المستعان عليهم، والمستنصر على جماعتهم، عليه يتوكل أمير المؤمنين، وإياه يستصرخ عليهم، وإليه يفوض أمره، وكفى بالله وليا وناصرا ومعينا، وهو القوي العزيز.
ثم خذ من معك من تباعك وجندك بكف معرتهم، ورد مشتعل جهلهم، وإحكام ضياع عملهم، وضم منتشر قواصيهم، ولم شعث أطرافهم، وتقييدهم عمن مروا به من أهل ذمتك وملتك بحسن السيرة، وعفاف الطعمة، ودعة الوقار، وهدى الدعة، وجمام المستجم، محكما ذلك منهم، متفقدا لهم تفقدك إياه من نفسك. ثم اصمد لعدوك المتسمى بالإسلام، الخارج من جماعة أهله، المنتحل ولاية الدين مستحلا لدماء أوليائه، طاعنا عليهم، راغبا عن سنتهم، مفارقا لشرائعهم؛ يبغيهم الغوائل، وينصب لهم المكابد؛ أضرم حقدا عليهم، وأرصد عداوة لهم، وأطلب لغرات فرصهم من الترك وأمم الشرك وطواغي الملل؛ يدعو إلى المعصية والفرقة، والمروق من دين الله إلى الفتنة، مخترعا بهواه للأديان المنتحلة والبدع المتفرقة خسارا وتخسيرا، وضلالا وتضليلا، بغير هدى من الله ولا بيان. ساء ما كسبت له يداه وما الله بظلام للعبيد، وساء ما سولت له نفسه الأمارة بالسوء، والله من ورائه بالمرصاد:
وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون .
حصن جندك، واشكم نفسك بطاعة الله في مجاهدة أعدائه، وارج نصره، وتنجز موعوده، متقدما في طلب ثوابه على جهادهم، معتزما في ابتغاء الوسيلة إليه على لقائهم: فإن طاعتك إياه فيهم، ومراقبتك له ورجاءك نصره مسهل لك وعوره، وعاصمك من كل سبة، ومنجيك من كل هوة، وناعشك من كل صرعة، ومقيلك من كل كبوة، ودارئ عنك كل شبهة، ومذهب عنك لطخة كل شك، ومقويك بكل أيد
95
ومكيدة، ومعزك في كل معترك قتال، ومؤيدك في كل مجمع لقاء، وكالئك عند كل فتنة مغشية،
96
وحائطك من كل شبهة مردية؛ والله وليك وولى أمير المؤمنين فيك، والمستخلف على جندك ومن معك.
اعلم أن الظفر ظفران: أحدهما - وهو أعم منفعة، وأبلغ في حسن الذكر قالة، وأحوطه سلامة، وأتمه عافية، وأحسنه في الأمور وأعلاه في الفضل شرفا، وأصحه في الروية حزما، وأسلمه عند العامة مصدرا - ما نيل بسلامة الجنود، وحسن الحيلة، ولطف المكيدة ويمن النقيبة، واستنزال طاعة ذوي الصدوف بغير إخطار الجيوش في وقدة جمرة الحرب، ومبارزة الفرسان في معترك الموت؛ وإن ساعدتك طلوق الظفر، ونالك مزيد السعادة في الشرف، ففي مخاطرة التلف مكروه المصائب، وعضاض السيوف وألم الجراح، وقصاص الحروب وسجالها بمغاورة
97
أبطالها. على أنك لا تدري لأي يكون الظفر في البديهة، ومن المغلوب بالدولة، ولعلك أن تكون المطلوب بالتمحيص، فحاول إصابة أبلغهما في سلامة جندك ورعيتك، وأشهرهما صيتا في بدو تدبيرك ورأيك، وأجمعهما لألفة وليك وعدوك، وأعونهما على صلاح رعيتك وأهل ملتك، وأقواهما شكيمة في حزمك، وأبعدهما من وصم عزمك، وأعلقهما بزمام النجاة في آخرتك، وأجزلهما ثوابا عند ربك.
وابدأ بالإعذار إلى عدوك، والدعاء لهم إلى مراجعة الطاعة وأمر الجماعة وعز الألفة، آخذا بالحجة عليهم، متقدما بالإنذار لهم، باسطا أمانك لمن لجأ إليك منهم، داعيا لهم إليه بألين لفظك وألطف حيلك، متعطفا برأفتك عليهم، مترفقا بهم في دعائك، مشفقا عليهم من غلبة الغواية لهم وإحاطة الهلكة بهم، منفذا رسلك إليهم بعد الإنذار: تعدهم إعطاء كل رغبة يهش إليها طمعهم في موافقة الحق، وبسط كل أمان سألوه لأنفسهم ومن معهم ومن تبعهم؛ موطنا نفسك فيما تبسط لهم من ذلك على الوفاء بعهدك، والصبر على ما أعطيتهم من وثائق عقدك؛ قابلا توبة نازعهم عن الضلالة، ومراجعة مسيئهم إلى الطاعة؛ مرصدا للمنحاز إلى فئة المسلمين وجماعتهم إجابة إلى ما دعوته إليه وبصرته إياه من حقك وطاعتك، بفضل المنزلة، وإكرام المثوى، وتشريف الجاه. وليظهر من أثرك عليه وإحسانك إليه ما يرغب في مثله الصادف عنك، المصر على خلافك ومعصيتك؛ ويدعو
98
إلى اعتلاق حبل النجاة وما هو أملك به في الاعتصام عاجلا، وأنجى له من العقاب آجلا، وأحوطه على دينه ومهجته بدءا وعاقبة؛ فإن ذلك مما يستدعي به من الله نصره عليهم، ويعتضد به في تقديمه الحجة إليهم، معذرا أو منذرا، إن شاء الله.
ثم أذك عيونك على عدوك متطلعا لعلم أحوالهم التي يتقلبون فيها، ومنازلهم التي هم بها، ومطامعهم التي قد مدوا أعناقهم نحوها، وأي الأمور أدعى لهم إلى الصلح، وأقودها لرضاهم إلى العافية ، وأسهلها لاستنزال طاعتهم، ومن أي الوجوه مأتاهم: أمن قبل الشدة والمنافرة والمكيدة والمباعدة والإرهاب والإيعاد، أم الترغيب والإطماع؛ متثبتا في أمرك، متخيرا في رويتك، مستمكنا من رأيك، مستشيرا لذوي النصيحة الذين قد حنكتهم السن، وخبطتهم التجربة، ونجذتهم الحروب، متشزنا
99
في حربك، آخذا بالحزم في سوء الظن، معدا للحذر، محترسا من الغرة؛ كأنك في مسيرك كله ونزولك أجمع مواقف لعدوك رأى عين تنتظر حملاتهم، وتتخوف كراتهم، معدا أقوى مكايدك، وأرهب عتادك، وأنكأ جدك، وأجد تشميرك؛ معظما أمر عدوك لأعظم مما بلغك، حذرا يكاد يفرط: لتعد له من الاحتراس عظيما، ومن المكيدة قويا؛ من غير أن يفثأك
100
ذلك عن إحكام أمورك، وتدبير رأيك، وإصدار رويتك، والتأهب لما يحزبك، مصغرا له بعد استشعار الحذر، واضطمار الحزم، وإعمال الزوية، وإعداد الأهبة. فإن ألفيت عدوك كليل الحد، وقم
101
الحزم، نضيض
102
الوفر، لم يضرك ما اعتددت له من قوة وأخذت له من حزم، ولم يزدك ذلك إلا جرأة عليه، وتسرعا إلى لقائه. وإن ألفيته متوقد الحرب، مستكثف الجمع، قوي التبع، مستعلي سورة الجهل، معه من أعوان الفتنة وتبع إبليس من يوقد لهب الفتنة مسعرا، ويتقدم إلى لقاء أبطالها متسرعا، كنت لأخذك بالحزم، واستعدادك بالقوة، غير مهين الجند، ولا مفرط في الرأي، ولا متلهف على إضاعة تدبير، ولا محتاج إلى الإعداد وعجلة التأهب مبادرة تدهشك، وخوفا يقلقك. ومتى تغتر بترقيق المرققين، وتأخذ بالهوينا في أمر عدوك لتصغير المصغرين، ينتشر عليك رأيك، ويكون فيه انتقاض أمرك ووهن تدبيرك، وإهمال للحزم في جندك، وتضييع له وهو ممكن الإصحار، رحب المطلب، قوي العصمة، فسيح المضطرب؛ مع ما يدخل رعيتك من الاغترار والغفلة عن إحكام أحراسهم، وضبط مراكزهم، لما يرون فيه من استنامتك إلى الغرة، وركونك إلى الأمن، وتهاونك بالتدبير؛ فيعود ذلك عليك في انتشار الأطراف، وضياع الأحكام، ودخول الوهن بما لا يستقال محذوره، ولا يدفع مخوفه.
احفظ من عيونك وجواسيسك ما يأتونك به من أخبار عدوك. وإياك ومعاقبة أحد منهم على خبر إن أتاك به اتهمته فيه أو سؤت به ظنا وأتاك غيره بخلافه، أو أن تكذبه فيه فترده عليه، ولعله أن يكون قد محضك النصيحة وصدقك الخبر وكذبك الأول، أو خرج جاسوسك الأول متقدما قبل وصول هذا من عند عدوك، وقد أبرموا لك أمرا، وحاولوا لك مكيدة وأرادوا منك غرة فازدلفوا إليك في الأهبة، ثم انتقض بهم رأيهم واختلف عنه جماعتهم، فأرادوا رأيا، وأحدثوا مكيدة، وأظهروا قوة، وضربوا موعدا، وأموا مسلكا لمدد أتاهم، أو قوة حدثت لهم، أو بصيرة في ضلالة شغلتهم؛ فالأحوال بهم متنقلة في الساعات، وطوارق الحادثات. ولكن البسهم جميعا على الانتصاح، وارضخ لهم بالمطامع، فإنك لن تستعبدهم بمثلها. وعدهم جزالة المثاوب، في غير ما استنامة منك إلى ترقيقهم أمر عدوك، والاغترار إلى ما يأتونك به دون أن تعمل رويتك في الأخذ بالحزم، والاستكثار من العدة. واجعلهم أوثق من تقدر عليه، وآمن من تسكن إلى ناحيته، ليكون ما يبرم عدوك في كل يوم وليلة عندك إن استطعت ذلك، فتنقض عليهم برأيك وتدبيرك ما أبرموا، وتأتيهم من حيث أمنوا، وتأخذ لهم أهبة ما عليه أقدموا، وتستعد لهم مثل ما حذروا.
واعلم أن جواسيسك وعيونك ربما صدقوك وربما غشوك، وربما كانوا لك وعليك: فنصحوا لك وغشوا عدوك، وغشوك ونصحوا عدوك؛ وكثيرا ما يصدقونك ويصدقونه. فلا تبدرن منك فرطة عقوبة إلى أحد منهم، ولا تعجل بسوء الظن إلى من اتهمته على ذلك؛ واستنزل نصائحهم بالمياحة
103
والمنالة، وابسط من آمالهم فيك من غير أن يرى أحد منهم أنك أخذت من قوله أخذ العامل به والمتبع له، أو عملت على رأيه عمل الصادر عنه، أو رددته عليه رد المكذب به، المتهم له، المستخف بما أتاك منه، فتفسد بذلك نصيحته، وتستدعي غشه، وتجتر عداوته. واحذر أن يعرفوا في عسكرك أو يشار إليهم بالأصابع. وليكن منزلهم على كاتب رسائلك وأمين سرك، ويكون هو الموجه لهم، والمدخل عليك من أردت مشافهته منهم.
واعلم أن لعدوك في عسكرك عيونا راصدة، وجواسيس متجسسة،
104
وأنه لن يقع
105
رأيه عن مكيدتك بمثل ما تكايده به، وسيحتال لك كاحتيالك له ، ويعد لك كإعدادك فيما تزاوله منه، ويحاولك كمحاولتك إياه فيما تقارعه عنه؛ فاحذر أن يشهر رجل من جواسيسك في عسكرك فيبلغ ذلك عدوك ويعرف موضعه، فيعد له المراصد، ويحتال له بالمكايد. فإن ظفر به فأظهر عقوبته، كسر ذلك ثقات عيونك، وخذلهم عن تطلب الأخبار من معادنها، واستقصائها من عيونها، واستعذاب اجتنائها من ينابيعها، حتى يصيروا إلى أخذها مما عرض من غير الثقة ولا المعاينة، لقطا لها بالأخبار الكاذبة، والأحاديث المرجفة. واحذر أن يعرف بعض عيونك بعضا: فإنك لا تأمن تواطؤهم عليك، وممالأتهم عدوك، واجتماعهم على غشك، وتطابقهم على كذبك، وإصفاقهم
106
على خيانتك، وأن يورط بعضهم بعضا عند عدوك، فأحكم أمرهم فإنهم رأس مكيدتك، وقوام تدبيرك، وعليهم مدار حربك، وهو أول ظفرك. فاعمل على حسب ذلك وحيث رجاؤك به، تنل أملك من عدوك، وقوتك على قتاله، واحتيالك لإصابة غراته وانتهاز فرصه، إن شاء الله.
فإذا أحكمت ذلك وتقدمت في إتقانه، واستظهرت بالله وعونه، فول شرطتك وأمر عسكرك أوثق قوادك عندك، وأظهرهم نصيحة لك، وأنفذهم بصيرة في طاعتك، وأقواهم شكيمة في أمرك، وأمضاهم صريمة،
107
وأصدقهم عفافا، وأجزأهم غناء، وأكفاهم أمانة، وأصحهم ضميرا، وأرضاهم في العامة دينا، وأحمدهم عند الجماعة خلقا، وأعطفهم على كافتهم رأفة، وأحسنهم لهم نظرا، وأشدهم في دين الله وحقه صلابة. ثم فوض إليه مقويا له، وابسط من أمله مظهرا عنه الرضا، حامدا منه الابتلاء. وليكن عالما بمراكز الجنود، بصيرا بتقدم المنازل، مجربا، ذا رأي وحزم في المكيدة؛ له نباهة في الذكر، وصيت في الولاية، معروف البيت، مشهور الحسب. وتقدم إليه في ضبط معسكره ، وإذكاء أحراسه في آناء ليله ونهاره؛ ثم حذره أن يكون منه إذن لجنوده في الانتشار والاضطراب، والتقدم لطلائعك، فتصاب لهم غرة يجترئ بها عدوك عليك، ويسرع إقداما إليك، ويكسر من إياد
108
جندك ويوهن من قوتهم؛ فإن الصوت
109
في إصابة عدوك الرجل الواحد من جندك أو عبيدهم مطمع لهم فيك، مقو لهم على شحذ أتباعهم عليك وتصغيرهم أمرك، وتوهينهم تدبيرك، فحذره ذلك وتقدم إليه فيه؛ ولا يكونن منه إفراط في التضييق عليهم، والحصر لهم، فيعمهم أزله،
110
ويشملهم ضنكه؛ وتسوء عليهم حاله، وتشتد به المئونة عليهم، وتخبث له ظنونهم. وليكن موضع إنزاله إياهم ضاما لجماعتهم، مستديرا بهم جامعا لهم؛ ولا يكون منبسطا منتشرا متبددا، فيشق ذلك على أصحاب الأحراس، وتكون فيه النهزة للعدو، والبعد من المادة
111
إن طرق طارق في فجآت الليل وبغتاته. وأوعز إليه في أحراسه، وتقدم إليه فيهم كأشد التقدم وأبلغ الإيعاز. ومره فليول عليهم رجلا ركينا مجربا جريء الإقدام، ذاكي الصرامة، جلد الجوارح، بصيرا بمواضع أحراسه، غير مصانع ولا مشفع للناس في التنحي إلى الرفاهية والسعة، وتقدم العسكر والتأخر عنه، فإن ذلك مما يضعف الوالي ويوهنه لاستنامته إلى من ولاه ذلك وأمنه به على جيشه.
واعلم أن مواضع الأحراس من معسكرك، ومكانها من جندك، بحيث الغناء عنهم والرد عليهم، والحفظ لهم، والكلاءة لمن بغتهم طارقا، أو أرادهم خاتلا؛ ومراصدها المنسل منها والآبق من أرقائهم وأعبدهم؛ وحفظها من العيون والجواسيس من عدوهم. واحذر أن تضرب على يديه أو تشكمه عن الصرامة بمؤامرتك في كل أمر حادث وطارئ إلا في المهم النازل والحدث العام: فإنك إذا فعلت ذلك به، دعوته إلى نصحك، واستوليت على محصول ضميره في طاعتك؛ وأجهد نفسه في ترتيبك، وأعمل رأيه في بلوغ موافقتك وإعانتك؛ وكان ثقتك وردأك وقوتك ودعامتك، وتفرغت أنت لمكايدة عدوك، مريحا لنفسك من هم ذلك والعناية به، ملقيا عنك مئونة باهظة وكلفة فادحة.
واعلم أن القضاء من الله بمكان ليس به شيء من الأحكام، ولا بمثل محله أحد من الولاة؛ لما يجري على يديه من مغاليظ الأحكام ومجاري الحدود. فليكن من توليه القضاء في عسكرك [من ذوي]
112
الخير والقناعة والعفاف والنزاهة والفهم والوقار والعصمة والورع، والبصر بوجوه القضايا ومواقعها، قد حنكته السن وأيدته التجربة وأحكمته الأمور، ممن لا يتصنع للولاية ويستعد للنهزة، ويجترئ على المحاباة في الحكم، والمداهنة في القضاء، عدل الأمانة، عفيف الطعمة،
113
حسن الإنصاف، فهم القلب، ورع الضمير، متخشع السمت، بادي الوقار، محتسبا للخير. ثم أجر عليه ما يكفيه ويسعه ويصلحه؛ وفرغه لما حملته، وأعنه على ما وليته: فإنك قد عرضته لهلكة الدنيا وبوار الآخرة، أو شرف الدنيا وحظوة الآجلة، إن حسنت نيته، وصدقت رويته، وصحت سريرته، وسلط حكم الله على رعيته؛ مطلقا عنانه، منفذا قضاء الله في خلقه، عاملا بسنته في شرائعه، آخذا بحدوده وفرائضه.
واعلم أنه من جندك بحيث ولايتك،
114
الجارية أحكامه عليهم، النافذة أقضيته فيهم؛ فاعرف من توليه ذلك وتسنده إليه. ثم تقدم في طلائعك فإنها أول مكيدتك، ورأس حربك، ودعامة أمرك، فانتخب لها من كل قادة وصحابة رجالا ذوي نجدة وبأس، وصرامة وخبرة، حماة كفاة، قد صلوا بالحرب وذاقوا سجالها، وشربوا مرار كئوسها، وتجرعوا غصص درتها؛ وزبنتهم بتكرار عواطفها، وحملتهم على أصعب مراكبها، وذللتهم بثقاف أودها. ثم انتقهم على عينك، واعرض كراعهم بنفسك؛ وتوخ في انتقائك ظهور الجلد، وشهامة الخلق، وكمال الآلة. وإياك أن تقبل من دوابهم إلا الإناث من الخيل المهلوبة
115
فإنهن أسرع طلبا، وأنجى مهربا، وألين معطفا، وأبعد في اللحوق غاية، وأصبر في معترك الأبطال إقداما.
وخذهم من السلاح بأبدان الدروع، ماذية
116
الحديد، شاكة النسج، متقاربة الحلق، متلاحمة المسامير وأسوق الحديد، مموهة الركب، محكمة الطبع خفيفة الصوغ؛ وسواعد طبعها هندي، وصوغها فارسي؛ رقاق المعاطف بأكف واقية وعمل محكم. ويلمق
117
البيض مذهبة ومجردة، فارسية الصوغ، خالصة الجوهر، سابغة الملبس، واقية الجنن، مستديرة الطبع، مبهمة السرد، وافية الوزن كتريك
118
النعام في الصنعة واستدارة التقبيب، واستواء الصوغ، معلمة بأصناف الحرير وألوان الصبغ؛ فإنها أهيب لعدوهم، وأفت لأعضاد من لقيهم، والمعلم مخشي محذور، له بديهة رادعة، وهيبة هائلة؛ معهم السيوف الهندية، وذكور البيض اليمانية؛ رقاق الشفرات، مسنونة الشحذ، مشطبة
119
الضرائب. معتدلة الجواهر، صافية الصفائح؛ لم يدخلها وهن الطبع، ولا عابها أمت
120
الصوغ، ولا شانها خفة الوزن، ولا فدح حاملها بهور الثقل؛ قد أشرعوا لدن القنا، طوال الهوادي، مقومات الأود، زرق الأسنة، مستوية الثعالب؛
121
وميضها متوقد، وسنخها
122
متلهب، معاقص
123
عقدها منحوتة، ووصوم أودها مقومة، وأجناسها مختلفة، وكعوبها جعدة، وعقدها حبكة؛ شطبة الأسنان، مموهة الأطراف، مستحدة الجنبات، دقاق الأطراف، ليس فيها التواء أود، ولا أمت وصم، ولا بها مسقط عيب، ولا عنها وقوع أمنية؛ مستحقبي كنائن النبل وقسي الشوحط
124
والنبع؛ أعرابية التعقيب، رومية النصول، مسمومة الصوغ؛ ولتكن سهامها على خمس قبضات سوى النصول، فإنها أبلغ في الغاية، وأنفذ في الدروع، وأشك في الحديد؛ سامطين حقائبهم على متون خيولهم، مستخفين من الآلة والأمتعة والزاد، [إلا ما لا غناء بهم عنه].
125
واحذر أن تكل مباشرة عرضهم وانتخابهم إلى أحد من أعوانك وكتابك؛ فإنك إن وكلته إليهم أضعت مواضع الحزم، وفرطت حيث الرأي، ووقفت دون عزم الروية، ودخل عملك ضياع الوهن، وخلص إليك عيب المحاباة، وناله فساد المداهنة، وغلب عليه من لا يصلح أن يكون طليعة للمسلمين ولا عدة ولا حصنا يدرئون به، ويكتهفون بموضعه. والطلائع حصون المسلمين وعيونهم، وهم أول مكيدتك، وعروة أمرك، وزمام حربك. فليكن اعتناؤك بهم، وانتقاؤك إياهم بحيث هم من مهم عملك، ومكيدة حربك؛ ثم انتخب للولاية عليهم رجلا بعيد الصوت، مشهور الاسم، طاهر الفضل، نبيه الذكر؛ له في العدو وقعات معروفات، وأيام طوال وصولات متقدمات؛ قد عرفت نكايته، وحذرت شوكته، وهيب صوته، وتنكب لقاؤه؛ أمين السريرة، ناصح الجيب؛
126
قد بلوت منه ما يسكنك إلى ناحيته: من لين الطاعة، وخالص المودة، وركانة الصرامة، وغلوب الشهامة، واستجماع القوة، وحصافة التدبير. ثم تقدم إليه في حسن سياستهم، واستنزال طاعتهم، واجتلاب موداتهم واستعذاب ضمائرهم؛ وأجر عليهم وعليه أرزاقا تسعهم، وتمد من أطماعهم سوى أرزاقهم في العامة، فإن ذلك من القوة لك عليهم، والاستنامة إلى ما قبلهم.
واعلم أنهم في أهم الأماكن لك، وأعظمها غناء عنك وعمن معك، وأقمعها كبتا لمحادك، وأشجاها غيظا لعدوك. ومن يكن في الثقة، والجلد، والبأس، والطاعة، والقوة، والنصيحة والعدة، والنجدة حيث وصف لك أمير المؤمنين وأمرك به، يضع عنك مئونة الهم؛ ويرخ من خناقك روع الخوف، وتلتجئ إلى أمر منيع، وظهر قوي، ورأي حازم، تأمن به فجآت عدوك، وغرات بغتاتهم، وطوارق أحداثهم؛ ويصير إليك علم أحوالهم، ومتقدمات خيولهم؛ فانتخبهم رأى عين، وقوهم بما يصلحهم من المنالات والأطماع والأرزاق، واجعلهم منك بالمنزل الذي هم به من محارز علاقتك، وحصانة كهوفتك، وقوة سيارة عسكرك. وإياك أن تدخل فيهم أحدا بشفاعة، أو تحتمله على هوادة، أو تقدمه لأثرة؛ أو أن يكون مع أحد منهم بغل نفل،
127
أو فضل من الظهر، أو ثقل
128
فادح، فتشتد عليهم مئونة أنفسهم، ويدخلهم كلال السآمة فيما يعالجون من أثقالهم، ويشتغلون به من عدوهم إن دهمهم منه رائع؛ أو فجأهم منه طليعة. فتفقد ذلك محكما له، وتقدم فيه آخذا بالحزم في إمضائه؛ أرشدك الله لإصابة الحظ، ووفقك ليمن التدبير، وقصد بك لأسهل الرأي وأعوده نفعا في العاجل والآجل، وأكبته لعدوك وأشجاه لهم، وأردعه لعاديتهم.
ول دراجة عسكرك وإخراج أهله إلى مصافهم ومراكزهم رجلا من أهل بيوتات الشرف، محمود الخبرة، معروفا بالنجدة، ذا سن وتجربة، لين الطاعة، قديم النصيحة، مأمون السريرة، له بصيرة بالحق نافذة تقدمه، ونية صادقة عن الإدهان
129
تحجزه. واضمم إليه عدة نفر من ثقات جندك وذوي أسنانهم يكونون شرطة معه؛ ثم تقدم إليه في إخراج المصاف، وإقامة الأحراس وإذكاء العيون، وحفظ الأطراف، وشدة الحذر؛ ومره فليضع القواد بأنفسهم مع أصحابهم في مصافهم، كل قائد بإزاء مكانه، وحيث منزله، قد سد ما بينه وبين صاحبه بالرماح شارعة، والترسة موضونة،
130
والرجال راصدة، ذاكية الأحراس، وجلة الروع، خائفة طوارق العدو وبياته. ثم مره فليخرج كل ليلة قائدا في أصحابه أو عدة منهم إن كانوا كثيرا، على غلوة أو اثنتين من عسكرك، منتبذا عنك محيطا بمنزلك، ذاكية أحراسه، قلقة التردد، مفرطة الحذر، معدة للروع، متأهبة للقتال، آخذة على أطراف المعسكر ونواحيه ، متفرقين في اختلافهم كردوسا كردوسا؛
131
يستقبل بعضهم بعضا [في الاختلاف]
132
ويكسع تال متقدما في التردد؛ واجعل ذلك بين قوادك وأهل عسكرك نوبا معروفة، وحصصا مفروضة، لا تعر منها مزدلفا منك بمودة، ولا تتحامل فيه على أحد بموجدة. إن شاء الله تعالى.
فوض إلى أمراء أجنادك وقواد خيلك أمور أصحابهم، والأخذ على قافية أيديهم، رياضة منك لهم على السمع والطاعة لأمرائهم، والاتباع لأمرهم، والوقوف عند نهيهم؛ وتقدم إلى أمراء الأجناد في النوائب التي ألزمتهم إياها، والأعمال التي استنجدتهم لها، والأسلحة والكراع التي كتبتها عليهم؛ واحذر من قواد عليك بما يحول بينك وبين تأديب جندك، وتقويمهم لطاعتك، وقمعهم عن الإخلال بمراكزهم لشيء مما وكلوا به من أعمالهم؛ فإن ذلك مفسدة للجند، مفثأة للقواد
133
عن الجد والإيثار للمناصحة، والتقدم في الأحكام.
واعلم أن في استخفافهم بقوادهم وتضييعهم أمر رؤسائهم دخولا للضياع على أعمالك، واستخفافا بأمرك الذي يأتمرون به ورأيك الذي ترتئي. وأوعز إلى القواد ألا يقدم أحد منهم على عقوبة أحد من أصحابه، إلا عقوبة تأديب في تقويم ميل، وتثقيف أود، فأما عقوبة تبلغ تلف المهجة، وإقامة حد في قطع، أو إفراط في ضرب، أو أخذ مال، أو عقوبة في شعر، فلا يلين ذلك من جندك أحد غيرك، أو صاحب شرطتك بأمرك وعن رأيك وإذنك؛ ومتى لم تذلل الجند لقوادهم، وتضرعهم لأمرائهم؛ توجب لهم عليك الحجة بتضييع - إن كان منهم - لأمرك، أو خلل - إن تهاونوا به - من عملك، أو عجز - إن فرط منهم - في شيء مما وكلتهم به أو أسندته إليهم؛ ولا تجد إلى الإقدام عليهم باللوم وعض العقوبة عليهم مجازا تصل به إلى تعنيفهم، بتفريطك في تذليل أصحابهم لهم، وإفسادك إياهم عليك وعليهم. فانظر في ذلك نظرا محكما، وتقدم فيه برفقك تقدما بليغا؛ وإياك أن يدخل حزمك وهن، أو يشوب عزمك إيثار، أو يخلط رأيك ضياع؛ والله يستودع أمير المؤمنين نفسك ودينك.
إذا كنت من عدوك على مسافة دانية وسنن لقاء مختصر، وكان من عسكرك مقتربا قد شامت طلائعك مقدمات ضلالته وحماة فتنته، فتأهب أهبة المناجز، وخذ اعتداد الحذر، وكتب
134
خيولك، وعب جندك. وإياك والمسير إلا في مقدمة وميمنة وميسرة وساقة، قد شهروا الأسلحة، ونشروا البنود والأعلام. وعرف جندك مراكزهم سائرين تحت ألويتهم قد أخذوا أهبة القتال، واستعدوا للقاء؛ ملتجئين إلى مواقفهم، عارفين بمواضعهم في مسيرهم ومعسكرهم. وليكن ترحلهم وتنزلهم على راياتهم وأعلامهم وفي مراكزهم، قد عرف كل قائد منهم أصحابه مواقفهم: من الميمنة والميسرة والقلب والساقة والطليعة ، لازمين لها، غير مخلين بما استنجدوا له، ولا متهاونين فيما أهيب بهم إليه؛ حتى تكون عساكرك في منهل تصل إليه، ومسافة تختارها، كأنها عسكر واحد في اجتماعها على العدو، وأخذها بالحزم، ومسيرها على راياتها، ونزولها في مراكزها، ومعرفتها بمواضعها: إن ضلت دابة من موضعها، عرف أهل العسكر من أي المراكز هي، ومن صاحبها، وفي أي المحل حلوله منها، فردت إليه، هداية معروفة بسمت صاحب قيادتها؛ فإن تقدمك في ذلك وإحكامك له طارح عن جندك مئونة الطلب، وعناية المعرفة، وابتغاء الضالة.
ثم اجعل على ساقتك أوثق أهل عسكرك في نفسك صرامة ونفاذا ورضا في العامة، وإنصافا من نفسه للرعية، وأخذا بالحق في المعدلة، مستشعرا تقوى الله وطاعته؛ آخذا بهديك وأدبك، واقفا عند أمرك ونهيك، معتزما على مناصحتك وتزيينك، نظيرا لك في الحال وشبيها بك في الشرف، وعديلا في الموضع، ومقاربا في النسب؛
135
ثم أكثف معه الجمع، وأيده بالقوة، وقوه بالظهر، وأعنه بالأموال، واعمده بالسلاح، ومره بالتعطف على ذوي الضعف من جندك ومن أزحفت به دابته وأصابته نكبة: من مرض أو رجلة
136
أو آفة، من غير أن يأذن لأحد منهم في التنحي عن عسكره، أو التخلف بعد ترحله، إلا لمجهود سقما، أو لمطروق بآفة جائحة. ثم تقدم إليه محذرا، ومره زاجرا؛ وانهه مغلظا في الشدة على من مر به منصرفا عن معسكرك من جندك بغير جوازك، شادا لهم أسرا، وموقرهم حديدا، ومعاقبهم موجعا، وموجههم إليك فتنهكهم عقوبة، وتجعلهم لغيرهم من جندك عظة.
واعلم أنه إن لم يكن بذلك الموضع من تسكن إليه واثقا بنصيحته قد بلوت منه أمانة تسكنك إليه، وصرامة تؤمنك مهانته، ونفاذا في أمرك يرخي عنك خناق الخوف في إضاعته - لم يأمن أمير المؤمنين تسلل الجند عنك لواذا،
137
ورفضهم مراكزهم، وإخلالهم بمواضعهم، وتخلفهم عن أعمالهم، آمنين تغيير ذلك عليهم، والشدة على من اجترمه منهم، فأوشك ذلك في وهنك، وخذل من قوتك، وقلل من كثرتك.
اجعل خلف ساقتك رجلا من وجوه قوادك، جليدا، ماضيا، عفيفا، صارما، شهم الرأي، شديد الحذر، شكيم القوة، غير مداهن في عقوبة، ولا مهين في قوة، في خمسين فارسا يحشر إليك جندك، ويلحق بك من تخلف عنك بعد الإبلاغ في عقوبتهم، والنهك لهم، والتنكيل بهم. وليكن بعقوتك
138
في المنزل الذي ترحل عنه، والمنهل الذي تتقوض منه، مفرطا في النقض له، والتتبع لمن تخلف عنك به؛ مشتدا في أهل المنزل وساكنه بالتقدم، موعزا إليهم في إزعاج الجند عن منازلهم، وإخراجهم عن مكامنهم؛ وإيعاد العقوبة الموجعة والنكال المبسل في الأشعار والأبشار، واستصفاء الأموال وهدم العقار لمن آوى منهم أحدا أو ستر موضعه، أو أخفى محله. وحذره عقوبتك إياه في الترخيص لأحد، والمحاباة لذي قرابة، والاختصاص بذلك لذي أثرة وهوادة. ولتكن فرسانه منتخبين في القوة، معروفين بالنجدة؛ عليهم سوابغ الدروع دونها شعار الحشو وجبب الاستجنان؛ متقلدين سيوفهم، سامطين
139
كنائنهم، مستعدين لهيج إن بدههم [أو كمين إن يظهر لهم].
140
وإياك أن تقبل منهم في دوابهم إلا فرسا قويا أو برذونا وثيجا؛
141
فإن ذلك من أقوى القوة لهم، وأعون الظهري على عدوهم، إن شاء الله.
ليكن رحيلك إبانا واحدا، ووقتا معلوما: لتخف المئونة بذلك على جندك، ويعلموا أوان رحيلهم، فيقدموا فيما يريدون من معالجة أطعمتهم، وأعلاف دوابهم، وتسكن قلوبهم إلى الوقت الذي وقفوا عليه، ويطمئن ذوو الرأي إلى إبان الرحيل. ومتى يكن رحيلك مختلفا تعظم المئونة عليك وعلى جندك ولا يزال ذوو السفه [والنزق] يترحلون بالإرجاف وينزلون بالتوهم، حتى لا ينتفع ذو رأي بنوم ولا طمأنينة.
إياك أن تظهر استقلالا، أو تنادي برحيل من منزل تكون فيه، حتى تأمر صاحب تعبئتك بالوقوف بأصحابه على معسكرك آخذا بجنبتي فوهته، بأسلحتهم عدة لأمر إن حضر أو مفاجأة من طليعة للعدو إن رأت منكم نهزة، أو لمحت عندكم غرة. ثم مر الناس بالرحيل وخيلك واقفة، وأهبتك معدة، وجنتك واقية، حتى إذا استقللتم من معسكركم، وتوجهتم من منزلكم، سرتم على تعبئتكم بسكون ريح، وهدو حملة، وحسن دعة. فإذا انتهيت إلى منهل أردت نزوله أو هممت بالمعسكر به، فإياك ونزوله إلا بعد العلم بأهله، والمعرفة بمرافقته؛ ومر صاحب طليعتك أن يعرف لك أحواله، ويستثير لك علم دفينه، ويستبطن علم أموره ثم ينهيها إليك على ما صارت إليه؛ لتعلم كيف احتماله لعسكرك، وكيف ماؤه وأعلافه وموضع معسكرك منه، وهل لك - إن أردت مقاما به، أو مطاولة عدوك أو مكايدته فيه - قوة تحملك ومدد يأتيه؛
142
فإنك إن لم تفعل ذلك، لم تأمن أن تهجم على منزل يعجزك ويزعجك عنه ضيق مكانه، وقلة مياهه، وانقطاع مواده، إن أردت بعدوك مكيدة، أو احتجت من أمورهم إلى مطاولة، فإن ارتحلت منه كنت غرضا لعدوك، ولم تجد إلى المحاربة والإخطار سبيلا؛ وإن أقمت به أقمت على مشقة وحصر وفي أزل وضيق، فاعرف ذلك وتقدم فيه. فإن أردت نزولا أمرت صاحب الخيل التي وكلت بالناس فوقفت خيله متنحية من معسكرك، عدة لأمر إن غالك، ومفزعا لبديهة إن راعتك، فقد أمنت بحمد الله وقوته فجأة عدوك، وعرفت موقعها من حزرك، حتى يأخذ الناس منازلهم، وتوضع الأثقال مواضعها، ويأتيك خبر طلائعك، وتخرج دبابتك من معسكرك دراجة ودبابا محيطين بعسكرك، وعدة إن احتجت إليها. ولتكن دبابات جندك أهل جلد وقوة، قائدا أو اثنين أو ثلاثة بأصحابهم، في كل ليلة ويوم نوبا بينهم. فإذا غربت الشمس ووجب
143
نورها، أخرج إليهم صاحب تعبيتك أبدالهم، عسسا بالليل في أقرب من مواضع دبابي النهار، يتعاور ذلك قوادك جميعا بلا محاباة لأحد فيه ولا إدهان.
إياك وأن يكون منزلك إلا في خندق وحصن تأمن به بيات عدوك وتستنيم فيه إلى الحزم من مكيدتك. إذا وضعت الأثقال وحطت أبنية أهل العسكر، لم يمدد طنب، ولم يرفع خباء ، ولم ينصب بناء حتى نقطع لكل قائد ذرعا معلوما من الأرض بقدر أصحابه، فيحفروه عليهم خندقا يطيفونه بعد ذلك بخنادق الحسك،
144
طارحين لها دون اشتجار الرماح، ونصب الترسة، لها بابان قد وكلت بحفظ كل باب منهما رجلا من قوادك في مائة رجل من أصحابه؛ فإذا فرغ من الخندق كان ذانك الرجلان القائدان بمن معهما من أصحابهما أهل ذلك المركز، وموضع تلك الخيل، وكانوا هم البوابين والأحراس لذينك الموضعين، قد كفوهما وضبطوهما وأعفوا من أعمال العسكر ومكروهه غيرهما.
واعلم أنك إذا كنت في خندق، أمنت بإذن الله وقوته طوارق عدوك وبغتاتهم، فإن راموا تلك منك، كنت قد أحكمت ذلك وأخذت بالحزم فيه، وتقدمت في الإعداد له، ورتقت مخوف الفتق منه؛ وإن تكن العافية استحققت حمد الله عليها، وارتبطت شكره بها، ولم يضررك أخذك بالحزم: لأن كل كلفة ونصب ومئونة إنفاق ومشقة عمل مع السلامة غنم وغير خطر بالعاقبة، إن شاء الله. فإن ابتليت ببيات عدوك أو طرقك رائعا في ليلك، فليلفك حذرا مشمرا عن ساقك، حاسرا عن ذراعك، متشزنا
145
لحربك؛ قد تقدمت دراجتك إلى مواضعها على ما وصفه لك أمير المؤمنين، ودبابتك في أوقاتها التي قدر لك، وطلائعك حيث أمرك، وجندك على ما عبأ لك، قد خطرت عليهم بنفسك؛ وتقدمت إلى جندك، إن طرقهم طارق أو فاجأهم عدو، ألا يتكلم منهم أحد رافعا صوته بالتكبير مغرقا في الإجلاب، معلنا بالإرهاب لأهل الناحية التي يقع بها العدو طارقا، وليشرعوا رماحهم ناشبين بها في وجوههم، ويرشقوهم بالنبل مكتنين بترسهم، لازمين لمراكزهم، غير مزيلي قدم عن موضعها، ولا متجاوزين إلى غير مركزهم، وليكبروا ثلاث تكبيرات متواليات وسائر الجند هادون، لتعرف موضع عدوك من معسكرك، فتمد أهل تلك الناحية بالرجال من أعوانك وشرطتك، ومن انتخبت قبل ذلك عدة للشدائد بحضرتك، وتدس إليهم النشاب والرماح.
وإياك وأن يشهروا سيفا يتجالدون به، وتقدم إليهم ألا يكون قتالهم في تلك المواضع لمن طرقهم إلا بالرماح مسندين لها إلى صدورهم، والنشاب راشقين به وجوههم؛ قد ألبدوا بالأترسة، واستجنوا بالبيض ، وألقوا عليهم سوابغ الدروع وجباب الحشو. فإن صد العدو عنهم حاملين على جهة أخرى، كبر أهل تلك الناحية التي يقع فيها كفعل الناحية الأولى، وبقية العسكر سكوت والناحية التي صد عنها العدو لازمة مراكزهم منتطقة الهدو ساكنة الريح، ثم عملت في تقويتهم وإمدادهم بمثل صنيعك في إخوانهم.
وإياك أن تخمد نار رواقك؛ وإذا وقع العدو في معسكرك فأججها ساعرا لها وأوقدها حطبا جزلا يعرف به أهل العسكر مكانك وموضع رواقك، فيسكن نافر قلوبهم، ويقوى واهي قوتهم، ويشتد منخذل ظهورهم، ولا يرجمون بك الظنون، ويجعلون لك آراء السوء، ويرجفون بك آناء الخوف؛ وذلك من فعلك راد عدوك بغيظه لم يستفلل منك ظفرا، ولم يبلغ من نكايتك سرورا. وإن انصرف عنك عدوك ونكل عن الإصابة من جندك وكانت بخيلك قوة على طلبه أو كانت لك من فرسانك خيل معدة وكتيبة منتخبة، [و] قدرت على أن تركب بهم أكساءهم،
146
وتحملهم على سننهم؛ فأتبعهم جريدة خيل عليها الثقات من فرسانك وأولو النجدة من حماتك؛ فإنك ترهق
147
عدوك وقد أمن من بياتك، وشغل بكلاله عن التحرز منك والأخذ بأبواب معسكره والضبط لمحارسه عليك، موهنة حماتهم لغبة أبطالهم: لما ألفوكم عليه من التشمير والجد، قد عقر الله فيهم، وأصاب منهم، وجرح من مقاتلتهم، وكسر من أماني ضلالهم، ورد من مستعلي جماحهم.
وتقدم إلى من توجهه في طلبهم، وتتبعه أكساءهم: في سكون الريح، وقلة الرفث وكثرة التسبيح والتهليل، واستنصار الله عز وجل بألسنتهم وقلوبهم سرا وجهرا، بلا لجب ضجة، ولا ارتفاع ضوضاء، دون أن يردوا على مطلبهم، وينتهزوا فرصتهم. ثم ليشهروا السلاح، وينتضوا السيوف، فإن لها هيبة رائعة، وبديهة مخوفة، لا يقوم لها في بهمة الليل وحندسه إلا البطل المحارب، وذو البصيرة المحامي، والمستميت المقاتل، وقليل ما هم عند تلك الحمية وفي ذلك الموضع.
ليكن أول ما تتقدم به في التهيؤ لعدوك، والاستعداد للقائه، انتخابك من فرسان عسكرك وحماة جندك ذوي البأس والحنكة والجلد والصرامة، ممن قد اعتاد طراد الكماة، وكشر عن ناجذه في الحرب، وقام على ساق في منازلة الأقران، ثقف الفروسية، مجتمع القوة، مستحصد المريرة، صبورا على هول الليل، عارفا بمناهزة الفرص؛ لم تمهنه الحنكة ضعفا، ولا بلغت به السن كلالا، ولا أسكرته غرة الحداثة جهلا، ولا أبطرته نجدة الأغمار صلفا، جريئا على مخاطرة التلف، مقدما على ادراع الموت، مكابرا لمهيب الهول، متقحما مخشي الحتوف، خائضا غمرات المهالك؛ برأي يؤيده الحزم، ونية لا يخالجها الشك، وأهواء مجتمعة، وقلوب مؤتلفة؛ عارفين بفضل الطاعة وعزها وشرفها، وحيث محل أهلها من التأييد والظفر والتمكين، ثم اعرضهم رأى عين على كراعهم وأسلحتهم، ولتكن دوابهم إناث عتاق الخيل، وأسلحتهم سوابغ الدروع وكمال آلة المحارب، متقلدين سيوفهم المستخلصة من جيد الجوهر وصافي الحديد، المتخيرة من معادن الأجناس، هندية الحديد يمانية الطبع، رقاق المضارب، مسمومة الشحذ، مشطبة الضريبة؛ ملبدين بالترسة الفارسية، صينية التعقيب، معلمة المقابض بحلق الحديد، أنحاؤها مربعة، ومخارزها بالتجليد مضاعفة، محملها مستخف؛ وكنائن النبل وجعاب القسي قد استحقبوها، وقسي الشريان
148
والنبع أعرابية الصنعة، مختلفة الأجناس، محكمة العمل، مقومة التثقيف؛ ونصول النبل مسمومة، وعملها مصيصي، وتركيبها عراقي، وترييشها بدوي؛ مختلفة الصوغ في الطبع، شتى الأعمال في التشطيب والتجنيح والاستدارة. ولتكن الفارسية مقلوبة المقابض، منبسطة السية، سهلة الانعطاف، مقربة الانحناء، ممكنة المرمى، واسعة الأسهم؛ فرضها سهلة الورود، ومعاطفها غير مقتربة المواتاة. ثم ول على كل مائة رجل منهم رجلا من أهل خاصتك وثقاتك ونصحائك، له صيت في الرياسة، وقدم في السابقة، وأولية في المشايعة. وتقدم إليه في ضبطهم، وكف معرتهم، واستنزال نصائحهم، واستعداد طاعتهم، واستخلاص ضمائرهم، وتعاهد كراعهم وأسلحتهم، معفيا لهم من النوائب التي تلزم أهل عسكرك وعامة جندك؛ واجعلهم عدة لأمر إن حزبك، أو طارق إن أتاك؛ ومرهم أن يكونوا على أهبة معدة، وحذر ناف لسنة الغفلة عنهم؛ فإنك لا تدري أي الساعات من ليلك ونهارك تكون إليهم حاجتك. فليكونوا كرجل واحد في التشمير والترادف وسرعة الإجابة؛ فإنك عسيت ألا تجد عند جماعة جندك في مثل تلك الروعة والمباغتة - إن احتجت إلى ذلك منهم - معونة كافية، ولا أهبة معدة، بل ذلك كذلك فليكن هؤلاء القوم الذين تنتخب عدتك وقوتك، بعوثا قد وظفتها على القواد الذين وليتهم أمورهم، فسميت أولا وثانيا وثالثا ورابعا وخامسا وسادسا؛ فإن اكتفيت فيما يطرقك ويبدهك ببعث واحد، كان معدا لم تحتج إلى انتخابهم في ساعتك تلك، فقطع البعث عليهم عند ما يرهقك. وإن احتجت إلى اثنين أو ثلاثة، وجهت منهم إرادتك أو ما ترى قوتك، إن شاء الله.
وكل بخزائنك ودواوينك رجلا ناصحا أمينا، ذا ورع حاجز، ودين فاصل، وطاعة خالصة، وأمانة صادقة؛ واجعل معه خيلا يكون مسيرها ومنزلها ومرحلها مع خزانتك وحولها. وتقدم إليه في حفظها، والترقي عليها، واتهام كل من تسند إليه شيئا منها على إضاعته والتهاون به، والشدة على من دنا منها في مسير، أو ضامها في منزل، أو خالطها في منهل. وليكن عامة الجند والجيش - إلا من استخلصت للمسير معها - متنحين عنها، مجانبين لها في المسير والمنزل؛ فإنه ربما كانت الجولة وحدثت الفزعة، فإن لم يكن للخزائن ممن يوكل بها أهل حفظ لها وذب عنها، وحياطة دونها، وقوة على من أراد انتهابها، أسرع الجند إليها وتداعوا نحوها، حتى كاد يترامى ذلك بهم إلى انتهاب العسكر واضطراب الفتنة؛ فإن أهل الفتن وسوء السيرة كثير، وإنما همتهم الشر؛ فإياك أن يكون لأحد في خزائنك ودواوينك وبيوت أموالك مطمع، أو يجد سبيلا إلى اغتيالها ومرزأتها.
واعلم أن أحسن مكيدتك أثرا في العامة، وأبعدها صيتا في حسن القالة؛ ما نلت الظفر فيه بحزم الروية، وحسن السيرة، ولطف الحيلة. فلتكن رويتك في ذلك وحرصك على إصابته بالحيل لا بالقتال وأخطار التلف؛ وادسس إلى عدوك، وكاتب رؤساءهم وقادتهم وعدهم المنالات، ومنهم الولايات، وسوغهم التراث، وضع عنهم الإحن، واقطع أعناقهم بالمطامع، واستدعهم بالمثاوب؛ واملأ قلوبهم بالترهيب إن أمكنتك منهم الدوائر، وأصارتهم إليك الرواجع؛ وادعهم إلى الوثوب بصاحبهم أو اعتزاله إن لم يكن لهم بالوثوب عليه طاقة؛ ولا عليك أن تطرح إلى بعضهم كتبا كأنها جواب كتب لهم إليك، وتكتب على ألسنتهم كتبا إليك تدفعها إليهم وتحمل بها صاحبهم عليهم، وتنزلهم عنده بمنزلة التهمة ومحل الظنة؛ فلعل مكيدتك في ذلك أن يكون فيها افتراق كلمتهم، وتشتيت جماعتهم، وإحن قلوبهم، وسوء الظن من واليهم بهم، فيوحشهم منه خوفهم إياه على أنفسهم إذا أيقنوا باتهامه إياهم، فإن بسط يده فقتلهم، وأولغ سيفه في دمائهم، وأسرع الوثوب بهم، أشعرهم جميعا الخوف، وشملهم الرعب، ودعاهم إليك الهرب، فتهافتوا نحوك بالنصيحة وأموك بالطلب. وإن كان متأنيا محتملا رجوت أن يستميل إليك بعضهم ، ويستدعي الطمع ذوي الشره منهم، وتنال بذلك ما تحب من أخبارهم، إن شاء الله.
إذا تدانى الصفان، وتواقف الجمعان، واحتضرت الحرب، وعبأت أصحابك لقتال عدوهم؛ فأكثر من قول: لا حول ولا قوة إلا بالله، والتوكل على الله عز وجل والتفويض إليه، ومسألته توفيقك وإرشادك، وأن يعزم لك على الرشد المنجي، والعصمة الكالئة، والحياطة الشاملة. ومر جندك بالصمت وقلة التلفت عند المصاولة، وكثرة التكبير في أنفسهم والتسبيح بضمائرهم، ولا يظهروا تكبيرا إلا في الكرات والحملات، وعند كل زلفة يزدلفونها؛ فأما وهم وقوف فإن ذلك من الفشل والجبن؛ وليذكروا الله في أنفسهم ويسألوه نصرهم وإعزازهم، وليكثروا من قول: «لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، حسبنا الله ونعم الوكيل، اللهم انصرنا على عدوك وعدونا الباغي، واكفنا شوكته المستحدة، وأيدنا بملائكتك الغالبين، واعصمنا بعونك من الفشل والعجز إنك أرحم الراحمين».
وليكن في معسكرك المكبرون في الليل والنهار قبل المواقعة، وقوم موقوفون يحضونهم على القتال ويحرضونهم على عدوهم، ويصفون لهم منازل الشهداء وثوابهم، ويذكرونهم الجنة ودرجاتها، ونعيم أهلها وسكانها، ويقولون: اذكروا الله يذكركم، واستنصروه ينصركم، والتجئوا إليه يمنعكم. وإن استطعت أن تكون أنت المباشر لتلبية جندك ووضعهم مواضعهم من رأيك، ومعك رجال من ثقات فرسانك ذوو سن وتجربة ونجدة على التعبية التي أمير المؤمنين واصفها لك في آخر كتابك فافعل، إن شاء الله تعالى.
أيدك الله بالنصر، وغلب لك على القوة، وأعانك على الرشد، وعصمك من الزيغ، وأوجب لمن استشهد معك ثواب الشهداء ومنازل الأصفياء، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته.
وكتب سنة تسع وعشرين ومائة. (7) رسالة ثانية لعبد الحميد الكاتب
ومن رسائل عبد الحميد الرسالة التي أوصى فيها الكتاب:
149
بسم الله الرحمن الرحيم
أما بعد؛ حفظكم الله يا أهل صناعة الكتابة، وحاطكم ووفقكم وأرشدكم؛ فإن الله عز وجل جعل الناس بعد الأنبياء والمرسلين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، ومن بعد الملوك المكرمين أصنافا، وإن كانوا في الحقيقة سواء؛ وصرفهم في صنوف الصناعات، وضروب المحاولات، إلى أسباب معاشهم، وأبواب أرزاقهم، فجعلكم معشر الكتاب في أشرف الجهات، أهل الأدب والمروءات والعلم والرزانة؛ بكم تنتظم للخلافة محاسنها، وتستقيم أمورها؛ وبنصائحكم يصلح الله للخلق سلطانهم، وتعمر بلدانهم؛ لا يستغني الملك عنكم، ولا يوجد كاف إلا منكم؛ فموقعكم من الملوك موقع أسماعهم التي بها يسمعون، وأبصارهم التي بها يبصرون، وألسنتهم التي بها ينطقون، وأيديهم التي بها يبطشون؛ فأمتعكم الله بما خصكم من فضل صناعتكم، ولا نزع عنكم ما أضفاه
150
من النعمة عليكم؛ وليس أحد من أهل الصناعات كلها أحوج إلى اجتماع خلال الخير المحمودة، وخصال الفضل المذكورة المعدودة منكم.
أيها الكتاب إذا كنتم على ما يأتي في هذا الكتاب من صفتكم، فإن الكاتب يحتاج في نفسه، ويحتاج منه صاحبه الذي يثق به في مهمات أموره، أن يكون حليما في موضع الحلم، فهيما في موضع الحكم، مقداما في موضع الإقدام، محجاما في موضع الإحجام، مؤثرا للعفاف والعدل والإنصاف، كتوما للأسرار، وفيا عند الشدائد، عالما بما يأتي من النوازل؛ يضع الأمور مواضعها، والطوارق في أماكنها؛ قد نظر في كل فن من فنون العلم فأحكمه، وإن لم يحكمه أخذ منه بمقدار ما يكتفي به؛ يعرف بغريزة عقله، وحسن أدبه، وفضل تجربته، ما يرد عليه قبل وروده، وعاقبة ما يصدر عنه قبل صدروه؛ فيعد لكل أمر عدته وعتاده، ويهيئ لكل وجه هيئته وعادته. فتنافسوا يا معشر الكتاب في صنوف الآداب، وتفهموا في الدين، وابدءوا بعلم كتاب الله عز وجل والفرائض، ثم العربية فإنها ثقاف ألسنتكم، ثم أجيدوا الخط فإنه حلية كتبكم، وارووا الأشعار واعرفوا غريبها ومعانيها، وأيام العرب والعجم وأحاديثها وسيرها؛ فإن ذلك معين لكم على ما تسمو إليه هممكم، ولا تضيعوا النظر في الحساب، فإنه قوام كتاب الخراج، وارغبوا بأنفسكم عن المطامع سنيها ودنيها، وسفساف الأمور ومحاقرها؛ فإنها مذلة للرقاب، مفسدة للكتاب، ونزهوا صناعتكم عن الدناءة، واربؤا بأنفسكم عن السعاية والنميمة وما فيه أهل الجهالات.
وإياكم والكبر والسخف والعظمة، فإنها عداوة مجتلبة من غير إحنة؛ وتحابوا في الله عز وجل في صناعتكم، وتواصوا عليها بالذي هو أليق لأهل الفضل والعدل والنبل من سلفكم؛ وإن نبا
151
الزمان برجل منكم، فاعطفوا عليه وواسوه حتى يرجع إليه حاله، ويثوب إليه أمره، وإن أقعد أحدا منكم الكبر عن مكسبه ولقاء إخوانه، فزوروه وعظموه وشاوروه؛ واستظهروا بفضل تجربته، وقديم معرفته؛ وليكن الرجل منكم على من اصطنعه واستظهر به ليوم حاجته إليه أحوط منه على ولده وأخيه، فإن عرضت في الشغل محمدة فلا يصرفها إلا إلى صاحبه، وإن عرضت مذمة فليحملها هو من دونه؛ وليحذر السقطة والزلة والملل عند تغير الحال، فإن العيب إليكم معشر الكتاب أسرع منه إلى الفراء، وهو لكم أفسد منه لها؛ فقد علمتم أن الرجل منكم إذا صحبه من يبذل له من نفسه، ما يجب له عليه من حقه؛ فواجب عليه أن يعتقد له من وفائه وشكره، واحتماله ونصيحته، وكتمان سره وتدبير أمره، ما هو جزاء لحقه، ويصدق ذلك فعله عند الحاجة إليه، والاضطرار إلى ما لديه؛ فاستشعروا ذلك - وفقكم الله - من أنفسكم في حالة الرخاء، والشدة والحرمان والمواساة والإحسان والسراء والضراء؛ فنعمت الشيمة هذه لمن وسم بها من أهل هذه الصناعة الشريفة؛ وإذا ولى الرجل منكم أو صير إليه من أمر خلق الله وعياله أمر، فليراقب الله عز وجل وليؤثر طاعته؛ وليكن على الضعيف رفيقا، وللمظلوم منصفا؛ فإن الخلق عيال الله، وأحبهم إليه أرفقهم بعياله؛ ثم ليكن بالعدل حاكما، وللأشراف مكرما، وللفيء موفرا، وللبلاد عامرا، وللرعية متألفا، وعن أذاهم متخلفا؛ وليكن في مجلسه متواضعا حليما، وفي سجلات خراجه واستقضاء حقوقه دقيقا؛ وإذا صحب أحدكم رجلا فليختبر خلائقه، فإذا عرف حسنها وقبيحها أعانه على ما يوافقه من الحسن، واحتال على صرفه عما يهواه من القبيح بألطف حيلة وأجمل وسيلة.
وقد علمتم أن سائس البهيمة إذا كان بصيرا بسياستها التمس معرفة أخلاقها، فإن كانت رموحا لم يهجها إذا ركبها، وإن كانت شبوبا اتقاها من بين يديها، وإن خاف منها شرودا توقاها من ناحية رأسها، وإن كانت حرونا قمع برفق هواها في طرقها، فإن استمرت عطفها يسيرا، فيسلس له قيادها، وفي هذا الوصف من السياسة دلائل لمن ساس الناس وعاملهم وجربهم وداخلهم.
والكاتب لفضل أدبه وشريف صنعته ولطيف حيلته، ومعاملته لمن يحاوله من الناس ويناظره، ويفهم عنه أو يخاف سطوته، أولى بالرفق لصاحبه ومداراته وتقويم أوده، من سائس البهيمة التي لا تحير جوابا، ولا تعرف صوابا، ولا تفهم خطابا، إلا بقدر ما يصيرها إليه صاحبها الراكب عليها؛ ألا فارفقوا رحمكم الله في النظر، واعملوا ما أمكنكم فيه من الروية والفكر، تأمنوا بإذن الله ممن صحبتموه النبوة والاستثقال والجفوة؛ ويصير منكم إلى الموافقة، وتصيروا منه إلى المؤاخاة والشفقة، إن شاء الله؛ ولا يجاوزن الرجل منكم في هيئة مجلسه، وملبسه ومركبه، ومطعمه ومشربه وخدمه، وغير ذلك من فنون أمره قدر حقه؛ فإنكم مع ما فضلكم الله به من شرف صنعتكم، خدمة لا تحملون في خدمتكم على التقصير، وحفظة لا تحتمل منكم أفعال التضييع والتبذير؛ واستعينوا على أفعالكم بالقصد في كل ما ذكرته لكم، وقصصته عليكم، واحذروا متالف السرف، وسوء عاقبة الترف؛ فإنهما يعقبان الفقر، ويذلان الرقاب ويفضحان أهلهما، ولا سيما الكتاب وأرباب الآداب. وللأمور أشباه وبعضها دليل على بعض؛ فاستدلوا على مؤتنف أعمالكم، بما سبقت إليه تجربتكم؛ ثم اسلكوا من مسالك التدبير أوضحها محجة، وأصدقها حجة، وأحمدها عاقبة.
واعلموا أن للتدبير آفة متلفة، وهو الوصف الشاغل لصاحبه، عن إنفاذ علمه ورويته؛ فليقصد الرجل منكم في مجلسه، قصد الكافي في منطقه؛ وليوجز في ابتدائه وجوابه، وليأخذ بمجامع حججه؛ فإن ذلك مصلحة لفعله، ومدفعة للشاغل من إكثاره؛ وليضرع إلى الله في صلة توفيقه، وإمداده بتسديده؛ مخافة وقوعه في الغلط المضر ببدنه، وعقله وأدبه ، فإنه إن ظن منكم ظان أو قال قائل: إن الذي برز من جميل صنعته وقوة حركته، إنما هو بفضل حيلته وحسن تدبيره؛ فقد تعرض بحسن ظنه أو مقالته إلى أن يكله الله عز وجل إلى نفسه، فيصير منها إلى غير كاف، وذلك على من تأمله غير خاف؛ ولا يقل أحد منكم إنه أبصر بالأمور، وأحمل لأعباء التدبير؛ من مرافقه في صناعته، ومصاحبه في خدمته؛ فإن أعقل الرجلين عند ذوي الألباب من رمى بالعجب وراء ظهره، ورأى أن أصحابه أعقل منه وأجمل في طريقته؛ وعلى كل واحد من الفريقين أن يعرف فضل نعم الله جل ثناؤه من غير اغترار برأيه، ولا تزكية لنفسه؛ ولا يكاثر على أخيه أو نظيره، وصاحبه وعشيره؛ وحمد الله واجب على الجميع.
وذلك بالتواضع لعظمته، والتذلل لعزته، والتحدث بنعمته؛ وأنا أقول في كتابي هذا ما سبق به المثل: «من تلزمه النصيحة يلزمه العمل» وهو جوهر هذا الكتاب وغرة كلامه، بعد الذي فيه من ذكر الله عز وجل، فلذلك جعلته آخره وتممته به. تولانا الله وإياكم يا معشر الطلبة والكتبة بما يتولى به من سبق علمه بإسعاده وإرشاده، فإن ذلك إليه وبيده. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. (8) رسالة ثالثة لعبد الحميد الكاتب
ومن رسائل عبد الحميد رسالة في الشطرنج:
152
أما بعد، فإن الله شرع دينه بإنهاج سبله، وإيضاح معالمه بإظهار فرائضه، وبعث رسله إلى خلقه دلالة لهم على ربوبيته، واحتجاجا عليهم برسالاته، ومقدما إليهم بإنذاره ووعيده، ليهلك من هلك عن بينة؛ ويحيا من حي عن بينة؛ ثم ختم بنبيه
صلى الله عليه وسلم
وحيه، وقفى به رسله، وابتعثه لإحياء دينه الدارس مرتضيا له على حين انطمست الأعلام
153
مختفية، وتشتتت السبل متفرقة، وعفت آثار الدين دارسة، وسطع رهج الفتن، واعتلى قتام الظلم، واستنهد الشرك، وأسدف
154
الكفر، وظهر أولياء الشيطان لطموس الأعلام، ونطق زعيم الباطل بسكتة الحق، واستطرق الجور واستنكح الصدوف عن الحق، واقمطر
155
سلهب الفتنة، واستضرم لقاحها، وطبقت الأرض ظلمة كفر وغياية
156
فساد؛ فصدع بالحق مأمورا، وأبلغ الرسالة معصوما ، ونصح الإسلام وأهله، دالا لهم على المراشد، وقائدا لهم إلى الهداية، ومنيرا لهم أعلام الحق ضاحية، مرشدا لهم إلى استفتاح باب الرحمة وإعلاق
157
عروة النجاة؛ موضحا لهم سبل الغواية، زاجرا لهم عن طريق الضلالة، محذرا لهم الهلكة، موعزا إليهم في التقدمة، ضاربا لهم الحدود على ما يتقون من الأمور ويخشون، وما إليه يسارعون ويطلبون؛ صابرا نفسه على الأذى والتكذيب، داعيا لهم بالترغيب والترهيب؛ حريصا عليهم، متحننا على كافتهم، عزيزا عليه عنتهم، رءوفا بهم رحيما، تقدمه شفقته عليهم وعنايته برشدهم إلى تجريد الطلب إلى ربه فيما فيه بقاء النعمة عليهم، وسلامة أديانهم، وتخفيف آصار
158
الأوزار عنهم، حتى قبضه الله إليه
صلى الله عليه وسلم
ناصحا متنصحا، أمينا مأمونا، قد بلغ الرسالة، وأدى النصيحة، وقام بالحق، وعدل عمود الدين، حتى اعتدل ميله، وأذل الشرك وأهله، وأنجز الله له وعده، وأراه صدق أنبائه
159
في إكماله للمسلمين دينه، واستقامة سنته فيهم، وظهور شرائعه عليهم. قد أبان لهم موبقات الأعمال، ومفظعات الذنوب، ومهبطات الأوزار، وظلم الشبهات، وما يدعوا إليه نقصان الأديان، وتستهويهم به الغوايات؛ وأوضح لهم أعلام الحق، ومنازل المراشد، وطرق الهدى، وأبواب النجاة، ومعالق العصمة، غير مدخر لهم نصحا ولا مبتغ في إرشادهم غنما. فكان مما قدم إليهم فيه نهيه، وأعلمهم سوء عاقبته، وحذرهم إصره، وأوعز إليهم ناهيا وواعظا وزاجرا، الاعتكاف على هذه التماثيل من الشطرنج والمواصلة عليها، لما في ذلك من عظم الإثم، وموبق الوزر، مع مشغلتها عن طلب المعاش، وإضرارها بالعقول، ومنعها من حضور الصلوات في مواقيتها مع جميع المسلمين.
وقد بلغ أمير المؤمنين أن ناسا، ممن قبلك من أهل الإسلام، قد ألهجهم الشيطان بها، وجمعهم عليها، وألف بينهم فيها، فهم معتكفون عليها من لدن صبحهم إلى ممساهم، ملهية لهم عن الصلوات، شاغلة لهم عما أمروا به من القيام بسنن دينهم، وافترض عليهم من شرائع أعمالهم، مع مداعبتهم فيها، وسوء لفظهم عليها. وإن ذلك من فعلهم ظاهر في الأندية والمجالس، غير منكر ولا معيب ولا مستفظع عند أهل الفقه، وذوي الورع والأديان والأسنان منهم؛ فأكبر أمير المؤمنين ذلك وأعظمه، وكرهه واستكبره، وعلم أن الشيطان عندما يئس منه من بلوغ إرادته في معاصي الله عز وجل، بمصر المسلمين ومجمعهم صراحا وجهارا، أقدم بهم على شبهة مهلكة، وزين لهم ورطة موبقة، وغرهم بمكيدة حيله، إرادة لاستهوائهم بالخدع، واجتيالهم
160
بالشبه والمراصد الخفية المشكلة. وكل مقيم على معصية الله، صغرت أو كبرت، مستحلا لها مشيدا بها، مظهرا لارتكابه إياها، غير حذر من عقاب الله عز وجل عليها، ولا خائف مكروها فيها، ولا راهب من حلول سطوته عليها، حتى تلحقه المنية، فتختلجه وهو مصر عليها، غير تائب إلى الله منها، ولا مستغفر من ارتكابه إياها؛ فكم من أقام على موبقات الآثام وكبائر الذنوب، حتى مدته ومخرم أيامه.
وقد أحب أمير المؤمنين أن يتقدم إليهم، فيما بلغه عنهم، وأن ينذرهم ويوعز إليهم، ويعلمهم ما في أعناقهم عليها، وما لهم في قبول ذلك من الحظ، وعليهم في تركه من الوزر، فآذن
161
بذلك فيهم، وأشده في أسواقهم وجميع أنديتهم، وأوعز إليهم فيه. وتقدم إلى عامل شرطتك في إنهاك العقوبة لمن رفع إليه: من أهل الاعتكاف عليها والإظهار للعب بها، وإطالة حبسه في ضيق وضنك، وطرح اسمه من ديوان أمير المؤمنين. وافطمهم عما لهجوا به من ذلك. والتمس بشدتك عليهم فيه وإنهاكك بالعقوبة عليه، ثواب الله وجزاءه، واتباع أمير المؤمنين ورأيه. ولا يجدن أحد عندك هوادة في التقصير في حق الله عز وجل، والتعدي لأحكامه، فتحل بنفسك ما يسوءك عاقبة مغبته، وتتعرض به لغير الله عز وجل ونكاله. واكتب إلى أمير المؤمنين ما يكون منك، إن شاء الله والسلام. (9) رسالة رابعة لعبد الحميد الكاتب
ومن رسائل عبد الحميد هذه الرسالة التي وصف بها الصيد:
162
أطال الله بقاء أمير المؤمنين مؤيدا بالعز، مخصوصا بالكرامة، ممتعا بالنعمة، إنه لم يلق
163
أحد من المقتنصين، ولا منح متطرف من المتصيدين، إلا دون ما لقانا
164
الله به من اليمن والبركة، ومنحنا من الظفر والسعادة في مسيرنا من كثرة الصيد، وحسن المقتنص، وتمكين الجاسة،
165
وقرب الغاية، وسهولة المورد، وعموم القدورة،
166
إلا ما كان من محاولة الطلب، وشدة النصب، لنافر الصيد، وقائد الطريدة التي أمعنا في الطلب لها، وأعجزنا البهر عن اللحاق بها، لتفاوت سبقها، ومنقطع هربها، ومتفرق سبلها، ثم آل بنا ذلك إلى حسن الظفر، وتناول الأرب، ونهاية الطرب.
وإني أخبر أمير المؤمنين أنا خرجنا إلى الصيد بأعدى الجوارح، وأثقف الضواري؛ أكرمها أجناسا، وأعظمها أجساما، وأحسنها ألوانا، وأحدها أطرافا، وأطولها أعضاء، قد ثقفت بحسن الأدب، وعودت شدة الطلب، وسبرت أعلام المواقف، وخبرت المجاثم، مجبولة على ما عودت، ومقصورة على ما أدبت. ومعنا من نفائس الخيل المخبورة الفراهة،
167
من الشهرية
168
الموصوفة بالنجابة، والجري والصلابة. فلم نزل بأخفض سير، وأثقف طلب، وقد أمطرتنا السماء مطرا متداركا، فربت منه الأرض، وزهر البقل، وسكن القتام من مثار
169
السنابك، ومتشعبات
170
الأعاصير، مهلة أن سرنا غلوات، ثم برزت الشمس طالعة، وانكشفت [مني] السحاب مسفرة، فتلألأت الأشجار، وضحك النوار، وانجلت الأبصار، فلم نر منظرا أحسن حسنا، ولا مرموقا أشبه شكلا، من ابتسام نور الشمس عن اخضرار زهرة الرياض. والخيل تمرح بنا نشاطا، وتجتنبنا أعنتها انبساطا؛ ثم لم نلبث أن علتنا ضبابة تقصر
171
طرف الناظر، وتخفي
172
سبل السلام، تغشانا تارة وتنكشف أخرى، ونحن بأرض دمثة التراب، أشبة
173
الأطراف، مغدقة الفجاج، مملوءة صيدا من الظباء والثعالب والأرانب؛ فأدانا المسير إلى غاية دونها مألف الصيد، ومجتمع الوحش، ونهاية الطلب، قد جاوزناها ونحن على سبيل الطلب ممعنون، وبكل حرة
174
جونة
175
متفرقون، فرجع بنا العود على البدء، وقد انجلت الضبابة، وامتد البصر، وأمكن النظر، فإذا نحن برعلة
176
من ظباء، وخلفة آرام يرتعن آنسات، قد أحالتهن الضبابة عن شخصنا، وأذهلهن أنيق الرياض عن استماع حسنا، فلم نعج
177
إلا والضوراي لائحة لهن من بعد الغاية، ومنتهى نظر الشاخص؛ ثم مدت الجوارح أجنحتها، واجتذبت الضوراي مقاودها، فأمرت بإرسالها على الثقة بمحضرها، وسرعة الجوارح في طلبها، فمرت تحف حفيف الريح عند هبوبها، تسف الأرض سفا، كاشفة عن آثارها، طالبة لخيارها، حارشة بأظفارها، قد مزقتها تمزيق الريح الجراد؛ فمن صائح بها وناعر، وهاتف بها وناعق، يدعو الكلب باسمه، ويفديه بأبيه وأمه؛ وراكض تحت مفره، وخافق يطلبه الرمح، وطامح يمنعه، وسانح قد عارضه بارح، قد حيرتنا الكثرة، وألهجتنا القدرة، حتى امتلأت أيدينا من صنوف الصيد، والله المنعم الوهاب.
ثم ملنا يا أمير المؤمنين بهداية دليل قد أحكمته التجارب، وخبر أعلام المذانب، إلى غدير أفيح، وروضة خضرة، مستأجمة بتلاوين الشجر، ملتفة بصنوف الخمر،
178
مملوءة من أنواع الطير، لم يذعرهن صائد، ولا اقتنصهن قانص، فخفق لها بطبول، وصفر بنفير الحتف، فثار منها ما ملأ الأفق كثرتها، وراعت الجوارح خفقات أجنحتها؛ ثم انبرت البزاة لها صائدة، والصقور كاسرة، والشواهين ضارية، يرفعن الطلب لها، ويخفضن الظفر بها، حتى سئمنا من الذبح، وامتلأنا من النصيح؛
179
كانا كتيبة ظفرت ببغيتها، وسرية نصرت على عدوها، وألحقت ضعيفها بقويها، وغلبت
180
محسنها بمسيئها؛ لا نملك أنفسنا مرحا، ولا نستفيق من الجذل بها فرحا، بقية يومنا، والله المنعم الوهاب.
ثم غدونا يا أمير المؤمنين إلى أرض وصف لنا صيدها بالكثرة، ورياضها بالنزهة، فزل واصفها عن الطريقة، واعتمد بنا على غير الحقيقة؛ فأتيناها فلم نر صيدا ولا عشبا، ولا نزهة ولا حسنا، فجعلنا نسلك منها حزونا ووعورا، وجدوبا وقفرا، حتى قصر بنا اليأس عن الطلب، وقطع بنا عن الطمع النصب. فبينا نحن كذلك، إذ بدا لنا جأب
181
قد أوفى بنا على حائل دل على غابة من ورائها حمير وحش كثيرة، فأممناها، فلما تطرفنا مشيا
182
وتقريبا
183
إلى عاناته،
184
توالى نهيقه، وكثر شهيقه، فالتفتن إليه، فرمقن بأعينهن منا ما استكثرن شخصه، واستهولن أمره، حتى إذا كنا بمرأى ومسمع انجذبن موليات، وهربن مسيبات، فأجهدنا الركض في طلبهن، نتبع آثارهن، ونستشف بلاء بين أحفار
185
ودكادك
186
وخناذيذ،
187
حتى أشفى بنا الطلب لها على واد هائل سائل، بجنبتيه غابة أشبة قد سبقن إليها، واستخفين فيها، فنظمناها بالخيل نظم الخرز، ثم أوغلت عدة فرسان في نقضها ومعرفة أحوالها، والطبول خافقة، والأصوات شاهقة، فكان وكان؛ والحمد لله على كل حال.
هوامش
باب المنظوم
(1) الغزل
ذكرنا في المجلد الأول حالة الغزل في العصر الأموي، وكثرة ما نجد فيه من لواعج الحب ولفحاته، وشكايات الصب وأناته، وزفرات العاشق وعبراته، وبينا أنواعه المتباينة التي قسمناها إلى أربعة أقسام: (1)
غزل إباحي: ويصح لنا أن نتخذ من عمر بن أبي ربيعة زعيما لهذا النوع الذي يجمع إلى وصف المرأة والتشبيب بها، معاني العبث والاستمتاع باللذة المادية مما ينفر منه الأدب الجاهلي، ومما حظره عليه الكثيرون من خلفاء الإسلام وأئمته. وقد كانت مكة والمدينة مسرحا لهذا النوع في العصر الأموي. وقد شرحنا سبب ذلك في المجلد الأول فراجعه ثمة. (2)
غزل عذري: وهو غزل الحب الصادق، والعواطف المتأججة، والنفس المتألمة المعناة، تلك النفس التي تجد لذتها في الكلف بمن تحب والتعلق بها والشعور بالسعادة في الفناء في حبها، حبا يملك عليه لبه ويعذب روحه ويفنى جسمه، كغزل جميل زعيم هذا النوع. وليس أدل على صدق حبه مما أثبتناه عن كتاب الأغاني إذ حاول أبوه أن يصرفه عن حبه وحاجه في ذلك أجمل محاجة، فكان من جميل ما كان مما تجده مفصلا في هذا الباب. (3)
غزل صناعي: بين هذا وذاك، همه الإجادة في الشعر من حيث هو شعر، لا في الحب من حيث هو حب، ولنا في كثير عزة زعيم لهذا النوع الثالث. (4)
غزل قصصي: خلقه الرواة لأنهم رأوا ميل الناس إلى الغزل وإلى حياة القصف وما يتبع حياة القصف، فنظموا قصائد نحلوها لشعراء لا نستطيع أن نحتمل تبعة القول بوجودهم في الحياة، أو القول بأنهم أشخاص خياليون خلقهم الرواة، أو زادوا من عندهم مقطعات نسبوها لهم وأضافوها إلى شعرهم. وزعيما هذا النوع: قيس بن الملوح وليلاه، وقيس بن ذريح ولبناه.
وإيفاء بما وعدناك به نذكر زعيم كل نوع من هذه الأنواع مع ذكر ترجمته والمختار من شعره. (1-1) الغزل الإباحي
عمر بن أبي ربيعة
راق عمر بن أبي ربيعة
1
الناس وفاق نطراءه وبرعهم بسهولة الشعر وشدة الأسر، وحسن الوصف، ودقة المعنى، وصواب المصدر، والقصد للحاجة، واستنطاق الربع، وإنطاق القلب، وحسن العزاء، وخاطبة النساء، وعفة المقال، وقلة الانتقال، وإثبات المحجة، وترجيح الشك في موضع اليقين، وطلاوة الاعتذار، وفتح الغزل، ونهج العلل. وعطف المساءة على العذال، وحسن التفجع، وبخل المنازل، واختصار الخبر، وصدق الصفاء؛ إن قدح أورى، وإن اعتذر أبرا، وإن تشكى أشجى، وأقدم عن خبرة، ولم يعتذر بغرة، وأسر النوم، وغم الطير، وأغذ السير، وحير ماء الشباب، وسهل وقول، وقاس الهوى فأربى، وعصى وأخلى، وحالف بسمعه وطرفه، وأبرم نعت الرسل وحذر، وأعلن الحب وأسر، وبطن به وأظهر، وألح وأسف ، وأنكح النوم، وجنى الحديث وضرب ظهره لبطنه، وأذل صعبه، وقنع بالرجاء من الوفاء، وأعلى قاتله، واستبكى عاذله، ونفض النوم، وأغلق رهن منى وأهدر قتلاه؛ وكان بعد هذا كله فصيحا.
فمن سهولة شعره وشدة أسره
2
قوله:
فلما تواقفنا وسلمت أشرقت
وجوه زهاها الحسن أن تتقنعا
تبالهن بالعرفان لما رأينني
وقلن امرؤ باغ أكل وأوضعا
3
ومن حسن وصفه قوله:
لها من الريم
4
عيناه ولفتته
ونخوة السابق المختال إذ صهلا
ومن دقة معناه وصواب مصدره قوله:
عوجا
5
نحي الطلل المحولا
6
والربع من أسماء والمنزلا
بسابغ البوباة
7
لم يعده
تقادم العهد بأن يؤهلا
ومن قصده للحاجة قوله:
أيها المنكح الثريا سهيلا
8
عمرك الله كيف يلتقيان
هي شامية إذا ما استقلت
وسهيل إذا استقل يماني
ومن استنطاقه الربع قوله:
سائلا الربع بالبلي
9
وقولا
هجت شوقا لي الغداة طويلا
أين حي حلوك إذ أنت محفو
ف بهم آهل أراك جميلا
قال ساروا فأمعنوا واستقلوا
10
وبرغمي ولو وجدت سبيلا
سئمونا وما سئمنا جوارا
وأحبوا دماثة
11
وسهولا
قال إسحاق: أنشد جرير هذه الأبيات فقال: إن هذا الذي كنا ندور عليه فأخطأناه.
ومن إنطاقه القلب قوله:
قال لي فيها عتيق مقالا
فجرت مما يقول الدموع
قال لي ودع سليمى ودعها
فأجاب القلب: لا أستطيع
ومن حسن عزائه قوله:
أألحق إن دار الرباب تباعدت
أو انبت
12
حبل أن قلبك طائر
أفق قد أفاق العاشقون وفارقوا ال
هوى واستمرت بالرجال
13
المرائر
زع
14
النفس واستبق الحياء فإنما
تباعد أوتدني الرباب المقادر
أمت حبها واجعل قديم وصالها
وعشرتها كمثل من لا تعاشر
وهبها كشيء لم يكن أو كنازح
به الدار أو من غيبته المقابر
وكالناس علقت الرباب فلا تكن
أحاديث من يبدو ومن هو حاضر
15
وهذه الأبيات يرويها بعض أهل الحجاز لكثير، ويرويها الكوفيون للكميت بن معروف الأسدي، وذكر بعضها الزبير بن بكار عن ابن عبيدة لكثير في أخباره. ومن حسن غزله في مخاطبة النساء - قال مصعب الزبيري: وقد أجمع أهل بلدنا ممن له علم بالشعر أن هذه الأبيات أغزل ما سمعوا - قوله :
تقول غداة التقينا الرباب
أيا ذا أفلت أفول السماك
وكفت سوابق من عبرة
كما ارفض نظم ضعيف السلاك
فقلت لها من يطع في الصدي
ق أعداءه يجتنبه كذاك
أغرك أني عصيت الملا
م فيك وأن هوانا هواك
وألا أرى لذة في الحياة
تقر بها العين حتى أراك
فكان من الذنب لي عندكم
مكارمتي واتباعي رضاك
فليت الذي لام في حبكم
وفي أن تزاري بقرن
16
وقاك
هموم الحياة وأسقامها
وإن كان حتف جهيز
17
فداك
ومن عفة مقاله قوله:
طال ليلي واعتادني اليوم سقم
وأصابت مقاتل القلب نعم
حرة الوجه والشمائل والجو
هر تكليمها لمن نال غنم
وحديث بمثله تنزل العص
18
م رخيم يشوب ذلك حلم
هكذا وصف ما بدا لي منها
ليس لي بالذي تغيب علم
إن تجودي أو تبخلي فبحمد
لست يا نعم فيها من يذم
ومن قلة انتقاله قوله:
أيها القائل غير الصواب
أمسك النصح وأقلل عتابي
واجتنبني واعلمن أن ستعصى
ولخير لك طول اجتنابي
إن تقل نصحا فعن ظهر غش
دائم الغمر
19
بعيد الذهاب
ليس بي عي بما قلت إني
عالم أفقه رجع الجواب
إنما قرة عيني هواها
فدع اللوم وكلني لما بي
لا تلمني في الرباب وأمست
عدلت
20
للنفس برد الشراب
هي والله الذي هو ربي
صادقا أحلف غير الكذاب
أكرم الأحياء طرا علينا
عند قرب منهم واجتناب
خاطبتني ساعة وهي تبكي
ثم عزت
21
خلتي في الخطاب
وكفى بي مدرها لخصوم
لسواها عند حد تبابي
22
ومن إثباته الحجة قوله:
خليلي بعض اللوم لا ترحلا
23
به
رفيقكما حتى تقولا على علم
خليلي من يكلف بآخر كالذي
كلفت به يدمل
24
فؤادا على سقم
خليلي ما كانت تصاب مقاتلي
ولا غرتي حتى وقعت على نعم
خليلي حتى لف حبلي
25
بخادع
موقى إذا يرمي صيود إذا يرمي
خليلي لو يرقى خليل من الهوى
رقيت بما يدني النوار
26
من العصم
خليلي إن باعدت لانت وإن ألن
تباعد فلم أنبل
27
بحرب ولا سلم
ومن ترجيحه الشك في موضع اليقين قوله:
نظرت إليها بالمحصب من منى
ولي نظر لولا التحرج عارم
28
فقلت: أشمس أم مصابيح بيعة
بدت لك خلف السجف
29
أم أنت حالم
بعيدة
30
مهوى القرط إما لنوفل
أبوها وإما عبد شمس وهاشم
ومد عليها السجف يوم لقيتها
على عجل تباعها والخوادم
فلم أستطعها غير أن قد بدا لنا
عشية راحت وجهها والمعاصم
معاصم لم تضرب على البهم
31
بالضحى
عصاها ووجه لم تلحه
32
السمائم
نضار ترى فيه أساريع
33
مائه
صبيح تغاديه الأكف النواعم
إذا ما دعت أترابها فاكتنفنها
تمايلن أو مالت بهن المآكم
34
طلبن الصبا حتى إذا ما أصبنه
نزعن وهن المسلمات الظوالم
ومن طلاوة اعتذاره قوله:
عاود القلب بعض ما قد شجاه
من حبيب أمسى هوانا هواه
يا لقومي فكيف أصبر عمن
لا ترى النفس طيب عيش سواه
أرسلت إذ رأت بعادي ألا
يقبلن بي محرشا
35
إن أتاه
دون أن يسمع المقالة منا
وليطعني فإن عندي رضاه
لا تطع بي فدتك نفسي عدوا
لحديث على هواه افتراه
لا تطع بي من لو رآني وإيا
ك أسيري ضرورة ما عناه
ما ضراري نفسي بهجري من لي
س مسيئا ولا بعيدا ثراه
36
واجتنابي بيت الحبيب وما الخل
د بأشهى إلى من أن أراه
ومن نهجه العلل قوله:
وآية ذلك أن تسمعي
إذا جئتكم ناشدا ينشد
فرحنا سراعا وراح الهوى
دليلا إليها بنا يقصد
فلما دنونا لجرس
37
النبا
ح والصوت، والحي لم يرقدوا
بعثنا لها باغيا ناشدا
وفي الحي بغية من ينشد
ومن فتحه الغزل قوله:
إذا أنت لم تعشق ولم تدر ما الهوى
فكن حجرا من يابس الصخر جلمدا
ومن عطفه المساءة على العذال قوله:
لا تلمني عتيق حسبي الذي بي
إن بي يا عتيق ما قد كفاني
لا تلمني وأنت زينتها لي
أنت مثل الشيطان للإنسان
ومن حسن تفجعه قوله:
هجرت الحبيب اليوم من غير ما اجترم
وقطعت من ذي ودك الحبل فانصرم
أطعت الوشاة الكاشحين ومن يطع
مقالة واش يقرع السن من ندم
أتاني رسول كنت أحسب أنه
شفيق علينا ناصح كالذي زعم
فلما تباثثنا
38
الحديث وصرحت
سرائره عن بعض ما كان قد كتم
تبين لي أن المحرش كاذب
39
فعندي لك العتبى على رغم من رغم
فملآن لمت النفس بعد الذي مضى
وبعد الذي آلت وآليت من قسم
ظلمت ولم تعتب وكان رسولها
إليك سريعا بالرضا لك إذ ظلم
ومن تخيله المنازل قوله:
ألم تسأل الأطلال والمتربعا
ببطن حليات
40
دوارس بلقعا
إلى السرح
41
من وادي المغمس
42
بدلت
معالمها وبلا ونكباء
43
زعزعا
44
فيبخلن أو يخبرن بالعلم بعد ما
نكأن
45
فؤادا كان قدما مفجعا
ومن اختصاره الخبر قوله:
أمن آل نعم أنت غاد فمبكر
غداة غد أم رائح فمهجر
بحاجة نفس لم تقل في جوابها
فتبلغ عذرا والمقالة تعذر
أشارت بمدراها
46
وقالت لتربها
أهذا المغيري الذي كان يذكر
لئن كان إياه لقد حال بعدنا
عن العهد والإنسان قد يتغير
قال الزبير حدثني إسحاق الموصلي قال: قلت لأعرابي: ما معنى قول ابن أبي ربيعة:
بحاجة نفس لم تقل في جوابها
47
فتبلغ عذرا والمقالة تعذر
فقال: قام كما جلس.
ومن صدقه الصفاء قوله:
كل وصل أمسى لديك لأنثى
غيرها وصلها إليها أداء
كل أنثى وإن دنت لوصال
أو نأت فهي للرباب الفداء
وقوله:
أحب لحبك من لم يكن
صفيا لنفسي ولا صاحبا
وأبذل مالي لمرضاتكم
وأعتب
48
من جاءكم عاتبا
وأرغب في ود من لم أكن
إلى وده قبلكم راغبا
ولو سلك الناس في جانب
من الأرض واعتزلت جانبا
ليممت طيتها
49
إنني
أرى قربها العجب العاجبا
ومما قدح فيه فأورى قوله:
طال ليلي وتعناني
50
الطرب
51
واعتراني طول هم ووصب
52
أرسلت أسماء في معتبة
عتبتها وهي أحلى من عتب
أن أتى منها رسول موهنا
وجد الحي نياما فانقلب
ضرب الباب فلم يشعر به
أحد يفتح بابا إذ ضرب
قال: أيقاظ، ولكن حاجة
عرضت تكتم منا فاحتجب
ولعمدا ردني، فاجتهدت
بيمين حلفة عند الغضب
يشهد الرحمن لا يجمعنا
سقف بيت رجبا بعد رجب
قلت حلا فاقبلي معذرتي
ما كذا يجزي محب من أحب
إن كفي لك رهن بالرضا
فاقبلي يا هند، قالت: قد وجب
وقالوا: ومن شعره الذي اعتذر فيه فأبرأ قوله:
فالتقينا فرحبت حين سلم
ت وكفت دمعا من العين مارا
53
ثم قالت عن العتاب رأينا
منك عنا تجلدا وازورارا
54
قلت كلا لاه
55
ابن عمك بل خف
نا أمورا كنا بها أغمارا
56
فجعلنا الصدود لما خشينا
قالة الناس للهوى أستارا
ليس كالعهد إذ عهدت
57
ولكن
أوقد الناس بالنميمة نارا
فلذاك الإعراض عنك وما آ
ثر قلبي عليك أخرى اختيارا
ما أبالي إذا النوى قربتكم
فدنوتم من حل أو من سارا
فالليالي إذا نأيت طوال
وأراها إذا قربت قصارا
ومن تشكيه الذي أشجى فيه قوله:
لعمرك ما جاورت غمدان
58
طائعا
وقصر شعوب
59
أن أكون به صبا
ولكن حمى أضرعتني
60
ثلاثة
مجرمة
61
ثم استمرت بنا غبا
62
وحتى لو ان الخلد يعرض إن مشت
إلى الباب رجلي ما نقلت لها إربا
63
فإنك لو أبصرت يوم سويقة
64
مناخي وحبسي العيس دامية حدبا
65
ومصرع إخوان كأن أنينهم
أنين مكاكي
66
فارقت بلدا خصبا
إذن لاقشعر الجلد منك صبابة
ولاستفرغت عيناك من عبرة سكبا
ومن إقدامه عن خبرة ولم يعتذر بغرة قوله:
صرمت وواصلت حتى عرف
ت أين المصادر والمورد
وجربت من ذاك حتى عرف
ت ما أتوقى وما أعمد
ومن أسره النوم قوله:
نام صحبي وبات نومي أسيرا
أرقب النجم موهنا أن يغورا
ومن غمه الطير قوله:
فرحنا وقلنا للغلام اقض حاجة
لنا ثم أدركنا ولا تتغبر
سراعا نغم
67
الطير إن سنحت لنا
وإن تلقنا الركبان لا نتخبر
68
تتغبر من قولهم: غبر فلان، أي لبث.
ومن إغذاذه
69
السير قوله :
قلت سيرا ولا تقيما ببصرى
70
وحفير
71
فما أحب حفيرا
وإذا ما مررتما بمعان
72
فأقلا به الثواء وسيرا
إنما قصرنا
73
إذا حسر
74
السي
ر بعيرا أن نستجد بعيرا
ومن تحييره ماء الشباب قوله:
أبرزوها مثل المهاة تهادى
بين خمس كواعب أتراب
ثم قالوا تحبها قلت بهرا
عدد القطر والحصى والتراب
وهي مكنونة تحير منها
في أديم الخدين ماء الشباب
ومن تقويله وتسهيله قوله:
قالت على رقبة يوما لجارتها
ما تأمرين فإن القلب قد تبلا
75
وهل لي اليوم من أخت مواخية
منكن أشكو إليها بعض ما فعلا
فراجعتها حصان
76
غير فاحشة
برجع قول ولب لم يكن خطلا
77
لا تذكري حبه حتى أراجعه
إني سأكفيكه إن لم أمت عجلا
فاقني
78
حياءك في ستر وفي كرم
فلست أول أنثى علقت رجلا
وأما ما قاس فيه الهوى فقوله:
وقربن أسباب الهوى لمتيم
يقيس ذراعا كلما قسن إصبعا
ومن عصيانه وإخلائه قوله:
وأنص
79
المطي يتبعن بالرك
ب سراعا نواعم الأظعان
فنصيد الغرير
80
من بقر الوح
ش ونلهو بلذة الفتيان
في زمان لو كنت فيه ضجيعي
غير شك عرفت لي عصياني
وتقلبت في الفراش ولا تد
رين إلا الظنون أين مكاني
ومن محالفته بسمعه وطرفه قوله:
سمعي وطرفي حليفاها على جسدي
فكيف أصبر عن سمعي وعن بصري
لو طاوعاني على ألا أكلمها
إذن لقضيت من أوطارها وطري
ومن إبرامه نعت الرسل قوله:
فبعثت كاتمة الحدي
ث رفيقة بجوابها
وحشية إنسية
خراجة من بابها
فرقت فسهلت المعا
رض من سبيل نقابها
ومن تحذيره قوله:
لقد أرسلت جاريتي
وقلت لها خذي حذرك
وقولي في ملاطفة
لزينب نولي عمرك
فإن داويت ذا سقم
فأخزي الله من كفرك
فهزت رأسها عجبا
وقالت من بذا أمرك
أهذا سحرك النسوا
ن، قد خبرنني خبرك
وقلن إذا قضى وطرا
وأدرك حاجة هجرك
ومن إعلانه الحب وإسراره قوله:
شكوت إليها الحب أعلن بعضه
وأخفيت منه في الفؤاد عليلا
ومما أبطن فيه وأظهر قوله:
حبكم يا آل ليلى قاتلي
ظهر الحب بجسمي وبطن
ليس حب فوق ما أحببتكم
غير أن أقتل نفسي أو أجن
ومما ألح فيه وأسف قوله:
ليت حظي كطرفة العين منها
وكثير منها القليل المهنا
أو حديث على خلاء يسلي
ما يجن الفؤاد منها ومنا
كبرت رب نعمة منك يوما
أن أراها قبل الممات ومنا
ومن إنكاحه النوم قوله:
حتى إذا ما الليل جن ظلامه
ونظرت غفلة كاشح أن يعقلا
واستنكح النوم الذين نخافهم
وسقى الكرى بوابهم فاستثقلا
81
خرجت تأطر في الثياب كأنها
أيم يسيب على كثيب أهيلا
82
ومن جنيه الحديث قوله:
وجوار مساعفات على الله
و مسرات باطن الأضغان
صيد للرجال يرشقن بالطر
ف حسان كخذل
83
الغزلان
قد دعاني وقد دعاهن لله
و شجون مهمة
84
الأشجان
فاجتنينا من الحديث ثمارا
ما جنى مثلها لعمرك جاني
ومن ضربه الحديث ظهره لبطنه قوله:
في خلاء من الأنيس وأمن
فبثثنا غليلنا واشتفينا
وضربنا الحديث ظهرا لبطن
وأتينا من أمرنا ما اشتهينا
فمكثنا بذاك عشر ليال
فقضينا ديوننا واقتضينا
ومن إذلاله صعب الحديث قوله:
فلما أفضنا في الهوى نستبينه
وعاد لنا صعب الحديث ذلولا
شكوت إليها الحب أظهر بعضه
وأخفيت منه في الفؤاد غليلا
ومن قناعته بالرجاء من الوفاء قوله:
فعدي نائلا وإن لم تنيلي
إنه ينفع المحب الرجاء
قال الزبير: هذا أحسن من قول كثير:
ولست براض من خليل بنائل
قليل ولا أرضى له بقليل
ومن إعلائه قاتله قوله:
فبعثت جاريتي وقلت لها اذهبي
فاشكي إليها ما علمت وسلمي
قولي يقول تحرجي
85
في عاشق
كلف بكم حتى الممات متيم
ويقول إنك قد علمت بأنكم
أصبحتم يا بشر أوجه
86
ذى دم
فكي رهينته فإن لم تفعلي
فاعلي على قتل ابن عمك واسلمي
فتضاحكت عجبا وقالت حقه
ألا يعلمنا بما لم نعلم
علمي به والله يغفر ذنبه
فيما بدا لي ذو هوى متقسم
طرف
87
ينازعه إلى الأدنى الهوى
ويبت خلة ذى الوصال الأقدم
ومن تنفيضه النوم قوله:
فلما فقدت الصوت منهم وأطفئت
مصابيح شبت بالعشاء وأنور
وغاب قمير كنت أرجو غيوبه
وروح رعيان ونوم سمر
88
ونفضت عني النوم أقبلت مشية ال
حباب وركني خشية القوم أزور
89
ومن إغلاقه رهن منى وإهداره قتلاه قوله:
فكم من قتيل ما يباء
90
به دم
ومن غلق
91
رهنا إذا لفه منى
ومن مالئ عينيه من شيء غيره
إذا راح نحو الجمرة البيض كالدمى
92
وكان بعد هذا كله فصيحا شاعرا مقولا.
93
ومن شعره المشهور قوله:
أمن آل نعم أنت غاد فمبكر
غداة غد أم رائح فمهجر
لحاجة نفس لم تقل في جوابها
فتبلغ عذرا والمقالة تعذر
أشارت بمدراها وقالت لأختها
أهذا المغيري الذي كان يذكر
فقالت نعم لا شك غير لونه
سرى الليل يطوي نصه
94
والتهجر
رأت رجلا أما إذا الشمس عارضت
فيضحى وأما بالعشي فيخصر
أخا سفر جواب أرض تقاذفت
به فلوات فهو أشعث أغبر
قليلا على ظهر المطية ظله
سوى ما نفى عنه الرداء المحبر
95
وأعجبها من عيشها ظل غرفة
وريان ملتف الحدائق أخضر
ووال كفاها كل شيء يهمها
فليست لشيء آخر الليل تسهر
وليلة ذي دوران
96
جشمنني السرى
97
وقد يجشم الهول المحب المغرر
ومن شعره قوله في فاطمة بنت محمد بن الأشعث الكندية:
تشط
98
غدا دار جيراننا
وللدار بعد غد أبعد
إذا سلكت غمر
99
ذي كندة
مع الركب
100
قصد لها الفرقد
101
وحث الحداة بها عيرها
سراعا إذا ما ونت تطرد
102
هنالك إما تعزى الفؤاد
وإما على إثرها تكمد
وليست ببدع إذا دارها
نأت والعزاء إذن أجلد
صرمت وواصلت حتى علم
ت أين المصادر والمورد
وجربت من ذاك حتى عرف
ت ما أتوقى وما أحمد
فلما دنونا لجرس
103
النبا
ح والضوء والحي لم يرقدوا
نأينا عن الحي حتى إذا
تودع
104
من نارها الموقد
وناموا بعثنا لها ناشدا
وفي الحي بغية من ينشد
أتتنا
105
تهادى على رقبة
106
من الخوف أحشاؤها ترعد
تقول وتظهر وجدا
107
بنا
ووجدي وإن أظهرت أوجد
لمما شقائي تعلقتكم
وقد كان لي عنكم
108
مقعد
وكفت سوابق من عبرة
على الخد جال
109
بها الإثمد
فإن التي شيعتنا الغداة
مع الفجر قلبي بها مقصد
110
وشبب عمر بن أبي ربيعة بزينب بنت موسى الجمحية في قصيدته التي يقول فيها:
يا خليلي من ملام دعاني
وألما الغداة بالأظعان
لا تلوما في آل زينب إن ال
قلب رهن بآل زينب عانى
ما أرى ما بقيت أن أذكر المو
قف منها بالخيف
111
إلا شجاني
لم تدع للنساء عندي حظا
غير ما قلت مازحا بلساني
هي أهل الصفاء والود مني
وإليها الهوى فلا تعذلاني
حين قالت لأختها ولأخرى
من قطين
112
مولد: حدثاني
كيف لي اليوم أن أرى عمر المر
سل سرا في القول أن يلقاني
قالتا: نبتغي رسولا إليه
ونميت الحديث بالكتمان
إن قلبي بعد الذي نلت منها
كالمعمى
113
عن سائر النسوان
وكان سبب ذكره لها أن ابن أبي عتيق ذكرها عنده يوما فأطراها ووصف من عقلها وأدبها وجمالها ما شغل قلب عمر وأماله إليها، فقال فيها الشعر وشبب بها، فبلغ ذلك ابن أبي عتيق، فلامه فيه وقال له: أتنطق الشعر في ابنة عمي؟ فقال عمر:
لا تلمني عتيق حسبي الذي بي
إن بي يا عتيق ما قد كفاني
لا تلمني وأنت زينتها لي
أنت مثل الشيطان للإنسان
إن بي داخلا من الحب قد أب
لى عظامي مكنونه وبراني
لو بعينيك يا عتيق نظرنا
ليلة السفح قرت العينان
إذ بدا الكشح والوشاح من الدر
وفصل فيه من المرجان
114
وقلى قلبي النساء سواها
بعد ما كان مغرما بالغواني
لم تدع للنساء عندي نصيبا
غير ما قلت مازحا بلساني
وأنشد ابن أبي عتيق قول عمر:
من
115
لسقيم يكتم الناس ما به
لزينب نجوى صدره والوساوس
أقول لمن يبغي الشفاء متى تجئ
بزينب تدرك بعض ما أنت لامس
فإنك إن لم تشف من سقمي بها
فإني من طلب الأطباء آيس
ولست بناس ليلة الدار مجلسا
لزينب حتى يعلو الرأس رامس
116
خلاء بدت قمراؤه وتكشفت
دجنته وغاب من هو حارس
وما نلت منها محرما غير أننا
كلانا من الثوب المورد
117
لابس
نجيين نقضي اللهو في غير مأثم
وإن رغمت م الكاشحين المعاطس
قال: فقال ابن أبي عتيق: أمنا يسخر ابن أبي ربيعة؟ فأي محرم بقى! ثم أتى عمر فقال له: يا عمر، ألم تخبرني أنك ما أتيت حراما قط؟ قال: بلى، قال: فأخبرني عن قولك:
كلانا من الثوب المورد لابس
ما معناه؟ قال: والله لأخبرنك: خرجت أريد المسجد وخرجت زينب تريده، فالتقينا فاتعدنا لبعض الشعاب، فلما توسطنا الشعب أخذتنا السماء، فكرهت أن يرى بثيابها بلل المطر، فيقال لها: ألا استترت بسقائف المسجد إن كنت فيه! فأمرت غلماني فسترونا بكساء خز كان علي، فذلك حين أقول:
كلانا من اثواب المطارف لابس
فقال له: ابن أبي عتيق: يا عاهر! هذا البيت يحتاج إلى حاضنة!
ومن جيد شعره قوله في زينب بنت موسى:
يا من لقلب متيم كلف
يهذي بخود
118
مريضة النظر
تمشي الهوينا إذا مشت فضلا
119
وهي كمثل العسلوج
120
في الشجر
ما زال طرفي يحار إذ برزت
حتى رأيت النقصان في بصري
أبصرتها ليلة ونسوتها
يمشين بين المقام والحجر
ما إن طمعنا بها ولا طمعت
حتى التقينا ليلا على قدر
121
بيضا حسانا خرائدا قطفا
122
يمشين هونا كمشية البقر
قد فزن بالحسن والجمال معا
وفزن رسلا
123
بالدل والخفر
ينصتن يوما لها إذا نطقت
كيما يشرفنها على البشر
قالت لترب لها تحدثها
لنفسدن الطواف في عمر
قومي تصدي له ليعرفنا
ثم اغمزيه يا أخت في خفر
قالت لها قد غمزته فأبى
ثم اسبطرت
124
تسعى على أثري
من يسق بعد المنام ريقتها
يسق بمسك وبارد خصر
125
وقوله فيها أيضا:
ألمم بزينب إن البين قد أفدا
126
قل الثواء لئن كان الرحيل غدا
قد حلفت ليلة الصورين
127
جاهدة
وما على المرء إلا الحلف مجتهدا
لأختها ولأخرى من مناصفها
128
لقد وجدت به فوق الذي وجدا
لو جمع الناس ثم اختير صفوهم
شخصا من الناس لم أعدل به أحدا
ومن شعر عمر في تشوقه إلى مكة بعد أن خرج منها إلى اليمن قوله:
هيهات من أمة الوهاب منزلنا
إذا حللنا بسيف
129
البحر من عدن
واحتل أهلك أجيادا
130
وليس لنا
إلا التذكر أو حظ من الجزن
لو أنها أبصرت بالجزع عبرته
من أن يغرد قمري على فنن
إذن رأت غير ما ظنت بصاحبها
وأيقنت أن لحجا ليس من وطني
ما أنس لا أنس يوم الخيف
131
موقفها
وموقفي وكلانا ثم ذو شجن
وقولها للثريا وهي باكية
والدمع منها على الخدين ذو سنن
132
بالله قولي له في غير معتبة
ماذا أردت بطول المكث في اليمن
إن كنت حاولت دنيا أو ظفرت بها
فما أخذت بترك الحج من ثمن
وقال أيضا:
خليلي ما بال المطايا كأنما
نراها على الأدبار بالقوم تنكص
133
وقد قطعت أعناقهن صبابة
فأنفسنا مما يلاقين شخص
وقد أتعب الحادي سراهن وانتحى
بهن فما يألو عجول مقلص
134
يزدن بنا قربا فيزداد شوقنا
إذا زاد طول العهد والبعد ينقص
ومن شعره قوله:
جرى ناصح بيني وبينها
فقربني يوم الحصاب
135
إلى قتلي
فطارت بحد من فؤادي وقارنت
قرينتها حبل الصفاء إلى حبلي
فلما تواقفنا عرفت الذي بها
كمثل الذي بي حذوك النعل بالنعل
فقلن لها هذا عشاء وأهلنا
قريب ألما تسأمي مركب البغل
فقالت فما شئتن قلن لها انزلي
فللأرض خير من وقوف على رحل
نجوم دراري
136
تكنفن صورة
من البدر وافت غير هوج
137
ولا عجل
فسلمت واستأنست خيفة أن يرى
عدو مقامي أو يرى كاشح فعلي
فقالت وأرخت جانب الستر إنما
معي فتكلم غير ذي رقبة أهلي
فقلت لها ما بي لهم من ترقب
ولكن سري ليس يحمله مثلي
فلما اقتصرنا دونهن حديثنا
وهن طبيبات بحاجة ذي الشكل
عرفن الذي تهوى فقلن ائذني لنا
نطف ساعة في برد ليل وفي سهل
فقالت فلا تلبثن قلن تحدثي
أتيناك، وانسبن انسياب مها الرمل
فقمن وقد أفهمن ذا اللب أنما
أتين الذي يأتين من ذاك من أجلي
وقد كان عمر حين أسن حلف ألا يقول بيت شعر إلا أعتق رقبة، فانصرف عمر إلى منزله يحدث نفسه، فجعلت جارية له تكلمه فلا يرد عليها جوابا، فقالت له: إن لك لأمرا، وأراك تريد أن تقول شعرا، فقال:
تقول وليدتي لما رأتني
طربت وكنت قد أقصرت حينا
أراك اليوم قد أحدثت شوقا
وهاج لك الهوى داء دفينا
وكنت زعمت أنك ذو عزاء
إذا ما شئت فارقت القرينا
بربك هل أتاك لها رسول
فشاقك أم لقيت لها خدينا
138
فقلت شكا إلي أخ محب
كبعض زماننا إذ تعلمينا
فقص علي ما يلقى بهند
فذكر بعض ما كنا نسينا
وذو الشوق القديم وإن تعزى
مشوق حين يلقى العاشقينا
وكم من خلة
139
أعرضت عنها
لغير قلي وكنت بها ضنينا
أردت بعادها فصددت عنها
ولو جن الفؤاد بها جنونا
ثم دعا تسعة من رقيقه فأعتقهم بكل بيت واحدا.
وله:
يقولون: إني لست أصدقك الهوى
وإني لا أرعاك حين أغيب
فما بال طرفي عف عما تساقطت
له أعين من معشر وقلوب
عشية لا يستنكف القوم أن يروا
سفاه امرئ ممن يقال لبيب
ولا فتنة من ناسك أو مضت
140
له
بعين الصبا كسلى القيام لعوب
تروح يرجو أن تحط ذنوبه
فآب وقد زيدت عليه ذنوب
وما النسك أسلاني ولكن للهوى
على العين مني والفؤاد رقيب
وله:
ألم تسأل المنزل المقفرا
بيانا فيكتم أو يخبرا
ذكرت به بعض ما قد شجاك
وحق لذي الشجو أن يذكرا
مبيت الحبيبين قد ظاهرا
141
كساء وبردين أن يمطرا
وممشى الثلاث به موهنا
خرجن إلى زائر زورا
إلى مجلس من وراء القبا
ب سهل الربى طيب أعفرا
142
غفلن عن الليل حتى بدت
تباشير من واضح أسفرا
فقمن يعفين آثارنا
بأكسية الخز أن تقفرا
143
مهاتان شيعتا جؤذرا
144
أسيلا مقلده
145
أحورا
وقمن وقلن لو ان النها
ر مد له الليل فاستأخرا
قضينا به بعض أشجاننا
وكان الحديث به أجدرا
وله:
أفي رسم دار دمعك المترقرق
146
سفاها! وما استنطاق ما ليس ينطق
بحيث التقى جمع
147
وأقصى محسر
148
معالمه كادت على العهد تخلق
ذكرت به ما قد مضى من زماننا
وذكرك رسم الدار مما يشوق
ليالي من دهر إذ الحي جيرة
وإذ هو مأهول الخميلة مؤنق
مقاما لنا عند العشاء ومجلسا
به لم يكدره علينا معوق
149
وممشى فتاة بالكساء تكننا
به تحت عين
150
برقها يتألق
يبل أعالي الثوب قطر وتحته
شعاع بدا يعشي العيون ويشرق
فأحسن شيء بدء أول ليلنا
وآخره حزن إذا نتفرق
وروي أن ليلى كانت جالسة في المسجد الحرام، فرأت عمر بن أبي ربيعة فوجهت إليه مولى لها فجاء به، فقالت له: يابن ربيعة، حتى متى لا تزال سادرا
151
في حرم الله تشبب بالنساء وتشيد بذكرهن! أما تخاف الله! قال: دعيني من ذاك واسمعي ما قلت، قالت: وما قلت؟ فأنشدها الأبيات المذكورة، فقالت له القول الذي تقدم أنها أجابته به. قال: وقال: لها: اسمعي أيضا ما قلت فيك، ثم أنشدها قوله:
أمن الرسم وأطلال الدمن
عاد لي وجدي وعاودت الحزن
إن حبي آل ليلى قاتلي
ظهر الحب بجسمي وبطن
يا أبا الحارث قلبي طائر
فأتمر أمر رشيد مؤتمن
التمس للقلب وصلا عندها
إن خير الوصل ما ليس يمن
152
علق القلب، وقد كان صحا
من بني بكر غزالا قد شدن
153
أحور المقلة كالبدر، إذا
قلد الدر فقلبي ممتحن
154
ليس حب فوق ما أحببتكم
غير أن أقتل نفسي أو أجن
خلقت للقلب مني فتنة
هكذا يخلق معروض الفتن
وفيها يقول:
إن ليلى وقد بلغت المشيبا
لم تدع للنساء عندي نصيبا
هاجر بيتها لأنفي عنها
قول ذي العيب إن أراد عيوبا
وله في النوار وقد شغلت قلبه:
علق النوار فؤاده جهلا
وصبا فلم تترك له عقلا
وتعرضت لي في المسير فما
أمسى الفؤاد يرى لها مثلا
ما نعجة من وحش ذي بقر
155
تغذو بسقط صريمة
156
طفلا
بألذ منها إذ تقول لنا
وأردت كشف قناعها مهلا
دعنا فإنك لا مكارمة
تجزى ولست بواصل حبلا
وعليك من تبل الفؤاد وإن
أمسى لقلبك ذكره شغلا
فأجبتها إن المحب مكلف
157
فدعي العتاب وأحدثي بذلا
اجتمع نسوة من أهل المدينة من أهل الشرف فتذاكرن عمر بن أبي ربيعة وشعره وظرفه وحسن حديثه فتشوقن إليه وتمنينه، فقالت سكينة بنت الحسين عليهما السلام: أنا لكن به، فأرسلت إليه رسولا وواعدته الصورين، وسمت له الليلة والوقت وواعدت صواحباتها، فوافاهن عمر على راحلته، فحدثهن حتى أضاء الفجر وحان انصرافهن، فقال لهن: والله إني لمحتاج إلى زيارة قبر رسول الله
صلى الله عليه وسلم
والصلاة في مسجده ولكن لا أخلط بزيارتكن شيئا، ثم انصرف إلى مكة وقال:
قالت سكينة والدموع ذوارف
منها على الخدين والجلباب
158
ليت المغيري الذي لم أجزه
فيما أطال تصيدي وطلابي
كانت ترد لنا المنى أيامنا
إذ لا نلام على هوى وتصابي
خبرت ما قالت فبت كأنما
رمي الحشا بنوافذ النشاب
159
أسكين ما ماء الفرات وطيبه
مني على ظمأ وفقد شراب
بألذ منك وإن نأيت وقلما
ترعى النساء أمانة الغياب
وقال فيها:
أحب لحبك من لم يكن
صفيا لنفسي ولا صاحبا
وأبذل نفسي لمرضاتكم
وأعتب
160
من جاءكم عاتبا
وأرغب في ود من لم أكن
إلى وده قبلكم راغبا
ولو سلك الناس في جانب
من الأرض واعتزلت جانبا
ليممت طيتها، إنني
أرى قربها العجب العاجبا
فما ظبية من ظباء الأرا
ك تقرو
161
دميث
162
الربى عاشبا
بأحسن منها غداة الغميم
163
وقد أبدت الخد والحاجبا
غداة تقول على رقبة
لخادمها:
164
يا احبسي الراكبا
فقالت لها: فيم هذا الكلام
وأبدت لها عابسا قاطبا
165
فقالت كريم أتى زائرا
يمر بكم هكذا جانبا
شريف أتى ربعنا زائرا
فأكره رجعته خائبا
وقال في جاريته بغوم:
صرمت حبلك البغوم وصدت
عنك في غير ريبة أسماء
والغواني إذا رأينك كهلا
كان فيهن عن هواك التواء
حبذا أنت يا بغوم وأسما
ء وعيص يكننا وخلاء
ولقد قلت ليلة الجزل لما
أخضلت ريطتي على السماء
166
ليت شعري - وهل يردن ليت -
هل لهذا عند الرباب جزاء
كل وصل أمسى لدي لأنثى
غيرها وصلها إليها أداء
كل خلق وإن دنا لوصال
أو نأى فهو للرباب الفداء
فعدي نائلا وإن لم تنيلي
إنما ينفع المحب الرجاء
وكان يهوى حميدة جارية ابن تفاحة؛ وفيها يقول:
حمل القلب من حميدة ثقلا
إن في ذاك للفؤاد لشغلا
إن فعلت الذي سألت فقولي
حمد خيرا وأتبعي القول فعلا
وصليني وأشهد الله أني
لست أصفى سواك ما عشت وصلا
وفيها يقول :
يا قلب هل لك عن حميدة زاجر
أم أنت مدكر الحياء فصابر
فالقلب من ذكري حميدة موجع
والدمع منحدر وعظمي فاتر
قد كنت أحسب أنني قبل الذي
فعلت على ما عند حمدة قادر
حتى بدا لي من حميدة خلتي
بين وكنت من الفراق أحاذر
وله في هند:
أربت
167
إلى هند وتربين مرة
لها إذ تواقفنا بفرع المقطع
لتعريج يوم أو لتعريس
168
ليلة
علينا بجمع الشمل قبل التصدع
فقلن لها لولا ارتقاب صحابة
لنا خلفنا عجبنا ولم نتورع
فقالت فتاة كنت أحسب أنها
مغفلة في مئزر لم تدرع
169
لهن - وما شاورنها - ليس ما أرى
بحسن جزاء للحبيب المودع
فقلن لها لا شب
170
قرنك فافتحي
لنا باب
171
ما يخفى من الأمر نسمع
وله:
ليت هندا أنجزتنا ما تعد
وشفت أنفسنا مما تجد
172
واستبدت مرة واحدة
إنما العاجز من لا يستبد
ولقد قالت لجارات لها
ذات يوم وتعرت تبترد
173
أكما ينعتني تبصرنني
عمركن الله أم لا يقتصد
فتهانفن
174
وقد قلن لها
حسن في كل عين من تود
حسدا حمله من أجلها
وقديما كان في الناس الحسد
وله:
يا من لقلب دنف مغرم
هام
175
إلى هند ولم يظلم
هام إلى ريم
176
هضيم الحشى
عذب الثنايا طيب المبسم
لم أحسب الشمس بليل بدت
قبلي لذي لحم ولا ذي دم
177
قالت ألا إنك ذو ملة
يصرفك الأدنى عن الأقدم
قلت لها بل أنت معتلة
في الوصل يا هند لكي تصرمي
بينا عمر بن أبي ربيعة يطوف بالبيت إذ رأى عائشة بنت طلحة بن عبيد الله، وكانت من أجمل أهل دهرها، وهي تريد الركن تستلمه، فبهت لما رآها ورأته، وعلمت أنها قد وقعت في نفسه، فبعثت إليه بجارية لها وقالت: قولي له: اتق الله ولا تقل هجرا، فإن هذا مقام لا بد فيه مما رأيت؛ فقال للجارية: أقرئيها السلام وقولي لها: ابن عمك لا يقول إلا خيرا؛ وقال فيها:
لعائشة ابنة التيمي عندي
حمى في القلب، لا يرعى حماها
يذكرني ابنة التيمي ظبي
يرود بروضة سهل رباها
فقلت له وكان يراع قلبي
فلم أر قط كاليوم اشتباها
سوى حمش
178
بساقك مستبين
وأن شواك
179
لم يشبه شواها
وأنك عاطل عار وليست
بعارية ولا عطل يداها
وأنك غير أفرع
180
وهي تدلي
على المتنين أسحم
181
قد كساها
ولو قعدت ولم تكلف بود
سوى ما قد كلفت به كفاها
أظل إذا أكلمها كأني
أكلم حية غلبت رقاها
تبيت إلى بعد النوم تسري
وقد أمسيت لا أخشى سراها
وله:
إني وأول ما كلفت بحبها
عجب وهل في الحب من متعجب
نعت النساء فقلت لست بمبصر
شبها لها أبدا ولا بمقرب
فمكثن حينا ثم قلن توجهت
للحج، موعدها لقاء الأخشب
182
أقبلت أنظر ما زعمن وقلن لي
والقلب بين مصدق ومكذب
فلقيتها تمشي بها بغلاتها
ترمي الجمار عشية في موكب
غراء يعشى الناظرين بياضها
حوراء في غلواء
183
عيش معجب
إن التي من أرضها وسمائها
جلبت لحينك ليتها لم تجلب
وكان عمر بن أبي ربيعة يهوى كلثم بنت سعد المخزومية، فأرسل إليها رسولا فضربتها وحلقتها وأحلفتها ألا تعاود؛ ثم أعادها ثانية ففعلت بها مثل ذلك، فتحاماها رسله؛ فابتاع أمة سوداء لطيفة رقيقة وأتى بها منزله فأحسن إليها وكساها وآنسها. وعرفها خبره وقال لها: إن أوصلت لي رقعة إلى كلثم فقرأتها فأنت حرة ولك معيشتك ما بقيت؛ فقالت: اكتب لي مكاتبة
184
واكتب حاجتك في آخرها، ففعل ذلك، فأخذتها ومضت بها إلى باب كلثم فاستأذنت فخرجت إليها أمة لها فسألتها عن أمرها؛ فقالت: مكاتبة لبعض أهل مولاتك جئت أستعينها في مكاتبتي، وحادثتها وناشدتها حتى ملأت قلبها، فدخلت إلى كلثم وقالت: إن بالباب مكاتبة لم أر قط أجمل منها ولا أكمل ولا آدب؛ فقالت: ائذني لها، فدخلت، فقالت: من كاتبك؟ قالت: عمر بن أبي ربيعة الفاسق! فاقرئي مكاتبتي، فمدت يدها لتأخذها فقالت لها: لي عليك عهد الله أن تقرئيها، فإن كان منك إلي شيء مما أحبه وإلا لم يلحقني منك مكروه؛ فعاهدتها وفطنت وأعطتها الكتاب، فإذا أوله:
من عاشق صب يسر الهوى
قد شفه الوجد إلى كلثم
رأتك عيني فدعاني الهوى
إليك للحين ولم أعلم
قتلتنا، يا حبذا أنتم
في غير ما جرم ولا مأثم
والله قد أنزل في وحيه
مبينا في آيه المحكم
من يقتل النفس كذا ظالما
ولم يقدها نفسه يظلم
وأنت ثأري فتلافي دمي
ثم اجعليه نعمة تنعمي
وحكمي عدلا يكن بيننا
أو أنت فيما بيننا فاحكمي
وجالسيني مجلسا واحدا
من غير ما عار ولا محرم
وخبريني ما الذي عندكم
بالله في قتل امرئ مسلم
فلما قرأت الشعر قالت لها: إنه خداع ملق وليس لما شكاه أصل؛ قالت: يا مولاتي، فما عليك من امتحانه؟ قالت: قد أذنت له وما زال حتى ظفر ببغيته! فقولي له: إذا كان المساء فليجلس في موضع كذا وكذا حتى يأتيه رسولي؛ فانصرفت الجارية فأخبرته فتأهب لها، فلما جاءه رسولها مضى معه حتى دخل إليها وقد تهيأت أجمل هيئة، وزينت نفسها ومجلسها وجلست له من وراء ستر، فسلم وجلس، فتركته حتى سكن ثم قالت له: أخبرني عنك يا فاسق! ألست القائل:
هلا ارعويت فترحمي صبا
صديان لم تدعي له قلبا
جشم الزيارة في مودتكم
وأراد ألا ترهقي دنبا
ورجا مصالحة فكان لكم
سلما وكنت ترينه حربا
يا أيها المصفي مودته
من لا يراك مساميا خطبا
185
لا تجعلن أحدا عليك إذا
أحببته وهويته ربا
وصل الحبيب إذا شغفت به
واطو الزيارة دونه غبا
فلذاك أحسن من مواظبة
ليست تزيدك عنده قربا
لا بل يملك عند دعوته
فيقول هاه
186
وطالما لبى
ورأى عمر لبابة بنت عبد الله بن العباس امرأة الوليد بن عتبة بن أبي سفيان تطوف بالبيت فرأى أحسن خلق الله، فكاد عقله يذهب، فسأل عنها فأخبر بنسبها، فنسب بها وقال فيها:
ودع لبابة أن تترحلا
واسأل فإن قلاله
187
أن تسألا
البث بعمرك ساعة وتأنها
فلعل ما بخلت به أن يبذلا
قال ائتمر
188
ما شئت غير مخالف
فيما هويت فإننا لن نعجلا
لسنا نبالي حين تقضى حاجة
ما بات أو ظل المطي معقلا
حتى إذا ما الليل جن ظلامه
ورقبت غفلة كاشح أن يمحلا
خرجت تأطر
189
في الثياب كأنها
أيم
190
يسيب على كثيب أهيلا
رحبت حين رأيتها فتبسمت
لتحيتي لما رأتني مقبلا
وجلا القناع سحابة مشهورة
غراء تعشي الطرف أن يتأملا
فلبثت أرقيها بما لو عاقل
191
يرقى به ما اسطاع ألا ينزلا
وحجت رملة بنت عبد الله بن خلف الخزاعية فقال فيها:
أصبح القلب في الحبال رهينا
مقصدا يوم فارق الظاعنينا
عجلت حمة الفراق علينا
برحيل ولم نخف أن تبينا
لم يرعني إلا الفتاة وإلا
دمعها في الرداء سحا سنينا
ولقد قلت يوم مكة سرا
قبل وشك من بينكم نولينا
أنت أهوى العباد قربا ودلا
لو تنيلين عاشقا محزونا
قاده الطرف يوم مر إلى الحي
ن جهارا ولم يخف أن يحينا
فإذا نعجة تراعي نعاجا
ومها بهج المناظر عينا
قلت من أنتم فصدت وقالت
أمبد
192
سؤالك العالمينا
قلت بالله ذي الجلالة لما
أن تبلت الفؤاد أن تصدقينا
أي من تجمع المواسم قولي
وأبيني لنا ولا تكتمينا
نحن من ساكني العراق وكنا
قبله قاطنين مكة حينا
قد صدقناك إذ سألت فمن أن
ت عسى أن يجر شأن شئونا
ونرى أننا عرفناك بالنع
ت بظن وما قتلنا يقينا
بسواد الثنيتين ونعت
قد نراه لناظر مستبينا
وقال في الثريا وقد صرمته:
من رسولي إلى الثريا فإني
ضقت ذرعا بهجرها والكتاب
سلبتني مجاجة،
193
المسك عقلي
فسلوها ماذا أحل اغتصابي
وهي مكنونة تحير منها
في أديم الخدين ماء الشباب
أبرزوها مثل المهاة تهادى
194
بين خمس كواعب أتراب
ثم قالوا تحبها قلت بهرا
عدد القطر والحصى والتراب
أزهقت أم نوفل إذ دعتها
مهجتي،
195
ما لقاتلي من متاب
حين قالت لها أجيبي فقالت
من دعاني قالت أبو الخطاب
فاستجابت عند الدعاء كما لب
بى رجال يرجون حسن الثواب
ومن شعره:
كتبت إليك من بلدي
كتاب موله كمد
كئيب واكف
196
العيني
ن بالحسرات منفرد
يؤرقه لهيب الشو
ق بين السحر
197
والكبد
فيمسك قلبه بيد
ويمسح عينه بيد
لما تزوج سهيل بن عبد العزيز الثريا ونقلها إلى الشأم، بلغ عمر بن أبي ربيعة الخبر، فأتى المنزل الذي كانت الثريا تنزله، فوجدها قد رحلت منه يومئذ، فخرج في أثرها فلحقها على مرحلتين، وكانت قبل ذلك مهاجرته لأمر أنكرته عليه، فلما أدركهم نزل عن فرسه ودفعه إلى غلامه ومشى متنكرا حتى مر بالخيمة، فعرفته الثريا وأثبتت
198
حركته ومشيته، فقالت لحاضنتها:
199
كلميه، فسلمت عليه وسألته عن حاله وعاتبته على ما بلغ الثريا عنه، فاعتذر وبكى، فبكت الثريا، فقالت: ليس هذا وقت العتاب مع وشك الرحيل، فحادثها إلى وقت طلوع الفجر ثم ودعها وبكيا طويلا، وقام فركب فرسه ووقف ينظر إليهم وهم يرحلون،
200
ثم أتبعهم بصره حتى غابوا، وأنشأ يقول:
يا صاحبي قفا نستخبر الطللا
عن حال من حله بالأمس ما فعلا
فقال لي الربع لما أن وقفت به
إن الخليط أجد
201
البين فاحتملا
202
وخادعتك النوى حتى رأيتهم
في الفجر يحتث حادي عيسهم زجلا
203
لما وقفنا نحييهم وقد صرخت
هواتف البين واستولت بهم أصلا
204
صدت بعادا وقالت للتي معها
بالله لوميه في بعض الذي فعلا
وحدثيه بما حدثت واستمعي
ماذا يقول ولا تعيي
205
به جدلا
حتى يرى أن ما قال الوشاة له
فينا لديه إلينا كله نقلا
وعرفيه به كالهزل واحتفظي
في بعض معتبة أن تغضبي الرجلا
فإن عهدي به والله يحفظه
وإن أتى الذنب ممن يكره العذلا
لو عندنا اغتيب أو نيلت نقيصته
ما آب مغتابه من عندنا جذلا
قلت اسمعي فلقد أبلغت في لطف
206
وليس يخفى على ذي اللب من هزلا
هذا أرادت به بخلا لأعذرها
وقد أرى أنها لن تعدم العللا
ما سمي القلب إلا من تقلبه
ولا الفؤاد فؤادا غير أن عقلا
207
أما الحديث الذي قالت أتيت به
فما عبأت به إذ جاءني حولا
ما إن أطعت بها بالغيب قد علمت
مقالة الكاشح الواشي إذا محلا
إني لأرجعه فيها بسخطته
وقد يرى أنه قد غرني زللا
وهي قصيدة طويلة مذكورة في شعره.
وله:
هل تعرف الدار والأطلال والدمنا
زدن الفؤاد على علاته
208
حزنا
دار لأسماء قد كانت تحل بها
وأنت إذ ذالك قد كانت لكم وطنا
لم يحبب القلب شيئا مثل حبكم
ولم تر العين شيئا بعدكم حسنا
ما إن أبالي أدام الله قربكم
من كان شط من الأحياء أو ظعنا
فإن نأيتم أصاب القلب نأيكم
وإن دنت داركم كنتم لنا سكنا
إن تبخلي لا يسل القلب بخلكم
وإن تجودي فقد عنيتني زمنا
أمسى الفؤاد بكم يا هند مرتهنا
وأنت كنت الهوى والهم والوسنا
إذ تستبيك بمصقول عوارضه
ومقلتي جؤذر لم يعد أن شدنا
وقال:
أعبدة ما ينسى مودتك القلب
ولا هو يسليه رخاء ولا كرب
ولا قول واش كاشح ذي عداوة
ولا بعد دار إن نأيت ولا قرب
وما ذاك من نعمى لديك أصابها
ولكن حبا ما يقاربه حب
فإن تقبلي يا عبد توبة تائب
يتب ثم لا يوجد له أبدا ذنب
أذل لكم يا عبد فيما هويتم
وإني إذا ما رامني غيركم صعب
وأعذل نفسي في الهوى فتعوقني
ويأصرني قلب بكم كلف صب
وفي الصبر عمن لا يؤاتيك راحة
ولكنه لا صبر عندي ولا لب
وعبدة بيضاء المحاجر طفلة
منعمة تصبي الحليم وما تصبو
قطوف من الحور الأوانس بالضحى
متى تمش قيس الباع من بهرها تربو
فلست بناس يوم قالت لأربع
نواعم غر كلهن لها ترب
ألا ليت شعري فيم كان صدوده
أعلق أخرى! أم علي به عتب
وقال:
إن طيف الخيال حين ألما
هاج لي ذكرة وأحدث هما
جددي الوصل يا سكين وجودي
لمحب رحيله قد أحما
ليس بين الحياة والموت إلا
أن يردوا جمالهم فتزما
ولقد قلت مخيفا لغريض
هل ترى ذلك الغزال الأحما
هل ترى فوقه من الناس شخصا
أحسن اليوم صورة وأتما
إن تنيلي أعش بخير وإن لم
تبذلي الود مت بالهم غما
وله أيضا:
أيا من كان لي بصرا وسمعا
وكيف الصبر عن بصري وسمعي
وعمن حين يذكره فؤادي
يفيض كما يفيض الغرب دمعي
يقول العاذلون نأت فدعها
وذلك حين تهيامي وولعي
أأهجرها فأقعد لا أراها
وأقطعها وما همت بقطعي
وأصرم حبلها لمقال واش
وأفجعها وما همت بفجعي
وأقسم لو خلوت بهجر هند
لضاق بهجرها في النوم ذرعي
وهو القائل:
ما كنت أشعر إلا مذ عرفتكم
أن المضاجع تمسي تنبت الإبرا
لقد شقيت وكان الحين،
209
لي سببا
أن علق القلب قلبا يشبه الحجرا
قد لمت قلبي فأعياني بواحدة
وقال لي لا تلمني وادفع القدرا
إن أكره الطرف يحسر دون غيركم
ولست أحسن إلا نحوك النظرا
قالوا صبوت فلم أكذب مقالتهم
وليس ينسى الصبا إن واله كبرا
وقال أيضا:
ألا ليت قبري يوم تقضي منيتي
بتلك التي من بين عينيك والفم
وليت طهوري كان ريقك كله
وليت حنوطي من مشاشك والدم
ألا ليت أم الفضل كانت قرينتي
هنا أو هنا في جنة أو جهنم
نظر عمر بن أبي ربيعة في الطواف إلى امرأة شريفة فرأى أحسن خلق الله صورة، فذهب عقله عليها وكلمها فلم تجبه؛ فقال فيها:
الريح تسحب أذيالها وتنشرها
يا ليتني كنت ممن تسحب الريح
كيما تجر بنا
210
ذيلا فتطرحنا
على التي دونها مغبرة
211
سوح
212
أني بقربكم أم كيف لي بكم
هيهات ذلك ما أمست لنا روح
فليت ضعف الذي ألقى يكون بها
بل ليت ضعف الذي ألقى تباريح
213
إحدى بنيات عمي دون منزلها
أرض بقيعاتها القيصوم
214
والشيح
فبلغها شعره فجزعت منه، فقيل لها: اذكريه لزوجك، فإنه سينكر عليه قوله، فقالت: كلا والله لا أشكوه إلا إلى الله، ثم قالت: اللهم إن كان نوه باسمي ظالما فاجعله طعاما للريح، فضرب الدهر من ضربه؛ ثم إنه غدا يوما على فرس فهبت ريح فنزل فاستتر بسلمة، فعصفت الريح فخدشه غصن منها، فدمي وورم به ومات من ذلك. (1-2) الغزل العذري
جميل
قال نصيب مولى عبد العزيز بن مروان: قدمت المدينة فسألت عن أعلم أهلها بالشعر، فقيل لي: الوليد بن سعيد الأشجعي، فوجدته بشعب سلع مع عبد الرحمن بن حسان وعبد الرحمن بن أزهر، فإنا لجلوس إذ طلع علينا رجل طويل بين المنكبين يقود راحلة عليها بزة حسنة، فقال عبد الرحمن بن حسان لعبد الرحمن بن أزهر : يا أبا حبتر، هذا جميل
215
فادعه لعله ينشدنا؛ فصاح به عبد الرحمن: هيا جميل؛ فالتفت فقال: من هذا؟ فقال: أنا عبد الرحمن بن أزهر؛ فقال: قد علمت أنه لا يجترئ علي إلا مثلك، فأتاه، فقال له: أنشدنا؛ فأنشدهم:
ونحن منعنا يوم أول نساءنا
ويوم أفي والأسنة ترعف
216
يحب الغواني البيض ظل لوائنا
إذا ما أتانا الصارخ المتلهف
نسير أمام الناس والناس خلفنا
فإن نحن أومأنا إلى الناس وقفوا
فأي معد كان فيء رماحه
كما قد أفأنا والمفاخر ينصف
وكنا إذا ما معشر نصبوا لنا
ومرت جواري طيرهم وتعيفوا
217
وضعنا لهم صاع القصاص رهينة
بما سوف نوفيها إذا الناس طففوا
218
إذا استبق الأقوام مجدا وجدتنا
لنا معرفا مجد وللناس معرف
ثم قال له: أنشدنا هزجا؛ قال: وما الهزج؟ لعله القصير! قال: نعم، فأنشده:
رسم دار وقفت في طلله
كدت أقضي الحياة من جلله
219
موحشا ما ترى به أحدا
تنسج الريح ترب معتدله
وصريعا بين الثمام ترقى
عازفات المدب في أسله
بين علياء رائش فبلي
فالغميم الذي إلى جبله
واقفا في ديار أم جسير
من ضحى يومه إلى أصله
يا خليلي إن أم جسير
حين يدنو الضجيع من غلله
220
روضة ذات حنوة وخزامى
جاد فيها الربيع من سبله
221
بينما نحن بالأراك معا
إذ بدا راكب على جمله
فتأطرت
222
ثم قلت لها
أكرميه حييت في نزله
فظللنا بنعمة واتكأنا
وشربنا الحلال من قلله
قد أصون الحديث دون أخ
لا أخاف الأذاة من قبله
غير بغض له ولا ملق
غير أني أشحت
223
من وجله
وخليل صافيت مرتضيا
وخليل فارقت من ملله
ثم اقتاد راحتله موليا؛ فقال ابن الأزهر: هذا أشعر أهل الإسلام؛ فقال ابن حسان: نعم والله وأشعر أهل الجاهلية، والله ما لأحد منهم مثل هجائه ولا نسيبه؛ فقال عبد الرحمن ابن الأزهر: صدقت.
قال محمد بن سلام: كان لكثير في النسيب حظ وافر، وجميل مقدم عليه وعلى أصحاب النسيب في النسيب، وكان جميل صادق الصبابة والعشق، ولم يكن كثير بعاشق ولكنه كان يتقول ، وكان الناس يستحسنون بين كثير في النسيب، وهو:
أريد لأنسى ذكرها فكأنما
تمثل لي ليلى بكل سبيل
ورأيت من يفضل عليه بيت جميل:
خليلي فيما عشتما هل رأيتما
قتيلا بكى من حب قاتله قبلي
قيل إن بثينة واعدت جميلا أن يلتقيا في بعض المواضع، فأتى لوعدها، وجاء أعرابي يستضيف القوم، فأنزلوه وقروه، فقال لهم: قد رأيت في بطن هذا الوادي ثلاثة نفر متفرقين متوارين في الشجر وأنا خائف عليكم أن يسلبوا بعض إبلكم، فعرفوا أنه جميل وصاحباه، فحرسوا بثينة ومنعوها من الوفاء بوعده، فلما أسفر له الصبح انصرف كئيبا سيء الظن بها ورجع إلى أهله؛ فجعل نساء الحي يقرعنه بذلك ويقلن له: إنما حصلت منها على الباطل والكذب والغدر، وغيرها أولى بوصلك منها، كما أن غيرك يحظى بها؛ فقال في ذلك:
فأجبتها بالقول بعد تستر
حبي بثينة عن وصالك شاغلي
أبثين إنك قد ملكت فأسجحي
224
وخذي بحظك من كريم واصل
فلرب عارضة علينا وصلها
بالجد تخلطه بقول الهازل
لو كان في صدري كقدر قلامة
فضلا وصلتك أو أتتك رسائلي
ويقلن إنك قد رضيت بباطل
منها فهل لك في اجتناب الباطل
ليزلن عنك هواي ثم يصلنني
وإذا هويت فما هواي بزائل
صادت فؤادي يا بثين حبالكم
يوم الحجون وأخطأتك حبائلي
منيتني فلويت ما منيتني
وجعلت عاجل ما وعدت كآجل
وتثاقلت لما رأت كلفي بها
أحبب إلي بذاك من متثاقل
وأطعت في عواذلا فهجرتني
وعصيت فيك وقد جهدن عواذلي
حاولنني لأبت حبل وصالكم
مني ولست وإن جهدن بفاعل
فرددتهن وقد سعين بهجركم
لما سعين له بأفوق ناصل
225
يعضضن من غيظ علي أناملا
ووددت لو يعضضن صم جنادل
ويقلن إنك يا بثين بخيلة
نفسي فداؤك من ضنين باخل
وقال جميل في وعد بثينة بالتلاقي وتأخرها قصيدة أولها:
يا صاح عن بعض الملامة أقصر
إن المنى للقاء أم المسور
ومنها:
وكأن طارقها على علل الكرى
والنجم وهنا قد دنا لتغور
يستاف
226
ريح مدامة معجونة
بذكى مسك أو سحيق العنبر
ومنها:
إني لأحفظ غيبكم ويسرني
إذ تذكرين بصالح أن تذكري
ويكون يوم لا أرى لك مرسلا
أو نلتقي فيه علي كأشهر
يا ليتني ألقى المنية بغتة
إن كان يوم لقائكم لم يقدر
أو أستطيع تجلدا عن ذكركم
فيفيق بعض صبابتي وتفكري
وفيه يقول:
لو قد تجن كما أجن من الهوى
لعذرت أو لظلمت إن لم تعذر
والله ما للقلب من علم بها
غير الظنون وغير قول المخبر
لا تحسبي أني هجرتك طائعا
حدث لعمرك رائع أن تهجري
فلتبكين الباكيات وإن أبح
يوما بسرك معلنا لم أعذر
يهواك ما عشت الفؤاد فإن أمت
يتبع صداي صداك بين الأقبر
إني إليك بما وعدت لناظر
نظر الفقير إلى الغنى المكثر
يعد الديون وليس ينجز موعدا
هذا الغريم لنا وليس بمعسر
ما أنت والوعد الذي تعدينني
إلا كبرق سحابة لم تمطر
قلبي نصحت له فرد نصيحتي
فمتى هجرتيه فمنه تكثري
وقال في إخلافها إياه هذا الموعد:
ألا ليت ريعان الشباب جديد
ودهرا تولى يا بثين يعود
فنغنى كما كنا نكون وأنتم
قريب وإذ ما تبذلين زهيد
وما أنس ملأشياء لا أنس قولها
وقد قربت نضوي
227
أمصر تريد
ولا قولها لولا العيون التي ترى
أتيتك فاعذرني فدتك جدود
خليلي ما أخفي من الوجد ظاهر
ودمعي بما قلت الغداة شهيد
ألا قد أرى والله أن رب عبرة
إذا الدار شطت بيننا ستزيد
إذا قلت ما بي يا بثينة قاتلي
من الحب قالت ثابت ويزيد
وإن قلت ردي بعض عقلي أعش به
مع الناس قالت ذاك منك بعيد
فلا أنا مردود بما جئت طالبا
ولا حبها فيما يبيد يبيد
جزتك الجوازي يا بثين ملامة
إذا ما خليل بان وهو حميد
وقلت لها بيني وبينك فاعلمي
من الله ميثاق له وعهود
وقد كان حبيكم طريفا وتالدا
وما الحب إلا طارف وتليد
وإن عروض
228
الوصل بيني وبينها
وإن سهلته بالمنى لصعود
فأفنيت عيشي بانتظاري نوالها
وأبليت ذاك الدهر وهو جديد
فليت وشاة الناس بيني وبينها
يدوف لهم سما طماطم سود
229
وليت لهم في كل ممسى وشارق
تضاعف أكبال لهم وقيود
ويحسب نسوان من الجهل أنني
إذا جئت إياهن كنت أريد
فأقسم طرفي بينهن فيستوي
وفي الصدر بون بينهن بعيد
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة
بوادي القرى إني إذا لسعيد
وهل أهبطن أرضا تظل رياحها
لها بالثنايا القاويات
230
وئيد
231
وهل ألقين سعدى من الدهر مرة
وما رث من حبل الصفاء جديد
وقد تلتقي الأهواء من بعد يأسة
وقد تطلب الحاجات وهي بعيد
وهل أزجرن حرفا علاة شملة
بخرق تباريها سواهم قود
232
على ظهر مرهوب كأن نشوزه
إذا جاز هلاك الطريق رقود
سبتني بعيني جؤذر وسط ربرب
وصدر كفاثور
233
اللجين وجيد
234
تزيف
235
كما زافت إلى سلفاتها
مباهية طيا الوشاح ميود
إذا جئتها يوما من الدهر زائرا
تعرض منقوض اليدين صدود
يصد ويغضي عن هواي ويجتني
ذنوبا عليها إنه لعنود
فأصرمها خوفا كأني مجانب
ويغفل عنا مرة فنعود
فمن يعط في الدنيا قرينا كمثلها
فذلك في عيش الحياة رشيد
يموت الهوى مني إذا ما لقيتها
ويحيا إذا فارقتها فيعود
يقولون جاهد يا جميل بغزوة
وأي جهاد غيرهن أريد
لكل حديث بينهن بشاشة
وكل قتيل بينهن شهيد
ومن كان في حبي بثينة يمتري
فبرقاء ذي ضال علي شهيد
ألم تعلمي يا أم ذي الودع أنني
أضاحك ذكراكم وأنت صلود
بعثت أمة لبثينة إلى أبيها وأخيها وقالت لهما: إن جميلا عندها الليلة، فأتياها مشتملين على سيفين، فرأياه جالسا منها حجرة
236
يحدثها ويشكو لها بثه، ثم قال لها: يا بثينة، أرأيت ودي إياك وشغفي بك ألا تجزيننيه؟ قالت: بماذا؟ قال: بما يكون من المتحابين، فقالت له: يا جميل؟ أهذا تبغي! والله لقد كنت عندي بعيدا منه؛ ولئن عاودت تعريضا بريبة لا رأيت وجهي أبدا! فضحك وقال: والله ما قلت هذا إلا لأعلم ما عندك فيه، ولو علمت أنك تجيبينني لعلمت أنك تجيبين غيري، ولو رأيت منك مساعدة لضربتك بسيفي هذا ما استمسك في يدي، ولو أطاعتني نفسي لهجرتك هجرة الأبد، أو ما سمعت قولي:
وإن لأرضى من بثينة بالذي
لو ابصره الواشي لقرت بلابله
بلا وبألا أستطيع وبالمنى
وبالأمل المرجو قد خاب آمله
وبالنظر العجلى وبالحول ينقضي
أواخره لا نلتقي وأوائله
فقال أبوها لأخيها: قم بنا، فما ينبغي لنا بعد اليوم أن نمنع هذا الرجل من لقائها، فانصرفا وتركاهما.
ومن قول جميل:
إن المنازل هيجت أطرابي
واستعجمت آياتها بجوابي
قفزا تلوح بذي اللجين كأنها
أنضاء رسم أو سطور كتاب
لما وقفت بها القلوص تبادرت
مني الدموع لفرقة الأحباب
وذكرت عصرا يا بثينة شاقني
وذكرت أيامي وشرخ شبابي
لما نذر أهل بثينة دم جميل وأهدره لهم السلطان ضاقت الدنيا بجميل، فكان يصعد بالليل على قوز
237
رمل يتنسم الريح من نحو حي بثينة ويقول:
أيا ريح الشمال أما تريني
أهيم وأنني بادي النحول
هبي لي نسمة من ريح بثن
ومني بالهبوب إلى جميل
وقولي يا بثينة حسب نفسي
قليلك أو أقل من القليل
ومن قوله:
يقيك جميل كل سوء أما له
لديك حديث أو إليك رسول
وقد قلت في حبي لكم وصبابتي
محاسن شعر ذكرهن يطول
فإن لم يكن قولي رضاك فعلمي
هبوب الصبا يا بثن كيف أقول
فما غاب عن عيني خيالك لحظة
ولا زال عنها والخيال يزول
ومنه:
خليلي عوجا اليوم حتى تسلما
على عذبة الأنياب طيبة النشر
ألما بها ثم اشفعا لي وسلما
عليها سقاها الله من سائغ القطر
إذا ما دنت زدت اشتياقا وإن نأت
جزعت لنأي الدار منها وللبعد
أبى القلب إلا حب بثنة لم يرد
سواها وحب القلب بثنة لا يجدي
وفيها يقول:
سلي الركب هل عجنا لمغناك مرة
صدور المطايا وهي موقرة تخدي
238
وهل فاضت العين الشروق بمائها
من اجلك حتى اخضل من دمعها بردي
وإني لأستجري لك الطير جاهدا
لتجري بيمن من لقائك أو سعد
وإنى لأستبكي إذا الركب غردوا
بذكراك أن يحيا بك الركب إذ يخدي
فهل تجزيني أم عمرو بودها
فإن الذي أخفى بها فوق ما أبدي
وكل محب لم يزد فوق عهده
وقد زدتها في الحب مني على العهد
ومن قوله فيها:
لها في سواد القلب حب ومنعة
هي الموت أو كادت على الموت تشرف
وما ذكرتك النفس يا بثن مرة
من الدهر إلا كادت النفس تتلف
وإلا اعترتني زفرة واستكانة
وجاد لها سجل من العين يذرف
وما استطرفت نفسي حديثا لخلة
أسر به إلا حديثك أطرف
وأول هذه القصيدة:
أمن منزل فقز تعفت رسومه
شمال تغاديه ونكباء حرجف
239
فأصبح قفرا بعد ما كان آهلا
وجمل المنى تشتو به وتصيف
ظللت ومستن من الدمع هامل
من العين لما عجت بالدار ينزف
أمنصفتي جمل فتعدل بيننا
إذا حكمت والحاكم العدل ينصف
تعلقتها والجسم مني مصحح
فما زال ينمي حب جمل وأضعف
إلى اليوم حتى سل جسمي وشفني
وأنكرت من نفسي الذي كنت أعرف
قناة من المران ما فوق حقوها
240
وما تحته منها نقا يتقصف
241
لها مقلتا ريم وجيد جداية
242
وكشح كطي السابرية أهيف
ولست بناس أهلها حين أقبلوا
وجالوا علينا بالسيوف وطوفوا
وقالوا جميل بات في الحي عندها
وقد جردوا أسيافهم ثم وقفوا
وفي البيت ليث الغاب لولا مخافة
على نفس جمل والإله لأرعفوا
هممت وقد كادت مرارا تطلعت
إلى حربهم نفسي وفي الكف مرهف
وما سرني غير الذي كان منهم
ومني وقد جاءوا إلي وأوجفوا
فكم مرتج أمرا أتيح له الردى
ومن خائف لم ينتقصه التخوف
ومنها:
أأن هتفت ورقاء ظلت سفاهة
تبكي على جمل لورقاء تهتف
فلو كان لي بالصرم يا صاح طاقة
صرمت ولكني عن الصرم أضعف
قيل: إن مروان طلب إلى جميل أن ينزل فيرجز
243
به، وهو يريد أن يمدحه، فنزل جميل فقال:
أنا جميل في السنام الأعظم
الفارع الناس الأعز الأكرم
أحمي ذماري ووجدت أقرمي
244
كانوا على غارب طود خضرم
245
أعيا على الناس فلم يهدم
فقال: عد عن هذا؛ فقال جميل:
لهفا على البيت المعدي لهفا
من بعد ما كان قد استكفا
ولو دعا الله ومد الكفا
لرجفت منه البلاد رجفا
وطلب ذلك إليه الوليد فقال:
أنا جميل في السنام من معد
في الذروة العلياء والركن الأشد
والبيت من سعد بن زيد والعدد
ما يبتغي الأعداء مني، ولقد
أضري بالشتم لساني ومرد
أقود من شئت وصعب لم أقد
فقال له الوليد: اركب لا حملك الله! وما مدح جميل أحدا قط.
ومن قول جميل في مراجزة جواس بن قطبة، وكان ذلك بوادي القرى:
يا أم عبد الملك اصرميني
فبيني صرمي أو صليني
أبكي وما يدريك ما يبكيني
أبكي حذار أن تفارقيني
وتجعلي أبعد مني دوني
إن بني عمك أوعدوني
أن يقطعوا رأسي إذا لقوني
ويقتلوني ثم لا يدوني
246
كلا ورب البيت لو لقوني
شفعا ووترا لتواكلوني
247
قد علم الأعداء أن دوني
ضربا كإيزاغ
248
المخاض الجون
ألا أسب القوم إذ سبوني
بلى وما مر على دفين
وسابحات بلوى الحجون
قد جربوني ثم جربوني
حتى إذا شابوا وشيبوني
أخزاهم الله ولا يخزوني
أشباه أعيار على معين
أحسسن حس أسد حرون
فهن يضرطن من اليقين
أنا جميل فتعرفوني
وما تقنعت فتنكروني
وما أعنيكم لتسألوني
أنمي إلى عادية طحون
ينشق عنها السيل ذو الشئون
غمر يزف
249
رجح السفين
ذو حدب
250
إذا يرى حجون
251
تنحل أحقاد الرجال دوني
ومن قوله يمدح أخواله من جذام:
جذام سيوف الله في كل موطن
إذا أزمت
252
يوم اللقاء أزام
هم منعوا ما بين مصر فذي القرى
إلى الشأم من حل به وحرام
بضرب يزيل الهام عن سكناته
وطعن كإيزاغ المخاض تؤام
إذا قصرت يوما أكف قبيلة
عن المجد نالته أكف جذام
اجتمع جميل وعمر بن أبي ربيعة بالأبطح، فأنشده جميل قصيدته:
لقد فرح الواشون أن صرمت حبلي
بثينة أو أبدت لنا جانب البخل
يقولون مهلا يا جميل وإنني
لأقسم ما بي عن بثينة من مهل
أحلما فقبل اليوم كان أوانه
أم اخشى فقبل اليوم أوعدت بالقتل
لقد أنكحوا حربي نبيها ظعينة
لطيفة طي البطن ذات شوى جزل
وكم قد رأينا ساعيا بنميمة
لآخر لم يعمد بكف ولا رجل
إذا ما تراجعنا الذي كان بيننا
جرى الدمع من عيني بثينة بالكحل
كلانا بكى أو كاد يبكي صبابة
إلى إلفه واستعجلت عبرة قبلي
فلو تركت عقلي معي ما طلبتها
ولكن طلابيها لما فات من عقلي
فيا ويح نفسي حسب نفسي الذي بها
ويا ويح أهلي ما أصيب به أهلي
وقالت لأتراب لها لا زعانف
قصار ولا كس الثنايا ولا ثعل
253
إذا حميت شمس النهار اتقيتها
بأكسية الديباج والخز ذي الخمل
تداعين فاستعجمن مشيا بذي الغضى
دبيب القطا الكدري في الدمث السهل
إذا ارتعن أو فزعن قمن حوالها
قيام بنات الماء
254
في جانب الضحل
255
أجدك لا ألقى بثينة مرة
من الدهر إلا خائفا أو على رجل
خليلي فيما عشتما هل رأيتما
قتيلا بكى من حب قاتله قبلي
أبيت مع الهلاك
256
ضيفا لأهلها
وأهلي قريب موسعون ذوو فضل
ألا أيها البيت الذي حيل دونه
بنا أنت من بيتي وأهلك من أهلي
ثلاثة أبيات فبيت أحبه
وبيتان ليسا من هواي ولا شكلي
وقال في هجرة هجرته إياها بثينة:
ألم تسأل الربع القواء فينطق
وهل تخبرنك اليوم بيداء سملق
257
وقفت بها حتى تجلت عمايتي
ومل الوقوف الأرحبي
258
المنوق
تعز وإن كانت عليك كريمة
لعلك من رق لبثنة تعتق
لعمركم إن البعاد لشائقي
وبعض بعاد البين والنأي أشوق
لعلك محزون ومبد صبابة
ومظهر شكوى من أناس تفرقوا
وبيض غريرات تثنى خصورها
إذا قمن أعجاز ثقال وأسؤق
عزائز لم يلقين بؤس معيشة
يجن بهن الناظر المتنوق
وغلغلت من وجد إليهن بعد ما
سريت وأحشائي من الخوف تخفق
معي صارم قد أخلص القين صقله
له حين أغشيه الضريبة رونق
فلولا احتيالي ضقن ذرعا بزائر
به من صبابات إليهن أولق
259
تسوك بقضبان الأراك مفلجا
يشعشع فيه الفارسي المروق
أبثنة للوصل الذي كان بيننا
نضا مثل ما ينضو الخضاب فيخلق
أبثنة ما تنأين إلا كأنني
بنجم الثريا ما نأيت معلق
قال الرشيد لإسحاق الموصلي: أنشدني أحسن ما تحب في عتاب محب وهو ظالم متعتب، فأنشده قول جميل:
رد الماء ما جادت بصفو ذنائبه
ودعه إذا خيضت بطرق
260
مشاربه
اعتاب من يحلو لدي عتابه
وأترك من لا أشتهي وأجانبه
ومن لذة الدنيا وإن كنت ظالما
عناقك مظلوما وأنت تعاتبه
ومن قوله في زيارة له:
زورا بثينة فالحبيب مزور
إن الزيادة للمحب يسير
إن الترحل أن تلبس أمرنا
واعتاقنا قدر أحم بكور
إني عشية رحت وهي حزينة
تشكو إلي صبابة لصبور
وتقول بت عندي فديتك ليلة
أشكو إليك فإن ذاك يسير
غراء مبسام كأن حديثها
در تحدر نظمه منثور
مخطوطة
261
المتنين مضمرة الحشى
ريا الروادف خلفها ممكور
لا حسنها حسن ولا كدلالها
دل ولا كوقارها توقير
إن اللسان بذكرها لموكل
والقلب صاد والخواطر صور
ولئن جزيت الود مني مثله
إني بذلك يا بثين جدير
وعذله فيها ابن عمه روق، فقال:
لقد لامني فيها أخ ذو قرابة
حبيب إليه في ملامته رشدي
وقال أفق حتى متى أنت هائم
ببثنة فيها قد تعيد وقد تبدي
فقلت له فيها قضى الله ما ترى
علي وهل فيما قضى الله من رد
فإن يك رشدا حبها أو غواية
فقد جئته، ما كان مني على عمد
لقد لج ميثاق من الله بيننا
وليس لمن لم يوف لله من عهد
فلا وأبيها الخير ما خنت عهدها
ولا لي علم بالذي فعلت بعدي
وما زادها الواشون إلا كرامة
علي وما زالت مودتها عندي
أفي الناس أمثالي أحب فحالهم
كحالي أم أحببت من بينهم وحدي
وهل هكذا يلقى المحبون مثل ما
لقيت بها أم لم يجد أحد وجدي
وقال فيها:
خليلي عوجا اليوم حتى تسلما
على عذبة الأنياب طيبة النشر
ألما بها ثم اشفعا لي وسلما
عليها سقاها الله من سائغ القطر
وبوحا بذكري عند بثنة وانظرا
أترتاح يوما أم تهش إلى ذكري
فإن تك لم تقطع قوى الود بيننا
ولم تنس ما أسلفت في سالف الدهر
فكيف
262
يرى منها اشتياق ولوعة
ببين وغرب من مدامعها يجري
وإن تك قد حالت عن العهد بعدنا
وأصغت إلى القول المؤنب والمزري
فسوف يرى منها صدود ولم تكن - بنفسي - من أهل الخيانة والغدر
أعوذ بك اللهم أن تشحط النوى
ببثنة في أدنى حياتي ولا حشري
وجاور إذا ما مت بيني وبينها
فيا حبذا موتي إذا جاورت قبري
عدمتك من حب أما منك راحة
وما بك عني من توان ولا فتر
ألا أيها الحب المبرح هل ترى
أخا كلف يغري بحب كما أغري
أجدك لا يبلى وقد بلى الهوى
ولا ينتهي حتى بثينة للزجر
ومن قوله فيها:
قفي تسل عنك النفس بالخطة التي
تطيلين تخويفي بها ووعيدي
فقد طالما من غير شكوى قبيحة
رضينا بحكم منك غير سديد
ومنه:
بثين سليني بعض مالي فإنما
يبين عند المال كل بخيل
فإني وتكرار الزيارة نحوكم
لبين يدى هجر بثين طويل
فيا ليت شعري هل تقولين بعدنا
إذا نحن أزمعنا غدا لرحيل
ألا ليت أياما مضين رواجع
وليت النوى قد ساعدت بجميل
ومنه:
أتعجب أن طربت لصوت حاد
حدا بزلا يسرن ببطن واد
فلا تعجب فإن الحب أمسى
لبثنة في السواد من الفؤاد
ومنه:
خليلي عوجا بالمحلة من جمل
وأترابها بين الأصيفر والخبل
نقف بمغان قد محا رسمها البلى
تعاقبها الأيام بالريح والوبل
فلو درج النمل الصغار بجلدها
لأندب أعلى جلدها مدرج النمل
وأحسن خلق الله جيدا ومقلة
تشبه في النسوان بالشادن الطفل
263
ومن قوله:
أمنك سري يا بثن طيف تأوبا
هدوا فهاج القلب شوقا وأنصبا
عجبت له أن زار في النوم مضجعي
ولو زارني مستيقظا كان أعجبا
لما قدم جميل من الشأم بلغ بثينة خبره، فراسلته مع بعض نساء الحي تذكر شوقها إليه ووجدها به، وطلبها للحيلة في لقائه، وواعدته لموضع يلتقيان فيه، فسار إليها وحدثها طويلا وأخبرها خبره بعدها، وقد كان أهلها رصدوها، فلما فقدوها تبعها أبوها وأخوها حتى هجما عليهما، فوثب جميل فانتضى سيفه وشد عليهما، فاتقياه بالحرب، وناشدته بثينة الله إلا انصرف، وقالت له: إن أقمت فضحتني، ولعل الحي يلحقونك، فأبى وقال: أنا مقيم وامضي أنت وليصنعوا ما أحبوا، فلم تزل تناشده حتى انصرف وقال في ذلك، وقد هجرته وانقطع التلاقي بينهما مدة:
هي البدر حسنا والنساء كواكب
وشتان ما بين الكواكب والبدر
لقد فضلت حسنا على الناس مثل ما
على ألف شهر فضلت ليلة القدر
وقال:
لقد خفت أن يغتالني الموت عنوة
وفي النفس حاجات إليك كما هيا
وإني لتثنيني الحفيظة كلما
لقيتك يوما أن أبثك ما بيا
ألم تعلمي يا عذبة الريق أنني
أظل إذا لم أسق ريقك صاديا
ورحل إلى مصر فأدركته بها منيته، فزعموا أنه قال حين حضرته الوفاة:
صدع النعي وما كنى بجميل
وثوى بمصر ثواء غير قفول
ولقد أجر الذيل في وادي القرى
نشوان بين مزارع ونخيل
قومي بثينة فاندبى بعويل
وابكي خليلك دون كل خليل
ولما أنشدت بثينة قول جميل قالت:
وإن سلوى عن جميل لساعة
من الدهر ما حانت ولا حان حينها
سواء علينا يا جميل بن معمر
إذا مت بأساء الحياة ولينها
وقال:
رحل الخليط جمالهم بسواد
وحدا على أثر البخيلة حادي
ما إن شعرت ولا سمعت ببينهم
حتى سمعت به الغراب ينادي
لما رأيت البين قلت لصاحبي
صدعت مصدعة القلوب فؤادي
بانوا وغودر في الديار متيم
كلف بذكرك يا بثينة صادي
وقال أيضا:
خليلي هل في نظرة بعد توبة
أداوي بها قلبي علي فجور
إلى رجح الأكفال هيف خصورها
عذاب الثنايا ريقهن طهور
تذكرت من أضحت قرى اللد
264
دونه
وهضب لتيما والهضاب وعور
فظلت لعينيك اللجوجين عبرة
يهيجها برح الهوى فتمور
على أنني بالبرق من نحو أرضها
إذا قصرت عنه العيون بصير
وإني إذا ما الريح يوما تنسمت
شآمية عاد العظام فتور
ألا يا غراب البين لونك شاحب
وأنت بروعات الفراق جدير
فإن كان حقا ما تقول فأصبحت
همومك شتى والجناح كسير
ودرت بأعداء حبيبك فيهم
كما قد تراني بالحبيب أدور
وكيف بأعداء كأن عيونهم
إذا حان إتياني بثينة عور
فإني وإن أصبحت بالحب عالما
على ما بعيني من قذى لخبير
وله أيضا:
فلو أرسلت يوما بثينة تبتغي
يميني ولو عزت علي يميني
لأعطيتها ما جاء يبغي رسولها
وقلت لها بعد اليمين سليني
سليني ما لي يابثين فإنما
يبين عند المال كل ضنين
فما لك لما خبر الناس أنني
أسأت بظهر الغيب لم تسليني
فأبلي عذرا أو أجيء بشاهد
من الناس عدل أنهم ظلموني
ولست وإن عزت علي بقائل
لها بعد صرم يا بثين صليني
ونبئت قوما فيك قد نذروا دمي
فليت الرجال الموعدين لقوني
إذا ما رأوني مقبلا عن جنابة
يقولون من هذا وقد عرفوني
وله أيضا:
تنادي آل بثنة بالرواح
وقد تركوا فؤادك غير صاح
فيا لك منظرا ومسير ركب
شجاني حين أمعن في الفياح
ويا لك خلة ظفرت بعقلي
كما ظفر المقامر بالقداح
أريد صلاحها وتريد قتلي
فشتى بين قتلي والصلاح
لعمر أبيك لا تجدين عهدي
كعهدك في المودة والسماح
ولو أرسلت تستهدين نفسي
أتاك بها رسولك في سراح
وله أيضا:
فإن يك جثماني بأرض سواكم
فإن فؤادي عندك الدهر أجمع
إذا قلت هذا حين أسلو وأجتري
على صرمها ظلت لها النفس تشفع
وإن رمت نفسي كيف آتي لصرمها
ورمت صدودا ظلت العين تدمع
وله أيضا:
ألم تعلمي يا عذبة الماء أنني
أظل إذا لم أسق ماءك صاديا
وما زلت بي يا بثن حتى لو انني
من الوجد أستبكي الحمام بكى ليا
وددت على حب الحياة لو انها
يزاد لها في عمرها من حياتيا
وله أيضا:
وقلت لها اعتللت بغير ذنب
وشر الناس ذو العلل البخيل
ففاتيني إلى حكم من اهلي
وأهلك لا يحيف ولا يميل
فقالت أبتغي حكما من اهلي
ولا يدري بنا الواشي المحول
فولينا الحكومة ذا سجوف
أخا دنيا له طرف كليل
فقلنا ما قضيت به رضينا
وأنت بما قضيت به كفيل
قضاؤك نافذ فاحكم علينا
بما تهوى ورأيك لا يفيل
فقلت له قتلت بغير جرم
وغب الظلم مرتعه وبيل
فسل هذي متى تقضي ديوني
وهل يقضيك ذو العلل المطول
فقالت إن ذا كذب وبطل
وشر من خصومته طويل
أأقتله ومالي من سلاح
وما بي لو أقاتله حويل
265
ولم آخذ له مالا فيلفي
له دين علي كما يقول
وعند أميرنا حكم وعدل
ورأي بعد ذلكم أصيل
فقال أميرنا هاتوا شهودا
فقلت شهيدنا الملك الجليل
فقال يمينها وبذاك أقضي
وكل قضائه حسن جميل
فبتت حلفة ما لي لديها
نقير أدعيه ولا فتيل
فقلت لها وقد غلب التعزي
أما يقضى لنا يا بثن سول
فقالت ثم زجت حاجبيها
أطلت ولست في شيء تطيل
فلا يجدنك الأعداء عندي
فتثكلني وإياك الثكول
وله أيضا:
حلفت يمينا يا بثينة صادقا
فإن كنت فيها كاذبا فعميت
إذا كان جلد غير جلدك مسني
وباشرني دون الشعار شريت
266
ولو أن راقي الموت يرقي جنازتي
بمنطقها في الناطقين حييت
وقال أيضا:
فقد لان أيام الصبا ثم لم يكد
من الدهر شيء بعدهن يلين
ظعائن ما في قربهن لذي هوى
من الناس إلا شقوة وفتون
وواكلنه والهم ثم تركنه
وفي القلب من وجد بهن رهين
فواحسرتا إن حيل بيني وبينها
ويا حين نفسي كيف فيك تحين
فشيب روعات الفراق مفارقي
وأنشزن نفسي فوق حيث تكون
شهدت بأني لم تغير مودتي
وأني بكم حتى الممات ضنين
وأن فؤادي لا يلين إلى هوى
سواك وإن قالوا بلى سسيلين
وإني لأستغشي وما بي نعسة
لعل لقاء في المنام يكون
ولما علوت اللابتين تشوقت
قلوب إلى وادي القرى وعيون
كأن دموع العين يوم تحملت
بثينة يسقيها الرشاش معين
ورحن وقد ودعن عندي لبانة
لبثنة سر في الفؤاد كمين
كسر الثرى لم يعلم الناس أنه
ثوى في قرار الأرض وهو دفين
فإن دام هذا الصرم منك فإنني
لأغبر هاري الجانبين رهين
لكيما يقول الناس مات ولم أهن
عليك ولم تنبت منك قرون (1-3) الغزل الصناعي
كثير
قال أبو الفرج قال محمد بن عبد العزيز: ما قصد القصيد ولا نعت الملوك مثل كثير.
267
وقال إبراهيم بن سعد: إني لأروي لكثير ثلاثين قصيدة لو رقي بها مجنون لأفاق، وكان بعض أصحاب الحديث يأتونه، وهو خبيث النفس، فيسألونه عن شعر كثير فتطيب نفسه ويحدثهم. وقال عبد الله بن أبي عبيدة: من لم يجمع من شعر كثير ثلاثين لامية فلم يجمع شعره. وكان ابن أبي عبيدة يملي شعره بثلاثين دينارا. وسئل مصعب: من أشعر الناس؟ فقال: كثير بن أبي جمعة، وقال: هو أشعر من جرير والفرزدق والراعي وعامتهم، يعني الشعراء. ولم يدرك أحد في مديح الملوك ما أدرك كثير. وقال محمد بن سلام: كان كثير شاعر أهل الحجاز، وهو شاعر فحل ولكنه منقوص حظه بالعراق. وقال يونس النحوي: كثير أشعر أهل الإسلام، وكان ابن أبي حفصة يعجبه مذهبه في المديح جدا ، ويقول: كان يستقصي المديح، وكان فيه مع جودة شعره خطل وعجب. وقال المسور بن عبد الملك: ما ضر من يروي شعر كثير وجميل ألا تكون عنده مغنيتان مطربتان.
وكان قصيرا، قال الوقاصي: رأيت كثيرا يطوف بالبيت، فمن حدثك أنه يزيد على ثلاثة أشبار فكذبه. وكان إذا دخل على عبد العزيز بن مروان يقول: طأطئ رأسك لا يصبه السقف. وقال كثير: في أي شيء أعطى هؤلاء الأحوص عشرة آلاف دينار؟ قالوا: في قوله فيهم:
وما كان مالي طارفا من تجارة
وما كان ميراثا من المال متلدا
ولكن عطايا من إمام مبارك
ملا الأرض معروفا وجودا وسوددا
فقال كثير: إنه لضرع قبحه الله! ألا قال كما قلت:
دع عنك سلمى إذ فات مطلبها
واذكر خليليك من بني الحكم
وما أعطياني ولا سألتهما
ألا وإني لحاجزي كرمي
إني متى لا يكن نوالهما
عندي بما قد فعلت أحتشم
مبدي الرضا عنهما ومنصرف
عن بعض ما لو فعلت لم ألم
لا أنزر
268
النائل الخليل إذا
ما اعتل نزر الظئور لم ترم
وطلب من أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان أرضا له يقال لها: غرب، وقدم بين يدي طلبه تلك الأبيات:
جزتك الجوازي عن صديقك نضرة
وأدناك ربي في الرفيق المقرب
فإنك لا يعطى عليك ظلامة
عدو ولا تنأى عن المتقرب
وإنك ما تمنع فإنك مانع
بحق وما أعطيت لم تتعقب
فقال له: أترغب غربا؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، قال: اكتبوها له، ففعلوا.
ونسب كثير لكثرة نسبيه بعزة الضمرية إليها، وعرف بها فقيل: كثير عزة، وهي عزة ابنة حميد بن وقاص. وكان ابتداء عشقه إياها أنه مر بنسوة من بني ضمرة ومعه جلب غنم، فأرسلن إليه عزة وهي صغيرة، فقالت: يقلن لك النسوة: بعنا كبشا من هذه الغنم وأنسئنا بثمنه إلى أن ترجع، فأعطاها كبشا، وأعجبته، فلما رجع جاءته امرأة منهن بدارهمه؛ فقال: وأين الصبية التي أخذت مني الكبش؟ قالت: وما تصنع بها وهذه دراهمك؟ قال: لا آخذ دارهمي إلا ممن دفعت الكبش إليها، وخرج وهو يقول:
قضى كل ذي دين فوفي غريمه
وعزة ممطول معنى غريمها
فكان أول لقائه إياها. ثم قال فيها:
نظرت إليها نظرة وهي عاتق
على حين أن شبت وبان نهودها
وقد درعوها وهي ذات مؤصد
269
مجوب ولما يلبس الدرع ريدها
من الخفرات البيض ود جليسها
إذا ما انقضت أحدوثة لو تعيدها
نظرت إليها نظرة ما يسرني
بها حمر أنعام البلاد وسودها
وكنت إذا ما جئت سعدى بأرضها
أرى الأرض تطوى لي ويدنو بعيدها
ثم أحبته بعد ذلك عزة أشد من حبة إياها.
قال محمد بن صالح الأسلمي: دخلت عزة على عبد الملك بن مروان وقد عجزت؛ فقال لها: أأنت عزة كثير؟ فقالت: أنا عزة بنت حميد؛ قال: أنت التي يقول لك كثير:
لعزة نار ما تبوخ،
270
كأنها
إذا ما رمقناها من البعد كوكب
فما الذي أعجبه منك؟ قالت: كلا يا أمير المؤمنين، لقد كنت في عهده أحسن من النار في الليلة القرة. ويروى أنها قالت له: أعجبه مني ما أعجب المسلمين منك حين صيروك خليفة، وكانت له سن سوداء يخفيها، فضحك حتى بدت، فقالت له: هذا الذي أردت أن أبديه؛ فقال لها: هل تروين قوله:
وقد زعمت أني تغيرت بعدها
ومن ذا الذي يا عز لا يتغير
تغير جسمي والخليقة كالتي
عهدت ولم يخبر بسرك مخبر
قالت: لا أروي هذا، ولكني أروي قوله:
كأني أنادي صخرة حين أعرضت
من الصم لو تمشي بها العصم زلت
صفوحا فما تلقاك إلا بخيلة
فمن مل منها ذلك الوصل ملت
فأمر بها، فأدخلت على عاتكة بنت يزيد؛ فقالت لها: أرأيت قول كثير:
قضى كل ذي دين فوفي غريمه
وعزة ممطول معنى غريمها
ما هذا الذي ذكره؟ قالت: قبلة وعدته إياها؛ قالت: أنجزيها وعلي إثمها.
ومما قال فيها:
خليلي هذا رسم عزة فاعقلا
قلوصيكما ثم ابكيا حيث حلت
وما كنت أدري قبل عزة ما البكا
ولا موجعات القلب حتى تولت
فقد حلفت جهدا بما نحرت له
قريش غداة المأزمين
271
وصلت
أناديك ما حج ليحج وكبرت
بفيفا
272
غزال رفقة وأهلت
وكانت لقطع الحبل بيني وبينها
كناذرة نذرا وفت فأحلت
فقلت لها يا عز كل مصيبة
إذا وطنت يوما لها النفس ذلت
ولم يلق إنسان من الحب ميعة
تعم ولا غماء إلا تجلت
كأني أنادي صخرة حين أعرضت
من الصم لو تمشي بها العصم زلت
صفوحا
273
فما تلقاك إلا بخيلة
فمن مل منها ذلك الوصل ملت
أباحت حمى لم يرعه الناس قبلها
وحلت تلاعا لم تكن قبل حلت
فليت قلوصي عند عزة قيدت
بحبل ضعيف عز منها فضلت
وغودر في الحي المقيمين رحلها
وكان لها باغ سواي فبلت
274
وكنت كذي رجلين رجل صحيحة
ورجل رمى فيها الزمان فشلت
وكنت كذات الظلع لما تحاملت
على ظلعها بعد العثار استقلت
أريد الثواء عندها وأظنها
إذا ما أطلنا عندها المكث ملت
فما انصفت، أما النساء فبغضت
إلي وأما بالنوال فضنت
يكلفها الغيران شتمى وما بها
هواني ولكن للميك استذلت
هنيئا مريئا غير داء مخامر
لعزة من أعراضنا ما استحلت
فوالله ما قاربت إلا تباعدت
بصرم ولا أكثرت إلا أقلت
فإن تكن العتبى
275
فأهلا ومرحبا
وحقت لها العتبى لدنيا وقلت
وإن تكن الأخرى فإن وراءنا
منادح
276
لو سارت بها العيس كلت
خليلي إن الحاجبية طلحت
277
قلوصيكما وناقتي قد أكلت
فلا يبعدن وصل لعزة أصبحت
بعاقبة أسبابه قد تولت
أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة
لدينا ولا مقلية إن تقلت
ولكن أنيلي واذكري من مودة
لنا خلة كانت لديكم فطلت
278
فإني وإن صدت لمثن وصادق
عليها بما كانت إلينا أزلت
279
فما أنا بالداعي لعزة بالجوى
ولا شامت إن نعل عزة زلت
فلا يحسب الواشون أن صبابتي
بعزة كانت غمرة فتجلت
فأصبحت قد أبللت
280
من دنف بها
كما أدنفت هيماء ثم استبلت
فوالله ثم الله ما حل قبلها
ولا بعدها من خلة حيث حلت
وما مر من يوم علي كيومها
وإن عظمت أيام أخرى وجلت
وأضحت بأعلى شاهق من فؤاده
فلا القلب يسلاها ولا العين ملت
فيا عجبا للقلب كيف اعترافه
281
وللنفس لما وطنت كيف ذلت
وإني وتهيامي بعزة بعد ما
تخليت مما بيننا وتخلت
لكالمرتجي ظل الغمامة كلما
تبوأ منها للمقيل اضمحلت
كأني وإياها سحابة ممحل
رجاها فلما جاوزته استهلت
فإن سأل الواشون فيم هجرتها
فقل نفس حر سليت فتسلت
قال ابن سلام: كان كثير مدعيا ولم يكن عاشقا، وكان جميل صادق الصبابة والعشق. واختبرته عزة ذات مرة فوجدت علامة ذلك، وكانت منتقبة فأسفرت، فأبلس
282
ولم ينطق وبهت، فلما مضت أنشأ يقول:
ألا ليتني قبل الذي قلت شيب لي
من السم خضخاض بماء الذرارح
283
فمت ولم تعلم علي خيانة
وكم طالب للربح ليس برابح
أبوء بذنبي، إنني قد ظلمتها
وإني بباقي سرها غير بائح
ومن قوله يمدح عمر بن عبد العزيز:
وليت فلم تشتم عليا ولم تخف
بريا ولم تتبع مقالة مجرم
وقلت فصدقت الذي قلت بالذي
فعلت فأضحى راضيا كل مسلم
ألا إنما يكفي الفتى بعد زيغه
من الأود الباقي ثقاف المقوم
لقد لبست لبس الهلوك ببابها
تراءى لك الدنيا بكف ومعصم
وتومض أحيانا بعين مريضة
وتبسم عن مثل الجمان المنظم
فأعرضت عنها مشمئزا كأنما
سقتك مدوفا
284
من سمام وعلقم
وقد كنت من أحبالها في ممنع
ومن بحرها من مزبد الجود مفعم
وما زلت سباقا إلى كل غاية
صعدت بها أعلى البناء المقدم
فلما أتاك الملك عفوا ولم يكن
لطالب دنيا بعده من تكلم
تركت الذي يفنى وإن كان مونقا
وآثرت ما يبقى برأي مصمم
فأضررت بالفاني وشمرت للذي
أمامك في يوم من الهول مظلم
وما لك أن كنت الخليفة مانع
سوى الله من مال رغيب ولادم
سما لك هم في الفؤاد مؤرق
صعدت به أعلى المعالي بسلم
فما بين شرق الأرض والغرب كلها
مناد ينادي من فصيح وأعجم
يقول أمير المؤمنين ظلمتني
بأخذ لدينار وأخذ لدرهم
ولا بسط كف لامرئ ظالم له
ولا السفك منه ظالما ملء محجم
فلو يستطيع المسلمون تقسموا
لك الشطر من أعمارهم غير ندم
فعشت به ما حج لله راكب
مغذ
285
مطيف بالمقام وزمزم
فأربح بها من صفقة لمبايع
وأعظم بها أعظم بها ثم أعظم
ومن نسيبه بعزة لما أخرجت إلى مصر:
لعزة من أيام ذي الغصن شاقني
بضاحي قرار الروضتين رسوم
هي الدار وحشا غير أن قد يحلها
ويغني بها شخص علي كريم
فما برسوم الدار لو كنت عالما
ولا بالتلاع المقويات
286
أهيم
سألت حكيما
287
أين شطت بها النوى
فخبرني ما لا أحب حكيم
أجدوا فأما آل عزة غدوة
فبانوا وأما واسط فمقيم
لعمري لئن كان الفؤاد من الهوى
بغى سقما إني إذن لسقيم
ومنها:
ولست براء نحو مصر سحابة
وإن بعدت إلا قعدت أشيم
فقد يقعد النكس الدني عن الهوى
عزوفا ويصبو المرء وهو كريم
وقال خليلي ما لها إذ لقيتها
غداة السنا فيها عليك وجوم
288
فقلت له إن المودة بيننا
على غير فحش والصفاء قديم
وإني وإن أعرضت عنها تجلدا
على العهد فيما بيننا لمقيم
وإن زمانا فرق الدهر بيننا
وبينكم في صرفه لمشوم
أفي الحق هذا أن قلبك سالم
صحيح وقلبي في هواك سقيم
وأن بجسمي منك داء مخامرا
وجسمك موفور عليك سليم
لعمرك ما أنصفتني في مودتي
ولكنني يا عز عنك حليم
فإما تريني اليوم أبدي جلادة
فإني لعمري تحت ذاك كليم
ولست ابنة الضمري منك بناقم
ذنوب العدى إني إذن لظلوم
وإني لذو وجد إذا عاد وصلها
وإني على ربي إذن لكريم
ومن نسيبه بها:
لعزة أطلال أبت أن تكلما
تهيج مغانيها الفؤاد المكلما
وكنت إذا ما جئت أجللن مجلسي
وأظهرن مني هيبة لا تجهما
يحاذرن مني غيرة قد عرفنها
قديما فما يضحكن إلا تبسما
ومنه:
خليلي عوجا منكما ساعة معي
على الربع نقض ساعة ونودع
ولا تعجلاني أن ألم بدمنة
لعزة لاحت لي ببيداء بلقع
وقولا لقلب قد سلا راجع الهوى
وللعين أذري من دموعك أو دعي
فلا عيش إلا مثل عيش مضى لنا
مصيفا أقمنا فيه من بعد مربع
ومنه:
بليلى وجارات لليلى كأنها
نعاج الفلا تحدى بهن الأباعر
أمنقطع يا عز ما كان بيننا
وشاجرني يا عز فيك الشواجر
إذا قيل هذا بيت عزة قادني
إليه الهوى واستعجلتني البوادر
أصد وبي مثل الجنون لكي يرى
رواة الخنا أني لبيتك هاجر
ألا ليت حظي منك يا عز أنني
إذا بنت باع الصبر لي عنك تاجر
ومنه:
وما زلت من ليلى لدن طر شاربي
إلى اليوم أخفي حبها وأداجن
وأحمل في ليلى ضغائن معشر
وتحمل في ليلى علي الضغائن
ومنه:
وإني لأرعى قومها من جلالها
وإن أظهروا غشا نصحت لهم جهدي
ولو حاربوا قومي لكنت لقومها
صديقا ولم أحمل على حربها حقدي
ومنه:
هلا سألت معالم الأطلال
بالجزع من حرض
289
وهن بوال
سقيا لعزة خلة سقيا لها
إذ نحن بالهضبات من أملال
290
إذ لا تكلمنا وكان كلامها
نفلا نؤمله من الأنفال
ومنه:
ألا حييا ليلى أجد رحيلي
وآذن أصحابي غدا بقفول
291
تبدت له ليلى لتذهب عقله
وشاقتك أم الصلت بعد ذهول
أريد لأنسى ذكرها فكأنما
تمثل لي ليلى بكل سبيل
إذا ذكرت ليلى تغشتك عبرة
تعل بها العينان بعد نهول
وكم من خليل قال لي هل سألتها
فقلت له ليلى أضن خليل
وأبعده نيلا وأوشكه
292
قلى
وإن سئلت عرفا فشر مسول
حلفت برب الراقصات
293
إلى منى
خلال الملا يمددن كل جديل
تراها رفاقا بينهن تفاوت
ويمددن بالإهلال كل أصيل
294
تواهقن
295
بالحجاج من بطن نخلة
ومن عزور والخبت خبت طفيل
بكل حرام خاشع متوجه
إلى الله يدعوه بكل نقيل
296
على كل مذعان
297
الرواح معيدة
ومخشية ألا تعيد هزيل
شوامذ
298
قد أرتجن دون أجنة
وهوج تبارى في الأزمة حول
يمين امرئ مستغلظ من ألية
299
ليكذب قيلا قد ألح بقيل
لقد كذب الواشون ما بحت عندهم
بليلى ولا أرسلتهم برسول
فإن جاءك الواشون عني بكذبة
فروها ولم يأتوا لها بحويل
300
فلا تعجلي ياليل أن تتفهمي
بنصح أتى الواشون أم بحبول
301
فإن طبت نفسا بالعطاء فأجزلي
وخير العطا ياليل كل جزيل
وإلا فإجمال إلي فإنني
أحب من الأخلاق كل جميل
وإن تبذلي لي منك يوما مودة
فقدما تخذت القرض عند بذول
وإن تبخلي ياليل عني فإنني
توكلني نفسي بكل بخيل
ولست براض من خليل بنائل
قليل ولا راض له بقليل
وليس خليلي بالملول ولا الذي
إذا غبت عنه باعني بخليل
ولكن خليلي من يديم وصاله
ويحفظ سرى عند كل دخيل
302
ولم أر من ليلى نوالا أعده
ألا ربما طالبت غير منيل
يلومك في ليلى وعقلك عندها
رجال ولم تذهب لهم بعقول
يقولون ودع عنك ليلى ولا تهم
بقاطعة الأقران ذات حليل
فما نقعت
303
نفسي بما أمروا به
ولا عجت من أقوالهم بفتيل
تذكرت أترابا
304
لعزة كالمها
حبين بليط ناعم وقبول
وكنت إذا لا قيتهن كأنني
مخالطة عقلي سلاف شمول
تأطرن
305
حتى قلت لسن بوارحا
رجاء الأماني أن يقلن مقيلي
فأبدين لي من بينهن تجهما
وأخلفن ظني إذ ظننت وقيلي
فلأيا
306
بلأي ما قضين لبانة
من الدار واستقللن بعد طويل
فلما رأى واستيقن البين صاحبي
دعا دعوة يا حبتر بن سلول
فقلت وأسررت الندامة ليتني
وكنت امرأ أغتش كل عذول
سلكت سبيل الرائحات عشية
مخارم
307
نصع أو سلكن سبيلي
فأسعدت نفسا بالهوى قبل أن أرى
عوادي
308
نأي بيننا وشغول
ندمت على ما فاتني يوم بنتم
فيا حسرتا ألا يرين عويلي
كأن دموع العين واهية الكلى
309
وعت ماء غرب يوم ذاك سجيل
تكنفها خرق تواكلن خرزها
فأبجلنه والسير غير بجيل
310
أقيمي فإن الغور يا عز بعدكم
إلي إذا ما بنت غير جميل
كفى حزنا للعين أن رد طرفها
لعزة عير آذنت برحيل
وقالوا نأت فاختر من الصبر والبكا
فقلت البكا أشفى إذن لغليلي
توليت محزونا وقلت لصاحبي
أقاتلتي ليلى بغير قتيل
لعزة إذ يحتل بالخيف أهلها
فأوحش منها الخيف بعد حلول
وبدل منها بعد طول إقامة
تبعث نكباء
311
العشي جفول
لقد أكثر الواشون فينا وفيكم
ومال بنا الواشون كل مميل
وما زلت من ليلى لدن طر
312
شاربي
إلى اليوم كالمقصى بكل سبيل
وله:
إذا ما أراد الغزو لم تثن همه
حصان عليها نظم در يزينها
نهته فلما لم تر النهي عاقه
بكت فبكى مما شجاها قطينها
313
ولم يثنه يوم الصبابة بثها
غداة استهلت بالدموع شئونها
ولكن مضى ذو مرة متثبت
بسنة حق واضح مستبينها
وله في مدح عبد الملك بن مروان:
أحاطت يداه بالخلافة بعد ما
أراد رجال آخرون اغتيالها
فما أسلموها عنوة عن مودة
ولكن بحد المشرفي استقالها
وكنت إذا نابتك يوما ملمة
نبلت
314
لها أبا الوليد نبالها
سموت فأدركت العلاء وإنما
يلقى عليات العلا من سما لها
وصلت فنالت كفك المجد كله
ولم تبلغ الأيدي السوامي مصالها
وله أيضا:
أهاجك برق آخر الليل واصب
تضمنه فرش الجبا فالمسارب
يجر ويستأني نشاصا
315
كأنه
بغيقة حاد جلجل الصوت جالب
تألق واحمومى وخيم بالربا
أحم الذرى ذو هيدب متراكب
إذا حركته الريح أرزم
316
جانب
بلا هزق
317
منه وأومض جانب
كما أومضت بالعين ثم تبسمت
خريع
318
بدا منها جبين وحاجب
يمج الندى لا يذكر السير أهله
ولا يرجع الماشي به وهو جادب
وله أيضا:
سيهلك في الدنيا شفيق عليكم
إذا غاله من حادث الدهر غائله
ويخفي لكم حبا شديدا ورهبة
وللناس أشغال وحبك شاغله
وحبك ينسيني من الشيء في يدي
ويذهلني عن كل شيء أزاوله
كريم يميت السر حتى كأنه
إذا استبحثوه عن حديثك جاهله
يود بأن يمسي سقيما لعلها
إذا سمعت عنه بشكوى تراسله
ويرتاح للمعروف في طلب العلا
لتحمد يوما عند ليلى شمائله
فلو كنت في كبل
319
وبحت بلوعتي
إليه لأنت رحمة لي سلاسله
وله أيضا:
أقول لماء العين أمعن لعله
بما لا يرى من غائب الوجد يشهد
فلم أدر أن العين قبل فراقها
غداة الشبا من لاعج الوجد تجمد
ولم أر مثل العين ضلت بمائها
علي ولا مثلي على الدمع يحسد
وله أيضا:
تسمع الرعد في المخيلة منها
مثل هزم الفروم
320
في الأشوال
321
وترى البرق عارضا مستطيرا
مرح البلق جلن في الأجلال
أو مصابيح راهب في يفاع
سغم الزيت ساطعات الذبال
وله أيضا:
فيا عز إن واش وشى بي عندكم
فلا تكرميه أن تقولي له أهلا
كما لو وشى واش بعزة عندنا
لقلنا تزحزح لا قريبا ولا سهلا (1-4) الغزل القصصي
أخبار قيس بن الملوح (المجنون)
322
قال الأصفهاني عن محديثه عن ابن دأب قال: قلت لرجل من بني عامر: أتعرف المجنون وتروي من شعره شيئا؟ قال: أوقد فرغنا من شعر العقلاء حتى نروي أشعار المجانين! إنهم لكثير! فقلت: ليس هؤلاء أعني، إنما أعني مجنون بني عامر الشاعر الذي قتله العشق، فقال: هيهات! بنو عامر أغلظ أكبادا من ذاك، إنما يكون هذا في هذه اليمانية الضعاف قلوبها، السخيفة عقولها، الصعلة
323
رءوسها، فأما نزار فلا.
وقال الرياشي سمعت الأصمعي يقول: رجلان ما عرفا في الدنيا قط إلا بالاسم: مجنون بني عامر، وابن القرية،
324
وإنما وضعهما الرواة.
وقال المدائني: المجنون المشهور بالشعر عند الناس صاحب ليلى قيس بن معاذ من بني عامر، ثم من بني عقيل، أحد بني نمير بن عامر بن عقيل، قال: ومنهم رجل آخر يقال له: مهدي بن الملوح من بني جعدة بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة.
وقال ابن الكلبي: حدثت أن حديث المجنون وشعره وضعه فتى من بني أمية كان يهوى ابنة عم له، وكان يكره أن يظهر ما بينه وبينها، فوضع حديث المجنون وقال الأشعار التي يرويها الناس للمجنون ونسبها إليه.
وعن حماد بن طالوت بن عباد: أنه سأل الأصمعي عنه، فقال: لم يكن مجنونا، بل كانت به لوثة أحدثها العشق فيه، كان يهوى امرأة من قومه يقال لها ليلى، واسمه قيس ابن معاذ.
وذكر عمرو بن أبي عمرو الشيباني عن أبيه أن اسمه قيس بن معاذ.
وذكر شعيب بن السكن عن يونس النحوي أن اسمه قيس بن الملوح، قال أبو عمرو الشيباني: وحدثني رجل من أهل اليمن أنه رآه ولقيه وسأله عن اسمه ونسبه، فذكر أنه قيس بن الملوح.
وذكر هشام بن محمد الكلبي أنه قيس بن الملوح، وحدث أن أباه مات قبل اختلاطه،
325
فعقر على قبره ناقته وقال في ذلك:
عقرت على قبر الملوح ناقتي
بذي السرح
326
لما أن جفاه الأقارب
وقلت لها كوني عقيرا
327
فإنني
غدا راجل أمشي وبالأمس راكب
فلا يبعدنك الله يابن مزاحم
فكل بكأس الموت لا شك شارب
وقال الأصمعي: سألت أعرابيا من بني عامر بن صعصعة عن المجنون العامري فقال: عن أيهم تسألني؟ فقد كان فينا جماعة رموا بالجنون، فعن أيهم تسأل؟ فقلت: عن الذي كان يشبب بليلى، فقال: كلهم كان يشبب بليلى، قلت: فأنشدني لبعضهم، فأنشدني لمزاحم بن الحارث المجنون:
ألا أيها القلب الذي لج هائما
بليلى وليدا لم تقطع تمائمه
أفق قد أفاق العاشقون وقد أنى
328
لك اليوم أن تلقى طبيبا تلائمه
أجدك لا تنسيك ليلى ملمة
تلم ولا عهد يطول تقادمه
قلت: فأنشدني لغيره منهم، فأنشدني لمعاذ بن كليب المجنون:
ألا طالما لاعبت ليلى وقادني
إلى اللهو قلب للحسان تبوع
وطال امتراء
329
الشوق عيني كلما
نزفت دموعا تستجد دموع
فقد طال إمساكي على الكبد التي
بها من هوى ليلى الغداة صدوع
قلت: فأنشدني لغير هذين ممن ذكرت، فأنشدني لمهدي بن الملوح:
لو ان لك الدنيا وما عدلت به
سواها وليلى بائن عنك بينها
330
لكنت إلى ليلى فقيرا وإنما
يقود إليها ود نفسك حينها
قلت له: فأنشدني لمن بقي من هؤلاء، فقال: حسبك! فوالله إن في واحد من هؤلاء لمن يوزن بعقلائكم اليوم.
وقال الجاحظ: ما ترك الناس شعرا مجهول القائل قيل في ليلى إلا نسبوه إلى المجنون، ولا شعرا هذه سبيله قيل في لبنى إلا نسبوه إلى قيس بن ذريح.
قال أبو الفرج: وأنا أذكر مما وقع إلي من أخباره جملا مستحسنة، متبرئا من العهدة فيها، فإن أكثر أشعاره المذكورة في أخباره ينسبها بعض الرواة إلى غيره وينسبها من حكيت عنه إليه، وإذا قدمت هذه الشريطة برئت من عيب طاعن ومتتبع للعيوب.
أخبرني بخبره في شغفه بليلى جماعة من الرواة، ونسخت ما لم أسمعه من الروايات وجمعت ذلك في سياقة خبره ما اتسق ولم يختلف، فإذا اختلف نسبت كل رواية إلى راويها.
فمن أخبرني بخبره أحمد بن عبد العزيز الجوهري وحبيب بن نصر المهلبي، قالا: حدثنا عمر بن شبة عن رجاله وإبراهيم بن أيوب عن ابن قتيبة، ونسخت أخباره من رواية خالد بن كلثوم وأبي عمرو الشيباني وابن دأب وهشام بن محمد الكلبي وإسحاق بن الجصاص وغيرهم من الرواة.
قال أبو عمرو الشيباني وأبو عبيدة: كان المجنون يهوى ليلى بنت مهدي بن سعد بن مهدي بن ربيعة بن الحريش بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة وتكنى أم مالك، وهما حينئذ صبيان، فعلق كل واحد منهما صاحبه وهما يرعيان مواشي أهلهما، فلم يزالا كذلك حتى كبرا فحجبت عنه، قال: ويدل على ذلك قوله:
تعلقت ليلى وهي ذات ذؤابة
331
ولم يبد للأتراب من ثديها حجم
صغيرين نرعى البهم يا ليت أننا
إلى اليوم لم نكبر ولم تكبر البهم
وقال ابن الكلبي: كان سبب عشق المجنون ليلى، أنه أقبل ذات يوم على ناقة له كريمة وعليه حلتان من حلل الملوك، فمر بامرأة من قومه يقال لها: كريمة، وعندها جماعة نسوة يتحدثن، فيهن ليلى، فأعجبهن جماله وكماله، فدعونه إلى النزول والحديث، فنزل وجعل يحدثهن وأمر عبدا له كان معه فعقر لهن ناقته، وظل يحدثهن بقية يومه، فبينا هو كذلك، إذ طلع عليهم فتى عليه بردة من برد الأعراب يقال له: «منازل» يسوق معزى له، فلما رأينه أقبلن عليه وتركن المجنون، فغضب وخرج من عندهن وأنشأ يقول:
أأعقر من جرا
332
كريمة ناقتي
ووصلي مفروش لوصل منازل
إذا جاء قعقعن الحلي ولم أكن
إذا جئت أرضى صوت تلك الخلاخل
متى ما انتضلنا
333
بالسهام نضلته
وإن نرم رشقا
334
عندها فهو ناضلي
قال: فلما أصبح لبس حلته وركب ناقة له أخرى ومضى متعرضا لهن، فألفى ليلى قاعدة بفناء بيتها وقد علق حبه بقلبها وهويته، وعندها جويريات يتحدثن معها، فوقف بهن وسلم، فدعونه إلى النزول وقلن له: هل لك في محادثة من لا يشغله عنك منازل ولا غيره؟ فقال:
إي لعمري، فنزل وفعل مثل ما فعله بالأمس، فأرادت أن تعلم، هل لها عنده مثل ما له عندها، فجعلت تعرض عن حديثه ساعة بعد ساعة وتحدث غيره، وقد كان علق بقلبه مثل حبها إياه وشغفته واستملحها، فبينا هي تحدثه، إذ أقبل فتى من الحي فدعته وسارته سرارا طويلا، ثم قالت له: انصرف، ونظرت إلى وجه المجنون قد تغير وانتقع لونه وشق عليه فعلها، فأنشأت تقول:
كلانا مظهر للناس بغضا
وكل عند صاحبه مكين
تبلغنا العيون بما أردنا
وفي القلبين ثم هوى دفين
فلما سمع البيتين شهق شهقة شديدة وأغمي عليه، فمكث على ذلك ساعة، ونضحوا الماء على وجهه حتى أفاق وتمكن حب كل واحد منهما في قلب صاحبه حتى بلغ منه كل مبلغ.
وعن أبي الهيثم العقيلي قال: لما شهر أمر المجنون وليلى وتناشد الناس شعره فيها، خطبها وبذل لها خمسين ناقة حمراء، وخطبها ورد بن محمد العقيلي وبذل لها عشرا من الإبل وراعيها، فقال أهلها: نحن مخيروها بينكما، فمن اختارت تزوجته، ودخلوا إليها فقالوا: والله لئن لم تختاري وردا لنمثلن بك، فقال المجنون:
ألا يا ليل إن ملكت فينا
خيارك فانظري لمن الخيار
ولا تستبدلي مني دنيا
ولا برما
335
إذا حث القتار
336
يهرول في الصغير إذا رآه
وتعجزه ملمات كبار
فمثل تأيم منه نكاح
ومثل تمول منه افتقار
فاختارت وردا فتزوجته على كره منها.
وقال:
أيا ويح من أمسى تخلس
337
عقله
فأصبح مذهوبا به كل مذهب
خليا من الخلان إلا معذرا
338
يضاحكني من كان يهوى تجنبي
إذا ذكرت ليلى عقلت وراجعت
روائع
339
عقلي من هوى متشعب
وقالوا صحيح ما به طيف جنة
ولا الهم إلا بافتراء التكذب
وشاهد وجدي دمع عيني وحبها
برى اللحم عن أحناء
340
عظمي ومنكبي
تجنبت ليلى أن يلج بك الهوى
وهيهات كان الحب قبل التجنب
ألا إنما غادرت يا أم مالك
صدى
341
أينما تذهب به الريح يذهب
فلم أرى ليلى بعد موقف ساعة
بخيف منى ترمي جمار المحصب
ويبدي الحصى منها إذا قذفت به
من البرد أطراف البنان المخضب
فأصبحت من ليلى الغداة كناظر
مع الصبح في أعقاب نجم مغرب
قال أبو الفرج: أنشدني الأخفش عن أبي سعيد السكري عن محمد بن حبيب للمجنون:
فوالله ثم الله إني لدائب
أفكر ما ذنبي إليها وأعجب
ووالله ما أدري علام قتلتني
وأي أموري فيك ياليل أركب
أأقطع حبل الوصل فالموت دونه
أم اشرب رنقا منكم ليس يشرب
أم اهرب حتى لا أرى لي مجاورا
أم اصنع ماذا أم أبوح فأغلب
فأيهما يا ليل ما ترتضينه
فإني لمظلوم وإني لمعتب
وقال:
عرضت على قلبي العزاء فقال لي
من الآن فايأس لا أعزك من صبر
إذا بان من تهوى وأصبح نائيا
فلا شيء أجدى من حلولك في القبر
وداع دعا إذ نحن بالخيف من منى
فهيج أطراب
342
الفؤاد وما يدري
دعا باسم ليلى غيرها فكأنما
أطار بليلى طائرا كان في صدري
دعا باسم ليلى ضلل الله سعيه
وليلى بأرض عنه نازحة قفر
وقال:
أيا جبلي نعمان بالله خليا
سبيل الصبا يخلص إلي نسيمها
أجد بردها أو تشف مني حرارة
على كبد لم يبق إلا صميمها
343
فإن الصبا ريح إذا ما تنسمت
على نفس محزون تجلت همومها
وقال:
أيا حرجات
344
الحي حيث تحملوا
بذي سلم
345
لا جادكن ربيع
وخيماتك اللاتي بمنعرج اللوى
بلين بلى لم تبلهن ربوع
ندمت على ما كان مني ندامة
كما يندم المغبون حين يبيع
فقدتك من نفس شعاع
346
فإنني
نهيتك عن هذا وأنت جميع
347
فقربت لي غير القريب وأشرفت
348
إليك ثنايا
349
ما لهن طلوع
وله:
يا صاحبي ألما بي بمنزلة
قد مر حين عليها أيما حين
إني أرى رجعات الحب تقتلني
وكان في بدئها ما كان يكفيني
لا خير في الحب ليست فيه قارعة
كأن صاحبها في نزع موتون
350
إن قال عذاله مهلا فلان لهم
قال الهوى غير هذا القول يعنيني
ألقى من اليأس تارات فتقتلني
وللرجاء بشاشات فتحييني
وله:
أمستقبلي نفح الصبا ثم شائقي
ببرد ثنايا أم حسان شائق
كأن على أنيابها الخمر شجها
351
بماء الندى من آخر الليل عاتق
352
وما شمته إلا بعيني تفرسا
كما شيم في أعلى السحابة بارق
وروى الأصمعي له قوله:
أخذت محاسن كل ما
ضنت محاسنه بحسنه
كاد الغزال يكونها
لولا الشوى ونشوز قرنه
قال: وهو القائل:
ولم أر ليلى بعد موقف ساعة
بخيف منى ترمي جمار المحصب
ويبدي الحصى منها إذا قذفت به
من البرد أطراف البنان المخضب
فأصبحت من ليلى الغداة كناظر
مع الصبح في أعقاب نجم مغرب
ألا إنما غادرت يا أم مالك
صدى أينما تذهب به الريح يذهب
وقال:
يقول أناس عل مجنون عامر
يروم سلوا قلت أنى لما بيا
وقد لامني في حب ليلى أقاربي
أخي وابن عمي وابن خالي وخاليا
يقولون ليلى أهل بيت عداوة
بنفسي ليلى من عدو وماليا
ولو كان في ليلى شذا من خصومة
للويت أعناق المطي الملاويا
353
وقال:
ألا ما لليلى لا ترى عند مضجعي
بليل ولا يجري بذلك طائر
بلى إن عجم الطير تجري إذا جرت
بليلى ولكن ليس للطير زاجر
أزالت عن العهد الذي كان بيننا
بذي الأثل أم قد غيرتها المقادر
فوالله ما في القرب لي منك راحة
ولا البعد يسليني ولا أنا صابر
ووالله ما أدري بأية حيلة
وأي مرام أو خطار
354
أخاطر
وتالله إن الدهر في ذات بيننا
علي لها في كل حال لجائر
فلو كنت إذ أزمعت هجري تركتني
جميع
355
القوى والعقل مني وافر
ولكن أيامي بحقل
356
عنيزة
وبالرضم أيام جناها التجاور
وقد أصبح الود الذي كان بيننا
أماني نفس والمؤمل حائر
لعمري لقد رنقت
357
يا أم مالك
حياتي وساقتني إليك المقادر
وقال:
يا للرجال لهم بات يعروني
مستطرف وقديم كان يعنيني
على غريم مليء
358
غير ذي عدم
359
يأبى فيمطلني ديني ويلويني
360
لا يذكر البعض من ديني فينكره
ولا يحدثني أن سوف يقضيني
وما كشكري شكر لو يوافقني
ولا منى كمناه إذ يمنيني
أطعته وعصيت الناس كلهم
في أمره ثم يأبى فهو يعصيني
خيري لمن يبتغي خيري ويأمله
من دون شري وشري غير مأمون
وما أشارك في رأيي أخا ضعف
361
ولا أقول أخي من لا يواتيني
362
وله:
ألا أيها البيت الذي لا أزوره
وإن حله شخص إلي حبيب
هجرتك إشفاقا وزرتك خائفا
وفيك علي الدهر منك رقيب
سأستعتب الأيام فيك لعلها
بيوم سرور في الزمان تئوب
وبلغ المجنون أن أهل ليلى يريدون نقلها إلى الثقفي فقال:
كأن القلب ليلة قيل يغدى
بليلى العامرية أو يراح
قطاة عزها شرك فباتت
تجاذبه وقد علق الجناح
فلما نقلت ليلى إلى الثقفي قال:
طربت وشاقتك الحمول
363
الدوافع
غداة دعا بالبين أسفع
364
نازع
شحا
365
فاه نعبا
366
بالفراق كأنه
حريب
367
سليب نازح الدار جازع
فقلت ألا قد بين
368
الأمر فانصرف
فقد راعنا بالبين قبلك رائع
سقيت سموما من غراب فإنني
تبينت ما خبرت مذ أنت واقع
ألم تر أني لا محب ألومه
ولا ببديل بعدهم أنا قانع
ألم تر دار الحي في رونق الضحى
بحيث انحنت للهضبتين
369
الأجارع
وقد يتناءى الإلف من بعد ألفة
ويصدع ما بين الخليطين صادع
وكم من هوى
370
أو جيرة قد ألفتهم
زمانا فلم يمنعهم البين مانع
كأني غداة البين ميت جوبة
371
أخو ظمإ سدت عليه المشارع
تخلس
372
من أوشال
373
ماء صبابة
فلا الشرب مبذول ولا هو ناقع
374
وبيض تطلى بالعبير كأنها
نعاج الملا
375
جيبت
376
عليها البراقع
تحملن من وادي
377
الأراك فأومضت
لهن بأطراف العيون المدامع
فما
378
رمن ربع الدار حتى تشابهت
هجائنها
379
والجون منها الخواضع
380
وحتى حملن الحور
381
من كل جانب
وخاضت سدول
382
الرقم منها الأكارع
383
فلما استوت تحت الخدور وقد جرى
عبير ومسك بالعرانين رادع
384
أشرن بأن حثوا الجمال فقد بدا
من الصيف يوم لافح الحر ماتع
385
فلما لحقنا بالحمول تباشرت
بنا مقصرات
386
غاب عنها المطامع
يعرضن بالدل المليح وإن يرد
جناهن مشغوف فهن موانع
فقلت لأصحابي ودمعي مسبل
وقد صدع الشمل المشتت صادع
أليلى بأبواب الخدور تعرضت
لعيني أم قرن من الشمس طالع
وروي أن أبا المجنون حج به ليدعو الله عز وجل في الموقف أن يعافيه، فسار ومعه ابن عمه زياد بن كعب بن مزاحم، فمر بحمامة تدعو
387
على أيكة فوقف يبكي، فقال له زياد: أي شيء هذا؟ ما يبكيك أيضا؟ سر بنا نلحق الرفقة، فقال:
أأن هتفت يوما بواد حمامة
بكيت ولم يعذرك بالجهل عاذر
دعت ساق،
388
حر بعد ما علت الضحى
فهاج لك الأحزان أن ناح طائر
تغني الضحى والصبح في مرجحنة
389
كثاف الأعالي تحتها الماء حائر
390
كأن لم يكن بالغيل،
391
أو بطن أيكة
392
أو الجزع
393
من تول الأشاءة
394
حاضر
يقول زياد إذ رأى الحي هجروا
395
أرى الحي قد ساروا فهل أنت سائر
وإني وإن غال
396
التقادم حاجتي
ملم على أوطان ليلى فناظر
كان المجنون وليلى وهما صبيان يرعيان غنما لأهلهما عند جبل في بلادهما يقال له التوباد،
397
فلما ذهب عقله وتوحش، كان يجيء إلى ذلك الجبل فيقيم به، فإذا تذكر أيام كان يطيف هو وليلى به جزع جزعا شديدا واستوحش فهام على وجهه حتى يأتي نواحي الشأم، فإذا ثاب إليه عقله رأى بلدا لا يعرفه فيقول للناس الذين يلقاهم: بأبي أنتم، أين التوباد من أرض بني عامر؟ فيقال له: وأين أنت من أرض بني عامر! أنت بالشأم عليك بنجم كذا فأمه، فيمضي على وجهه نحو ذلك النجم حتى يقع بأرض اليمن، فيرى بلادا ينكرها وقوما لا يعرفهم فيسألهم عن التوباد وأرض بني عامر، فيقولون: وأين أنت من أرض بني عامر! عليك بنجم كذا وكذا، فلا يزال كذلك حتى يقع على التوباد، فإذا رآه قال في ذلك:
وأجهشت
398
للتوباد حين رأيته
وكبر للرحمن حين رآني
وأذريت دمع العين لما عرفته
ونادى بأعلى صوته فدعاني
فقلت له قد كان حولك جيرة
وعهدي بذاك الصرم منذ زمان
فقال مضوا واستودعوني بلادهم
ومن ذا الذي يبقى على الحدثان
وإني لأبكي اليوم من حذري غدا
فراقك والحيان مجتمعان
سجالا وتهتانا
399
ووبلا وديمة
وسحا وتسجاما
400
إلى هملان
401
وكان المجنون يسير مع أصحابه فسمع صائحا يصيح: يا ليلى في ليلة ظلماء أو توهم ذلك، فقال لبعض من معه: أما تسمع هذا الصوت؟ فقال: ما سمعت شيئا، قال: بلى، والله هاتف يهتف بليلى، ثم أنشأ يقول:
أقول لأدنى صاحبي كليمة
أسرت من الأقصى أجب ذا المناديا
إذا سرت في الأرض الفضاء رأيتني
أصانع رحلي
402
أن يملي حياليا
يمينا إذا كانت يمينا وإن تكن
شمالا ينازعني الهوى عن شماليا
خطب ليلى صاحبة المجنون جماعة من قومها فكرهتهم، فخطبها رجل من ثقيف موسر فرضيته، وكان جميلا فتزوجها وخرج بها، فقال المجنون في ذلك:
ألا إن ليلى كالمنيحة
403
أصبحت
تقطع إلا من ثقيف حبالها
فقد حبسوها محبس البدن وابتغى
بها الربح أقوام تساحت
404
مالها
خليلي هل من حيلة تعلمانها
يدني لنا تكليم ليلى احتيالها
فإن أنتما لم تعلماها فلستما
بأول باغ حاجة لا ينالها
كأن مع الركب الذين اغتدوا بها
غمامة صيف زعزعتها شمالها
نظرت بمفضى سيل جوشن
405
إذ غدوا
تخب بأطراف المخارم
406
آلها
بشافية الأحزان هيج شوقها
مجامعة الألاف ثم زيالها
إذا التفتت من خلفها وهي تعتلي
بها العيس جلى عبرة العين حالها
وله:
وأحبس عنك النفس والنفس صبة
بذكراك والممشى إليك قريب
مخافة أن تسعى الوشاة بظنة
وأحرسكم أن يستريب مريب
فقد جعلت نفسي - وأنت اجترمته
وكنت أعز الناس - عنك تطيب
فلو شئت لم أغضب عليك ولم يزل
لك الدهر مني ما حييت نصيب
أما والذي يبلو السرائر كلها
ويعلم ما تبدي به وتغيب
لقد كنت ممن تصطفي النفس خلة
لها دون خلان الصفاء حجوب
قيس بن ذريح
407
من شعر قيس:
يقولون لبنى فتنة كنت قبلها
بخير فلا تندم عليها وطلق
فطاوعت أعدائي وعاصيت ناصحي
وأقررت عين الشامت المتخلق
وددت وبيت الله أني عصيتهم
وحملت في رضوانها كل موبق
وكلفت خوض البحر والبحر زاخر
أبيت على أثباج موج مغرق
كأني أرى الناس المحبين بعدها
عصارة ماء الحنظل المتفلق
فتنكر عيني بعدها كل منظر
ويكره سمعي بعدها كل منطق
وخرج قيس في فتية من قومه واعتل على أبيه بالصيد، فأتى بلاد لبنى، فجعل يتوقع أن يراها أو يرى من يرسل إليها، فاشتغل الفتيان بالصيد، فلما قضوا وطرهم منه رجعوا إليه وهو واقف، فقالوا له: قد عرفنا ما أردت بإخراجنا معك وأنك لم ترد الصيد وإنما أردت لقاء لبنى وقد تعذر عليك، فانصرف الآن؛ فقال:
وما حائمات حمن يوما وليلة
على الماء يغشين العصي حواني
عوافي لا يصدرن عنه لوجهة
ولا هن من برد الحياض دواني
يرين حباب الماء والموت دونه
فهن لأصوات السقاة رواني
بأجهد مني حر شوق ولوعة
عليك ولكن العدو عداني
خليلي إني ميت أو مكلم
لبينى بسري فامضيا وذراني
أنل حاجتي وحدي ويا رب حاجة
قضيت على هول وخوف جنان
فإني أحق الناس ألا تحاورا
وتطرحا من لو يشاء شفاني
ومن قادني للموت حتى إذا صفت
مشاربه السم الذعاف سقاني
فأقاموا معه حتى لقيها.
لما ألح ذريح على ابنه قيس في طلاق لبنى فأبى ذلك قيس، طرح ذريح نفسه في الرمضاء وقال: لا والله لا أريم هذا الموضع حتى أموت أو يخليها، فجاءه قومه من كل ناحية فعظموا عليه الأمر وذكروه بالله وقالوا: أتفعل هذا بأبيك وأمك! إن مات شيخك على هذه الحال كنت معينا عليه وشريكا في قتله، ففارق لبنى على رغم أنفه وقلة صبره وبكاء منه حتى بكى لهما من حضرهما؛ وأنشأ يقول:
أقول لخلتي في غير جرم
ألا بيني، بنفسي أنت، بيني
فوالله العظيم لنزع نفسي
وقطع الرجل مني واليمين
أحب إلي يا لبنى فراقا
فبكي للفراق وأسعديني
ظلمتك بالطلاق بغير جرم
فقد أذهبت آخرتي وديني
قال: فلما سمعت بذلك لبنى بكت بكاء شديدا، وأنشأت تقول:
رحلت إليه من بلدي وأهلي
فجازاني جزاء الخائنينا
فمن راني فلا يغتر بعدي
بحلو القول أو يبلو الدفينا
فلما انقضت عدتها وأرادت الشخوص إلى أهلها أتيت براحلة لتحمل عليها، فلما رأى ذلك قيس داخله أمر عظيم واشتد لهفه، وأنشأ يقول:
بانت لبينى فأنت اليوم متبول
وإنك اليوم بعد الحزم مخبول
فأصبحت عنك لبنى اليوم نازحة
ودل لبنى - لها الخيرات - معسول
هل ترجعن نوى لبنى بعاقبة
كما عهدت ليالي العشق مقبول
وقد أراني بلبنى حق مقتنع
والشمل مجتمع والحبل موصول
فصرت من حب لبنى حين أذكرها
القلب مرتهن والعقل مدخول
أصبحت من حب لبنى بل تذكرها
في كربة ففؤادي اليوم مشغول
والجسم مني منهوك لفرقتها
يبريه طول سقام فهو منحول
كأنني يوم ولت ما تكلمني
أخو هيام مصاب القلب مسلول
أستودع الله لبنى إذ تفارقني
عن غير طوع وأمر الشيخ مفعول
ثم ارتحلت لبنى، فجعل قيس يقبل موضع رجليها من الأرض وحول خبائها، فلما رأى ذلك قومه أقبلوا على أبيه بالعذل واللوم، فقال ذريح لما رأى حاله تلك: قد جنيت عليك يا بني؛ فقال له قيس: قد كنت أخبرك أني مجنون بها فلم ترض إلا بقتلي، فالله حسبك وحسب أمي. وأقبل قومه يعذلونه في تقبيل التراب، فأنشأ يقول:
فما حبي لطيب تراب أرض
ولكن حب من وطئ الترابا
فهذا فعل شيخينا جميعا
أرادا لي البلية والعذابا
وله قصيدة طويلة في تطليقه لبنى يقول فيها:
فواكبدي وعاودني رداعي
408
وكان فراق لبنى كالجداع
409
تكنفني الوشاة فأزعجوني
فيا لله للواشي المطاع
فأصبحت الغداة ألوم نفسي
على شيء وليس بمستطاع
كمغبون يعض على يديه
تبين غبنه بعد البياع
بدار مضيعة تركتك لبنى
كذاك الحين يهدي للمضاع
وقد عشنا نلذ العيش حينا
لو ان الدهر للإنسان واعي
ولكن الجميع إلى افتراق
وأسباب الحتوف لها دواعي
واجتمع إليه نسوة فأطلن الجلوس عنده وحادثنه وهو ساه عنهن، ثم نادى: يا لبنى، فقلن له: ما لك ويحك؟ فقال: خدرت رجلي ويقال: إن دعاء الإنسان باسم أحب الناس إليه يذهب خدر الرجل، فناديتها لذلك. وقال:
إذا خدرت رجلي تذكرت من لها
فناديت لبنى باسمها ودعوت
دعوت التي لو أن نفسي تطيعني
لفارقتها من حبها وقضيت
برت نبلها للصيد لبنى وريشت
وريشت أخرى مثلها وبريت
فلما رمتني أقصدتني بسهمها
وأخطأتها بالسهم حين رميت
وفارقت لبنى ضلة فكأنني
قربت إلى العيوق
410
ثم هويت
فيا ليت أني مت قبل فراقها
وهل ترجعن فوت القضية ليت
فصرت وشيخي كالذي عثرت به
غداة الوغى بين العداة كميت
فقامت ولم تضرر هزالا سوية
وفارسها تحت السنابك ميت
فإن يك تهيامي بلبنى غواية
فقد يا ذريح بن الحباب غويت
فلا أنت ما أملت في رأيته
ولا أنا لبنى والحياة حويت
فوطن لهلكي منك نفسا فإنني
كأنك بي قد يا ذريح قضيت
ومرض قيس، فسأل أبوه فتيات الحي أن يعدنه ويحدثنه أو يعلق بعضهن، ففعلن ذلك، ودخل إليه طبيب ليداويه والفتيات معه، فلما اجتمعن عنده جعلن يحادثنه وأطلن السؤال عن سبب علته، فقال:
تعلق روحي روحها قبل خلقنا
ومن بعد ما كنا نطافا وفي المهد
فزاد كما زدنا فأصبح ناميا
وليس إذا متنا بمنصرم العهد
ولكنه باق على كل حادث
وزائرنا في ظلمة القبر واللحد
فقال له الطبيب: إن مما يسليك عنها أن تتذكر ما فيها من المساوئ والمعايب، فإن النفس تنبو حينئذ وتسلو ويخف ما بها.
فلما طال على قيس ما به أشار قومه على أبيه بأن يزوجه امرأة جميلة فلعله يسلو بها عن لبنى، فدعاه إلى ذلك فأباه وقال:
لقد خفت ألا تقنع النفس بعدها
بشيء من الدنيا وإن كان مقنعا
وأزجر عنها النفس إذ حيل دونها
وتأبى إليها النفس إلا تطلعا
ولما تزوجت لبنى بآخر أتى موضع خبائها فنزل عن راحلته وجعل يتمعك
411
موضعها ويمرغ خده على ترابها ويبكي أحر بكاء ثم قال:
إلى الله أشكو فقد لبنى كما شكا
إلى الله فقد الوالدين يتيم
يتيم جفاه الأقربون فجسمه
نحيل وعهد الوالدين قديم
بكت دارهم من نأيهم فتهللت
دموعي فأي الجازعين ألوم
أمستعبر يبكي من الشوق والهوى
أم اخر يبكي شجوه ويهيم
تهيضني من حب لبنى علائق
وأصناف حب هولهن عظيم
ومن يتعلق حب لبنى فؤاده
يمت أو يعش ما عاش وهو كليم
فإني وإن أجمعت عنك تجلدا
على العهد فيما بيننا لمقيم
وإن زمانا شتت الشمل بيننا
وبينكم فيه العدا لمشوم
أفي الحق هذا أن قلبك فارع
صحيح وقلبي في هواك سقيم
وقال في رحيل لبنى عن وطنها وانتقالها إلى زوجها بالمدينة وهو مقيم في حيها:
بانت لبينى فهاج القلب من بانا
وكان ما وعدت مطلا وليانا
412
وأخلفتك منى قد كنت تأملها
فأصبح القلب بعد البين حيرانا
الله يدري وما يدري به أحد
ماذا أجمجم من ذكراك أحيانا
يا أكمل الناس من قرن إلى قدم
وأحسن الناس ذا ثوب وعريانا
نعم الضجيع بعيد النوم تجلبه
إليك ممتلئا نوما ويقظانا
لا بارك الله فيمن كان يحسبكم
إلا على العهد حتى كان ما كانا
حتى استفقت أخيرا بعد ما نكحت
فبت للشوق أذري الدمع تهتانا
إن تصرمي الحبل أو تمسي مفارقة
فالدهر يحدث للإنسان ألوانا
وما أرى مثلكم في الناس من بشر
فقد رأيت به حيا ونسوانا
وشكا أبو لبنى لمعاوية تعرض قيس لابنته بعد طلاقها، فكتب معاوية إلى الأمير يهدر دمه إن ألم بها، وأن يشتد في ذلك؛ فكتب مروان في ذلك إلى صاحب الماء الذي ينزله أبو لبنى كتابا وكيدا، ووجهت لبنى رسولا إلى قيس تعلمه ما جرى وتحذره؛ وبلغ أباه الخبر، فعاتبه وتجهمه، وقال له: انتهى بك الأمر إلى أن يهدر السلطان دمك؛ فقال:
فإن يحجبوها أو يحل دون وصلها
مقالة واش أو وعيد أمير
فلن يمنعوا عيني من دائم البكا
ولن يذهبوا ما قد أجن ضميري
إلى الله أشكو من ألاقي من الهوى
ومن حرق تعتادني وزفير
ومن حرق للحب في باطن الحشى
وليل طويل الحزن غير قصير
سأبكي على نفسي بعين غزيرة
بكاء حزين في الوثاق أسير
وكنا جميعا قبل أن يظهر الهوى
بأنعم حالى غبطة وسرور
فما برح الواشون حتى بدت لهم
بطون الهوى مقلوبة لظهور
لقد كنت حسب النفس لو دام وصلنا
ولكنما الدنيا متاع غرور
وقال في إهدار معاوية دمه إن هو زارها:
إن تك لبنى قد أتى دون قربها
حجاب منيع ما إليه سبيل
فإن نسيم الجو يجمع بيننا
ونبصر قرن الشمس حين تزول
وأرواحنا بالليل في الحي تلتقي
ونعلم أيا بالنهار نقيل
وتجمعنا الأرض القرار وفوقنا
سماء نرى فيها النجوم تجول
إلى أن يعود الدهر سلما وتنقضي
ترات بغاها عندنا وذحول
413
ولما انصرف الناس من الحج مرض قيس مرضا شديدا فلم يأته رسولها عائدا، فقال:
ألبنى لقد حلت عليك مصيبتي
غداة غد إذ حل ما أتوقع
تمنينني نيلا وتلوينني قلى
فنفسي شوقا كل يوم تقطع
وقلبك قط لا يلين لما يرى
فوا كبدي قد طال هذا التضرع
ألومك في شأني وأنت مليمة
لعمري وأجفى للمحب وأقطع
أخبرت أني فيك ميت حسرتي
فما فاض من عينيك للوجد مدمع
ولكن لعمري قد بكيتك جاهدا
وإن كان دائي كله منك أجمع
صييحة جاء العائدات يعدنني
فظلت علي العائدات تفجع
فقائلة جئنا إليه وقد قضى
وقائلة لا بل تركناه ينزع
فما غشيت عينيك من ذاك عبرة
وعيني على ما بي بذكراك تدمع
إذا أنت لم تبكي علي جنازة
لديك فلا تبكي غدا حين أرفع
ومن شعره قوله:
أتبكي على لبنى وأنت تركتها
وكنت عليها بالملا
414
أنت أقدر
فإن تكن الدنيا بلبنى تقلبت
علي فللدنيا بطون وأظهر
لقد كان فيها للأمانة موضع
وللكف مرتاد وللعين منظر
وللحائم العطشان ري بريقها
وللمرح المختال خمر ومسكر
كأني لها أرجوحة بين أحبل
إذا ذكرة منها على القلب تخطر
وقوله:
لقد عذبتني يا حب لبنى
فقع إما بموت أو حياة
فإن الموت أروح من حياة
تدوم على التباعد والشتات
وقال الأقربون تعز عنها
فقلت لهم إذا حانت وفاتي
وقالت له لبنى: أنشدني ما قلت في علتك، فأنشدها قوله:
أعالج من نفسي بقايا حشاشة
على رمق والعائدات تعود
فإن ذكرت لبنى هششت لذكرها
كما هش للثدي الدرور وليد
أجيب بلبنى من دعاني تجلدا
وبي زفرات تنجلي وتعود
تعيد إلى روحي الحياة وإنني
بنفسي لو عاينتني لأجود
وفيها يقول:
ألا ليت أياما مضين تعود
فإن عدن يوما إنني لسعيد
سقى دار لبنى حيث حلت وخيمت
من الأرض منهل الغمام رعيد
على كل حال إن دنت أو تباعدت
فإن تدن منا فالدنو مزيد
فلا اليأس يسليني ولا القرب نافعي
ولبنى منوع ما تكاد تجود
كأني من لبنى سليم مسهد
يظل على أيدي الرجال يميد
رمتني لبينى في الفؤاد بسهمها
وسهم لبينى للفؤاد صيود
سلا كل ذي شجو علمت مكانه
وقلبي للبنى ما حييت ودود
وقائلة قد مات أو هو ميت
وللنفس مني أن تفيض رصيد
وعاتبته على تزوجه، فحلف أنه لم ينظر إليها ملء عينيه، ثم قال:
ولقد أردت الصبر عنك فعاقني
علق بقلبي من هواك قديم
يبقى على حدث الزمان وريبه
وعلى جفائك إنه لكريم
فصرمته وصححت وهو بدائه
شتان بين مصحح وسقيم
وأريته زمنا فعاذ بحلمه
إن المحب عن الحبيب حليم
فلم يزل معها يحدثها ويشكو إليها حتى أمسى، فانصرفت ووعدته الرجوع إليه من غد فلم ترجع، وشاع خبره، فلم ترسل إليه رسولا، فكتب هذين البيتين:
بنفسي من قلبي له الدهر ذاكر
ومن هو عني معرض القلب صابر
ومن حبه يزداد عندي جدة
وحبي لديه مخلق العهد داثر
وقال ابن أبي عتيق لقيس يوما: أنشدني أحر ما قلت في لبنى؛ فأنشده:
وإني لأهوى النوم في غير حينه
لعل لقاء في المنام يكون
تحدثني الأحلام أني أراكم
فيا ليت أحلام المنام يقين
شهدت بأني لم أحل عن مودة
وأني بكم لو تعلمين ضنين
وأن فؤادي لا يلين إلى هوى
سواك وإن قالوا بلى سيلين
وقال عبد الملك بن عبد العزيز: أنشدت أبا السائب المخزومي قول قيس:
أحبك أصنافا من الحب لم أجد
لها مثلا في سائر الناس يوصف
فمنهن حب للحبيب ورحمة
بمعرفتي منه بما يتكلف
ومنهن ألا يعرض الدهر ذكرها
على القلب إلا كادت النفس تتلف
وحب بدا بالجسم والله ظاهر
وحب لدى نفسي من الروح ألطف
وقصيدة
415
قيس العينية من جيد شعره وهي:
عفا سرف من أهله فسراوع
فجنبا أريك فالتلاع الدوافع
416
فغيقة فالأخياف أخياف ظبية
بها من لبينى مخرف ومرابع
417
لعل لبينى أن يحم لقاؤها
ببعض البلاد إن ما حم
418
واقع
بجزع
419
من الوادي خلاء أنيسه
عفا وتخطته العيون الخوادع
ولما بدا منها الفراق كما بدا
بظهر الصفا الصلد الشقوق الشوائع
420
تمنيت أن تلقى لبيناك، والمنى
تعاصيك أحيانا وحينا تطاوع
وما من حبيب وامق لحبيبه
ولا ذي هوى إلا له الدهر فاجع
وطار غراب البين وانشقت العصا
421
ببين كما شق الأديم الصوانع
ألا يا غراب البين قد طرت بالذي
أحاذر من لبنى فهل أنت واقع
وإنك لو أبلغتها قيلك اسملي
طوت حزنا وارفض
422
منها المدامع
أتبكي على لبنى وأنت تركتها
وكنت كآت غيه وهو طائع
فلا تبكين في إثر شيء ندامة
إذا نزعته من يديك النوازع
فليس لأمر حاول الله جمعه
مشت
423
ولا ما فرق الله جامع
كأنك لم تغنه إذا لم تلاقها
وإن تلقها فالقلب راض وقانع
فيا قلب خبرني، إذا شطت
424
النوى
بلبنى وصدت عنك، ما أنت صانع
أتصبر للبين المشت مع الجوى
أم أنت امرؤ ناسي الحياء فجازع
فما أنا إن بانت لبينى بهاجع
إذا ما استقلت بالنيام المضاجع
وكيف ينام المرء مستشعر الجوى
ضجيع الأسى فيه نكاس روادع
425
فلا خير في الدنيا إذا لم تواتنا
لبينى ولم يجمع لنا الشمل جامع
أليست لبينى تحت سقف يكنها
وإياي هذا إن نأت لي نافع
ويلبسنا الليل البهيم إذا دجا
426
ونبصر ضوء الصبح والفجر ساطع
تطأ تحت رجليها بساطا
427
وبعضه
أطاه برجلي ليس يطويه مانع
وأفرح إن تمسي بخير وإن يكن
بها الحدث الغادي ترعني الروائع
428
كأنك بدع لم تر الناس قبلها
ولم يطلعك الدهر فيمن يطالع
فقد كنت أبكي والنوى مطمئنة
بنا وبكم من علم ما البين صانع
وأهجركم هجر البغيض وحبكم
على كبدي منه كلوم صوادع
وأعجل للإشفاق حتى يشفني
مخافة شحط الدار والشمل جامع
وأعمد للأرض التي من ورائكم
ليرجعني يوما عليك الرواجع
فيا قلب صبرا واعترافا
429
لما ترى
ويا حبها قع بالذي أنت واقع
لعمري لمن أمسى وأنت ضجيعه
من الناس ما اختيرت عليه المضاجع
ألا تلك لبنى قد تراخى مزارها
وللبين غم ما يزال ينازع
إذا لم يكن إلا الجوى فكفى به
جوى حرق قد ضمنتها الأضالع
أبائنة لبنى ولم تقطع المدى
بوصل ولا صرم فييأس طامع
يظل نهار الوالهين نهاره
وتهدنه
430
في النائمين المضاجع
سواي فليلى من نهاري وإنما
تقسم بين الهالكين المصارع
ولولا رجاء القلب أن تعطف النوى
لما حملته بينهن الأضالع
له وجبات
431
إثر لبنى كأنها
شقائق برق في السحاب لوامع
نهاري نهار الناس حتى إذا دجا
لي الليل هزتني إليك المضاجع
أقضي نهاري بالحديث وبالمنى
ويجمعني بالليل والهم جامع
وقد نشأت في القلب منك مودة
كما نشأت في الراحتين الأصابع
أبى الله أن يلقى الرشاد متيم
ألا كل أمر حم لا بد واقع
هما برحا بي معولين كلاهما
فؤاد وعين ماقها
432
الدهر دامع
إذا نحن أنفدنا البكاء عشية
فموعدنا قرن من الشمس طالع
وللحب آيات تبين بالفتى
شحوب وتعرى من يديه الأشاجع
433
وما كل ما منتك نفسك خاليا
تلاقي ولا كل الهوى أنت تابع
تداعت له الأحزان من كل وجهة
فحن كما حن الظؤار السواجع
434
وجانب قرب الناس يخلو بهمه
وعاوده فيها هيام مراجع
أراك اجتنبت الحي من غير بغضة
ولو شئت لم تجنح إليك الأصابع
كأن بلاد الله ما لم تكن بها
وإن كان فيها الخلق قفر بلاقع
ألا إنما أبكي لما هو واقع
وهل جزع من وشك بينك نافع
أحال علي الدهر من كل جانب
ودامت ولم تقلع علي الفواجع
فمن كان محزونا غدا لفراقنا
فملآن فليبكي لما هو واقع (1-5) الشعر السياسي
أوضحنا لك في المجلد الأول ما لاستعمال الشعر من أثر في كثير من الحركات السياسية واستحثاث العزمات وإنهاض الهمم في الانقلابات الاجتماعية، وبينا ميزة استعمال الشعر في الأغراض السياسية في عصر الدولة الأموية، وذكرنا عدة أمثلة تبين ما وصل إليه هذا النوع الطريف، ووعدناك بذكر قصيدة النعمان بن بشير في هذا الباب. وها هي ذي:
النعمان بن بشير
435
قال أبو الفرج الأصفهاني: لما كثر الهجاء بين عبد الرحمن بن حسان وعبد الرحمن بن الحكم بن أبي العاصي وتفاحشا، كتب معاوية إلى سعيد بن العاصي، وهو عامله على المدينة، أن يجلد كل واحد منهما مائة سوط، وكان ابن حسان صديقا لسعيد وما مدح أحدا غيره قط، فكره أن يضربه أو يضرب ابن عمه، فأمسك عنهما؛ ثم ولي مروان، فلما قدم أخذ ابن حسان فضربه مائة سوط ولم يضرب أخاه، فكتب ابن حسان إلى النعمان بن بشير وهو بالشأم، وكان كبيرا أثيرا
436
مكينا عند معاوية، قال:
ليت شعري أغائب أنت بالشا
م خليلي أم راقد نعمان
أية ما يكن فقد يرجع الغا
ئب يوما ويوقظ الوسنان
إن عمرا وعامرا أبوينا
وحراما قدما على العهد كانوا
أفهم مانعوك أم قلة الكت
اب أم أنت عاتب غضبان
أم جفاء أم أعوزتك القراط
يس أم امري به عليك هوان
يوم أنبئت أن ساقي رضت
وأتتكم بذلك الركبان
ثم قالوا إن ابن عمك في بل
وى أمور أتى بها الحدثان
فنسيت الأرحام والود والصح
بة فيما أتت به الأزمان
إنما الرمح فاعلمن قناة
أو كبعض العيدان لولا السنان
قال أبو الفرج الأصبهاني:
دخل النعمان بن بشير على معاوية لما هجا الأخطل الأنصار، فلما مثل بين يديه أنشأ يقول:
معاوي إلا تعطنا الحق تعترف
لحى الأزد مشدودا عليها العمائم
أيشتمنا عبد الأراقم
437
ضلة
وماذا الذي تجدي عليك الأراقم
فما لي ثأر دون قطع لسانه
فدونك من يرضيه عنك الدراهم
وراع رويدا لا تسمنا دنية
لعلك في غب الحوادث نادم
متى تلق منا عصبة خزرجية
أو الأوس يوما تخترمك المخارم
وتلقاك خيل كالقطا مستطيرة
شماطيط
438
أرسال عليها الشكائم
439
يسومها العمران: عمرو بن عامر
وعمران حتى تستباح المحارم
ويبدو من الخود العزيزة حجلها
وتبيض من هول السيوف المقادم
فتطلب شعب الصدع بعد التئامه
فتغريه فالآن والأمر سالم
وإلا فثوبي لأمة تبعية
تواريث آبائي وأبيض صارم
وأسمر خطي كأن كعوبه
نوى القسب فيها لهذمي خثارم
فإن كنت لم تشهد ببدر وقيعة
أذلت قريشا والأنوف رواغم
فسائل بنا حيي لؤي بن غالب
وأنت بما يخفى من الأمر عالم
ألم تتبدر يوم بدر سيوفنا
وليلك عما ناب قومك قاتم
ضربناكم حتى تفرق جمعكم
وطارت أكف منكم وجماجم
وعاذت على البيت الحرام عرائس
وأنت على خوف عليك التمائم
وعضت قريش بالأنامل بغضة
ومن قبل ما عضت عليك الأداهم
فكنا لها في كل أمر نكيده
مكان الشجا والأمر فيه تفاقم
فما إن رمى رام فأوهى صفاتنا
ولا ضامنا يوما من الدهر ضائم
وإني لأغضي عن أمور كثيرة
سترقى بها يوما إليك السلالم
أصانع فيها عبد شمس وإنني
لتلك التي في النفس مني أكاتم
فما أنت والأمر الذي لست أهله
ولكن ولي الحق والأمر هاشم
إليهم يصير الأمر بعد شتاته
فمن لك بالأمر الذي هو لازم
بهم شرع الله الهدى فاهتدى بهم
ومنهم له هاد إمام وخاتم
فلما بلغت القصيدة معاوية أمر بدفع الأخطل إليه ليقطع لسانه، فاستجار بيزيد ابن معاوية، فمنعه منه، وأرضى النعمان حتى كف عنه.
وقال عمرو بن أبي عمرو الشيباني عن أبيه: لما ضرب مروان بن الحكم عبد الرحمن ابن حسان الحد، ولم يضرب أخاه حين تهاجيا وتقاذفا، كتب عبد الرحمن إلى النعمان ابن بشير يشكو إليه، فدخل إلى معاوية، وأنشأ يقول:
يابن أبي سفيان ما مثلنا
جار عليه ملك أو أمير
اذكر بنا مقدم أفراسنا
بالحنو إذ أنت إلينا فقير
واذكر غداة الساعدي الذي
آثركم بالأمر فيها بشير
فاحذر عليهم مثل بدر وقد
مر بكم يوم ببدر عمير
إن ابن حسان له ثائر
فأعطه الحق تصح الصدور
ومثل أيام لنا شتتت
ملكا لكم أمرك فيها صغير
أما ترى الأزد وأشياعها
تجول خزرا كاظمات تزير
يصول حولي منهم معشر
إن صلت صالوا وهم لي نصير
يأبى لنا الضيم فلا يعتلي
عز منيع وعديد كثير
وعنصر في عز جرثومة
عادية تنقل عنها الصخور
هوامش
ملحق الكتاب الثاني
باب المنثور
شرحنا لك في المجلد الأول ما كانت عليه الكتابة في عصر العباسيين من جودة اللفظ، ومتانة الأسلوب، وجلاء المعنى، ووضوح القصد وبساطته . ووعدناك بذكر طرف من رسائل القوم في ذلك العصر الزاهي الزاهر؛ وإليك ما وعدناك به: (1) مشاورة المهدي لأهل بيته في حرب خراسان
قال ابن عبد ربه في العقد الفريد: هذا ما تراجع فيه المهدي ووزراؤه وما دار بينهم من تدبير الرأي في حرب خراسان أيام تحاملت عليهم العمال وأعنفت، فحملتهم الدالة وما تقدم لهم من المكانة على أن نكثوا بيعتهم، ونقضوا موثقهم، وطردوا العمال، والتووا بما عليهم من الخراج؛ وحمل المهدي ما يحب من مصلحتهم ويكره من عنتهم على أن أقال عثرتهم، واغتفر زلتهم، واحتمل دالتهم، تطولا بالفضل واتساعا بالعفو، وأخذا بالحجة ورفقا بالسياسة؛ ولذلك لم يزل مذ حلمه الله أعباء الخلافة وقلده أمور الرعية رفيقا بمدار سلطانه، بصيرا بأهل زمانه، باسطا للمعدلة في رعيته، تسكن إلى كنفه وتأنس بعفوه وتثق بحلمه؛ فإذا وقعت الأقضية اللازمة والحقوق الواجبة، فليس عنده هوادة ولا إغضاء ولا مداهنة، أثرة للحق وقياما بالعدل وأخذا بالحزم؛ فدعا أهل خراسان الاغترار بحلمه والثقة بعفوه أن كسروا
1
الخراج وطردوا العمال وسألوا ما ليس لهم من الحق، ثم خلطوا احتجاجا باعتذار، وخصومة بإقرار، وتنصلا باعتلال؛ فلما انتهى ذلك إلى المهدي خرج إلى مجلس خلائه وبعث إلى نفر من لحمته ووزرائه، فأعلمهم الحال واستنصحهم للرعية، ثم أمر الموالي بالابتداء، وقال للعباس بن محمد: أي عم! تعقب قولنا وكن حكما بيننا؛ وأرسل إلى ولديه موسى وهارون، فأحضرهما الأمر وشاركهما في الرأي، وأمر محمد بن
2
الليث بحفظ مراجعتهم، وإثبات مقالتهم في كتاب.
فقال سلام
3
صاحب المظالم: أيها المهدي، إن في كل أمر غاية، ولكل قوم صناعة؛ استفرغت رأيهم، واستغرقت أشغالهم، واستنفدت أعمارهم، وذهبوا بها وذهبت بهم، وعرفوا بها وعرفت بهم؛ ولهذه الأمور التي جعلتنا فيها غاية، وطلبت معونتنا عليها أقوام من أبناء الحرب وساسة الأمور وقادة الجنود وفرسان الهزاهز
4
وإخوان التجارب، وأبطال الوقائع؛ الذين رشحتهم سجالها، وفيأتهم ظلالها، وعضتهم شدائدها، وقرمتهم نواجذها؛ فلو عجمت ما قبلهم، وكشفت ما عندهم؛ لوجدت نظائر تؤيد أمرك، وتجارب توافق نظرك، وأحاديث تقوي قلبك؛ فأما نحن معاشر عمالك، وأصحاب دواوينك، فحسن بنا وكثير منا أن نقوم بثقل ما حملتنا من عملك، واستودعتنا من أمانتك، وشغلتنا به من إمضاء عدلك، وإنفاذ حكمك، وإظهار حقك.
فأجابه المهدي: إن في كل قوم حكمة، ولكل زمان سياسة، وفي كل حال تدبيرا يبطل الآخر الأول، ونحن أعلم بزماننا وتدبير سلطاننا.
قال: نعم أيها المهدي، أنت متبع الرأي، وثيق العقدة، قوي المنة،
5
بليغ الفطنة، معصوم النية، محضور الروية ، مؤيد البديهة، موفق العزيمة، معان بالظفر، مهدي إلى الخير؛ إن هممت نفى عزمك مواقع الظن، وإن اجتمعت صدع فعلك ملتبس الشك؛ فاعزم يهد الله إلى الصواب قلبك، وقل ينطق الله بالحق لسانك؛ فإن جنودك جمة، وخزائنك عامرة، ونفسك سخية، وأمرك نافذ.
فأجابه المهدي: إن المشاورة والمناظرة بابا رحمة، ومفتاحا بركة؛ لا يهلك عليهما رأي، ولا يتغيل
6
معهما حزم، فأشيروا برأيكم، وقولوا بما يحضركم؛ فإني من ورائكم، وتوفيق الله من وراء ذلك.
قال الربيع: أيها المهدي، إن تصاريف وجوه الرأي كثيرة، وإن الإشارة ببعض معاريض
7
القول يسيرة؛ ولكن خراسان أرض بعيدة المسافة، متراخية الشقة، متفاوتة السبيل؛ فإذا ارتأيت من محكم التدبير، ومبرم التقدير، ولباب الصواب، رأيا قد أحكمه نظرك، وقلبه تدبيرك، فليس وراءه مذهب طاعن، ولا دونه معلق لخصومة عائب؛ ثم أجبت البرد به، وانطوت الرسل عليه، كان بالحرى ألا يصل إليهم محكمه إلا وقد حدث منهم ما ينقضه؛ فما أيسر أن ترجع إليك الرسل، وترد عليك الكتب بحقائق أخبارهم، وشوارد آثارهم، ومصادر أمورهم؛ فتحدث رأيا غيره وتبتدع تدبيرا سواه؛ وقد انفرجت الحلق، وتحللت العقد، واسترخى الحقاب،
8
وامتد الزمان، ثم لعلما موقع الآخرة كمصدر الأولى؛ ولكن الرأي لك أيها المهدي - وفقك الله - أن تصرف إجالة النظر، وتقليب الفكر، فيما جمعتنا له، واستشرتنا فيه من التدبير لحربهم، والحيل في أمرهم، إلى الطلب لرجل ذي دين فاضل، وعقل كامل، وورع واسع، ليس موصوفا بهوى في سواك، ولا متهما في أثرة عليك، ولا ظنينا
9
على دخلة مكروهة، ولا منسوبا إلى بدعة محذورة؛ فيقدح في ملكك، ويربض
10
الأمور لغيرك ؛ ثم تسند إليه أمورهم، وتفوض إليه حربهم، وتأمره في عهدك ووصيتك إياه بلزوم أمرك ما لزمه الحزم، وخلاف نهيك إذا خالفه الرأي عند استحالة الأمور، واشتداد الأحوال التي ينقض أمر الغائب عنها، ويثبت رأي الشاهد لها؛ فإنه إذا فعل ذلك فواثب أمرهم من قريب، وسقط عنه ما يأتي من بعيد، تمت الحيلة وقويت المكيدة، ونفذ العمل وأحد النظر، إن شاء الله.
قال الفضل بن العباس: أيها المهدي، إن ولي الأمور وسائس الحروب ربما نحى جنوده، وفرق أمواله في غير ما ضيق أمر حزبه، ولا ضغطة حال اضطرته؛ فيقعد عند الحاجة إليها، وبعد التفرقة لها عديما منها فاقدا لها، لا يثق بقوة، ولا يصول بعدة، ولا يفزع إلى ثقة؛ فالرأي لك أيها المهدي - وفقك الله - أن تعفي خزائنك من الإنفاق للأموال، وجنودك من مكابدة الأسفار، ومقارعة الأخطار، وتغرير القتال، ولا تسرع للقوم في الإجابة إلى ما يطلبون، والعطاء لما يسألون؛ فيفسد عليك أدبهم، وتجرئ من رعيتك غيرهم؛ ولكن اغزهم بالحيلة، وقاتلهم بالمكيدة، وصارعهم باللين، وخاتلهم بالرفق، وأبرق
11
لهم بالقول، وأرعد نحوهم بالفعل؛ وابعث البعوث،
12
وجند الجنود، وكتب الكتائب، واعقد الألوية، وانصب الرايات، وأظهر أنك موجه إليهم الجيوش مع أحنق قوادك عليهم، وأسوئهم أثرا فيهم؛ ثم ادسس الرسل، وابثث الكتب، وضع بعضهم على طمع من وعدك، وبعضا على خوف من وعيدك؛ وأوقد بذلك وأشباهه نيران التحاسد فيهم، واغرس أشجار التنافس بينهم، حتى تملأ القلوب من الوحشة، وتنطوي الصدور على البغضة، ويدخل كلا من كل الحذر والهيبة؛ فإن مرام الظفر بالغيلة، والقتال بالحيلة، والمناصبة بالكتب، والمكايدة بالرسل، والمقارعة بالكلام اللطيف المدخل في القلوب، القوي الموقع من النفوس، المعقود بالحجج، الموصول بالحيل، المبني على اللين الذي يستميل القلوب؛ ويسترق العقول والآراء، ويستميل الأهواء، ويستدعي المواتاة، أنفذ من القتال بظبات السيوف وأسنة الرماح؛ كما أن الوالي الذي يستنزل طاعة رعيته بالحيل، ويفرق كلمة عدوه بالمكايدة، أحكم عملا وألطف منظرا وأحسن سياسة من الذي لا ينال ذلك إلا بالقتال، والإتلاف للأموال والتغرير والخطار.
13
وليعلم المهدي أنه إن وجه لقتالهم رجلا لم يسر لقتالهم إلا بجنود كثيفة، تخرج عن حال شديدة، وتقدم على أسفار ضيقة، وأموال متفرقة، وقواد غششة؛ إن ائتمنهم استنفدوا ما له، وإن استنصحهم كانوا عليه لا له.
قال المهدي: هذا رأي قد أسفر نوره، وأبرق ضوءه، وتمثل صوابه للعيون، ومجد حقه في القلوب، ولكن فوق كل ذي علم عليم؛ ثم نظر إلى ابنه علي فقال: ما تقول؟
قال علي: أيها المهدي، إن أهل خراسان لم يخلعوا عن طاعتك، ولم ينصبوا من دونك أحدا يقدح في تغيير ملكك، ويربض الأمور لفساد دولتك؛ ولو فعلوا لكان الخطب أيسر، والشأن أصغر والحال أدل، لأن الله مع حقه الذي لا يخذله، وعند موعده الذي لا يخلفه، ولكنهم قوم من رعيتك، وطائفة من شيعتك الذين جعلك الله عليهم واليا، وجعل العدل بينك وبينهم حاكما، طلبوا حقا، وسألوا إنصافا، فإن أجبت إلى دعوتهم ونفست
14
عنهم قبل أن يتلاحم منهم حال، أو يحدث من عندهم فتق، أطعت أمر الرب، وأطفأت نائرة
15
الحرب، ووفرت خزائن المال، وطرحت تغرير القتال، وحمل الناس محمل ذلك على طبيعة جودك، وسجية حلمك، وإسجاح
16
خليقتك، ومعدلة نظرك، فأمنت أن تنسب إلى ضعف، وأن يكون ذلك فيما بقي دربة؛ وإن منعتهم ما طلبوا ولم تجبهم إلى ما سألوا، اعتدلت بك وبهم الحال، وساويتهم في ميدان الخطاب؛ فما أرب المهدي أن يعمد إلى طائفة من رعيته، مقرين بمملكته، مذعنين لطاعته، لا يخرجون أنفسهم عن قدرته، ولا يبرئونها من عبوديته، فيملكهم أنفسهم ويخلع نفسه عنهم، ويقف على الحيل معهم، ثم يجازيهم السوء في حد المنازعة ومضمار المخاطرة؛ أيريد المهدي - وفقه الله - الأموال؟ فلعمري لا ينالها ولا يظفر بها إلا بإنفاق أكثر منها، مما يطلب منهم وأضعاف ما يدعي قبلهم، ولو نالها فحملت إليه، أو وضعت بخرائطها
17
بين يديه، ثم تجافى لهم عنها وطال عليهم بها، لكان مما إليه ينسب وبه يعرف من الجود الذي طبعه الله عليه، وجعل قرة عينه ونهمة نفسه فيه.
فإن قال المهدي: هذا رأي مستقيم سديد في أهل الخراج الذين شكوا ظلم عمالنا، وتحامل ولاتنا؛ فأما الجنود الذين نقضوا مواثيق العهود، وأنطقوا لسان الإرجاف
18
وفتحوا باب المعصية، وكسروا قيد الفتنة، فقد ينبغي لهم أن أجعلهم نكالا لغيرهم وعظة لسواهم؛ فيعلم المهدي أنه لو أتى بهم مغلولين في الحديد، مقرنين في الأصفاد؛ ثم اتسع لحقن دمائهم عفوه، ولإقالة عثرتهم صفحه؛ واستبقاهم لما هم فيه من حزبه، أو لمن بإزائهم من عدوه، لما كان بدعا من رأيه، ولا مستنكرا من نظره، لقد علمت العرب أنه أعظم الخلفاء والملوك عفوا، وأشدها وقعا، وأصدقها صولة؛ وأنه لا يتعاظمه عفو، ولا يتكاءده
19
صفح، وإن عظم الذنب وجل الخطب، فالرأي للمهدي - وفقه الله تعالى - أن يحل عقدة الغيظ بالرجاء لحسن ثواب الله في العفو عنهم، وأن يذكر أولى حالاتهم وضيعة عيالاتهم، برا بهم وتوسعا لهم؛ فإنهم إخوان دولته، وأركان دعوته، وأساس حقه الذين بعزتهم يصول، وبحجتهم يقول، وإنما مثلهم فيما دخلوا فيه من مساخطه، وتعرضوا له من معاصيه، وانطووا فيه عن إجابته، ومثله في قلة ما غير ذلك من رأيه فيهم، أو نقل من حاله لهم، أو تغير من نعمته بهم، كمثل رجلين أخوين متناصرين متآزرين، أصاب أحدهما خبل عارض، ولهو حادث، فنهض إلى أخيه بالأذى، وتحامل عليه بالمكروه، فلم يزدد أخوه إلا رقة له ولطفا به، واحتيالا لمداواة مرضه ومراجعة حاله؛ عطفا عليه وبرا به ومرحمة له.
فقال المهدي: أما علي فقد كوى سمت اللبان، وفض القلوب في أهل خراسان، ولكل نبأ مستقر، ثم قال: ما ترى يا أبا محمد؟ يعني موسى ابنه.
فقال موسى: أيها المهدي، لا تسكن إلى حلاوة ما يجري من القول على ألسنتهم، وأنت ترى الدماء تسيل من خلل فعلهم؛ الحال من القوم ينادي بمضمرة شر، وخفية حقد؛ قد جعلوا المعاذير عليها سترا، واتخذوا العلل من دونها حجابا؛ رجاء أن يدفعوا الأيام بالتأخير، والأمور بالتطويل؛ فيكسروا حيل المهدي فيهم، ويفنوا جنوده عنهم حتى يتلاحم أمرهم، وتتلاحق مادتهم، وتستفحل حربهم، وتستمر الأمور بهم؛ والمهدي من قولهم في حال غرة ولباس أمنة، قد فتر لها وأنس بها وسكن إليها؛ ولولا ما اجتمعت به قلوبهم، وبردت عليه جلودهم من المناصبة بالقتال، والإضمار للقراع عن داعية ضلال، أو شيطان فساد، لرهبوا عواقب أخبار الولاة، وغب سكون الأمور؛ فليشدد المهدي - وفقه الله - أزره لهم ويكتب كتائبه نحوهم، وليضع الأمر على أشد ما يحضره فيهم، وليوقن أنه لا يعطيهم خطة يريد بها صلاحهم إلا كانت دربة إلى فسادهم، وقوة على معصيتهم، وداعية إلى عودتهم؛ وسببا لفساد من بحضرته من الجنود، ومن ببابه من الوفود، الذين إن أقرهم وتلك العادة، وأجراهم على ذلك الأرب، ولم يبرح في فتق حادث وخلاف حاضر؛ لا يصلح عليه دين، ولا تستقيم به دنيا؛ وإن طلب تغييره بعد استحكام العادة، واستمرار الدربة، لم يصل إلى ذلك إلا بالعقوبة المفرطة، والمئونة الشديدة، والرأي للمهدي - وفقه الله - ألا يقيل عثرتهم، ولا يقبل معذرتهم، حتى تطأهم الجيوش، وتأخذهم السيوف، ويستحر
20
بهم القتل، ويحدق بهم الموت، ويحيط بهم البلاء، ويطبق عليهم الذل؛ فإن فعل المهدي بهم ذلك، كان مقطعة لكل عادة سوء فيهم، وهزيمة لكل بادرة شر منهم، واحتمال المهدي مئونة غزوتهم هذه يضع عنه غزوات كثيرة، ونفقات عظيمة.
قال المهدي: قد قال القوم فاحكم يا أبا الفضل.
فقال العباس بن محمد: أيها المهدي: أما الموالي فأخذوا بفروع الرأي، وسلكوا جنبات الصواب، وتعدوا أمورا قصر بنظرهم عنها أنه لم تأت تجاربهم عليها.
وأما الفضل فأشار بالأموال ألا تنفق، والجنود ألا تفرق، وبألا يعطي القوم ما طلبوا، ولا يبذل لهم ما سألوا، وجاء بأمر بين ذلك استصغارا لأمرهم واستهانة بحربهم؛ وإنما يهيج جسيمات الأمور صغارها.
وأما علي فأشار باللين وإفراط الرفق، وإذا جرد الوالي لمن غمط
21
أمره وسفه حقه، اللين بحتا والخير محضا، لم يخلطهما بشدة تعطف القلوب عن لينه، ولا بشر يحبسهم إلى خيره، فقد ملكهم الخلع لعذرهم
22
ووسع لهم الفرجة لثنى أعناقهم؛ فإن أجابوا دعوته وقبلوا لينه من غير خوف اضطرهم ولا شدة، فنزوة
23
في رءوسهم يستدعون بها البلاء إلى أنفسهم، ويستصرخون بها رأي المهدي فيهم؛ وإن لم يقبلوا دعوته ويسرعوا لإجابته باللين المحض والخير الصراح، فذلك ما عليه الظن بهم والرأي فيهم، وما قد يشبه أن يكون من مثلهم، لأن الله تعالى خلق الجنة وجعل فيها من النعيم المقيم والملك الكبير ما لا يخطر على قلب بشر ولا تدركه الفكر ولا تعلمه نفس؛ ثم دعا الناس إليها ورغبهم فيها، فلولا أنه خلق نارا جعلها لهم رحمة يسوقهم بها إلى الجنة، لما أجابوا لا قبلوا.
وأما موسى فأشار بأن يعصبوا
24
بشدة لا لين فيها، وأن يرموا بشر لا خير معه، وإذا أضمر الوالي لمن فارق طاعته، وخالف جماعته، الخوف مفردا، والشر مجردا، ليس معهما طمع ولا لين يثنيهم، اشتدت الأمور بهم، وانقطعت الحال منهم إلى أحد أمرين: إما أن تدخلهم الحمية من الشدة، والأنفة من الذلة، والامتعاض من القهر؛ فيدعهم ذلك إلى التمادي في الخلاف، والاستبسال في القتال، والاستسلام للموت؛ وإما أن ينقادوا بالكره، ويذعنوا بالقهر على بغضة لازمة، وعدواة باقية، تورث النفاق وتعقب الشقاق؛ فإذا أمكنتهم فرصة، أو ثابت لهم قدرة، أو قويت لهم حال؛ عاد أمرهم إلى أصعب وأغلظ وأشد مما كان.
وقال في قول الفضل: أيها المهدي، أكفى دليل، وأوضح برهان، وأبين خبر بان؛ قد أجمع رأيه وحزم نظره على الإرشاد ببعثة الجيوش إليهم، وتوجيه البعوث نحوهم، مع إعطائهم ما سألوا من الحق، وإجابتهم إلى ما سألوه من العدل.
قال المهدي: ذلك رأى.
قال هارون: ما خلطت الشدة أيها المهدي باللين، وانتظم أمر الدنيا بالدين، فصارت الشدة أمر فطام
25
لما تكره، وعاد اللين أهدى قائد إلى ما تحب؛ ولكن أرى غير ذلك.
قال المهدي: لقد قلت قولا بديعا، خالفت فيه أهل بيتك جميعا؛ والمرء مؤتمن بما قال، وظنين
26
بما ادعى حتى يأتي ببينة عادلة، وحجة ظاهرة، فاخرج عما قلت.
قال هارون: أيها المهدي، إن الحرب خدعة، والأعاجم قوم مكرة؛ وربما اعتدلت الحال بهم، واتفقت الأهواء منهم؛ فكان باطن ما يسرون على ظاهر ما يعلنون، وربما افترقت الحالان، وخالف القلب اللسان، فانطوى القلب على محجوبة تبطن، واستسر بمدخولة لا تعلن؛ والطبيب الرفيق بطبه، البصير بأمره، العالم بمقدم يده وموضع ميسمه؛
27
لا يتعجل بالدواء، حتى يقع على معرفة الداء، فالرأي للمهدي - وفقه الله - أن يفر باطن أمرهم فر
28
المسنة، ويمخض ظاهر حالهم مخض السقاء بمتابعة الكتب، ومظاهرة الرسل، وموالاة العيون، حتى تهتك حجب عيونهم، وتكشف أغطية أمورهم؛ فإن انفرجت الحال، وأفضت الأمور به إلى تغيير حال أو داعية ضلال، اشتملت الأهواء عليه، وانقاد الرجال إليه، وامتدت الأعناق نحوه بدين يعتقدونه، وإثم يستحلونه، عصبهم بشدة لا لين فيها، ورماهم بعقوبة لا عفو معها، وإن انفرجت العيون، واهتصرت الستور، ورفعت الحجب، والحال فيهم مريعة، والأمور بهم معتدلة في أرزاق يطلبونها، وأعمال ينكرونها، وظلامات يدعونها، وحقوق يسألونها، بماتة
29
سابقتهم، ودالة مناصحتهم؛ فالرأي للمهدي - وفقه الله - أن يتسع لهم بما طلبوا، ويتجلى لهم عما كرهوا، ويشعب من أمرهم ما صدعوا، ويرتق من فتقهم ما قطعوا، ويولي عليهم من أحبوا؛ ويداوي بذلك مرض قلوبهم، وفساد أمورهم؛ فإنما المهدي وأمته، وسواد أهل مملكته، بمنزلة الطبيب الرفيق، والوالد الشفيق، والراعي المجرب الذي يحتال لمرابض غنمه، وضوال رعيته، حتى يبرئ المريضة من داء علتها ويرد الصحيحة إلى أنس جماعتها؛ ثم إن خرسان بخاصة الدين لهم دالة محمولة، وماتة مقبولة، ووسيلة معروفة، وحقوق واجبة؛ لأنهم أيدي دولته، وسيوف دعوته، وأنصار حقه، وأعوان عدله؛ فليس من شأن المهدي الاضطغان عليهم، ولا المؤاخذة لهم، ولا التوغير
30
بهم، ولا المكافأة بإساءتهم، لأن مبادرة حسم الأمور ضعيفة قبل أن تقوى، ومحاولة قطع الأصول ضئيلة قبل أن تغلظ، أحزم في الرأي، وأصح في التدبير من التأخير لها والتهاون بها، حتى يلتئم قليلها بكثيرها، وتجتمع أطرافها إلى جمهورها.
قال المهدي: ما زال هارون يقع وقع الحيا حتى خرج خروج القدح من الماء، وانسل انسلال السيف فيما ادعى، فدعوا ما سبق موسى فيه أنه هو الرأي، وثنى بعده هارون، ولكن من لأعنة الخيل وسياسة الحرب وقادة الناس إن أمعن بهم اللجاج، وأفرط بهم الدالة؟
قال صالح: لسنا نبلغ أيها المهدي بدوام البحث وطول الفكر أدنى فراسة رأيك، وبعض لحظات نظرك؛ وليس ينفض عنك من بيوتات العرب ورجال العجم ذو دين فاضل، ورأى كامل، وتدبير قوي؛ تقلده حربك، وتستودعه جندك، ممن يحتمل الأمانة العظيمة، ويضطلع بالأعباء الثقيلة؛ وأنت بحمد الله ميمون النقيبة،
31
مبارك العزيمة، مخبور التجارب، محمود العواقب، معصوم العزم؛ فليس يقع اختيارك، ولا يقف نظرك على أحد توليه أمرك، وتسند إليه ثغرك، إلا أراك الله ما تحب، وجمع لك منه ما تريد.
قال المهدي: إني لأرجو ذلك لقديم عادة الله فيه، وحسن معونته عليه؛ ولكن أحب الموافقة على الرأي، والاعتبار للمشاورة في الأمر المهم.
قال محمد بن الليث: أهل خراسان أيها المهدي، قوم ذوو عزة ومنعة، وشياطين خدعة؛ زروع الحمية فيهم ثابتة، وملابس الأنفة عليهم ظاهرة؛ فالروية عنهم عازبة،
32
والعجلة فيهم حاضرة؛ تسبق سيولهم مطرهم، وسيوفهم عذلهم،
33
لأنهم بين سفلة لا يعدو مبلغ عقولهم منظر عيونهم، وبين رؤساء لا يلجمون إلا بشدة، ولا يفطمون إلا بالمر؛ وإن ولي المهدي عليهم وضيعا لم تنقد له العظماء، وإن ولي أمرهم شريفا تحامل على الضعفاء؛ وإن أخر المهدي أمرهم، ودافع حربهم، حتى يصيب لنفسه من حشمه ومواليه، أو بني عمه أو بني أبيه؛ ناصحا يتفق عليه أمرهم، وثقة تجتمع له أملاؤهم بلا أنفة تلزمهم، ولا حمية تدخلهم، ولا مصيبة تنفرهم؛ تنفست الأيام بهم، وتراخت الحال بأمرهم؛ فدخل بذلك من الفساد الكبير، والضياع العظيم، ما لا يتلافاه صاحب هذه الصفة وإن جد، ولا يستصلحه وإن جهد، إلا بعد دهر طويل وشر كبير؛ وليس المهدي - وفقه الله - فاطما عاداتهم، ولا قارعا صفاتهم، بمثل أحد رجلين لا ثالث لهما، ولا عدل في ذلك بهما: أحدهما لسان ناطق موصول بسمعك، ويد ممثلة لعينك، وصخرة لا تزعزع، وبهمة لا يثنى؛ وبازل لا يفزعه صوت الجلجل، نقي العرض، نزيه النفس، جليل الخطر، قد اتضعت الدنيا عن قدره، وسما نحو الآخرة بهمته، فجعل الغرض الأقصى لعينه نصبا، والغرض الأدنى لقدمه موطئا؛ فليس يقبل عملا، ولا يتعدى أملا ؛ وهو رأس مواليك، وأنصح بني أبيك؛ رجل قد غذي بلطيف كرامتك، ونبت في ظل دولتك، ونشأ على قوائم أدبك؛ فإن قلدته أمرهم، وحملته ثقلهم، وأسندت إليه ثغرهم؛ كان قفلا فتحه أمرك، وبابا أغلقه نهيك؛ فجعل العدل عليه وعليهم أميرا، والإنصاف بينه وبينهم حاكما؛ وإذا حكم النصفة وسلك المعدلة، فأعطاهم ما لهم وأخذ منهم ما عليهم، غرس في الذي لك بين صدورهم، وأسكن لك في السويداء داخل قلوبهم، طاعة راسخة، باسقة الفروع، متماثلة في حواشي عوامهم، متمكنة من قلوب خواصهم؛ فلا يبقى فيهم ريب إلا نفوه، ولا يلزمهم حق إلا أدوه؛ وهذا أحدهما.
والآخر عود من غيضتك؛ ونبعة من أرومتك، فتي السن كهل الحلم راجح العقل محمود الصرامة مأمون الخلاف؛ يجرد فيهم سيفه، ويبسط عليهم خيره بقدر ما يستحقون، وعلى حسب ما يستوجبون؛ وهو فلان أيها المهدي؛ فسلطه - أعزك الله - عليهم، ووجهه بالجيوش إليهم، ولا تمنعك ضراعة
34
سنه، وحداثة مولده؛ فإن الحلم والثقة مع الحداثة، خير من الشك والجهل مع الكهولة؛ وإنما أحداثكم أهل البيت فيما طبعكم الله عليه، واختصكم به من مكارم الأخلاق، ومحامد الفعال، ومحاسن الأمور، وصواب التدبير، وصرامة الأنفس؛ كفراخ عتاق
35
الطير المحكمة لأخذ الصيد بلا تدريب، والعارفة لوجوه النفع بلا تأديب؛ فالحلم والعلم والعزم والحزم والجود والتؤدة والرفق ثابت في صدوركم، مزروع في قلوبكم، مستحكم لكم، متكامل عندكم، بطبائع لازمة، وغرائز ثابتة.
قال معاوية بن عبد الله: إفتاء أهل بيتك أيها المهدي في الحلم على ما ذكر. وأهل خراسان في حال عز على ما وصف، ولكن إن ولى المهدي عليهم رجلا ليس بقديم الذكر في الجنود، ولا بنبيه الصوت في الحروب، ولا بطويل التجربة للأمور، ولا بمعروف السياسة للجيوش والهيبة في الأعداء؛ دخل ذلك أمران عظيمان وخطران مهولان، أحدهما: أن الأعداء يغتمزونها منه ويحتقرونها فيه، ويجترئون بها عليه في النهوض به والمقارعة له، والخلاف عليه، قبل الاختبار لأمره، والتكشف لحاله والعلم بطباعه. والأمر الآخر: أن الجنود التي يقود والجيوش التي يسوس إذا لم يختبروا منه البأس والنجدة ، ولم يعرفوه بالصيت والهيبة، انكسرت شجاعتهم، وماتت نجدتهم، واستأخرت طاعتهم إلى حين اختبارهم، ووقوع معرفتهم؛ وربما وقع البوار قبل الاختبار؛ وبباب المهدي - وفقه الله - رجل مهيب نبيه حنيك صيت؛ له نسب زاك وصوت عال، قد قاد الجيوش وساس الحروب، وتألف أهل خراسان، واجتمعوا عليه بالمقة، ووثقوا به كل الثقة؛ فلو ولاه المهدي أمرهم، لكفاه الله شرهم.
قال المهدي: جانبت قصد الرمية، وأبيت إلا عصبية؛ إذ رأي الحدث من أهل بيتنا، كرأي عشرة حلماء من غيرنا؛ ولكن أين تركتم ولي العهد.
قالوا: لم يمنعنا من ذكره إلا كونه شبيه جده، ونسيج وحده؛ ومن الدين وأهله، بحيث يقصر القول عن أدنى فضله؛ ولكن وجدنا الله عز وجل حجب عن خلقه، وستر من دون عباده علم ما تختلف به الأيام، ومعرفة ما تجري عليه المقادير، من حوادث الأمور وريب المنون المخترمة لخوالي القرون ومواضي الملوك، فكرهنا شسوعه
36
عن محلة الملك ودار السلطان ومقر الإمامة والولاية وموضع المدائن والخزائن، ومستقر الجنود ومعدن الجود؛ ومجمع الأموال التي جعلها الله قطبا لدار الملك ومصيدة لقلوب الناس ومثابة لإخوان الطمع وثوار الفتن، ودواعي البدع وفرسان الضلال وأبناء الموت. وقلنا: إن وجه المهدي ولي عهده فحدث في جيوشه وجنوده ما قد حدث بجنود الرسل من قبله، لم يستطع المهدي أن يعقبهم بغيره إلا أن ينهد إليهم بنفسه؛ وهذا خطر عظيم وهول شديد، إن تنفست الأيام بمقامه، واستدارت الحال بإمامه، حتى يقع عوض لا يستغنى عنه، أو يحدث أمر لا بد منه، صار ما بعده مما هو أعظم هولا وأجل خطرا له تبعا وبه متصلا.
قال المهدي: الخطب أيسر مما تذهبون إليه، وعلى غير ما تصفون الأمر عليه؛ نحن أهل البيت نجري من أسباب القضايا ومواقع الأمور، على سابق من العلم ومحتوم من الأمر؛ قد أنبأت به الكتب، ونبأت عليه الرسل؛ وقد تناهى ذلك بأجمعه إلينا؛ وتكامل بحذافيره عندنا؛ فبه ندبر وعلى الله نتوكل. إنه لا بد لولي عهدي وولي عهد عقبي بعدي أن يقود إلى خراسان البعوث، ويتوجه نحوها بالجنود.
أما الأول فإنه يقدم إليهم رسله، ويعمل فيهم حيله؛ ثم يخرج نشطا إليهم حنقا عليهم، يريد ألا يدع أحدا من إخوان الفتن ودواعي البدع وفرسان الضلال، إلا توطأه بحر القتل، وألبسه قناع القهر، وقلده طوق الذل؛ ولا أحدا من الذين عملوا في قص جناح الفتنة، وإخماد نار البدعة، ونصرة ولاة الحق، إلا أجرى عليهم ديم فضله، وجداول نهله؛ فإذا خرج مزمعا به مجمعا عليه ، لم يسر إلا قليلا حتى تأتيه أن قد عملت حيله، وكدحت
37
كتبه ونفذت مكايده؛ فهدأت نافرة القلوب، ووقعت
38
طائرة الأهواء، واجتمع عليه المختلفون بالرضا؛ فيميل نظرا لهم، وبرا بهم، وتعطفا عليهم، إلى عدو قد أخاف سبيلهم، وقطع طريقهم، ومنع حجاجهم بيت الله الحرام، وسلب تجارهم رزق الله الحلال.
وأما الآخر فإنه يوجه إليهم، ثم تعتقد له الحجة عليهم، بإعطاء ما يطلبون، وبذل ما يسألون؛ فإذا سمحت الفرق بقراباتها له، وجنح أهل النواحي بأعناقهم نحوه؛ فأصغت إليه الأفئدة، واجتمعت له الكلمة؛ وقدمت عليه الوفود قصد لأول ناحية نجعت بطاعتها وألقت بأزمتها؛ فألبسها جناح نعمته، وأنزلها ظل كرامته، وخصها بعظيم حبائه؛ ثم عم الجماعة بالمعدلة، وتعطف عليهم بالرحمة؛ فلا تبقى فيهم ناحية دانية ولا فرقة قاصية، إلا دخلت عليها بركته، ووصلت إليها منفعته؛ فأغنى فقيرها، وجبر كسيرها، ورفع وضيعها، وزاد رفيعها ما خلا ناحيتين؛ ناحية يغلب عليها الشقاء، وتستميلهم الأهواء، فتستخف بدعوته، وتبطئ عن إجابته، وتتثاقل عن حقه، فتكون آخر من يبعث وأبطأ من يوجه؛ فيصطلي عليها موجدة ويبتغي لها علة، لا يلبث أن يجد بحق يلزمهم وأمر يجب عليهم، فتستلحمهم الجيوش، وتأكلهم السيوف، ويستحر بهم القتل، ويحيط بهم الأسر، ويفنيهم التتبع؛ حتى يخرب البلاد، ويوتم الأولاد؛ وناحية لا يبسط لهم أمانا، ولا يقبل لهم عهدا ولا يجعل لهم ذمة؛ لأنهم أول من فتح باب الفرقة، وتدرع جلباب الفتنة، وربض في شق العصا؛ ولكنه يقتل أعلامهم، ويأسر قوادهم؛ ويطلب هرابهم في لجج البحار، وقلل الجبال، وخمل الأودية، وبطون الأرض، تقتيلا وتغليلا وتنكيلا؛ حتى يدع الديار خرابا ، والنساء أيامى؛ وهذا أمر لا نعرف له في كتبنا وقتا، ولا نصحح منه غير ما قلنا تفسيرا.
وأما موسى ولي عهدي فهذا أوان توجهه إلى خراسان، وحلوله بجرجان؛ وما قضى الله له من الشخوص إليها، والمقام فيها، خير للمسلمين مغبة، وله بإذن الله عاقبة من المقام، بحيث يغمر في لجج بحورنا، ومدافع سيولنا، ومجامع أمواجنا؛ فيتصاغر عظيم فضله، ويتذأب،
39
مشرق نوره، وتقلل كثير ما هو كائن منه؛ فمن يصحبه من الوزراء ويختار له من الناس.
قال محمد بن الليث: أيها المهدي: إن ولي عهدك أصبح لأمتك وأهل ملتك علما، قد تثنت نحوه أعناقها، ومدت سمته أبصارها؛ وقد كان لقرب داره منك، ومحل جواره لك، عطل الحال غفل الأمر واسع العذر؛ فأما إذا انفرد بنفسه وخلا بنظره وصار إلى تدبيره، فإن من شأن العامة أن تتفقد
40
مخارج رأيه، وتستنصت لمواقع آثاره، وتسأل عن حوادث أحواله في بره ومرحمته وإقساطه ومعدلته وتدبيره وسياسته ووزرائه وأصحابه؛ ثم يكون ما سيق إليهم أغلب الأشياء عليهم وأملك
41
الأمور بهم وألزمها لقلوبهم، وأشدها استمالة لرأيهم وعطفا لأهوائهم؛ فلا يفتأ المهدي - وفقه الله - ناظرا له فيما يقوي عمد مملكته، ويسدد أركان ولايته، ويستجمع رضا أمته بأمر هو أزين لحاله وأظهر لجماله، وأفضل مغبة لأمره؛ وأجل موقعا في قلوب رعيته، وأحمد حالا في نفوس أهل ملته؛ ولا أدفع مع ذلك باستجماع الأهواء له، وأبلغ في استعطاف القلوب عليه، من مرحمة تظهر من فعله، ومعدلة تنتشر عن أثره ومحبة للخير وأهله، وأن يختار المهدي - وفقه الله - من خيار أهل كل بلدة، وفقهاء أهل كل مصر؛ أقواما تسكن إليهم العامة إذا ذكروا، وتأنس الرعية بهم إذا وصفوا؛ ثم تسهل لهم عمارة سبل الإحسان وفتح باب المعروف، كما قد كان فتح له وسهل عليه.
قال المهدي: صدقت ونصحت، ثم بعث في ابنه موسى فقال: أي بني، إنك قد أصبحت لسمت
42
وجوه العامة نصبا، ولمثنى أعطاف
43
الرعية غاية؛ فحسنتك شاملة، وإساءتك نائية، وأمرك ظاهر؛ فعليك بتقوى الله وطاعته، فاحتمل سخط الناس فيهما ، ولا تطلب رضاهم بخلافهما؛ فإن الله عز وجل كافيك من أسخطه عليك إيثارك رضاه، وليس بكافيك من يسخطه عليك إيثارك رضا من سواه. ثم اعلم أن لله تعالى في كل زمان فترة من رسله، وبقايا من صفوة خلقه وخبايا لنصرة حقه، يجدد حبل الإسلام بدعواهم، ويشيد أركان الدين بنصرتهم؛ ويتخذ لأولياء دينه أنصارا، وعلى إقامة عدله أعوانا؛ يسدون الخلل ويقيمون الميل، ويدفعون عن الأرض الفساد؛ وإن أهل خراسان أصبحوا أيدي دولتنا، وسيوف دعوتنا الذين نستدفع المكاره بطاعتهم، ونستصرف نزول العظائم بمناصحتهم؛ وندافع ريب الزمان بعزائمهم، ونزاحم ركن الدهر ببصائرهم؛ فهم عماد الأرض إذا أرجفت كنفها،
44
وخوف الأعداء إذا برزت صفحتها، وحصون الرعية إذا تضايقت الحال بها؛ قد مضت لهم وقائع صادقات، ومواطن صالحات؛ أخمدت نيران الفتن، وقسمت دواعي البدع، وأذلت رقاب الجبارين ولم ينفكوا كذلك ما جروا مع ريح دولتنا، وأقاموا في ظل دعوتنا، واعتصموا بحبل طاعتنا؛ التي أعز الله بها ذلتهم ورفع بها ضعتهم؛ وجعلهم بها أربابا في أقطار الأرض، وملوكا على رقاب العالمين بعد لباس الذل، وقناع الخوف، وإطباق البلاء ومحالفة الأسى، وجهد البأس والضر؛ فظاهر عليهم لباس كرامتك، وأنزلهم في حدائق نعمتك؛ ثم اعرف له حق طاعتهم، ووسيلة دالتهم، وماتة سابقتهم، وحرمة مناصحتهم؛ بالإحسان إليهم، والتوسعة عليهم، والإثابة لمحسنهم، والإقالة لمسيئهم.
أي بني، ثم عليك العامة فاستدع رضاها بالعدل عليها، واستجلب مودتها بالإنصاف لها؛ وتحسن بذلك لربك، وتوثق به في عين رعيتك، واجعل عمال العذر وولاة الحجج مقدمة بين عملك، ونصفة منك لرعيتك، وذلك أن تأمر قاضي كل بلد، وخيار أهل كل مصر، أن يختاروا لأنفسهم رجلا توليه أمرهم، وتجعل العدل حاكما بينه وبينهم؛ فإن أحسن حمدت، وإن أساء عذرت. هؤلاء عمال العذر وولاة الحجج، فلا يسقطن عليك ما في ذلك إذا انتشر في الآفاق، وسبق إلى الأسماع، من انعقاد ألسنة المرجفين، وكبت قلوب الحاسدين، وإطفاء نيران الحروب، وسلامة عواقب الأمور؛ ولا ينفكن في ظل كرامتك نازلا، وبعرا حبلك متعلقا رجلان: أحدهما كريمة
45
من كرائم رجالات العرب ، وأعلام بيوتات الشرف؛ له أدب فاضل، وحلم راجح، ودين صحيح. والآخر له دين غير مغموز،
46
وموضع غير مدخول، بصير بتقليب الكلام وتصريف الرأي وإنحاء العرب ووضع الكتب، عالم بحالات الحروب وتصاريف الخطوب؛ يضع آدابا نافعة وآثارا باقية، من محاسنك وتحسين أمرك وتحلية ذكرك؛ فتستشيره في حربك، وتدخله في أمرك؛ فرجل أصبته كذلك فهو يأوي إلى محلتي، ويرعى في خصرة جناني؛ ولا تدع أن تختار لك من فقهاء البلدان، وخيار الأمصار، أقواما يكونون جيرانك وسمارك، وأهل مشاورتك فيما تورد، وأصحاب مناظرتك فيما تصدر. فسر على بركة الله، أصحبك الله من عونه وتوفيقه دليلا يهدي إلى الصواب قلبك، وهاديا ينطق بالخير لسانك. وكتب في شهر ربيع الآخر سنة سبعين ومائة ببغداد. (2) رسالة أبي الربيع محمد بن الليث التي كتبها للرشيد إلى قسطنطين ملك الروم
من عبد الله هارون الرشيد أمير المؤمنين إلى قسطنطين عظيم الروم: سلام على من اتبع الهدى، فإني أحمد الله الذي لا شريك معه، ولا ولد له، ولا إله غيره، الذي تعالى عن شبه المحدودين بعظمته، واحتجب دون المخلوقين بعزته، فليست الأبصار بمدركة له، ولا الأوهام بواقعة عليه، انفرادا عن الأشياء أن يشبهها، وتعاليا أن يشبهه شيء منها، وهو الواحد القهار، الذي ارتفع عن مبالغ صفات القائلين، ومذاهب لغات العالمين، وفكر الملائكة المقربين، فليس كمثله شيء، وله كل شيء، وهو على كل شيء قدير.
أما بعد، فإن الله جل ثناؤه وتباركت أسماؤه، قال لنبيه
صلى الله عليه وسلم
فيما أنزل من آيات الوحي إليه:
ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين . فرأى أمير المؤمنين من أحسن قوله وأفضل فعله، أن يكون إلى سبيل ربه داعيا، وبرسوله
صلى الله عليه وسلم
متأسيا، ولقوله:
ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين
موافقا. وكنت من كتب الله المنزلة، وآياته المفسرة، وخلقه الكثير بحيث رجا أمير المؤمنين استماعك لموعظته؛ وانتفاعك بمجادلته انتفاع بشر كثير وخلق عظيم قد بؤت بأوزارهم مع وزرك، واحتملت من آثامهم إلى إثمك، فأحب أن يدعوك ومن رجا أن ينتفع بدعوته معك، إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله؛ فإن توليتم عن ذلك رغبة عنه، أو تركتموه زهادة فيه، فاشهدوا بأنا مسلمون. واستمعوا ما أمير المؤمنين واصف لكم، ومحتج به إن شاء الله عليكم، بقلوب شاهدة وآذان واعية، ثم اتبعوا أحسن ما تستمعون. ولا قوة إلا بالله.
فإن الله عز وجل يقول فيما أنزل من كتابه واقتص على عباده:
فبشر عباد * الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولو الألباب . إن الله تبارك اسمه وتعالى جده، وصف فيما أنزل من آياته، وشرح من بيناته، الأمم الماضية، والقرون الخالية، والملل المتفرقة، الذين يجعلون مع الله آلهة أخرى لا برهان لهم بها، ولا حجة لهم فيها، فقال:
يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا لكم إنما الله إله واحد سبحانه أن يكون له ولد له ما في السماوات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا * لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون .
قالت العرب الذين يعبدون الملائكة وأهل الكتاب الذين يقولون ثالث ثلاثة بأيتما آية يا محمد تزعم أن الله إله واحد؛ فأنزل الله عز وجل في ذلك آية تشهد لها العقول، وتؤمن بها القلوب، وتعرفها الألباب، فلا تستطيع لها ردا، ولا تطيق لها جحدا، ذكر فيها اتصال خلقه واتفاق صنعه، ليوقن الجاهلون من العرب والضالون من أهل الكتاب، أن إله السماء والأرض، وما بينهما من الهواء والخلق، واحد لا شريك له، خالق لا شيء معه، فقال:
إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس . فتفكر في تفسير هذه الآية من كلام الرب عز وجل، وما أوضح فيها من بيان الخلق، فإنه ما من مفكر ينظر فيما ذكر الله فيها مما بين السماء والأرض، إلا رأى من اتصال بعض ذلك ببعض، مثل ما رأى في تدبيره نفسه، وعرف من اتصال خلقه، فيما بين ذوائب شئون رأسه إلى أطراف أنامل قدمه. وفي ذلك أوضح آية وأبين دلالة، على أن الذي خلقه وصنعه إله واحد لا إله معه، ولا من شيء ابتدعه، ولا على مثال صنعه. قد ترون بعيونكم وتعلمون بعقولكم، أن الله عز وجل خلق للأنام الأرض، وجعلها موصولة بالخلق، فليس يدحوها إلا لهم، ولا يديمها إلا معهم، وجعل ذلك الخلق متصلا بالنبت، لا يقوم إلا به، ولا يصلح إلا عليه. وجعل ذلك النبت الذي جعله متاعا لكم ومعاشا لأنعامكم، متصلا بالماء الذي ينزل من السماء بقدر معلوم، لمعاش مقسوم؛ فليس ينجم النبت إلا به ولا يحيا إلا عنه. وجعل السحاب الذي يبسطه كيف يشاء متصلا بالريح المسخرة في جو السماء تثيره من حيث لا تعلمون، وتسوقه وأنتم تنظرون؛ كما قال عز وجل:
والله الذي أرسل الرياح فتثير سحابا فسقناه إلى بلد ميت فأحيينا به الأرض بعد موتها كذلك النشور
ووصل الرياح التي يصرفها في جو السماء بما يؤثر في خلق الهواء من الأزمنة التي لا تثبت الهواجر إلا بثباتها، ولا يزول عنه برد إلا بزوالها؛ ولولا ذلك لظل راكدا بالحر المميت، أو ماثلا
47
بالبرد القاتل. ووصل الأزمنة التي جعلها متصرفة متلونة بمسير الشمس والقمر الدائبين لكم المختلفين بالليل والنهار عليكم. وجعل مسيرهما الذي لا تعرفون عدد السنين إلا به، ولا مواقع الحساب إلا من قبله، متصلا بدوران الفلك الذي فيه يسبحان، وبه يأفلان؛ ووصل مسير الفلك بالسماء للناظرين سواء. فهذا خلق الله عز وجل، ما فيه تباين ولا تزايل ولا تفاوت؛ كما قال سبحانه وتعالى:
ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت . ولو كان لله شريك أو معه ظهير عليه، يمسك منه ما يرسل، ويرسل منه ما يمسك، أو يؤخر شيئا من ذلك عن وقت زمانه، أو يعجله قبل مجيء إبانه، لتفاوت الخلق، ولتباين الصنع، ولفسدت السموات والأرض، وذهب كل إله بما خلق، كما قال عز وجل - وكذب المبطلين:
بل أتيناهم بالحق وإنهم لكاذبون * ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض سبحان الله عما يصفون .
والعجب: كيف يصف مخلوق ربه، أو يجعل معه إلها غيره، وهو يرى فيما ذكر الله من هذه الأشياء صنعة ظاهرة، وحكمة بالغة، وتأليفا متفقا، وتدبيرا متصلا، من السماء والأرض، لا يقوم بعضه إلا ببعض، متجليا بين يديه، ماثلا نصب عينيه، يناديه إلى صانعه، ويدله على خالقه، ويشهد له على وحدانيته، ويهديه إلى ربوبيته،
فتعالى الله عما يشركون * أيشركون ما لا يخلق شيئا وهم يخلقون . حقا ما كرر هؤلاء الجاهلون بربهم الضالون عن أنفسهم، في خلق الله النظر، ولا رجعوا كما قال الله عز وجل الفكر. ولو أعملوا فكرهم وأجهدوا نظرهم، فيما تسمع آذانهم وترى أبصارهم، من حوادث حالات الخلق، وعجائب طبقات الصنع، لوجدوا في أقرب ما يرون بأعينهم: من التأليف لتركيب خلقهم، والأثر في التدبير بصنعهم، ما يدلهم على توحيد ربهم، ويقف بهم على انفراده بخلقهم. فإنهم يرون في أنفسهم بأعينهم ويجدون بقلوبهم، أنها مخلوقة صنعة بعد صنعة، ومحولة طبقة عن طبقة، ومنقولة حالا إلى حال: سلالة من طين، ثم نطفة من ماء مهين، ثم علقة، ثم مضغة، ثم عظما، كساه الله عز وجل لحما، ونفخ فيه روحا، فإذا هو خلق آخر، فتبارك الله أحسن الخالقين، الذي خلق في قرار مكين، من ماء قليل ضعيف ذليل، خلقا صوره بتخطيط، وقدره بتركيب، وألفه بأجزاء متفقة، وأعضاء متصلة، من قدم إلى ساق إلى فخذ إلى ما فوق ذلك: من مفاصل ما يعلن أو عجائب ما يبطن، ليعلم الجاهلون ويوقن الجاحدون، أن الذي صنع ذلك وخلقه ودبره وقدره وهيأ ظاهره وباطنه إله واحد لا شريك معه. فلا يذهبن ذكر هذا صفحا عنكم، ولا تسقط حكمته جهلا عليكم؛ وفكروا في آيات الرسل وبينات النذر، فإن في ذلك فكرا للمبصرين، وبصرا للمعتبرين، وذكرى للعابدين، والحمد لله رب العالمين.
وأمير المؤمنين واصف لكم، ومقتص من ذلك إن شاء الله عليكم، ما فيه شهادات واضحات، وعلامات بينات؛ ومبتدئ بذكر آيات نبينا
صلى الله عليه وسلم
فيما أنزل الله منها في الوحي إليه، فإنه ما أحد يقرع بآيات النبوة قلبه، ويحصن ببينات الهدى عقله، إلا قادته حتى يؤمن بمحمد
صلى الله عليه وسلم ، لا يجد إلى إنكار ما جاء به من الحق سبيلا. فأردت أن تكونوا على علم ومعرفة ويقين وثقة من أمر محمد
صلى الله عليه وسلم
وحقه، وما أنزل إليه من ربه عز وجل. فأحضر كتاب أمير المؤمنين فهمك، وألق إلى ما هو واصف إن شاء الله سمعتك. إن الله عز وجل اصطفى الإسلام لنفسه، واختار له رسلا من خلقه، وابتعث كل رسول بلسان قومه، ليبين لهم ما يتبعون، ويعلمهم ما يجهلون: من توحيد الرب وشرائع الحق:
لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وكان الله عزيزا حكيما . فلم تزل رسل الله قائمة بأمره، متوالية على حقه، في مواضي الدهور، وخوالي القرون، وطبقات الزمان، يصدق آخرهم بنبوة أولهم، ويصدق أولهم قول آخرهم؛ ومفاتح دعوتهم واحدة لا تختلف، ومجامع ملتهم ملتئمة لا تفترق، حتى تناهت الولاية والوراثة التي بنى عيسى عليه السلام عليها وبشر بها، إلى النبي الأمي الذي انتخبه الله لوحيه، واختاره بعلمه؛ فلم يزل ينقله بالآباء الأخاير، والأمهات الطواهر، أمة فأمة، وقرنا فقرنا، حتى استخرجه الله في خير أوان، وأفضل زمان من أثبت محاتد
48
أرومات
49
البرية أصلا، وأعلى ذوائب نبعات
50
العرب فرعا، وأطيب منابت أعياض
51
قريش مغرسا، وأرفع ذرى مجد بني هاشم سمكا: محمد
صلى الله عليه وسلم
خيرها عند الله وخلقه نفسا، على حين أوحشت الأرض من أهل الإسلام والإيمان، وامتلأت الآفاق من عبدة الأصنام والأوثان، واشتغلت البدع في الدين وأطبقت الظلم على الناس أجمعين؛ وصار الحق رسما عافيا، خلقا باليا ، ميتا وسط أموات، ما إن يحسون للهدى صوتا يسمعونه، ولا للدين أثرا يتبعونه. فلم يزل
صلى الله عليه وسلم
قائما بأمر الله الذي أنزل إليه، يدعوهم إلى توحيد الرب عز وجل، ويحذرهم عقوبات الشرك، ويجادلهم بنور البرهان، وآيات القرآن، وعلامات الإسلام، صابرا على الأذى، محتملا للمكروه.
قد ألهمه الله عز وجل أنه مظهر دينه، ومعز تمكينه، وعاصمه ومستخلفه في الأرض، فليس يثنيه ريب، ولا يلويه هيب ، ولا يعنيه أذى؛ حتى إذا قهرت البينات ألبابهم، وبهرت الآيات أبصارهم، وخصم نور الحق حجتهم، فلم
52
تمتنع القلوب من المعرفة بدون صدقه، ولم تجد العقول سبيلا إلى دفع حقه. وهم على ذلك مكذبون بأفواههم، وجاحدون بأقوالهم؛ كما قال الله عز وجل العليم بما يسرون، الخابر بما يعلنون:
فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون
بغيا وعداوة، وحسدا ولجاجة، افترض الله عليه قتالهم، وأمره أن يجرد السيف لهم، وهم في عصابة يسيرة، وعدة قليلة، مستضعفين مستذلين، يخافون أن يتخطفهم العرب، وتداعى
53
عليهم الأمم، وتستحملهم
54
الحروب، فآواهم في كنفه، وأيدهم بنصره، وأنذرهم بمقدمة من الرعب، ومشغلة من الحق، وجنود من الملائكة، حتى هزم كثيرا من المشركين بقلتهم، وغلب قوة الجنود بضعفهم، إنجازا لوعده، وتصديقا لقوله:
وإن جندنا لهم الغالبون
فأحسن النظر وقلب الفكر في حالات النبي
صلى الله عليه وسلم
من الوحي قائما لله، لتجد لمذاهب فكرك وتصاريف نظرك، مضطربا واسعا، ومعتمدا نافعا، وشعوبا جمة، كلها خير يدعوك إلى نفسه، وبيان ينكشف لك عن محضه. وأخبر أمير المؤمنين ما كنت قائلا لو لم تكن البعثة للنبي
صلى الله عليه وسلم
بلغتك، ولم تكن الأنباء بأموره تقررت قبلك؛ ثم قامت الحجة بالاجتماع عندك، وقالت الجماعة المختلفة لك: إنه نجم بين ظهراني مثل هذه الضلالات المستأصلة، والجماعات المستأسدة،
55
التي ذكر أمير المؤمنين: من قبائل العرب، وجماهير الأمم، وصناديد الملوك، ناجم قد نصب لها وغرى بها، يجهل أحلامها، ويكفر أسلافها، ويفرق ألافها، ويلعن آباءها، ويضلل أديانها، وينادي بشهاب الحق بينها، ويجهر بكلمة الإخلاص إلى من تراخى عنها، حتى حميت العرب، وأنفت العجم، وغضبت الملوك، وهو على حال ندائه بالحق ودعائه إليه، وحيدا فريدا، لا يحفل بهم غضبا، ولا يرهب عنتا، يقول الله عز وجل:
يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس
أكنت تقول فيما تجري الأقاويل به وتقع الآراء عليه، إلا أنه أحد رجلين: إما كاذب يجهل ما يفعل ويعمى عما يقول ، وقد دعا الحتف إلى نفسه، وأذن الله لقومه في قتله، فليست الأيام بمادة ولا الحال بثابتة له إلا ريثما تستلحمه
56
أسبابهم، وينهض به حلماؤهم، غضبا لربهم، وأنفة لدينهم، وحمية لأصنامهم، وحسدا من عند أنفسهم. وإما صادق بصير بموضع قدمه ومرمى نبله، قد تكفل الله عز وجل بحفظه، وصحبه بعزه، وجعله في حرزه، وعصمه من الخلق، فليست الوحشة بواصلة مع صحبة الله إليه، ولا الهيبة بداخلة مع عصمة الله عليه، ولا سيوف الأعداء بمأذون لها فيه. ثم إن
57
آيتكم يا أهل الكتاب لو قيل لكم: إن الرجل الذي يدعي العصمة وينتحل المنعة، قد نجمت الأمور به على ما قال، وسلمت الحال له فيما ادعى، حتى نصب لعمارات
58
العرب، وجماعات الأمم، يقاتل بمن طاوعه من خالفه، وبمن تابعه من عانده، جادا مشمرا، محتسبا واثقا بموعود الله ونصره، لا تأخذه لومة لائم في ربه، ولا يوجد لديه غميزة
59
في دينه، ولا يلفته خذلان خاذل عن حقه، حتى أعز الله دينه، وأظهر تمكينه، وانقادت الأهواء له، واجتمعت الفرق عليه، ألم يكن ذلك حقه يقينا عندكم، ودعوته ثبوتا فيكم، حتى تقول الجماعة من حلمائكم وأهل الحنكة من ذوي آرائكم: ما كان الرجل، إذا كان وحيدا فريدا قليلا ضعيفا ذليلا معروفا بالعقل منسوبا إلى الفضل، ليجترئ أن يقول: إن الله عز وجل أوحى إليه فيما أنزل من الكتاب عليه أن يعصمه من العرب جميعا ويمنعه من الأمم طرا، حتى يبلغ رسالات ربه، ويظهره على الدين كله، ويدخل الناس أفواجا في دينه، إلا وهو على ثقة من أمره، ويقين من حاله .
فسبحان الله! يا أهل الكتاب ما أبين حق النبي
صلى الله عليه وسلم
لمن طلبه، وأسهله لمن قصده له. واستعملوا في طلبه ألبابكم، وارفعوا
60 ... أبصاركم، تنظروا بعون الله إليه، وتقفوا إن شاء الله عليه؛ فإن علامات نبوته وآيات رسالته، ظاهرة لا تخفى على من طلبها، جمة لا يحصى عددها، منها خواص تعرفها العرب، وعوام لا تدفعها الأمم؛ فأما الخواص المعروفة لدينا، المعلومة عندنا، التي أخذتها الأبناء عن الآباء، وقبلها الأتباع عن الأسلاف، فأمور قد كثرت البينات فيها، وتداولت الشهادات عليها، وثبتت الحجج بها، وتراخت الأيام ببعضها، حتى رأيناها عيانا، وقبلناه إيقانا؛ فهي أظهر فينا من الشمس، وأبين لدينا من النهار؛ ولكن غيبت الأزمان عنكم أمرها، ولم ينقل الآباء إليكم علمها، وما لا يدرك إلا بالسمع موضوع الحجة عن العقل، فليس أمر المؤمنين بمجاج لكم، ولا قاصد إليكم من قبلها. وأما الآيات العوام والدلالات الظاهرة في آفاق الأرضين، القاطعة لحجج المبطلين، التي لا تنكر عقول الأمم وجوب حقها، ولا تدفع ألباب الأعداء صحة أمرها، فسيولجها أمير المؤمنين مسالك أسماعكم، ويعيد بها حجة الله في أعناقكم، من وجوه جمة وأبواب كثيرة، إن شاء الله: منها أنه لم تزل الشياطين، فيما خلا من فترات الرسل وندرات النذر، تصعد إلى سماء الدنيا، وتنصت للملأ الأعلى فتسترق السمع وتحتفظ العلم، وتنزل به إلى كل أفاك أثيم، يبنون أكاذيبهم على واضح صدقه، وينفقون أباطيلهم بحسب حقه، خلطا للباطل فيه، وثبوتها
61
للعباد عليه. فلما بعث الله محمدا
صلى الله عليه وسلم
وأنزل آيات القرآن عليه، حرست السماء بالنجوم، ورميت الشياطين بالشهب، وانقطعت الأباطيل، واضمحلت الأكاذيب، وخلص الوحي، فبطلت الكهان، وضلت السحار، وكذبت الأحلام، وتحيرت الشياطين، فكانت آية بينة، وعلامة واضحة، وحجة بالغة، تبهر قرائح العقول، وتخرق حجب الغيوب، فلا يقوم مع ضيائها ظلمة، ولا يثبت عند محكمها شبهة، ولا يقيم معها في محمد
صلى الله عليه وسلم
شك، لا من أصحابه خاصة ولا ممن جاء بعده عامة. وإنما جعلها الله عز وجل آية باقية في الغابرين، وحراسة ثابتة من الشياطين، لأن الله جل وعلا جعل نبينا
صلى الله عليه وسلم
آخر النبيين؛ فليس باعثا بعده نبيا يكذب أقاويل الكهنة، ويقطع أخابير الجنة.
وستقول، فيما يذهب إليه الظن ويقع عليه الرأي، أنت ومن عقل من أمتك وأهل ملتك: هذه آية حاسمة وحجة قاطعة بينة قائمة، مستعلية لأمرها، مستغنية بنفسها، لا تحتاج إلى ما قبلها، ولا يتكل على ما بعدها، إن أقرت العقول بما تقول ، أو قامت البينة على ما تدعي، بلى؛ ثم تقول: وأنى لك بالبينة، ولسنا نقر بكتابك، ولا نؤمن برسولك، ولا نقبل قولك فيما قد سبقنا وإياك زمانه، وحجبت الغيوب عنا وعنك علمه؛ فأرجع إليكم إن قلتم ذلك؛ فإن وجدان القضاة قبل طلب البينات.
وليس يجعل أمير المؤمنين فيما ينازعك ويحاجك فيه حاكما غير عقلك، ولا قاضيا سوى نفسك؛ ولكنه يذكرك الله الذي إليه معادك وعليه حسابك، لما جعلت التفهم لمسألته من بالك، وركبت حدودها في جوابك، عادلا بالقسط، قاضيا بالحق، قائلا بالصدق ولو على نفسك، ناظرا بالأثرة لدينك؛ فلقد وفق الله لك آية، وأهدى إليك بينة، لا تستطيع دفعها لحجبها من عقلك، ولا حجابا لنورها دون بصرك، فلا تدفع الآية بقولك، والبينة بلسانك، جحدا بقطع وصول الحجج إليك، ويد
62
تغلق أبواب الفهم عنك؛ فإن اللسان لك مداول حيث شئت، ومنقاد تصرفه فيما هويت؛ ولكن انصب نفسك للفهم وأنت شهيد، وأرد الحق وقبوله فيما تريد. فإذا تصورت البينات مجسدة في قلبك، وتبينت الحجج ممثلة لنظرك، قد أضاء صوابها لك وقرع حقها قلبك، فاجعل القول بها شعارا للسان به متصلا. وافهم المسألة فهمك الله الحق، وجنبك الجحد، ما تقول أنت ومن قبلك في رجل كان يتيما ضعيفا أجيرا ساهيا لاهيا عائلا خاملا، لم
63
يتل كتابا، ولم يتعلم خطا، ولم يك في محلة علم، ولا إرث ملك، ولا معدن أدب، ولا بيت نبوة، فتراقت الأيام به، واتصلت الحال بأمره، حتى خرج إلى العرب عامة والقبائل كافة، وحيدا طريدا شريدا، مخذولا مجهولا، مجفوا مرميا بالعقوق لآلهتهم، مقذوفا بالكذب على أصنامهم، منسوبا إلى الهجر لأديانهم، وهم مجمعون على دعوة العصبية، وحمية الجاهلية، متعادون متباغون، مختلفة أهواؤهم، متفرقة أملاؤهم، يتسافكون الدماء، ويتناوحون النساء، ويستحلون الحرم، لا تمنعهم ألفة، ولا تعصمهم دعوة، [ولا] يحجزهم بر، فألف قلوبهم، وجمع شتيتها، حتى تناصرت القلوب، وتواصلت النفوس، وترافدت الأيدي؛ ثم اجتمعت الكلمة، واتفقت الأفئدة، حتى صار غاية لملقى رحالهم، ونهاية لمنتجع أسفارهم، وصاروا له حزبا متفقين، وجندا مطيعين، بلا دنيا بسطها لهم، ولا أموال أفاضها بينهم، ولا سلطان له عليهم، ولا ملك سلف لآبائهم فيهم، ولا نباهة كانت له بين ظهرانيهم.
أتقول إنه [ما] قال ذلك كله إلا بوحي عظيم، وتنزيل كريم، وحكمة بالغة! فإن قلت ذلك فقد أقررت أن محمدا
صلى الله عليه وسلم
رسول، وتركت ما كنت تقول إنه لم يدركه ولم يبلغه إلا بعقل سديد، ونظر بعيد، ورفق لطيف، ورأي وثيق، استبى به عقول الرجال، واستمال عليه أفئدة العوام. فإن قلتم فأنا سائلكم بإلهكم الذي تعبدون، ودينكم الذي تنتحلون، لما صدقتم أنفسكم وتجنبتم الهوى عنكم: أتؤمن قلوبكم، وتقر عقولكم، ويحتمل نظركم، أن محمدا
صلى الله عليه وسلم
الذي وصفتموه بكمال العقل، وبيان الفضل، ورفق التدبير، كان يقول لرجالات العرب، وجماعات الأمم، [و] دهاة قريش: إن من آيات نبوتي، ودلالات رسالتي، وعلامات زماني، أن الشياطين ترمى بنجوم السماء، ولم تك ترمى بها فيما خلا؛ ثم يجعل ذلك كتابا يقرأ، وقرآنا يتلى، وهو كاذب فيما تلا، ومبطل فيما ادعى، إبطالا تدركه عيون الناظرين، وكذبا يظهر لجميع العالمين! سبحان الله! أرأيتم أن لو كان فيما قال من الكاذبين، وعلى ما ادعى من الآثمين، ثم حاول إبعاد القلوب، وإنغال الصدور، وإنفار النفوس، وتفريق الجموع، أكان يزيد على ذلك!
فيا أهل الكتاب لا يحملنكم الإلف لدينكم على اللعب بتوحيدكم! فلعمر الله لئن تداركتم أنفسكم وناصحتم نظركم لتعلمن أن محمدا
صلى الله عليه وسلم
لو حاول الكذب أو رام الإفك، لما كان يترك جميع الأرض، وما يغيب عن بعض الخلق ويظهر لبعض، ويقصد للسماء المتصلة بالبصر، البارزة للنظر ، التي لا تخفى على بشر، ولا تغيب عن أحد، فيدعي فيها كذبا ظاهرا، وإفكا بارزا مكشوفا، لا يبقى صغير ولا كبير ولا ذكر ولا أنثى، إلا عرف أنه إفك وزور، وكذب وغرور، ولا سيما إذا كان يلقى ذلك إلى أقوام أكثرهم أعراب، ليس بينهم وبين السماء حجاب؛ إنما يراعون الكواكب ويتفقدون الغيوم، فأبعد عهد آخرهم بها تفقده لها ونظره إليها، ساعة أو ساعتين، أو ليلة أو ليلتين. لعمر الله لو عثرت العرب من أمر النبي
صلى الله عليه وسلم
على كذب لكان أول من يواثبه به ويجادل فيه أعداؤه من قريش عامة، وحساده من جيرته خاصة، ونظراؤه من أهل بيته دنية الذين كانوا يستعيرونه
64
لكل طريق، ويقعدون له على كل سبيل، ويتساءلون من أمره عن كل ذي حادث، فيتعلقون بالحروف المشكلة، والآيات المشتبهة، جدلا وخصومة بها، وطعنا وإلحادا ومنازعة فيها، حتى لقد وصفهم الله بفعلهم، وأخبر عن ذلك من أمرهم، فقال عز وجل:
بل هم قوم خصمون
وما كان الله عز وجل ليقول ذلك ولا لأحد أن يقوله على الله في أمرهم إلا عن خصومة شديدة، ومنازعة بليغة، ومجادلة معروفة. فأحسن النظر لنفسك، ولا تهلكن شفقة على ملكك؛ فايم الله لئن قلت إن النجوم شيء كانت العرب تراه بعيونها وتعرفه بقلوبها، فما كان محمد
صلى الله عليه وسلم ، وهو عارف بها غير جاهل لها، ليقول فيها إلا حقا، وينتحل فيها إلا صدقا، لقد ثبتت فروع كلامك فيها على أسه، ووصلت آخر قولك له بأوله، ثبوتا على ما ذكرت من عقده، ولزوما لما فرطت من نظره، ولكنك لا تجد مع الإقرار بذلك بدا من التصديق برسالته، ولا مذهبا عن الإيمان بنبوته.
ولئن زعمت أنه ادعى أمر النجوم كذبا وانتحلها باطلا، عارفا كان بها أم جاهلا، لقد نسبته من الخطأ الذي لا يعمى عن بصره إلى ما يخطئ فيه بشر، فأكذبت نفسك، وتركت قولك: إنه لم يكن التأليف لقلوب العرب والجمع لشتيت القبائل، إلا برأي سديد، وعقل أصيل، ورفق بالغ، إلى أحد أمرين لا تجد لكلامك وجها تذهب إليه غيرهما، ولا محملا تضعه عليه سواهما: إما أن تقول: إنه ألف قلوب العرب، وفرق جموع الأمم بتنزيل الوحي، فتؤمن أنه نبي؛ وإما أن تقول: فعل ذلك بجهل؛ وهذا قول لا يقبل. كيف يصفه أحد من الجاحدين به المكذبين له بغباوة، أو يرمونه بجهالة، وهم يجوزون به حدود الأنبياء، ويرفعونه فوق أمور العلماء، ويتخطون به مراتب الحكماء، ومنازل الناس تكثيرا لعلمه، وتسديدا لعقله، وتثبيتا لفضله، فيما لا يقدر الخلق عليه ولا تهتدي الألسن إليه؛ حتى لقد نحلوه فعل الرب الذي لا يقدر عليه الخلق في وجوه كثيرة وأنحاء جمة: من ذلك أنه إذا قالت البقايا من أمتنا: كان محمد
صلى الله عليه وسلم
يخبرنا بالغيوب قبل ظهورها، ويصف الأمور قبل حلولها، ويتجاوز [ما يكون] في زمانه من ذلك إلى ما يكون في زماننا غيبا أطلعه الله عز وجل عليه، أضافوا ذلك علما إليه، فقالوا: كان أعلم الناس بمواقع النجوم، وأبصرهم بمنازل البروج، وأنظرهم في دقائق الحساب. كيف ولم يكن الحجاز دار نجوم ولا محل حساب ولا معدن أدب! بل كيف والمنجم يقيس ويخطئ، ويشك فيما يدعي، وهو أخو صواب لا شك فيه، وفارس صدق لا قياس معه.
ومن ذلك أنه إذا قالت العلماء من المسلمين: كان نبينا
صلى الله عليه وسلم [عليما] بباطن أخبار النبيين، وخفي قصص القرون الأولين، قالوا: كان أحيا الناس قلبا، وأوسعهم سربا، وأسرعهم أخذا، يتتبع ذلك ويحبه، وقد رواه وعلمه. سبحان الله! أولا يعلمون أن المتعلم معروف المعلم، متفاوت الحالات، متنقل الطبقات، وأنه ما أحد يؤدب صغيرا أو يطلب العلم كبيرا، إلا وله درجات في علمه، وتارات في أخذه، ومنازل في تعلمه، تارة تلميذ، وتارة مقارب، وأخرى حاذق؛ وبكل ذلك موصوف من أهله، معروف عند قومه، ظاهر لجيرته، مستفيض في عشيرته، لا يجهل أمره، ولا يخفى ذكره، ولا ينسى عند مواضع الحاجة إليه، وتارات الاحتجاج به عليه. ولو كان ذلك معروفا فيهم، أو موجودا لديهم، أو ظاهرا عندهم، لما أمره الله عز وجل أن يحتج عليهم ويقول في ذلك لهم: لقد لبثت فيكم عمرا من قبله، لا أتلو قرآنا، ولا أدعي وحيا، أفلا تعقلون!
وايم الله! لو كانوا يعقلون أو ينظرون، لعلموا أن معلمه على غير الملة التي يعرفون، لأنه لهم من المخالفين، وعليهم من الطاعنين، يذكر فضائح قولهم، ومعايب أمرهم، ومخازي أسلافهم، وعوائر أديانهم؛ وإنه لو كان معلمه نصرانيا لدعاه إلى النصرانية، أو يهوديا لدعاه إلى اليهودية، أو مجوسيا لدعاه إلى المجوسة. ولو لم يكن له معلم لما وقع على الحقيقة هداية من تلقاء نفسه ومعرفة بقوة عقله. ولو كان معلمه الشيطان لما دعاه إلى عبادة الرحمن، ولا أمره بهجر الأوثان، وكسر الأصنام، وصلة الأرحام، والإصلاح في الأرض؛ كيف [و] كان الشيطان يصد الناس عن سبيله، ويزهدهم في دينه، وينهاهم عن طاعته، ويخرجهم من عبادته، ويدخلهم في مساخطه، ويحملهم على معاصيه! إنه إذن لرحيم بهم، ناظر لهم، شفيق عليهم، كأنه هو المبعوث إليهم؛ كلا! ما كان لنقذهم من حبائله، ويخلصهم من مصايده، ويخرجهم من ولايته وطاعته وسلطانه وخدعه وفتنته وحزبه، إلى غير ذلك من أمره. وما كان لينهي العرب أن يقتلوا أنفسهم، ويتناوحوا حرمهم، ويؤذوا ذريتهم، ولا ليقول لهم: لم تعبدون نحيت الحجارة التي جعلها الله لكم عارا، وتذرون عبادة الرب الذي خلقكم أطوارا! هيهات! لقد ذهبتم بالشيطان الرجيم إلى صراط العزيز الحكيم، فقلتم قولا تنكره العقول، وتدفعه القلوب، وتستوحش منه النفوس. ألا تسمعون إلى قول الله عز وجل:
فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم . فما كان الشيطان ليرضى للعرب باللعنة والبكم والعمى والصمم؛ فاتق الله ولا تكن من الجاحدين.
ومنها أنه إذا قالت الفقهاء والحكماء: أتانا محمد
صلى الله عليه وسلم
بكلام لم تسمع الآذان بمثله، ولم تقع القلوب على لغته، له رونق كحباب الماء، وزبرج يعلو ولا يعلى وعجائب لا تبلى ولا تفنى، وجدة لا تتغير، (قالوا): كان محمد
صلى الله عليه وسلم
أبلغهم قولا، وأحسنهم وصفا. فيا سبحان الله! ألا يعلمون أن لو كان القرآن كلاما للعباد لما أقرت الأعداء من
65 ... بفضله، ولا عجزت القبائل طرا من مثله، وهو يناديهم في الكتاب ويتحداهم في الوحي، بصوت رفيع، ونداء سميع، فيقول: هاتوا سورة من مثله إن كنتم صادقين، وهم فرسان الكلام، وإخوان البلاغة، وأبناء الخطب، وأهل عداوة له وبغي عليه، فتستحسر الأبصار، وتثقل الأسماع، وتنعقد الألسن، وتخرس الخطباء، وتعجز البلغاء، وتحار الشعراء، وتستسلم الكهان. ثم لقد قايست البصراء بالكلام والعلماء بالمنطق، بين ما بأيدينا من كلام النبي
صلى الله عليه وسلم
وما جاء به من كلام الوحي، فإذا بينهما بون بعيد وتفاوت شديد، ليس بشبه له ولا مدان ولا قريب. وكذلك ينبغي لكلام الرب عز وجل أن يعلو كلام الخلق، وألا يشبه قول العباد في تأليفه وأحاديثه ومعانيه وجميع ما فيه؛ لأن الله عز وجل لا يشبهه شيء، من ذلك أنه إذا قال المسلمون: كان محمد
صلى الله عليه وسلم
يرى ماضي أسلافنا وصلح آبائنا من العجائب العظام، والآيات الكبار، ما هو جديد عندنا، بين قبلنا فلم يعف أثره، ولم يدرس خبره، ولم يتقادم عهده: من شجرة ناداها فأقبلت ثم أمرها فرجعت، ومن نحو بعير تظلم، وذئب تكلم، وأشباه لذلك كثيرة، ونظائر له عجيبة، قالوا: كان محمد
صلى الله عليه وسلم
كاهنا حاذقا، وساحرا ماهرا، يشبه بالخيال، ويأخذ بالأبصار. كيف والجموع الكثيرة تصدر عن الأطعمة اليسيرة والمياه القليلة، شباعا رواء، أيكون ذلك والسحر سواء! والأخذ بالعيون لا يجري في البطون! ولو كانو ينظرون لدينهم وينصفون من أنفسهم، لعلموا أن أمر الساحر يدور على إفك وغرور، وأن لمحمد
صلى الله عليه وسلم
آثارا قائمة، ومنافع دائمة. ثم لو كانت الكهانة والسحر يبلغان مثل هذا من الأمر، لبطلت آيات الكتب، وعلامات الرسل، ولعلت الشبهة، وسقطت الحجة، وكذبت النبوة، ولبطل ما كان [يفعله]
66
عيسى عليه السلام: من إبرائه الأكمه والأبرص وإحيائه الموتى. فلا يكونن التقليد للرجال مبلغ علمك، ولا القبول لدعواهم بلا بينة.
ومن ذلك [أنه] إذا قالت البصراء من أمتنا والعلماء بملتنا: كان النبي
صلى الله عليه وسلم
أميا لا يحسن الكتاب وحافظا لا ينسى القرآن، وقلما يجتمع العقل السديد والحفظ السريع والنسيان البطيء، قالوا: كان أخط الناس يدا، وأذكاهم حفظا، كان يكتب بالنهار، ويدرس بالليل.
ولعمر الله أن لو كانت الحال كما يقولون والأمر كما يصفون، لما خفيت الصحف له، ولا اكتتمت الدارسة عليه، ولما كان يطيق سترها عن أهله، ولا حجابها دون قومه. وكيف تؤمن القلوب وتقر العقول أن رجلا كبيرا حمل علما كثيرا وحكما جماء: من آيات متشابهة، وسور متوالية، وهو صاحب أسفار مترامية،
67
وأخو حرب دائمة، لا يبطئ لفظه، ولا يسقط حفظه! لولا
68
أن الله عز وجل كفاه أن يحرك به لسانه، وضمن له جمعه وقرآنه، فقال عز وجل:
سنقرئك فلا تنسى
فلم يكن يسقط واوا ولا ألفا، ولا ينسى كلمة ولا حرفا. ما أبين هذا وأعجبه! وأعجب منه المنكر له.
وأما قولهم في الخط وإكثارهم في الكتاب، فإن الله عز وجل جعله أميا ليثبت حجته، ويصدق مقالته، ولئلا يشك المبطلون في أمره، ويقولون: تعلمه من غيره؛ فإنه قد قال ذلك بطائن من منافقة العرب وطوائف من كفرة العجم، فنطقت [به] الأعداء من جيرته، والحسدة من عشيرته، الذين بلغوا [ما بلغوا]
69
من مجادلة حقه، ومخاصمة ربه، كفاة لمن قرب، ووكلاء لمن بعد، فيما لم تكن العرب واقعة عليه، ولا الأمم مهتدية إليه؛ لأنهم
70
قد أحاطوا من علم خبره، وخفي أثره، بما كان عن غيرهم محتجبا، ومن سواهم مكتتما. وقالوا: لو كان محمد
صلى الله عليه وسلم
يتعلم من بشر أو يختلف إلى أحد، لما خفي عنا ولسقط
71
علينا. وحقا لو كان محمد
صلى الله عليه وسلم
يختلف إلى أحد صغيرا، أو يتعلم من بشر كبيرا، لعرف ذلك أترابه المختلفون معه ورفقاؤه والمقتدون، ولما جهل ذلك من حوله من جيرته نصرة، ولا من معه من أهل بيته دنية، الذين عليهم يورد ومن قبلهم يصدر، ولكان شائعا عند حشم معلمه وجيرة موضعه الذين كان يختلف إليهم، ويتأدب بين ظهرانيهم. ولو كانوا بذلك عالمين ، أو فيه من أمره شاكين، ثم بلغهم وتقرر قبلهم أنه يقول: إن الله عز وجل أوحى إليه، فيما أنزل من الكتاب عليه:
وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذا لارتاب المبطلون
لخاصمه منهم من كفر، ولكفر به منهم من آمن. ثم يدعي ذلك قرآنا، وينتحله وحيا؟ أما كان يرهب أن ينتشر في الأقربين، ويخرج إلى الأبعدين، فتبطل حجته، وتنقض دعوته، وتسقط نبوته ، وينفر أصحابه الذين لم يصبروا
72
معه في المجاهدة أنفسهم، ويبذلوا عند الشدائد مهجهم، وينفقوا فيه على الحاجة أموالهم، مناصبين لأهل الشرق والغرب والعجم وكل الأمم، وهم قليلون مستضعفون عائلون جائعون، لا طلبا لدنيا ولا طعما في منال، إلا لما تعقبوا من قوله، وعرفوا من صدقه. ولولا أنه أخبرهم ووعدهم أن يغلب كسرى وقيصر لهم، فصدقوا بقوله، وآمنوا بوعده، حتى قويت البصائر، وصرمت العزائم، وقويت النيات، فنشطت النفوس، وشجعت القلوب، وحملت الأبدان، لما وقع لهم طمع فيه، ولا ذهب لهم وهل
73
إليه. فكن من ذلك على يقين لا يخلجه شك، ومعرفة لا يخلطها ريب، إن شاء الله.
ومن ذلك أنه إذا قال المسلمون: ما من فعال محمود، ولا مقال معروف، ولا خلق كريم، ولا أدب فاضل، إلا وقد أدب الله عز وجل به محمدا
صلى الله عليه وسلم
وأنزله في الكتاب إليه، فكان يأمر بالمكارم، ويحض على المحامد، ويعمل بالمحاسن التي ليس فيها مدخل لشبهة طاعن، ولا معلق لحجة قائل، ولا مغمز لبصيرة عائب، ولا موضع لخصومة بشر، في وعد أو عهد، أو حل أو عقد، أو مقال أو فعال، أو غير ذلك من الأمور - قالوا: أمور حمل عليها نفسه، ودعاه إليه عقله، وصبر عليها، لما أمل ورجا فيها. سبحان الله! وما أمل بها وارتجى منها؟ إن قالوا: الدنيا، فلقد أكذبهم إدباره عنها، حيث أمكنته القدرة منها، وأعثرته الحال عليها. وإن قالوا: حب الأثرة، فقد جعل نفسه للمسلمين أسوة: في سهامهم وقصاصهم، وحدودهم وحقوقهم، وغير ذلك من أمورهم. وإن قالوا: الملك، فلقد كان أشد الناس لربه تواضعا، وأعظمهم في جنبه تصاغرا، ما إن أكل متكئا قط إلا مرة، ثم قعد كهيئة الفزع لها النادم عليها، فقال: «اللهم إني عبدك ورسولك.» وإن قالوا: النعيم، فمن كان أيبس منه معاشا، وأخشن رياشا، وأغلظ مأكلا! وكيف يذوق العيش أو يجد لذيذ النعيم، من حرم السكر والخمر، ونهى عن الديباج والقز، وكان أكثر دهره صائما، وأطول ليله قائما! فإن قالوا: طلب الصوت
74
ورغب في الدين ، فذلك ما لم يطلبه أحد في حب الصوت والتماس الحمد لما صبر مغاضب قومه، وملاوم أهله، وشتائم العرب وتوعد العجم، واستهزاء قريش؛ يرمونه بالعقوق، ويقذفونه بالجنون، ويبهتونه بالسحر، وليس يدري ما يهجم به الأمر.
75
أم يقولون طلب تأثيل الملك لقومه، وأراد توطئة الولاية لأقاربه فيكف يطلب لقومه ما قد زهد فيه لنفسه! أم كيف يطلب لهم عز الملك وقد أوطأهم الذل ثم القتل. لعمر الله أن لو أراد الملك لأقاربه، وأراد طلب السلطان لذوي رحمه، لوكد لهم عقدا لا يحل، ولأبرم لهم أمرا لا ينقض، ولأثل لهم في عنفوان أمره ملكا لا يخرج من أيديهم، ولا يبرح
76
أبدا فيهم، امتثالا لصنيعكم واحتذاء على مثالكم؛ مع أقاويل جمة ونظائر كثيرة، لا يستقيم لهم معها أن يقولوا إن محمدا
صلى الله عليه وسلم
غلب العرب وقهر العجم؛ أو قال في أمر السلطان والنجوم بكذب.
فإن قلتم إن محمدا
صلى الله عليه وسلم
كان في قوة عقله وبيان فضله، على ما قلنا وقلتم وصدقنا به نحن وأنتم، ولكن هفت العلماء وزلت الحكماء وأخطأت القلوب؛ فقد يعلم أمير المؤمنين - وأنتم بذلك من العالمين - أن خطأ قلوب العلماء كخطأ دائرة الرحا، ليست العلماء بمخطئة إلا المرة والثنتين، كما لا تخطئ الرحا إلا الحبة والحبتين. ومثل الذي نسبتم إلى النبي
صلى الله عليه وسلم
من الخطأ عندكم والجهل في أنفسكم، كثير لا يحصيه أحد، ولا يبلغه عدد. وأمير المؤمنين واصف بعضه لكم، ومورد ما حضر كتابه إن شاء الله لكم. وايم الله على ذلك لو قالت العلماء من المسلمين هبوا محمدا
صلى الله عليه وسلم
كان في أمر النجوم من المخطئين، فكيف أخطأت العرب وهفت الأمم في ترك مجادلته ورفض منازعته، وكيف لم تقل العلماء من إفتائه
77
والحكماء من حكمائهم، توبيخا منهم له، وتعييرا لمن آمن معه: هذا أمر واضح الأكاذيب وأبطل الأباطيل؛ فلا يثبت مع قولهم إيمان، ولا يقيم على شرحهم إنسان. فإن قلت: فلعل ذلك قد كان، ولكنه درج على طول الأزمان، فكيف إذن صدقت العرب بنبوته، ولم تكفر القبائل برسالته، وهم يسمعون كذبا لا ينفع معه صدق كان قبله، وباطلا لا يعصم معه حق حدث بعده، وإن قلتم: أدخلهم بالقهر وضبطهم بالقتل وأكرههم بالسيف، فما بال القليل من المسلمين الذين قهرهم الكثير من المشركين، ما بالهم آمنوا وصدقوا، وصبروا وصابروا، وجدوا وجاهدوا، كيف لم تنكسر عزائمهم، وتهن بصائرهم، ويرجعوا إلى دينهم، ويهربوا عن توحيدهم! كلا! لو كان الأمر على ما تقول، لارفض القوم عن الرسول، ولكان
صلى الله عليه وسلم
أول مقتول أو مخذول. فأحسن النظر فيما تذهب الأهواء برأيك إليه من آيات النبي
صلى الله عليه وسلم . وإن جمحت الدعوى بكم، فقائل: قد مالت به الأهواء في الباطل، فقال: إنه إلا يكن الأنبياء ذكرت النجوم في صحفها بينت الحكماء منها ذكرا في كتبها، فجعلت المنقض من الكواكب بين الأعوام، دليلا على أمر يحدث تلك الأيام، ولا ما هذا الاختلاق يلط به الجاهل للفساق.
78
ما إن وضعت الحكماء ذلك في الكتب، إلا ليالي ملئت السماء من الشهب. وبالله لو ادعيتم غير ذلك فكان حقا، وكانت القالة منكم صدقا، لما كانت الدعوى بناقضة لآية النجوم حجة، ولا مدخلة على أحد فيها شبهة؛ لأن رميا يقع فرط السنين من الكواكب، لا يبطل رجما قد ملأ السماء من كل جانب. ثم لو لم تكن النجوم آية دامغة،
79
وحجة بالغة، ودلالة قاهرة، وعلامة باهرة، وأمارة ظاهرة، وشهادة قاطعة، وبينة عادلة، وداعية قائمة، تبطل أظانين المشركين، وتردع أقاويل المنافقين، لما كان النبي
صلى الله عليه وسلم
ليعظم أمرها، ولا ليكرر في آي القرآن ذكرها، رهبة لمناهضة أحياء العرب، ومعرفة بمجادلة إخوان الكتب، الذين لو وجدوا فيما كتب به إليه أمير المؤمنين من أمر النجوم واحتج [به] عليك من ذكر الرجوم، موقعا لظن أو معلما بطعن أو مغمزا لقول، لناصبوه إذن بالمجادلة، وكاشفوه بالمنازعة، وجاهروه بالقول الذي لا يستطيع له ردا، ولا يطيق له جحدا، ولكنها آية ملأت الأقطار كثرة، وحسرت الأبصار قوة، قد وجلت العقول، وولهت القلوب، وملأت النفوس جزعا ووجعا، وفزعا شغلهم عن الأولاد، وأذهلهم عن البلاد، حتى بلغ المؤمنين وتقرر عند فقهاء المسلمين أن الله عز وجل، لما ملأ السماء حرسا، وأحدث لها رصدا، وخلق فيها شهبا، ذكرت العقلاء من العرب، وقعات الله عز وجل في الكتب، بقوم نوح وعاد وثمود، وأشباههم من مؤلفي تلك الجنود، الذين كانوا أشد بطشا، وأكثر جمعا، فانفرجت أيديهم عن كرائم أموالهم، وأرسلت أنفسهم متائن عقدهم. وإن أهل الطائف لما فعلوا ذلك بأموالهم، وأجمعوا فيه الخروج إلى فقرائهم، قام فيهم رجل منهم ذو سن وعقل فقال: يا معشر العرب، لا تهلكوا أنفسكم قبل أن تهلكوا، ولا تخرجوا من أموالكم قبل أن تخرجوا، تفقدوا مواقع نجوم السماء، وكواكب بدور الدجى، فإن كانت النجوم التي حدث الرمي بها والنجوم التي أخليتم الأموال لها، هي لبروج الشمس والقمر ومسال
80
الحيوان والشجر، فهي جوائح الاستئصال، المتلفة الأنفس والأموال؛ وإن كانت النجوم التي حدث القذف بها، إنما هي نجوم خلقت اليوم، فليست المعرفة بواقعة على مبتداها، ولا الأبصار بلاحقة منتهاها، فأمسكوا العقد
81
عليكم والأموال، فإنه أمر يحدث في إحدى هذه الليال.
فإن قلت: وكيف وقعت الأمور في هذا الرجل كالعيان، وصارت المقالة منه كوعي الآذان، أنبأك أمير المؤمنين أن أوعية الفقه من المسلمين، الذين حملوا إلينا سنن الدين، هم أدوا ذلك إلينا، وأبقوه فخرا
82 ... علينا، فما إن ينفك منهم مفتخر يقول: أبونا الذي حبس على العرب الأموال والعقد، فما إن يدفع القول في ذلك منا أحد. هيهات ما كانت العرب لتقر عند الفخار، إلا بطول هو أبين فيها من ضوء النهار. فافهم ما كتب به أمير المؤمنين في هذا إليك، ولا يكن التعلل فيها بالشبهات أوثق ما لديك؛ فإنه قل حجة إلا وإلى جنبها شبهة تخيل للعقول، وتعرض للقلوب، وتجلجل في الصدور؛ فلا يثبت مع تخليها، ولا يقيم لتعرضها بشر إلا من وزن الحق والباطل بميزان عادل، لا يميل إلى تفريط، ولا ينحط في تقصير. وقد جعل الله عز وجل العقول موازين للأمور، فزنوا ما سمعتم من حجج كلام الرب عز وجل بما تنفون به الشبهة عن الحق، ولا تميلوا اللسان، فتخسروا الميزان. وسيعلل أمير المؤمنين إن شاء الله بما جاء عن ذكر ما كتب به إليكم من أمر النجوم والرجوم والشهب في القرآن والرواية والكتب؛ فألطفوا النظر في صحة معانيه، ونحوا الهوى عن شبهة ما
83
وقعت فيه: قال الله عز وجل:
ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوما للشياطين
وقال:
ولقد جعلنا في السماء بروجا وزيناها للناظرين * وحفظناها من كل شيطان رجيم
وقال:
ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوما للشياطين . وإن شطب عن الحق شاطب، أو ذهب إلى الباطل ذاهب، لا يعرف مذاهب كلام العرب، ولا وجوه معاني الكتب، ولا تفسير آي القرآن، فقال: إنما جعلت الكواكب والمصابيح حفظا من الله عز وجل للسماء، ورجوما للشياطين من قبل أن يبعث الله محمدا
صلى الله عليه وسلم
بالدين.
فإن في آيات القرآن ما فيه بيان مما يبطل دعواه التي لا بينة عليها، ويكذب مقالته التي لا شهود لها؛ فقالت الجن - فجعل الله تبارك وتعالى قولها وحيا - وبه منها صدقا:
وأنا لمسنا السماء فوجدناها ملئت حرسا شديدا وشهبا . ألا ترون أنها كانت الجن لمست السماء فلم تجدها ملئت حرسا شديدا وشهبا، وقعدت الشياطين منها مقاعد للسمع فلم تجد شهبا ولا رصدا، أولا
84
يسمعون إلى ما يحقق ذلك ويسدده ويصدقه ويشهد له من قول الله تعالى:
هل أنبئكم على من تنزل الشياطين * تنزل على كل أفاك أثيم * يلقون السمع وأكثرهم كاذبون
مع قول الجن أيام حرست السماء ورميت الشياطين:
وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا . فإذا أعملتم في ذلك فكركم، وقلبتم فيه نظركم، فكنتم على برهان يقين، ونور مستبين، من استطاعة الجن للاستماع، وقدرة الشياطين عيسأل يعطى ومن يطلب يجد ومنلى الاستراق، وإمكان السماء للقعود في تلك الحال الأولى، ففكروا في الحال الأخرى حيث حرست الآيات أن تعارض باطلا بحق، ومنعت الشياطين أن تنزل بصدق، وامتنعت السماء أن يصعد إليها شيطان؛ فقال الله عز وجل:
وما تنزلت به الشياطين * وما ينبغي لهم وما يستطيعون * إنهم عن السمع لمعزولون . قالت الجن:
وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا
إن في قولهم الآن لأعظم نور وبيان. وأبين من ذلك لكم وأصح لمن عقل إن شاء الله منكم، إخبار الله عز وجل حين جعلت الكواكب حفظا من كل شيطان مارد، أنهم
لا يسمعون إلى الملإ الأعلى ويقذفون من كل جانب * دحورا ولهم عذاب واصب
مع إخباره في الحال الأولى أنهم يسمعون ويقعدون وينزلون ويستطيعون ويتلون على ملك سليمان، فكن لهذا من الحافظين، وفيه من المفكرين.
ومن آيات النبي
صلى الله عليه وسلم
أنه لما نفرت القبائل من أعلام الشرك بجموعها، وتداعت القادة من صناديد الكفر بأتباعها حذرا على عير لها أقبلت من الشام بصنوف رغائب أموال عظام، فكانت العير والنفير طائفتين: طائفة ذات عدة كثيرة وشوكة شديدة، وطائفة ذات أموال رغيبة ورجال قليلة وفرصة ممكنة، أخرج الله عز وجل نبيه
صلى الله عليه وسلم
ووعده ومن معه من المسلمين إحداهما، فكره المؤمنون جموع المشركين، وأراد الله عز وجل أن يقطع دابر الكافرين، ويشيد بذلك أركان الدين، فلما تراءت الفئتان، وتناوشت الفرسان، وتلاقى الناس، وقبل ذلك ما قال الله عز وجل:
سيهزم الجمع ويولون الدبر
قبض النبي
صلى الله عليه وسلم
قبضة [من تراب] حثاها في وجوههم، فلم يتناه دون مناخرهم وعيونهم، فانصرفوا منهزمين بلا كثير قتال من المسلمين. يا أهل الكتاب، فأيتما آية أعظم حجة وأوضح بينة وأقهر غلبة من هذه التي لو صدرت الأمور بلا تحقيق لها، لانفضت الجموع من المسلمين كفارا بها. أبشارة الله المسلمين بإمداد الملائكة المقربين، وهزيمة نفير المشركين، التي نجمت الأمور عليها، وتناهت الحال بهم إليها. أم قبضة من تراب يسير، ما ملأ المناخر من عدد كثير.
فلئن قلتم: إن هذه آيات بينات، وعلامات واضحات، ولكنا [لا] نقر لكم بها ولا نؤمن بقولكم فيها.
أفتؤمنون أن محمدا
صلى الله عليه وسلم
مع ما نسبتموه من الفضل إليه، كان يختلقها كذبا من تلقاء نفسه، ثم يدعيها وحيا من عند ربه، وهو لا يدري لعل الأمور [تقع] بخلاف ما يقول، فيظهر كذبه، ويرفض تبعه. وإن تزعم
85
أن أصحابه كانوا كثيرا أقوياء، نشاطا جلداء، فكان على معرفة بقوتهم ويقين من غلبتهم؛ فقد قال الله عز وجل:
وإن فريقا من المؤمنين لكارهون * يجادلونك في الحق بعد ما تبين كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون . ولم يكن الرسول ولا غيره ليخبر أصحابه من أمورهم بما يجهلون من أنفسهم، ثم يدعي ذلك تنزيلا من ربهم. هذا لا تقبله الآراء، ولا تقر به الحكماء، ولا يحده النظر.
أم تقولون: إنما أراد محمد
صلى الله عليه وسلم
ببشارته لهم وإخباره ما أخبرهم من هزيمة الله عدوهم، أن يشجع جبنهم ويقوي ضعفهم، فكيف إذا لم يبق
86
لما كان يرى من كثرة المشركين وقوتهم، وضعف المسلمين وقلتهم، بظهور الأنباء على خلاف قوله، وأن يحتال
87
الخبر على غير ظنه، فيقع ظفر يكذب نبوته، ويقطع حجته، ويكون له ما بعده! وكيف إذا لم ينسب الأمر إلى نفسه وينحي الخبر عن ربه، ليكون الخطر أصغر والشأن أيسر، إن جرت الأقدار بما يحذر، أو وقعت الأمور على ما يكره. ولكنه أثبته في كتاب مسطور، ورق منشور. فعل لعمر الله يدل على النبوة التي كان بها واثقا، ويهدي إلى الوحي الذي كان إليه ساكنا.
وإن عرض لنظرك، أو وقع في خلدك، أن الله عز وجل عود محمدا
صلى الله عليه وسلم
الغلبة وأجراه على المنعة، فكان يجري على عادة قد عرفها ، ويسلك جادة قد خبرها؛ فلقد كانت الهزيمة في أول وقعة أوقعها الله، ثم لقد دالت الحرب فيما
88
بعد سجالا فيما بينه وبينهم: تارة عليه لهم، وأخرى له عليهم. فناصحوا الله عز وجل في نظركم، وقلبوا فيما يقول أمير المؤمنين فكركم. فلعمر الله ما كان النبي
صلى الله عليه وسلم
ليقول لملوك المشركين: إن الله هزمكم برمية من تراب وهو يعلم أنه عنده من الكاذبين. فأحضر كتابي هذا فهمك، واصبر له وإن خصمك؛ فإن هذه آية عظيمة، وحجة بليغة، وبينة عجيبة، في غلبة العرب.
وأعجب من هذه وألطف، وأكثر منها وأعظم، الآية في غلبة العجم. واستمع: أمر الله نبيه
صلى الله عليه وسلم
أن يقول للمؤمنين - وكانوا كما قال الله عز وجل قليلا مستضعفين: إن قبائل العرب ستتحزب عليكم، وإن الله سيهزمهم لكم، وحيا أنزله في الكتاب، فقال:
جند ما هنالك مهزوم من الأحزاب ؛ فكان أصحاب رسول الله
صلى الله عليه وسلم
بعد ما نزل هذا القول عليه بدهور طويلة وسنين كثيرة، محبوسين محصورين في حومة الموت وعسكر الخوف وخندق القهر وذل الحصر، سوادهم الأعم وجلهم الأعظم حفاة عراة عالة، إخوان دير، وأصحاب وبر، لا قوة بهم، ولا منعة لهم، ولا أسلحة عندهم، ولا عدة معهم، قد أحدقت العرب بعسكرهم وأحاطت القبائل بخندقهم، وسالت الأحزاب تصديقا لحتم الله عليهم، تريد أن تزلزل أقدامهم وتهريق دماءهم؛ فكان المؤمنون كما وصف الله عز وجل من سوء الحال، وضيق المآل، وشدة الكظاظ؛
89
فإن الله قد وصف لهم حالهم، وأذكرهم فعلهم؛ ولم يكن النبي
صلى الله عليه وسلم
ليصف لهم عن الله ما يجهلون، ولا ليذكرهم من أمره ما لا يعرفون؛ حذارا أن تنكسر عزائمهم وتتغير بصائرهم، فتنهزم أفئدتهم وتموت نجدتهم، وتختلف كلمتهم؛ فقال الله عز وجل:
إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا * هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا
حتى قالت طائفة منهم لأهل المدينة:
يا أهل يثرب لا مقام لكم فارجعوا
وقالت طائفة أخرى : يا رسول الله، إن بيوتنا عورة، فأذن لنا. يقول الله تعالى:
وما هي بعورة إن يريدون إلا فرارا . فبينا هم على تلك الحال قد أجمعت العرب بتفريقهم في الجبال، وتقسيمهم بالقداح، وأخذهم بالأيدي، إذ قال لهم الرسول
صلى الله عليه وسلم ، فيما ينبئهم به من علم الغيوب، ويبشرهم به من أمر الفتوح: «إن الله سينصركم على جمع الروم ويغلب لكم جنود فارس فيهزم لكم جنودهم ويورثكم قصورهم ويستخلفكم في الأرض من بعدهم ويبدلكم من بعد خوفكم أمنا.» وعدا صدقه الكتاب، وبشارة نطق بها الوحي، فقال:
وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا .
فقال أقوام وأناس ارتابوا حين تضايقت الحال، وتزلزلت الأقدام، وطارت القلوب، ودارت العيون، وأشرف الموت: ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا أيعدنا هزيمة جموع الأحزاب، وفتح قصور الشأم، وغلبة جنود كسرى، وقد سالت القبائل علينا من كل جانب، وأحدق الموت بنا من كل مكان، فبقينا في مسغبة من الجوع، ومجهدة من الخوف، وضنك من الحال، مقهورين مقموعين.
90
وقالت الخاصة من المؤمنين حين عاينوا الجموع من المشركين. وذكروا ما خبرهم الله من تحزبهم عليهم ومسيرهم إليهم:
هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا إيمانا وتسليما . فبينا أصحاب النبي
صلى الله عليه وسلم
في مضايق تلك الحال، وشدة ذلك الخصال،
91
وعموم تلك البلايا الباهظة، والأمور الفادحة، التي قد أخذ بأنفاسهم غمها، وبلغ مجهودهم كربها، رافعين إلى الله عز وجل أيديهم، يقلبون في السماء أعينهم، إذ أرسل الله على تلك الجنود الكثيفة والجموع العظيمة والأحزاب المقتدرة، ريحا من الأرض وجنودا من السماء، فقطعت الأبنية، وطيرت الأمتعة، وسفت التراب في العيون، وقذفت الرعب في القلوب، فولوا مدبرين، وخرجوا منهزمين، لا يلوي والد على ولد، ولا مولود على أحد. أمر صدق الله فيه قوله، وأنجز به وعده، وهزم الأحزاب وحده، وذكر المؤمنين نعمته فيهم، وعرفهم منته بهم، فقال:
اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها وكان الله بما تعملون بصيرا * إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا . وقال عز وجل:
ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قويا عزيزا
ما كان الله عز وجل ليقتص على المسلمين في أنفسهم ، إلا ما قد رأوه بأعينهم.
لولا أن هذا ما لا ينكره عقلك ولا يدفعه نظرك، لما جادلتك بالكتاب، ولا نازعتك بالتنزيل. وإني لأترك من آيات النبي
صلى الله عليه وسلم
وعلامات الوحي، ما هو أعظم من هذا وأبين وأجل وأوضح. ولكن ليس لي أن أحاجك من آيات القرآن، إلا بما عليه شاهد من برهان، ومخبر من بيان؛ لا يستطيع عقلك ردا له ولا قلبك جحدا له. وكيف ينبسط لسانك أو يجترئ قلبك أن يقول: إن محمدا
صلى الله عليه وسلم
أخبر أصحابه بالكذب وهم يعلمون، فاقتص عليهم من أمورهم ما لا يعرفون! لا! ما يسوغ لك ولا يجمل بك، ولا يقبل منك أن محمدا
صلى الله عليه وسلم
يقوله من تلقاء نفسه؛ كيف! أما كان يخاف أن يكذبه أصحابه، وتنتقل أحواله، وتنتقض أموره! لعمر الله لو وصفت بهذا من لا يعرف بفضل ولا ينسب إلى عقل، لما كان سائغا لك ولا جائزا منك، فكيف تصف به من يرفع عن الناس قدره، ويفضل عليهم عقله! وتقر أنك لم تر في الدنيا أحدا صنع [ما صنع] وبلغ ما بلغ! فأيتما آية فيما اقتص عليك أمير المؤمنين أعظم أو بينة أعجب: أما كان يتلى على المؤمنين في الكتاب من اجتماع قبائل الأحزاب بجنود عظيمة قبل اجتماعهم بسنين كثيرة، أم ما كان
92
ينادي به القرآن من الهزيمة لهم وينطق به الوحي من الفتح عليهم، أم قول النبي
صلى الله عليه وسلم
لأصحابه: «إن الله عز وجل يؤمن خوفكم ويعز نصركم على الأمم» وهو على تلك الحال ثم نجمت الأمور على ما قال، أم عسكران مطابقان وجيشان متقابلان، باتت الريح تحوس
93
أحدهما حتى انهزموا، وبات الآخرون منها في عافية وغفلة حتى أصبحوا؟ فأحسن النظر في أمرك، والتثبت في دينك إن شاء الله.
واعلم أن من أعظم الآيات وأبين الدلالات، على نبوة محمد
صلى الله عليه وسلم
وحقه، وأن ليس يتقول شيئا من تلقاء نفسه، أنه قال في عنفوان أمره: «إن الله عز وجل سيظهر ديني على الدين كله» وجاء مع ذلك بأثرة عن ربه، في كتاب مخطوط وتنزيل محفوظ. فأي أمريه لك
94
أدل، أو أيهما عندك أعجب، إذ كنت بنبوته مصدقا، ولرسالته محققا: الخبر الذي أخبره، أم الفعل الذي صدقه؟ لئن نظرت بعقلك وقلت في نفسك: كيف ترقت إلى هذا نيته وارتفعت نحوه همته، أم كيف امتدت إليه بطنته وقويت عليه رويته؟ بل كيف دعته إليه نفسه، وشجعه عليه قلبه، ودخل فيه طمعه، وطاوعه فيه لسانه، وهو يذكر جنود كسرى، وجموع الروم، وملوك الترك، وملوك الشرك، وقيول اليمن، وصناديد الأمم؟ إن هذا لعجب، ولا سيما إذا لم يكن في إرث ملك قاهر، ولا كنف عز غالب، ولا معدن علم سالف.
ولئن أعدت النظر وكررت، فقلت: كيف وافق خبره أثره، وكيف صدق فعله قوله، حتى غلب الشرق والغرب! إن هذا لعجب! وأعجب من هذا أمر يدلك أمير المؤمنين عليه، ويهديك إن شاء الله إليه: لو قلت لأهل مملكتك ومن قبلك من أمتك: هل بلغكم أو تقرر قبلكم، أنه كان في الدهر الأول، والعصر الخالي، أحد مثل محمد
صلى الله عليه وسلم
بدأت الأمور به مثل حاله من الوحدة والضعف والذلة والقلة، وصدرت الحال به كفعاله في الغلبة والمنعة، والقهر والظهور، وغير ذلك؟ لقالوا لا.
ثم أنت لا تؤمن بمقالته، ولا تقر برسالته، إلفا لدينك، وضنا بملكك، وطمعا في قليل من الدنيا قد نعاه الله إليك، ورغبة في صبابة عيش غير باقية في يديك؛ فهذا عجب. وأعجب من هذا أمر يقفك أمير المؤمنين على نور حقه، ويوضح لك إن شاء الله بيان أمره: أصبحت العرب طرا والأمم جميعا في محمد
صلى الله عليه وسلم
ثلاثة لا رابع لهم ولا مخرج للحق من بينهم: رجل مصدق به من المؤمنين، ورجل مكذب به من الكافرين، ورجل شاك فيه من المنافقين.
فأما الشاك فلما قيل له: أخرجت نفسك من الحق، وأبرأتها من الصواب، وأقررت عليها بالخطأ، لقولك: لا بد أن يكون الحق في التصديق أو التكذيب، ولست على واحد منهما ، اعتزل عنها.
وأما المكذب فلما قيل له: أنت منكر والمنكر ليس بمدع، ومن لم يدع لم يلزمه بينة ولا يسأل عن حجة، اتبع صاحبه. وايم الله على ذلك، لو سئل هذا المدعي عن بينته وكشف حجته، فقيل له: من أين عرف قلبك، وأيقنت نفسك إيقانا لا يخالجه شك، ومعرفة لا يشوبها ريب ولا ينازعها شبهة، أن محمدا
صلى الله عليه وسلم
ليس برسول، لما دري ما يقول؛ لأنه لا يستطيع أن يتقول على الرسل، ولا أن يتكذب على الكتب، فيقول: قد أخبر الله فيها أنه لا يبعث نبيا، ولا ينزل وحيا في كتاب مسطور، بعد التوراة والإنجيل والزبور. بل قد يجد أهل الكتاب في أقاويل رسلهم وأخابير كتبهم، أن الله تبارك وتعالى ينزل كتابا جديدا أو كلاما حديثا، بعد خراب بيت المقدس في آخر الزمان، ولم ينزل بعد ذلك كتابا إلا القرآن.
وأما الرجل المصدق بمحمد
صلى الله عليه وسلم
فقيل له: أما أنت فقد ادعيت، والمدعي يسأل عن الحجة ويقبل منه البينة، فما بينتك ومن يشهد لك؟ فقال: ألم تقولوا: إن الحق لا يخرج من بيننا، ولا بد أن يكون مع بعضنا؟ قالوا بلى! قال: فأية بينة أحق وأعدل، وأي شهود أزكى وأفضل من شهادتكم بسقوط صاحبي وثبوت الحق من بعدهما في يدي؟ قالوا: إن الأمر لكما تقول، ولكن البينة أشفى للصدور؛ فأقام بينة من الكتاب، وشهودا من الوحي، وآيات سوى ذلك عظاما، وبينات عوام، من كلام لا يقدر عليه الخلق، وصدق لا يكون إلا من قبل الرب، شبيها بما أورده أمير المؤمنين عليكم، وكتب به في صدر كتابه هذا إليكم، مما قد تشهد له قلوب الأمم، ويزكيه فعال العرب.
فلما أقام بينته، وثبتت حجته، ووجب حقه، وقضى به له، قيل له: وكيف توسعت الأمور عليك، وضاقت المقالة لك، أن تقول: إن الله لا يبعث نبيا بعد محمد
صلى الله عليه وسلم
ولا وحيا ينزل غير القرآن، فأبطلت الكتب المحدثة، وأكذبت الوثيقة، ولم تترك وحيا غير القرآن، ولم يجز للنصارى أن تقول: لا نبي بعد عيسى عليه السلام، ولا كتاب خلف الإنجيل؛ وعن ذلك من أخبار الكتب ما قلنا كل متنبئ
95
بعد نبينا كذاب، فشاعت وجازت الحجة، ووضح العذر. وأما النصارى فيجدون في أواخر كتبهم، وأقاويل رسلهم، أن الله عز وجل، يبعث نبيا حديثا، وينزل كتابا جديدا، فليس لهم أن يكذبوا نبينا
صلى الله عليه وسلم
ولا أن يردوا كتابنا.
فهؤلاء الثلاثة. أما الشاك فسقط، وأما المنكر فبطل، وأما المصدق فثبت ثبوتا ليس فيه مدخل شبهة، ولا موضع لحجة، ولا معلق لمنازعة. وذلك أن المنكر لوجوب حقه، والشاك في ثبوت صدقه، لا يجد بدا من أن ينحي الصدق عن الخلق، ويخلي الدنيا من الحق، وهذا قول المكذبين بربهم، الشاكين في بعثهم، فأحسن النظر في معانيه ينكشف لك عما فيه، إن شاء الله.
ومن أبين آياته وأدل علاماته
صلى الله عليه وسلم
ووسع له فيما صدر إليه: أنه لما أخبرت النصارى واليهود أنهم لم يجدوا محمدا
صلى الله عليه وسلم
في التوراة والإنجيل موصوفا مكتوبا، تجمعت العلماء منهم، وتدارست الكتب فيما بينهم؛ فلما نظروا إلى اسمه وعاينوه بنعته، وكانوا يعرفونه كما يعرفون أبناءهم، ويستفتحون بذكره على من سواهم، [كفرت] طائفة حسدا من عند أنفسها، وجحدا من بعد ما تبين لها، وآمنت طائفة، تصديقا بكتابها، وخوفا من ربها.
فلعمر الله لو [لا] أن الذين آمنوا بحقه وصدقوا بأمره، رأوا صفته عيانا، وقبلوا نعته إيقانا، لما فارقوا أديانهم، ولا جادلوا إخوانهم، حتى وقفوهم على اسمه ونسبه، وصفته وعلامته، وهم علماء بني إسرائيل، وحملة الإنجيل: من أهل الكتاب الذين احتج الله عز وجل بهم على العرب، فقال عز وجل:
أولم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل . ولعمر الله إنها لآية عظيمة، وحجة بليغة، ذكرها الله في كتابه، وجعلها على العرب من بيناته، فقال لهم:
قل آمنوا به أو لا تؤمنوا إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجدا * ويقولون سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا . يقولون : وعدنا أن يرسل رسولا، فقد أرسله، وحقق قوله، وصدق وعده. واحتج النبي
صلى الله عليه وسلم
بذلك وذكره. ولم يكن النبي
صلى الله عليه وسلم
ليجادل ويحتج في أمرهم بكذب وباطل، ولم يكن ليقول للنصارى واليهود، فيما ذكر الله من صدق الموعود: إنه في التوراة والإنجيل مكتوب موجود، إلا وهو من ذلك على حق يقين، ونور مستبين. وكيف كان يستشهد من التوراة والإنجيل بكذب، ويتقول عليهم الباطل، مع حرصه على تصديق أهل الكتاب ليستدعي به إيمان أحياء العرب. أما كان يعلم أنه إذا قال لهم: إنه موجود في مثاني كتبهم، وسمي على أفواه رسلهم، فلم يجدوا خبره يقينا، ولا وصفه مستبينا، أنهم سيدبرون عنه إدبارا، تزداد به العرب نفارا، إلا أن يقولوا خطأ من علمه، وهواء من خبره، فكيف لم يخط إذن في كتبهم حرفا غيره، ولم يخالف منها شيئا سواه، سبحان الله! لقد أكثر المؤمنون العجب من ذهاب الأساقفة بكم، فأنتم إن تنكر ما يقولون لكم، مما ليس لذي لب أن يأذن له أن يؤمن به، ولا أن ينبذ إليه سمعه،
96
يقولون: إن أنبياء الله ورسله، المبعوثين بالرحمة إلى خلقه، لطفت النبوة منهم، ووقعت الأخبار المنزلة عليهم، على صغائر الأمور، وغوامض الخطوب، فسار الناس عليها، وأشاروا لهم إلى طلبها، فهي مكررة في مثاني كتبهم، وبطون صحفهم، وأقاويل رسلهم، وتركوا من كلام الله النبأ العظيم، والأمر الكبير، والذكر الحكيم، الذي ملك آفاق الأرضين، واستفاض على جميع العالمين، لم يذكروه بخير يأتمرون به، ولا بشر ينتهون عنه؛ كلا! ما ترك الله على هذا خلقه، ولا بهذا وصف تبارك وتعالى نفسه؛ إنه لأرحم الراحمين، وأحكم الحاكمين.
ولئن رجعت إلى قلبك، لتقولن في نفسك: لعمر الله لو كان هذا الأمر الذي طلع طلوع الشمس، وامتد امتداد النهار فبلغ مشارق الأرض ومغارها، وسهول الآفاق وحزونتها، حقا وصدقا وعدلا، لبشرت الكتب به، وتنبأت الرسل عليه، ودعت النذر إليه، تزيينا له وترغيبا فيه، وأمرا به. ولو كان ضلالة وجهالة وعماية، لتقدموا في التحذير منه، والتزهيد فيه ، والتثبيط عنه؛ فيدعو ذلك إلى أن تنظروا
97
إلى كتب الأنبياء وأقاويل الرسل. فايم الله لئن طلبت لتجدن، ولئن اجتهت لتوفقن، وما الصواب بممنوع، ولا الخير بمحظور. ولقد كانت العلماء بالكتب والبصراء بالتأويل تجده، ولكنها كانت تكتمه بتحريف كلام الكتب عن مواضعه، وصرف تأويل الحكم إلى أشباهه، حسدا من عند أنفسهم وبغيا بعد ما تبين لهم. ثم لقد اقتديتم بهم وجريتم معهم وأخذتم عنهم، بلا حجة لكم، ولا قوة معكم إلا الاقتداء بالآباء والاتباع للآثار. فاتق الله في نفسك، واتهم الرجال على دينك، ولا تجعل النظر إلى غيرك من ذوي الشك في القلوب، والفسخ في
98 ... والتهم في التعطيل، الذين لعلهم يعرض لآرائهم ويقع في أوهامهم أن يقولوا: فلعل ما يتلو عليكم أمير المؤمنين من آيات القرآن، ويقرع لكم من حجج الوحي شيء زيد في المصاحف بعد النبي
صلى الله عليه وسلم . وهذا ما لا يحتمله عقل صحيح ولا نظر قوي، وذاك الشاك في شهادات الرجال، متفقة من بلدان وأمصار مختلفة، وشعوب وقبائل متفرقة، ليس يدعوهم إلى ما شهدوا دين، ولا يحملهم على ما اتفقوا عليه دنيا، لا يستقيم له أن يؤمن
99
بما لم تدركه جوارحه وتحيط به حواسه؛ لإسقاطه حجة الإجماع وإبطاله شهادة العوام. واتفاق المختلفين دلالة واضحة. فهو سائلكم عن الحجة في الإنجيل والبينة على التوراة، شكا في الرب وتكذيبا بالرسل، فما كنت قائله له أو مجيبه به في كتابكم، فأجبه بمثله في كتابنا وإن كانت الأحوال منها غير معتدلة ولا مؤتلفة ولا مرتفقة ولا واحدة، تعتدل حالاهما، ويتفق أمرهما، من كتابكم ما لم تنزل به الملائكة وحيا كالقرآن، ولم يشافه المسيح به أصحابه باللسان، إنما كان فعلا أثبت من بعده، ولم يكن الفعال موضوعا بعده.
100
وليس يكتب أمير المؤمنين بهذا إليكم شكا فيه، ولا يورده عليكم مرية به.
ولقد علم أمير المؤمنين أن كتب الله عز وجل محفوظة، وأن حججه مخزونة، لا يزاد فيها على تقادم عهد، ولا ينتقص منها على تقارب دهر، وأن ذلك ثبت في الإنجيل من بعد عيسى عليه السلام، وأنه قال لمن اجتمع إليه من الحواريين: «بالوحي أكلمكم، والأمثال أضرب لكم.» فأمثاله المضروبة كلام، وكلامه الرائع وحي. ولكن ما بال الشك ينفى عن كتابكم، بحجة الاجتماع عليه عندكم، وهو على ما وصف أمير المؤمنين لكم، وسيان في تنزيل كتابنا، وقد أدرك شهادة دينه، إما ما قربا
101
من عهده ومعاينة وحيه واجتماع على حفظه، هذا حكم مختلف.
فقل للذين يشكون فيه ويرتابون به: أوقعوا أوهامكم على حالات الأوقات التي تعرفون وقوعها
102
بطبقات الرجال الذين يتهمون.
فإن قالوا: أما طبقات الرجال التابعين، وحالات زمان أمير المؤمنين، فذلك ما لا يسوغ الأقاويل فيه، ولا تدخل الشبهة عليه، لانتشار القرآن وامتداد الزمان وكثرة الحملة لآياته فيهم، والحفظة للسانه منهم؛ ولكن الدين الذي نزل به القرآن، وقبض النبي
صلى الله عليه وسلم
بين أظهرهم. وكيف بوقوع تهمة أو دخول شبهة، على أقوام [لبث] النبي
صلى الله عليه وسلم
عشرين حجة فيهم يتلو كتاب الله عز وجل في كل عام عليهم، حتى حملوه في صدورهم، وحفظوه في قلوبهم، وكرر في آذانهم مسموعا، وأمر على أبصارهم مكتوبا، وجرى على ألسنتهم متلوا، وجمعه كثير منهم محفوظا؛ ثم توارثوه فيهم وتداولوه فيما بينهم، حتى أدوه إلينا، وأوفوا به عندنا، من مواضع متفاوتة، وأصناف وأجناس متباينة، على كلمة واحدة!
فإن قالوا: اتفقت الرجال على الزيادة فيه وأمكنت الحال من الحمل عليه، فليعلموا أن المؤمنين المخلصين ليسوا في الزيادة متهمين، وأن المنافقين الملحدين ليسوا على ذلك بقادرين. وكيف يقدر القليل من المنافقين على مخالفة الجمع من المؤمنين، بعد ما حفظته قلوبهم، ووعته أسماعهم، ثم تكتتم القدرة لهم وتستتر الزيادة منهم! هذا ما لا يقدر عليه منافق، ولا يطيقه مشرك ولا فاسق. وايم الله أن لو قدرت اليهود على الزيادة في الإنجيل، لأفسدوا كتابكم وغيروا دينكم؛ ولو جعل الله المنافقين على الزيادة في كتابه قادرين، لبدلوا ديننا وغيروا حالنا. ولو كانوا لذلك مقرنين وعلى ذلك مقتدرين، لكان الذي كتب به أمير المؤمنين إليكم، وأورده من حجج الله عليكم، أولى ما تلقون، ورأس ما تقترفون. فلا تلقين إلى ما قاله [المضل] سمعك، ولا تنصت الدهر إليه ذهنك، فإنه اتخذ الشك في كتابنا ذريعة إلى الإخلال بكتابك، وسلما إلى الشك في دينك
103
وعلة في الطعن على ملتك؛ ولكن قل يا ولي الشيطان: أنى وقع لك إيمان بأنك من ولد فلان؟ أتقول: شهدت الجيرة، واجتمعت العشيرة، واتفق المختلفون، فذهب الشك، وزال الريب، ووقع الإيقان، من غير العيان؟ صدقت. فما بال الشك فيما اجتمعت العامة على القول به، واتفقت الجماعة في الشهادة عليه من آيات الكتب وبينات الرسل! وإن ذهب بهذا عن أمره، وباعده
104
عن شبهه، فنؤمن أنه من نطفة خلق، ومن رحم خرج، فإن جحدوا بي ألا يؤمن بما لا يرى، فقل: أرأيت لو كنت سميعا أعمى، أكنت تؤمن بشيء مما في الدنيا: من سماء أو هواء، أو بحر أو سبع، أو أرض أو جبل، أو شبه ذلك مما لم يدركه العيان ولم يقبله إلا عن الناس؟ فإن قال نعم، فقل: فهل لك إلا بالاجتماع الكفر بالرب،
105
وما لدائه دواء غير الصلب. فاتق الله إذ كنت إماما وقائدا لأهل ملكك، لا تقدهم إلى النار فتحمل أوزارهم مع وزرك.
فإن من أبين آيات الوحي، وأدل علامات النبي
صلى الله عليه وسلم
أنه لا يبتدع في الدين أمرا من تلقاء نفسه، ولا يتقدم في الأمور بين يدي ربه. والله أظهر فيما أنزل من الكتاب أمورا كان يحسبها
صلى الله عليه وسلم
مستورة، فقالت تأديبا له، وإخبارا لمن آمن من بعده:
106
وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك واتق الله وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه . وقال:
عبس وتولى * أن جاءه الأعمى * وما يدريك لعله يزكى * أو يذكر فتنفعه الذكرى * أما من استغنى * فأنت له تصدى * وما عليك ألا يزكى * وأما من جاءك يسعى * وهو يخشى * فأنت عنه تلهى * كلا إنها تذكرة . وقال تعالى:
ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا * إذا لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات ثم لا تجد لك علينا نصيرا . وقال له حين صرف قلبه عن بيت المقدس إلى البلد الحرام حين سكنت القلوب إليها، وأنست النفوس بها:
ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا نصير . وكانت القبلة التي صرفه الله إليها وأمره بها عظيمة على المنافقين واقعة بخلاف الكافرين، كبيرة
107
إلا على الذين هدى الله من المؤمنين؛ فإنهم قالوا: إذا اختلفت القبلتان وافترقت الجهتان، كانت الطاعة فيهما واحدة لا اختلاف فيها ولا افتراق عليها. وكيف تختلف الطاعة من رجل بنى بأمر الله عز وجل ثم هدم بوحي الله.
فإن قلت: إن الله حوله عن أفضل القبلتين وأقوم الجهتين، فلا سواء في الفضل البين والخير السر: قبلة سلط الله عليها الكافرين ولم يمنعها من الظالمين، وقبلة منعها بجنود من عنده، وعصمها بغير ما حول من خلقه ولا حرمة يدعيها أحد ممن فيها؛ فأرسل طيرا أبابيل ترمي الأعداء بحجارة من سجيل، فجعلهم كعصف مأكول. فإن تقل: هذا خبر ننكره، وقول لا نعرفه؛ فبأي حديث بعد هذا تؤمن، وتشهد لله عز وجل أنه من قبله، وأنتم تعلمون أنه أنزل الله عز وجل سورة الفيل على قوم أدركه منهم بشر كثير.
فإن قلت: إن محمدا
صلى الله عليه وسلم
خبرهم بما عاينوه وأدركوا خلافه، نقل: إنه أراد أن يفرقهم عنه ويوحشهم منه، وأحب أن يرموه بالكذب، ويقذفوه بالحمق، ويصموه بالجنون، ويظنون
108
به الظنون، كلا! ما كان نبي ولا غير نبي ليجاهد أقواما بخلاف ما رأت أبصارهم وشاهدت آباؤهم، فيخبرهم بخلاف ما شهدوا، وتكذيب ما عاينوا. فلا تكونن في هذا من الممترين، ولا بأمر الفيل من المكذبين.
فلعمر الله لو كان من أمر النبي
صلى الله عليه وسلم
ما تلحد أنت وقومك إليه لما قام معه رجلان ولا اختلف فيه سيفان. وإن فيما صنع الله عز وجل بالفيل وأتباعه، دلالة على قبلة الله وأنبيائه. فاتق الله! فقد شرح أمير المؤمنين علامات النبي
صلى الله عليه وسلم
وكشف الأغطية لك عن النور بآيات الوحي. فإن مالت الأهواء بك، وغلبت الأساقفة عليك، وحضرك الرؤساء الذين يجعلون مع الله آلهة أخرى بلا حجة عندهم، ولا سلطان أتاهم فقل: أنبؤني عما اجتمعت عليه النصرانية وذهبت إليه بهم المعاني من تشقيق الكلام وتصريف الكتب: أحروف تتعسفونها، أم لغة تعرفونها؟ فإن قالوا: إنهم بغير لغة يتكلمون، فهم إذن قوم يلعبون. وإن قالوا: إنهم يتكلمون بلغة معروفة ومعان معلومة، فقل: أخبروني عن قولكم: أب وابن، أهما ما تعترف العقول من المنطق ويقع في القلوب من المعنى أم لا؟ فإن قالوا: لا ليس ذلك بالذي تذهب أوهام العباد إليه، ولا بالذي تقع الحقائق في الآباء والأبناء عليه، إنما هو كقول الله عز وجل في التوراة لإسرائيل: «بكرى» لا يعني ولادة الرحم؛ وكقول المسيح عليه السلام للحواريين: «أنتم إخوتي» لا يعني أخوة النسب. فذلك قول لا يجدون معه بدا من أن ينسبوا عيسى عليه السلام عبدا. وإن قالوا: بل هو ما تجري به ألسن العباد، ويقع في قلوب الخلق من الولادة المعروفة والأبوة المعلومة، فليخبرونا متى كان الأب والدا، والابن مولودا: أقبل الولادة أم بعدها؟ فإن قالوا: قبلها، رجعوا عن القول الأول بتثبيت الأبوة. إلا أن ذلك ليس بالشيء الذي تذهب إليه الأوهام، ولا بالمعنى الذي يقع في قلوب الأنام.
ولا بد إذا سقطت الولادة المعروفة وبطلت الأبوة الموجودة، أن يقولوا: إن الأب والابن اسمان علقا على غير معنى، ونسبان أضيفا إلى غير حق؛ فيقرون أن عيسى عليه السلام خلق مثلهم، وأنهم يتكلمون بغير لغة أحد منهم . وإن قالوا: إنما كان الابن مولودا والأب والدا بعد الولادة، فقد أقروا بأن الابن حدث مخلوق وعبد مربوب، لقولهم إنه لم يكن حتى ولد، ولم يولد حتى خلق. وقل لمن يقول الزور العظيم، ويقذف بالإفك المبين: أليس الأب أبا على حياله ولم يزل، والابن ابنا نجل، وروح القدس كذلك؟ فإن قالوا: نعم، فقد أقروا بأنهم ثلاثة متباينة، وقعت عليهم ثلاثة أسماء متفاوتة، وتركوا قولهم: إنهم ثلاثة أصلهم واحد.
وإن قالوا: الأب والابن وروح القدس واحد، ولكن بعضه أب وبعضه ابن وبعضه روح القدس، فقد دخلوا في التحديد الذي هو عيب عندهم، وقالوا في التبعيض بما هو كفر قبلهم. وإن قالوا: ليس مبعضا، ولا مجزأ، ولا محدودا، ولا ثلاثة متباينين، فإذا هم قوم يلعبون: يقولون: الأب ابن، والابن أب، والوالد مولود، والمولود والد، والكبير صغير، والصغير كبير، والقليل كثير، والكثير قليل. وهذا من أبين المحال وأخلف المقال. وليس من المنطق ما لا يوجد في لغة عرب ولا عجم، ولا لسان أمة من الأمم. وإنما أرسل الله عز وجل كل نبي بلسان قومه ليبين لهم، فيضل الله الظالمين. ولولا ذلك لما فهمت الأمم مذاهب أقاويل الرسل ولا معاني أحاديث الكتب. فلا تطع الذين يلعبون بأنفسهم، ويتكلمون بغير لغتهم، ويقولون: الثلاثة واحد، والواحد ثلاثة؛ وهذا محال في مجاري المقال، ومعاني الفعال.
لعمر الله لئن اتهمت عقول الأساقفة على دينك، واهتممت بالنظر في توحيدك، لتعلمن أن الواحد لا يكون ثلاثة وأن الثلاثة لا تكون واحدا، إلا على وجه ما له ثان يقول به، ولا منه مخرج تستريح إليه. فألق نحوه سمعك، وأنصت إليه فهمك؛ فإن أمير المؤمنين واصفه لك، وليس واقعا إلا على المخلوقين، ولا لازما غير المحدودين، ولا داخلا على رب العالمين: وهو أن يكون الشيء أصله واحد وأجزاؤه كثيرة، من نحو الإنسان، وهو أصل يجمعه اسم، وله أجزاء تلزمها أسماء؛ فليس الجزء بالأصل، ولا الأصل بالجزء، ولكن الجزء بعض الأصل. فإذا أردت الجزء، قلت يد الإنسان وسمع الإنسان. ولولا أنه محدود مخلوق مجزأ مبعض لما جاز هذا القول فيه ولا دخل هذا المثل عليه؛ وكذلك الشمس: الأصل واحد، وهي شمس، والأجزاء كثيرة وهو عين الشمس وضوء الشمس وشعاع الشمس ودقيقها وغليظها وحرورها وأعلاها وأسفلها وأشباه ذلك.
فلئن قلت سميت كل جزء من الأجزاء على حياله إنسانا، وكل جزء من الشمس دون أصله شمسا، ونسبت فعل الأصل إلى بعض أجزائه، وتركت أن تنسب الأصل فاعلا ببعض الأجزاء، كما تقول : بسط الإنسان بيده، ومشى برجله، ونظر بعينه، ثم ضربت ذلك لله عز وجل مثلا وجعلت الله له قياسا، فقلت: الأصل واحد، وهو الله عز وجل، والأجزاء كثيرة وهي أب وابن وروح القدس، وكل جزء منها إله على حياله ورب دون غيره، لم تجد بدا أن تلحق اليد والعين والنفس بالأب والابن وروح القدس، فتكثر آلهتك، وتحدد ربك، وتترك قولك: إن الله ليس محدودا ولا مجزأ ولا مبعضا؛ إلا أن يكون إنما تريد مذاهب الأسماء فتقول: المعنى واحد، وهو الله عز وجل، والأسماء أب وابن وروح القدس. فإن كنت تقول هذا وكنت إنما تعبد أسماء، فما تجد بدا من أن تعبد الأسماء كلها وتقول: إنها آلهة على حيالها، حتى تقول باسم ارحمني، وبثان اغفر لي. فاتقوا الله يأهل الكتاب؛ فإن الله عز وجل ليس بأب ولا ابن ولا اسم، ولكن له الأسماء الحسنى فادعوه بها، وذروا الذين يلحدون في أسمائه سيجزون ما كانوا يعملون.
فإن أشارت الأساقفة إلى بعض الإنسان باليد والرجل وأشباه ذلك وقالوا ليس إنسانا، فقل لا، ولكنه للإنسان، وقل هو إنسان بكماله. وكذلك إن أشاروا إلى بعض الشمس فقالوا: أليس هذا الشمس طالعا، فقل لا، ولكنه بعضها، ولو كانت الأسماء التي تقع أبصاركم عليها وتشير أيديكم إليها من الشمس والسماء والهواء شمسا وهواء وسماء لكانت الشمس والهواء والسماء أكثر مما يبلغه الإحصاء. ولو قصدت بالإجابة لمسالك هذه الأودية، لبطلت الحجج الداحضة وانقطعت الأقاويل المناقضة. وسل من قبلك من أساقف أمتك وشماسة أهل ملتك الذين يزعمون أن عيسى المسيح، ويرفعونه أن يكون عبدا : على أي شيء وقع اسم المسيح من عيسى: على الروح أم الجسد أم على كليهما؟ فإن قالوا: وقع على الروح نفسه، لأن الروح إله دون غيره، فقد أقروا بأن إلههم يأكل ويشرب، ويمشي ويركب، لأنهم يجدون ذلك من فعل عيسى مبينا قبلهم، موصوفا عندهم. فإن قالوا: وقع اسم المسيح على الجسد بعينه، فكان الجسد هو المسيح إذن دون غيره، والمسيح إذن مخلوق عندهم، والإله إنسان إذن مثلهم، فلم يعبدون المخلوق ويدعون من خلقه وبرأه. وإن قالوا: وقع الاسم على الروح والجسد جميعا، فلن يجدوا مخرجا ولا بدا ولا محيصا، إذا أوقعوا الاسم عليهما، من أن يضيفوا الأعمال إليهما، فيقولوا: إن الجسد المخلوق هو خلقهم، وإن الروح الخالقة قد ماتت قبلهم، وذلك لما يجدون من ذكر موت عيسى عليه السلام في الكتب عندهم وفي الإنجيل الذي قبلهم. وسل من قبلك عن الأب والابن، فقل أيهما أعظم وأيهما أصغر؛ فإن قالوا: الأب أعظم والابن أصغر، فقد جعلوهما متباينين. وإن قالوا: هما واحد وكلاهما عظيم، وليس الأب بأعظم من الابن، ولا الابن بأصغر من الأب، فقد نقض حينئذ جوابهم، وأكذب المسيح عليه السلام كلامهم، حيث يقول: «لو كنتم
109
تحبونني لفرحتم حيث أذهب إلى إلهي فإن إلهي أعظم مني» فلم يقل أعظم مني، إلا وهو مقر بأنه أصغر منه. وسلهم عن قول المسيح:
110 «أنا أذهب إلى إلهي وإلهكم»، فقل: من هذا الإله الذي ذهب عيسى إليه
صلى الله عليه وسلم : إله في السماء متباين منه منقطع عنه؟ فهما إذن اثنان متباينان، أم إله كان به متصلا وكانا جميعا واحدا؟ فكيف إذن يجوز له أن يقول إذن أذهب إليه! إلا أن يقولوا: إن بعضه ذهب إلى بعض! وهذا مما لا يجوز عندهم في صفة الرب عز وجل.
وسل من قبلك: أخرج المسيح من بطن أمه مريم بكماله حتى كان البطن منه فارغا وكان هو منه بكماله خارجا؟ فإن قالوا: نعم، فقد انكسر قولهم: إن الله بكل مكان. وإن قالوا: لم يخرج المسيح ولم يخل البطن ، فقد كذبوا إذن في قولهم: إنه قد خرج، وأقروا أنه قد ولد. فتعالى الله عما يصفون، وتنزه عما يشركون. وسلهم لم هبط عيسى إلى بطن مريم، وتجسد باللحم والدم؛ فإن قالوا: ليمحق الخطايا من الأرض ويربط الشيطان عن الخلق، فقل: كيف إذن لم يربطه عن نفسه! وكيف جلاباه
111
من اليهود بصلبه! ولم سلط على أهل دينه يتبعون في كل شعب ويقتلون بكل واد!
وقل للذين يقولون : إن الخالق في كل مكان من السماء والأرض وغير ذلك: أيهما أعظم: المحيط المشتمل، أم المحاط المشتمل عليه كما يقولون؟ تعالى الله عما يشركون. فإن قالوا: إنما التحم بعضه دون بعض، فقد حدوا وبعضوا ونقصوا وانتقصوا، وإما قالوا فلن يجدوا بدا من أن يقولوا: إن بعض المسيح الذي جعلوه ربهم، وهو إله عندهم، ميت بعضه جيفة، وإن بعضه حي طيب؛ لأنهم زعموا أنه التحم بجسد حي فيه روح، فلا بد إذن أن يدخل عليه ما يدخل على الأجسام الحية من الخوف والفزع والفرح والعطش وأشباه ذلك، وهو عندهم كفر عظيم وإفك مبين، فاتق عقوبة الله ربك، ولا تمش مكبا على وجهك، ولكن اطلب والتمس وابحث؛ فقد قال عيسى عليه السلام في الإنجيل: «من
112
سأل أعطي ومن طلب وجد ومن استفتح فتح له».
اجمع العلماء والبصراء [الذين] عندك، والأساقفة والرهبان الذين قبلك، فقل: لأي شيء نسبتم المسيح إلها وجعلتموه ربا؟ ونجد الله سماه في الكتاب ابنا، وقد تجدونه قال: «إني أذهب إلى أبي وأبيكم وإلهي وإلهكم أيضا.» وهذا كلام يحتمل وجهين أحدهما أولى به، وقول لا يحتمل إلا وجها وهو الربوبية. أم كيف تنظرون إلى كلامه: «أذهب إلى أبي وأبيكم» فتفردونها في نفسه وقد قالها فيه وفي غيره!
فاتق الله وكن من القائمين بالحق، الموحدين للرب. إن أمير المؤمنين قد ضرب لك أمثالا جمة، وصرف إليك مسائل كثيرة، وبين لك من آيات النبي
صلى الله عليه وسلم
وعلامات الوحي قليلا من كثير، واضحا من تفسير، لا تمتنع العقول من التصديق به، ولا القلوب من الإقرار به.
وسيذكر لك أمير المؤمنين من علامات النبي
صلى الله عليه وسلم
في التوراة والإنجيل، ما يكتفى به، إن شاء الله، وباليسير منه؛ لأن كتب الله عز وجل محفوظة، وحججه محروسة، لا يزاد فيها ولا ينقص منها. وإذا وجدت فيها كلمة تدلك على حق وتهديك إلى رشد، فلست واجدا أخرى تصدك عنه وتشككك فيه، إذا تلي ذلك بالحق ووضع على الصدق. ولكن ضلت اليهود والنصارى بتحريف تأويل الكلام، وتصريف تفسير الكتب. وأمير المؤمنين يسأل الله العصمة والتوفيق.
من ذلك ما قد شهد به عيسى عليه السلام عندكم وبينه في الإنجيل لكم، إذ قال للحواريين:
113 «أنا أذهب وسيأتيكم البارقليط روح الحق الذي لا يتكلم من قبل نفسه إنما يقول كما يقال له، وهو يشهد علي وأنتم تشهدون لأنكم معي من قبل الناس بالخطيئة، وكل شيء أعد الله لكم يخبركم به.» وترجمة البارقليط: أحمد. هذا ما لا شك ولا مرية فيه، وهو الذي يخبر بما وعد الله المؤمنين وصالحي الحواريين في القرآن؛ ولستم تجدون ذلك في التوراة ولا في الإنجيل.
ومن ذلك قول أشعيا
114
النبي عليه السلام: «قيل لي: اقم بطارا ما ترى بخبري؟
115
قال: أرى راكبين بعيرين مقبلين أحدهما يقول لصاحبه: سقطت بابل وأصنامها
116
المنحوتة.» ولسنا نعلم نبيا ركب بعد موسى
صلى الله عليه وسلم
بعيرا إلا محمدا
صلى الله عليه وسلم
كثيرا.
ومن ذلك قول دواد عليه السلام:
117 «اللهم ابعث جاعل السنة كي يعلم الناس أنهم بشر» يقول: كي يتبين الناس أن عيسى عليه السلام إنسان. ولسنا نعلم نبيا وضع سنة تنسب إليه إلا محمدا
صلى الله عليه وسلم . أما عيسى فإنه نصب سنة موسى عليه السلام.
ومن ذلك قول حبقوق
118
المتنبئ في زمان دانيال: «جاء الله من السماء
119
والقديس من جبال فاران، وامتلأت السماء من تحميد أحمد وتقديسه، ومسح الأرض بيمينه، وملك رقاب الأمم.» وقال أيضا:
120 «تضيء لنوره الأرض، وتحمل خيله في البحر.» فإلى من ينحو هذا القول، وإلى أين يذهب بهذا المعنى؟ لئن ذهب به إلى غير الذي [تحمل]
121
خيله في البحر، وبدأ من جبال فاران أمره، وغلب على الأرض ومسحها،
122
وملك رقاب الأمم كلها، لقد تركتم الحق وأنتم تعلمون.
ومن ذلك قول داود عليه السلام في الزبور:
123 «صدقوا وسبحوا الرب تسبيحا حديثا سبحوا الذي هلله
124
الصالحون. ليفرح إسرائيل بخالقه ويتوب صهيون من أجل أن الله اصطفى له أمته، وأعطاه النصر وسدد الصالحين بالكرامة، يسبحونه على مضاجعهم، ويكبرون الله بأصوات عالية، بأيديهم سيوف ذات شفرتين، لينتقم الله من الأمم الذين لا يعبدونه، ثم يقيد ملوكهم بالقيود وأشرافهم بالأغلال.» فأيتما أمة يكبرون الله بأصوات وأذان الصلوات الدائمة وعلى كل شرف وعند كل حرب، وأيتما أمة كانت سيوفها ذات شفرتين إلا أمة محمد
صلى الله عليه وسلم !
ومن ذلك قول
125
أشعيا: «سبحوا الرب تسبيحا حديثا، ويسبحه من آفاق الأرض فرح
126
يكون في بني فيار.» وبنو فيار قريش أهل فاران الذي نزل فيه القرآن. وأيتما أمة تسبح من آفاق الأرض إلا أمة محمد
صلى الله عليه وسلم . عبدي أكدي.
127
ومن ذلك قول أشعيا:
128 «عبدي الذي وجب به حبي الذي بشرت به نفسي أفيض عليه روحي، يوصي الأمم بالوصايا، لا يضحك ولا يسمع صوته في الأسواق، ويفتح العيون العور، ويسمع الآذان الصم، ويحيي القلوب الغلف، وما أعطيه لا أعطي غيره، أحمد يحمد الله حمدا حديثا، تهليله يأتي من أقصى الأرض، يجوز الماء بشدة أمواجه، ويفرح
129
وكورها، سكانها يحمدون الله على كل شرف، ويكبرونه على كل رابية.»
ومن ذلك قول داود
130
عليه السلام في المزمور الخامس والأربعين،
131
يقول الله عز وجل لمحمد في الزبور: «انصبت رحمتي على شفتيك من أجل ذلك باركتك
132
الدهر، تقلد السيف على الأمم، أيها الجبار على الأمم بالقتل والأسر والسباء بهاك وحمدك أحمد تغلب البر منك كلمة الحق وذللت لك الأشياء سيفك بجسمه يمينك ونبالك مسمومة وتسقط عند الأمم.» فأي نبي كان على الأمم جبارا ولهم بإذن الله قتالا إلا نبينا
صلى الله عليه وسلم .
ومن ذلك في آخر التوراة:
133 «جاء الله تبارك وتعالى من سيناء وأشرف من ساعير واستبان واستعلن من جبال فاران، وجاء عن يمينه ربوات القديسين.» وتفسير هذا أن الله عز وجل أنزل التوراة على موسى في طور سيناء، وأنزل الإنجيل على عيسى عليه السلام في جبل ساعير وهو جبل بالشام، وأنزل القرآن على محمد
صلى الله عليه وسلم
في جبال فاران وهي بلاد مكة. وأنتم تجدون ذلك في كتبكم مكررا وتعرفونه جميعا بلغتكم.
ومن ذلك قول الله عز وجل لموسى عليه السلام:
134 «سأقيم لهم من إخوتهم مثلك أجعل كلامي على فهمه ولا يتكلم إلا بما آمره به.» فمن إخوة بني إسرائيل إلا بنو إسماعيل! أما تعلم أن لو كان الله عز وجل يعني أحدا منهم لقال لهم: أقيم لكم نبيا منكم!
فإن قلتم إنما قال من إخوتكم، وهو يريد من أنفسكم، فهب أمير المؤمنين قبل هذا الخلف منكم ووسع في هذا المجال لكم، فكيف تصنعون بقول الله عز وجل في التوراة: «مثل موسى في بني إسرائيل لا يقوم» فهل تجدون من هذا مخرجا، ومن الإيمان أن المعنى وقع على محمد
صلى الله عليه وسلم
بدا.
ألا تسمع قول الله عز وجل: «أجعل كلامي على فمه كي يعنى به، أمي لا يقرأ ولا يكتب.»
أوليس قد أمر عيسى عليه السلام حوارييه أن يقولوا في صلواتهم:
135 «يا أبانا الذي في السماء تقدس اسمك.» كيف صار عيسى دونهم ابنا، وصار له دونهم أبا،
136
وهم يقولون: يا أبانا! أم كيف لم يجعل سليمان بن داود إلها وقد قال الله عز وجل لداود: «يولد لك غلام يسمى لي وأسمى له»! ولم لا يجعلون إسرائيل إلها وقد قال الله عز وجل له: «أنت بكري»! بل لم لا يسمعون المؤمنين عامة والحواريين خاصة [آلهة]، وقد قال المسيح للحواريين: أنتم إخوتي، وقد قال الإنجيل:
137 «أعط كل من آمن بي سلطانا يدعى له.» وإن كان هؤلاء كلهم للمسيح إخوة أفلا تجعلونهم كلهم آلهة! وكيف يقولون: إن عيسى ابن الله، وهو يقول في مواضع جمة وأماكن كثيرة إنه ابن الإنسان! فكيف يكون ابن الإنسان ابن الله؟ ومتى كان ذلك؟ لئن قالوا: إن عيسى لم يزل ابن الإنسان، لقد جعلوا مع الله إنسانا قديما وجعلوا الله إنسانا حديثا، وجعلوا المسيح ابن الله لم يزل، وابن الإنسان فيما حدث. وهذه أمور متناقضة، وحجج داحضة، وأقاويل فاحشة.
فإن قالوا: إنما نعبد المسيح لأنه رفع إلى السماء، فليعبدوا الملائكة فإنهم في السماء قبله، وإدريس فقد رفعه الله وغيره. وإن كانوا يعبدون المسيح لأنه لم يخلق من ذكر، فآدم وحواء لم يخلقا من ذكر ولا أنثى، ولم يقعا من غم الرحم وضيق البطن وحال الصبا فيما [وقع] فيه المسيح.
وإن قالوا: إنما نعبد عيسى لأنه أحيا الموتى، فما أحيا حزقيل
138
أكثر، وما كان من اليسع تلميذ إلياس أعجب؛ لأنه أحيا الموتى بعد مئتين من السنين. وإن طلبتم ذلك في سير الملوك عند قصة اليسع أصبتموه، إن شاء الله.
وإن كانوا إنما يعبدون المسيح من أجل الأسقام التي أبرأ والعجائب التي أرى، فعجائب موسى أعجب وآياته أعظم. أين ما ذكرت لك من [عجائب] عيسى من عجائب موسى: من انقلاب البحر له، وسلوك الجيش معه! أم أين ذلك من حجر يضربه فينفجر بعيون الماء، ويحمله معه حيث شاء! بل أين تلك وهذه وغير هذه من الآيات من حبس يوشع الشمس
139
ثلاث ساعات! وكل ما صنع موسى وعيسى وغيرهما بإذن الله وأمره وقدره وقضائه. فاتق الله وكن من القائلين بالحق، الموحدين للرب، ولا تقل على عيسى ما لم يقل؛ فإنكم لا تجدونه قال لكم في شيء من كتبكم: اعبدوني فإني ربكم. تعالى الله عما يقول الظالمون، ويذهب إليه الجاحدون.
وإن أمير المؤمنين قد أحب أن ينصح لك، في أولى داريك بك وأهم شأنيك لك، فدعاك إلى الإسلام وأمرك بالإيمان الذي به تدخل الجنة وتنجو من النار. فإن قبلت فحظك أصبت، ونفسك أحرزت، ولك ما للمسلمين، وعليك ما عليهم. وإن رددت نصيحة أمير المؤمنين فيما فيه الحظ في آخرتك، فإن أمير المؤمنين ينصح لك فيما فيه الصلاح في عاجلتك: من إعطاء الجزية التي يحقن الله بها دماءكم ويحرم بها سباءكم، ويجعلها قواما لمعاشكم، وصلاحا لبلادكم، وتوفيرا لأموالكم، وأمنا لجنابكم، وسعة لسربكم،
140
وبركة على فقرائكم، وغنى لأهل الحاجة والفاقة والمسكنة منكم.
ولن يذكر أمير المؤمنين في الجزية لكم من حلول الأمن فيكم، وعموم العافية إياكم، واستقامة البركة عليكم، وكف أيدي المسلمين عنكم، وبسطها على الأعداء منكم، شيئا إلا وفي قليل ما كان من أشباه ذلك أيام تلك الفدية التي كان الله أجرى نعمتها لكم على يده، وفتح بركتها عليكم من قبله، ما يدلكم على صدق أمير المؤمنين فيما يذكر، ويشهد له على حقه فيما يقول إن شاء الله. فقد تعلمون أن الله قد أدخل على كل طرف من أطرافكم، وصنف من أصنافكم، بتلك الفدية، أمورا عظيمة البركة، واسعة المنفعة، في أمور غير واحدة: منها: أن قادة جنودكم وساسة حربكم، كانوا بعد وقوع أمرها واستحكام عقدها، فراغا لمحاربة أعدائكم ومناصبة من ناوأكم، بين أن يستعجموهم
141
في بلادهم وينزلوا عليهم في ديارهم، ولا يرهبون تعقب بشر إن ساروا في أرضهم، ولا يتخوفون طرادا إن اجتمعوا لقتالهم أن يقيموا في خفض ودعة، وأمن وسعة، مع الأزواج والأولاد والعيال والأوطان والرباع والمحال، وهم اليوم يترقبون الجيوش من كل شعب ويتخوفون الحتوف في كل وقت، لا يهدأ
142
لهم جأش، ولا يسكن لهم فزع، ولا ينام لهم ليل، ولا يأمن فيهم حال، قد قطعت الهموم دابرهم، وأضمرت المخاوف جنوبهم، واستأصلت الجنود أموالهم.
ومنها: أن أهل الحراثة وإخوان العمارة، في بلادك وأطراف أرضك، كانوا سراعا إلى عمارة أرضهم وإصلاح ما تحت أيديهم، فيما لا قوام لهم ولا لمعاشهم إلا به، ولا بقاء لدينهم إلا معه؛ قد أمنوا الجيوش ومعرتها، والجنود وبادرتها، وانتشروا للعمارة، وابتكروا في الزراعة، فارقوا رءوس الجبال وإقحام الغياض، وراحوا في أوساط أوطانهم وظلال محالهم، يشققون الأنهار، ويغرسون الأشجار، ويفجرون العيون، حتى نمت الأموال، واخضرت الحال، وأخصب الجناب؛ وأصبحوا اليوم عن الزراعة ممسكين، وللحراثة تاركين، وبغيرها مشتغلين في إصلاح آلات الهرب، وإحراز العيال في الحصون، ورم القلاع للجلاء، وتحريش الحصون للبلاء، قد انتقلوا عن منابت البر وكرائم الأرض، ومجاري المياه، إلى أوشال الجبال، وأشجار الغياض، وبطون الأودية؛ فليس يبلغون من عمارة بلادهم، ولزوم أوطانهم، [و] من تناول ثمارهم وقوام معاشهم مثل ما كانوا يبلغون، ولا ينالون من خفض العيش وطيب الأمن ولذة الدعة، قريبا مما كانوا ينالون.
ومنها: أن إخوان التجارات، وأصحاب الأموال وأهل الظلف والحافر، كانوا يتناولون ما شارفهم من بلادنا
143
وما قاربهم من أسواقنا ، فينفقون تجاراتهم ويغلون بضائعهم، فتعظم الأرباح وتضعف الأثمان. وكانت الباعة من تجار المسلمين وغيرهم من الذميين، يتناولونهم للبيع لهم ويتناولونهم للشراء منهم، فعمت البركة وسهلت المنفعة، حتى نالت الرعاء في جبالها وأقتالها،
144
والنساء في غزولهن وعمل أيديهن فضلا عن غيرهن.
ومنها: أنك ومن قبلك من ذوي العبادة والزهادة والتأله والنسك والنيات، كنتم على عافية من أيام الرضا بالحرب، وسلامة من أوزار الحض على قتال الخوف؛ قد نجوتم من معصية المسيح في الدنيا التي نهاكم عنها، والأمور التي أمركم بها، من نحو قوله:
145 «من لطم خدك الأيمن فأمكنه من الأيسر، ومن انتزع قميصك فأعطه كساءك، ومن لطمك فاغفر له، ومن شتمك فأعرض عنه.»
ومنها: أن من بأقاصي بلادك ونواحي حوزتك، قد ذاقوا تلك الأيام من لذة الخفض، ودعة الحال، وحلاوة الأمن، ورفاهية العيش، وسعة العافية من سباء أزواجهم، وهيض أولادهم، وحطم معاشهم، وأسر رجالهم، وغنيمة بقرهم وغنمهم، وإفساد شجرهم وثمارهم، وإجلاء عن مساكنهم وأوطانهم، ما لم يكن لهم رأي يعرفه، ولا ظن يبلغه، ولا طمع يقاربه، ولا أمل يذهب إليه. وما قد عرفت الخاصة من بطارقتكم، والعامة من أهل ملتكم به: من رأفتكم بهم، ورحمتكم لهم، وشفقتكم عليهم، وأثرتكم إياهم، وبركة ولايتكم ملكهم، ومنفعة سياستكم أمرهم، ما قد ازدادوا لكم به محبة، وفي بقائكم رغبة، ولأمركم طاعة، وعلى ملككم شفقة، وفيما نابكم نصيحة؛ مع ما قد ازددتم بذلك من الهيبة في صدور الأعداء، والشرف في قلوب النظراء، والعظم في عيون الأمم، حتى أقروا لكم بقوة عزائم العقول، وفضل سياسة الأمور، وصحة تدبير الملك، وصدق النية ، ولطف الحيلة التي جعلوا نسبة عملكم بها، ومحل رأيكم فيها؛ على أنكم نظرتم لضعفائكم حتى قووا، ولفقرائكم حتى استغنوا، ولقرائكم حتى بينوا وحيو وقووا المسلمين
146
من أيام الحروب وأوزار القتال، ومعصية المسيح عليه السلام، ولأعدائكم الأبعدين وجيرتكم الأقربين، حتى كنتم من فراغكم لهم، واشتغالكم من أمركم بها ما أوطأتموه لحر سحر
147
القتل، وذل الأسر وغلبة القهر، والإذعان والاستسلام. وإما كفيتموهم بالصلح، واستوثقتم منهم بالرهن.
فإذا ذكرت ما كان من هذا وأشباهه وأمثاله في الفدية، فاعلموا أن أمثاله وأضعافه مقيم معكم في الجزية، فلا يكون لك رأي غيرها ولا أمر سواها؛ فلقد أكثر أمير المؤمنين العجب من أمركم، وأطال تقليب الفكرة في بعضكم، فظن أن إخراجكم من جميع ما كنتم فيه إلى خلافه مما أصبحتم عليه من انتظار وقعات الحروب، وصولات الجنود وأكل الحدود، وتوقع الجلاء والسباء والقتل، والأسر والحصر، شيئا اختدعكم الله عز وجل فيه عن أنفسكم وكيدا استدرككم به لما علم من قلوبكم.
ألا إن أعجب عذركم وأفظعه كان عند أمير المؤمنين إذ بلغه جرأتكم على الله عز وجل في نقض عهده، واستخفافكم بحقه في خفر ذمته، وتهاونكم بما كان منكم، وأنتم تعلمون أن مواثيق العهود ونذور الأيمان الذي وضعه الله عز وجل حرما بين ظهراني خلقه، وأمانا أفاضه في عباده، لتسكن إليه نفوسهم، وتطمئن به قلوبهم، وليتعاملوا به فيما بينهم، ويقيموا به من دنياهم ودينهم؛ فما من ملك من الملوك ولا أمة من الأمم، تبيح حمى الله عز وجل، تهاونا به وجرأة عليه، إلا أجرى الله عليهم دائرة من دول الأعداء، وأنزل عليهم عذابا من السماء. وقد رجا أمير المؤمنين أن يجري الله نقمته منكم بأيدي المسلمين، بعد إذ كان اعتقد عهدكم، وأخذ ميثاقكم بالأيمان المغلظة، والعهود الموكدة، التي قد اعتقدها في رقابكم، وحملها على ظهوركم، فأشهدتم الله لها على أنفسكم، وتسامع بها من حولكم، وحكم بها بطارقتكم وأساقفتكم. فلا الله اتقيتم، ولا من الناس استحييتم، نكثا للعهد، وبغضا للمسلمين، وخترا بالأمانة، وإباحة للحمى. فتوقعوا العقوبة، وانتظروا الغيب ؛ فلقد وثق أمير المؤمنين أن من عذاب الله ما هو حال إن شاء الله بكم.
ومن أسباب ما يريد الله من الانتقام منكم، ما قد أزمع أمير المؤمنين وعزم عليه، وقذف الله في قلبه: من الإرادة والنية والرغبة في إيطاء الجيوش بلادكم، واستباء المقاتلة أرضكم، والتفرغ لكم من كل شغل، والإيثار لجهادكم على كل عمل، حتى تؤمنوا بالله وأنتم طائعون أو كارهون، وتؤدوا الجزية عن يد وأنتم صاغرون، فكونوا على عدة من الجزية، ويقين من الانتجاع الذي لا طاقة لكم إن شاء الله به، ولا صبر لكم بإذن الله عليه؛ فإن جنود أمير المؤمنين فارغة كثيرة، وخزائنه عامرة وافرة، ونفسه سخية بالإنفاق، ويده مطلقة بالبذل، والمسلمون نشاط إليكم، منقلبون عليكم، قد عودهم الله في لقائكم عادة يرجون انتظار مثلها، وأبلاهم في قتالكم بلاء من أمثالها، إن شاء الله.
وكتاب أمير المؤمنين نذيره بين يدي جنوده، ومقدمه إن شاء الله من جيوشه، إلا أن تؤدوا الجزية عن التي دعاك أمير المؤمنين إليها، وحداك ومن قبلك عليها، رحمة للضعفاء الذين لا ترحمهم، وتوجعا للمساكين مما لا توجع منه لهم من الجلاء والسباء والقتل والأسر والقهر، وقساوة من قلوبكم، وأثرة لأنفسكم، واعتصاما بخواصكم، وإجلاء لعوامكم الضعفاء الفقراء المساكين الذين لا تمنعونهم بقوة، ولا تدفعون عنهم بحيلة، ولا تراقبون في الرحمة لهم والتعطف عليهم، أدب المسيح إياكم، وقوله في الكتاب
148
لكم: «طوبى للذين يرحمون الناس؛ فإن أولئك أصفياء الله ونور بني آدم.»
وايم الله لو يعلم من قبلك من المساكين والزراعين والفقراء والضعفاء والعملة بأيديهم، ما لهم عند أمير المؤمنين لتحدروا عليه وأقبلوا إليه، من إيوائهم، وإنزالهم الأرض الواسعة، وإمكانهم من مسايل المياه السائحة، والعدل عليهم بما لا تبلغه أنت ولا تقاربه، رفقا بهم ونظرا لهم وإحسانا إليهم، مع تخليته إياهم وأديانهم، لا يكرههم على خلافها ولا يجبرهم على غيرها، لاختاروا قرب أمير المؤمنين على قربك، وجواره على جوارك، ولأنقذوا
149
أنفسهم وأموالهم وأولادهم وأزواجهم وعيالاتهم، مما يحل بهم في كل عام ويلقون من كل غزاة. فاتق الله واقبل ما عرض عليك من الجزية، ولا يمنعنك ما فيه
150
الحظ لك ولأهل مملكتك. ونحن على رجاء أن الله لا يؤخر ذلك منكم ويدفعه عنكم، إلا ليجعله على يد أهل بيت النبوة والرحمة، ولأهل الوراثة فيهم للكتاب والحكمة، الذين لا يدخل عليكم في الإذعان [لهم] وأداء الجزية إليهم حمية ولا نقيصة ولا عار، والذين يفون لكم بما يعقدون، ويتبعون فعلهم ما يقولون.
ثم أمير المؤمنين بخاصة لما جعل الله عليه رأيه وفيه نظره من البر والرحمة والإقساط والوفاء بالعقود والعهود والشروط، نظرا لدينه وخوفا من ربه، ولما قذف الله في قلبه وقلوب المسلمين من المحبة والطاعة والأثرة، ولما جعلهم الله عليه من اجتماع الكلمة، واتفاق الأفئدة، والنصائح في السر والعلانية، وما عوده الله ممن نصب له بمجاذبة ورماه بمكايدة، وعراه بحيلة: من النصر العزيز، والفتح القريب، والظفر المبين. فابذل من الجزية ماشئت، وسم منها ما هويت. واعلم أن أمير المؤمنين ليس يحذوك عليها لحاجة به إليها ولا للمسلمين، ولكن طاعة لربه وأثرة لحقه، وليجعلها سببا لما يريد أن يجري فيما بينه وبينكم. وإنه إنما كان قبول المهدي - رحمه الله - الفدية منكم، بطلبة أمير المؤمنين كانت إليه، والحاجة كانت فيها عليه؛
151
ولم يكن من رغبة فيها، ولا حاجة إليها، ولا استعظام لها، ولقد كان يعطي في المجلس الواحد مرارا أمثالها، ولكن ذلك كان رأي أمير المؤمنين يومئذ فيكم. فأما اليوم إذ استبان له غدركم ونقضكم ونكثكم واستخفافكم بدينكم وجرأتكم على ربكم، فليس بين أمير المؤمنين وبينكم، إلا الإسلام أو الحرب المجلية، إن شاء الله. ولا حول بأمير المؤمنين ولا قوة إلا بالله؛ عليه يتوكل وبه يثق وإياه يستعين. والسلام على من اتبع الهدى. (3) رسالة يحيى بن زياد في تقريظ الرشيد
أما بعد، فإني أسأل الله لأمير المؤمنين في غابر أموره، أحسن ما عوده في سالفها من السلامة التي حرسه بها من المكاره، والعز الذي قهر له به الأعداء، والنصر الذي مكن له في البلاد، والهدى الذي وهب له به المحبة، والرفق الذي أدر له به الحلب، والاستصلاح الذي اتسقت له به الرعية، حتى يكون بما أعطاه من ذلك، وما هو مستقبل به منه، أبعد خلفائه في الخير ذكرا، وأبقاهم في العدل أثرا، وأطولهم في العمر مدة، وأحسنهم في المعاد منقلبا.
ثم نحمد الله الذي جعل نعمته على أمير المؤمنين شواهد منه على منزلته منه ومكانه عنده؛ لا يحتاج معها إلى شهادات المثنين، ولا صفات المقرظين، ثم جعل ذكر نعمته على أمير المؤمنين ومناصحتها والمجاهدة لمن كادها فريضة أوجبها على العباد، ومحبة امتحنهم بها، وفرقانا ميز به بينهم، فمن أصبح من رعيته أكثر شغله أن يستعمل لسانه في صفته، وذكر محاسنه وفضائله، ووجوب حقه وطاعته؛ فقد أصبح آثرا أولى الأمور وأحسنها مغبة في دنياه ودينه؛ ومن بدل ذلك عن قدرة عليه، ودفعه بعد معرفة، فلم يدعه إلا عن خذلان حاق به، أو بدعة استمالته؛ كانت حجة الله لأمير المؤمنين عليه هي الكافية لمئونته. وقد كان علماء الناس وجهالهم يسوون في عام المعرفة بفضل أمير المؤمنين؛ فأما الخاص فلأهل الفضل فيه فضلهم، غير أنه مهما كان من ذلك فقد أصبحوا وهم فيه على منازل ثلاث: حاسد حجب الحسد بصره عن مواقع الصواب أن يراه، والنعمة أن يشكوها، والحق أن يؤديه؛ وكانت معرفته عليه وبالا، وحسده إلى الضر
152
به قائدا. أو ذو هوى. قاده الهوى إلى البدعة وأخرجته الضلالة من الجماعة، فهو عرضة لسوء الأدب أو سيف النكال، لم يوحش الله أحدا بفقده، ولم يعزر أحدا بموالاته. وموفق معصوم
153
استنقذه [لله] بموالاة أمير المؤمنين من غل الحسد وبدع الآراء وجبله على صحة الهوى، فهو إن نظر فبعينه ينظر، وإن قال فبلسانه يقول، لا يأمن حتى يعلم أن أمير المؤمنين قد استوطأ مهاد الخفض، ولا يزال له طليعة رأي توفي على خطة حزم وغامض فطنة، تغلغل إلى لطيف منفعته و[تكون] سهم مكيدة نحو عروة،
154
قد علم أن يوم أمير المؤمنين يومه، وأن غده غده، فهو وإن تعرض لأداء الحق في نصيحته ينظر لنفسه نظر من لا يأمل السلامة إلا بسلامته، ولا البقاء إلا ببقائه. وقد رجوت بالقرابة التي جعلها الله لي به، والواجب الذي عرفته من حقه، والعظيم الذي حملته من معروفه، ألا يكون أحد ينظر إليه بعين الإشفاق أقوم ما جعله الله أهله مني، فإن أبلغ الذي أردت فبتوفيق الله، وإن أقصر فعن مثل ما حاولت قصر المجتهد.
فأول ما أنا ذاكره من فضله: أن الله قدم له الصنع في سابق علمه، فجعل محتده خير المحاتد عنصرا، ثم اختار له أبا فأبا لا ينقله من أب إلى أب إلا نقل معه وإليه فضيلة العنصر الذي هو منه حتى صيره بعد فضائل آبائه إلى أفضل بدنة، فكان خير خلف من خير سلف، وأفضل ولد من أفضل أبوة، وأرضى إمام من أزكى أئمة؛ ثم اختار له مكارم الأخلاق، وألبسه جمال الصورة، فلا نعلم نحن ولا آباؤنا خليفة أبعد في حلمه من ذل، ولا في هيبته من تجبر، ولا في شدته من عنف، ولا في لينه من وهن، ولا في أناته من غفلة، ولا في اقتصاده من بخل، ولا في بذله من إضاعة، ولا أرق وجها عند لقاء، ولا أحسن بشرا عند تحية، ولا أغزر دمعا عند موعظة، ولا ألين قيادا عند تذكير بالله منه.
ثم أفضت إليه الخلافة وفي المال ما فيه من القلة، وفي الناس ما فيهم من الإحراج،
155
فما دفع عن مال يعطيه عن قلة، ولا قطع عادة توسعة على رعيته؛ ثم استدر الحلب برفقه، فكلما در له منه شخب
156
فوقه
157
طائفة من جنده حتى سقاهم بعد التفويق ريا، وبعد النهل عللا؛ ثم ساس رعيته بألين السياسة فعفا عن مذنبها ولو شاء لعاقب، وآمن خائفها ولو طلب لأدرك، ودفع بالحسنة السيئة ولو كافأ لقدر، فما برح صنع الله له يفض جموع الضلالة بلا قتال، ويعز له النصر بلا مكاثرة، حتى فرغ بشغله من كان لا يفرغ من الوزارء، ونام بسهره من كان لا ينام من العامة، واطمأنت بمناآته
158
للأسفار دار من كان لا ينال الخفض من الجنود حتى استوطئوا مركب الأمن فكلهم ضنين بمفارقته. أما ذو النية فكرن إلى النقض. وأما من لا يبدله ففعل ما كان يؤخذ به من الاستكراه. وأما الحشر من الجند والرعاع فغلبت عليهم عادة الهوينا، حتى لو رأيناه يجذبه الأمر فما يجد له الأمر غناء عنده ولا نشاطا ولا حدا إن وكله إلى قوته، وقواه بماله.
159
فلما رأى ما رأى من تخاذل العامة، وتواكل الجنود، ونزور الفيء، وجمود الحلب، واستكلاب العمال على الخيانة، وجرأة الرعية على منع الحق، ومال الفراغ بكثير من الناس عن القصد، فتحركت الأهواء، واستعرت نيران العصبية، وجاشت صدور الحسدة وأشياعهم بالأماني، وظنوا أن لا شدة معه، وأن عفوه لا نكير بعده، وأمير المؤمنين يرمقهم بعين بصيرة، وأذن مصيخة، وقلب يقظان؛ وقد وقر الحلم أن يخف لأول بوادر السفهاء، فهو ينتظر بالمدبر أن يقبل، وبالمائد أن يعتدل؛ وبالمغلوب على رأيه أن يتذكر فيبصر، شمر في إثرهم تشمير من قدم الروية قبل العجلة، والعفو قبل العقوبة، والتثبت قبل الإقدام، فاتخذ روابط أنتجها على الجلد والنشاط، ليست لهم سوابق تدعوهم إلى الإدلال، وتسمو بهم إلى كثير لم ينالوه؛ إنما همهم أن يتفاضلوا في النجدة، ويستوجبوا بالغناء، ثم فرقهم على خواص خدمه، فإذا أراد أن يتناول بهم فرصة ممكنة، أو عدوا غاط،
160
أو راتق فتق قبل الساعة، يغمس يديه إلى أيهم أراده، فينفذ لأمره ولم يشركه فيه مشير، ولم يخرج به توقيع، ولم يخص فيه عامة، ولم يطلع منه على مكيدة، فلم نعلم أننا رأينا جندا أسرع نهضة إذا مروا، وأحسن إجابة إذا دعوا، وأفضل غناء إذا استكفوا من جنده. ثم قصد بنفسه حتى مثل بين النواحي إلى أهمها له فسادا في البيضة، وانقاصا من الأطراف، فأتى ناحية الشأم فوطئها وطأة جمع الله بها لهم شتات الفرقة، وأخمد بها بينهم نار الفتنة.
وأما الجزيرة فإنه ألفاها وهي كالجرح النغل، فاستأصل الله به منها شأفة الداء، وأطفأ به عنها بوادر السفهاء؛ وخير أمير المؤمنين من منزله الذي هو به منزلا جمع من بسطته في الموضع، ورفاهيته في المعاش، أنه حامل للجنود، جامع للمرافق، فباشر أمره أمرا أمرا، حتى إذا استدبر له منها مبرم، استقبل بعده جسام منتقض؛ وإذا أشحن من ثغوره ثغرا لم يرض حتى يفتتح من حصون أعدائه حصنا، وإذا قضى الله عنه حجة، وصل خطوه منها عزا؛ ثم رأينا ما عزم الله به عليه من ترك الصوائف
161
مراقبا للذي كان من غموط أهل الشأم لما كانوا فيه من النعمة، فلم نتشكك في أنه توفيق من الله له وافق سخطا عليهم حتى استباحوا الحرم، وتسافكوا الدماء، ونقضوا ما بينهم من مبرم حبل الإسلام.
ومن ذلك أن أرمينية كانت فيها جنود تخرج عليهم أطماع تحمل إليها، بعد اعترافهم بإخراجهم الأموال من كور الشأم، فلما رأى ذلك فعل كذا وكذا، فلم يتوكل على الله في أمر فوكله إلى نفسه، ولم يكتف به في حفظ طرف أو قاصية ثغر إلا كفاه مئونته، وعلم أن ما يدخل منن أضعاف العافية من عوارض العلل، إنما هو بتقدير من الله لا يمتنع بعذر، ولا يستطاع دفعه بحيلة، يصيب فيه أقواما بالبلايا والتمحيص، ويقسم فيه لأقوام الأجر والجهاد والسعادة، فرأى أن في عاجل ما يرفع عن أهل أرمينية من ضرر مئونتهم وغمطهم نفعا للرعية، وإجمالا للفيء، ورفقا بالعامة مع اقتصاده في الأبواب على أكناف سجيتها، وفي سائر أرمينية على المقاتلة من أهلها، ولم يزل منذ أراه الله ذلك، يكفيه مئونة ذاك الثغر، ويكف عنه بوائقه، حتى كأنه في هدوء الأحداث عنه، وسكون الأفئدة من روعاته مصر من الأمصار، واسط المحلة مأمون النائرة. فلما اغتنم خاقان ما اغتنم، وانتهز الفرصة مبادرا، لما قد أيقن من معالجة المؤمنين إياه، فكأنه حين بلغه ذلك من إعظامه إياه بسببه له، وما أنصب فيه من بدنه، وأسهر فيه من ليله، وأنضب فيه من نهاره، لم يعلم الذي يكون من اشتباهه في الأزمنة الماضية قبله، وأنه بذلك لجد عالم؛ غير أن حميته للإسلام وشفقته عليه وامتعاضه من أن يتناول شيء من أطرافه، قد زاد ذلك عنده قدرا في العظم، وتفاقما في الخطب، حتى أكمل البعث بأكثر العدد، وأكمل العدة، واستقل أهل الكور والأمصار، وندب له من أهل بيته من لم يترك بعده نهاية في التخير؛ وكان قد صرف باله إلى هذين الثغرين من الخزر والروم، وإلى هذين العدوين المحاربين له من المارقة المتعصبة.
فلما بلغ الله في إحكام أمرهما ما بلغ، لم يستغن عن إعادة النظر في أمر غيرهما من نواحيه ليستبرئ به، وإرادته في أقوام يدافع ظنونهم به في أخرى، وعلم غيرهما أن ما شمل من بمدينة السلام من الأمن والفراغ نتيجة مكروهة، فشخص عنها لتحقيق ذلك مؤثرا لأبغض وطنيه على أحبهما وأخشن عيشيه على ألينهما؛ فلما ظهرت له العورة أقدم إقدام ذي الحجة، فلم ير مثلها نارا خبت، وسحابة أقشعت، لم يسفك بها دم امرئ مسلم صبرا، ولم ينتهك فيها حرمة محرم إباحة.
وذلك أنه بسط يده بسط من يريد الاستصلاح لا من يريد الانتقام، فلم يلبث الظالع أن رجع عن ظلعه، والناطق أن صمت عن بدعته، والناكث أن رجع إلى قصده، وازداد البرئ على البراءة فرحا، والسالم بالسلامة اغتباطا، ولم نر مثله فيما أفضى الله به إليه من خلافته، وحمله من أمور عباه؛ أما ليله بمناجاة ربه فيها واسعتانته إياه عليها فساهر؛ وأما نهاره في حلب فيئها وإحكام أمورها فتعب؛ وأما صدقاته على فقرائها وأهل الحاجة فجارية؛ وأما مجلسه من فقهائها وصلحائها فغاص؛ وأما غلظته على ظالمها فعتيدة؛ وأما أفضاله لمظلومها فمبسوطة؛ ولئن كان الحق ألزم أقواما استوجبوا في أنفسهم وأموالهم، إنا لنعلم أن ما ترك أكثر، وأنه لولا ما خفف من الوطأة على أقوام لحمل الواحد منهم مثل الذي حمله للجميع، ولكنه رضي بالعفو، وسخا نفسا عن الاستقصاء، فأوجب أن يبسط يدا بغلظة ويتبعها أخرى بلين؛ فكان من ذلك نظره في هذه البقايا التي هي فيء المسلمين ومال الله، غير أن الله جعله قيمه فيه، وفي أخذه وصرفه في وجوهه؛ فلما رأى ضراوة
162
العمال بها ومصانعتهم دونها، وأن قد صارت كالسنة اللازمة لا يدعها عفيفهم تورعا، ولا شريفهم تنزها، أحب توفيره للمسلمين فيئهم، أن يحدث لهم أدبا يفطم به عنهم أهل الضراوة، ويعرف به ذوو الاستخفاف بالأمانة، والأمر للتبعة؛ أن عليهم
163
من تفقده وأدبه عينا ترمق، ويدا تقبض، ولو أنه حين هم بأخذ تلك البقايا حمل على الموسر بقدر يساره، وأخذ المعسر بطاعته، كان قد أنصف، كلا! ولكنه أحب أن يستبقي قوة، ولا يبلغ من المكثر جهدا، واقتصر بهم على العشر من ذلك، كرما في القدرة حين رأى موضع الرفق، وتجافى عن العلة حين عرف مكان الغدر؛ فأي نعمة أعظم، وأي بلاء أحسن من هذه البقايا! كانت في أيديهم جماما، فلما اطلع طلعها، وأخذ ما أخذ، وترك ما ترك، محللا مع ما جعل الله في ذلك من [كلمات]
164
المقصر من العمال المؤذية التي لم تكن تعدو أفواههم، فليس منهم أحد إلا وكان منه له واعظ ألا يكسر شيئا من الخراج تضييعا، أو يأخذه غلولا
165
أو ينفقه إسرافا، أو يتركه إرهابا.
فلما تفرغ من علاج الداء المخوف واستأصله، ومن الفيء المتفرق فجمعه، ومن الأمور المعطلة فأحكمها، استخلف على القيام بذلك من يحويه عقله عن حذر، ولا إضاعة عن حفظ، ولا لين عن تشدد، ولا يستحل الأكف عن نقض ما أبرم، ولا مزاولة ما أحكم، ولا فتح ما أغلق، ولا إغلاق ما فتح، فلان خيرة أبويه، ومح بيضته، وجوهر أرومته، الفائت سبقا، البين عدوا، الراسخ عرقا، المنفجر بحرا، المحمود أمرا، القائل فصلا، الحاكم عدلا، ثم انصرف بما أفاده الله من الأجر إلى جناحه الذي كان مده على من خلف من الأهل والأموال والرعايا والجنود، فلان سليلة صلبه، وثمرة قلبه، المحتنك مع فتاء سنه عقلا، والمأمون مع شدة شكيمته حملا، والمحصد مع لينه وتعطفه أمرا، الشبيه بأمير المؤمنين إن نطق نطقا، وإن نظر لحظا، وإن سئل جودا، وإن اهتصر عودا، وإن ساس رفقا، وإن غضب حلما، وإن وصف علما، وإن كلم فهما، وإن قدر عفوا، وإن لقي بشرا، وإن نازع فلجا، وإن قارع ظفرا؛ فكان عند ظنه به، رعاية للحرمة، وحزما في المكيدة، وحلبا للفيء، وحياطة للغائب، ومباشرة للشاهد؛ هذا قليل من كثير. مما جعلك الله أهله، وإنما اقتصرت عليه لأني رأيت المتكلمين من الخطباء تركوه، وأن ما سمعت من الكتب المقروءة لم تنظمه، فأحببت أن يعلم أمير المؤمنين أن له في كل أمر عمل به في رعيته حجة واضحة، وعذرا معروفا، إن قام به متكلم في خاصة حسن موقعه، وإن قرئ به كتاب في عامة، قويت به حجته.
والحمد لله الذي جعله وذريته أولياء هذه النعم، والمخصوصين بهذه الفضائل، ونسأله أن يبقيه وإياهم للدين الذي سد بهم عورته، والحق الذي أقر بهم جادته، والعدل الذي أوضح بهم أعلامه، حتى يكونوا ورثة هذه الأمة وخلفاءها في غابر الدهر، وباقيات الأيام؛ مستقلين بالعدل، موفقين للسداد، معصومين من الشبهات، مستوجبين مع فضائل الدنيا لأفضل كرامات المعاد. والسلام.
166 (4) كتب الرشيد (4-1) كتاب عهد البيعة
167
بسم الله الرحمن الرحيم
هذا كتاب لعبد الله هارون أمير المؤمنين، كتبه محمد بن هارون أمير المؤمنين في صحة من عقله، وجواز من أمره، طائعا غير مكره؛ إن أمير المؤمنين ولاني العهد من بعده، وصير البيعة لي في رقاب المسلمين جميعا، وولى عبد الله بن هارون أمير المؤمنين العهد والخلافة، وجميع أمور المسلمين بعدي، برضا مني وتسليم، طائعا غير مكره. وولاه خراسان وثغورها، وكورها وحربها، وجندها وخراجها، وطرازها وبريدها؛ وبيوت أموالها وصدقاتها، وعشرها وعشورها، وجميع أعمالها في حياته وبعده؛ وشرطت لعبد الله هارون أمير المؤمنين، برضا مني وطيب نفس، أن لأخي عبد الله بن هارون علي الوفاء بما عقد له هارون أمير المؤمنين: من العهد والولاية والخلافة، وأمور المسلمين جميعا بعدي، وتسليم ذلك له وما جعل له من ولاية خراسان وأعمالها كلها، وما أقطعه أمير المؤمنين من قطيعة، أو جعل له من عقدة أو ضيعة من ضياعه، أو ابتاع من الضياع والعقد، وما أعطاه في حياته وصحته من مال، أو حلي أو جوهر، أو متاع أو كسوة ، أو منزل أو دواب، أو قليل أو كثير؛ فهو لعبد الله بن هارون أمير المؤمنين، موفرا عليه مسلما له.
وقد عرفت ذلك كله شيئا شيئا، فإن حدث بأمير المؤمنين حدث الموت، وأفضت الخلافة إلى محمد ابن أمير المؤمنين، فعلى محمد إنفاذ ما أمره به هارون أمير المؤمنين، في تولية عبد الله بن هارون أمير المؤمنين خراسان وثغورها، ومن ضم إليه من أهل بيت أمير المؤمنين بقرماسين ،
168
وأن يمضي عبد الله ابن أمير المؤمنين إلى خراسان والري، والكور التي سماها أمير المؤمنين حيث كان عبد الله ابن أمير المؤمنين من معسكر أمير المؤمنين وغيره، من سلطان أمير المؤمنين، وجميع من ضم إليه أمير المؤمنين حيث أحب من لدن الري إلى أقصى عمل خراسان، ليس لمحمد ابن أمير المؤمنين أن يحول عنه قائدا ولا مقودا ولا رجلا واحدا ممن ضم إليه من أصحابه الذين ضمهم إليه أمير المؤمنين؛ ولا يحول عبد الله ابن أمير المؤمنين عن ولايته التي ولاه إياها هارون أمير المؤمنين: من ثغور خراسان وأعمالها كلها، ما بين عمل الري مما يلي همذان إلى أقصى خراسان، وثغورها وبلادها، وما هو منسوب إليها ولا شخصه إليه؛ ولا يفرق أحدا من أصحابه وقواده عنه، ولا يولي عليه أحدا، ولا يبعث عليه ولا على أحد من عماله وولاة أموره بندارا
169
ولا محاسبا ولا عاملا، ولا يدخل عليه في صغير من أمره ولا كبير ضررا، ولا يحول بينه وبين العمل في ذلك كله برأيه وتدبيره، ولا يعرض لأحد ممن ضم إليه أمير المؤمنين من أهل بيته وصحابته، وقضاته وعماله، وكتابه وقواده، وخدمه ومواليه وجنده، بما يلتمس إدخال الضرر والمكروه عليهم في أنفسهم، ولا قراباتهم ولا مواليهم، ولا أحد يتنسل منهم؛ ولا في دمائهم ولا في أموالهم، ولا في ضياعهم ودورهم، ورباعهم وأمتعتهم، ورقيقهم ودوابهم، شيئا من ذلك صغيرا ولا كبيرا.
ولا أحد من الناس بأمره ورأيه وهواه، وبترخيص له في ذلك، وإدهان منه فيه لأحد من ولد آدم، ولا يحكم في أمرهم، ولا أحد من قضاته ومن عماله، وممن كان بسبب منه، بغير حكم عبد الله ابن أمير المؤمنين ورأيه ورأي قضاته؛ وإن نزع إليه أحد ممن ضم أمير المؤمنين إلى عبد الله ابن أمير المؤمنين، من أهل بيت أمير المؤمنين وصحابته، وقواده وعماله وكتابه وخدمه، ومواليه وجنده، ورفض اسمه ومكتبه ومكانه مع عبد الله ابن أمير المؤمنين، عاصيا له، أو مخالفا عليه، فعلى محمد ابن أمير المؤمنين رده إلى عبد الله ابن أمير المؤمنين، بصغر له وقماء،
170
حتى ينفذ فيه رأيه وأمره؛ فإن أراد محمد ابن أمير المؤمنين خلع عبد الله ابن أمير المؤمنين عن ولاية العهد من بعده، أو عزل عبد الله ابن أمير المؤمنين عن ولاية خراسان، وثغورها وأعمالها، والذي من حد عملها ما يلي همذان، والكور التي سماها أمير المؤمنين في كتابه هذا، أو صرف أحد من قواده الذين ضمهم أمير المؤمنين إليه، ممن قدم قرماسين، أو أن ينتقصه قليلا أو كثيرا، مما جعله أمير المؤمنين له، بوجه من الوجوه، أو بحيلة من الحيل، صغرت أو كبرت، فلعبد الله بن هارون أمير المؤمنين الخلافة بعد أمير المؤمنين، وهو المقدم على محمد ابن أمير المؤمنين، وهو ولي الأمر من بعد أمير المؤمنين، والطاعة من جميع قواد أمير المؤمنين هارون، من أهل خراسان وأهل العطاء؛ وجميع المسلمين في جميع الأجناد والأمصار لعبد الله بن أمير المؤمنين والقيام معه، والمجاهدة لمن خالفه، والنصر له والذب عنه؛ ما كانت الحياة في أبدانهم، وليس لأحد منهم جميعا من كانوا أو حيث كانوا أن يخالفه ولا يعصيه، ولا يخرج من طاعته؛ ولا يطيع محمد ابن أمير المؤمنين في خلع عبد الله بن هارون أمير المؤمنين، وصرف العهد عنه من بعده إلى غيره، أو تنقصه شيئا مما جعله له أمير المؤمنين هارون، في حياته وصحته؛ واشترط في كتابه الذي كتبه عليه في البيت الحرام، وفي هذا الكتاب.
وعبد الله ابن أمير المؤمنين المصدق في قوله، وأنتم في حل من البيعة التي في أعناقكم لمحمد ابن أمير المؤمنين هارون، إن نقص شيئا مما جعله له أمير المؤمنين هارون، وعلى محمد بن هارون أمير المؤمنين أن ينقاد لعبد الله ابن أمير المؤمنين هارون، ويسلم له الخلافة؛ وليس لمحمد ابن أمير المؤمنين هارون، ولا لعبد الله ابن أمير المؤمنين، أن يخلعا القاسم ابن أمير المؤمنين هارون، ولا يقدما عليه أحدا من أولادهما وقراباتهما، ولا غيرهم من جميع البرية؛ فإذا أفضت الخلافة إلى عبد الله ابن أمير المؤمنين، فالأمر إليه في إمضاء ما جعله أمير المؤمنين من العهد للقاسم بعده، أو صرف ذلك عنه إلى من رأى من ولده وإخوته، وتقديم من أراد أن يقدم قبله، وتصيير القاسم بن أمير المؤمنين بعد من يقدم قبله، يحكم في ذلك بما أحب ورأى؛ فعليكم معشر المسلمين إنفاذ ما كتب به أمير المؤمنين في كتابه هذا، وشرط عليهم وأمر به؛ وعليكم السمع والطاعة لأمير المؤمنين فيما ألزمكم وأوجب عليكم لعبد الله بن أمير المؤمنين؛ وعهد الله وذمته وذمة رسوله
صلى الله عليه وسلم
وذمم المسلمين، والعهود والمواثيق التي أخذ الله على الملائكة المقربين والنبيين والمرسلين، ووكدها في أعناق المؤمنين والمسلمين، لتفن لعبد الله أمير المؤمنين بما سمى، ولمحمد وعبد الله والقاسم بني أمير المؤمنين بما سمى، وكتب في كتابه هذا واشترط عليكم، وأقررتم به على أنفسكم؛ فإن أنتم بدلتم من ذلك شيئا، أو غيرتم أو نكثتم، أو خالفتم ما أمركم به أمير المؤمنين، واشترط عليكم في كتابه هذا، فبرئت منكم ذمة الله، وذمة رسوله محمد
صلى الله عليه وسلم ، وذمم المؤمنين والمسلمين، وكل مال هو اليوم لكل رجل منكم، أو يستفيده إلى خمسين سنة فهو صدقة على المساكين، وعلى كل رجل منكم المشي إلى بيت الله الحرام الذي بمكة خمسين حجة، نذرا واجبا، لا يقبل الله منه إلا الوفاء بذلك؛ وكل مملوك لأحد منكم، أو يملكه فيما يستقبل إلى خمسين سنة حر؛ وكل امرأة له فهي طالق ثلاثا البتة، طلاق الحرج لا مثنوية فيها، والله عليكم بذلك كفيل وراع، وكفى بالله حسيبا. (4-2) نسخة الشرط الذي كتب عبد الله بن أمير المؤمنين بخط يده في الكعبة
هذا كتاب لعبد الله هارون أمير المؤمنين، كتبه له عبد الله بن هارون أمير المؤمنين، في صحة من عقله، وجواز من أمره، وصدق نية فيما كتب في كتابه هذا؛ ومعرفة بما فيه من الفضل والصلاح له ولأهل بيته وجماعة المسلمين.
إن أمير المؤمنين هارون ولاني العهد والخلافة، وجميع أمور المسلمين في سلطانه، بعد أخي محمد بن هارون؛ وولاني في حياته ثغور خراسان وكورها وجميع أعمالها، وشرط على محمد بن هارون الوفاء بما عقد لي من الخلافة، وولاية أمور العباد والبلاد بعده، وولاية خراسان وجميع أعمالها، ولا يعرض لي في شيء مما أقطعني أمير المؤمنين، وابتاع لي من الضياع والعقد والرباع، وابتعت منه من ذلك، وما أعطاني أمير المؤمنين من الأموال، والجوهر والكساء، والمتاع والدواب، والرقيق وغير ذلك؛ ولا يعرض لي ولا لأحد من عمالي وكتابي بسبب محاسبة، ولا يتبع لي في ذلك، ولا لأحد منهم أبدا؛ ولا يدخل علي ولا عليهم، ولا على من كان معي؛ ومن استعنت به من جميع الناس مكروها في نفس ولا دم ولا شعر ولا بشر ولا مال، ولا صغير من الأمور ولا كبير، فأجابه إلى ذلك وأقر به، وكتب له كتابا أكد فيه على نفسه، ورضي به أمير المؤمنين هارون، وقبله وعرف صدق نيته فيه؛ فشرطت لأمير المؤمنين، وجعلت له على نفسي أن أسمع لمحمد، وأطيع ولا أعصيه؛ وأنصحه ولا أغشه، وأوفي ببيعته وولايته، ولا أغدر ولا أنكث، وأنفذ كتبه وأموره، وأحسن مؤازرته وجهاد عدوه في ناحيتي؛ ما وفى لي بما شرط لأمير المؤمنين في أمري، وسمى في الكتاب الذي كتبه لأمير المؤمنين، ورضي به أمير المؤمنين، ولم يتبعني بشيء من ذلك، ولم ينقض أمرا من الأمور التي شرطها أمير المؤمنين لي عليه؛ فإن احتاج محمد ابن أمير المؤمنين إلى جند، وكتب إلي يأمرني بإشخاصه إليه، أو إلى ناحية من النواحي، أو إلى عدو من أعدائه خالفه، أو أراد نقص شيء من سلطانه أو سلطاني الذي أسنده أمير المؤمنين إلينا، وولانا إياه، فعلي أن أنفذ أمره، ولا أخالفه ولا أقصر في شيء كتب به إلي؛ وإن أراد محمد أن يولي رجلا من ولده العهد والخلافة من بعدي.
فذلك له ما وفي لي بما جعله أمير المؤمنين إلي، واشترطه لي عليه، وشرط على نفسه في أمري؛ وعلي إنفاذ ذلك والوفاء له به لا أنقص من ذلك ولا أغيره ولا أبدله ولا أقدم قبله أحدا من ولدي ولا قريبا ولا بعيدا من الناس أجمعين؛ إلا أن يولي أمير المؤمنين هارون أحدا من ولده العهد من بعدي، فيلزمني ومحمدا الوفاء له، وجعلت لأمير المؤمنين ومحمد علي الوفاء بما شرطت وسميت في كتابي هذا، ما وفى لي محمد بجميع ما اشترط لي أمير المؤمنين عليه في نفسي، وما أعطاني أمير المؤمنين من جميع الأشياء المسماة في هذا الكتاب الذي كتبه لي؛ وعلي عهد الله وميثاقه، وذمة أمير المؤمنين وذمتي، وذمم آبائي وذمم المؤمنين؛ وأشد ما أخذ الله على النبيين والمرسلين من خلقه أجمعين، من عهوده ومواثيقه، والأيمان المؤكدة التي أمر الله بالوفاء بها، ونهى عن نقضها وتبديلها؛ فإن أنا نقضت شيئا مما شرطت وسميت في كتابي هذا، أو غيرت أو بدلت أو نكثت أو غدرت، فبرئت من الله عز وجل، ومن ولايته ودينه، ومحمد رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، ولقيت الله يوم القيامة كافرا مشركا؛ وكل امرأة هي لي اليوم، أو أتزوجها إلى ثلاثين سنة طالق ثلاثا البتة، طلاق الحرج؛ وكل مملوك هو لي اليوم، أو أملكه إلى ثلاثين سنة، أحرار لوجه الله؛ وعلي المشي إلى بيت الله الحرام الذي بمكة ثلاثين حجة، نذرا واجبا علي في عنقي، حافيا راجلا لا يقبل الله مني إلا الوفاء بذلك؛ وكل مال لي أو أملكه إلى ثلاثين سنة هدي بالغ الكعبة، وكل ما جعلت لأمير المؤمنين، وشرطت في كتابي هذا لازم لي، لا أضمر غيره، ولا أنوي غيره. وشهد سليمان بن أمير المؤمنين، وفلان وفلان، وكتب في ذي الحجة سنة ست وثمانين ومائة. (4-3) نسخة كتاب الرشيد إلى العمال
بسم الله الرحمن الرحيم
أما بعد، فإن الله ولي أمير المؤمنين وولي ما ولاه، والحافظ لما استرعاه، وأكرمه به من خلافته وسلطانه، والصانع له فيما قدم وأخر من أموره، والمنعم عليه بالنصر والتأييد في مشارق الأرض ومغاربها، والكالئ والحافظ والكافي من جميع خلقه، وهو المحمود على جميع آلائه، المسئول تمام حسن ما أمضى من قضائه لأمير المؤمنين وعادته الجميلة عنده، وإلهام ما يرضى به ويوجب له عليه أحسن المزيد من فضله؛ وقد كان من نعمة الله عز وجل عند أمير المؤمنين وعندك وعند عوام المسلمين ما تولى الله من محمد وعبد الله ابني أمير المؤمنين من تبليغه بهما أحسن ما أملت الأمة ومدت إليه أعناقها، وقذف الله لهما في قلوب العامة من المحبة والمودة والسكون إليهما والثقة بهما لعماد دينهم وقوام أمورهم وجمع ألفتهم وصلاح دهمائهم ودفع المحذور والمكروه من الشتات والفرقة عنهم حتى ألقوا إليهما أزمتهم، وأعطوهما بيعتهم، وصفقات أيمانهم بالعهود والمواثيق ووكيد الأيمان المغلظة عليهم؛ أراده الله فلم يكن له مرد، وأمضاه فلم يقدر أحد من العباد على نقضه ولا إزالته، ولا صرف له عن محبته ومشيئته، وما سبق في علمه منه؛ وأمير المؤمنين يرجو تمام النعمة عليه وعليهما في ذلك، وعلى الأمة كافة لا عاقب لأمر الله ولا راد لقضائه ولا معقب لحكمه.
ولم يزل أمير المؤمنين منذ اجتمعت الأمة على عقد العهد لمحمد ابن أمير المؤمنين، ولعبد الله ابن أمير المؤمنين من بعد محمد ابن أمير المؤمنين يعمل فكره ورأيه ونظره ورويته، فيما فيه الصلاح لهما ولجميع الرعية؛ والجمع للكلمة، واللم للشعث، والدفع للشتات والفرقة، والحسم لكيد أعداء النعم من أهل الكفر والنفاق، والغل والشقاق، والقطع لآمالهم من كل فرصة يرجون إدراكها وانتهازها منهما بانتقاص حقهما، ويستخير الله أمير المؤمنين في ذلك ويسأله العزيمة له على ما فيه الخيرة لهما، ولجميع الأمة والقوة في أمر الله وحقه وائتلاف أهوائهما، وصلاح ذات بينهما، وتحصينهما من كيد أعداء النعم ، ورد حسدهم ومكرهم وبغيهم وسعيهم بالفساد بينهما، فعزم الله لأمير المؤمنين على الشخوص بهما إلى بيت الله وأخذ البيعة منهما لأمير المؤمنين بالسمع والطاعة والإنفاذ لأمره، واكتتاب الشرط على كل واحد منهما لأمير المؤمنين ولهما بأشد المواثيق والعهود، وأغلظ الأيمان والتوكيد، والأخذ لكل واحد منهما على صاحبه بما التمس به أمير المؤمنين اجتماع ألفتهما ومودتهما وتواصلهما ومؤازرتهما ومكاتفتهما على حسن النظر لأنفسهما، ولرعية أمير المؤمنين التي استرعاهما، والجماعة لدين الله عز وجل وكتابه وسنن نبيه
صلى الله عليه وسلم ، والجهاد لعدو المسلمين من كانوا وحيث كانوا وقطع طمع كل عدو مظهر للعداوة ومسر لها، وكل منافق ومارق، وأهل الأهواء الضالة المضلة من فرقة تكيد بكيد توقعه بينهما، وبدحس
171
يدحس به لهما، وما يلتمس أعداء الله وأعداء النعم وأعداء دينه من الضرب بين الأمة والسعي بالفساد في الأرض، والدعاء إلى البدع والضلالة، نظرا من أمير المؤمنين لدينه ورعيته، وأمة نبيه محمد
صلى الله عليه وسلم ، ومناصحة لله ولجميع المسلمين، وذبا عن سلطان الله الذي قدره وتوحد فيه للذي حمله إياه؛ والاجتهاد في كل ما فيه قربة إلى الله، وما ينال به رضوانه والوسيلة عنده.
فلما قدم مكة أظهر لمحمد وعبد الله رأيه في ذلك وما نظر فيه لهما، فقبلا كل ما دعاهما إليه من التوكيد على أنفسهما بقبوله، وكتبا لأمير المؤمنين في بطن بيت الله الحرام بخطوط أيديهما بمحضر ممن شهد الموسم من أهل بيت أمير المؤمنين وقواده، وصحابته وقضاته، وحجبة الكعبة وشهاداتهم عليهما، كتابين استودعهما أمير المؤمنين الحجبة، وأمر بتعليقهما في داخل الكعبة؛ فلما فرغ أمير المؤمنين من ذلك كله في داخل بيت الله الحرام وبطن الكعبة؛ أمر قضاته الذين شهدوا عليهما وحضروا كتابهما أن يعلموا جميع من حضر الموسم من الحاج والعمار ووفود الأمصار، ما شهدوا عليه من شرطهما وكتابهما وقراءة ذلك عليهم، ليفهموه ويعوه ويعرفوه ويحفظوه ويؤيدوه إلى إخوانهم وأهل بلدانهم وأمصارهم، ففعلوا ذلك، وقرئ عليهم الشرطان جميعا في المسجد الحرام؛ فانصرفوا وقد اشتهر ذلك عندهم، وأثبتوا الشهادة عليه، وعرفوا نظر أمير المؤمنين وعنايته بصلاحهم، وحقن دمائهم ولم شعثهم، وإطفاء جمرة أعداء الله وأعداء دينه وكتابه وجماعة المسلمين عنهم، وأظهروا الدعاء لأمير المؤمنين والشكر لما كان منه في ذلك، وقد نسخ لك أمير المؤمنين ذينك الشرطين الذين كتبهما لأمير المؤمنين ابناه محمد وعبد الله في بطن الكعبة في أسفل كتابه هذا؛ فاحمد الله عز وجل على ما صنع لمحمد وعبد الله وليي عهد المسلمين حمدا كثيرا، واشكره ببلائه عند أمير المؤمنين وعند وليي عهد المسلمين وعندك وعند جماعة أمة محمد
صلى الله عليه وسلم
كثيرا؛ واقرأ كتاب أمير المؤمنين على من قبلك من المسلمين وأفهمهم إياه، وقم به بينهم وأثبته في الديوان قبلك، وقبل قواد أمير المؤمنين ورعيته قبلك، واكتب إلى أمير المؤمنين بما يكون في ذلك، إن شاء الله. وحسبنا الله ونعم الوكيل، وبه الحول والقوة والطول. كتبه إسماعيل بن صبيح يوم السبت لسبع ليال بقين من المحرم سنة ست وثمانين ومائة.
هوامش
باب المنظوم
صورنا لك بالمجلد الأول حالة الشعر في صدر الدولة العباسية وذكرنا لك جملة صالحة من شعراء ذلك العصر ووعدناك بذكر مختارات من شعرهم، وإليك ما وعدناك به. (1) بشار بن برد العقيلي
1
سأله المهدي لما دخل عليه فقال له: فيمن تعتد يا بشار؟ فقال: أما اللسان والزي فعربيان وأما الأصل فعجمي، كما قلت في شعري يا أمير المؤمنين:
ونبئت قوما بهم جنة
يقولون من ذا وكنت العلم
ألا أيها السائلي جاهدا
ليعرفني أنا أنف الكرم
نمت في الكرام بني عامر
فروعي وأصلي قريش العجم
فإني لأغني مقام الفتى
وأصبي الفتاة فما تعتصم
وكان أبو دلامة حاضرا، فقال: كلا! لوجهك أقبح من ذلك، وجهي مع وجهك، فقال بشار: كلا! والله ما رأيت رجلا أصدق على نفسه وأكذب على جليسه منك، والله إني لطويل القامة، عظيم الهامة، تام الألواح، أسجح الخدين، ولرب مسترخي المزورين للعين فيه مراد. ثم قال له المهدي: من أي العجم أصلك؟ فقال: من أكثرها في الفرسان وأشدها على الأقرانن أهل طخارستان ؛ فقال بعض القوم: أولئك الصغد، فقال: لا! الصغد تجار؛ فلم يردد ذلك المهدي.
وكان بشار كثير التلون في ولائه، شديد التشيع والتعصب للعجم، مرة يقول يفتخر بولائه في قيس:
أمنت مضرة الفحشاء إني
أرى قيسا تشب
2
ولا تضار
كأن الناس حين تغيب عنهم
نبات الأرض أخطأه القطار
وقد كانت بتدمر خيل قيس
فكان لتدمر فيها دمار
بحي من بني عيلان شوس
يسير الموت حيث يقال ساروا
وما نلقاهم إلا صدرنا
بري منهم وهم حرار
ومرة يتبرأ من ولاء العرب فيقول:
أصبحت مولى ذي الجلال وبعضهم
مولى العريب فجد بفضلك فافخر
مولاك أكرم من تميم كلها
أهل الفعال ومن قريش المشعر
فارجع إلى مولاك غير مدافع
سبحان مولاك الأجل الأكبر
وقال يفتخر بولاء بني عقيل:
إنني من بني عقيل بن كعب
موضع السيف من طلى الأعناق
وولد بشار أعمى، فما نظر إلى الدنيا قط، وكان يشبه الأشياء بعضها ببعض في شعره، فيأتي بما لا يقدر البصراء أن يأتوا بمثله؛ فقيل له يوما وقد أنشد قوله:
كأن مثار النقع فوق رءوسنا
وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه
ما قال أحد أحسن من هذا التشبيه، فمن أين لك هذا ولم تر الدنيا قط ولا شيئا فيها؟ فقال: إن عدم النظر يقوي ذكاء القلب ويقطع عنه الشغل بما ينظر إليه من الأشياء، فيتوفر حسه وتذكو قريحته؛ ثم أنشدهم قوله:
عميت جنينا والذكاء من العمى
فجئت عجيب الظن للعلم موئلا
وغاض ضياء العين للعلم رافدا
بقلب إذا ما ضيع الناس حصلا
وشعر كنور الأرض لاءمت بينه
بقول إذا ما أحزن الشعر أسهلا
وكان من أشد الناس تبرما بالناس. وكان يقول: الحمد لله الذي ذهب ببصري. فقيل له لم يا أبا معاذ؟ قال: لئلا أرى ما أبغض.
وقال الأصمعي: بشار خاتمة الشعراء، والله لولا أن أيامه تأخرت لفضلته على كثير منهم. وقيل لأبي عبيدة: أمروان أشعر أم بشار؟ فقال: حكم بشار لنفسه بالاستظهار، إنه قال ثلاثة عشر ألف بيت جيد، ولا يكون عدد الجيد من شعر شعراء الجاهلية والأسلام هذا العدد، وما أحسبهم برزوا في مثلها، ومروان أمدح للملوك.
وسئل الأصمعي عن بشار ومروان أيهما أشعر؟ فقال: بشار؛ فسئل عن السبب لذلك، فقال: لأن مروان سلك طريقا كثر من يسلكه، فلم يلحق بمن تقدمه وشركه فيه من كان في عصره، وبشار سلك طريقا لم يسلك وأحسن فيه وتفرد به، وهو أكثر تصرفا وفنون شعر، وأغزر وأوسع بديعا، ومروان لم يتجاوز مذهب الأوائل.
وقيل لبشار : ليس لأحد من شعراء العرب شعر إلا وقد قال فيه شيئا استنكره العرب من ألفاظهم وشك فيه، وإنه ليس في شعرك ما يشك فيه؛ قال: ومن أين يأتيني الخطأ؟ وولدت ها هنا، ونشأت في حجور ثمانين شيخا من فصحاء بني عقيل ما فيهم أحد يعرف كلمة من الخطأ، وإن دخلت إلى نسائهم فنساؤهم أفصح منهم، وأيفعت فأبديت
3
إلى أن أدركت، فمن أين يأتيني الخطأ؟
كان جرير بن المنذر السدوسي يفاخر بشارا، فقال فيه بشار:
أمثل بني مضر وائل
فقدتك من فاخر ما أجن
أفي النوم هذا أبا منذر
فخيرا رأيت وخيرا يكن
رأيتك والفخر في مثلها
كعاجنة غير ما تطحن
كان بشار يهوى أمرأة من أهل البصرة، فراسلها يسألها زيارته، فوعدته بذلك ثم أخلفته، وجعل ينتظرها ليلته حتى أصبح، فلما لم تأته أرسل إليها ليعاتبها فاعتذرت بمرض أصابها، فكتب إليها بهذه الأبيات:
يا ليلتي ترذاد نكرا
من حب من أحببت بكرا
حوراء إن نظرت إلي
ك سقتك بالعينين خمرا
وكأن رجع حديثها
قطع الرياض كسين زهرا
وكأن تحت لسانها
هاروت ينفث فيه سحرا
وتخال ما جمعت علي
ه ثيابها ذهبا وعطرا
وكأنها برد الشرا
ب صفا وصادف منك فطرا
جنية إنسية
أو بين ذاك أجل أمرا
وكفاك أني لم أحط
بشكاة من أحببت خبرا
إلا مقالة زائر
نثرت لي الأحزان نثرا
متخشعا تحت الهوى
عشرا وتحت الموت عشرا
وكان إسحاق الموصلي لا يعتد ببشار ويقول: هو كثير التخليط في نثره، وأشعاره مختلفة لا يشبه بعضها بعضا، أليس هو القائل:
إنما عظم سليمى حبتي
قصب السكر لا عظم الجمل
وإذا أدنيت منها بصلا
غلب المسك على ريح البصل
لو قال: كل شيء جيد ثم أضيف إليه هذا لزيفه. وكان يقدم عليه مروان ويقول: هو أشد استواء شعر منه، وكلامه ومذهبه أشبه بكلام العرب ومذاهبها، وكان لا يعد أبا نواس البتة ولا يرى فيه خيرا.
قال الجاحظ: كان بشار خطيبا صاحب منثور ومزدوج وسجع ورسائل، وهو من المطبوعين أصحاب الإبداع والاختراع، المتفننين في الشعر، القائلين في أكثر أجناسه وضروبه. وقال الشعر في حياة جرير وتعرض له، وحكى أنه قال: هجوت جريرا فأعرض عني، ولو هاجاني لكنت أشعر الناس، وكان يدين بالرجعة، ويكفر جميع الأمة، ويصوب رأي إبليس في تقديم النار على الطين، وذكر مثل ذلك في شعره فقال:
الأرض مظلمة والنار مشرقة
والنار معبودة مذ كانت النار
وقال بعض الرواة لأبي عمرو: من أبدع الناس بيتا؟ قال الذي يقول:
لم يطل ليلي ولكن لم أنم
ونفى عني الكرى طيف ألم
وإذا قلت لها جودي لنا
خرجت بالصمت عن لا ونعم
روحي يا عبد عني واعلمي
أنني يا عبد من لحم ودم
إن في بردي جسما ناحلا
لو توكأت عليه لانهدم
وهذه الأبيات لبشار.
قال: فمن أمدح الناس؟ قال الذي يقول:
لمست بكفي كفه أبتغي الغنى
ولم أدر أن الجود من كفه يعدي
فلا أنا منه ما أفاد ذوو الغنى
أفدت وأعداني فأتلفت ما عندي
وهذه الأبيات لبشار.
ودخل بشار على إبراهيم بن عبد الله بن حسن، فأنشده قصيدة يهجو فيها المنصور ويشير عليه برأي يستعمله في أمره، فلما قتل إبراهيم خاف بشار، فقلب الكنية وأظهر أنه كان قالها في أبي مسلم، وحذف منها أبياتا، وأولها:
أبا جعفر ما طول عيش بدائم
ولا سالم عما قليل بسالم
قلب هذا البيت فقال: أبا مسلم:
على الملك الجبار يقتحم الردى
ويصرعه في المأزق المتلاحم
كأنك لم تسمع بقتل متوج
عظيم ولم تسمع بفتك الأعاجم
تقسم كسرى رهطه بسيوفهم
وأمسى أبو العباس أحلام نائم
يعني الوليد بن يزيد.
وقد كان لا يخشى انقلاب مكيدة
عليه ولا جري النحوس الأشائم
مقيما على اللذات حتى بدت له
وجوه المنايا حاسرات العمائم
وقد ترد الأيام غرا وربما
وردن كلوحا باديات الشكائم
ومروان قد دارت على رأسه الرحا
وكان لما أجرمت نزر الجرائم
فأصبحت تجري سادرا في طريقهم
ولا تتقي أشباه تلك النقائم
تجردت للإسلام تعفو سبيله
وتعري مطاه
4
لليوث الضراغم
فما زلت حتى استنصر الدين أهله
عليك فعاذوا بالسيوف الصوارم
فرم وزرا ينجيك يابن سلامة
فلست بناج من مضيم وضائم
جعل موضع «يابن سلامة» «يابن وشيكة» وهي أم أبي مسلم.
لحا الله قوما رأسوك عليهم
وما زلت مرءوسا خبيث المطاعم
أقول لبسام عليه جلالة
غدا أريحيا عاشقا للمكارم
من الفاطميين الدعاة إلى الهدى
جهارا ومن يهديك مثل ابن فاطم
هذا البيت حذفه بشار من الأبيات:
سراج لعين المسضيء وتارة
يكون ظلاما للعدو المزاحم
إذا بلغ الرأي المشورة فاستعن
برأي نصيح أو نصيحة حازم
ولا تجعل الشورى عليك غضاضة
5
فإن الخوافي
6
قوة للقوادم
وما خير كف أمسك الغل أختها
7
وما خير سيف لم يؤيد بقائم
وخل الهوينا للضعيف ولا تكن
نئوما فإن الحزم ليس بنائم
وحارب إذا لم تعط إلا ظلامة
شبا
8
الحرب خير من قبول المظالم
وأدن على القربى المقرب نفسه
ولا تشهد الشورى امرأ غير كاتم
فإنك لا تستطرد الهم بالمنى
ولا تبلغ العليا بغير المكارم
إذا كنت فردا هرك القوم مقبلا
وإن كنت أدنى لم تفز بالعزائم
وما قرع الأقوام مثل مشيع
9
أريب ولا جلي العمى مثل عالم
قال أبو عبيدة: ميمية بشار هذه أحب إلي من ميميتي جرير والفرزدق. وقال الأصمعي لبشار: يا أبا معاذ، إن الناس يعجبون من أبياتك في المشورة؛ فقال له: يا أبا سعيد، إن المشاور بين صواب يفوز بثمرته، أو خطأ يشارك في مكروهه؛ فقال له: أنت في قولك هذا أشعر منك في شعرك.
توفي ابن لبشار فجزع عليه، فقيل له: أجر قدمته، وفرط افترطته، وذخر أحرزته؛ فقال: ولد دفنته، وثكل تعجلته، وغيب وعدته فانتظرته، والله لئن لم أجزع للنقص لا أفرح للزيادة. وقال يرثيه:
أجارتنا لا تجزعي وأنيبي
أتاني من الموت المطل نصيبي
بني على رغمي وسخطي رزئته
وبدل أحجارا وجال
10
قليب
وكان كريحان العروس تخاله
ذوى بعد إشراق يسر وطيب
أصبت به في حين أورق غصنه
وألقى علي الهم كل قريب
عجبت لإسراع المنية نحوه
وما كان لو مليته بعجيب
قيل لبشار: إنك لتجيء بالشيء الهجين المتفاوت؛ قال: وما ذاك ؟ قيل: بينما تقول شعرا يثير النقع وتخلع به القلوب مثل قولك:
إذا ما غضبنا غضبة مضرية
هتكنا حجاب الشمس أو تمطر الدما
إذا ما أعرنا سيدا من قبيلة
ذرى منبر صلى علينا وسلما
تقول:
ربابة ربة البيت
تصب الخل في الزيت
لها عشر دجاجات
وديك حسن الصوت
فقال: لكل وجه، فالقول الأول جد، وهذا قلته في ربابة جاريتي، وأنا لا آكل البيض من السوق، وربابة لها عشر دجاجات وديك، فهي تجمع لي البيض، فهذا عندها أحسن من «قفانبك» عندك. وسألته جارية مغنية لبعض ولد سليمان بن علي، وكانت محسنة بارعة الظرف، أن يذكرها في قصيدة ولا يذكر فها اسمها ولا اسم سيدها ويكتب بها إليها، فانصرف وكتب إليها:
وذات دل كأن البدر صورتها
باتت تغني عميد القلب سكرانا «إن العيون التي في طرفها حور
قتلننا ثم لم يحيين قتلانا»
فقلت أحسنت يا سؤلي ويا أملي
فأسمعيني جزاك الله إحسانا «يا حبذا جبل الريان من جبل
وحبذا ساكن الريان من كانا»
قالت فهلا فدتك النفس أحسن من
هذا لمن كان صب القلب حيرانا «يا قوم أذني لبعض الحي عاشقة
والأذن تعشق قبل العين أحيانا»
فقلت أحسنت أنت الشمس طالعة
أضرمت في القلب والأحشاء نيرانا
فأسمعيني صوتا مطربا هزجا
يزيد صبا محبا فيك أشجانا
يا ليتني كنت تفاحا مفلجة
أو كنت من قضب الريحان ريحانا
حتى إذا وجدت ريحي فأعجبها
ونحن في خلوة مثلت إنسانا
فحركت عودها ثم انثنت طربا
تشدو به ثم لا تخفيه كتمانا «أصبحت أطوع خلق الله كلهم
لأكثر الخلق لي في الحب عصيانا»
فقلت أطربتنا يا زين مجلسنا
فهات إنك بالإحسان أولانا
لو كنت أعلم أن الحب يقتلني
أعددت لي قبل أن ألقاك أكفانا
فغنت الشرب صوتا مونقا رملا
يذكي السرور ويبكي العين ألوانا
لا يقتل الله من دامت مودته
والله يقتل أهل الغدر أحيانا
كان الزوار يسمون في قديم الدهر إلى أيام خالد بن برمك السؤال، فقال خالد: هذا والله اسم أستثقله لطلاب الخير، وأرفع قدر الكرم عن أن يسمى به أمثال هؤلاء المؤمنين، لأن فيهم الأشراف والأحرار وأبناء النعيم، ومن لعله خير ممن يقصد وأفضل أدبا، ولكننا نسميهم الزوار، فقال بشار يمدحه بذلك:
حذا خالد في فعله حذو برمك
فمجد له مستطرف وأصيل
وكان ذوو الآمال يدعون قبله
بلفظ على الإعدام فيه دليل
يسمون بالسؤال في كل موطن
وإن كان فيهم نابه وجليل
فسماهم الزوار سترا عليهم
فأستاره في المهتدين سدول
وقال بشار هذا الشعر في مجلس خالد في الساعة التي تكلم خالد بهذا في أمر الزوار، فأعطاه لكل بيت ألف درهم.
دخل بشار على عقبة بن سلم فأنشده بعض مدائحه فيه، وعنده عقبة بن رؤبة ينشده رجزا يمدحه به، فسمعه بشار وجعل يستحسن ما قاله إلى أن فرغ، ثم أقبل على بشار فقال: هذا طراز لا تحسنه أنت يا أبا معاذ، فقال بشار: ألي يقال هذا! أنا والله أرجز منك ومن أبيك وجدك؛ فقال له: عقبة أنا وأبي فتحنا للناس باب الغريب وباب الرجز، وإني لخليق أن أسده عليهم؛ فقال بشار: ارحمهم رحمك الله، ولما كان من غد غدا على عقبة بن سلم وعنده عقبة بن رؤبة، فأنشده أرجوزته التي مدحه فيها:
يا طلل الحي بذات الصمد
بالله خبر كيف كنت بعدي
أوحشت من دعد وترب دعد
سقيا لأسماء ابنة الأشد
قامت تراءى إذ رأتني وحدي
كالشمس تحت الزبرج
11
المنقد
صدت بخد وجلت عن خد
ثم انثنت كالنفس المرتد
عهدي بها سقيا له من عهد
تخلف وعدا وتفي بوعد
فنحن من جهد الهوى في جهد
وزاهر من سبط وجعد
أهدي له الدهر ولم يستهد
أفواف نور الحبر المجد
يلقى الضحى ريحانه بسجد
بدلت من ذاك بكى لا يجدي
وافق حظا من سعى بجد
ما ضر أهل النوك ضعف الجد
الحر يلحى والعصا للعبد
وليس للملحف مثل الرد
والنصف يكفيك من التعدي
وصاحب كالدمل الممد
حملته في رقعة من جلدي
أرقب منه مثل يوم الورد
حتى مضى غير فقيد الفقد
وما درى ما رغبتي من زهد
إسلم وحييت أبا الملد
مفتاح باب الحدث المنسد
مشترك النيل وري الزند
أغر لباس ثياب الحمد
ما كان مني لك غير الود
ثم ثناء مثل ريح الورد
نسجته في محكمات الند
فالبس طرازي غير مسترد
لله أيامك في معد
وفي بني قحطان غير عد
يوما بذي طخفة
12
عند الحد
ومثله أودعت أرض الهند
بالمرهفات والحديد السرد
والمقربات
13
المبعدات الجرد
إذا الحيا أكدى بها لا تكدي
تلحم أمرا وأمورا تسدي
وابن حكيم إن أتاك يردي
أصم لا يسمع صوت الرعد
حييته بتحفة المعد
فانهد مثل الجبل المنهد
كل امرئ رهن بما يؤدي
ورب ذي تاج كريم الجد
كآل كسرى وكآل برد
أنكب جاف عن سبيل القصد
فصلته عن ماله والولد
فطرب عقبة بن سلم وأجزل صلته، وقام عقبة بن رؤبة فخرج عن المجلس بخزي وهرب من تحت ليلته فلم يعد إليه.
قال الجاحظ: فانظر إلى سوء أدب عقبة بن رؤبة وقد أجمل بشار محضره وعشرته، فقابله بهذه المقابلة القبيحة، وكان أبوه أعلم خلق الله به، لأنه قال له وقد فاخره بشعره: أنت يا بني ذهبان الشعر، إذا مت مات شعرك معك، فلم يوجد من يرويه بعدك، فكان كما قال له، ما يعرف له بيت واحد ولا خبر غير هذا الخبر القبيح الإخبار عنه، الدال على سخفه وسقوطه وسوء أدبه.
وقال بشار في هوى له كانت بالبصرة، ثم خرجت مع زوجها إلى عمان:
هوى صاحبي ريح الشمال إذا جرت
وأشفى لقلبي أن تهب جنوب
وما ذاك إلا أنها حين تنتهي
تناهى وفيها من عبيدة طيب
عذيري من العذال إذ يعذلونني
سفاها وما في العاذلين لبيب
يقولون لو عزيت قلبك لارعوى
فقلت وهل للعاشقين قلوب
إذا نطق القوم الجلوس فإنني
مكب كأني في الجميع غريب
جاء أبو الشمقمق إلى بشار يشكو إليه الضيقة ويحلف له أنه ما عنده شيء، فقال له بشار: والله ما عندي ما يغنيك، ولكن قم معي إلى عقبة بن سلم، فقام معه، فذكر له أبا الشمقمق وقال: هو شاعر وله شكر وثناء، فأمر له بخمسمائة درهم، فقال له بشار:
يا واحد العرب الذي
أمسى وليس له نظير
لو كان مثلك آخرا
ما كان في الدنيا فقير
فأمر لبشار بألفي درهم، فقال أبو الشمقمق: نفعتنا ونفعناك يا أبا معاذ، فجعل بشار يضحك.
دخل يزيد بن منصور الحميري على المهدي وبشار بين يديه ينشده قصيدة امتدحه بها، فلما فرغ منها أقبل عليه يزيد، وكانت فيه غفلة، فقال: يا شيخ، ما صناعتك؟ فقال: أثقب اللؤلؤ، فضحك المهدي، ثم قال لبشار: اغرب ويلك! أتتنادر على خالي؟ فقال له: وما أصنع به؟ يرى شيخا أعمى ينشد الخليفة شعرا ويسأله عن صناعته.
وقف على بشار بعض المجان، وهو ينشد شعرا، فقال له: استر شعرك هذا كما تستر عورتك، فصفق بشار بيديه وغضب ثم قال له: ومن أنت؟ ويلك! قال: أنا - أعزك الله - رجل من باهلة، وأخوالي سلول، وأصهاري عكل، واسمي كلب، ومولدي بأضاخ،
14
ومنزلي بظفر بلال، فضحك بشار، ثم قال: اذهب ويلك! فأنت عتيق لؤمك، قد علم الله أنك استترت مني بحصون من حديد.
مر بشار برجل قد رمحته بغلة وهو يقول: الحمد لله شكرا، فقال له: بشار استزده يزدك. ومر به قوم يحملون جنازة وهم يسرعون المشي بها، فقال: ما لهم مسرعين؟ أتراهم سرقوه فهم يخافون أن يلحقوا فيؤخذ منهم.
رفع غلام بشار إليه في حساب نفقته جلاء مرآة عشرة دراهم، فصاح به بشار وقال: والله ما في الدنيا أعجب من جلاء مرآة أعمى بعشرة دراهم، والله لو صدئت عين الشمس حتى يبقى العالم في ظلمة ما بلغت أجرة من يجلوها عشرة دراهم.
قال قدامة بن نوح: كان بشار يحشو شعره إذا أعوزته القافية والمعنى بالأشياء التي لا حقيقة لها؛ فمن ذلك أنه أنشد يوما شعرا له فقال فيه: «غنني للغريض يابن قنان» فقيل له: من ابن قنان هذا؟ لسنا نعرفه من مغني البصرة، قال: وما عليكم منه؟ ألكم قبله دين فتطالبوه به، أو ثأر تريدون أن تدركوه، أو كفلت لكم به، فإذا غاب طالبتموني بإحضاره؛ قالوا: ليس بيننا وبينه شيء من هذا، وإنما أردنا أن نعرفه، فقال: هو رجل يغني لي ولا يخرج من بيتي، فقال له: إلى متى؟ فقال: مذ يوم ولد وإلى أن يموت. وذكر أيضا في هذه القصيدة «البردان» فقيل له: يا أبا معاذ، أين البردان هذا؟ لسنا نعرفه بالبصرة، فقال: هو بيت في بيتي سميته بالبردان، أفعليكم من تسميتي داري وبيوتها شيء فتسألوني عنه؟
قالت امرأة لبشار: أي رجل أنت لو كنت أسود اللحية والرأس، قال: أما علمت أن بيض البزاة أشهر من سود الغربان؟ فقالت له: أما قولك فحسن في السمع، ومن لك بأن يحسن شيبك في العين كما حسن قولك في السمع؟ فكان بشار يقول: ما أفحمني قط غير هذه المرأة.
دعاه رجل إلى منزله فأكل وشرب، ولما أراد الانصراف قامت جارية للرجل وأخذت بيده، فلما صار بالصحن أومأ إليها ليقبلها، فأرسلت يدها من يده، فجعل يجول في العرصة وخرج مولى الجارية فقال: ما لك يا أبا معاذ؟ فقال: أذنبت ذنبا ولا أبرح أو أقول شعرا، فقال:
أتوب إليك من السيئات
وأستغفر الله من فعلتي
تناولت ما لم أرد نيله
على جهل أمري وفي سكرتي
ووالله والله ما جئته
لعمد ولا كان من همتي
وإلا فمت إذن ضائعا
وعذبني الله في ميتتي
فمن نال خيرا على قبلة
فلا بارك الله في قبلتي
لما كثر استهتار نساء البصرة وشبانها بشعر بشار، وقال سوار بن عبد الله ومالك بن دينار: ما شيء أدعي لأهل هذه المدينة إلى الفسق من أشعار هذا الأعمى، وما زالا يعظانه وكان واصل بن عطاء يقول: إن من أخدع حبائل الشيطان وأغواها لكلمات هذا الأعمى الملحد، فلما كثر ذلك وانتهى خبره إلى المهدي نهاه عن ذكر النساء وقول التشبيب، وكان المهدي من أشد الناس غيرة، فقال في ذلك:
يا منظرا حسنا رأيته
في وجه جارية فديته
بعثت إلي تسومني
ثوب الشباب وقد طويته
والله رب محمد
ما إن غدرت ولا نويته
أمسكت عنك وربما
عرض البلاء وما ابتغيته
إن الخليفة قد أبى
وإذا أبى شيئا أبيته
ومخضب رخص البنا
ن بكى علي وما بكيته
ويشوقني بيت الحبي
ب إذا ادكرت وأين بيته
قام الخليفة دونه
فصبرت عنه وما قليته
ونهاني الملك الهما
م عن النساء وما عصيته
لا بل وفيت فلم أضع
عهدا ولا رأيا رأيته
وأنا المطل على العدا
وإذا غلا الحمد اشتريته
أصفي الخليل إذا دنا
وإذا نأى عني نأيته
وأميل في أنس الندي
م من الحياء وما اشتهيته
وكان الخليل بن أحمد ينشد هذه الأبيات ويستحسنها ويعجب بها.
وكان لبشار خمسة ندماء، فمات منهم أربعة وبقي واحد يقال له: البراء، فركب في زورق يريد عبور دجلة العوراء فغرق، فكان بشار يقول: ما خير في الدنيا بعد الأصدقاء؛ ثم رثى أصدقاءه بقوله:
يابن موسى ماذا يقول الإمام
في فتاة بالقلب منها أوام
بت من حبها أوقر بالكأ
س ويهفو على فؤادي الهيام
لم يكن بينها وبيني إلا
كتب العاشقين والأحلام
يابن موسى اسقني ودع عنك سلمى
إن سلمى حمى وفي احتشام
رب كأس كالسلسبيل تعلل
ت بها والعيون عني نيام
حبست للشراة في بيت
15
رأس
عتقت عانسا عليها الختام
نفحت نفحة فهزت نديمي
بنسيم وانشق عنها الزكام
وكأن المعلول منها إذا را
ح شج في لسانه برسام
16
صدمته الشمول حتى بعيني
ه انكسار وفي المفاصل خام
وهو باقي الأطراف حيت
17
به الكأ
س وماتت أوصاله والكلام
وفتى يشرب المدامة بالما
ل ويمشي يروم ما لا يرام
أنفدت كأسه الدنانير حتى
ذهب العين واستمر السوام
تركته الصهباء يرنو بعين
نام إنسانها وليست تنام
جن من شربة تعل بأخرى
وبكى حين سار فيه المدام
كان لي صاحبا فأودى به الده
ر وفارقته عليه السلام
بقي الناس بعد هلك نداما
ي وقوعا لم يشعروا ما الكلام
كجزور الأيسار
18
لا كبد في
ها لباغ ولا عليها سنام
يابن موسى فقد الحبيب على العي
ن قذاة وفي الفؤاد سقام
كيف يصفو لي النعيم وحيدا
والأخلاء في المقابر هام
نفستهم
19
علي أم المنايا
فأنامتهم بعنف فناموا
لا يغيض انسجام عيني عليهم
إنما غاية الحزين السجام
وقال في نهي الخليفة إياه عن ذكر النساء:
والله لولا رضا الخليفة ما
أعطيت ضيما علي في شجن
وربما خير لابن آدم في ال
كره وشق الهوى على البدن
فاشرب على أبنة الزمان فما
تلقى زمانا صفا من الأبن
الله يعطيك من فواضله
والمرء يغضى عينا على الكمن
20
قد عشت بين الريحان والراح والز
هر في ظل مجلس حسن
وقد ملأت البلاد ما بين يغب
ور إلى القيروان فاليمن
شعرا تصلي له العواتق والش
يب صلاة الغواة للوثن
ثم نهاني المهدي فانصرفت
نفسي صنيع الموفق اللقن
فالحمد لله لا شريك له
ليس بباق شيء على الزمن
وأنشد المهدي قصيدته التي أولها:
تجاللت عن فهر وعن جارتي فهر
وودعت نعما بالسلام وبالبشر
وقالت سليمى فيك عنا جلادة
محلك دان والزيادة عن عفر
21
أخي في الهوى مالي أراك جفوتنا
وقد كنت تقفونا على العسر واليسر
تثاقلت إلا عن يد أستفيدها
وزورة أملاك أشد بها أزري
وأخرجني من وزر خمسين حجة
فتى هاشمي يقشعر من الوزر
دفنت الهوى حيا فلست بزائر
سليمى ولا صفراء ما قرقر القمري
ومصفرة بالزعفران جلودها
إذا اجتليت مثل المفرطحة الصفر
فرب ثقال الردف هبت تلومني
ولو شهدت قبري لصلت على قبري
تركت لمهدي الأنام وصالها
وراعيت عهدا بيننا ليس بالختر
ولولا أمير المؤمنين محمد
لقبلت فاها أو لكان بها فطري
لعمري لقد أوقرت نفسي خطيئة
فما أنا بالمزداد وقرا على وقر
تسلى عن الأحباب صرام خلة
ووصال أخرى ما يقيم على أمر
وركاض أفراس الصبابة والهوى
جرت حججا ثم استقرت فلا تجري
فأصبحن ما يركبن إلا إلى الوغى
وأصبحت لا يزري علي ولا أزري
فهذا وإني قد شرعت مع التقى
وماتت همومي الطارقات فما تسري
ثم قال يصف السفينة:
وعذراء لا تجري بلحم ولا دم
قليلة شكوى الأين ملجمة الدبر
إذا ظعنت فيها الفلول تشخصت
بفرسانها لا في وعوث ولا وعر
وإن قصدت زلت على متنصب
ذليل القوى لا شيء يفري كما تفري
تلاعب تيار
22
البحور وربما
رأيت نفوس القوم من جريها تجري
إلى ملك من هاشم في نبوة
ومن حمير في الملك والعدد الدثر
23
من المشترين الحمد تندى من الندى
يداه ويندى عارضاه من العطر
فألزمت حبلي حبل من لا تغبه
عفاة الندى من حيث يدري ولا يدري
بنى لك عبد الله بيت خلافة
نزلت بها بين الفراقد والنسر
وعندك عهد من وصاة محمد
فرعت به الأملاك من ولد النضر
ولما أنشد الوليد بن يزيد قول بشار:
أيها الساقيان صبا شرابي
واسقياني من ريق بيضاء رود
24
إن دائي الظما وإن دوائي
شربة من رضاب ثغر برود
ولها مضحك كغر الأقاحي
وحديث كالوشي وشي البرود
نزلت في السواد من حبة القل
ب ونالت زيادة المستزيد
ثم قالت نلقاك بعد ليال
والليالي يبلين كل جديد
عندها الصبر عن لقائي وعندي
زفرات يأكلن قلب الحديد
طرب الوليد وقال: من لي بمزج كأسي هذه من ريق سلمى، فيروي ظمئي، وتطفأ غلتي، ثم بكى حتى مزج كأسه بدمعه، وقال: إن فاتنا ذاك فهذا.
مدح بشار خالد بن برمك فقال فيه:
لعمري لقد أجدى علي ابن برمك
وما كل من كان الغنى عنده يجدي
حلبت بشعري راحتيه فدرتا
سماحا كما در السحاب مع الرعد
إذا جئته للحمد أشرق وجهه
إليك وأعطاك الكرامة بالحمد
له نعم في القوم لا يستثيبها
جزاء وكيل التاجر المد بالمد
مفيد ومتلاف سبيل تراثه
إذا ما غدا أو راح كالجزر والمد
أخالد إن الحمد يبقى لأهله
جمالا ولا تبقى الكنوز على الكد
فأطعم وكل من عارة مستردة
ولا تبقها إن العواري للرد
فأعطاه خالد ثلاثين ألف درهم، وكان قبل ذلك يعطيه في كل وفادة خمسة آلاف درهم، وأمر خالد أن يكتب هذان البيتان في صدر مجلسه الذي كان يجلس فيه، وقال ابنه يحيى بن خالد: آخر ما أوصاني به أبي العمل بهذين البيتين.
وكان إسحاق الموصلي يطعن على شعر بشار ويضع منه، ويذكر أن كلامه مختلف لا يشبه بعضه بعضا، فقيل له: أتقول هذا لمن يقول:
إذا كنت في كل الأمور معاتبا
صديقك لم تلق الذي لا تعاتبه
فعش واحدا أوصل أخاك فإنه
مقارف
25
ذنب مرة ومجانبه
إذا أنت لم تشرب مرارا على القذى
26
ظمئت وأي الناس تصفو مشاربه
وهي من غرر قصائده، مدح بها عمر بن هبيرة، ومنها قوله:
يخاف المنايا إن ترحلت صاحبي
كأن المنايا في المقام تناسبه
فقلت له إن العراق مقامه
وخيم إذا هبت عليك جنائبه
لألقى بني عيلان إن فعالهم
تزيد على كل الفعال مراتبه
أولاك الألى شقوا العمى بسيوفهم
عن العين حتى أبصر الحق طالبه
وجيش كجنح الليل يزحف بالحصا
وبالشوك والخطى حمرا تغالبه
غدونا له والشمس في خدر أمها
تطالعنا والطل لم يجر ذائبه
بضرب يذوق الموت من ذاق طعمه
وتدرك من نجى الفرار مثالبه
كأن مثار النقع فوق رءوسنا
وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه
بعثنا لهم موت الفجاءة إننا
بنو الموت خفاق علينا سبائبه
27
فراحوا فريق في الإسار ومثله
قتيل ومثل لاذ بالبحر هاربه
ومنها:
إذا الملك الجبار صعر خده
مشينا إليه بالسيوف نعاتبه
رويدا تصاهل بالعراق جيادنا
كأنك بالضحاك قد قام نادبه
وسام لمروان ومن دونه الشجا
وهول كلج البحر جاشت غواربه
أحلت به أم المنايا بناتها
بأسيافنا إنا ردى من نحاربه
وكنا إذا دب العدو لسخطنا
وراقبنا في ظاهر لا نراقبه
ركبنا له جهرا بكل مثقف
وأبيض تستسقي الدماء مضاربه
ومنها:
فلما تولى الحي واعتصر الثرى
لظى الصيف من نجم توقد لاهبه
وطارت عصافير الشقائق واكتسى
من الآل أمثال المجرة ناضبه
غدت عانة
28
تسكو بأبصارها الصدى
إلى الجأب إلا أنها لا تخاطبه
ومن حسن شعره:
لو كنت تلقين ما نلقى قسمت لنا
يوما نعيش به منكم ونبتهج
لا خير في العيش إن كنا كذا أبدا
ما في التلاقي ولا في قبلة حرج
من راقب الناس لم يظفر بحاجته
وفاز بالطيبات الفاتك اللهج
أشكو إلى الله هما ما يفارقني
وشرعا في فؤادي الدهر تعتلج
وقال يهجو عبيد الله بن قزعة:
خليلي من كعب أعينا أخاكما
على دهره إن الكريم معين
كأن عبيد الله لم يلق ماجدا
مخافة أن يرجو نداه حزين
ولا تبخلا بخل ابن قزعة إنه
ولم يدر أن المكرمات تكون
فقل لأبي يحيى متى تدرك العلا
وفي كل معروف عليك يمين
إذا جئته في حاجة سد بابه
فلم تلقه إلا وأنت كمين
وفد على خالد بن برمك فأنشده:
أخالد لم أخبط
29
إليك بذمة
سوى أنني عاف وأنت جواد
أخالد بين الأجر والحمد حاجتي
فأيهما تأتي فأنت عماد
فإن تعطني أفرغ عليك مدائحي
وإن تأب لم يضرب علي سداد
ركابي على حرف
30
وقلبي مشيع
ومالي بأرض الباخلين بلاد
إذا أنكرتني بلدة أو نكرتها
خرجت مع البازي على سواد
فدعا خالد بأربعة آلاف دينار في أربعة أكياس، فوضع واحدا عن يمينه، وواحدا عن شماله، وآخر بين يديه، وآخر خلفه، وقال: يا أبا معاذ، هل استقل العماد؟ فلمس الأكياس ثم قال: استقل والله أيها الأمير.
قال أبان بن عبد الحميد: نزل في ظاهر البصرة قوم من أعراب قيس بن عيلان، وكان فيهم بيان وفصاحة، فكان بشار يأتيهم وينشدهم أشعاره التي يمدح بها قيسا، فيجلونه لذلك ويعظمونه، وكان نساؤهم يجلسن معه ويتحدثن إليه وينشدهن أشعاره في الغزل، وكنت كثيرا ما آتي في ذلك الموضع فأسمع منه ومنهم، فأتيتهم يوما فإذا هم ارتحلوا، فجئت إلى بشار فقلت: يا أبا معاذ، أعلمت أن القوم قد ارتحلوا؟ قال: لا، فقلت: فاعلم، قال: قد علمت لا علمت، ومضيت، فلما كان بعد ذلك بأيام سمعت الناس ينشدون:
دعا بفراق من تهوى أبان
ففاض الدمع واحترق الجنان
كأن شرارة وقعت بقلبي
لها في مقلتي ودمي استنان
إذا أنشدت أو نسمت عليها
رياح الصيف هاج لها دخان
فعلمت أنها لبشار، فأتيته فقلت: يا أبا معاذ، ما ذنبي إليك؟ قال: ذنب غراب البين، فقلت: هل ذكرتني بغير هذا؟ قال: لا، فقلت: أنشدك الله ألا تزيد، فقال: امض لشأنك فقد تركتك.
مدح بشار المهدي فلم يعطه شيئا، فقيل له: لم يستجد شعرك، فقال: والله لقد قلت فيه شعرا لو قيل في الدهر لم يخش صرفه على أحد، ولكنا نكذب في القول فيكذب في الأمل.
مدح بشار سليمان بن هشام بن عبد الملك، وكان مقيما بحران وخرج إليه، فأنشده قوله فيه:
نأتك على طول التجاور زينب
وما شعرت أن النوى سوف تشعب
يرى الناس ما تلقى بزينب إذ نأت
عجيبا وما تخفي بزينب أعجب
وقائلة لي حين جد رحيلنا
وأجفان عينيها تجود وتسكب
أغاد إلى حران في غير شيعة
وذلك شأو عن هواها مغرب
فقلت لها كلفتني طلب الغنى
وليس وراء ابن الخليفة مذهب
سيكفي فتى من سعيه حد سيفه
وكور علافي
31
ووجناء
32
ذعلب
إذا استوغرت دار عليه رمى بها
بنات الصوى منها ركوب ومصعب
فعدي إلى يوم ارتحلت وسائلي
بزورك والرحال من جاء يضرب
لعلك أن تستيقني أن زورتي
سليمان من سير الهواجر تعقب
أغر هشامي القناة إذا انتمى
نمته بدور ليس فيهن كوكب
وما قصدت يوما فحيلين خيله
فتصرف إلا عن دماء تصبب
فوصله سليمان بخمسة آلاف درهم، وكان يبخل، فلم يرضها وانصرف عنه مغضبا، فقال:
إن أمس منقبض اليدين عن الندى
وعن العدو مخيس الشيطان
فلقد أروح على اللئام مسلطا
ثلج المقيل منعم الندمان
في ظل عيش عشيرة محمودة
تندى يدي ويخاف فرط لساني
أزمان خيبني الشباب مطاوع
وإذ الأمير علي من حران
ريم بأحوية العراق إذا بدا
برقت عليه أكلة المرجان
فاكحل بعبدة مقلتيك من القذى
وبوشك رؤيتها من الهملان
فلقرب من تهوى وأنت متيم
أشفى لدائك من بني مروان
قدم بشار على المهدي بالرصافة فدخل عليه في البستان، فأنشده مديحا فيه تشبيب حسن، فنهاه عن التشبيب لغيرة شديدة كانت فيه، فأنشده مديحا يقول فيه:
كأنما جئته أبشره
ولم أجئ راغبا ومحتلبا
يزين المنبر الأشم بعطفي
ه وأقواله إذا خطبا
تشم نعلاه في الندي كما
يشم ماء الريحان منتهبا
قال: وقد طلب منه أن ينشده شيئا من غزله:
وقائل هات شوقنا فقلت له
أنائم أنت يا عمرو بن سمعان
أما سمعت بما قد شاع في مضر
وفي الحليفين من بكر وقحطان
قال الخليفة لا تنسب بجارية
إياك إياك أن تشقى بعصيان
وقال له المهدي: قل في الحب شعرا ولا تطل، واجعل الحب قاضيا بين المحبين لا تسم أحدا، فقال:
اجعل الحب بين حبي وبيني
قاضيا إني به اليوم راض
فاجتمعنا فقلت يا حب نفسي
إن عيني قليلة الإغماض
أنت عذبتني وأنحلت جسمي
فارحم اليوم دائم الأمراض
قال لي لا يحل حكمي عليها
أنت أولى بالسقم والإعراض
قلت لما أجابني بهواها
شمل الجور في الهوى كل قاض
فبعث إليه المهدي: حكمت علينا ووافقنا ذلك، فأمر له بألف دينار.
وقال بشار في عشق السمع:
يا قوم أذني لبعض الحي عاشقة
والأذن تعشق قبل العين أحيانا
قالوا بمن لا ترى تهذي فقلت لهم
الأذن كالعين توفي القلب ما كانا
هل من دواء لمشغوف بجارية
يلقى بلقيانها روحا وريحانا
وقال في مثل ذلك:
قالت عقيل بن كعب إذ تعلقها
قلبي فأضحى به من حبها أثر
أنى ولم ترها تهذي فقلت لهم
إن الفؤاد يرى ما لا يرى البصر
أصبحت كالحائم الحيران مجتنبا
لم يقض وردا ولا يرجى له صدر
وقال:
يزهدني في حب عبدة معشر
قلوبهم فيها مخالفة قلبي
فقلت دعوا قلبي وما اختار وارتضى
فبالقلب لا بالعين يبصر ذو الحب
فما تبصر العينان في موضع الهوى
ولا تسمع الأذنان إلا من القلب
وما الحسن إلا كل حسن دعا الصبا
وألف بين العشق والعاشق الصب
وقال:
يا قلب مالي أراك لا تقر
إياك أعني وعندك الخبر
أذعت بعد الألى مضوا حرقا
ما ضاع ما استودعوك إذ بكروا
وقال:
إن سليمى والله يكلؤها
كالسكر يزداد على السكر
بلغت عنها شكلا فأعجبني
والسمع يكفيك غيبة البصر
وقال وقد مدح المهدي فحرمه:
خليلي إن العسر سوف يفيق
وإن يسارا في غد لخليق
وما كنت إلا كالزمان إذا صحا
صحوت وإن ماق
33
الزمان أموق
أأدماء لا أسطيع في قلة الثرا
خزوزا ووشيا والقليل محيق
خذي من يدي ما قل إن زماننا
شموس ومعروف الرجال رقيق
لقد كنت لا أرضى بأدنى معيشة
ولا يشتكي بخلا علي رفيق
خليلي إن المال ليس بنافع
إذا لم ينل منه أخ وصديق
وكنت إذا ضاقت علي محلة
34
تيممت أخرى ما علي تضيق
وما خاب بين الله والناس عامل
له في التقى أو في المحامد سوق
ولا ضاق فضل الله عن متعفف
ولكن أخلاق الرجال تضيق
هجا بشار يعقوب بن دواد وزير المهدي فقال:
بني أمية هبوا طال نومكم
إن الخليفة يعقوب بن
35
دواد
ضاعت خلافتكم يا قوم فالتمسوا
خليفة الله بين الناس والعود
فاتهمه عند المهدي بالزندقة وقال: إنه قد هجا المهدي، فأمر، فضرب بالسياط حتى مات. (2) حماد عجرد
36 «ولو
37
أني أحببت أن أشخص حمادا لوصفته قبل كل شيء بحدة الطبع، وسوء الخلق، وحب الانتقام، والإسراع إليه، ثم بالصراحة في القول، والملاءمة بينه وبين العمل، وبكره النفاق والانصراف عنه، لا يعنيه أرضي الناس عنه أم سخطوا عليه، ثم بحدة اللسان ومضيه وإقذاعه وكلفه بفاحش القول وبحثه عن أسوئه وأقبحه، ثم بالسخرية من الناس وازدرائهم؛ لا على أنه يتخذ ذلك فلسفة وأصلا من أصول الحياة كالوليد ومطيع وأبي نواس، بل على أنه يتخذ ذلك وسيلة من وسائل الشعراء يخلص بها كلما ضاقت عليه المذاهب وأخذت عليه، أو دعته إلى ذلك حاجة. لم يكن حماد يحفل بما يحفل به الناس من الوفاء والانصراف عن التناقض، وإنما كان صديقا مخلصا حتى تبدوا له حاجة أو تسنح له فرصة أو تضطره ضرورة؛ فإذا صداقته قد استحالت إلى عداء، وإذا هو ليس أقل صدقا وإخلاصا في العداء منه في المودة والحب: فقد مدح يحيى بن زياد واتخذه صديقا ونال جوائزه، ثم كان الخلاف فهجاه. وصادق بشارا وصافاه، ثم اختصما فلم يعرفا في الخصومة رحمة ولا رفقا. وصافى مطيعا وأحبه ومدحه وأكثر في الثناء عليه، ثم اختصما في امرأة مرة وفي غلام مرة أخرى، فهجاه وأقذع في هجائه. وكان على هذا كله يؤثر شعره وضروراته على البر بالناس في معاملتهم: هجا ذات يوم رجلا يقال له حشيش وجعل اسمه قافية لهذا الشعر وأراد أن يبالغ في ذمه فشبهه ببحيش، وكان بحيش هذا رجلا من أهل البصرة وادعا لا يعرف حمادا ولا يعرفه حماد، فلما قرأ الرجل هذا الشعر جزع له وسافر من البصرة حتى بلغ الكوفة فعاتب حمادا؛ فقال له حماد ضاحكا معتذرا: لا بأس عليك فإن هذا من آثام القافية ولن أعود إليه».
وكان السبب في مهاجاة حماد وبشار أن حمادا كان نديما لنافع بن عقبة، فسأله بشار تنجيز حاجة من نافع فأبطأ عنها، فقال بشار فيه:
مواعيد حماد سماء مخيلة
تكشف عن رعد ولكن ستبرق
إذا جئته يوما أحال على غد
كما وعد الكمون ما ليس يصدق
وفي نافع عني جفاء وإنني
لأطرق أحيانا وذو اللب يطرق
وللنقرى
38
قوم فلو كنت منهم
دعيت ولكن دوني الباب مغلق
وما زلت أستأنيك حتى حسرتني
بوعد كجاري الآل يخفى ويخفق
فغضب حماد وأنشد نافعا الشعر فمنع بشارا، فقال بشار:
أبا عمر ما في طلابيك حاجة
ولا في الذي منيتنا ثم أضجرا
وعدت فلم تصدق وقلت غدا غدا
كما وعد الكمون شربا مؤخرا
فكان ذلك سبب التهاجي بين بشار وحماد. وكان بشار يرمي حمادا بالزندقة، وفي ذلك يقول:
ابن نهبي رأس علي ثقيل
واحتمال الرءوس خطب جليل
ادع غيري إلى عبادة الاثني
ن فإني بواحد مشغول
يابن نهبي برئت منك إلى الله
جهارا وذاك مني قليل
فأشاع حماد هذه الأبيات لبشار، وجعل فيها مكان: «فإني بواحد مشغول» «فإن عن واحد مشغول» ليصح عليه الزندقة والكفر بالله تعالى. فما زالت الأبيات تدور في الناس حتى انتهت إلى بشار، فاضطرب منها وجزع وقال: أشاط ابن الفاعلة بدمي، والله ما قلت إلا «فإني بواحد مشغول» فغيرها حتى شهرت في الناس.
كان رجل من أهل البصرة يدخل بين حماد وبشار على اتفاق منهما ورضا بأن ينقل إلى كل واحد منهما وعنه الشعر؛ فدخل يوما إلى بشار فقال له : إيه يا فلان، ما قال ابن الفاعلة، فأنشده:
إن تاه بشار عليكم فقد
أمكنت بشارا من التيه
فقال بشار: بأي شيء ويحك؟ فقال:
وذاك إذ سميته باسمه
ولم يكن حرا نسميه
قال: سخنت عينه، فبأي شيء كنت أعرف! إيه، فقال:
فصار إنسانا بذكري له
ما يبتغي من بعد ذكريه!
فقال: ما صنع شيئا، إيه ويحك! فقال:
لم أهج بشارا ولكنني
هجوت نفسي بهجائيه
فقال: على هذا المعنى دار وحوله حام. وتمام الأبيات:
لم آت شيئا قط فيما مضى
ولست فيما عشت آتيه
أسوأ لي في الناس أحدوثة
من خطأ أخطأته فيه
فأصبح اليوم لسبي له
أعظم شأنا من مواليه
وقال بشار لراوية حماد: ما هجاني به اليوم حماد؟ فأنشده:
ألا من مبلغ عني ال
ذي والده برد
فقال: صدق ابن الفاعلة فما يكون؟ فقال:
إذا ما نسب الناس
فلا قبل ولا بعد
فقال: كذب، أين هذه العرصات من عقيل! فما يكون؟ فقال:
وأعمى قلطبان
39
ما
على قاذفه حد
فقال: كذب، بل عليه ثمانون جلدة، هيه، فقال:
وأعمى يشبه القرد
إذا ما عمي القرد
فقال: والله ما أخطأ حين شبهني بقرد، حسبك حسبك! ثم صفق بيديه وقال: ما حيلتي! يراني فيشبهني ولا أراه فأشبهه. وتمام الأبيات:
دني لم يرح يوما
إلى مجد ولم يغد
ولم يحضر مع الحضا
ر في خير ولم يبد
ولم يخش له ذم
ولم يرج له حمد
جرى بالنحس مذ كان
ولم يجر له سعد
هو الكلب إذا مات
فلم يوجد له فقد
وقال علي بن مهدي: أجمع علماء البصرة أنه ليس في هجاء حماد عجرد لبشار إلا أربعون بيتا معدودة، ولبشار فيه من الهجاء أكثر من ألف بيت جيد. وكل واحد منهما هو الذي هتك صاحبه بالزندقة وأظهرها عليه، وكانا يجتمعان عليها، فسقط حماد وهتك بفضل بلاغة بشار وجودة معانيه، وبقي بشار على حاله لم يسقط، حتى عرف مذهبه في الزندقة فقتل به.
ومن أغلظ ما هجا به حماد بشارا:
نهاره أخبث من ليله
ويومه أخبث من أمسه
وليس بالمقلع عن غيه
حتى يوارى في ثرى رمسه
كان حماد صديقا ليحيى بن زياد، فأظهر يحيى تورعا وقراءة ونزوعا عما كان فيه وهجر حمادا وأشباهه، فكان إذا ذكر عنده ثلبه وذكر تهتكه ومجونه؛ فبلغ ذلك حمادا فكتب إليه:
هل تذكرن دلجى الي
ك على المضمرة القلاص
أيام تعطيني وتأ
خذ من أباريق الرصاص
إن كان نسكك لا يت
م بغير شتمي وانتقاصي
أو كنت لست بغير ذا
ك تنال منزلة الخلاص
فعليك فاشتم آمنا
كل الأمان من القصاص
وأقعد وقم بي ما بدا
لك في الأداني والأقاصي
فلطالما زكيتني
وأنا المقيم على المعاصي
أيام أنت إذا ذكر
ت مناضل عني مناصي
40
وأنا وأنت على ارتكا
ب الموبقات من الحراص
وبنا مواطن ما بنا
في البر آهلة العراص
فاتصل هذا الشعر بيحيى بن زياد، فنسب حمادا إلى الزندقة ورماه بالخروج عن الإسلام؛ فقال حماد فيه:
لا مؤمن يعرف إيمانه
وليس يحيى بالفتى الكافر
منافق ظاهره ناسك
مخالف الباطن للظاهر
كان حماد صديقا لحريث بن أبي الصلت الثقفي، وكان يعيبه بالبخل، وفيه يقول:
حريث أبو الفضل ذو خبرة
بما يصلح المعد الفاسده
تخوف تخمة أضيافه
فعودهم أكلة واحده
ومن قوله:
ألا قل لعبد الله إنك واحد
ومثلك في هذا الزمان كثير
قطعت إخائي ظالما وهجرتني
وليس أخي من في الإخاء يجور
أديم لأهل الود ودي وإنني
لمن رام هجري ظالما لهجور
ولو أن بعضي رابني لقطعته
وإني بقطع الرائبين جدير
فلا تحسبن منحي لك الود خالصا
لعز ولا أني إليك فقير
ودونك حظي منك لست أريده
طوال الليالي ما أقام ثبير
41
كان حماد صديقا لحفص بن أبي بردة، وكان حفص أعمش أفطس أعضب مقبح الوجه، فاجتمعوا يوما على شراب وجعلوا يتناشدون ويتحدثون، فأخذ حفص يطعن على مرقش ويعيب شعره ويلحنه؛ فقال له حماد:
لقد كان في عينيك يا حفص شاغل
وأنف كثيل
42
العود عما تتبع
تتبع لحنا في كلام مرقش
ووجهك مبني على اللحن أجمع
فأذناك إقواء وأنفك مكفأ
وعيناك إيطاء فأنت المرقع
ومن قوله:
إني أحبك فاعلمي
إن لم تكوني تعلمينا
حبا أقل قليله
كجميع حب العالمينا
وأنشد بشار قول حماد عجرد:
أخي كف عن لومي فإنك لا تدري
بما فعل الحب المبرح في صدري
أخي أنت تلحاني وقلبك فارغ
وقلبي مشغول الجوانح بالفكر
دوائي ودائي عند من لو رأيته
يقلب عينيه لأقصرت عن زجري
فأقسم لو أصبحت في لوعة الهوى
لأقصرت عن لومي وأطنبت في عذري
ولكن بلائي منك أنك ناصح
وأنك لا تدري بأنك لا تدري
فطرب بشار ثم قال: ويلكم أحسن والله! من هذا؟ قالوا: حماد عجرد؛ قال: أوه وكلتموني والله بقية يومي لهم طويل، والله لا أطعم بقية يومي طعاما، ولأصومن غما بما يقول النبطي مثل هذا.
قال محمد بن الفضل السلولي: لقيت حماد عجرد بواسط وهو يمشي وأنا راكب، فقلت له: انطلق بنا إلى المنزل، فإني الساعة فارغ لنتحدث، وحبست عليه الدابة، فقطع شغل عرض لي لم أقدر على تركه، فمضيت وأنسيته، فلما بلغت المنزل خفت شره فكتبت إليه:
أبا عمر اغفرها هديت فإنني
قد اذنبت ذنبا مخطئا غير عامد
فلا تجدن فيه علي فإنني
أقر بإجرامي ولست بعائد
وهبه لنا تفديك نفسي فإنني
أرى نعمة أن كنت لست بواجد
وعد منك بالفضل الذي أنت أهله
فإنك ذو فضل طريف وتالد
فأجابني عن الأبيات:
محمد يا با الفضل يا ذا المحامد
ويا بهجة النادي وزين المشاهد
وحقك ما أذنبت منذ عرفتني
على خطأ يوما ولا عمد عامد
ولو كان ما ألفيتني متسرعا
إليك به يوما تسرع واجد
43
ولو كان ذو فضل يسمى لفضله
بغير اسمه سميت أم القلائد
فبينا رقعته في يدي وأنا أقرؤها إذ جاءني رسوله برقعة فيها:
قد غفرنا الذنب يابن ال
فضل والذنب عظيم
ومسيء أنت يابن ال
فضل في ذاك مليم
حين تخشاني على الذن
ب كما يخشى اللئيم
ليس لي إن كان ما خف
ت من الأمر حريم
أنا والله ولا أف
خر للغيظ كظوم
وبأصحابي ولا ري
بة بر ورحيم
وبما يرضيهم عن
ي ويرضيني عليم
كان عثمان بن شيبة مبخلا وكان حماد يهجوه، فجاء رجل كان يقول الشعر إلى حماد فقال له:
أعني من غناك ببيت شعر
على فقرى لعثمان بن شيبه
فقال:
فإنك إن رضيت به خليلا
ملأت يديك من فقر وخيبه
فقال له الرجل: جزاك الله خيرا فقد عرفتني من أخلاقه ما قطعني عن مدحه وصنت وجهي عنه.
لما مات محمد بن أبي العباس طلب محمد بن سليمان حماد عجرد لما كان يقوله في أخته زينب من الشعر، فعلم أنه لا مقام له معه بالبصرة، فاستجار بقبر أبيه سليمان بن علي وقال فيه:
من مقر بالذنب لم يوجب الل
ه عليه بسيء إقرارا
ليس إلا بفضل حلمك يع
تد بلاء وما يعد اغترارا
يابن بنت النبي أحمد لا أج
عل إلا إليك منك الفرارا
غير أني جعلت قبر أبي أيو
ب لي من حوادث الدهر جارا
وحري من استجار بذاك ال
قبر أن يأمن الردى والعثارا
لم أجد لي من العباد مجيرا
فاستجرت التراب والأحجارا
لست أعتاض منك في بغية العزة
قحطان كلها أو نزارا
فأنا اليوم جار من ليس في الأر
ض مجير أعز منه جوارا
يابن بنت النبي يا خير من حط
ت إليه الغوارب الأكوارا
إن أكن مذنبا فأنت ابن من كا
ن لمن كان مذنبا غفارا
فاعف عني فقد قدرت وخير ال
عفو ما قلت: كن، فكان اقتدارا
لو يطيل الأعمار جار لعز
كان جاري يطول الأعمارا
فقال: والله لأبلن قبر أبي من دمه ؛ فهرب حماد إلى بغداد، فعاذ بجعفر بن المنصور فأجاره، وقال: لا أرضى أو تهجو محمد بن سليمان، فقال يهجوه:
قل لوجه الخصي ذي العار إني
سوف أهدي لزينب الأشعارا
قد لعمري فررت من شدة الخو
ف وأنكرت صاحبي نهارا
وظننت القبور تمنع جارا
فاستجرت التراب والأحجارا
كنت عند استجارتي بأبي أي
وب أبغي ضلالة وخسارا
لم يجرني ولم أجد فيه حظا
أضرم الله ذلك القبر نارا
فبلغ هجاؤه محمد بن سليمان فقال: والله لا يفلتني أبدا، وإنما يزداد حتفا بلسانه! ولا والله لا أعفو عنه ولا أتغافل أبدا.
ومن قوله:
إن الكريم ليخفى عنك عسرته
حتى تراه غنيا وهو مجهود
وللبخيل على أمواله علل
زرق العيون عليها أوجه سود
إذا تكرمت أن تعطي القليل ولم
تقدر على سعة لم يظهر الجود
أبرق بخير ترجى للنوال فما
ترجى الثمار إذا لم يورق العود
بث النوال ولا تمنعك قلته
فكل ما سد فقرا فهو محمود
وقال أيضا:
كم من أخ لك لست تنكره
ما دمت من دنياك في يسر
متصنع لك في مودته
يلقاك بالترحيب والبشر
يطري الوفاء وذا الوفاء ويل
حى الغدر مجتهدا وذا الغدر
فإذا عدا، والدهر ذو غير،
دهر عليك عدا مع الدهر
فارفض بإجمال مودة من
يقلي المقل ويعشق المثري
وعليك من حالاه واحدة
في العسر إما كنت واليسر
لا تخلطنهم بغيرهم
من يخلط العقيان بالصفر!
وهو القائل في محمد بن طلحة:
زرت امرأ في بيته مرة
له حياء وله خير
يكره أن يتخم إخوانه
إن أذى التخمة محذور
ويشتهي أن يؤجروا عنده
بالصوم والصائم مأجور
يابن أبي شهدة أنت امرؤ
بصحة الأبدان مسرور
وهو القائل في محمد بن أبي العباس السفاح:
أرجوك بعد أبي العباس إذ بانا
يا أكرم الناس أعراقا وأغصانا
لو مج عود على قوم عصارته
لمج عودك فينا المسك والبانا
قيل: إن حمادا مضى إلى الأهواز، فأقام هناك مستترا، وبلغ محمدا خبره فأرسل مولى له إلى الأهواز، فلم يزل يطلبه حتى ظفر به فقتله غيلة. وقيل: إنه خرج من الأهواز يريد البصرة، فمر بشيراز في طريقه، فمرض بها، فاضطرم إلى المقام بسبب علته، فاشتد مرضه فمات هناك ودفن على تلعة. وكان بشار بلغه أن حمادا عليل، ثم نعى إليه قبل موته، فقال بشار:
لو عاش حماد لهونا به
لكنه صار إلى النار
فبلغ هذا البيت حمادا قبل أن يموت وهو في السياق،
44
فقال يرد عليه:
نبئت بشارا نعاني ولل
موت براني الخالق الباري
يا ليتني مت ولم أهجه
نعم ولو صرت إلى النار
وأي خزي هو أخزى من أن
يقال لي يا سب
45
بشار
فلما قتل المهدي بشارا بالبطيحة اتفق أن حمل إلى منزله ميتا، فدفن مع حماد على تلك التلعة، فمر بها أو هشام الباهلي الشاعر البصري الذي كان يهاجي بشارا، فوقف على قبريهما فقال:
قد تبع الأعمى قفا عجرد
فأصبحا جارين في دار
قالت بقاع الأرض لا مرحبا
بقرب حماد وبشار
تجاورا بعد تنائيهما
ما أبغض الجار إلى الجار
صارا جميعا في يدي مالك
في النار والكافر في النار (3) مروان بن أبي حفصة «لم
46
يكن مروان
47
متصرفا في فنون الشعر، ولعله لم يعد منها فنا أو فنين؛ فلسنا نعرف له غزلا إلا هذا الغزل الذي تعود الشعراء أن يبدءوا به مدائحهم؛ ولسنا نعرف له هجاء إلا هذا النحو من الهجاء الذي يضطر إليه الشعراء السياسيون حين يدافعون عن مذهبهم ويهاجمون خصومهم. على أن موقف مروان كان في هذا دقيقا جدا، فهو لم يكن ينصر بني العباس على بني أمية فيبلغ منهم ما يريد، ويهجوهم في حرية؛ وإنما كان السيف هو الذي انتصر للعباسيين من بني أمية، وكان العباسيون في حاجة إلى من ينصرهم على العلويين وأتباعهم من بني هاشم، ولم يكن هجاء العلويين يسيرا! كان الدين يأباه في ذلك الوقت، وكانت كرامة الخلافة العباسية نفسها تأباه أيضا، فالعلويون من بني هاشم وهجاؤهم هجاء للعباسيين؛ ومن هنا سلك مروان وأمثاله من الشعراء السياسيين الذين ناضلوا عن حقوق العباسيين مسلك الدفاع والمناظرة الشريفة البريئة من الشتم والقذف، فكان دفاعهم أبلغ، وكانت مناظراتهم أحسن وقعا من هجاء أولئك الشتامين المسرفين في الشتم؛ ثم لا نعرف لمروان مجونا ولا عبثا، فلم يكن كما قلنا ماجنا ولا عابثا وإنما كان بخيلا، والبخل والعبث شيئان لا يتفقان، ومن ضن على نفسه باللحم وطيبات الطعام لم يستبح لنفسه خمرا ولا ما تستتبعه الخمر. ثم لا نعرف لمروان فخرا وما نحسب أنه فاخر أو مال إلى الفخر، فقد كان رجلا عمليا يعنيه أن يظفر بالمكانة والثروة وكان يضن بوقته وجهده على الفخر الذي لا يفيد. لم يعرض إذن إلا لفنين اثنين: المدح والرثاء، وهو في المدح أشعر منه في الرثاء وهذا طبعي، فهو راغب حين يمدح، يطلب المال ويحرص على أن يظفر به، فمعقول أن يجيد وأن يبلغ من الإجادة حظا عظيما؛ أما في الرثاء فهو لا يرغب ولا يطلب مالا وإنما يفي بعهد ويشكر صنيعة. ومعقول أن موقفه هذا لا يدفعه إلى الإجادة إلا أن يكون حساسا دقيق الشعور راقي النفس، ولم يكن مروان من هذا كله في شيء، وإنما كان كما قلت لك رجلا عمليا يريد المال. على أن رثاءه لمعن ليس بالرديء وكذلك رثاؤه للمهدي، وهل نستطيع أن نعد رثاءه للمهدي رثاء! هو مدح لأنه عزاء للخليفة الجديد، ففيه ذكر للخليفة الراحل، والثناء على وارثه، وفيه المثوبة والعطاء. فهو إلى المدح أقرب منه إلى الرثاء.
أما مدح مروان فمن آيات المدح العربي، ونحن لا نحفظ منه إلا متفرقات قليلة ولكنها تكفي لنحكم أن مروان كان قد أتقن المدح وبرع فيه، بل نحسب أنه برز في هذا الفن على غيره من المعاصرين، ولكن مدح مروان ينقسم إلى قسمين متمايزين: أحدهما المدح بالمعنى الشائع المعروف، وهو موجه لمعن بن زائدة، فهو يفتن في وصف معن بالجود والكرم والشجاعة والحب، ثم يفتن في مدح بني شيبان الذين ينتمي إليهم معن، وهو لا يخرج في مدحه هذا عن سنة الشعراء من قبله، ولكنه جيد المعاني منتقاها، حسن الألفاظ صافيها.
وأما القسم الثاني فهو هذا المدح السياسي الذي كان ينشده الخلفاء من بني العباس، وهو مدح إن شئت ولكنه يمتاز عن المدح المعروف بما فيه من هذا النضال السياسي الذي كان يحتاج إلى مهارة وفطنة ودقة وخفة، والذي كان يضطر صاحبه إلى أن يقهر العلويين دون أن يؤذيهم، وإلى أن ينصر العباسيين دون أن يزدري خصومهم، وقد بلغ مروان من ذلك ما أراد، فقد أغضب العلويين لا لأنه آذاهم أو هجاهم فيما نعتقد، بل لأنه كان خصما قويا عنيدا ماهرا في الخصام.
ثم هناك شيئان لا بد من الإشارة إليهما ليكمل رأينا في مروان، ولنستطيع أن نحكم على شعره حكما معللا إن صح هذا التعبير:
الأول:
أن مروان لم يكن عراقيا ولم يرض الإقامة في العراق ولم يطل عشرة العراقيين من أهل المجون والعبث، وإنما كان من أهل اليمامة أقام فيها لا يبرحها إلا وافدا على أمير أو وزير أو خليفة، فإذا أنشد قصيدته وظفر بجائزته عاد إلى اليمامة وأقام فيها عامه ثم استأنف الرحلة. ولهذا أثره في شعر مروان، فهو أقرب إلى شعر الجاهليين والإسلاميين منه إلى شعر المحدثين من شعراء الحضارة العباسية، تقرؤه فتجد عليه هذه المسحة التي تخلو أو تكاد تخلو من الدعابة والخفة، وتمتاز بشيء من الجلال والرصانة، يمثل البادية تمثيلا صحيحا؛ ولهذا أثره من وجهة أخرى، فقد رضي علماء اللغة جميعا عن مروان وأحبوه من هذه الناحية، وما أشك أنا في أنهم كانوا يودون لو استطاعوا إيثاره على بشار وأبي نواس، لأنه كان أقرب منهما إلى الأسلوب البدوي القديم، ولكن أنى لهم ذلك! وقد سلط الله عليهم لسان بشار وأبي نواس فاضطروا إلى أن يحابوا هذين الشاعرين ويتملقوهما، وأجمعوا أو كادوا يجمعون على تقديم بشار وإيثاره على مروان. ومع ذلك فليس إلى المقارنة سبيل بين الشاعرين إذا اتخذنا وجهة البحث والنقد، هذه الوجهة التي كان يعنى بها علماء اللغة وهي وجهة المتانة والرصانة في اللفظ والأسلوب، لا يقاس إلى مروان في هذا أحد من شعراء العراق، أما إذا اتخذنا وجهة أخرى للنقد، إذا اتخذنا اختلاف الفنون التي طرقها الشاعر، وقرب المأخذ، والدنو من أذهان الناس والقدرة على تمثيل حياتهم، فليس مروان يقاس إلى بشار ولا إلى أبي نواس بنوع خاص؛ على أن من علماء اللغة من استطاع أن يكون شجاعا شريفا في فنه لا يخاف ولا يهاب فصدق نفسه وصدق الناس، وآثر مروان على غيره من الشعراء المعاصرين، وهذا العالم اللغوي هو ابن الأعرابي الذي ختم الشعر بمروان وأبى أن يدون لأحد من المحدثين بعده، والذي كان ينشد مع الإعجاب الشديد هذه الأبيات الجيدة من شعر مروان، وهي:
بنو مطر يوم اللقاء كأنهم
أسود لها في بطن خفان أشبل
هم يمنعون الجار حتى كأنما
لجارهم بين السماكين منزل
لهاميم
48
في الإسلام سادوا ولم يكن
كأولهم في الجاهلية أول
هم القوم إن قالوا أصابوا وإن دعوا
أجابوا وإن أعطوا أطابوا وأجزلوا
ولا يستطيع الفاعلون فعالهم
وإن أحسنوا في النائبات وأجملوا
وكان ابن الأعرابي يقول: لو أن معنا أعطى مروان كل ما يملك بهذه الأبيات لما بلغ حقه.
الثاني:
أن مروان لم يكن سريعا في الشعر ولا متعجلا ولا مسترسلا مع الطبع وإنما كان بطيئا متمهلا. كان يجيد الشعر لأنه كان يجوده. كان يسلك هذه الطريقة التي يزعم الرواة أن زهيرا كان يسلكها في هذه القصائد التي يسمونها الحوليات، كان ينفق أشهرا في إنشاء القصيدة وأشهرا في إصلاحها وأشهرا في عرضها حتى إذا استقام له هذا كله أنشد قصيدته لممدوحه خليفة كان أو وزيرا أو أميرا، فليس عجيبا مع هذه الأناة أن يخلو شعره مما يستنكر وأن يبرأ من الضعف والوحشية معا. ولقد يحدثنا الرواة بطائفة من أخبار مروان مع اللغويين والشعراء الذين كان يعرض عليهم شعره قبل أن ينشده الخلفاء. ولست أشير إلا إلى سيرته مع بشار فلها معناها. كان مروان يعرض القصيدة على بشار ويسأله رأيه فيها فلا يجيبه بشار بأنها جيدة أو بأنها رديئة، بل يقدر له قيمة القصيدة ماليا، فيقول: سيعطونك عليها كذا وكذا ... وقد صدق بشار مرتين فأظهر له مروان العجب من ذلك، فقال بشار: ألم أقل لك إني أعلم الغيب! ولم يكن يعلم الغيب، وإنما كان يفهم مروان ويفهم الخلفاء ويفهم الميول السياسية التي كان من شأنها أن تجزل حظ مروان من العطاء.
كان مروان متناقضا ولكنه تناقض مفهوم، كان شديد الحرص على الإجادة، فكان يشك في شعره، ويستشير فيه الشعراء والنحاة، ولكنه كان مع ذلك معجبا بنفسه لا يقدم عليها أحدا بعد هؤلاء الشعراء الثلاثة: الأخطل والفرزدق وجرير. واسمع رأيه فيهم وفي نفسه، فقد عقده شعرا ليثبت كما يقول:
ذهب الفرزدق بالفخار وإنما
حلو القريض ومره لجرير
ولقد هجا فأمض أخطل تغلب
وحوى اللهى ببيانه المشهور
كل الثلاثة قد أجاد فمدحه
وهجاؤه قد سار كل مسير
ولقد جريت ففت غير مهلل
بجراء لا قرف ولا مبهور
إني لآنف أن أحبر مدحة
أبدا لغير خليفة ووزير
ما ضرني حسد اللئام ولم يزل
ذو الفضل يحسده ذوو التقصير
أما رأي مروان في النقد فبديع، كان ينشد الشعر لامرئ القيس ويقول: هو أشعر الناس، ثم ينشد شعر الأعشى ويقول: هو أشعر الناس، ثم ينشد شعر زهير ويقول: هو أشعر الناس، حتى إذا أنشد لطائفة كثيرة من الشعراء، فرآهم جميعا أشعر الناس، قال ضاحكا: الناس أشعر الناس! ولست أعرف رأيا كهذا الرأي يمثل الشك في نقد الناقدين المعاصرين والسخرية بهذا النقد».
وننتقل من ذاك الوصف الرائع إلى ذكر نبذة صالحة من أخباره وأشعاره.
دخل مروان بن أبي حفصة على المهدي بعد وفاة معن، فأنشده مديحا فيه، فقال له المهدي: ألست القائل:
أقمنا باليمامة بعد معن
مقاما لا نريد به زوالا
وقلنا أين نرحل بعد معن
وقد ذهب النوال فلا نوالا
قد ذهب النوال فيما زعمت، فلم جئت تطلب نوالنا؟ لا شيء لك عندنا. فلما كان من العام المقبل تلطف حتى دخل مع الشعراء، وإنما كانت الشعراء تدخل على الخلفاء كل عام مرة، فمثل بين يديه، وأنشد - بعد رابع أو خامس من الشعراء:
طرقتك زائرة فحي خيالها
بيضاء تخلط بالجمال دلالها
قادت فؤادك فاستقاد ومثلها
قاد القلوب إلى الصبا فأمالها
فكأنما طرقت بنفحة روضة
سحت بها ديم الربيع طلالها
باتت تسائل في المنام معرسا
بالبيد أشعث لا يمل سؤالها
في فتية هجعوا غرارا بعدما
سئموا مراعشة السرى ومطالها
فكأن حشو ثيابهم هندية
نحلت وأغفلت القيون صقالها
وضعوا الخدود لدى سواهم جنح
تشكو كلوم صفاحها وكلالها
طلبت أمير المؤمنين فواصلت
بعد السرى بغدوها آصالها
نزعت إليك صواديا فتقاذفت
تطوي الفلاة حزونها ورمالها
يتبعن ناجية يهز مراحها
بعد النحول تليلها
49
وقذالها
هوجاء تدرع الربا وتشقها
شق الشموس إذا تراع جلالها
تنجو
50
إذا دفع القطيع كما نجت
خرجاء
51
بادرت الظلام رئالها
52
كالقوس ساهمة أتتك وقد ترى
كالبرج تملأ رحلها وحبالها
ومنها:
أحيا أمير المؤمنين محمد
سنن النبي حرامها وحلالها
ملك تفرع نبعة من هاشم
مد الإله على الأنام ظلالها
جبل لأمته تلوذ بركنه
رادى جبال عدوها فأزالها
لم يغشها مما يخاف عظيمة
إلا أجال لها الأمور مجالها
حتى يفرجها أغر مهذب
ألفى أباه مفرجا أمثالها
ثبت على زلل الحوادث راكب
من صرفهن لكل حال حالها
كلتا يديك جعلت فضل نوالها
للمسلمين وللعدو وبالها
وقعت مواقعها بعفوك أنفس
أذهبت بعد مخافة أوجالها
ونصبت نفسك خير نفس دونها
وجعلت مالك واقيا أموالها
هل تعلمون خليفة من قبله
أجرى لغايته التي أجرى لها
طلع الدروب مشمرا عن ساقه
بالخيل منصلتا يجد نعالها
قود تريع إلى أغر لوجهه
نور يضيء أمامها وخلالها
قصرت حمائله عليه فقلصت
ولقد تحفظ فينها فأطالها
حتى إذا وردت أوائل خيله
جيحان بث على العدو رعالها
53
أحمى بلاد المسلمين عليهم
وأباح سهل بلادهم وجبالها
أدمت دوابر خيله وشكيمها
غاراتهن وألحقت آطالها
لم يبق بعد مغارها وطرادها
إلا نحائزها
54
وإلا آلها
رفع الخليفة ناظري وراشني
بيد مباركة شكرت نوالها
وحسدت حتى قيل أصبح باغيا
في المشي مترف شيمة مختالها
ولقد حذوت لمن أطاع ومن عصى
نعلا ورثت عن النبي مثالها
فزحف المهدي من صدر مصلاه حتى صار على البساط إعجابا بما سمع، ثم قال: كم هي؟ قال مائة بيت، فأمر له بمائة ألف درهم، فكانت أول مائة ألف درهم أعطيها شارع في أيام بني العباس، وهكذا فعل معه الرشيد لما أنشده قصيدته التي يقول فيها:
لعمرك ما أنسى غداة المحصب
إشارة سلمى بالبنان المخضب
وقد صدر الحجاج إلا أقلهم
مصادر شتى موكبا بعد موكب
قال مروان: دخلت على المهدي في قصر السلام، فلما سلمت عليه وذلك بعقب سخطه على يعقوب بن داود، فقلت: يا أمير المؤمنين، إن يعقوب رجل رافضي، وإنه سمعني أقول في الوراثة:
أنى يكون وليس ذاك بكائن
لبنى البنات وراثة الأعمام
فذلك الذي حمله على عدواتي؛ ثم أنشدته:
كأن أمير المؤمنين محمدا
لرأفته بالناس للناس والد
فقال له المهدي: والله ما أعطيك إلا من صلب مالي، فاعذرني، وأمر لي بثلاثين ألف درهم وكساني جبة ومطرفا، وفرض لي على أهل بيته ومواليه ثلاثين ألفا أخرى.
لما قدم معن من اليمن دخل عليه مروان والمجلس غاص بأهله، فأخذ بعضادتي الباب وأنشأ يقول:
أرى القلب أمسى بالأوانس مولعا
وإن كان من عهد الصبا قد تمتعا
ويقول فيها:
ولما سرى الهم الغريب قريته
قرى من أزال الشك عنه وأزمعا
عزمت فعجلت الرحيل ولم أكن
كذي لوثة لا يطلع الهم مطلعا
فأمت ركابي أرض معن ولم تزل
إلى أرض معن حيثما كان نزعا
نجائب لولا أنها سخرت لنا
أبت عزة من جهلها أن تورعا
كسونا رحال الميس
55
منها غواربا
تدارك فيها الني
56
صيفا ومربعا
فما بلغت صنعاء حتى تواضعت
ذراها وزال الجهل عنها وأقلعا
إلى أن قال:
وما الغيث إذ عم البلاد بصوبه
على الناس من معروف معن بأوسعا
تدارك معن قبة الدين بعدما
خشينا على أوتادها أن تنزعا
أقام على الثغر المخوف وهاشم
تشاقى سماما بالأسنة منقعا
مقام امرئ يأبى سوى الخطة التي
تكون لدى غب الأحاديث أنفعا
وما أحجم الأعداء عنك بقية
عليك ولكن لم يروا فيك مطمعا
رأوا مخدرا قد جربوه وعاينوا
لدى غيله منهم مجرا ومصرعا
وليس بثانيه إذا شد أن يرى
لدى نحره زرق الأسنة شرعا
له راحتان الغيث والحتف فيهما
أبى الله إلا أن تضرا وتنفعا
لقد دوخ الأعداء معن فأصبحوا
وأمنعهم لا يدفع الذل مدفعا
نجيب مناجيب وسيد سادة
ذرى المجد من فرعي نزار تفرعا
لبانت خصال الخير فيه وأكملت
وما كملت خمسا سنوه وأربعا
لقد أصبحت في كل شرق ومغرب
بسيفك أعناق المريبين خضعا
وطئت خدود الحضرميين وطأة
لها هد ركن منهم فتضعضعا
فأقعوا على الأذناب إقعاء معشر
يرون لزوم السلم أبقى وأودعا
فلو مدت الأيدي إلى الحرب كلها
لكفوا وما مدوا إلى الحرب أصبعا
فقال له معن: احتكم، قال: عشرة آلاف درهم، فقال معن: ربحنا عليك تسعين ألفا، قال: أقلني، قال: لا أقال الله من يقيلك.
لما مات المهدي وفدت العرب على موسى الهادي يهنئونه بالخلافة ويعزونه عن المهدي، فدخل مروان فأخذ بعضادتي الباب وقال:
لقد أصبحت تختال في كل بلدة
بقبر أمير المؤمنين المقابر
ولو لم تسكن بابنه في مكانه
لما برحت تبكي عليه المنابر
مرض عمرو بن مسعدة فدخل عليه مروان وقد أبل من مرضه، فأنشأ يقول:
صح الجسم يا عمرو
لك التمحيص والأجر
ولله علينا الحم
د والمنة والشكر
فقد كان شكا شوقا
إليك النهي والأمر
قال موسى بن يحيى: أوصلنا إلى مروان بن أبي حفصة في وقت من الأوقات سبعين ألف درهم، وجمع إليها مالا حتى تمت مائة ألف وخمسين ألف درهم وأودعها يزيد بن مزيد، فبينا نحن عند يحيى بن خالد إذ دخل يزيد بن مزيد، وكانت فيه دعابة، فقال: يا أبا علي، أودعني مروان خمسين ومائة ألف درهم، وهو يشتري الخبز من البقال؛ فغضب يحيى ثم قال: علي بمروان، فأتي به، فقال له: قد أخبرني أبو خالد بما أودعته من المال وما تبتاعه من البقال، والله لما يرى من أثر البخل عليك أضر من الفقر لو كان بك. ويروى أنه قال له: والله للبخل أسوأ عليك أثرا من الفقر لو صرت إليه فلا تبخل. وقال عمر بن شبة قال مروان: ما فرحت بشيء قط فرحي بمائة ألف وهبها لي أمير المؤمنين المهدي، فوزنتها فزادت درهما، فاشتريت به لحما. وقال جهم بن خلف: أتينا اليمامة فنزلنا على مروان بن أبي حفصة فأطعمنا تمرا وأرسل غلامه بفلس وسكرجة ليشتري زيتا، فلما جاء بالزيت قال لغلامه: خنتني؛ قال: من فلس! كيف أخونك؟ قال: أخذت الفلس لنفسك واستوهبت الزيت. وقال التوزي: مر مروان بن أبي حفصة في بعض سفراته وهو يريد مغنى امرأة من العرب، فأضافته؛ فقال: لله علي إن وهب لي الأمير مائة ألف أن أهب لك درهما؛ فأعطاه ستين ألف درهم، فأعطاها أربعة دوانق. وقال أبو دعامة: اشترى مروان لحما بنصف درهم فلما وضعه في القدر وكاد ينضج دعاه صديق له، فرده على القصاب بنقصان دانق، فشكاه القصاب وجعل ينادي هذا لحم مروان، وظن أنه يأنف لذلك؛ فبلغ الرشيد ذلك فقال: ويلك! ما هذا؟ فقال: أكره الإسراف.
دخل مروان على موسى الهادي فأنشده قوله فيه:
تشابه يوما بأسه ونواله
فما أحد يدري لأيهما الفضل
فقال له الهادي: أيما أحب إليك؟ أثلاثون ألفا معجلة، أم مائة ألف تدون في الدواوين؟ فقال له: يا أمير المؤمنين، أنت تحسن ما هو خير من هذا، ولكنك أنسيته، أفتأذن لي أن أذكرك؟ قال: نعم؛ قال: تعجل لي الثلاثين ألفا وتدون المائة ألف في الدواوين، فضحك وقال: بل يعجلان جميعا، فحمل إليه المال أجمع.
قال محمد النوفلي: اجتاز مروان برجل من باهلة من أهل اليمامة، وهو ينشد قوما كان جالسا إليهم شعرا مدح به مروان بن محمد، وأنه قتل قبل أن يلقاه وينشده إياه، أوله:
مروان يابن محمد أنت الذي
زيدت به شرفا بنو مروان
فأعجبته القصيدة، فأمهل الباهلي حتى قام من مجلسه، ثم أتاه في منزله فقال له: إني سمعت قصيدتك وأعجبتني، ومروان قد مضى ومضى أهله، وفاتك ما قدرت عنده، أفتبيعني القصيدة حتى أنتحلها، فإنه خير لك من أن تبقى عليك وأنت فقير؟ قال: نعم؛ قال: بكم؟ قال: بثلاثمائة درهم، قال: قد ابتعتها، فأعطاه الدراهم وحلفه بالطلاق ثلاثا وبالأيمان المحرجة ألا ينتحلها أبدا، ولا ينسبها إلى نفسه ولا ينشدها، وانصرف بها إلى منزله فغير منها أبياتا وزاد فيها وجعلها في معن، وقال في ذلك البيت:
معن بن زائدة الذي زيدت به
شرفا على شرف بنو شيبان
ووفد بها إلى معن حتى أثرى واتسعت حاله، فكان معن أول من رفع ذكره ونوه به. وله فيه مدائح بعد ذلك شريفة ومراث حسنة . قال مروان: كان المنصور قد طلب معن بن زائدة طلبا شديدا وجعل فيه مالا، فحدثني معن باليمن أنه اضطر لشدة الطلب إلى أن قام في الشمس حتى لوحت وجهه، وخفف عارضيه ولحيته، ولبس جبة صوف غليظة، وركب جملا من الجمال النقالة يمضي إلى البادية فيقيم بها، وكان قد أبلى في حرب يزيد بن عمر بن هبيرة بلاء حسنا غاظ المنصور وجد في طلبه، قال معن: فلما خرجت من باب حرب تبعني أسود متقلدا سيفا حتى إذا غبت عن الحرس قبض على خطام جملي فأناخه وقبض علي، فقلت له: ما لك؟ قال أنت طلبة أمير المؤمنين، قلت: ومن أنا حتى يطلبني أمير المؤمنين؟ قال معن بن زائدة، قلت: يا هذا، اتق الله، وأين أنا من معن؟ قال: دع هذا عنك، فأنا والله أعرف بك منك، فقلت له: فإن كانت القصة كما تقول، فهذا جوهر حملته معي يفي بأضعاف ما بذله المنصور لمن جاءه بي، فخذه ولا تسفك دمي، قال: هاته، فأخرجته إليه، فنظر إليه ساعة وقال: صدقت في قيمته، ولست قابله حتى أسألك عن شيء، فإن صدقتني أطلقتك، فقلت: قل، قال: إن الناس قد وصفوك بالجود فأخبرني، هل وهبت قط مالك كله؟ قلت: لا، قال: فنصفه؟ قلت: لا، قال: فثلثه؟ قلت: لا، حتى بلغ العشر، فاستحييت، فقلت: أظن أني فعلت هذا، فقال: ما أراك فعلته، أنا والله راجل ورزقي من أبي جعفر عشرون درهما وهذا الجوهر قيمته آلاف الدنانير وقد وهبته لك، ووهبتك لنفسك ولجودك المأثور عنك بين الناس، ولتعلم أن في الدنيا أجود منك فلا تعجبك نفسك، ولتحقر بعد هذا كل شيء تفعله ولا تتوقف عن مكرمة؛ ثم رمى بالعقد في حجري وخلى خطام البعير وانصرف؛ فقلت: يا هذا، قد والله فضحتني ولسفك دمي أهون علي مما فعلت، فخذ ما دفعته إليك فإني غني عنه، فضحك وقال: أردت أن تكذبني في مقامي هذا، والله لا آخذه ولا آخذ بمعروف ثمنا أبدا ومضى؛ فوالله لقد طلبته بعد أن أمنت وبذلت لمن جاءني به ما شاء، فما عرفت له خبرا وكأن الأرض ابتلعته. وكان سبب رضا المنصور عن معن أنه لم يزل مستترا حتى كان يوم الهاشمية،
57
فلما وثب القوم على المنصور وكادوا يقتلونه، وثب معن وهو متلثم فانتضى سيفه وقاتل فأبلى بلاء حسنا وذب القوم عنه حتى نجا وهم يحاربونه بعد؛ ثم جاء والمنصور راكب على بغلة ولجامها بيد الربيع فقال له: تنح فإني أحق باللجام منك في هذا الوقت وأعظم فيه غناء؛ فقال له المنصور: صدق فادفعه إليه، فأخذه ولم يزل يقاتل حتى انكشفت تلك الحال، فقال له المنصور: من أنت؟ لله أبوك! قال: أنا طلبتك يا أمير المؤمنين معن بن زائدة؛ قال: قد أمنك الله على نفسك ومالك ومثلك يصطنع، ثم أخذه معه وخلع عليه وحباه وزينه، ثم دعا به يوما فقال له: إني قد أملتك لأمر فكيف تكون فيه؟ قال: كما يحب أمير المؤمنين؛ قال: قد وليتك اليمن فابسط السيف فيهم حتى ينقض حلف ربيعة واليمن، وابلغ من ذلك ما يحب أمير المؤمنين؛ فولاه اليمن وتوجه إليها فبسط السيف فيهم حتى أسرف. قال مروان: وقدم معن بعقب ذلك فدخل على المنصور، فقال له بعد كلام طويل: قد بلغ أمير المؤمنين عنك شيء لولا مكانك عنده ورأيه فيك لغضب عليك؛ قال: وما ذاك يا أمير المؤمنين؟ قال: إعطاؤك مروان بن أبي حفصة ألف دينار لقوله فيك:
معن بن زائدة الذي زيدت به
شرفا على شرف بنو شيبان
إن عد أيام الفعال فإنما
يوماه يوم ندى ويوم طعان
فقال: والله يا أمير المؤمنين ما أعطيته ما بلغك لهذا الشعر، وإنما أعطيته لقوله:
ما زلت يوم الهاشمية معلنا
بالسيف دون خليفة الرحمن
فمنعت حوزته وكنت وقاءه
من وقع كل مهند وسنان
فاستحيا المنصور وقال: إنما أعطيته ما أعطيته لهذا القول؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين؛ والله لولا مخافة الشنعة لأمكنته من مفاتيح بيوت الأموال وأبحته إياها؛ فقال له المنصور: لله درك من أعرابي! ما أهون عليك ما يعز على الرجال وأهل الحزم!
وأختم هذه الترجمة بموت مروان يقصه قاتله. روى صاحب الأغاني عن رجل يقال له صالح بن عطية الأصجم أنه قال: لما قال مروان:
أنى يكون وليس ذاك بكائن
لبنى البنات وراثة الأعمام
لزمته وعاهدت الله أن أغتاله فأقتله أي وقت أمكنني، وما زلت ألاطفه وأبره، وأكتب أشعاره حتى خصصت به فأنس بي جدا، وعرفت ذلك بنو حفصة جميعا فأنسوا بي، ولم أزل أطلب غرة حتى مرض من حمى أصابته، فلم أزل أظهر له الجزع عليه وألازمه وألاطفه حتى خلا لي البيت يوما، فوثبت عليه فأخذت بحلقه فما فارقته حتى مات، فخرجت وتركته فخرج إليه أهله بعد ساعة فوجدوه ميتا وارتفعت الصيحة، فحضرت وتباكيت وأظهرت الجزع عليه حتى دفن وما فطن لما فعلت أحد ولا اتهمني به. (4) أبو دلامة
58
كان أول ما حفظ من شعره وأسنيت الجوائز له به، قصيدة مدح بها أبا جعفر المنصور وذكر قتله أبا مسلم يقول فيها:
أبا مسلم
59
خوفتني القتل فانتحى
عليك بما خوفتني الأسد الورد
أبا مسلم ما غير الله نعمة
على عبده حتى يغيرها العبد
أنشدها المنصور في محفل من الناس فقال له: احتكم، فطلب عشرة آلاف درهم، فأمر له بها، فلما خلا قال له: إيه، أما والله لو تعديتها لقتلتك.
أمر أبو جعفر أصحابه بلبس السواد وقلانس طوال تدعم بعيدان من داخلها، وأن يعلقوا السيوف في المناطق ويكتبوا على ظهورهم:
فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم
فقال أبو دلامة:
وكنا نرجي من إمام زيادة
فجاد
60
بطول زاده في القلانس
تراها على هام الرجال كأنها
دنان يهود جللت بالبرانس
ودخل إلى المنصور مرة فأنشده:
إن الخليط أجد البين فانتجعوا
وزودوك خبالا، بئسما صنعوا
والله يعلم أن كادت لبينهم
يوم الفراق حصاة القلب تنصدع
عجبت من صبيتي يوما وأمهم
أم الدلامة لما هاجها الجزع
لا بارك الله فيها من منبهة
هبت تلوم عيالي بعد ما هجعوا
ونحن مشتبهو الألوان أوجهنا
سود قباح وفي أسمائنا شنع
إذا تشكت إلي الجوع قلت لها
ما هاج جوعك إلا الري والشبع
لا والذي يا أمير المؤمنين قضى
لك الخلافة في أسبابها الرفع
ما زلت أخلصها كسبي فتأكله
دوني ودون عيالي ثم تضطجع
شوهاء مشنأة في بطنها بجر
61
وفي المفاصل من أوصالها لها فدع
ذكرتها بكتاب الله حرمتنا
ولم تكن بكتاب الله تنتفع
فاخرنطمت
62
ثم قالت وهي مغضبة
أأنت تتلو كتاب الله يا لكع
اخرج لتبغ لنا مالا ومزرعة
كما لجيراننا مال ومزدرع
واخدع خليفتنا عنا بمسألة
إن الخليفة للسؤال ينخدع
فضحك أبو جعفر وكتب له بضيعة.
كان واقفا بين يدي السفاح فقال له: سلني حاجتك، قال: كلب أتصيد به، قال: أعطوه إياه، قال: ودابة أتصيد عليها، قال: أعطوه دابة، قال: وغلام يصيد بالكلب ويقوده، قال: أعطوه غلاما، قال: وجارية تصلح لنا الصيد وتطعمنا منه، قال: أعطوه جارية، قال: هؤلاء يا أمير المؤمنين عبيدك، فلا بد لهم من دار يسكنونها، قال: أعطوهم دارا تجمعهم، قال: فإن لم تكن لهم ضيعة فمن أين يعيشون؟ قال: قد أعطيتك مائة جريب عامرة، ومائة جريب غامرة، قال: وما الغامرة؟ قال ما لا نبات فيه، فقال: قد أقطعتك يا أمير المؤمنين خمسمائة ألف جريب غامرة من فيافي بني أسد، فضحك وقال: اجعلوها عامرة، قال: فأذن لي أن أقبل يدك، قال: أما هذه فدعها، قال: والله ما منعت عيالي شيئا أقل ضررا عليهم منها، قال الجاحظ: فانظر إلى حذقه بالمسألة ولطفه فيها، ابتدأ بكلب فسهل القصة به وجعل يأتي بما يليه على ترتيب وفكاهة حتى نال ما لو سأله بديهة لما وصل إليه.
قال علي بن سلام: كنت أسقي أبا دلامة والسندي إذ خرجت بنت لأبي دلامة، فقال فيها أبو دلامة:
فما ولدتك مريم أم عيسى
ولا رباك لقمان الحكيم
أجز يا أبا عطاء، فقال:
ولكن قد تضمك أم سوء
إلى لباتها وأب لئيم
فضحك لذلك، ثم غدا أبو دلامة إلى المنصور فألفاه في الرحبة يصلح فيها شيئا يريده، فأخبره بقصة ابنته وأنشده البيتين، ثم اندفع فأنشده بعدهما:
لو كان يقعد فوق الشمس من كرم
قوم لقيل اقعدوا يا آل عباس
ثم ارتقوا في شعاع الشمس كلكم
إلى السماء فأنتم أطهر الناس
وقدموا القائم المنصور رأسكم
فالعين والأنف والأذنان في الراس
فاستحسنها وقال: بأي شيء تحب أن أعينك على قبح ابنتك هذه؟ فأخرج خريطة كان قد خاطها من الليل، فقال: تملأ لي هذه دراهم، فملئت فوسعت أربعة آلاف درهم.
لما توفي أبو العباس السفاح دخل أبو دلامة على المنصور والناس عنده يعزونه، فأنشأ أبو دلامة يقول:
أمسيت بالأنبار يابن محمد
لم تستطع عن عقرها تحويلا
ويلي عليك وويل أهلي كلهم
ويلا وعولا في الحياة طويلا
فلتبكين لك النساء بعبرة
وليبكين لك الرجال عويلا
مات الندى إذ مت يابن محمد
فجعلته لك في التراب عديلا
إني سألت الناس بعدك كلهم
فوجدت أسمح من سألت بخيلا
ألشقوتي أخرت بعدك للتي
تدع العزيز من الرجال ذليلا
فلأحلفن يمين حق برة
بالله ما أعطيت بعدك سولا
فأبكى الناس قوله، فغضب المنصور غضبا شديدا وقال: لئن سمعتك تنشد هذه القصيدة لأقطعن لسانك، فقال: يا أمير المؤمنين، إن أبا العباس أمير المؤمنين كان لي مكرما، وهو الذي جاء بي من البدو كما جاء الله بإخوة يوسف إليه، فقل كما قال يوسف لإخوته:
لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين
فسري عن المنصور وقال: قد أقلناك يا أبا دلامة، فسل حاجتك، فقال: يا أمير المؤمنين، قد كان أبو العباس أمر لي بعشرة آلاف درهم وخمسين ثوبا وهو مريض، ولم أقبضها. فقال المنصور: ومن يعرف هذا؟ فقال: هؤلاء، وأشار إلى جماعة ممن حضر، فوثب سليمان بن خالد وأبو الجهم فقالا: صدق أبو دلامة نحن نعلم ذلك، فقال المنصور لأبي الخازن وهو مغيظ: يا سليمان، ادفعها إليه وسيره إلى هذا الطاغية «يعني عبد الله بن علي» وقد كان خرج بناحية الشام وأظهر الخلاف، فوثب أبو دلامة فقال: يا أمير المؤمنين إني أعيذك بالله أن أخرج معهم، فوالله إني لمشئوم، فقال المنصور: امض، فإن يمني يغلب شؤمك فاخرج، فقال: والله يا أمير المؤمنين ما أحب لك أن تجرب ذلك مني على مثل هذا العسكر، فإني لا أدري أيهما يغلب، أيمنك أم شؤمي، إلا أني بنفسي أوثق وأعرف وأطول تجربة، قال: دعني من هذا فما لك من الخروج بد، فقال: إني أصدقك الآن، شهدت والله تسعة عشر عسكرا كلها هزمت وكنت سببها، فإن شئت الآن على بصيرة أن يكون عسكرك العشرين فافعل، فاستغرب أبو جعفر ضحكا وأمره أن يتخلف مع عيسى بن موسى بالكوفة.
قال أبو دلامة: أتى بي المنصور أو المهدي وأن سكران، فحلف ليخرجني في بعث حرب، فأخرجني مع روح بن حاتم الهلبي لقتال الشراة، فلما التقى الجمعان قلت لروح: أما والله لو أن تحتي فرسك ومعي سلاحك لأثرت في عدوك اليوم أثرا ترتضيه، فضحك وقال: والله العظيم لأدفعن ذلك إليك ولآخذنك بالوفاء بشرطك، ونزل عن فرسه ونزع سلاحه ودفعهما إلي ودعا بغيرهما فاستبدل بهما، فلما حصل ذلك في يدي وزالت عني حلاوة الطمع قلت له: أيها الأمير هذا مقام العائذ بك، وقد قلت أبياتا فاسمعها، قال: هات، فأنشدته:
إني استجرتك أن أقدم في الوغى
لتطاعن وتنازل وحراب
63
فهب السيوف رأيتها مشهورة
فتركتها ومضيت في الهراب
ماذا تقول لما يجئ وما يرى
من واردات الموت في النشاب
فقال: دع عنك هذا وستعلم، وبرز رجل من الخوارج يدعو للمبارزة: فقال: اخرج إليه يا أبا دلامة، فقلت: أنشدك الله أيها الأمير في دمي، قال: والله لتخرجن، فقلت: أيها الأمير فإنه أول يوم من أيام الآخرة وآخر يوم من أيام الدنيا وأنا والله جائع ما شبعت مني جارحة من الجوع، فمر لي بشيء آكله ثم أخرج، فأمر لي برغيفين ودجاجة، فأخذت ذلك وبرزت عن الصف، فلما رآني الشاري أقبل نحوي وعليه فرو قد أصابه المطر فابتل وأصابته الشمس فانفعل
64
وعيناه تقدان، فأسرع لي، فقلت له: على رسلك يا هذا، كما أنت، فوقف، فقلت: أتقتل من لا يقاتلك؟ قال: لا، قلت: أتقتل رجلا على دينك؟ قال: لا، قلت: أفتستحل ذلك قبل أن تدعو من تقاتله إلى دينك؟ قال: لا، فاذهب عني إلى لعنة الله، قلت: لا أفعل أو تسمع مني، قال: قل، قلت: هل كانت بيننا قط عدواة أو ترة أو تعرفني بحال تحفظك علي أو تعلم بيني وبين أهلك وترا، قال: لا والله، قلت: ولا أنا والله أضمر لك إلا جميل الرأي، وإني لأهواك وأنتحل مذهبك، وأدين دينك، وأريد السوء لمن أراده لك، قال: يا هذا جزاك الله خيرا فانصرف، قلت: إن معي زادا أحب أن آكله معك وأحب مواكلتك لتتأكد المودة بيننا ويرى أهل العسكر هوانهم علينا، قال: فافعل، فتقدمت إليه حتى اختلفت أعناق دوابنا، وجمعنا أرجلنا على معارفها والناس قد غلبوا ضحكا، فلما استوفينا ودعني، ثم قلت له: إن هذا الجاهل إن أقمت على طلب المبارزة ندبني إليك فتتعبني وتتعب نفسك، فإن رأيت ألا تبرز اليوم فافعل، قال: قد فعلت، ثم انصرف وانصرفت فقلت لروح: أما أنا فقد كفيتك قرني، فقل لغيري أن يكفيك قرنه كما كفيتك، فأمسك، وخرج آخر يدعو إلى البراز، فقال لي: اخرج إليه، فقلت:
إني أعوذ بروح أن يقدمني
إلى البراز فتخزى بي بنو أسد
إن البراز إلى الأقران أعلمه
مما يفرق بين الروح والجسد
قد حالفتك المنايا إن صمدت لها
وأصبحت لجميع الخلق بالرصد
إن المهلب حب الموت أورثكم
وما ورثت اختيار الموت عن أحد
لو أن لي مهجة أخرى لجدت بها
لكنها خلقت فردا فلم أجد
فضحك وأعفاني.
قال أبو أيوب المورياني لأبي جعفر وكان يشنأ أبا دلامة: إن أبا دلامة معتكف على الخمر، فما يحضر صلاة ولا مسجدا وقد أفسد فتيان العسكر، فلو أمرته بالصلاة معك لأجرت فيه وفي غيره من فتيان عسكرك بقطعه عنهم، فلما دخل عليه أبو دلامة قال له: ما هذا المجون الذي يبلغني عنك؟ فقال: يا أمير المؤمنين ما أنا والمجون وقد شارفت باب قبري! قال: دعني من استكانتك وتضرعك، وإياك أن تفوتك الظهر والعصر في مسجدي، فلئن فاتتاك لأحسنن أدبك ولأطيلن حبسك، فوقع في شر ولزم المسجد أياما، ثم كتب قصة ودفعها إلى المهدي فأوصلها إلى أبيه وكان فيها:
ألم تعلما أن الخيلفة لزني
65
بمسجده والقصر، مالي وللقصر
أصلي به الأولى جميعا وعصرها
فويلي من الأولى وويلي من العصر
أصليهما بالكره في غير مسجدي
فمالي في الأولى ولا العصر من أجر
لقد كان في قومي مساجد جمة
ولم ينشرح يوما لغشيانها صدري
يكلفني من بعد ما شبت خطة
يحط بها عني الثقيل من الوزر
وما ضره والله يغفر ذنبه
لو ان ذنوب العالمين على ظهري
فقال: صدق، ما يضرني ذلك، والله لا يصلي هذا أبدا، فدعوه يعمل ما يشاء.
وقال الهيثم في خبره: قد أعفيناك من هذا الحال، ولكن على ألا تدع القيام معنا في ليالي شهر رمضان فقد أظل، فقال: أفعل، قال: فإنك إن تأخرت لشرب الخمر علمت ذلك والله لئن فعلت لأحدنك، فقال أبو دلامة: البلية في شهر أخف منها في طول الدهر، سمعا وطاعة، فلما حضر شهر رمضان لزم المسجد، وكان المهدي يبعث إليه في كل ليلة حرسيا يجيء به، فشق ذلك عليه وفزع إلى الخيزران وإلى أبي عبيد الله وكل من يلوذ بالمهدي ليشفعوا له في الإعفاء من القيام، فلم يجبهم، فقال له أبو عبيد الله: الدال على الخير كفاعله، فكيف شكرك؟ قال: أتم شكر، قال: عليك بريطة فإنه لا يخالفها، قال: صدقت، ثم رفع إليها رقعة يقول فيها:
أبلغا ريطة أني
كنت عبدا لأبيها
فمضى يرحمه الل
ه وأوصى بي إليها
وأراها نسيتني
مثل نسيان أخيها
جاء شهر الصوم يمشي
مشية ما أشتهيها
قائدا لي ليلة القد
ر كأني أبتغيها
تنطح القبلة شهرا
جبهتي لا تأتليها
ولقد عشت زمانا
في فيافي وجيها
في ليال من شتاء
كنت شيخا أصطليها
قاعدا أوقد نارا
لضباب أشتويها
وصبوح وغبوق
في علاب أحتسيها
ما أبالي ليلة القد
ر ولا تسمعنيها
فاطلبي لي فرجا من
ها وأجري لك فيها
فلما قرأت الرقعة ضحكت وأرسلت إليه: اصطبر حتى مضي ليلة القدر، فكتب إليها: إني لم أسألك أن تكلميه في إعفائي عاما قابلا ، وإذا مضت ليلة القدر فقد فني الشهر، وكتب تحتها أبياتا:
خافي إلهك في نفس قد احتضرت
قامت قيامتها بين المصلينا
ما ليلة القدر من همي فأطلبها
إني أخاف المنايا قبل عشرينا
يا ليلة القدر قد كسرت أرجلنا
يا ليلة القدر حقا ما تمنينا
لا بارك الله في خير أؤمله
في ليلة بعد ما قمنا ثلاثينا
فلما قرأت الرقعة ضحكت ودخلت إلى المهدي فشفعت له إليه وأنشدته الأبيات، فضحك حتى استلقى ودعا به وريطة معه في الحجلة، فدخل، فأخرج رأسه إليه وقال: قد شفعنا ريطة فيك وأمرنا لك بسبعة آلاف درهم، فقال: أما شفاعة سيدتي في حتى أعفيتني فأعفاها الله من من النار، وأما السبعة الآلاف فما أعجبني ما فعلته إما أن تتمها بثلاثة آلاف فتصير عشرة أو تنقصني منها ألفين فتصير خمسة آلاف، فإني لا أحسن حساب السبعة، فقال: قد جعلتها خمسة، فقال: أعيذك بالله أن تختار أدنى الحالين وأنت أنت، فعبث به المهدي ساعة، ثم تكلمت فيه ريطة، فأتمها له عشرة آلاف درهم.
شرب أبو دلامة في بعض الحانات فسكر وانصرف وهو يميل، فلقيه العسس، فأخذوه وقالوا له: من أنت، وما دينك؟ فقال:
ديني على دين بني العباس
ما ختم الطين على القرطاس
إني اصطحبت أربعا بالكاس
فقد أدار شربها براسي
فهل بما قلت لكم من باس
فأخذوه ومضوا وخرقوا ثيابه وساجه،
66
وأتى به أبو جعفر، وكان يؤتى بكل ما أخذه العسس، فحبسه مع الدجاج في بيت، فلما أفاق جعل ينادي غلامه مرة وجاريته مرة، فلم يجبه أحد، وبينما هو في ذلك إذ سمع صوت الدجاج وزقاء الديوك، فلما أكثر قال له السجان: ما شأنك؟ قال: ويلك من أنت؟ وأين أنا؟ قال: في الحبس وأنا فلان السجان، قال: من حبسني؟ قال: أمير المؤمنين، قال: ومن خرق طيلساني؟ قال: الحرس، فطلب منه أن يأتيه بدواة وقرطاس، ففعل، فكتب إلى أبي جعفر:
أمير المؤمنين فدتك نفسي
علام حبستني وخرقت ساجي
أمن صفراء صافية المزاج
كأن شعاعها لهب السراج
وقد طبخت بنار الله حتى
لقد صارت من النطف النضاج
تهش لها القلوب وتشتهيها
إذا برزت ترقرق في الزجاج
أقاد إلى السجون بغير جرم
كأني بعض عمال الخراج
ولو معهم حبست لكان سهلا
ولكني حبست مع الدجاج
فدعا به وقال: أين حبست يا أبا دلامة؟ قال: مع الدجاج، قال: فما كنت تصنع؟ قال: أقوق معهن حتى أصبحت، فضحك وخلى سبيله وأمر له بجائزة، فلما خرج قال له الربيع: إنه شرب الخمر يا أمير المؤمنين، أما سمعت قوله: وقد طبخت بنار الله، يعني الشمس؟ فأمر برده، ثم قال: يا خبيث، شربت الخمر؟ قال: لا، قال: أفلم تقل طبخت بنار الله تعني الشمس؟ قال: لا والله ما عنيت إلا نار الله الموقدة التي تطلع على فؤاد الربيع، فضحك وقال: خذها يا ربيع ولا تعاود.
صام الناس في سنة شديدة الحر على عهد المهدي، وكان أبو دلامة يتنجز جائزة أمر له المهدي بها، فكتب إليه أبو دلامة رقعة يشكو فيها أذى الحر والصوم، وهي:
أدعوك بالرحم التي قد جمعت
في القرب بين قريبنا والأبعد
إلا سمعت وأنت أكرم من مشى
من منشد يرجو جزاء المنشد
جاء الصيام فصمته متعبدا
أرجو رجاء الصائم المتعبد
ولقيت من أمر الصيام وحره
أمرين قيسا بالعذاب المؤصد
وسجدت حتى جبهتي مشجوجة
مما يناطحني الحصا في المسجد
فامنن بتسريحي بمطلك بالذي
أسلفتنيه من البلاء المرصد
فلما قرأ المهدي رقعته غضب وقال: أي قرابة بيني وبينك؟ قال: رحم آدم وحواء، أنسيتهما يا أمير المؤمنين! فضحك وقال: لا والله ما نسيتهما، وأمر بتعجيل ما أجازه به وزاد فيه ، وأنشده أيضا في ذم الصوم:
هل في البلاد لرزق الله مفترش
أم لا ففي جلده من خشنة برش
67
أضحى الصيام منيخا وسط عرصتنا
ليت الصيام بأرض دونها جرش
إن صمت أوجعني بطني وأقلقني
بين الجوانح مس الجوع والعطش
وإن خرجت بليل نحو مسجدهم
اضرني بصر قد خانه العمش
دخل أبو دلامة على سعيد بن دعلج مولى بني تميم فقال:
إذا جئت الأمير فقال سلام
عليك ورحمة الله الرحيم
وأما بعد ذاك فلي غريم
من الأعراب قبح من غريم
غريم لازم بفناء بيتي
لزوم الكلب أصحاب الرقيم
له مائة علي ونصف أخرى
ونصف النصف في صك قديم
دراهم ما انتفعت بها ولكن
وصلت بها شيوخ بني تميم
أتوني بالعشيرة يسألوني
ولم أك في العشيرة باللئيم
فأمر له بمائتين وخمسة وسبعين درهما وقال: ما أساء من أنصف، وقد كافأتك عن قومك وزدتك مائة.
دخل أبو دلامة على المهدي فأنشده قصيدته في بغلته المشهورة:
أتاني، بغلة يستام مني،
عريق في الخسارة والضلال
فقال تبيعها قلت ارتبطها
بحكمك إن بيعي غير غال
فأقبل ضاحكا نحوي سرورا
وقال أراك سمحا ذا جمال
هلم إلي يخلو بي خداعا
وما يدري الشقي لمن يخالي
فقلت بأربعين، فقال أحسن
إلي فإن مثلك ذو سجال
فأترك خمسة منها لعلمي
بما فيه يصير من الخبال
فقال المهدي: لقد أفلت من بلاء عظيم، قال: والله يا أمير المؤمنين لقد مكثت شهرا أتوقع صاحبها أن يردها، ثم أنشده:
فأبدلني بها يا رب طرفا
يكون جمال مركبه جمالي
فقال لصاحب دوابه: خيره من الإصطبل بين مركبين، قال: يا أمير المؤمنين إن كان الاختيار لي وقعت في شر من البغلة، ولكن مره أن يختار لي، فاختار له.
خاصم رجل أبا دلامة في داره فارتفعا إلى عافية القاضي، فأنشأ أبو دلامة يقول:
لقد خاصمتني دهاة الرجال
وخاصمتها سنة وافيه
فما أدحض الله لي حجة
ولا خيب الله لي قافيه
ومن خفت من جوره في القضاء
فلست أخافك يا عافيه
فقال له عافية: والله لأشكونك إلى أمير المؤمنين، ولأعلمنه أنك هجوتني، قال: إذن يعزلك، قال: ولمه؟ قال: لأنك لا تعرف المديح من الهجاء، فبلغ ذلك المنصور فضحك وأمر لأبي دلامة بجائزة.
دخل أبو دلامة على المهدي وعنده إسماعيل بن محمد وعيسى بن موسى والعباس ابن محمد ومحمد بن محمد بن إبراهيم الإمام وجماعة من بني هاشم فقال له: أنا أعطي الله عهدا لئن لم تهج واحدا ممن في البيت لأقطعن لسانك، فنظر إليه القوم، فكلما نظر إلى واحد منهم غمزه بأن عليه رضاه، قال أبو دلامة: فعلمت أني قد وقعت وأنها عزمة من عزماته لا بد منها؛ فلم أر أحدا أحق بالجهاء مني، ولا أدعى إلى السلامة من هجاء نفسي؛ فقلت:
ألا أبلغ لديك أبا دلامه
فليس من الكرام ولا كرامه
إذا لبس العمامة كان قردا
وخنزيرا إذا نزع العمامه
جمعت دمامة وجمعت لؤما
كذاك اللؤم تتبعه الدمامه
فإن تك قد أصبت نعيم دنيا
فلا تفرح فقد دنت القيامه
فضحك القوم ولم يبق منهم أحد إلا أجازه.
خرج المهدي وعلي بن سليمان إلى الصيد، فسنح لهما قطيع من الظباء، فأرسلت الكلاب وأجريت الخيل، فرمى المهدي ظبيا بسهم فصرعه، ورمى علي بن سليمان، فأصاب بعض الكلاب فقتله، فقال أبو دلامة:
قد رمى المهدي ظبيا
شك بالسهم فؤاده
وعلي بن سليما
ن رمى كلبا فصاده
فهنيئا لهما كل
امرئ يأكل زاده
فضحك المهدي حتى كاد يسقط عن سرجه وقال: صدق والله أبو دلامة؛ وأمر له بجائزة سنية، فلقب علي بن سليمان صائد الكلب، وعلق به.
أنشد أبو دلامة المنصور يوما:
هاتيك والدتي عجوز همة
68
مثل البلية درعها في المشجب
69
مهزولة اللحيين من يرها يقل
أبصرت غولا أو خيال القطرب
70
ما إن تركت لها ولا لابن لها
مالا يؤمل غير بكر أجرب
ودجائجا خمسا يرحن إليهم
لما يبضن وغير عنز مغرب
71
كتبوا إلي صحيفة مطبوعة
جعلوا عليها طينة كالعقرب
فعلمت أن الشر عند فكاكها
ففككتها عن مثل ريح الجورب
وإذا شبيه بالأفاعي رقشت
يوعدنني بتلمظ وتثؤب
يشكون أن الجوع أهلك بعضهم
لزبا فهل لك في عيال لزب
لا يسألونك غير طل سحابة
تغشاهم من سيلك المتحلب
يا باذل الخيرات يابن بذولها
وابن الكرام وكل قرم منجب
أنتم بنو العباس يعلم أنكم
قدما فوارس كل يوم أشهب
أحلاس
72
خيل الله وهي مغيرة
يخرجن من خلل الغبار الأكهب
فأمر له بدار يسكنها وكسوة ودراهم، وكانت الدار قريبة من قصره، فأمر أن تزاد في قصره بعد ذلك لحاجة دعته إليها، فدخل عليه أبو دلامة فأنشده قوله:
يابن عم النبي دعوة شيخ
قد دنا هدم داره ودماره
فهو كالماخض التي اعتادها الطل
ق فقرت وما يقر قراره
إن تحز عسرة بكفيك يوما
فبكفيك عسره ويساره
أو تدعه فللبوار وأنى
ولماذا وأنت حي بواره
هل يخاف الهلاك شاعر قوم
قدمت في مديحهم أشعاره
لكم الأرض كلها فأعيروا
شيخكم ما احتوى عليه جداره
فكأن قد مضى وخلف فيكم
ما أعرتم وأقفرت منه داره
فاستعبر المنصور وأمر بتعويضه دارا خيرا منها ووصله.
دخل على المهدي يوما وعنده محرز ومقاتل ابنا ذؤال يعاتبانه على تقريبه أبا دلامة ويعيبانه عنده فقال:
ألا أيها المهدي هل أنت مخبري
وإن أنت لم تفعل فهل أنت سائلي
ألم ترحم اللحيين من لحيتيهما
وكلتاهما في طولها غير طائل
وإن أنت تفعل فهل أنت مكرمي
بحلقهما من محرز ومقاتل
فإن يأذن المهدي لي فيهما أقل
مقالا كوقع السيف بين المقاتل
وإلا تدعني والهموم تنوبني
وقلبي من العلجين جم البلابل
فقال: أو آخذ لك منهما عشرة آلاف درهم يفديان بهما أعراضهما منك، قال: ذلك إلى أمير المؤمنين، فأخذها له منهما وأمسك عنهما.
دخل على أم عبيدة حاضنة موسى وهارون، فدفع إليها رقعة قد كتبها إلى الخيزران فيها:
أبلغي سيدتي بالل
ه يا أم عبيده
أنها أرشدها الل
ه وإن كانت رشيده
وعدتني قبل أن تخ
رج للحج وليده
فتأنيت وأرسل
ت بعشرين قصيده
كلما أخلقن أخلف
ت لها أخرى جديده
ليس في بيتي لتمهي
د فراشي من قعيده
غير عجفاء عجوز
ساقها مثل القديده
وجهها أقبح من حو
ت طري في عصيده
ما حياة مع أنثى
مثل عرسي بسعيده
فلما قرئت عليها الأبيات ضحكت واستعادتها منه لقوله: «حوت طري في عصيدة» وجعلت تضحك ووهبت له جارية.
دخل يوما على المهدي فحادثه ساعة وهو يضحك وقال له: هل بقي أحد من أهلي لم يصلك؟ قال: إن أمنتني أخبرتك وإن أعفيتني فهو أحب إلي، قال: بل تخبرني وأنت آمن، قال: كلهم قد وصلني إلا حاتم بني العباس، قال: ومن هو؟ قال: عمك العباس بن محمد، فالتفت إلى خادم على رأسه وقال: جأ عنقه، فلما دنا منه صاح به أبو دلامة: تنح يا عبد السوء لا تحنث مولاك وتنكثه عهده وأمانه، فضحك المهدي وأمر الخادم فتنحى عنه، ثم قال لأبي دلامة: ويلك! والله عمي أخبل الناس، فقال أبو دلامة: بل هو أسخى الناس، فقال له المهدي: والله لو مت ما أعطاك شيئا، قال: فإن أنا أتيته فأجازني؟ قال: لك بكل درهم تأخذه منه ثلاثة دراهم، فانصرف أبو دلامة فحبر للعباس قصيدة، ثم غدا بها عليه وأنشده:
قف بالديار وأي الدهر لم تقف
على المنازل بين الظهر والنجف
وما وقوفك في أطلال منزلة
لولا الذي استدرجت من قلبك الكلف
إن كنت أصبحت مشغوفا بساكنها
فلا وربك لا تشفيك من شغف
دع ذا وقل في الذي قد فاز من مضر
بالمكرمات وعز غير مقترف
هذي رسالة شيخ من بني أسد
يهدي السلام إلى العباس في الصحف
تخطها من جواري المصر كاتبة
قد طالما ضربت في اللام والألف
وطالما اختلفت صيفا وشاتية
إلى معلمها باللوح والكتف
73
حتى إذا نهد الثديان وامتلآ
منها وخيفت على الإسراف والقرف
صينت ثلاث سنين ما ترى أحدا
كما يصون تجار درة الصدف
فبينما الشيخ يهوي نحو مجلسه
مبادرا لصلاة الصبح بالسدف
74
حانت له لمحة منها فأبصرها
مطلة بين سجفيها من الغرف
فخر والله ما يدري غداتئذ
أخر منكشفا أم غير منكشف
وجاءه الناس أفواجا بمائهم
ليغسلوا الرجل المغشي بالنطف
ووسوسوا بقران في مسامعه
فخافه الجن والإنسان لم يخف
شيئا ولكنه من حب جارية
أمسى وأصبح موقوفا على التلف
قالوا لك الويل ما أبصرت قلت لهم
تطلعت من أعالي القصر ذي الشرف
فقلت أيكم والله يأجره
يعين قوته فيها على ضعف
فقام شيخ بهي من رجالهم
قد طالما خدع الأقوام بالحلف
فابتاعها لي بألفي درهم فأتى
بها إلي فألقاها على كتفي
فبين ذاك كذا إذ جاء صاحبها
يبغي الدراهم بالميزان ذي الكفف
وذكر حق على زند وصاحبه
والحق في طرف والطين في طرف
وبين ذاك شهود لا يضرهم
أكنت معترفا أم غير معترف
فإن يكن منك شيء فهو حقهم
أو لا فإني مدفعوع إلى التلف
فضحك العباس وقال: ويحك! أصادق أنت؟ قال: نعم والله، قال: يا غلام ادفع إليه ألفي درهم ثمنها، فأخذها ثم دخل على المهدي فأخبره القصة وما احتال له، فأمر له المهدي بستة آلاف درهم، وقال له المهدي: كيف لا يضرهم ذلك؟ قال: لأني معدم لا شيء عندي.
دخل على إسحاق الأزرق يعوده، وكان إسحاق قد مرض مرضا شديدا ثم تعافى منه وأفاق، فكان من ذلك ضعيفا وعند إسحاق طبيب يصف له أدوية تقوي بدنه، فقال أبو دلامة للطبيب: أتصف هذه الأدوية لرجل أضعفه المرض؟ ما أردت والله إلا قتله، ثم التفت إلى إسحاق فقال: اسمع أيها الأمير مني، قال: هات ما عندك يا أبا دلامة، فأنشأ يقول:
نح عنك الطبيب واسمع لنعتي
إنني ناصح من النصاح
ذو تجاريب قد تقلبت في الصح
ة دهرا وفي السقام المتاح
غاد هذا الكباب كل صباح
من متون الفتية السحاح
فإذا ما عطشت فاشرب ثلاثا
من عتيق في الشم كالتفاح
ثم عند المساء فاعكف على ذا
وعلى ذا بأعظم الأقداح
فتقوي ذا الضعف منك وتلقى
عن ليال أصح هذي الصحاح
فضحك إسحاق وعواده وأمر لأبي دلامة بخمسمائة درهم، وكان الطبيب نصرانيا فقال: أعوذ بالله من شرك يا ركل «يريد يا رجل»، وقال الطبيب: اقبل مني أصلحك الله ولا تسألني عن شيء قدامه، فقال أبو دلامة: أما وقد أخذت أجرة صفقتي وقضيت الحق في نصح صديقي فانعت له الآن أنت ما أحببت.
دخل على المهدي وبين يديه سلمة الوصيف واقفا، فقال: إني أهديت إليك يا أمير المؤمنين مهرا ليس لأحد مثله، فإن رأيت أن تشرفني بقبوله، فأمر بإدخاله إليه، فخرج وأدخل إليه دابته التي كانت تحته، فإذا برذون محطم أعجف هرم، فقال له المهدي: أي شيء هذا؟ ألم تزعم أنه مهر؟ قال له : أوليس هذا سلمة الوصيف بين يديك قائما، تسميه الوصيف وله ثمانون سنة، وهو عندك وصيف؟ فإذا كان سلمة وصيفا فهذا مهر، فجعل سلمة يشتمه والمهدي يضحك، ثم قال المهدي لسلمة: ويلك! إن لهذه منه أخوات، وإن أتى بها في محفل فضحك، فقال أبو دلامة: والله لأفضحنه يا أمير المؤمنين، فليس من مواليك أحد إلا وقد وصلني غيره، فإني ما شربت له الماء قط، قال: فقد حكمت عليه أن يشتري نفسه منك بألف درهم حتى يتخلص من يدك، قال: قد فعلت على ألا يعاود، فقال له: ما ترى؟ قال: أفعل، فلولا أني ما أخذت منه شيئا قط ما فعلت معه مثل هذه، فمضى سلمة فحملها إليه. (5) أبان بن عبد الحميد اللاحقي
75
ذكرنا في المجلد الأول أن أبان كان صديقا للبرامكة متصلا بهم أشد اتصال، يستشيرونه ويعتمدون عليه في تدبير أمورهم، جدها وهزلها، صعبها وهينها. وكانوا قد اتخذوه أديبهم الرسمي، وبالغوا في ذلك حتى جعلوا إليه امتحان الشعراء وتقدير ما يستحقون من الجوائز والصلات. فغضب الشعراء لذلك؛ وكان أشدهم غضبا أبو نواس الذي كان يكره البرامكة كرها شديدا، وكانت بينه وبين أبان مهاجاة ذكرها صاحب الأغاني.
وكان أبان صديقا للمعذل بن غيلان، وكانا مع صداقتهما يتعابثان بالهجاء، فيهجوه المعذل بالكفر وينسبه إلى الشؤم. ويهجوه أبان وينسبه إلى الفساء الذي تهجى به عبد القيس وبالقصر، وكان المعذل قصيرا. فسعى في الإصلاح بينهما أبو عيينة المهلبي، فقال له أخوه عبد الله وهو أسن منه: يا أخي إن في هذين شرا كثيرا ولا بد من أن يخرجاه، فدعهما ليكون شرهما بينهما وإلا فرقاه على الناس.
ومن قوله يهجو أبا النضير:
إذا قامت بواكيك
وقد هتكن أستارك
أيثنين على قبر
ك أم يلعن أحجارك
وما تترك في الدنيا
إذا زرت غدا نارك
ترى في سقر المثوى
وإبليس غدا جارك
بلى تترك باكيك
ودنياك وأوتارك
وخمسا من بنات اللي
ل قد ألبسن أطمارك
تعالى الله ما أقب
ح إذ وليت أدبارك
خرج أبان من البصرة طالبا للاتصال بالبرامكة، وكان الفضل بن يحيى غائبا فقصده، فأقام ببابه مدة مديدة لا يصل إليه، فتوسل إلى من وصل له شعرا إليه؛ وقال له:
يا عزيز الندى ويا جوهر الجو
هر من آل هاشم بالبطاح
إن ظني، وليس يحلف ظني
بك في حاجتي سبيل النجاح
إن من دونها لمصمت باب
أنت من دون قفله مفتاحي
تاقت النفس يا خليل السماح
نحو بحر الندى مجاري الرياح
ثم فكرت كيف لي واستخرت
لله عند الإمساء والإصباح
وامتدحت الأمير أصلحه
لله بشعر مشهر الأوضاح
فقال: هات مديحك؛ فأعطاه شعرا في هذا الوزن وقافيته، ترى فيه أن الرجل معجب بنفسه، مدل بعلمه وأدبه، تياه لا حد لتيهه وغروره:
أنا من بغية الأمير وكنز
من كنوز الأمير ذو أرباح
كاتب حاسب خطيب أديب
ناصح زائد على النصاح
شاعر مفلق أخف من الري
شة مما يكون عند الجناح
وهي طويلة ذكرناها في المجلد الأول.
وكان أبان شديد الحرص على المال يضحي في سبيله بأشياء كثيرة، منها العقيدة والرأي. وكان يحسد مروان بن أبي حفصة لمكانه من الرشيد ولظفره بالصلات الضخمة والجوائز السنية؛ فقد انتهى الأمر ببني العباس مع مروان بن أبي حفصة إلى أن كانوا يمنحونه بالبيت ألف درهم، فغاظ ذلك أبان وأراد أن يصيب من أموال الرشيد ما كان يصيب مروان، فعاتب أبان البرامكة على تركهم إيصاله للرشيد وإيصال مديحه إليه؛ فقالوا له: ما تريد من ذلك؟ فقال: أريد أن أحظى منه بمثل ما يحظى به مروان بن أبي حفصة، فقالوا: إن لذلك مذهبا في هجاء آل أبي طالب وذمهم ، به يحظى وعليه يعطى، فاسلكه حتى تفعل؛ قال: لا أستحل ذلك؛ قالوا: فما تصنع، لا يجيء طلب الدنيا إلا بما لا يحل! فقال أبان:
نشدت بحق الله من كان مسلما
أعم بما قد قلته العجم والعرب
أعم رسول الله أقرب زلفة
لديه أم ابن العم في رتبة النسب
وأيهما أولى به وبعهده
ومن ذا له حق التراث بما وجب
فإن كان عباس أحق بتلكم
وكان علي بعد ذاك على سبب
فأبناء عباس هم يرثونه
كما العم لابن العم في الإرث قد حجب
وهي طويلة.
فقال الفضل: ما يرد على أمير المؤمنين اليوم شيء أعجب من أبياتك. فركب فأنشدها الرشيد، فأمر لأبان بعشرين ألف درهم. ثم اتصل مدحه للرشيد بعد ذلك وخص به.
وكان أبان هجاء قبيح اللسان، وكان مع هذا شريرا قاسيا يؤثر الشر ويجد فيه لذة. وقد روى له أبو الفرج قصة تمثل نصيبه من القسوة وحب الشر، كما أنها تعطينا صورة من شعره ومن الحياة في عصره. قالوا: كان يقيم بالقرب من أبان رجل ثقفي يقال له: محمد بن خالد، وكان عدوا لأبان، فتزوج محمد هذا ثقفية معروفة هي عمارة بنت عبد الوهاب، وكانت عمارة غنية موفورة الثروة، فاغتاظ أبان لهذا الزواج، وقال هذه القصيدة التي بلغت عمارة فأفسدت زواجها:
لما رأيت البز والشاره
والفرش قد ضاقت به الحاره
واللوز والسكر يرمي به
من فوق ذي الدار وذي الداره
وأحضروا الملهين لم يتركوا
طبلا ولا صاحب زماره
قلت: لماذا قيل: أعجوبة
محمد زوج عماره
ماذا رأت فيه وماذا رجت
وهي من النسوان مختاره
أسود كالسفود ينسى لدى التن
ور بل محراك قياره
76
يجري على أولاده خمسة
أرغفة كالريش طيارة
وأهله في الأرض من خوفه
إن أفرطوا في الأكل سياره
ويحك فري واعصبي ذا به
فهذه أختك فراره
إذا غفا بالليل فاستيقظي
ثم اطفري
77
إنك طفاره
فصعدت نائلة سلما
تخاف أن تصعده الفاره «سرور» غرتها فلا أفلحت
فإنها اللخناء غراره
لو نلت ما أبعدت من ريقها
إن لها نفثة سحاره
فلما بلغت هذه القصيدة عمارة هربت، فحرم من جهتها مالا عظيما. والثلاثة الأبيات الأخيرة التي أولها:
فصعدت نائلة سلما
زادها في القصيدة بعد أن هربت.
جلس أبان ليلة في قوم فثلب أبا عبيدة فقال: يقدح في الأنساب ولا نسب له. فبلغ ذلك أبا عبيدة فقال في مجلسه: لقد أغفل السلطان كل شيء حين أغفل أخذ الجزية من أبان اللاحقي، وهو وأهله يهود، وهذه منازلهم فيها أسفار التوراة وليس فيها مصحف، وأوضح الدلالة على يهوديتهم أن أكثرهم يدعي حفظ التوراة ولا يحفظ من القرآن ما يصلي به. فبلغ ذلك أبان فقال:
لا تنمن عن صديق حديثا
واستعذ من تسرر النمام
واخفض الصوت إن نطقت بليل
والتفت بالنهار قبل الكلام
قال عيسى بن إسماعيل: كنا في مجلس أبي زيد الأنصاري فذكروا أبان بن عبد الحميد، فقالوا: كان كافرا؛ فغضب أبو زيد وقال: كان جاري فما فقدت قراءته في ليلة قط. •••
وكان أبان يفوق الشعراء في شيء نحسب أنه هو الذي سبق إليه، فقد ابتكر في الأدب العربي فنا لم يتعاطه أحد من قبله، وهو فن الشعر التعليمي، طرق فيه فنونا مختلفة من العلم والحكمة والدين. وقد تحدث أبو الفرج أنه نظم للبرامكة كتاب «كليلة ودمنة» ليسهل عليهم حفظه، فأعطاه يحيى بن خالد عشرة آلاف دينار، وأعطاه الفضل بن يحيى خمسة آلاف واكتفى جعفر بأن يكون راويته. وروى أبو الفرج أبياتا أربعة من هذا النظم، وقد عثرنا على قطعة من كتاب مخطوط يوجد في دار الكتب المصرية تحت رقم (594) تاريخ، وهو كتاب «الأوراق» للصولي. وفي هذا الكتاب قطعة صالحة من نظم أبان لكليلة ودمنة، فرأينا أن نثبتها هنا، لأن المنظومة ضاعت ولم يبق منها إلا الأبيات الأربعة التي رواها أبو الفرج. وها هي ذي:
هذا كتاب كذب ومحنه
وهو الذي يدعي كليله دمنه
فيه دلالات وفيه رشد
وهو كتاب وضعته الهند
فوصفوا آداب كل عالم
حكاية عن ألسن البهائم
فالحكماء يعرفون فضله
والسخفاء يشتهون هزله
وهو على ذاك يسير الحفظ
لذ على اللسان عند اللفظ
يا نفس لا تشاركي الجهالا
في حب مذموم كأن قد زالا
يا نفس لا تشقى ولا تعنى
في طلب الدنيا ولا تمنى
ما لم ينله أحد إلا ندم
إذا تولى ذاك عنه وسدم
78
دنياك بالأحباب والإخوان
كثيرة الآلام والأحزان
وهي وإن نيل بها السرور
آفاتها وغمها كثير
يا نفس لا يحملك حب أهلك
ولا أدانيك على أن تهلكي
في جمع ما يرضيهم فإنه
يضرب من أمثال ذاك الدخنه
79
ينال قوم عرفها وتحترق
رأي به يرضى أخو الرأي الحمق
وجدت ذا النسك الذي قد فكرا
فزاده تفكيره توقرا
وقل لما رضي اهتمامه
وتم من سروره تمامه
وترك الدنيا لمن يشقى بها
ومن يقاسي الكد من أنصابها
فعندها نجا من الشرور
ونال أقصى غاية السرور
ثم سخت عن كل فان نفسه
فلقي السعد وغاب نحسه
وأبصر الثواب في القيامه
فأمن الحسرة والندامه
ومثل الدنيا كبرق الخلب
من يغترر منه بسقي يكذب
وهو قياسا مثل نوم النائم
تفرحه أضغاث حلم الحالم
حتى إذا استيقظ صار هما
ما كان في النوم به ألما
فكيف بالصبر على أيام
عما قليل هن لانصرام
وكيف والدنيا بلاء كلها
لا يأمن الآفات فيها أهلها
أشهد أن الله فرد واحد
أقر أو أنكر ذاك جاحد
ليس له كفوا ولا ندا أحد
لم يلد الله ولا له ولد
وإنني بما عملت مرتهن
ما كان منه من قبيح وحسن
من باب الأسد والثور
وإن من كان دني النفس
يرضى من الأرفع بالأخس
كمثل الكلب الشقي البائس
يفرح بالعظم العتيق اليابس
وإن أهل الفضل لا يرضيهم
شيء إذا ما كان لا يعنيهم
كالأسد الذي يصيد الأرنبا
ثم إلى العير
80
المجد هربا
فيرسل الأرنب من أظفاره
ويتبع العير على أدباره
والكلب من رقته ترضيه
بلقمة تقذفها في فيه
فمن يعش ما عاش غير خامل
له سرور دائم ونائل
فهو وإن كان قصير العمر
أطول عمرا من حليف فقر
ومن يعش في وحشة وضيق
وقلة المعروف في الصديق
فهو وإن عمر طول دهره
ليس بمغبوط بطول عمره
وقيل أيضا إنه قد ينبغي
للرجل الفاضل فيما يبتغي
ألا يرى إلا مع الأملاك
81
أو يعبد الله مع النساك
كالفيل لا يصلح إلا مركبا
لملك أو راعيا مسيبا
قال له السبع لقد سمعت
وكل ما تقول قد فهمت
لكنني لست أظن ما تظن
بالثور من غش بلى ظني حسن
82
قال له دمنة من ثم أتى
وهذه من حاله هي التي
رفعته حتى تعدى طوره
وكان هذا لك منه شكره
وتلك أخلاق اللئيم الفاجر
الكافر المغرور غير الشاكر
ما إن يزال ناصحا نفاعا
حتى يرى من حاله ارتفاعا
فعندها يسمو إلى ما فوقها
إلى التي لا تستطيع أوقها
83
وربما كان هلاك الشجر
في حسن الغصن وطيب الثمر
وذنب الطاووس فهو زينه
كذاك أحيانا وفيه حينه
وباذل النصح لمن لم يشكره
كطارح في سبخ ما يبذره
لا خير للعاقل في ذي المنظره
إن هو لم يحمده عند المخبره
وليس في الصديق ذي الصفاء
خير إذا لم يك ذا وفاء
الرجل العاقل من لا تسكره
كأس سمو واقتدار يبطره
84
فالجبل الثابت في أصوله
لا تقدر الريح على تحويله
والناقص العقل الذي لا رأي له
يطغى إذا ما نال أدنى منزله
مثل الحشيش أيما ريح جرت
مالت به فأقبلت وأدبرت
الأهل والإخوان والأعوان
عند ذوي الأموال حيث كانوا
والمال هادي الرأي والمروة
وهو على كل الأمور قوة
والمال فيه العز والجمال
والذل حيث لا يكون المال
وربما دعا الفقير فقره
إلى التي يحبط فيها أجره
فيخسر الدين كما كان خسر
دنياه والخسران ما لا ينجبر
وليس من شيء يكون مدحا
لذي الغنى إلا يكون برحا
على الفقير ويكون ذما
كذاك يدعى وبه يسمى
فإن يكن نجدا يقولوا أهوج
85
كذاك عند الحرب لا يعرج
وهو إذا كان جوادا سيدا
سمي للفقير مضيعا مفسدا
أو يك ذا حلم يقل ضعيف
أو يك بساما يقل سخيف
الرجل العاقل فيما يسدي
مغتبط بكسبه للحمد
لأنه باع قليلا فانيا
واعتاض من ذاك كثيرا باقيا
فأغبط الناس الكثير نائله
ومدرك النجح لديه سائله
فلا تعدن ذا غنى غنيا
حتى يكون ماجدا سريا
واعلم بأن الملك المشاورا
ذا العقل فيما نابه المؤازرا
فإنه يعضد بالتأييد
يغنى به عن كثرة الجنود
والحازم التابع أمر الحزمه
النصحاء غير أهل التهمه
يزداد حزما بهم ورشدا
زيادة البحر إذا ما مدا
بما يصب فيه من أنهاره
حتى يهيج الموج من تياره
والموت من مات كريما صابرا
خير من العيش ذليلا صاغرا
ولم ينقل لنا الصولي في كتابه إلا هذه القطعة. ويعد أبان في هذا ناظما لكتاب معروف، ولكنه قد تجاوز نظم الكتب المعروفة إلى تأليف كتب منظومة، فنظم قصيدة طويلة في الصوم والزكاة، روى منها الصولي طرفا.
فقيل لأبان بعد أن نظم كليلة ودمنة: ألا تعمل شعرا في الزهد؟ فعمل قصيدة مزدوجة في الصيام والزكاة. وترجمتها:
قصيدة الصيام والزكاة
نقل أبان من فم الرواة
وها هي ذي القصيدة:
هذا كتاب الصوم وهو جامع
لكل ما قامت به الشرائع
من ذلك المنزل في القرآن
فضلا على من كان ذا بيان
ومنه ما جاء عن النبي
من عهده المتبع المرضي
صلى الإله وعليه سلما
كما هدى الله به وعلما
وبعضه على اختلاف الناس
من أثر ماض ومن قياس
والجامع الذي إليه صاروا
رأي أبي يوسف مما اختاروا
قال أبو يوسف أما المفترض
فرمضان صومه إذا عرض
والصوم في كفارة الأيمان
من حيث ما يجري على اللسان
ومعه الحج وفي الظهار
86
الصوم لا يدفع بالإنكار
وخطأ القتل وحلق المحرم
لرأسه فيه الصيام فافهم
فرمضان شهره معروف
وصومه مفترض موصوف
87
والصوم في الظهار إن لم يقدر
مظاهر يوما على محرر
والقتل إن لم يك عمدا قتله
فإن ذاك في الصيام مثله
شهران في العدة كاملان
متصلان لا مفرقان
والحنث في رواية مقبولة
ثلاثة أيامها موصوله
ومثلها في عدة الأيام
للمحرم الحالق في الإحرام
ثلاثة يصومها إن حلقا
لا بأس إن تابعها أو فرقا
والصوم في المتعة إن لم يجد
هديا وكان بالصيام يفتدي
صيام أيام مؤقتات
ثلاثة في الحج مفروضات
وبعد ما يرجع صوم سبعه
عشرة كاملة في المتعه
أما الثلاثة التي في الحج
فكان من أدركت من محتج
أو غيره ممن يرى أن يرويه
يقول يوما قبل يوم الترويه
ويومها وصوم يوم عرفه
مؤتلفات الصوم لا مختلفة
قالوا وإن أحب أن يفرقا
فذاك ما ليس عليه ضيقا
إن كان ذاك الصوم منه بعدما
يكون في عمرته قد أحرما
ولو أراد الصوم في شوال
من بعد أن يوجب بالهلال
عمرته لكان ذاك مجزيا
بذاك يفتى من أتى مستفتيا
وهي طويلة جدا.
ونحسب أن مكانه من البرامكة هو الذي حمله على اختراع هذا الفن؛ فقد كان مكانه منهم مكان المؤدب لصبيانهم وشبابهم، وكان من الحق عليه أن يسهل لهم العلم تسهيلا. وليس من شك في أن هذه الأموال التي أصابها من البرامكة حينما نظم كليلة ودمنة قد أطعمته، فنظم القصائد الأخرى ليصيب مثل ما أصاب.
أخبار حمدان بن أبان بن عبد الحميد بن أبان ومختار من شعره
قال أبو بكر الصولي: حدثني محمد بن زياد قال: كانت في عبد الصمد بن المعذل عربدة إذا سكر، فعربد يوما في مجلس فيه حمدان بن أبان بن عبد الحميد بن أبان، وكان أيدا،
88
فقال لهم: كلوه إلي وحدي، وأخذه وكتفه وجعله في بيت وأغلق بابه، وقال: إذا أصبحتم فأطلقوه، وانصرف؛ فبلغه أن عبد الصمد حلف ليهجونه سنة، فقال: حمدان يهجوه:
قل لعبد الصمد الأح
مق لا تغضب عليه
وعلى أمك فاغضب
واكوها في الهن كيه
أمك العفلاء جاءت
ني بسلمى ورقيه
وهي ساقت ليلة فا
طمة أخرى إليه
فضينا فيهم الحق
ق وقلبنا السويه
وقد ذكر الصولي في كتابه الأوراق ما اختاره من قصيدة حمدان بن أبان بن عبد الحميد بن أبان في وصف الحب وأهله وهي طويلة، قال:
ما بال أهل الأدب
منا وأهل الكتب
قد وضعوا الآدابا
وأتعبوا الكتابا
لكل فن دفتر
منقط محبر
ففرقت أجناسا
وعلموها الناسا
بالحيل الرقيقه
والفطن الدقيقه
فأرشدوا الضلالا
وعلموا الجهالا
سوى المحبين فلم
89
يرعوا لهم حق الذمم
في علم ما قد جهلوا
وما به قد ابتلوا
قد غلقت رهونهم
واستعبرت عيونهم
وحالفوا السهادا
وخالفوا الرقادا
فليلهم طويل
ونومهم قليل
أبدانهم نحيله
متعبة عليله
نفوسهم حزينة
مشغوفة رزينه
ظاهرة غمومهم
باطنة كلومهم
باكية عيونهم
قريحة جفونهم
إن ظلموا لم يظلموا
وإن شكوا لم يرحموا
أحبابهم في لعب
وفي دوام الطرب
صافية ألوانهم
ضاحكة أسنانهم
قد سكنوا القصورا
وقارنوا السرورا
تفرغوا للهجر
وللنوى والغدر
بعاشق يهواهم
بالله ما أقساهم
وعدهم وعيد
إقرارهم جحود
بؤسى لأهل العشق
أهل الضنا والرق
ليس لهم وسيله
ولا وجوه حيله
رأيت لما خذلوا
وفي هواهم وحلوا
أن أرشد المغفلا
الجاهل المضللا
إلى الطريق الواضح
عند البلاء الفادح
وأبتدي كتابا
للوصف بابا بابا
90
يا أيها الناس فعوا
وصيتي واستمعوا
ففي صفاتي عجب
وفي كتابي أدب
قصيدتي مقومه
ألفاظها منظمه
فيها هوى العشاق
ومنية المشتاق
وصفت أهل العشق
ولم أمل عن حق
فاسمع مقالا صادقا
يا من يبيت عاشقا
للحب خلتان
هما هما اللتان
الصبر والرفق معا
يوما إذا ما اجتمعا
في عاشق مهجور
مباعد مغرور
قضى قريبا وطرا
وبلغاه الوطرا
ما الحسن والإحسان
والملك والسلطان
يعدل وصل الإلف
وكسره للطرف
ما حسن في العين
أحسن من إلفين
يوما إذا ما التقيا
في مجلس فاشتفيا
مداومين للنظر
قد أمنا كل حذر
يبادران الخلوه
ويظهران الصبوه
مساعدين اتفقا
باتا ولم يفترقا
هواهما مخزون
سرهما مدفون
مداريين أصبحا
للناس لم يفتضحا
من جرب الحب عرف
ما بين ملك وأسف
لن يبلغ الصب المنى
إلا بصبر وعنا
إن الهوى ضروب
وأمره عجيب
وأهله أطوار
فيه لهم أوطار
للعاقل الشريف
والأحق السخيف
فمنهم مرزوق
محبب معشوق
على اضطراب الخلق
منه وسوء الخلق
تقضي له الأوطار
وتعمل الأشعار
مقرب ما يقصى
مطاوع ما يعصى
ومنهم محروم
محارف
91
مشئوم
على جمال هيئته
وحسنه وبهجته
ومنهم من يبتدا
ينال عيشا رغدا
من غير سعي وطلب
وغير كد ونصب
فمد ذاك الأسعد
والبخت منه أجود
إذ فاز باللذات
ودرك الحاجات
ومنهم من يتعب
في حبه ويدأب
أسقمه طول الهوى
وشفه وجد الجوى
فذاك صب قد شقي
بؤسى له ماذا لقي
ومنهم البصير
العاقل النحرير
يحتمل الهجرانا
ويحمل الأحزانا
فلا يزال مبتلى
حتى ينال أملا
ومنهم العميد
الجاهل البليد
يحب بالتضجر
والجهل والتكبر
يلقى الحبيب باهتا
فلا يزال ساكتا
ومنهم من يهوى
بالغيب يأتي عفوا
فيزرع الغموما
مستجلبا هموما
فذاك حب الغيب
ليس به من عيب
من دونه حجاب
ودونه أبواب
فما لذاك لبث
وليس منه مكث
حتى يرى مقهورا
في حبه محسورا
ومنهم جبار
في حبه ازورار
يزهي إذا ما عشقا
ورهنه قد غلقا
يلتزم اللجاجة
فليس يبدي الحاجه
فذاك حب الفوت
وفيه كرب الموت
ومنهم من للنظر
يهوى ولم يعد البصر
إذا رأى خليله
داوى به غليله
يكتم ما يقاسي
من أعين الجلاس
ومنهم من اقتصر
على الحديث والنظر
غايته السلام
واللحظ والكلام
مدافع عن حبه
يكتم وجد قلبه
ينفي الهوى وينكره
وبالتبري يستره
فذاك حب العاقل
حب أديب كامل
وبعضهم لا يقنعه
إلا عمود يودعه
قد طلب الحراما
والتمس الأثاما
فذاك حب النهم
الماجن المغتلم
حق له الحرمان
والمنع والخذلان
وبعضهم مذاق
معانت ملاق
مستعمل للكذب
محرف في الكتب
فذاك حب الزور
يلسع كالزنبور
وبعضهم عميد
غاية ما يريد
خلوة من يهواه
في مشهد يلقاه
لحظته مسارقه
مبيته معانقه
مكاتم لحبه
في بعده وقربه
فذاك حب يكمد
نيرانه لا تخمد
ومنهم من يهتف
بالحب حين يشغف
إذا الحبيب صدا
ولم ينله ودا
تاه عليه وحزق
92
وصد عنه وحمق
وقال في آخرها:
قد تم مني وصف
ولم يخني الرصف
وانقضت القصيده
محبوبة حميده
والحمد للرحمن
ذي العز والسلطان
والذم للشيطان
ذي العرم
93
والطغيان (6) منصور النمري
94
كان ذا حيلة سياسية، فأدرك أن الرشيد يسره أن يمدح بنفي الإمامة عن علي والطعن عليه، لما كان يراه من تقديم مروان بن أبي حفصة بسبب ذلك، فسلك مذهبه ونحا نحوه - والشعراء يومئذ إنما يطلبون الكسب - لكنه لم يصرح بالهجاء والسب كما فعل مروان؛ ومن قوله فيه قصيدة مطلعها:
أمير المؤمنين إليك خضنا
غمار الهول من بلد شطير
بخوص كالأهلة خافقات
تلين على السرى وعلى الهجير
حملن إليك أحمالا ثقالا
ومثل الصخرة الدر النثير
فقد وقف المديح بمنتهاه
وغايته وصار إلى المصير
إلى من لا تشير إلى رسول
إذا ذكر الندى كف المشير
وذكر في القصيدة يحيى بن عبد الله بن حسن فقال:
يذلل من رقاب بني علي
ومن ليس بالمن الصغير
مننت على ابن عبد الله يحيى
وكان من الحتوف على شفير
ولقد تخلص إلى شيء ليس عليه فيه شيء وهو قوله:
فإن شكروا فقد أنعمت فيهم
وإلا فالندامة للكفور
وإن قالوا بنو بنت فحق
وردوا ما يناسب للذكور
وما لبنى بنات من تراث
مع الأعمام في ورق الزبور
ومنها:
بني حسن ورهط بني حسين
عليكم بالسداد من الأمور
فقد ذقتم قراع بني أبيكم
غداة الروع بالبيض الذكور
أحين شفوكم من كل وتر
وضموكم إلى كنف وثير
وجادوكم على ظمأ شديد
سقيتم من نوالهم الغزير
فما كان العقوق لهم جزاء
بفعلهم وآدى للثئور
وإنك حين تبلغهم أذاة
وإن ظلموا لمحزون الضمير
فقال له: صدقت وإلا فعلي وعلي، وأمر له بثلاثين ألف درهم.
وأنشد الرشيد يوما قصيدته التي أولها:
ما تنقضي حسرة مني ولا جزع
إذا ذكرت شبابا ليس يرتجع
بان الشباب وفاتتني بلذته
صروف دهر وأيام لها خدع
ما كنت أوفي شبابي كنه غرته
حتى انقضى فإذا الدنيا له تبع
فقال الرشيد: أحسن! والله لا يتهنى أحد بعيش حتى يخطر في رداء الشباب.
ومن قوله فيها يمدح الرشيد:
أي امرئ بات من هارون في سخط
فليس بالصلوات الخمس ينتفع
إن المكارم والمعروف أودية
أحلك الله منها حث تجتمع
95
إذا رفعت امرءا فالله يرفعه
ومن وضعت من الأقوام متضع
نفس فداؤك والأبطال معلمة
يوم الوغى والمنايا صابها فزع
ومن قوله يمدح الرشيد:
يا منزل الحي ذا المغاني
إنعم صباحا على بلاكا
هارون يا خير من يرجى
لم يطع الله من عصاكا
في خير دين وخير دنيا
من اتقى الله واتقاكا
وناهيك بقصيدته التي رفعت السيف عن ربيعة بنصيبين بعد أن جرده فيها الرشيد وهي التي يقول فيها:
وقد علم العدوان والجور والخنا
بأنك عياف لهن مزايل
ولو عملوا فينا بأمرك لم يكن
ينال بريا بالأذى متناول
لنا منك أرحام ونعتد طاعة
وبأسا إذا اصطك القنا والقنابل
96
وما يحفظ الإحسان مثلك حافظ
ولا يصل الأرحام مثلك واصل
جعلناك فامنعنا معاذا ومفزعا
لنا حين عضتنا الخطوب الحلائل
لأنت إذا عاذت بوجهك عوذ
تطامن خوف واستقرت بلابل
اجتمع جماعة من الشعراء ببغداد وفيهم منصور النمري، وكانوا على نبيذ، فأبى منصور أن يشرب معهم، فقالوا له: إنما تعاف الشراب لأنك رافضي، وتسمع وتصغي إلى الغناء، وليس تركك النبيذ من ورع، فقال:
خلا بين ندماني موضع مجلسي
ولم يبق عندي للوصال نصيب
وردت على الساقي تفيض وربما
رددت عليه الكأس وهو سليب
وأي امرئ لا يستهش إذا جرت
عليه بنان كفهن خضيب
قال النمري: كنت واقفا على جسر بغداد أنا وعبيد الله بن هشام، وقد وخطني الشيب يومئذ، وعبد الله شاب حديث السن، فإذا أنا بقصرية ظريفة قد وقفت، فجعلت أنظر إليها وهي تنظر إلى عبيد الله ثم انصرفت، وقلت فيها:
لما رأيت سوام الشيب منتشرا
في لمتي وعبيد الله لم يشب
سللت سهمين من عينيك فانتضلا
على سبية ذي الأذيال والطرب
كذا الغواني نرى منهن قاصدة
إلى الفروع معراة عن الخشب
لا أنت أصبحت تعقد بيننا أربا
97
ولا وعيشك ما أصبحت من أربي
إحدى وخمسين قد أنضيت جدتها
تحول بيني وبين اللهو واللعب
لا تحسبيني وإن أغضيت عن بصري
غفلت عنك ولا عن شأنك العجب
غضب الرشيد على منصور النمري لما أنشد قصيدته في مدح العلويين وأولها:
شاء من الناس راتع هامل
يعللون النفوس بالباطل
وفيها يقول:
ألا مساعير
98
يغضبون لها
بسلة البيض والقنا الذابل
فغضب من ذلك غضبا شديدا وقال للفضل بن الربيع: أحضره الساعة، فبعث الفضل في ذلك، فوجده قد توفي، فأمر بنبشه ليحرقه، فلم يزل الفضل يلطف له حتى كف عنه.
وإليك قصيدته في مدح العلويين نقلا عن الشعر والشعراء لابن قتيبة، لأن صاحب الأغاني أغفلها ولم يذكر منها إلا البيتين السابقين:
شاء من الناس راتع هامل
يعللون النفوس بالباطل
تقتل ذرية النبي وير
جون جنان الخلود للقاتل
ويلك يا قاتل الحسين لقد
نؤت بحمل ينوء بالحامل
أي حباء حبوت أحمد في
حفرته من حرارة الثاكل
بأي وجه تلقى النبي وقد
دخلت في قتله مع الداخل
هلم فاطلب غدا شفاعته
أو لا فرد حوضه مع الناهل
ما الشك عندي في حال قاتله
لكنني أشك في الخاذل
نفسي فداء الحسين حين غدا
إلى المنايا غدو لا قافل
ذلك يوم أنحى بشفرته
على سنام الإسلام والكاهل
حتى متى أنت تعجبين ألا
تنزل بالقوم نقمة العاجل
لا يعجل الله إن عجلت وما
ربك عما يريد بالغافل
وعاذلي أنني أحب بني
أحمد فالترب في فم العاذل
قد ذقت ما دينكم عليه فما
وصلت من دينكم إلى طائل
دينكم جفوة النبي وما ال
جافي لآل النبي كالواصل
مظلومة والنبي والدها
نذير أرجاء مقلة حافل
ألا مصاليت يغضبون لها
بسلة البيض والقنا الذابل
وقال أيضا:
آل النبي ومن يحبهم
يتطامنون مخافة القتل
أمنوا النصارى واليهود وهم
من أمة التوحيد في أزل
99
وأنشد الرشيد هذا بعد موته فقال: لقد هممت أن أنبشه ثم أحرقه. ومن جيد شعره قوله في الرشيد:
يا زائرينا من الخيام
حياكما الله بالسلام
يحزنني أن أطفتما بي
ولم تنالا سوى الكلام
لم تطرقاني وبي حراك
إلى حلال ولا حرام
هيهات للهو والتصابي
وللغواني وللمدام
أقصر جهلي وثاب حلمي
ونهنه الشيب من عرامي
100
عمر أبيها لقد تولت
سالمة الخد من عذامي
101
لله حبي وترب حبي
ليلة أعياهما مرامي
آذنتاني بطول هجر
وغرتاني مع السوام
وانطوتا لي على ملام
والشيب شر من الملام
بورك هارون من إمام
بطاعة الله ذي اعتصام
له إلى ذي الجلال قربى
ليست لعدل ولا إمام
يسعى على أمة تمنى
أن لو تقيه من الحمام
لو استطاعت لقاسمته
أعمارها قسمة السهام
يا خير ماض وخير باق
بعد النبيين في الأنام
ما استودع الدين من إمام
حامى عليه كما تحامي
يؤنس من رأيه برأي
أصدق من سلة الحسام
وقال:
أعمير كيف لحاجة
طلبت إلى صم الصخور
لله در عداتكم
كيف انتسبن إلى الغرور
إن الليالي ضمنني
ووسمنني سمة الكبير
أطفأن نور شبيبتي
وفرشنني كنف الغيور
ولقد تبيت أناملي
يجنين رمان النحور (7) السيد الحميري
102 «لم
103
يكن السيد الحميري من أنصار الحسن والحسين، أو بعبارة أصح لم يكن من أنصار ولد الحسن والحسين؛ وإنما كان من الكيسانية الذين كانوا ينصرون الابن الثالث من أبناء علي: محمد بن خولة الحنفية؛ والذين كانوا يدينون بأنه لم يمت وإنما تغيب عن الناس واحتجب عنهم حينا وسيعود فيملأ الأرض عدلا كما ملئت جورا، فلم يكن على السيد الحميري بأس أن يمدح بني العباس ويتقرب منهم ما دام صاحبه محمد بن الحنيفة لم يعد من غيبته بعد. ثم نستطيع أن نميز هذا الشاعر بخصلة لم نرها في شاعر من الذين تحدثنا عنهم، وهي أنه كان سخيفا ضعيف العقل شديد الإيمان بالخرافات والأوهام، ويظهر أن هذه الخصلة جاءته من مذهبه نفسه في الرجعة، فقد أسرف في هذا المذهب كما أسرف في مدح العلويين والإيمان بهم حتى وصفهم من الخير والكرامة بما يقبل وما لا يقبل؛ فكان كل خير يمكن أن ينسب إلى العلويين، رضيه العقل أم لم يرضه، وكان كل شر يمكن أن ينسب إلى خصوم العلويين، رضيه العقل أم لم يرضه، وكان يكفي أن يسمع رجلا من أهل القصص ورواة الأساطير يروي كرامة من الكرامات يضيفها إلى أحد العلويين حتى ينظم فيها قصيدة طويلة، جيدة، ويتخذ هذه القصيدة وسيلة إلى ذم السلف والنعي عليه.
وخصلة أخرى تقربه من الزنادقة الذين عاصروه ولكنها تجعل الصلة بينه وبينهم ضعيفة واهية في الوقت نفسه.
وهي أنه كان يستبيح ضروبا من اللهو والمنكر، ويسرف في شرب الخمر وغير ذلك من ألوان العبث، لا لأنه كان يجحد الدين أو يزدريه بل لأنه كان يدل على صاحب الدين؛ كان يحب النبي
صلى الله عليه وسلم
وآله ويمنحهم مودته ونصره، ويعتقد أنهم سيعرفون له ذلك وسيشفعون له في ذنوبه وآثامه لما قدم بين يديه من مدح العلويين ونصرهم على خصومهم؛ وكان بنو هاشم وبنو علي خاصة يطمعونه في ذلك ويتعرفون له به، فإذا ذكر لهم أنه يلهو ويشرب الخمر قالوا: وأي ذنب يعظم على الله أن يغفره لرجل من أنصار أهل البيت! بل قال أحدهم: إن من أحب آل علي لم تزل له قدم إلا ثبتت له أخرى؛ وعلى هذا كان السيد الحميري يلهو آمنا في دينه، يعتمد في دينه على العلويين، ويعتمد في دنياه على العباسيين، يقدر أن العلويين سيشفعون له عند الله، ويعلم أن العباسيين يتقون شره ويؤثرون مدحه على هجائه؛ وكان من معاصريه من يكره ذلك ويمقته كل المقت، ويضمر للسيد عداء وحقدا لا يعدلهما عداء ولا حقد؛ ومن هؤلاء سوار بن عبد الله العنبري قاضي البصرة للمنصور، فقد كان العداء بينه وبين السيد شديدا، وكان قد أجمع ألا يقبل للسيد شهادة، وكان قد سعى بالسيد عند المنصور غير مرة؛ وكان السيد قد هجاه فأسرف في هجائه، فشكا ذلك إلى المنصور فنهاه المنصور عنه وأمره أن يذهب إلى القاضي فيعتذر إليه، وأبى القاضي أن يقبل معذرته، فاستأنف السيد الهجاء وألح فيه. ويقال إن سوارا أعد شهودا يشهدون على السيد بالسرقة ليقطع يده، فعلم السيد ذلك فجزع وفزع إلى المنصور، فعزل المنصور سوارا من القضاء للسيد أو عليه، ولم يلبث سوار أن مات فتبعه السيد بعدائه وبغضه وهجائه.»
قال أبو جعفر الأعرج: كان السيد أسمر تام القامة، أشنب ذا وفرة، حسن الألفاظ جميل الخطاب، إذا تحدث في مجلس قوم أعطى كل رجل في المجلس نصيبه من حديثه.
وقال الفرزدق: إن ههنا لرجلين لو أخذا في معنى البأس لما كنا معهما في شيء: السيد الحميري وعمران بن حطان السدوسي، ولكن الله عز وجل قد شغل كل واحد منهما بالقول في مذهبه؛ وقال الأصمعي لما أنشد شيئا من شعره: ما أسلكه لطريق الفحول لولا مذهبه، ولولا ما في شعره ما قدمت عليه أحدا من طبقته؛ وكان أبو عبيدة يقول: أشعر المحدثين السيد الحميري وبشار.
وكان السيد يذهب مذهب الكيسانية ويقول بإمامة محمد بن الحنفية، وله في ذلك شعر كثير.
وقف السيد على بشار وهو ينشد الشعر، فأقبل عليه وقال:
أيها المادح العباد ليعطى
إن لله ما بأيدي العباد
فاسأل الله ما طلبت إليهم
وارج نفع المنزل العواد
لا تقل في الجواد ما ليس فيه
وتسمي البخيل باسم الجواد
قال بشار: من هذا؟ فعرفه، فقال: لولا أن هذا الرجل قد شغل عنا بمدح بني هاشم لشغلنا، ولو شاركنا في مذهبنا لتعبنا.
ومن قول السيد:
أتعرف رسما بالثويين قد دثر
عفته أهاضيب السحائب والمطر
وجرت به الأذيال ريحان حلفة
صبا ودبور بالعشيات والبكر
منازل قد كانت تكون بجوها
هضيم الحشى ريا الشوى سحرها النظر
قطوف الخطا خمصانة بخترية
كأن محياها سنا دارة القمر
رمتني ببعد بعد قرب بها النوى
فبانت ولما أقض من عبدة الوطر
ولما رأتني خشية البين موجعا
أكفكف مني أدمعا بيضها درر
أشارت بأطراف إلي ودمعها
كنظم جمان خانه السلك فانتثر
وقد كنت مما أحدث البين حاذرا
فلم يغن عني منه خوفي والحذر
لما استقام الأمر لبني العباس قام السيد إلى أبي العباس السفاح حين نزل عن المنبر فقال:
دونكموها يا بني هاشم
فجددوا من عهدها الدارسا
دونكموها لا علا كعب من
كان عليكم ملكها نافسا
دونكموها فالبسوا تاجها
لا تعدموا منكم له لابسا
لو خير المنبر فرسانه
ما اختار إلا منكم فارسا
قد ساسها قبلكم ساسة
لم يتركوا رطبا ولا يابسا
ولست من أن تملكوها إلى
مهبط عيسى فيكم آيسا
وبعث بهذه الأبيات إلى المهدي يسأله ألا يعطي آل بكر وعمر من مال الدولة:
قل لابن عباس سمي محمد
لا تعطين بين عدي درهما
احرم بني تيم بن مرة إنهم
شر البرية آخرا ومقدما
إن تعطهم لن يشكروا لك نعمة
ويكافئوك بأن تذم وتشتما
وإن ائتمنتهم أو استعملتهم
خانوك واتخذوا خراجك مغنما
ولئن منعتهم لقد بدءوكم
بالمنع إذ ملكوا وكانوا أظلما
منعوا تراث محمد أعمامه
وبنيه وابنته عديلة مريما
وتأمروا من غير أن يستخلفوا
وكفى بما فعلوا هنالك مأثما
لم يشكروا لمحمد إنعامه
أفيشكرون لغيره إن أنعما
والله من عليهمو بمحمد
وهداهم وكسا الجنوب وأطعما
ثم انبروا لوصيه ووليه
بالمنكرات فجرعوه العلقما
أنشد السيد جعفر بن محمد هذه الأبيات يذكر فيها قبر الحسين:
أمرر على جدث الحسي
ن فقل لأعظمه الزكيه
آأعظما لا زلت من
وطفاء ساكبة رويه
وإذا مررت بقبره
فأطل به وقف المطيه
وابك المطهر للمط
هر والمطهرة النقيه
كبكاء معولة أنت
يوما لواحدها المنيه
فانحدرت دموع جعفر على خديه وارتفع الصراخ والبكاء من داره حتى أمره بالإمساك فأمسك.
ومن قول السيد في إمامة ابن الحنفية:
ألا يا أيها الجدل المعني
لنا ما نحن ويحك والعناء
أتبصر ما تقول وأنت كهل
تراك عليك من ورع رداء
ألا إن الأئمة من قريش
ولاة الحق أربعة سواء
علي والثلاثة من بنيه
104
هم أسباطه والأوصياء
فأنى في وصيته إليهم
يكون الشك منا والمراء
بهم أوصاهم ودعا إليه
جميع الخلق لو سمع الدعاء
فسبط سبط إيمان وحلم
وسبط غيبته كربلاء
سقى جدثا تضمنه ملث
هتوف الرعد مرتجز رواء
تظل مظلة منها عزال
105
عليه وتغتدي أخرى ملاء
وسبط لا يذوق الموت حتى
يقود الخيل يقدمها اللواء
من البيت المحجب في سراة
شراة لف بينهم الإخاء
عصائب ليس دون أغر أجلى
بمكة قائم لهم انتهاء
وأنشد العتبي قصيدته اللامية التي أولها:
هل عند من أحببت تنويل
أم لا فإن اللوم تضليل
أم في الحشى منك جوى باطل
ليس تدوايه الأباطيل
علقت يا مغرور خداعة
بالوعد منها لك تخييل
ريا رداح النوم خمصانة
كأنها أدماء عطبول
يشفيك منها حين تخلو بها
ضم إلى النحر وتقبيل
وذوق ريق طيب طعمه
كأنه بالمسك معلول
في نسوة مثل المها خرد
تضيق عنهن الخلاخيل
يقول فيها:
أقسم بالله وآلائه
والمرء عما قال مسئول
إن علي بن أبي طالب
على التقى والبر مجبول
فقال: أحسن والله ما شاء، هذا والله الشعر الذي يهجم على القلب بلا حجاب.
قيل للسيد: ما لك لا تستعمل في شعرك من الغريب ما تسأل عنه كما يفعل الشعراء؟ قال: لأن أقول شعرا قريبا من القلوب يلذه من سمعه، خير من أن أقول شيئا معقدا تضل فيه الأوهام.
تقدم السيد إلى سوار القاضي ليشهد عنده، فلم يرض به، فقام مغضبا من مجلسه، وكتب رقعة يقول فيها:
يا أمين الله يا من
صور يا خير الولاة
إن سوار بن عبد الل
ه من شر القضاة
نعثلي جملي
لكم غير موات
جده سارق عنز
فجرة من فجرات
لرسول الله والقا
ذفه بالمنكرات
وابن من كان ينادي
من وراء الحجرات
يا هناة اخرج إلينا
إننا أهل هنات
مدحنا المدح ومن نر
م يصب بالزفرات
فاكفنيه لا كفاه الل
ه شر الطارقات
قيل: فلما قرأها سوار وثب من مجلسه وقصد أبا جعفر المنصور، وهو يومئذ نازل بالجسر، فسبقه السيد إليه فأنشده:
قل للإمام الذي ينجى بطاعته
يوم القيامة من بحبوحة النار
لا تستعن وجزاك الله صالحة
يا خير من دب في حكم بسوار
لا تستعن بخبيث الرأي ذي صلف
جم العيوب عظيم الكبر جبار
يضحى الخصوم لديه من تجبره
لا يرفعون إليه لحظ أبصار
تيها وكبرا ولولا ما رفعت له
من ضبعه كان عين الجائع العاري
ودخل سوار، فلما رآه المنصور تبسم وقال: أما بلغك خبر إياس بن معاوية حيث قبل شهادة الفرزدق واستزاد في الشهود؟ فما أحوجك للتعرض للسيد ولسانه! ثم أمر السيد بمصالحته.
دخل السيد على المهدي لما بايع لابنيه موسى وهارون، فأنشأ يقول:
ما بال مجرى دمعك الساجم
أمن قدى بات بها لازم
أم من هوى أنت له ساهر
صبابة من قلبك الهائم
آليت لا أمدح ذا نائل
من معشر غير بني هاشم
أوليتهم عندي يد المصطفى
ذي الفضل والمن أبي القاسم
فإنها بيضاء محمودة
جزاؤها الشكر على العالم
جزاؤها حفظ أبي جعفر
خليفة الرحمن والقائم
وطاعة المهدي ثم ابنه
موسى على ذي الإربة الحازم
وللرشيد الرابع المرتضي
مفترض من حقه اللازم
ملكهم خمسون معدودة
برغم أنف الحاسد الراغم
ليس علينا ما بقوا غيرهم
في هذه الأمة من حاكم
حتى يردوها إلى هابط
عليه عيسى منهم ناجم
ومن شعر السيد:
ما جرت خطرة على القلب مني
فيك إلا استترت عن أصحابي
من دموع تجري فإن كنت وحدي
خاليا أسعدت دموعي انتحابي
إن حبي إياك قد سل جسمي
ورماني بالشيب قبل الشباب
لو منحت اللقا شفى بك صبا
هائم القلب قد ثوى في التراب
ومما قاله في الحبس:
قف بالديار وحيها يا مربع
واسأل وكيف يجيب من لا يسمع
إن الديار خلت وليس بجوها
إلا الضوابح والحمام الوقع
ولقد تكون بها أوانس كالدمى
جمل وعزة والرباب وبروع
حور نواعم لا ترى في مثلها
أمثالهن من الصيانة أربع
فعرين بعد تألف وتجمع
والدهر صاح مشتت ما يجمع
فاسلم فإنك قد نزلت بمنزل
عند الأمير تضر فيه وتنفع
تؤتى هواك إذا نطقت بحاجة
فيه وتشفع عنده فتشفع
قل للأمير إذا ظفرت بخلوة
منه ولم يك عنده من يسمع
هب لي الذي أحببته في أحمد
وبنيه إنك حاصد ما تزرع
يختص آل محمد بمحبة
في الصدر قد طويت عليها الأضلع
وقال يهجو امرأة وارث موسر من خلانه، وكانت تعذل زوجها على إسرافه:
أقول يا ليت ليلى في يدي حنق
من العداوة من أعدى أعاديها
يعلو بها فوق رعن
106
ثم يحدرها
في هوة فتدهدى يومها فيها
أو ليتها في غمار البحر قد عصفت
فيه الرياح فهاجت من أواذيها
107
أو ليتها قد دنت يوما إلى فرسي
قد شد منه إلى هاديه هاديها
حتى يرى لحمها من حضره زيما
108
وقد أتى القوم بعد الموت ناعيها
فمن بكاها فلا جفت مدامعه
لا أسخن الله إلا عين باكيها
وقيل: إن آخر قصيدة له هي قوله:
أشاقتك المنازل بعد هند
وتربيها وذات الدل دعد
منازل أقفرت منهن محت
معالمهن من سيل ورعد
وريح حرجف تستن فيها
بسافي الترب تلحم ما تسدي
ألم يبلغك والأنباء تنمي
مقال محمد فيما يؤدي
إلى ذي علمه الهادي علي
وخولة خادم في البيت تردي
ألم تر أن خولة سوف تأتي
بوارى الزند صافي الخيم نجد
يفوز بكنيتي واسمي لأني
نحلتهما هو المهدي بعدي
يغيب عنهم حتى يقولوا
تضمنه بطيبة بطن لحد
سنين وأشهرا ويرى برضوى
بشعب بين أنمار وأسد
مقيم بين آرام وعين
وحفان
109
تروح خلال ربد
تراعيها السباع وليس منها
ملاقيهن مفترسا بحد
أمن به الردى فرتعن طورا
بلا خوف لدى مرعى وورد
حلفت برب مكة والمصلى
وبيت طاهر الأركان فرد
يطوف به الحجيج وكل عام
يحل لديه وفد بعد وفد
لقد كان ابن خولة غير شك
صفاء ولايتي وخلوص ودي
فما أحد أحب إلي فيما
أسر وما أبوح به وأبدي
سوى ذي الوحي أحمد أو علي
ولا أزكى وأطيب منه عندي
ومن ذا يابن خولة إذ رمتني
بأسهمها المنية حين وعدي
يذبب عنكم ويسد مما
تثلم من حصونكم كسدي
ومالي أن أمر به ولكن
أؤمل أن يؤخر يوم فقدي
فأدرك دولة لك لست فيها
بجبار فتوصف بالتعدي
على قوم بغوا فيكم علينا
لتعدى منكم يا خير معد
لتعل بنا عليهم حيث كانوا
بغور من تهامة أو بنجد
إذا ما سرت من بلد حرام
إلى من بالمدينة من معد
وماذا عزهم والخير منهم
بأشوس أعصل الأنياب ورد
وأنت لمن بغى وعدا وأذكى
عليك الحرب واسترداك مرد (8) سلم بن عمرو الخاسر
كان منقطعا إلى البرامكة وإلى الفضل بن يحيى خصوصا من بينهم، وفيه يقول أبو العتاهية:
إنما الفضل لسلم وحده
ليس فيه لسوى سلم درك
وكان هذا أحد الأسباب إلى فساد ما بينه وبين أبي العتاهية. ولسلم
110
يقول أبو العتاهية وقد حج مع عتبة:
والله والله ما أبالي متى
ما مت يا سلم بعد ذا السفر
أليس قد طفت حيث طافت وقب
لت الذي قبلت من الحجر
وله يقول أبو العتاهية وقد حبس إبراهيم الموصلي:
سلم يا سلم ليس دونك سر
حبس الموصلي فالعيش مر
ما استطاب اللذات، مذ سكن المط
بق رأس اللذات والله، حر
ترك الموصلي من خلق الل
ه جميعا وعيشهم مقشعر
لما قال بشار قصيدته الميمية في عمر بن العلاء وهي التي يقول فيها:
إذا نبهتك صعاب الأمور
فنبه لها عمرا ثم نم
فتى لا يبيت على دمنة
111
ولا يشرب الماء إلا بدم
بعث بها مع سلم إلى عمر بن العلاء، فوافاه، فأنشده إياها، فأمر لبشار بمائة ألف درهم، فقال له سلم: إن خادمك - يعني نفسه - قد قال في طريقه فيك قصيدة؛ قال: فإنك لهناك! قال: تسمع ثم تحكم؛ قال: هات، فأنشده:
قد عزني الداء فما لي دواء
مما ألاقي من حسان النساء
قلب صحيح كنت أسطو به
أصبح من سلمى بداء عياء
أنفاسها مسك وفي طرفها
سحر وما لي غيرها من دواء
وعدتني وعدا فأوفي به
هل تصلح الخمرة إلا بماء
ويقول فيها:
كم كربة قد مسني ضرها
ناديت فيها عمر بن العلاء
فأمر له بعشرة آلاف درهم، فكانت أول عطية سنية وصلت إليه.
ومن قوله يرثي باقونة بنت المهدي:
أودى بباقونة ريب الزمان
مؤنسة المهدي والخيزران
لم تنطو الأرض على مثلها
مولودة حن لها الوالدان
باقون يا بنت إمام الهدى
أصبحت من زينة أهل الجنان
بكت لك الأرض وسكانها
في كل أفق بين إنس وجان
دخل سلم على الفضل بن يحيى في يوم نيروز والهدايا بين يديه، فأنشد:
أمن ربع تسائله
وقد أقوت منازله
بقلبي من هوى الأطلا
ل حب ما يزايله
رويدكم عن المشغو
ف إن الحب قاتله
بلابل صدره تسري
وقد نامت عواذله
أحق الناس بالتفضي
ل من ترجى فواضله
رأيت مكارم الأخلا
ق ما ضمت حمائله
فلست أرى فتى في النا
س إلا الفضل فاضله
يقول لسانه خيرا
فتفعله أنامله
ومهما يرج من خير
فإن الفضل فاعله
وكان إبراهيم الموصلي وابنه إسحاق حاضرين، فقال لإبراهيم: كيف ترى وتسمع ؟ قال: أحسن مرئي ومسموع، وفضل الأمير أكثر منه؛ فقال: خذوا جميع ما أهدي إلي اليوم فاقتسموه بينكم أثلاثا إلا ذلك التمثال، فإني أريد أن أهديه اليوم إلى دنانير؛ ثم قال: لا والله ما هكذا تفعل الأحرار، يقوم ويدفع إليهم ثمنه ثم نهديه، فقوم بألفي دينار، فحملها إلى القوم من بيت ماله واقتسموا جميع الهدايا بينهم.
كان المهدي يعطي مروان وسلما الخاسر عطية واحدة، فكان سلم يأتي باب المهدي على البرذون الفاره، قيمته عشرة آلاف درهم بسرج ولجام مفضضين، ولباسه الخز والوشي وما أشبه ذلك من الثياب الغالية الأثمان، ورائحة المسك والطيب الغالية تفوح منه، ويجيء مروان بن أبي حفصة عليه فرو كبل
112
وقميص كرابيس
113
وعمامة كرابيس وخفا كبل
114
وكساء غليظ، وهو منتن الرائحة، وكان لا يأكل اللحم حتى يقرم إليه بخلا، فإذا قرم أرسل غلامه فاشترى له رأسا فأكله، فقال له قائل: أراك لا تأكل إلا الرأس، قال: نعم أعرف سعره فآمن خيانة الغلام ولا أشتري لحما فيطبخه فيأكل منه، والرأس آكل مه ألوانا: آكل من عينيه لونا ومن غلصمته
115
لونا ومن دماغه لونا.
كان سلم قد بلي بالكيمياء، فكان يذهب بكل شيء له باطلا، فلما أراد الله عز وجل أن يصنع له عرف أن بباب الشام صاحب كيمياء عجيبا، وأنه لا يصل إليه أحد إلا ليلا، فسأل عنه، فدلوه عليه. قال: فدخلت إليه إلى موضع معور،
116
فدققت الباب فخرج إلي، فقال: من أنت عافاك الله؟ فقلت: رجل معجب بهذا العلم؛ قال: فلا تشهرني فإني رجل مستور إنما أعمل القوت، قلت: إني لا أشهرك إنما أقتبس منك، قال: فاكتم ذلك، وبين يديه كوز شبه
117
صغير، فقال لي: اقلع عروته، فقلعتها، فقال: اسبكها في البوتقة
118
فسكبتها، فأخرج شيئا من تحت مصلاه فقال: ذره عليه، ففعلت، فقال: أفرغه، فأفرغته، فقال: دعه معك، فإذا أصبحت فاخرج فبعه وعد إلي، فأخرجته إلى باب الشام فبعت المثقال بأحد وعشرين درهما ورجعت إليه فأخبرته، فقال: اطلب الآن ما شئت؛ قلت: تفيدني؟ قال: بخمسمائة درهم على ألا تعلمه أحدا، فأعطيته وكتب لي صفة فامتحنتها فإذا هي باطلة، فعدت إليه، فقيل لي: قد تحول وإذا عروة الكوز الشبه من ذهب مركبة عليه، والكوز شبه، ولذلك كان يدخل إليه من يطلبه ليلا ليخفى عليه، فانصرفت وعلمت أن الله عز وجل أراد بي خيرا وأن هذا كله باطل.
قال أبو المستهل: دخلت يوما على سلم وإذا بين يديه قراطيس فيها أشعار يرثي ببعضها أم جعفر، وببعضها جارية غير مسماة، وببعضها أقواما لم يموتوا، وأم جعفر يومئذ باقية؛ فقلت له: ويحك ما هذا؟ فقال: تحدث الحوادث فيطالبوننا بأن نقول فيها ويستعجلوننا ولا يجمل بنا أن نقول غير الجيد، فنعد لهم هذا قبل كونه، فمتى حدث حادث أظهرنا ما قلناه فيه قديما على أنه قيل في الوقت.
دخل سلم على الرشيد فأنشده:
حي الأحبة بالسلام
فقال الرشيد: حياهم الله بالسلام؛ فقال سلم:
أعلى وداع أم مقام
فقال الرشيد: حياهم الله على أي ذلك كان، فأنشده:
لم يبق منك ومنهم
غير الجلود على العظام
فقال له الرشيد: بل منك، وأمر بإخراجه، وتطير منه ومن قوله، فلم يسمع منه باقي الشعر ولا أثابه بشيء.
استوهب إسحاق الموصلي من الرشيد تركة سلم، وكان قد مات عن غير وارث، فوهبها له قبل أن يتسلمها صاحب المواريث، فحصل منها على خمسين ألف دينار، وروي أنه رفع إلى الرشيد أن سلما قد توفي وخلف مما أخذه منه خاصة ومن زبيدة ألف ألف وخمسمائة ألف درهم سوى ما خلفه من عقار وغيره مما اعتقده
119
قديما، فقبضه الرشيد وتظلم إليه مواليه من آل أبي بكر الصديق رضوان الله عليه؛ فقال: هذا خادمي ونديمي، والذي خلفه من مالي فأنا أحق به، فلم يعطهم إلا شيئا يسيرا من قديم أملاكه. (9) ربيعة الرقي
120
كان منقطعا عن الحضارة، بعيدا عن مجالسة الخلفاء، فأخمل ذكره بسبب ذلك؛ لكنهم كانوا يستقدمونه إليهم. وأول من فعل ذلك المهدي، فمدحه ونال جوائزه؛ وكان ابن المعتز يرى ربيعة أشعر غزلا من أبي نواس، لأن في غزل أبي نواس بردا كثيرا، وغزل هذا سليم عذب سهل، ولذلك فإن شهرته بلغت إلى بلاط الخليفة. وكان يمدح غير الخلفاء وينال جوائزهم ويعود إلى بلده، وإن قصر أحد في إعطائه هجاه، وله في ذلك حديث مع العباس بن محمد بن علي من أمراء بني العباس.
ومن قوله يمدح يزيد بن حاتم المهلبي ويهجو يزيد بن أسيد السلمي:
حلفت يمينا غير ذي مثنوية
121
يمين امرئ آلى بها غير آثم
لشتان ما بين اليزيدين في الندى
يزيد سليم والأغر ابن حاتم
يزيد سليم
122
سالم المال، والفتى
أخو الأزد للأموال غير مسالم
فهم الفتى الأزدي إتلاف ماله
وهم الفتى القيسي جمع الدراهم
فلا يحسب التمتام أنى هجوته
ولكنني فضلت أهل المكارم
قال رجل لربيعة: يا أبا أسامة، ما حملك على أن هجوت رجلا من قومك وفضلت عليه رجلا من الأزد؟ فقال: أخبرك، أملقت فلم يبق لي إلا داري، فرهنتها على خمسمائة درهم، ورحلت إليه إلى أرمينية، فأعلمته بمكاني ومدحته، وأقمت عنده حولا، فوهب لي خمسمائة درهم، فتحملت وصرت بها إلى منزلي، فلم يبق معي كبير شيء، فنزلت في دار بكراء، فقلت: لو أتيت يزيد بن حاتم، ثم قلت: هذا ابن عمي فعل بي هذا الفعل فكيف بغيره! ثم حملت نفسي على أن آتيه، فأعلم بمكاني، فتركني أشهرا حتى ضجرت، فأكريت نفسي من الحمالين. وكتبت بيتا في رقعة فألقيته في دهليزه؛ والبيت:
أراني ولا كفران لله راجعا
بخفى حنين من يزيد بن حاتم
فوقعت الرقعة في يد حاجبه، فأوصلها إليه من غير علمي ولا أمري، فبعث خلفي، فلما دخلت عليه قال: هيه أنشدني ما قلت، فتمنعت، فقال: والله لتنشدني، فأنشدته، فقال: والله لا ترجع كذلك، ثم قال: انزعوا خفيه، فنزعا، فحشاهما دنانير وأمر لي بغلمان وجوار وكسى، ألا ترى لي أن أمدح هذا وأهجوا ذاك؟ قلت: بلى والله، وسار شعري حتى بلغ المهدي، فكان سبب دخولي إليه.
قيل لأبي النحوي: إن الأصمعي قال: لا يقال شتان ما بينهما، وإنما يقال: شتان ما هما، وأنشد قول الأعشى: «شتان ما يومي على كورها» فقال: كذب الأصمعي، يقال: شتان ما هما وشتان ما بينهما، وأنشد لربيعة الرقي: «لشتان ما بين اليزيدين» وفي استشهاد مثل أبي زيد على دفع قول مثل الأصمعي بشعر ربيعة كفاية له في تفضيله.
امتدح ربيعة العباس بن محمد بن علي بقصيدة لم يسبق إليها حسنا، وهي طويلة، يقول فيها:
لو قيل للعباس يابن محمد
قل «لا» وأنت مخلد ما قالها
ما إن أعد من المكارم خصلة
إلا وجدتك عمها أو خالها
وإذا الملوك تسايروا في بلدة
كانوا كواكبها وكنت هلالها
إن المكارم لم تزل معقولة
حتى حللت براحتيك عقالها
فبعث إليه بدينارين، وكان يقدر فيه ألفين، فلما نظر إلى الدينارين كاد يجن غيظا وقال للرسول: خذ هذين الدينارين فهما لك على أن ترد الرقعة إلي من حيث لا يدري العباس، ففعل الرسول ذلك، فأخذها ربيعة وأمر من كتب في ظهرها:
مدحتك مدحة السيف المحلى
لتجري في الكرام كما جريت
فهبها مدحة ذهبت ضياعا
كذبت عليك فيها وافتريت
فأنت المرء ليس له وفاء
كأني إن مدحتك قد زنيت
ثم دفعها إلى الرسول وقال: ضعها في الموضع الذي أخذتها منه، فردها الرسول؛ فلما كان من الغد أخذها العباس فنظر فيها، فلما قرأ الأبيات غضب وقام من وقته فركب إلى الرشيد، وكان أثيرا
123
عنده يبجله ويقدمه، وكان قد هم أن يخطب إليه ابنته، فرأى الكراهة في وجهه، فقال: ما شأنك؟ فقال: هجاني ربيعة الرقي، فأحضر، فقال له الرشيد: تهجو عمي وآثر الخلق عندي؟ لقد هممت أن أضرب عنقك، فقال: والله يا أمير المؤمنين لقد مدحته بقصيدة ما قال مثلها أحد من الشعراء في أحد من الخلفاء، ولقد بالغت في الثناء وأكثرت في الوصف، فإن رأى أمير المؤمنين أن يأمره بإحضارها! فلما سمع الرشيد ذلك منه سكن غضبه وأحب أن ينظر إلى القصيدة، فأمر العباس بإحضار الرقعة، فتلكأ عليه العباس، فقال له الرشيد: سألتك بحق أمير المؤمنين إلا أمرت بإحضارها، فعلم العباس أنه قد أخطأ وغلط، فأمر بإحضارها، فأحضرت، فأخذها الرشيد وإذا فيها القصيدة بعينها، فاستحسنها واستجادها وأعجب بها وقال: والله ما قال أحد من الشعراء في أحد من الخلفاء مثلها، لقد صدق ربيعة وبر؛ ثم قال للعباس: بم أثبته عليها؟ فسكت العباس وتغير لونه وجرض
124
بريقه، فقال ربيعة: أثابني عليها يا أمير المؤمنين بدينارين، فتوهم الرشيد أنه قال ذلك من الموجدة على العباس، فقال: بحياتي يا رقي بكم أثابك؟ قال: وحياتك يا أمير المؤمنين ما أثابني إلا بدينارين، فغضب الرشيد غضبا شديدا ونظر في وجه العباس وقال: سوءة لك! أي حال قعدت بك عن إثابته؟ الأموال؟ فوالله لقد مولتك جهدي، أم انقطاع المادة عنك؟ فوالله ما انقطعت، أم أصلك؟ فهو الأصل لا يدانيه شيء، أم نفسك فعلت ذلك بك حتى فضحت آباءك وأجدادك وفضحتني ونفسك؟ فنكس العباس رأسه ولم ينطق، فقال الرشيد: يا غلام، أعط ربيعة ثلاثين ألف درهم وخلعة واحمله على بغلة؛ فلما حمل المال بين يديه وألبس الخلعة قال: بحياتي يا رقي لا تذكره في شعرك لا تعريضا ولا تصريحا، وفتر الرشيد عما كان هم به أن يتزوج إليه، وظهر له منه بعد ذلك جفاء كثير واطراح له.
قال أبو بشر: كنت حاضرا ربيعة الرقي يوما وجاءته امرأة فقالت: تقول لك فلانة إن بنت مولاي محمومة فإن كنت تعرف لها عوذة
125
فافعل، فقال اكتب لها أبا بشر هذه العوذة:
ثقوا ثقوا باسم إلهي الذي
لا يعرض السقم لمن قد شفى
أعيذ مولاتي ومولاتها
وابنتها بعوذة المصطفى
من شر ما يعرض من علة
في الصبح والليل إذا أسدفا
فقلت له: يا أبا ثابت، لست أحسن أن أكتب ثقوا ثقوا، فكيف أكتبها؟ قال انضح المداد من رأس القلم في موضعين حتى يكون كالنفث،
126
وادفع العوذة إليها فإنها نافعة، ففعلت ودفعتها إليها، فلم تلبث أن جاءت الجارية وهي لا تتمالك ضحكا، فقالت له: يا مجنون ما فعلت بنا! كدنا نفتضح بما صنعت! قال: فما أصنع! أشاعر أنا أم صاحب تعاويذ!
واتفق للرقي أيضا مثل ذلك مع معن بن زائدة، وقد لقيه في بعض قدماته إلى العراق، فمدحه، فلم يهش له، فهجاه بقصيدة مطلعها:
معن يا معن يابن زائدة الك
لب الذي في الذراع لا في البنان
لا تفاخر إذا فخرت بآبا
ئك وافخر بعمك الحوفزان
127
ومن غزله أبيات يغنى بها، وهي:
وتزعم أني قد تبدلت خلة
128
سواها وهذا الباطل المتقول
لحا الله من باع الصديق بغيره
فقالت نعم حاشاك إن تك تفعل
ستصرم إنسانا إذا ما صرمتني
بحبك فانظر بعده من تبدل (10) الرقاشي
129
كان سهل الشعر مطبوعا، وكان منقطعا إلى آل برمك، مستغنيا بهم عن سواهم، وكانوا يصولون به على الشعراء، ويروون أولادهم أشعاره، ويدونونها القليل والكثير منها، تعصبا له، وحفظا لخدمته، وتنويها باسمه، وتحريكا لنشاطه، فحفظ ذلك لهم. فلما نكبوا صار إليهم في حبسهم، فأقام معهم مدة أيامهم ينشدهم ويسامرهم حتى ماتوا، ثم رثاهم فأكثر من رثائهم؛ فمن ذلك قوله في جعفر:
كم هاتف بك من باك وباكية
يا طيب للضيف إذ تدعى وللجار
إن يعدم القطر كنت المزن بارقه
لمع الدنانير لا ما خيل الساري
وقوله:
لعمرك ما بالموت عار على الفتى
إذا لم تصبه في الحياة المعاير
130
وما أحد حي وإن كان سالما
بأسلم مما غيبته المقابر
ومن كان مما يحدث الدهر جازعا
فلا بد يوما أن يرى وهو صابر
وليس لذي عيش عن الموت مقصر
وليس على الأيام والدهر غابر
وكل شباب أو جديد إلى البلى
وكل امرئ يوما إلى الله صائر
فلا يبعدنك الله عني جعفرا
بروحي ولو دارت علي الدوائر
فآليت لا أنفك أبكيك ما دعت
على فنن ورقاء أو طار طائر
ومن ذلك قوله لما صلب الفضل بن يحيى واجتاز به الرقاشي وهو مصلوب على الجذع، فوقف يبكي ثم قال:
أما والله لولا خوف واش
وعين للخليفة لا تنام
لطفنا حول جذعك واستلمنا
كما للناس بالحجر استلام
فما أبصرت قبلك يابن يحيى
حساما حتفه السيف الحسام
على اللذات والدنيا جميعا
ودولة آل برمك السلام
فكتب أهل الأخبار بذلك إلى الرشيد، فأحضره فقال: ما حملك على ما قلت؟ فقال: يا أمير المؤمنين كان إلي محسنا، فلما رأيته على الحال التي هو عليها حركني إحسانه فما ملكت نفسي حتى قلت الذي قلته؛ قال: وكم كان يجري عليك؟ قال: ألف دينار في كل سنة، قال: إنا قد أضعفناها لك.
ومن قوله يصف جارية:
صفات وحسن أورثا القلب لوعة
تضرم في أحشاء قلب متيم
تمثلها نفسي لعيني فأنثني
عليها بطرف الناظر المتيسم
يحملني حبي لها فوق طاقتي
من الشوق دأب الحائر المتقسم (11) أبو العتاهية
131
قال أحمد بن زهير: سمعت مصعب بن عبد الله يقول: أبو العتاهية أشعر الناس، فقلت له: بأي شيء استحق ذلك عندك؟ فقال بقوله:
تعلقت بآمال
طوال أي آمال
وأقبلت على الدنيا
ملحا أي إقبال
أيا هذا تجهز ل
فراق الأهل والمال
فلا بد من الموت
على حال من الحال
ثم قال مصعب: هذا كلام سهل حق لا حشو فيه ولا نقصان، يعرفه العاقل ويقر به الجاهل. وكان الأصمعي يستحسن قوله:
أنت ما استغنيت عن صا
حبك الدهر أخوه
فإذا احتجت إليه
ساعة مجك فوه
وأنشد له سلم الخاسر:
سكن يبقى له سكن
ما بهذا يؤذن الزمن
نحن في دار يخبرنا
ببلاها ناطق لسن
دار سوء لم يدم فرح
لامرئ فيها ولا حزن
في سبيل الله أنفسنا
كلنا بالموت مرتهن
كل نفس عند ميتتها
حظها من مالها الكفن
إن مال المرء ليس له
منه إلا ذكره الحسن
وقال عبد الله بن عبد العزيز العمري: أشعر الناس أبو العتاهية حيث يقول:
ما ضر من جعل التراب مهاده
ألا ينام على الحرير إذا قنع
وقيل لأبي العتاهية: كيف تقول الشعر؟ قال: ما أردته قط إلا مثل لي، فأقول ما أريد وأترك ما لا أريد. وكان يقول: لو شئت أن أجعل كلامي شعرا كله لفعلت.
حم الرشيد فصار أبو العتاهية إلى الفضل بن الربيع برقعة فيها:
لو علم الناس كيف أنت لهم
ماتوا إذا ما أنت أجمعهم
خليفة الله أنت ترجح بالنا
س إذا ما وزنت أنت وهم
قد علم الناس أن وجهك يغ
ني إذا ما رآه معدمهم
فأنشدها الفضل بن الربيع الرشيد، فأمر بإحضار أبي العتاهية، فما زال يسامره ويحدثه إلى أن برئ، ووصل إليه بذلك السبب مال جليل. وقد حدث ابن الأعرابي بهذا الحديث، فقال له رجل بالمجلس: ما هذا الشعر بمستحق لما قلت؛ قال: ولم؟ قال: لأنه ضعيف؛ فقال ابن الأعرابي، وكان أحد الناس، الضعيف والله عقلك لا شعر أبي العتاهية، ألأبي العتاهية تقول إنه ضعيف الشعر! فوالله ما رأيت شاعرا قط أطبع ولا أقدر على بيت منه، وما أحسب مذهبه إلا ضربا من السحر؛ ثم أنشد له:
قطعت منك حبائل الآمال
وحططت عن ظهر المطي رحالي
ويئست أن أبقى لشيء نلت مم
فيك يا دنيا وأن يبقى لي
فوجدت برد اليأس بين جوانجي
وأرحت من حل ومن ترحال
يأيها البطر الذي هو من غد
في قبره متمزق الأوصال
حذف المنى عنه المشمر في الهدى
وأرى مناك طويلة الأذيال
حيل ابن آدم في الأمور كثيرة
والموت يقطع حيلة المحتال
ما لي أراك لحر وجهك مخلقا
أخلقت يا دنيا وجوه رجال
قست السؤال فكان أعظم قيمة
من كل عارفة جرت بسؤال
فإذا ابتليت ببذل وجهك سائلا
فابذله للمتكرم المفضال
وإذا خشيت تعذرا في بلدة
فاشدد يديك بعاجل الترحال
واصبر على غير الزمان فإنما
فرج الشدائد مثل حل عقال
ثم قال للرجل: هل تعرف أحدا يحسن أن يقول مثل هذا الشعر؟ فقال له الرجل: يا أبا عبد الله، جعلني الله فداءك، إني لم أردد عليك ما قلت، ولكن الزهد مذهب أبي العتاهية، وشعره في المديح ليس كشعره في الزهد؛ فقال: أفليس الذي يقول في المديح:
وهارون ماء المزن يشفي من الصدى
إذا ما الصدى بالريق غصت حناجره
وأوسط بيت في قريش لبيته
وأول عز في قريش وآخره
وزحف له تحكي البروق سيوفه
وتحكي الرعود القاصفات حوافره
إذا حميت شمس النهار تضاحكت
إلى الشمس فيه بيضه ومغافره
إذا نكب الإسلام يوما بنكبة
فهارون من بين البرية ثائره
ومن ذا يفوت الموت والموت مدرك
كذا لم يفت هارون ضد ينافره
فتخلص الرجل من شر ابن الأعرابي بأن قال له: القول كما قلت، وما كنت سمعت له مثل هذين الشعرين، وكتبهما عنه.
قال ثمامة بن أشرس أنشدني أبو العتاهية:
إذا المرء لم يعتق من المال نفسه
تملكه المال الذي هو مالكه
ألا إنما مالي الذي أنا منفق
وليس لي المال الذي أنا تاركه
إذا كنت ذا مال فبادر به الذي
يحق وإلا استهلكته مهالكه
فقلت له: من أين قضيت بهذا؟ فقال: من قول رسوله الله
صلى الله عليه وسلم : «إنما لك من مالك ما أكلت فأفنيت أو لبست فأبليت أو تصدقت فأمضيت». فقلت له: أتؤمن بأن هذا قول رسوله الله
صلى الله عليه وسلم
وأنه الحق؟ قال: نعم؛ قلت: فلم تحبس عندك سبعا وعشرين بدرة في دارك ولا تأكل منها ولا تشرب ولا تزكي ولا تقدمها ذخرا ليوم فقرك وفاقتك؟ فقال: يا أبا معن، والله إن ما قلت لهو الحق، ولكني أخاف الفقر والحاجة إلى الناس؛ فقلت: وبم تزيد حال من افتقر على حالك وأنت دائم الحرص، دائم الجمع، شحيح على نفسك، لا تشتري اللحم إلا من عيد إلى عيد؟ فترك جواب كلامي كله، ثم قال لي: والله لقد اشتريت في يوم عاشوراء لحما وتوابله وما يتبعه بخمسة دراهم؛ فلما قال هذا القول أضحكني حتى أذهلني عن جوابه ومعاتبته، فأمسكت عنه وعلمت أنه ليس ممن شرح الله صدره للإسلام.
زار مرة عمرو بن مسعدة فحجب عنه، فلزم منزله، فاستبطأه عمرو، فكتب إليه:
كسلني اليأس عنك فما أر
فع طرفي إليك من كسل
إني إذا لم يكن أخي ثقة
قطعت منه حبائل الأمل
وكتب إليه مرة أخرى:
مالك قد حلت عن إخائك واس
تبدلت يا عمرو شيمة كدره
إني إذا الباب تاه حاجبه
لم يك عندي في هجره نظره
132
لستم ترجون للحساب ولا
يوم تكون السماء منفطره
لكن لدنيا كالظل بهجتها
سريعة الإنقضاء منشمره
قد كان وجهي لديك معرفة
فاليوم أضحى حرفا من النكره
جلس المهدي للشعراء يوما فأذن لهم، وفيهم بشار وأشجع، وكان أشجع يأخذ عن بشار ويعظمه، وكان في القوم غير هذين أبو العتاهية، قال أشجع: فلما سمع بشار كلام أبي العتاهية قال: يا أخا سليم، أهذا ذلك الكوفي الملقب؟ قلت: نعم، قال: لا جزى الله خيرا من جمعنا معه؛ ثم قال له المهدي: أنشد، فقال: ويحك! أو يستنشد أيضا قبلنا؟ فقلت: قد ترى؛ فأنشد:
ألا ما لسيدتي ما لها
أدلا فأحمل إدلالها
وإلا ففيم تجنت وما
جنيت سقى الله أطلالها
ألا إن جارية للإما
م قد أسكن الحسن سربالها
مشت بين حور قصار الخطا
تجاذب في المشي أكفالها
وقد أتعب الله نفسي بها
وأتعب باللوم عذالها
فقال بشار لأشجع: ويحك يا أخا سليم! ما أدري من أي أمريه أعجب، أمن ضعف، شعره أم من تشبيبه بجارية الخليفة وهو يسمع ذلك بأذنه؟ حتى أتى على قوله:
أتته الخلافة منقادة
إليه تجرر أذيالها
فلم تك تصلح إلا له
ولم يك يصلح إلا لها
ولو رامها أحد غيره
لزلزلت الأرض زلزالها
ولو لم تطعه بنات القلوب
لما قبل الله أعمالها
وإن الخليفة من بغض «لا»
إليه ليبغض من قالها
فقال بشار لأشجع وقد اهتز طربا: ويحك يا أخا سليم، أترى الخليفة لم يطر عن فراشه طربا لما يأتي به هذا الكوفي!
ولما اتهمه منصور بن عمار بالزندقة، لأنه لا يذكر في شعره الجنة والنار وإنما يذكر الموت، قال فيه:
يا واعظ الناس قد أصبحت متهما
إذ عبت منهم أمورا أنت تأتيها
كالملبس الثوب من عري وعورته
للناس بادية ما إن يواريها
فأعظم الإثم بعد الشرك نعلمه
في كل نفس عماها عن مساويها
عرفانها بعيوب الناس تبصرها
منهم ولا تبصر العيب الذي فيها
وقيل له: زعم الناس أنك زنديق، فقال: والله ما ديني إلا التوحيد، فقيل له قل شيئا يتحدث به عنك، فقال:
ألا إننا كلنا بائد
وأي بني آدم خالد
وبدؤهم كان من ربهم
وكل إلى ربه عائد
فيا عجبا كيف يعصي الإل
ه أم كيف يجحده الجاحد
وفي كل شيء له آية
تدل على أنه واحد
وسمع الجاحظ مرة من ينشد أرجوزة أبي العتاهية التي سماها «ذوات الأمثال» حتى أتى على قوله:
يا للشباب المرح التصابي
روائح الجنة في الشباب
فقال للمنشد: قف، ثم قال: انظروا إلى قوله «روائح الجنة في الشباب» فإن له معنى كمعنى الطرب لا يقدر على معرفته إلا القلوب، وتعجز عن ترجمته الألسنة إلا بعد التطويل وإدامة التفكير، وخير المعاني ما كان القلب إلى قبوله أسرع من اللسان إلى وصفه. وهذه الأرجوزة من بدائع أبي العتاهية، ويقال: إن فيها أربعة آلاف مثل، منها قوله:
حسبك مما تبتغيه القوت
ما أكثر القوت لمن يموت
الفقر فيما جاوز الكفافا
من اتقى الله رجا وخافا
هي المقادير فلمني أو فذر
إن كنت أخطأت فما أخطا القدر
لكل ما يؤذي وإن قل ألم
ما أطول الليل على من لم ينم
ما انتفع المرء بمثل عقله
وخير ذخر المرء حسن فعله
إن الفساد ضده الصلاح
ورب جد جره المزاح
من جعل النمام عينا هلكا
مبلغك الشر كباغيه لكا
إن الشباب والفراغ والجده
مفسدة للمرء أي مفسده
يغنيك عن كل قبيح تركه
يرتهن الرأي الأصيل شكه
ما عيش من آفته بقاؤه
نغص عيشا كله فناؤه
يا رب من أسخطنا بجهده
قد سرنا الله بغير حمده
ما تطلع الشمس ولا تغيب
إلا لأمر شأنه عجيب
لكل شيء معدن وجوهر
وأوسط وأصغر وأكبر
من لك بالمحض وكل ممتزج
وساوس في الصدر منه تعتلج
وكل شيء لاحق بجوهره
أصغره متصل بأكبره
ما زالت الدنيا لنا دار أذى
ممزوجة الصفو بألوان القذى
الخير والشر بها أزواج
لذا نتاج ولذا نتاج
من لك بالمحض وليس محض
يخبث بعض ويطيب بعض
لكل إنسان طبيعتان
خير وشر وهما ضدان
إنك لو تستنشق الشحيحا
وجدته أنتن شيء ريحا
والخير والشر إذا ما عدا
بينهما بون بعيد جدا
عجبت حتى غمني السكوت
صرت كأني حائر مبهوت
كذا قضى الله فكيف أصنع
الصمت إن ضاق الكلام أوسع
ومن قول أبي العتاهية في الوحدة والتبرم بالناس:
برمت بالناس وأخلاقهم
فصرت أستأنس بالوحده
ما أكثر الناس لعمري وما
أقلهم في حاصل العده
قال الأصمعي: شعر أبي العتاهية كساحة الملوك، يقع فيها الجوهر والذهب والتراب والخزف والنوى.
كان أبو العتاهية لا يفارق الرشيد في سفر ولا حضر إلا في طريق الحج، وكان يجري عليه في كل سنة خمسين ألف درهم سوى الجوائز والمعاون، فلما قدم الرشيد الرقة لبس أبو العتاهية الصوف وتزهد، وترك حضور المنادمة والقول في الغزل، وأمر الرشيد بحبسه فحبس، فكتب إليه من وقته:
أنا اليوم لي والحمد لله أشهر
يروح علي الهم منكم ويبكر
تذكر أمين الله حقي وحرمتي
وما كنت توليني كذلك يذكر
ليالي تدني منك بالقرب مجلسي
ووجهك من ماء البشاشة يقطر
فمن لي بالعين التي كنت مرة
إلي بها في سالف الدهر تنظر
فلما قرأ الرشيد الأبيات قال: قولوا له: لا بأس عليك؛ فكتب إليه:
أرقت وطار عن عيني النعاس
ونام السامرون ولم يواسوا
أمين الله أمنك خير أمن
عليك من التقى فيه لباس
تساس من السماء بكل بر
وأنت به تسوس كما تساس
كأن الخلق ركب فيه روح
له جسد وأنت عليه راس
أمين الله إن الحبس باس
وقد أرسلت: ليس عليك باس
وكتب إليه أيضا في الحبس:
وكلفتني ما حلت بيني وبينه
وقلت سأبغي ما تريد وما تهوى
فلو كان لي قلبان كلفت واحدا
هواك وكلفت الخلي لما يهوى
فأمر بإطلاقه.
كان الهادي واجدا على أبي العتاهية لملازمته أخاه هارون في خلافة المهدي، فلما ولى موسى الخلافة قال أبو العتاهية يمدحه:
يضطرب الخوف والرجاء إذا
حرك موسى القضيب أو فكر
ما أبين الفضل في مغيب وما
أورد من رأيه وما أصدر
فكم ترى عز عند ذلك من
معشر قوم وذل من معشر
يثمر من مسه القضيب ولو
يمسه غيره لما أثمر
من مثل موسى ومثل والده ال
مهدي أو جده أبي جعفر
فرضي عنه. فلما دخل عليه أنشده:
لهفي على الزمن القصير
بين الخورنق والسدير
إذ نحن في غرف الجنا
ن نعوم في بحر السرور
في فتية ملكوا عنا
ن الدهر أمثال الصقور
ما منهم إلا الجسو
ر على الهوى غير الحصور
يتعاورون مدامة
صهباء من حلب العصير
عذراء رباها شعا
ع الشمس في حر الهجير
لم تدن من نار ولم
يعلق بها وضر القدور
ومقرطق يمشي أما
م القوم كالرشأ الغرير
بزجاجة تستخرج الس
ر الدفين من الضمير
زهراء مثل الكوكب الد
ري في كف المدير
تدع الكريم وليس يد
ري ما قبيل من دبير
ومخصرات زرننا
بعد الهدو من الخدور
ريا رواد فهن يل
بسن الخواتم في الخصور
غر الوجوه محجا
ت قاصرات الطرف حور
متنعمات في النع
يم مضمخات بالعبير
يرفلن في حلل المحا
سن والمجاسد والحرير
ما إن يرين الشمس إلا
القرط من خلل الستور
وإلى أمين الله مه
ربنا من الدهر العثور
وإليه أتعبنا المطا
يا بالرواح وبالبكور
صعر الخدود كأنما
جنحن أجنحة النسور
متسربلات بالظلا
م على السهولة والوعور
حتى وصلن بنا إلى
رب المدائن والقصور
ما زال قبل فطامه
في سن مكتهل كبير
استنشده المأمون أحسن ما قال في الموت فأنشده:
أنساك محياك المماتا
فطلبت في الدنيا الثباتا
أوثقت بالدنيا وأن
ت ترى جماعتها شتاتا
وعزمت منك على الحيا
ة وطولها عزما بتاتا
يا من رأى أبويه في
من قد رأى كانا فماتا
هل فيهما لك عبرة
أم خلت أن لك انفلاتا
ومن الذي طلب التفل
ت من منيته ففاتا
كل تصبحه المني
ة أو تبيته بياتا
دخل أبو العتاهية على المأمون فأنشده:
ما أحسن الدنيا وإقبالها
إذا أطاع الله من نالها
من لم يواس الناس من فضلها
عرض للإدبار إقبالها
فقال له المأمون: ما أجود البيت الأول، فأما الثاني فما صنعت فيه شيئا، الدنيا تدبر عمن واسى منها أو ضن بها، وإنما توجب السماحة بها الأجر والضن بها الوزر، فقال: صدقت يا أمير المؤمنين، أهل الفضل أولى بالفضل وأهل النقص أولى بالنقص، فلما كان بعد أيام عاد فأنشده:
كم غافل أودى به الموت
لم يأخذ الأهبة للفوت
من لم تزل نعمته قبله
زال عن النعمة بالموت
فقال له: أحسنت، طيبت المعنى، وأمر له بعشرين ألف درهم.
كان أبو العتاهية يحج كل سنة، فإذا قدم أهدى إلى المأمون بردا ومطرفا ونعلا سوداء ومساويك أراك، فيبعث إليه بعشرين ألف درهم، فأهدى مرة له كما كان يهدي كل سنة إذا قدم، فلم يثبه ولا بعث إليه بالوظيفة، فكتب إليه أبو العتاهية:
خبروني أن من ضرب السنه
جددا بيضا وصفرا حسنه
أحدثت لكنني لم أرها
مثل ما كنت أرى كل سنه
فأمر المأمون بحمل العشرين الألف وقال: أغفلناه حتى ذكرنا.
أنشد المأمون بيت أبي العتاهية يخاطب سلما الخاسر:
تعالى الله يا سلم بن عمرو
أذل الحرص أعناق الرجال
فقال المأمون: إن الحرص لمفسد للدين والمروءة، والله ما عرفت من رجل قط حرصا ولا شرها فوجدت فيه مصطنعا، فبلغ ذلك سلما فقال: ويلي على الجرار الزنديق جمع الأموال وكنزها وعبأ البدور في بيته ثم تزهد مراءاة ونفاقا، فأخذ يهتف بي إذا تصديت للطلب.
كان الرشيد مما يعجبه غناء الملاحين في الزلالات إذا ركبها، وكان يتأذى بفساد كلامهم ولحنهم، فقال: قولوا لمن معنا من الشعراء: يعملوا لهؤلاء شعرا يغنون فيه، فقيل: ليس أحد أقدر على هذا من أبي العتاهية وهو في الحبس، فوجه إليه الرشيد: قل شعرا حتى أسمعه منهم، ولم يأمر بإطلاقه، فغاظه ذلك وقال: والله لأقولن شعرا يحزنه ولا يسر به، فعمل شعرا ودفعه إلى من حفظه من الملاحين، فلما ركب الحراقة سمعه، وهو:
خانك الطرف الطموح
أيها القلب الجموح
لدواعي الخير والش
ر دنو ونزوح
هل لمطلوب بذنب
توبة منه نصوح
كيف إصلاح قلوب
إنما هن قروح
أحسن الله بنا
إن الخطايا لا تفوح
فإذا المستور منا
بين ثوبيه فضوح
كم رأينا من عزيز
طويت عنه الكشوح
صاح منه برحيل
صائح الدهر الصدوح
موت بعض الناس في الأر
ض على قوم فتوح
سيصير المرء يوما
جسدا ما فيه روح
بين عيني كل حي
علم الموت يلوح
كلنا في غفلة وال
موت يغدو ويروح
لبني الدنيا من الدن
يا غبوق وصبوح
رحن في الوشى وأصبح
ن عليهن المسوح
كل نطاح من الده
ر له يوما نطوح
نح على نفسك يا مس
كين إن كنت تنوح
لتموتن وإن عم
رت ما عمر نوح
فلما سمع ذلك الرشيد جعل يبكي وينتحب، وكان الرشيد من أغزر الناس دموعا في وقت الموعظة، وأشدهم عسفا في وقت الغضب والغلظة؛ فلما رأى الفضل بن الربيع كثرة بكائه أومأ إلى الملاحين أن يسكتوا.
لما عقد الرشيد العهد لبنيه الثلاثة: الأمين والمأمون والمؤتمن، قال أبو العتاهية:
رحلت عن الربع المحيل قعودي
إلى ذي زحوف جمة وجنود
وراع يراعي الليل في حفظ أمة
يدافع عنها الشر غير رقود
بألوية جبريل يقدم أهلها
ورايات نصر حوله وبنود
تجافى عن الدنيا وأيقن أنها
مفارقة ليست بدار خلود
وشد عرى الإسلام منه بفتية
ثلاثة أملاك ولاة عهود
هم خير أولاد لهم خير والد
له خير آباء مضت وجدود
بنو المصطفى هارون حول سريره
فخير قيام حوله وقعود
تقلب ألحاظ المهابة بينهم
عيون ظباء في قلوب أسود
جدودهم شمس أتت في أهلة
تبدت لراء في نجوم سعود
فوصله الرشيد بصلة ما وصل مثلها شاعرا قط. (12) مسلم
133
بن الوليد أحد الشعراء المفلقين والبلغاء المبدعين
قال الشعر في صباه، ولم يتجاوز به الأمراء والرؤساء، مكتفيا بما يناله من قليل العطاء، وينفقه على ملاذه مع إخوانه من خلعاء الشعر، ثم انقطع إلى يزيد بن مزيد الشيباني قائد الرشيد، ثم اتصل بالخليفة هارون الرشيد وعد من شعرائه، ومدحه ومدح البرامكة وحسن رأيهم فيه. ولما أصبح الحل والعقد بيد ذي الرياستين الفضل بن سهل وزير المأمون في أول خلافته قربه وأدناه: لأنه كان من خاصته قبل وزارته، وولاه أعمالا بجرجان اكتسب منها ألف ألف درهم ثم لزم منزله إلى أن أنفقها في اللذات، وعاد إلى الفضل فقلده الضياع بأصبهان فاكتسب منها ألف ألف أيضا. ولما قتل الفضل لزم منزله ونسك ولم يمدح أحدا إلى أن مات بجرجان.
ومسلم أول من تكلف البديع في شعره واستكثر منه في قوله، وسبقه بشار إلى ذلك إلا أنه لم يبلغ شأو مسلم فيه. وقد عد العلماء هذا التصنع والتكلف إفسادا للشعر، إذ قد تبعه في ذلك الشعراء مثل البحتري وأبي تمام وابن المعتز وغيرهم.
وقد مزج مسلم كلام البدويين بكلام الحضريين، فضمنه المعاني اللطيفة، وكساه الألفاظ الظريفة، فله جزالة البدويين، ورقة الحضريين.
لقي مسلم أبا نواس فقال له: ما أعرف لك بيتا إلا فيه سقط؛ قال له: فما تحفظ من ذلك؟ قال: قل أنت ما شئت حتى أريك سقطك فيه؛ فأنشد:
ذكر الصبوح بسحرة فارتاحا
وأمله ديك الصباح صياحا
فقال له مسلم: فلم أمله وهو الذي أذكره وبه ارتاح؟ فقال أبو نواس: فأنشدني شيئا من شعرك ليس فيه خلل؛ فأنشده مسلم:
عاصى الشباب فراح غير مفند
وأقام بين عزيمة وتجلد
فقال له أبو نواس: قد جعلته رائحا مقيما في حالة واحدة وبيت واحد، فتشاغبا وتسابا ساعة. وكلا البيتين صحيح المعنى.
اجتمع أصحاب المأمون عنده يوما فأفاضوا في ذكر الشعر والشعراء، فقال له بعضهم: أين أنت يا أمير المؤمنين من مسلم بن الوليد؟ قال: حيث يقول ماذا؟ قال: حيث يقول وقد رثى رجلا:
أرادوا ليخفوا قبره عن عدوه
فطيب تراب القبر دل على القبر
وحيث مدح رجلا بالشجاعة فقال:
يجود بالنفس إذ ضن الجواد بها
والجود بالنفس أقصى غاية الجود
وهجا رجلا بقبح الوجه والأخلاق فقال:
قبحت مناظره فيحن خبرته
حسنت مناظره لقبح المخبر
وتغازل فقال:
هوى يجد وحبيب يلعب
أنت لقى بينهما معذب
فقال المأمون: هذا أشعر من خضتم اليوم في ذكره.
قال يزيد بن مزيد: أرسل إلي الرشيد يوما في وقت لا يرسل فيه إلى مثلي، فأتيته لابسا سلاحي مستعدا لأمر إن أراده مني، فلما رآني ضحك إلي ثم قال: يا يزيد، خبرني من الذي يقول فيك:
تراه في الأمن في درع مضاعفة
لا يأمن الدهر أن يدعى على عجل
ضافي العنان طموح العين همته
فك العناة وأسر الفاتك الخطل
فقال: لا أعرفه يا أمير المؤمنين، فقال: سوءة لك من سيد قوم يمدح بمثل هذا الشعر ولا يعرف قائله، وقد بلغ أمير المؤمنين فرواه ووصل قائله، وهو مسلم بن الوليد! فانصرفت فدعوت به ووصلته ووليته.
وروي أنه دخل على الرشيد فقال له: يا يزيد، من الذي يقول فيك :
لا يعبق الطيب خديه ومفرقه
ولا يمسح عينيه من الكحل
إذا انتضى سيفه كانت مسالكه
مسالك الموت في الأبدان والقلل
وإن خلت بحديث النفس فكرته
حي الرجاء ومات الخوف من وجل
كالليث إن هجته فالموت راحته
لا يستريح إلى الأيام والدول
فقال: لا أعرف قائله يا أمير المؤمنين، فقال له هارون: أيقال فيك مثل هذا الشعر ولا تعرف قائله! فخرج من عنده خجلا، فلما صار إلى منزله دعا حاجبه فقال له: من بالباب من الشعراء؟ قال: مسلم بن الوليد؛ قال: وكيف حجبته عني، فلم تعلمني بمكانه! فقال: أخبرته أنك مضيق، وأنه ليس في يديك شيء تعطيه إياه، وسألته الإمساك والمقام أياما إلى أن تتسع؛ فأنكر ذلك وقال: أدخله، فأدخله إليه، فأنشده قوله فيه:
أجررت
134
حبل خليع في الصبا غزل
وشمرت همم العذال في عذلي
هاج البكاء على العين الطموح
135
هوى
مفرق بين توديع ومحتمل
كيف السلو لقلب راح مختبلا
يهذي بصاحب قلب غير مختبل
عاصى العزاء غداة البين منهمل
من الدموع جرى في إثر منهمل
لولا مداراة دمع العين لانكشف
مني سرائر لم تظهر ولم تخل
136
أما كفى البين أن أرمى بأسهمه
حتى رماني بلحظ الأعين النجل
مما جنى لي وإن كانت منى صدقت
صبابة خلس التسليم بالمقل
ماذا على الدهر لو لانت عريكته
ورد في الرأس مني سكرة الغزل
جرم الحوادث عندي أنها اختلست
مني بنات غذاء الكرم والكلل
137
ورب يوم من اللذات محتضر
138
قصرته بلقاء الراح والخلل
وليلة خلست للعين من سنة
هتكت فيها الصبا عن بيضة الحجل
قد كان دهري وما بي اليوم من كبر
شرب المدام وعزف القينة العطل
إذا شكوت إليها الحب خفرها
139
شكواي فاحمر خداها من الخجل
كم قد قطعت وعين الدهر راقدة
أيامه بالصبا واللهو والجذل
وطيب الفرع أصفاني مودته
كافأته بمديح فيه منتخل
140
وبلدة لمطايا الركب منضية
141
أنضيتها بوجيف الأنيق الذلل
فيم المقام وهذا النجم
142
معترضا
دنا النجاء وحان السير فارتحل
يا مائل الرأس إن الليث مفترس
ميل الجماجم والأعناق فاعتدل
حذار من أسد ضرغامة بطل
لا يولغ السيف إلا مهجة البطل
لولا يزيد لأضحى الملك مطردا
143
أو مائل السمك أو مسترخي الطول
سل الخليفة سيفا من بني مطر
أقام قائمه من كان ذا ميل
كم صائل في ذرا تمهيد مملكة
لولا يزيد بني شيبان لم يصل
ناب الإمام الذي يفتر عنه إذا
ما افترت الحرب عن أنيابها العصل
من كان يختل قرنا عند موقفه
فإن قرن يزيد غير مختتل
سد الثغور يزيد بعد ما انفرجت
بقائم السيف لا بالختل والحيل
كم قد أذاق حمام الموت من بطل
حامي الحقيقة لا يؤتى من الوهل
أغر أبيض يغشى البيض أبيض لا
يرضى لمولاه يوم الروع بالفشل
يغشى الوغى وشهاب الموت في يده
يرمي الفوارس والأبطال بالشعل
يفتر عند افترار الحرب مبتسما
إذا تغير وجه الفارس البطل
موف على مهج واليوم ذو رهج
كأنه أجل يسعى إلى أمل
ينال بالرفق ما يعيا الرجال به
كالموت مستعجلا يأتي على مهل
لا يلقح الحرب إلا ريث ينتجها
من هالك وأسير غير مختتل
إن شيم بارقه حالت خلائقه
بين العطية والإمساك والعلل
يغشي المنايا المنايا ثم يفرجها
عن النفوس مطلات على الهبل
144
لا يرحل الناس إلا نحو حجرته
كالبيت
145
يضحي إليه ملتقى السبل
يقري المنية أرواح الكماة كما
يقري الضيوف شحوم الكوم والبزل
146
يكسو السيوف دماء الناكثين به
ويجعل الهام تيجان القنا الذبل
يغدو فتغدو المنايا في أسنته
شوارعا تتحدى الناس بالأجل
إذا طغت فئة عن غب طاعتها
عبى لها الموت بين البيض والأسل
قد عود الطير عادات وثقن بها
فهن يتبعنه في كل مرتحل
تراه في الأمن في درع مضاعفة
لا يأمن الدهر أن يدعى على عجل
ضافي العنان طموح العين همته
فك العناة
147
وأسر الفاتك الخطل
لا يعبق الطيب خديه ومفرقه
ولا يمسح عينيه من الكحل
إذا انتضى سيفه كانت مسالكه
مسالك الموت في الأبدان والقلل
وإن خلت بحديث النفس فكرته
حي الرجاء ومات الخوف من وجل
كالليث إن هجته فالموت راحته
لا يستريح إلى الأيام والدول
إن الحوادث لما رمن هضبته
148
أزمعن عن جار شيبان بمنتقل
فالدهر يغبط أولاه أواخره
إذ لم يكن كان في أعصاره الأول
إذا الشريكي
149
لم يفخر على أحد
تكلم الفخر عنه غير منتحل
لا تكذبن فإن الحلم معدنه
وراثة في بني شيبان لم تزل
سلوا السيوف فأغشوا من يحار بهم
خبطا بها غير ما نكل ولا وكل
الزائديون قوم في رماحهم
خوف المخيف وأمن الخائف الوجل
كبيرهم لا تقوم الراسيات له
حلما وطفلهم في هدى مكتهل
اسلم يزيد فما في الدين من أود
إذا سلمت وما في الملك من خلل
أثبت سوق بني الإسلام فاطأدت
150
يوم الخليج وقد قامت على زلل
لولا دفاعك بأس الروم إذ بكرت
عن
151
عترة الدين لم تأمن من الثكل
ويوسف
152
البرم قد صبحت عسكره
بعسكر يلفظ الأقدار ذي زجل
غافصته
153
يوم عبر النهر مهلته
وكان محتجزا في الحرب بالمهل
والمارق ابن طريف
154
قد دلفت له
بعسكر للمنايا مسبل هطل
لما رآك مجدا في منيته
وأن دفعك لا يسطاع بالحيل
شام النزال فأبرقت اللقاء له
مقدم الخطو فيها غير متكل
ماتوا وأنت غليل في صدورهم
وكان سيفك يستشفي من الغلل
لو أن غير شريكي أطاف به
فاز الوليد بقدح الناضل
155
الخصل
وقمت بالدين يوم الرس
156
فاعتدلت
منه قوائم قد أوفت على ميل
ما كان جمعهم لما لقيتهم
إلا كمثل نعام ريع منجفل
تابوا ولو لم يتوبوا من ذنوبهم
لآب جيشك بالأسرى وبالنفل
كم آمن لك نائي الدار ممتنع
أخرجته من حصون الملك والخول
يأبى لك الذم في يوميك إن ذكرا
عضب حسام وعرض غير مبتذل
ومارقين غزاة من بيوتهم
لا ينكلون ولا يؤتون من نكل
خلفت أجسادهم والطير عاكفة
فيها وأقفلتهم هاما مع القفل
فافخر فما لك في شيبان من مثل
كذاك ما لبنى شيبان من مثل
كم مشهد لك لا تحصى مآثره
قسمت فيه كرزق الإنس والخبل
لله من هاشم في أرضه جبل
وأنت وابنك ركنا ذلك الجبل
قد أعظموك فما تدعي لهينة
إلا لمعضلة تستن
157
بالعضل
يا رب مكرمة أصبحت واحدها
أعيت صناديد راموها فلم تنل
تشاغل الناس بالدنيا وزخرفها
وأنت من بذلك المعروف في شغل
أقسمت ما ذب عن جدواك طالبها
ولا دفعت اعتزام الجد بالهزل
يأبى لسانك منع الجود سائله
فما يلجلج بين الجود والبخل
صدقت ظني وصدقت الظنون به
وحط جودك عقد الرحل عن جملي
فقال له يزيد: قد أمرنا لك بخمسين ألف درهم فاقبضها واعذر؛ فخرج الحاجب فقال لمسلم: قد أمرني أن أرهن ضيعة من ضياعه على مائة ألف درهم: خمسون ألفا منها لك وخمسون ألفا لنفقته، فأعطاه إياها. وكتب صاحب الخبر بذلك إلى الرشيد، فأمر ليزيد بمائتي ألف درهم وقال: اقض الخمسين ألفا التي أخذها الشاعر وزده مثلها، وخذ مائة ألف لنفقتك، فافتك ضيعته وأعطى مسلما خمسين ألفا أخرى. ولما أنشده «لا يعبق الطيب» البيت. قال لجاريته: حرم علينا مسلم الطيب.
كان دواد بن يزيد بن حاتم المهلبي يجلس للشعراء في السنة مجلسا واحدا، فيقصدونه لذلك اليوم وينشدونه، فوجه إليه مسلم راويته بقصيدته التي أولها: «لا تدع بي الشوق» فقدم عليه يوم جلوسه للشعراء ولحقه بعقب خروجهم عنه، فتقدم إلى الحاجب وحسر لثامه عن وجهه، ثم قال له: استأذن لي على الأمير؛ قال: ومن أنت؟ قال: شاعر، قال: قد انصرم وقتك وانصرف الشعراء وهو على القيام؛ فقال له: ويحك! إني قد وفدت على الأمير بشعر ما قالت العرب مثله، وكان مع الحاجب أدب يفهم به ما يسمع، فقال: هات حتى أسمع، فإن كان الأمر كما ذكرت أوصلتك إليه؛ فأنشده بعض القصيدة، فسمع شيئا يقصر عنه الوصف، فدخل على دواد فقال له: قدم على الأمير شاعر بشعر ما قيل فيك مثله؛ فقال: أدخل قائله؛ فلما مثل بين يديه سلم وقال: قدمت على الأمير - أعزه الله - بمدح يسمعه فيعلم تقدمي على غيري ممن امتدحه؛ فقال: هات، فلما افتتح القصيدة وقال: «لا تدع بي الشوق» استوى جالسا وأطرق حتى أتى الرجل على آخر الشعر، ثم رفع رأسه إليه فقال: أهذا شعرك ؟ قال: نعم أيها الأمير؛ قال: في كم قلته يا فتى؟ قال: في أربعة أشهر أبقاك الله؛ قال: لو قلته في ثمانية أشهر لكنت محسنا، وقد اتهمتك، لجودة شعرك وخمول ذكرك، فإن كنت قائل هذا الشعر فقد أنظرتك أربعة أشهر في مثله، وأمرت بالإجراء عليك، فإن جئتنا بمثل هذا الشعر وهبت لك مائة ألف درهم وإلا حرمتك، فقال: أو الإقالة أعز الله الأمير، قال: قد أقلتك؛ قال: الشعر لمسلم بن الوليد وأنا راويته والوافد عليك بشعره؛ فقال: أنا ابن حاتم، إنك لما افتتحت شعره فقلت: «لا تدع بي الشوق إني غير معمود» سمعت كلام مسلم يناديني، فأجبت نداءه واستويت جالسا؛ ثم قال: يا غلام، أعطه عشرة آلاف درهم، واحمل الساعة إلى مسلم مائة ألف درهم. وهذه هي القصيدة:
لا تدع بي الشوق إني غير معمود
نهى النهى عن هوى الهيف الرعاديد
158
لو شئت لا شئت راجعت الصبا ومشت
في العيون وفاتتني بمجلود
159
سل ليلة الخيف هل أمضيت آخرها
بالراح تحت نسيم الخرد الغيد
شججتها بلعاب المزن فاغتزلت
160
نسجين من بين محلول ومعقود
كلا الجديدين قد أطعمت حبرته
161
لو آل حي إلى عمر وتخليد
أهلا بوافدة للشيب واحدة
وإن تراءت بشخص غير مودود
لا أجمع الحلم والصهباء قد سكنت
نفسي إلى الماء عن ماء العناقيد
لم ينهني فند
162
عنها ولا كبر
لكن صحوت وغصني غير مخضود
أوفى بي الحلم واقتاد النهى طلقا
شأوي وعفت الصبا من غير تفنيد
إذا تجافت بي الهمات عن بلد
نازعت أرضا ولم أحفل بتمهيد
لا تطبيني
163
المنى عن جهد مطلب
ولا أحول لشيء غير موجود
ومجهل كاطراد السيف محتجز
عن الأدلاء مسجور الصياخيد
تمشي الرياح به حسري مولهة
حيرى تلوذ بأطراف الجلاميد
موقف المتن لا تمضي السبيل به
إلا التخلل ريثا بعد تجهيد
قريته الوخد من خطارة
164
سرح
تفري الفلاة بإرقال وتوخيد
إليك بادرت إسفار الصباح بها
من جنح ليل رحيب الباع ممدود
وبلدة ذات غول لا سبيل بها
إلا الظنون وإلا مسرح السيد
كأن أعلامها والآل يركبها
بدن توافي بها نذر إلى عيد
كلفت أهولها عينا مؤرقة
إليك لولاك لم تكحل بتسهيد
حتى أتتك بي الآمال مطلعا
لليسر عندك في سربال محسود
من بعد ما ألقت الأيام لي عرضا
ملقى رهين
165
لحد السيف مصفود
وساورتني بنات الدهر فامتحنت
ربعي بممحلة
166
شهباء جارود
إلى بني حاتم أدى ركائبنا
خوض الدجى وسرى المهرية القود
تطوي النهار فإن ليل تخمطها
167
باتت تخمط هامات القراديد
مثل السمام
168
بعيدات المقيل إذا
ألقى الهجير يدا في كل صيخود
حلت بداود فامتاحت وأعجلها
حذو النعال على أين وتحريد
169
أعطي فأفنى المنى أدنى عطيته
وأرهق الوعد نجحا غير منكود
والله أطفأ نار الحرب إذ سعرت
شرقا بموقدها في الغرب داود
لم يأت أمرا ولم يظهر على حدث
إلا أعين بتوفيق وتسديد
موحد الرأي تنشق الظنون له
عن كل ملتبس منها ومعقود
تمنى الأمور له من نحو أوجهها
وإن سلكن سبيلا غير مورود
إذا أباحت حمى قوم عقوبته
غادى له العفو قوما بالمراصيد
كالليث بل مثله الليث الهصور إذا
غنى الحديد غناء غير تغريد
يلقى المنية في أمثال عدتها
كالسيل يقذف جلمودا بجلمود
إن قصر الرمح لم يمش الخطا عددا
أو عرد السيف لم يهمم بتعريد
إذا رعى بلدا دانى مناهله
وإن بنين على شحط وتبعيد
جرى فأدرك لم يعنف بمهلته
واستودع البهر
170
أنفاس المجاويد
آل المهلب قوم لا يزال لهم
رق الصريح
171
وأسلاب المذاويد
مظفرون تصيب الحرب أنفسهم
إذا الفرار تمطى بالمحاييد
172
نجل مناجيب لم يعدم تلادهم
فتى يرجى لنقض أو لتوكيد
قوم إذا هدأة
173
شامت سيوفهم
فإنها عقل الكوم المقاحيد
نفسي فداؤك يا دواد إذ علقت
أيدي الردى بنواصي الضمر القود
داويت من دائها كرمان وانتصفت
بك المتون لأقوام مجاهيد
ملأتها فزعا أخلى معاقلها
من كل أبلخ
174
سامي الطرف صنديد
لما نزلت على أدنى بلادهم
ألقى إليك الأقاصي بالمقاليد
لمستهم بيد للعفو متصل
بها الردى بين تليين وتشديد
أتيتهم من وراء الأمن مطلعا
بالخيل تردي بأبطال مناجيد
وطار في إثر من طار الفرار به
خوف يعارضه في كل أخدود
فاتوا الردى وظبات الموت تنشدهم
وأنت نصب المنايا غير منشود
ولو تلبث ديان
175
لها رويت
منه ولكن شآها عدو مزءود
أحرزه أجل ما كاد يحرزه
فمر يطوى على أحشاء مفئود
176
ورأس مهران قد ركبت قلته
لدنا كفاه مكان الليت والجيد
قد كان في معزل حتى بعثت له
أم المنية في أبنائها الصيد
أجن أم أسلمته الفاضحات إلى
حد من السيف من يعلق به يود
ألحقته صاحبيه فاستمر بهم
ضرب يفرق ضبات
177
القماحيد
أعذر
178
من فر من حرب صبرت لها
يوم الحصين شعار غير مجحود
يوم استضبت سجستان
179
طوائفها
عليك من طالب وترا ومحقود
ناهضتهم ذائد الإسلام تقرعهم
عنه ثلاث ومثنى بالمواحيد
تجود بالنفس إذ أنت الضنين بها
والجود بالنفس أقصى غاية الجود
تلك الأزارق إذ ضل الدليل بها
لم يخطها القصد من أسياف داود
كان الحصين يرجى أن يفوز بها
حتى أخذت عليه بالأخاديد
ما زال يعنف بالنعمى ويغمطها
حتى استقل به عود على عود
وضعته حيث ترتاب
180
الرياح به
وتحسد الطير فيه أضبع البيد
تغدو الضواري فترميه بأعينها
تستنشق الجو أنفاسا بتصعيد
يتبعن أفياءه
181
طورا وموقعه
يلغن في علق منه وتجسيد
فكان فارط قوم حان مكرعهم
بأرض زادان شتى في المواريد
يوم جراشة إذ شيبان موجفة
182
ينجون منك بشلو منه مقدود
زاحفته بابن سفيان فكان له
ثناء يوم بظهر الغيب مشهود
نجا قليلا ووافى زجر عائفه
بيومه طير منحوس ومسعود
ولى وقد جرعت منه القنا جرعا
حي المخافة ميتا غير مودود
زالت حشاشته عن صدر معتدل
دانى الكعوب بعيد الصدر أملود
183
إذا السيوف أصابته تقطع في
سرادق بحوامي الخيل ممدود
يفدي بما نحلته من خلافته
حشاشة الركض من جرداء قيدود
184
حل اللواء وخال الخدر عائذه
فعاذ بالخدر ترب الكاعب الرود
وإن يكن شبها حربا وقد خمدت
فنائيا حيث لا هيد ولا هيد
185
كل مثلت به في مثل خطته
قتلا وأضجعته في غير ملحود
عافوا رضاك فعاقتهم بعقوتهم
186
عن الحياة مناياهم لموعود
وأنت بالسند إذ هاج الصريخ بها
واستنفدت حربها كيد المكاييد
واستغزر القوم كأسا من دمائهم
وأحدق الموت بالكرار والحيد
رددت أهمالها
187
القصوى مخيسة
وشمت بالبيض عورات المراصيد
كنت المهلب حتى شك عالمهم
ثم انفردت ولم نسبق بتسويد
لم تقبل السلم إلا بعد مقدرة
ولا تألفت إلا بعد تبديد
حتى أجابوك من مستأمن حذر
راج ومنتظر حتفا ومثمود
أهدي إليك على الشحناء ألفتهم
موت تفرق في شتى عباديد
وفي يديك بقايا من سراتهم
هم لديك على وعد وتوعيد
إن تعف عنهم فأهل العفو أنت وإن
تمض العقاب فأمر غير مردود
اسمع فإنك قد هيجت ملحمة
وفدت منها بأرواح الصناديد
اقذف أبا مالك فيها يكنك بها
ويسع فيها بجد منك مجدود
يمضي بعزمك أو يجري بشأوك أو
يفري بحدك كل غير محدود
لا يعدمنك حمى الإسلام من ملك
أقمت قلته من بعد تأويد
كفيت في الملك حتى لم يقف أحد
على ضياع ولم يحزم لمفقود
أعطيتهم منك نصحا لا كفاء له
وأيدوك بركن غير مهدود
لم يبعث الدهر يوما بعد ليلته
إلا انبعثت له بالبأس والجود
أجرى لك الله أيام الحياة على
فعل حميد وجد غير منكود
لا يفقد الدين خيلا أنت قائدها
يعهدن في كل ثغر غير معهود
محملات إذا آبت غنائمها
ومقدمات على نصر وتأييد
هناك أنك مغدى كل ملتمس
جودا وأنك مأوى كل مطرود
تستأنف الحمد في دهر أوائله
موسومة بفعال منك محمود
إذا عزمت على أمر بطشت به
وإن أنلت فنيلا غير تصريد
عودت نفسك عادات خلقت لها
صدق الحديث وإنجاز المواعيد
دخل الوليد على الفضل بن سهل لينشده شعرا، فقال له: أيها الكهل، إني أجلك عن الشعر فسل حاجتك؛ قال: بل تستتم اليد عندي بأن تسمع، فأنشده:
دموعها من حذار البين تنسكب
وقلبها مغرم من حرها يجب
جد الرحيل به عنها ففارقها
لبينه اللهو واللذات والطرب
يهوى المسير إلى مرو ويحزنه
فراقها فهو ذو نفسين يرتقب
فقال له الفضل: إني لأجلك عن الشعر؛ قال: فأغنني بما أحببت من عملك ، فولاه البريد بجرجان.
188
هجا مسلم قريشا وفخر بالأنصار بشعر يمثل لك ناحية من نواحي العصبية بين القبائل وهو يعتبر، إلى حد ما، من الشعر السياسي، فقال:
قل لمن تاه إذ بنا عز جهلا
ليس بالتيه يفخر الأحرار
فتناهوا وأقصروا فلقد جا
رت عن القصد منكم الأبصار
أيكم حاط ذا جوار بعز
قبل أن تحتويه منا الدار
أو رجا أن يفوت قوما بوتر
لم تزل تمتطيهم الأوتار
لم يكن ذاك فيكم فدعوا الفخ
ر بما لا يسوغ فيه افتخار
ونزارا ففاخروا تفضلوهم
ودعوا من له عبيد نزار
فبنا عز منكم الذل والده
ر عليكم بريبه كرار
حاذروا دولة الزمان عليكم
إنه بين أهله أطوار
فتردوا ونحن للحالة الأو
لى وللأوحد الأذل الصغار
فاخرتنا لما بسطنا لها الفخ
ر قريش وفخرها مستعار
ذكرت عزها وما كان فيها
قبل أن تستجيرنا مستجار
إنما كان عزها في جبال
ترتقيها كما ترقي الوبار
أيها الفاخرون بالعز والع
ز لقوم سواهم والفخار
أخبرونا من الأعز أألمن
صور حتى اعتلى أم الأنصار
فلنا العز قبل عز قريش
وقريش تلك الدهور تجار
فانبرى له ابن قنبر يجيبه فقال:
ألا امثل أمير المؤمنين بمسلم
وأقلق به الأحشاء من كل مجرم
ولا ترجعن عن قتله باستتابة
فما هو عن شتم النبي بمجرم
ولا عن مساواة له ولقومه
قريشا بأصداء لعاد وجرهم
ويفخر بالأنصار جهلا على الذي
بنصرته فازوا بحظ ومغنم
وسموا به الأنصار لا عز قائل
أراد قريشا بالمقام المذمم
ومنهم رسول الله أزكى من انتمى
إلى نسب زاك ومجد مقدم
وما كانت الأنصار قبل اعتصامها
بنصر قريش في المحل المعظم
ولا بالألى يعلون أقدار قومهم
صداء وخولان ولخم وسلهم
ولكنهم بالله عاذوا ونصرهم
قريشا ومن يستعصم الله يعصم
فعزوا وقد كانوا وفطيون فيهم
من الذل من باب من العز مبهم
يسومهم الفطيون ما لا يسامه
كريم ومن لا ينكر الظلم يظلم
وإن قريشا بالمآثر فضلت
على الخلق طرا من فصيح وأعجم
فما بال هذا العلج ضل ضلاله
يمد إليهم كف أجذم أعسم
يسامي قريشا مسلم وهم هم
بمولى يماني وبيت مهدم
إذا قام فيه غيرهم لم يكن لهم
مقام به من لؤم مبنى ومدعم
جعاسيس
189
أشباه القرود لو انهم
يباعون ما ابتيعوا جميعا بدرهم
وما مسلم من هؤلاء ولا ألى
ولكنه من نسل علج ملكم
تولى زمانا غيرهم ثمت ادعى
إليهم فلم يكرم ولما يكرم
فإن يك منهم فالنضير ولفهم
مواليه لا من يدعي بالتزعم
وإن تدعه الأنصار مولى أسمهم
بقافية تستكره الجلد بالدم
عقابا لهم في إفكهم وادعائهم
لأقلف منقوش الذراع موشم
فلا تدعوه وانتفوا منه تسلموا
بنفيكموه من مقال ومأثم
وإلا فغضوا الطرف وانتظروا الردى
إذا اختلفت فيكم صوارد أسهمي
ولم تجدوا عنها مجنا يجنكم
إذا اطلعت من كل فج ومعلم
وأنتم بنو أذناب من أنتم له
ولستم بأبناء السنام المقدم
ولا ببني الرأس الرفيع محله
فيسمو بكم مولى مسام وينتمي
فكيف رضيتم أن يسامى نبيكم
ببيتكم الرث القصير المهدم
سأحطم من سامى النبي تطاولا
عليه وأكوي منتماه بميسمي
أيعدل بيت بثربي بكعبة
ثوتها قريش في المكان المحرم
قريش خيار الله والله خصهم
بذلك فاتعس أيها العلج وارغم
ومن تدعي منه الولاء مؤخر
إذا قيل للجاري إلى المجد أقدم
وكان مسلم قال قصيدته في قريش وكتمها، فوقعت إلى ابن قنبر وأجابه عنها، فاستعلى عليه وهتكه وأغرى به السلطان، فلم يكن عند مسلم في هذا جواب أكثر من الانتفاء منها ونسبتها إلى ابن قنبر والادعاء عليه أنه ألصقها به ونسبها إليه ليعرضه للسلطان وخافه، فقال ينتفي من هذه القصيدة:
دعوت أمير المؤمنين ولم تكن
هناك ولكن من يخف يتجشم
وإنك إذ تدعوا الخليفة ناصرا
لكالمترقي في السماء بسلم
كذاك الصدى تدعوه من حيث لا ترى
وإن تتوهمه تمت في التوهم
هجوت قريشا عامدا ونحلتني
رويدك يظهر ما تقول فيعلم
إذا كان مثلي في قبيلي فإنه
على ابن لؤي قصرة غير متهم
سكشفك التعديل عما قذفتني
به فتأخر عارفا أو تقدم
فإن قريشا لا يغادر ودها
ولا يستمال عهدها بالترحم
مضى سلف منهم وصلى بعقبهم
لنا سلف في الأول المتقدم
جروا فجرينا سابقين بسبقهم
كما اتبعت كف نواشر معصم
وإن الذي يسعى ليقطع بيننا
كملتمس اليربوع في حجر أرقم
أضلك قرع الآبدات طريقها
فأصبحت من عميائها في تهيم
وخانتك عند الجري لما اتبعتها
تميم فحاولت العلا بالتقحم
فأصبحت ترميني بسهمي وتتقي
يدي بيدي أصليت نارك فاضرم
ثم هجاه ابن قنبر بقصيدة أولها:
قل لعبد النضير مسلم الوغ
د الدني اللئيم سنخ النصاب
اخس يا كلب إذ نبحت فإني
لست ممن يجيب نبح الكلاب
أفأرضى ومنصبي منصب الع
ز وبيتي في ذروة الأحساب
أن أحط الرفيع من سمك بيتي
بمهاجاة أوشب الأوشاب
من إذا سيل من أبوه بدا من
ه حياء يحميه رجع الجواب
وإذا قيل حين يقبل من أن
ت ومن تعتزيه في الأنساب
قلت هاجي ابن قنبر فتسربل
ت بذكري فخرا لدى النساب
وهي قصيدة طويلة فلم يجبه عنها مسلم بشيء فقال فيه ابن قنبر أيضا:
لست أنفيك إن سواي نفاكا
عن أبيك الذي له منتماكا
ولماذا أنفيك يابن الوليد
من أب إن ذكرته أخزاكا
ولو اني طلبت ألأم منه
لم أجده إن لم تكن أنت ذاكا
لو سواه أبوك كان جعلنا
ه إذا الناس طاوعونا أباكا
حاك دهرا بغير حذق لبرد
وتحوك الأشعار أنت كذاكا
ثم هجاه بشعر أقذع فيه، فمشى إليه قوم من مشايخ الأنصار واستعانوا بمشيخة من قراء تميم وذوي الفضل والعلم، فمشوا معهم إليه، فقالوا: ألا تستحي من أن تهجو من لا يجيبك! أنت بدأت الرجل فأجابك، ثم عدت فكف، وتجاوزت ذلك إلى ذكر أعراض الأنصار التي كان رسول الله
صلى الله عليه وسلم
يحميها ويذب عنها ويصونها لغير حال أحلت ذلك منهم. فما زالوا به يعظونه ويقولون له كل قول حتى أمسك عن المناقضة لمسلم فانقطعت.
ولمسلم بن الوليد:
وإني وإسماعيل يوم وداعه
لكالغمد يوم الروع فارقه النصل
أما والحبالات الممرات بيننا
وسائل أدتها المودة والوصل
لما خنت عهدا من إخاء ولا نأى
بذكرك نأي عن ضميري ولا شغل
وإني في مالي وأهلي كأنني
لنأيك لا مال لدي ولا أهل
يذكرنيك الدين والفضل والحجا
وقيل الخنا والحلم والعلم والجهل
فألفاك عن مذمومها متنزها
وألقاك في محمودها ولك الفضل
وأحمد من أخلاقك البخل إنه
بعرضك لا بالمال حاشا لك البخل
أمنتجعا مروا بأثقال همة
دع الثقل واحمل حاجة ما لها ثقل
ثناء كعرف الطيب يهدى لأهله
وليس له إلا بني خالد أهل
فإن أغش قوما بعدهم أو أزورهم
فكالوحش يستدنيه للقنص المحل
وله يرثي يزيد بن مزيد:
أحق إنه أودي يزيد
تأمل أيها الناعي المشيد
أتدري من نعيت فكيف فاهت
به شفتاك كان به الصعيد
أحامي المجد والإسلام أودي
فما للأرض ويحك لا تميد
تأمل هل ترى الإسلام مالت
دعائمه وهل شاب الوليد
وهل شميت سيوف بني نزار
وهل وضعت عن الخيل اللبود
وهل تسقي البلاد عشار مزن
بدرتها وهل يخضر عود
أما هدت لمصرعه نزار
بلى وتقوض المجد المشيد
وحل ضريحه إذ حل فيه
طريف المجد والحسب التليد
أما والله ما تنفك عيني
عليك بدمعها أبدا تجود
فإن تجمد دموع لئيم قوم
فليس لدمع ذي حسب جمود
أبعد يزيد تختزن البواكي
دموعا أو تصان لها خدود
لتبكك قبة الإسلام لما
وهت أطنابها ووهى العمود
ويبكك شاعر لم يبق دهر
له نشبا وقد كسد القصيد
فمن يدعو الإمام لكل خطب
ينوب وكل معضلة تئود
ومن يحمي الخميس إذا تعايا
بحيلة نفسه البطل النجيد
فإن تهلك يزيد فكل حي
فريس للمنية أو طريد
ألم تعجب له أن المنايا
فتكن به وهن له جنود
لقد عزى ربيعة أن يوما
عليها مثل يومك لا يعود (13) العباس بن الأحنف
190
قال إبراهيم بن العباس يصفه: كان والله ممن إذا تكلم لم يحب سامعه أن يسكت، وكان فصيحا جميلا ظريف اللسان، لو شئت أن تقول كلامه كله شعر لقلت.
وقال صالح بن عبد الوهاب: كان العباس من عرب خراسان ومنشؤه ببغداد، ولم تزل العلماء تقدمه على كثير من المحدثين، ولا تزال قد ترى له الشيء البارع جدا حتى تلحقه بالمحسنين.
وقال الجاحظ: لولا أن العباس بن الأحنف أحذق الناس وأشعرهم، وأوسعهم كلاما وخاطرا، ما قدر أن يكثر شعره في مذهب واحد لا يجاوزه، لأنه لا يهجو ولا يمدح ولا يتكسب ولا يتصرف، وما نعلم شاعرا لزم فنا واحدا لزومه فأحسن فيه وأكثر.
أنشد الحرمازي للعباس بن الأحنف:
لا جزى الله دمع عيني خيرا
وجزى الله كل خير لساني
نم دمعي فليس يكتم شيئا
ورأيت اللسان ذا كتمان
كنت مثل الكتاب أخفاه طي
فاستدلوا عليه بالعنوان
ثم قال: هذا والله طراز يطلب الشعراء مثله فلا يقدرون عليه.
وكان أبو الهذيل العلاف يبغضه ويلعنه لقوله:
إذا أردت سلوا كان ناصركم
قلبي وما أنا من قلبي بمنتصر
فأكثروا أو أقلوا من إساءتكم
فكل ذلك محمول على القدر
فكان أبو الهذيل يلعنه ويقول: يعقد الكفر والفجور في شعره، فقال العباس - وقال محمد بن يحيى: وأظن أن يهجو به أبا الهذيل وما سمعت للعباس هجاء غيره:
يا من يكذب أخبار الرسول لقد
أخطأت في كل ما تأتي وما تذر
كذبت بالقدر الجاري عليك فقد
أتاك مني بما لا تشتهي القدر
قيل للأصمعي: ما أحسن ما تحفظ للمحدثين؟ قال: قول العباس بن الأحنف:
لو كنت عاتبة لسكن روعتي
أملي رضاك وزرت غير مراقب
لكن مللت فلم تكن لي حيلة
صد الملول خلاف صد العاتب
ومما أنشده له إبراهيم بن العباس:
قالت ظلوم سمية الظلم
مالي رأيتك ناحل الجسم
يا من رمى قلبي فأقصده
أنت العليم بموضع السهم
ولشعره الغزلي، وقع في النفس، فإنهم كانوا يغنون كثيرا منه كقوله:
لو كنت عاتبة لسكن روعتي
أملي رضاك وزرت غير مراقب
لكن مللت فلم تكن لي حيلة
صد الملول خلاف صد العاتب
وأنشد له الأصمعي:
أتأذنون لصب في زيارتكم
فعندكم شهوات السمع والبصر
لا يضمر السوء إن طال الجلوس به
عف الضمير ولكن فاسق النظر
فقال: ما زال هذا الفتى يدخل يده في جرابه فلا يخرج شيئا حتى أدخلها فأخرج هذا، ومن أدمن طلب شيء ظفر ببعضه.
وقال سعيد بن جنيد: ما أعرف أحسن من شعر العباس في إخفاء أمره حيث يقول:
أريدك بالسلام فأتقيهم
فأعمد بالسلام إلى سواك
وأكثر فيهم ضحكي ليخفى
فسني ضاحك والقلب باك
ومما تمثل به الواثق في شر كان بينه وبين بعض جواريه:
عدل من الله أباكني وأضحكها
فالحمد لله عدل كل ما صنعا
اليوم أبكي على قلبي وأندبه
قلب ألح عليه الحب فانصدعا
ومما تمثل به أيضا في مثل ذلك:
أما تحسبيني أرى العاشقين
بلى ثم لست أرى لي نظيرا
لعل الذي بيديه الأمور
سيجعل في الكره خيرا كثيرا
وقال الزبير: ابن الأحنف أشعر الناس في قوله:
تعتل بالشغل عنا ما تكلمنا
الشغل للقلب ليس الشغل للبدن
ويقول: لا أعلم شيئا من أمور الدنيا خيرها وشرها إلا وهو يصلح أن يتمثل فيه بهذا النصف الأخير.
وقال إسحاق: لقد ظرف ابن الأحنف في قوله - يصف طول عهده بالنوم:
قفا خبراني أيها الرجلان
عن النوم إن الهجر عنه نهاني
وكيف يكون النوم أم كيف طعمه
صفا النوم لي إن كنتما تصفان
على قلة إعجابه بمثل هذه الأشعار.
قال أحمد بن إبراهيم: رأيت سلمة بن عاصم ومعه شعر العباس بن الأحنف، وقلت مثلك أعزك الله يحمل هذا! فقال: ألا أحمل شعر من يقول:
أسأت إذ أحسنت ظني بكم
والحزم سوء الظن بالناس
يقلقني الشوق فآتيكم
والقلب مملوء من الياس
وقال أحمد بن إبراهيم: أتاني أعرابي فصيح ظريف، فجعلت أكتب عنه أشياء حسانا، ثم قال: أنشدني لأصحابكم الحضريين، فأنشدته للعباس بن الأحنف:
ذكرتك بالتفاح لما شممته
وبالراح لما قابلت أوجه الشرب
تذكرت بالتفاح منك سوالفا
وبالراح طعما من مقبلك العذب
فقال: هذا عندك وأنت تكتب عني! لا أنشدك حرفا بعد هذا.
وقال عبد الله بن العباس بن الفضل: ما أعرف في العراق أحسن من قول ابن الأحنف:
سبحان رب العلا ما كان أغفلني
عما رمتني به الأيام والزمن
من لم يذق فرقة الأحباب ثم يرى
أثارهم بعدهم لم يدر ما الحزن
قال حسين بن الضحاك: لو جاء العباس بقول ما قاله في بيتين في أبيات لعذر، وهو قوله:
لعمرك ما يستريح المحب
حتى يبوح بأسراره
فقد يكتم المرء أسراره
فتظهر في بعض أشعاره
ثم قال: أما قوله في هذا المعنى الذي لم يتقدمه فيه أحد فهو:
الحب أملك للفؤاد بقهره
من أن يرى للستر فيه نصيب
وإذا بدا سر اللبيب فإنه
لم يبد إلا والفتى مغلوب
وقال أبو العتاهية: ما حسدت أحدا إلا العباس بن الأحنف في قوله:
إذا امتنع القريب فلم تنله
على قرب فذاك هو البعيد
وقال الكندي: العباس بن الأحنف مليح ظريف حكيم جزل في شعره، وكان قليلا ما يرضيني الشعر، فكان ينشد له كثيرا:
ألا تعجبون كما أعجب
حبيب يسيء ولا يعتب
وأبغي رضاه على سخطه
فيأبى علي ويستصعب
فيا ليت حظي إذا ما أسأ
ت أنك ترضى ولا تغضب
وكان إبراهيم الموصلي مشغوفا بشعر العباس فيغني في كثير من شعره، فمما غنى فيه:
وقد ملئت ماء الشباب كأنها
قضيب من الريحان ريان أخضر
هم كتموني سيرهم حين أزمعوا
وقالوا اتعدنا للرواح وبكروا
ومنه:
تمنى رجال ما أحبوا وإنما
تمنيت أن أشكو إليك وتسمعا
أرى كل معشوقين غيري وغيرها
قد استعذبا طول الهوى وتمتعا
ومنه:
بكت عيني لأنواع
من الحزن وأوجاع
وإني كل يوم عن
دكم يحظى بي الساعي
أعيش الدهر إن عشت
بقلب منك مرتاع
وإن حل بي البعد
سينعاني لك الناعي
وقال الواثق لجلسائه: أريد أن أصنع لحنا في شعر معناه أن الإنسان كائنا من كان لا يقدر على الاحتراس من عدوه، فهل تعرفون في هذا شيئا؟ فأنشدوه ضروبا من الأشعار، فقال: ما جئتم بشيء مثل قول العباس بن الأحنف:
قلبي إلى ما ضرني داعي
يكثر أسقامي وأوجاعي
كيف احتراسي من عدوي إذا
كان عدوي بين أضلاعي
أسلمني للحب أشياعي
لما سعى بي عندها الساعي
لقلما أبقى على كل ذا
يوشك أن ينعاني الناعي
ومما غنى فيه من شعره:
أبكي الذين أذاقوني مودتهم
حتى إذا أيقظوني للهوى رقدوا
وقال إبراهيم بن العباس: ما رأيت كلاما محدثا أجزل في رقة، ولا أصعب في سهولة، ولا أبلغ في إيجاز، من قول العباس بن الأحنف:
تعالي نجدد دارس العهد بيننا
كلانا على طول الجفاء ملوم
وأنشد إبراهيم بن العباس للأحنف:
إن قال لم يفعل وإن سيل لم
يبذل وإن عوتب لم يعتب
صب بعصياني ولو قال لي
لا تشرب البارد لم أشرب
إليك أشكو رب ما حل بي
من صد هذا المذنب المغضب
ثم قال: هذا والله الكلام الحسن المعنى، السهل المورد، القريب المتناول، المليح اللفظ، العذب المستمع.
ومما غنى فيه من شعره:
نام من أهدى لي الأرقا
مستريحا سامني قلقا
لو يبيت الناس كلهم
بسهادي بيض الحدقا
كان لي قلب أعيش به
فاصطلى بالحب فاحترقا
أنا لم أرزق مودتكم
إنما للعبد ما رزقا
وقال ابن المعتز: لو قيل: ما أحسن شيء تعرفه لقلت: شعر العباس بن الأحنف:
قد سحب الناس أذيال الظنون بنا
وفرق الناس فينا قولهم فرقا
فكاذب قد رمى بالحب غيركم
وصادق ليس يدري أنه صدقا
ومما تمثل به الفضل بن الربيع في أمر كان بينه وبين إحدى جواريه:
تحمل عظيم الذنب ممن تحبه
وإن كنت مظلوما فقل أنا ظالم
فإنك إلا تغفر الذنب في الهوى
يفارقك من تهوى وأنفك راغم
أنشد مخلد الموصلي قصيدته التي يقول فيها:
كل شيء أقوى عليه ولكن
ليس لي بالفراق منك يدان
فجعل يستحسنه ويردده؛ فقال له عبد الله بن ربيعة الرقي: أنت الفداء لمن ابتدأ هذا المعنى فأحسن فيه حيث يقول - وهو العباس بن الأحنف:
سلبتني من السرور ثيابا
وكستني من الهموم ثيابا
كلما أغلقت من الوصل بابا
فتحت لي إلى المنية بابا
عذبيني بكل شيء سوى الصد
فما ذقت كالصدود عذابا
قال الرياشي - وقد ذكر عنده العباس بن الأحنف: والله لو لم يقل من الشعر إلا هذين البيتين لكفيا:
أحرم منكم بما أقول وقد
نال به العاشقون من عشقوا
صرت كأني ذبالة نصبت
تضيء للناس وهي تحترق
ألف الرشيد العباس بن الأحنف، فلما خرج إلى خراسان طال مقامه بها، ثم خرج إلى أرمينية والعباس معه، فاشتاق إلى بغداد، فعارضه في طريقه، فأنشده:
قالوا خراسان أقصى ما يراد بنا
ثم القفور فقد جئنا خراسانا
ما أقدر الله أن يدني على شحط
سكان دجلة من سكان جيحانا
مضى الذي كنت أرجوه وآمله
أما الذي كنت أخشاه فقد كانا
عين الزمان أصابتنا فلا نظرت
وعذبت بصنوف الهجر ألونا
فقال له الرشيد: قد اشتقت يا عباس، وأذنت لك خاصة، وأمر له بثلاثين ألف درهم.
وقال مصعب الزبيري: العباس بن الأحنف وعمر بن أبي ربيعة ما ابتذلا شعرهما في رغبة ولا رهبة، ولكن فيما أحباه، فلزما فنا واحدا لو لزمه غيرهما ممن يكثر إكثارهما لضعف فيه. (14) ابن مناذر
191
كان ينحو نحو عدي بن زيد في شعره، ويميل إليه ويقدمه، وقد مدح آل برمك وغيرهم. ولما نكبت البرامكة وآلت الوزارة إلى عدوهم الفضل بن الربيع أصبح شعراء البرامكة في خطر، فأراد ابن مناذر أن يتقرب إلى الرشيد طلبا للرزق، فاغتنم ذهابه إلى الحج وتقدم إليه يوم التروية بقصيدة، فلاح البشر في وجه الرشيد؛ فقال الفضل بن الربيع للرشيد: هذا شاعر البرامكة! فعبس الرشيد؛ فقال الفضل: مره أن ينشدك قوله فيهم: أتانا بنو الأملاك من آل برمك؛ فأمره، فاعتذر، فألح عليه، فأنشده هذه القصيدة التي يطري بها البرامكة:
أتانا بنو الأملاك من آل برمك
فيا طيب أخبار ويا حسن منظر
إذا وردوا بطحاء مكة أشرقت
بيحيى وبالفضل بن يحيى وجعفر
فتظلم بغداد ويجلو لنا الدجى
بمكة ما حجوا ثلاثة أقمر
فما صلحت إلا لجود أكفهم
وأرجلهم إلا لأعواد منبر
إذا راض يحيى الأمر ذلت صعابه
وحسبك من راع له ومدبر
ترى الناس إجلالا له وكأنهم
غرانيق
192
ماء تحت باز مصرصر
193
ولما فرغ منها أتبع ذلك قوله: «كانوا أولياءك يا أمير المؤمنين لما مدحتهم» فأمر الرشيد أن يلطم، فلطموه، وأمر أن يسحب، فسحبوه، وخرج لا يلوي على شيء؛ فلقيه أبو نواس فدفع إليه صرة فيها ثلثمائة دينار، وقال له: استعن بهذه واعذرني. ولم يعد ابن مناذر يرى خيرا بعد البرامكة.
قال الحسن بن علي كنا عند باب سفيان بن عيينة وقد هرب منا وعنده الحسن بن علي التختاخ ورجل من أصحاب الرشيد، فخلا بهم وليس يأذن لنا، فجاء ابن مناذر فقرب من الباب ثم رفع صوته فقال:
بعمرو وبالزهري والسلف الألى
بهم ثبتت رجلاك عند المقادم
جعلت طوال الدهر يوما لصالح
ويوما لصباح ويوما لحاتم
وللحسن التختاخ يوما ودونهم
خصصت حسينا دون أهل المواسم
نظرت وطال الفكر فيك فلم أجد
رحاك جرت إلا لأخذ الدراهم
فخرج سفيان وفي يده عصا وصاح: خذوا الفاسق؛ فهرب ابن مناذر منه وأذن لنا فدخلنا.
كان الرشيد قد وصل ابن مناذر مرات صلات سنية، فلما مات الرشيد رثاه بقوله:
من كان يبكي للعلا
ملكا وللهمم الشريفه
فليبك هارون الخلي
فة للخليفة للخليفه
قال علي بن محمد النوفلي: رأيت ابن مناذر في الحج سنة ثمان وتسعين ومائة وهو قد كف بصره تقوده جويرية حرة وهو واقف يشتري ماء قربة، فرأيته وسخ الثوب والبدن، فلما صرنا إلى البصرة أتتنا وفاته في تلك الأيام.
كان يحيى بن زياد يرمى بالزندقة، وكان من أظرف الناس وأنظفهم، فكان يقال: أظرف من الزنديق، وكان الحاركي، واسمه محمد بن زياد، يظهر الزندقة تظارفا؛ فقال فيه ابن مناذر:
يابن زياد يا أبا جعفر
أظهرت دينا غير ما تخفي
مزندق الظاهر باللفظ في
باطن إسلام فتى عف
لست بزنديق ولكنما
أردت أن توسم بالظرف
ومن قوله يرثي سفيان بن عيينة:
يجني من الحكمة نوارها
ما تشتهي الأنفس ألوانا
يا واحد الأمة في علمه
لقيت من ذي العرش غفرانا
راحوا بسفيان على نعشه
والعلم مكسوين أكفانا
إن الذي غودر بالمنحنى
هد من الإسلام أركانا
لا يبعدنك الله من ميت
ورثنا علما وأحزانا
خطب أبو أمية امرأة من ثقيف فرد عنها، وتصدى للقاضي أن يضمنه مالا من أموال اليتامى فلم يجبه إلى ذلك ولم يثق به؛ فقال فيه ابن مناذر:
أبا أمية لا تغضب علي فما
جزاء ما كان فيما بيننا الغضب
إن كان ردك قوم عن فتاتهم
ففي كثير من الخطاب قد رغبوا
قالوا عليك ديون ما تقوم بها
في كل عام بها تستحدث الكتب
وقد تقحم من خمسين غايتها
مع أنه ذو عيال بعد ما انشعبوا
وفي التي فعل القاضي فلا تجدن
فليس في تلك لي ذنب ولا ذنب
أردت أموال أيتام تضمنها
وما يضمن إلا من له نشب
قال له جعفر بن يحيى قل في وفي الرشيد شعرا تصف فيه الألفة بيننا، فقال:
قد تقطع الرحم القريب وتكفر الن
عمى ولا كتقارب القلبين
يدني الهوى هذا ويدني ذا الهوى
فإذا هما نفس ترى نفسين (15) صالح بن عبد القدوس
194
كان متهما بالزندقة، فبلغ إلى المهدي خبر زندقته، فبعث إليه يستقدمه من دمشق، وكان قد رحل إليها وهو شيخ طاعن في السن، فلما جاء بغداد ومثل بين يدي المهدي قال له المهدي: ألست القائل:
والشيخ لا يترك أخلاقه
حتى يوارى في ثرى رمسه
قال: بلى يا أمير المؤمنين! قال: وأنت لا تترك أخلاقك حتى تموت؛ فأمر به، فقتل وصلب على جسر بغداد سنة 167ه. وأكثر شعره في الحكم الفلسفية.
ومن أحاسن أقواله القصيدة التي منها ذلك البيت، وهو يقول فيها:
لا يبلغ الأعداء من جاهل
ما يبلغ الجاهل من نفسه
والشيخ لا يترك أخلاقه
حتى يوارى في ثرى رمسه
إذا ارعوى عاد إلى جهله
كذى الضنا عاد إلى نكسه
وإن من أدبته في الصبا
كالعود يسقى الماء في غرسه
حتى تراه مورقا ناضرا
بعد الذي أبصرت من يبسه
وقوله:
لا يعجبنك من يصون ثيابه
حذر الغبار وعرضه مبذول
ولربما افتقر الفتى فرأيته
دنس الثياب وعرضه مغسول
وكان فيه ميل إلى العزلة والانقطاع عن الناس شأن الفلاسفة؛ ومن ذلك قوله:
أنست بوحدتي ولزمت بيتي
فتم العز لي ونما السرور
وأدبني الزمان فليت أني
هجرت فلا أزار ولا أزور
ولست بقائل ما دمت حيا
أقام الجند أم نزل الأمير
وهو القائل:
إذا لم تستطع شيئا فدعه
وجاوزه إلى ما تستطيع
وله قصيدة حكمية أخلاقية بديعة، وهي التي يقول فيها:
المرء يجمع والزمان يفرق
ويظل يرقع والخطوب تمزق
ولأن يعادي عاقلا خير له
من أن يكون له صديق أحمق
فاربأ بنفسك أن تصادق أحمقا
إن الصديق على الصديق مصدق
وزن الكلام إذا نطقت فإنما
يبدي عقول ذوي العقول المنطق
ومن الرجال إذا استوت أخلاقهم
من يستشار إذا استشير فيطرق
حتى يحل بكل واد قلبه
فيرى ويعرف ما يقول فينطق
لا ألفينك ثاويا في غربة
إن الغريب بكل سهم يرشق
وله منها:
ما الناس إلا عاملان فعامل
قد مات من عطش وآخر يغرق
والناس في طلب المعاش وإنما
بالجد يرزق منهم من يرزق
لو يرزقون الناس حسب عقولهم
ألفيت أكثر من ترى يتصدق
لكنه فضل المليك عليهم
هذا عليه موسع ومضيق
وإذا الجنازة والعروس تلاقيا
ورأيت دمع نوائح يترقرق
سكت الذي تبع العروس مبهتا
ورأيت من تبع الجنازة ينطق
بقي الذين إذا يقولوا يكذبوا
ومضى الذين إذا يقولوا يصدقوا
وله من قصيدته المعروفة بالزينبية:
وابدأ عدوك بالتحية ولتكن
منه زمانك خائفا تترقب
واحذره إن لاقيته متبسما
فالليث يبدو نابه إذ يغضب
إن العدو وإن تقادم عهده
فالحقد باق في الصدور مغيب
وإذا الصديق لقيته متملقا
فهو العدو وحقه يتجنب
لا خير في ود امرئ متملق
حلو اللسان وقلبه يتلهب
يلقاك يحلف أنه بك واثق
وإذا توارى عنك فهو العقرب
يعطيك من طرف اللسان حلاوة
ويروغ منك كما يروغ الثعلب
وصل الكرام وإن رموك بجفوة
فالصفح عنهم والتجاوز أصوب
واختر قرينك واصطفيه تفاخرا
إن القرين إلى المقارن ينسب
إن الغني من الرجال مكرم
وتراه يرجى ما لديه ويرهب
ويبش بالترحيب عند قدومه
ويقام عند سلامه ويقرب
والفقر شين للرجال فإنه
حقا يهون به الشريف الأنسب
واخفض جناحك للأقارب كلهم
بتذلل واسمح لهم إن أذنبوا
ودع الكذوب فلا يكن لك صاحبا
إن الكذوب يشين حرا يصحب
وزن الكلام إذا نطقت ولا تكن
ثرثارة في كل ناد تخطب
واحفظ لسانك واحترز من لفظه
فالمرء يسلم باللسان ويعطب
والسر فاكتمه ولا تنطق به
إن الزجاجة كسرها لا يشعب
وكذاك سر المرء إن لم يطوه
نشرته ألسنة تزيد وتكذب
لا تحرصن فالحرص ليس بزائد
في الرزق بل يشقي الحريص ويتعب
وارع الأمانة والخيانة فاجتنب
واعدل ولا تظلم يطب لك مكسب
وإذا أصابك نكبة فاصبر لها
من ذا رأيت مسلما لا ينكب
وإذا رميت من الزمان بريبة
أو نالك الأمر الأشق الأصعب
فاضرع لربك إنه أدنى لمن
يدعوه من حبل الوريد وأقرب
واحذر مصاحبة اللئيم فإنه
يعدي كما يعدي الصحيح الأجرب
واحذر من المظلوم سهما صائبا
واعلم بأن دعاءه لا يحجب
ولقد نصحتك إن قبلت نصيحتي
والنصح أغلى ما يباع ويوهب (16) سعيد بن وهب
195
كان شاعرا مطبوعا ومات في أيام المأمون، وأكثر شعره في الغزل والتشبيب بالمذكر، وكان مشغوفا بالغلمان والشراب، ثم تنسك وتاب وحج راجلا على قدميه ومات على توبة وإقلاع ومذهب جميل، ومات وأبو العتاهية حي وكان صديقه فرثاه.
أخبر علي بن سليمان الأخفش عن محمد بن مزيد قال: حدثت عن بعض أصحاب أبي العتاهية قال: جاء رجل إلى أبي العتاهية ونحن عنده، فساره في شيء، فبكى أبو العتاهية، فقلنا له: ما قال لك هذا الرجل يا أبا إسحاق فأبكاك؟ فقال - وهو يحدثنا لا يريد أن يقول شعرا:
قال لي مات سعيد بن وهب
رحم الله سعيد بن وهب
يا أبا عثمان أبكيت عيني
يا أبا عثمان أوجعت قلبي
قال: فعجبنا من طبعه، وإنه يحدث فكان حديثه شعرا موزونا.
وكان سعيد بن وهب الشاعر البصري مولى بني سامة قد تاب وتزهد وترك قول الشعر، وكان له عشرة من البنين وعشر من البنات، فكان إذا وجد شيئا من شعره خرقه وأحرقه، وكان امرأ صدق، كثير الصلاة، يزكي في كل سنة عن جميع ما عنده، حتى إنه ليزكي عن فضة كانت على امرأته.
وكان سعيد بن وهب يتعشق غلاما يتشطر يقال له سعيد، فبلغه أنه توعده أن يجرحه، فقال فيه:
من عذيري من سمى
من عذيري من سعيد
أنا باللحم أجاه
ويجاني
196
بالحديد
ونظر سعيد بن وهب إلى قوم من كتاب السلطان في أحوال جميلة، فأنشأ يقول:
من كان في الدنيا له شارة
فنحن من نظارة الدنيا
نرمقها من كثب حسرة
كأننا لفظ بلا معنى
يعلو بها الناس وأيامنا
تذهب في الأرذل والأدنى
وحدث حماد بن إسحاق عن أبيه قال: كان سعيد بن وهب لي صديقا، وكان له ابن يكنى أبا الخطاب من أكيس الصبيان، وأحسنهم وجها وأدبا، فكان لا يكاد يفارقه في كل حال، لشدة شغفه به ورقته عليه، فمات وله عشر سنين، فجزع عليه جزعا شديدا وانقطع عن لذاته، فدخلت إليه يوما لأعاتبه على ذلك وأستعطفه، فحين رأى ذلك في وجهي فاضت دموعه، ثم انتحب حتى رحمته، وأنشدني:
عين جودي على أبي الخطاب
إذ تولى غضا بماء الشباب
لم يقارب ذنبا ولم يبلغ الحن
ث مزجى مطهر الأثواب
فقدته عيني إذا ما سعى أت
رابه من جماعة الأتراب
إن غدا موحشا لداري فقد أص
بح أنس الثرى وزين التراب
أحمد الله يا حبيبي فإني
بك راج منه عظيم الثواب
ثم ناشدني ألا أذاكره بشيء مما جئت إليه، فقمت ولم أخاطبه بحرف.
دخل سعيد بن وهب على الفضل بن يحيى في يوم قد جلس فيه للشعراء، فجعلوا ينشدونه ويأمر لهم بالجوائز حتى لم يبق منهم أحد، فالتفت إلى سعيد بن وهب كالمستنطق؛ فقال له: أيها الوزير، إني ما كنت استعددت لهذه الحال، ولا تقدمت لها عندي مقدمة فأعرفها، ولكن قد حضرني بيتان أرجو أن ينوبا عن قصيدة؛ فقال: هاتهما، فرب قليل أبلغ من الكثير؛ فقال سعيد:
مدح الفضل نفسه بالمعالي
فعلا عن مديحنا بالمقال
أمروني بمدحه قلت كلا
كبر الفضل عن مديح الرجال
قال: فطرب الفضل وقال له: أحسنت والله وأجدت، ولئن قل القول ونزر، لقد اتسع المعنى وكثر، ثم أمر له بمثل ما أعطاه كل من أنشده مديحا يومئذ، وقال: لا خير فيما يجيء بعد بيتيك، وقام من المجلس، وخرج الناس يومئذ بالبيتين لا يتناشدون سواهما.
وحدث الخريمي قال: كان الفضل بن يحيى ينافس أخاه جعفرا وينافسه جعفر، وكان أنس بن أبي شيخ خاصا بجعفر، ينادمه ويأنس به في خلواته، وكان سعيد بن وهب بهذه المنزلة للفضل، فدخلت يوما إلى جعفر ودخل إليه سعيد بن وهب فحدثه وأنشده وتنادر له، وحكى عن المتنادرين وأتى بكل ما يسر ويطرب ويضحك، وجعفر ينظر إليه لا يزيد على ذلك، فلما خرج سعيد من عنده تجاهلت عليه وقلت له: من هذا الرجل الكثير الهذيان؟ قال: أو ما تعرفه؟ قلت: لا؛ قال: هذا سعيد بن وهب صديق أخي أبي العباس وخلصانه وعشيقه؛ قلت: وأي شيء رأى فيه؟ قال: لا شيء والله إلا القذر والبرد والغثاثة، ثم دخلت بعد ذلك إلى الفضل، ودخل أنس بن أبي شيخ فحدث وندر وحكى عن المضحكين وأتى بكل طريفة، فكانت قصة الفضل معه قصة جعفر مع سعيد، فقلت له بعد أن خرج من حضرته: من هذا المبرم؟ قال: أو لا تعرفه؟ قلت: لا؛ قال: هذا أنس بن أبي شيخ صديق أخي الفضل وعشيقه وخاصته، قلت: وأي شيء أعجبه فيه؟ قال: لا أدري والله إلا القذر والبرد وسوء الاختيار؛ قال: وأنا والله أعرف بسعيد وأنس من الناس جميعا، ولكني تجاهلت عليهما وساعدتهما على هواهما.
وحدث عمرو بن بانة قال: كان في جواري رجل من البرامكة، وكانت له جارية شاعرة ظريفة يقال لها حسناء، يدخل إليها الشعراء ويسألونها عن المعاني، فتأتي بكل مستحسن من الجواب؛ فدخل إليها سعيد بن وهب يوما وجلس إليها فحادثها طويلا ثم قال لها بعد ذلك:
حاجيتك يا حسنا
ء في جنس من الشعر
وفيما طوله شبر
وقد يوفى على الشبر
له في رأسه شق
نطوف بالندى يجري
إذا ما جف لم يجر
لدى بر ولا بحر
وإن بل أتى بالع
جب العاجب والسحر
أجيبي لم أرد فحشا
ورب الشفع والوتر
ولكن صغت أبياتا
لها حظ من الزجر
قال: فغضب مولاها وتغير لونه وقال: أتفحش على جاريتي تخاطبها بالخنى؟ فقالت له: خفض عليك، فما ذهب إلى ما ظننت وإنما يعني القلم؛ فسرى عنه، وضحك سعيد وقال: هي أعلم منك بما سمعت. (17) الحسن بن وهب
197
حدث ميمون بن هارون: قال: كنا عند الحسن بن وهب فقال لبنان: غنيني:
أتأذنون لصب في زيارتكم
فعندكم شهوات السمع والبصر
لا يضمر السوء إن طال الجلوس به
عف الضمير ولكن فاسق النظر
قال فضحكت، ثم قال: فأي خير فيه إن كان كذا أو أي معنى؟ فخجل الحسن من بادرتها عليه، وعجبنا من حدة جوابها وفطنتها.
وحدث محمد بن عيسى قال: جاء عبد الله بن العباس بن الفضل بن الربيع إلى الحسن ابن وهب، وعنده بنان جارية محمد بن حماد، وهي نائمة سكرى وهو يبكي عندها، فقال له: ما لك؟ قال: قد كنت نائما فجاءتني فأنبهتني وقالت: اجلس حتى تشرب فجلست، فوالله ما غنت عشرة أصوات حتى نامت، وما شربت إلا قليلا، فتذكرت قول أشعر الناس وأظرفهم العباس بن الأحنف:
أبكي الذين أذاقوني مودتهم
حتى إذا أيقظوني للهوى رقدوا
فأنا أبكي وأنشد هذا البيت.
وحدث محمد بن موسى بن حماد قال: دعا الحسن بن وهب إبراهيم بن العباس فقال له: اركب وأجيئك عشيا فلا تنتظرني بالغداة، فأبطأ عليه، وأسرع الحسن في شربه فسكر ونام، وجاء إبراهيم فرآه على تلك الحال، فدعا بدواة وكتب:
رحنا إليك وقد راحت بك الراح
وأسرعت فيك أوتار وأفراح
وحدث أيضا محمد بن موسى قال: نظر إبراهيم بن العباس الحسن بن وهب وهو مخمور فقال له:
عيناك قد حكتا مبي
تك كيف كنت وكيف كانا
ولرب عين قد أرت
ك مبيت صاحبها عيانا
فأجابه الحسن بن وهب بعشرين بيتا وطالبه بمثلها، فكتب إليه أربعة أبيات وطالبه بأربعين بيتا. وأبيات إبراهيم:
أأبا علي خير قولك ما
حصلت أنجعه ومختصره
ما عندنا في البيع من غبن
للمستقل بواحد عشره
أنا أهل ذلك غير محتشم
أرضى القديم وأقتفي أثره
ها نحن وفيناك أربعة
والأربعون لديك منتظره
وقال عبيد الله بن سليمان: لعمري ما في الكتاب أشعر من أبي إسحاق وأبي علي (يعني عمه الحسن بن وهب).
حدث علي بن يحيى قال: قلت لإسحاق بن إبراهيم الموصلي، وقد جرى ذكر أحمد بن يحيى المكي: يا أبا محمد، لو كان أبو جعفر أحمد بن يحيى المكي مملوكا كم كان يساوي؟ فقال: أخبرك عن ذلك، انصرفت ليلة من دار الواثق، فاجتزت بدار الحسن بن وهب فدخلت إليه، فإذا أحمد عنده، فلما قام لصلاة العشاء الآخرة قال لي الحسن بن وهب: وكم يساوي أحمد لو كان مملوكا؟ قلت: يساوي عشرين ألف دينار. قال: ثم رجع فغنى صوتا، فقال لي الحسن بن وهب: يا أبا محمد، أضعفها. قال: ثم تغنى صوتا آخر، فقلت للحسن: يا أبا علي أضعفها، ثم أردت الانصراف فقلت لأحمد غنني:
لولا الحياء وأن السير من خلقي
إذن قعدت إليك الدهر لم أقم
أليس عندك سكر للتي جعلت
ما ابيض من قادمات الرأس كالحمم
فغناه أحمد بن يحيى المكي فأحسن فيه كل الإحسان، فلما قمت للانصراف قلت للحسن: يا أبا علي، أضعف الجميع، فقال له أحمد: ما هذا الذي أسمعكما تقولانه ولست أدري ما معناه؟ قال نحن نبيعك ونشتريك منذ الليلة وأنت لا تدري.
وحدث محمد بن موسى قال: كان أبو تمام يعش غلاما خزريا للحسن بن وهب، وكان الحسن يتعشق غلاما روميا لأبي تمام، فرآه أبو تمام يوما يعبث بغلامه، فقال له: والله لئن أعنقت
198
إلى الروم لنركضن إلى الخزر؛ فقال له الحسن: لو شئت حكمتنا واحتكمت؛ فقال له أبو تمام: أنا أشبهك بداود عليه السلام وأشبه نفسي بخصمه؛ فقال الحسن: لو كان هذا منظوما خفناه، فأما وهو منثور فلا، لأنه عارض لا حقيقة له؛ فقال أبو تمام:
أبا علي بصرف الدهر والغير
وبالحوادث والأيام فاعتبر
199
أذكرتني أمر داود وكنت فتى
مصرف القلب في الأهواء والفكر
أعندك الشمس لم يحظ المغيب بها
وأنت مضطرب الأحشاء للقمر
إن أنت لم تترك السير الحثيث إلى
جآذر الروم أعنقنا إلى الخزر
إن القطوب له منى محل هوى
يحل مني محل السمع والبصر
ورب أمنع منه جانبصا وحمى
أمسى وتكته مني على خطر
جردت فيه جنود العزم فانكشفت
عنه غيابته عن فجرة هدر
سبحان من سبحته كل جارحة
ما فيك من طمحان العين بالنظر
أنت المقيم فما تغدو رواحله
وفعله أبدا منه على سفر
وحدث وهب بن سعيد قال: جاء دعبل إلى الحسن بن وهب في حاجة بعد موت أبي تمام، فقال له رجل في المجلس: يا أبا علي، أنت الذي تطعن على من يقول:
شهدت لقد أقوت مغانيكم بعدي
ومحت كما محت وشائع من برد
وأنجدتم من بعد إتهام داركم
فيا دمع أنجدني على ساكني نجد
فصاح دعبل: أحسن والله! وجعل يردد:
فيا دمع أنجدني على ساكني نجد
ثم قال: رحمه الله، لو كان ترك لي شيئا من شعره لقلت: إنه أشعر الناس.
وحدث أحمد بن عبيد الله بن ناصح قال: قلت لدعبل وقد عرض علي قصيدة له يمدح بها الحسن بن وهب أولها:
أعاذلتي ليس الهوى من هوانيا
فقلت له: ويحك أتقول فيه هذا بعد قولك:
أين محل الحي يا حادي
خبر سقاك الرائح الغادي
وبعد قولك:
قالت سلامة أين المال قلت لها
المال ويحك لاقى الحمد فاصطحبا
وبعد قولك:
فعلى أيماننا يجري الندى
وعلى أسيافنا تجري المهج
والله إني أراك لو أنشدته إياها لأمر لك بصفع؛ فقال: صدقت والله، ولقد نبهتني وحذرتني، ثم مزقها.
وحدث محمد بن موسى قال: أنشدني الحسن بن وهب لمحمد بن عبد الملك أبياتا يرثي بها سكرانة أم ابنه عمر، وجعل الحسن يتعجب من جودتها ويقول:
يقول لي الخلان لو زرت قبرها
فقلت وهل غير الفؤاد لها قبر
على حين لم أحدث فأجهل قدرها
ولم أبلغ السن التي معها الصبر
وحدث محمد بن يزيد قال: دامت الأمطار ب «سر من رأى»، فتأخر الحسن بن وهب عن محمد بن عبد الملك الزيات، وهو يومئذ وزير والحسن يكتب له، فاستبطأه محمد، فكتب إليه الحسن يقول:
أوجب العذر في تراخي اللقاء
ما توالى من هذه الأنواء
لست أدري ماذا أقول وأشكو
من سماء تعوقني عن سماء
غير أني أدعو على تلك بالثك
ل وأدعو لهذه بالبقاء
فسلام الإله أهديه غضا
لك مني يا سيد الوزراء
وحدث محمد بن موسى قال: اعتل الحسن بن وهب فتأخر عن محمد بن عبد الملك أياما كثيرة، فلم يأته رسوله، ولا تعرف خبره، فكتب إليه الحسن قوله:
أيهذا الوزير أيدك الل
ه وأبقاك لي بقاء طويلا
أجميلا تراه يا أكرم النا
س لكيما أراه أيضا جميلا
إنني قد أقمت عشرا عليلا
ما ترى مرسلا إلي رسولا
إن يكن موجب التعمد في الص
حة منا علي منك طويلا
فهو أولى يا سيد الناس برا
وافتقادا لمن يكون عليلا
فلماذا تركتني عرضة الظن
من الحاسدين جيلا فجيلا
ألذنب؟ فما علمت سوى الشك
ر قرينا لنيتي ودخيلا
أم ملال؟ فما علمتك للصا
حب مثلي على الزمان ملولا
قد أتى الله بالشفاء فما أع
رف مما أنكرت إلا قليلا
وأكلت الدراج وهو غذاء
أفلت علتي عليه أفولا
بعد ما كنت قد حملت من العل
لة عبئا على الطباع ثقيلا
ولعلي قدمت قبلك آتي
ك غدا إن وجدت فيه سبيلا
فأجابه محمد بن عبد الملك:
دفع الله عنك نائبة الده
ر وحاشاك أن تكون عليلا
أشهد الله ما علمت وما ذا
ك من العذر جائزا مقبولا
ولعمري أن لو علمت فلازم
تك حولا لكان عندي قليلا
إنني أرتجي وإن لم يكن ما
كان مما نقمت إلا جليلا
أن أكون الذي إذا أضمر الإخ
لاص لم يلتمس عليه كفيلا
ثم لا يبذل المودة حتى
يجعل الجهد دونها مبذولا
فإذا قال كان ما قال إذ كا
ن بعيدا من طبعه أن يقولا
فاجعلن لي إلى التعلق بالعذ
ر سبيلا إن لم أجد لي سبيلا
فقديما ما جاد بالصفح والعف
و وما سامح الخليل الخليلا
وكتب محمد بن عبد الملك إلى الحسن بن وهب وقد تأخر عنه:
قالوا جفاك فلا عهد ولا خبر
ماذا تراه دهاه قلت أيلول
شهر تجذ حبال الوصل فيه فما
عقد من الوصل إلا وهو محلول
وكان محمد قد ندبه لأن يخرج في أمر مهم فأجابه الحسن فقال:
إني بحول امرئ أعليت رتبته
فحظه منك تعظيم وتبجيل
وأنت عدته في نيل همته
وأنت في كل ما يهواه مأمول
ما غالني عنك أيلول بلذته
وطيبه ولنعم الشهر أيلول
الليل لا قصر فيه ولا طول
والجو صاف وظهر الكأس مرحول
والعود مستنطق عن كل معجبة
يضحى بها كل قلب وهو متبول
لكن توقع وشك البين عن بلد
تحله فوكاء العين محلول
ما لي إذا شمرت بي عنك مبتكرا
دهم البغال أو الهوج المراسيل
إلا رعاياتك اللاتي يعود بها
حد الحوادث عني وهو مفلول
وكان الحسن بن وهب يساير محمدا على مسناة،
200
فعدل عن المسناة لئلا يضيق لمحمد الطريق، فظن محمد أنه أشفق على نفسه من المسناة، فعدل عنها ولم يساعده على طريقه، وظن بنفسه أن يصيبها ما يصيبه، فقال له محمد:
قد رأيناك إذ تركت المسنا
ة وحاذيتني يسار الطريق
ولعمري ما ذاك منك وقد جد
بك الجد من فعال الشفيق
فقال له الحسن:
إن يكن خوفي الحتوف أراني
أن تراني مشبها بالعقوق
فلقد جارت الظنون على المش
فق والظن مولع بالشفيق
عذر السيد الأجل وقد سا
ر على الخوف من يمين الطريق
فأخذت الشمال بقيا على السي
د إذ هالني سلوك المضيق
إن عندي مودة لك حازت
ما حوى عاشق من المعشوق
طود عز خصصت منه ببر
صار قدري به مع العيوق
وبنفسي وإخوتي وأبي البر
وعمي وأسرتي وصديقي
من إذا ما روعت أمن روعي
وإذا ما شرقت سوغ ريقي
وحدث المبرد قال: استسقى الحسن بن وهب من محمد بن عبد الملك نبيذا ببلد الروم وهو مع المعتصم، فسقاه وكتب إليه:
لم تلق مثلي صاحبا
أندى يدا وأعم جودا
يسقى النديم بقفرة
لم يسق فيها الماء عودا
صفراء صافية كأن
بكأسها درا نضيدا
وأجود حين أجود لا
حصرا بذاك ولا بليدا
وإذا استقل بشكرها
أوجبت بالشكر المزيدا
خذها إليك كأنما
كسيت زجاجتها عقودا
واجعل عليك بأن تقو
م بشكرها أبدا عهودا
ومن جيد شعره قوله:
بأبي كرهت النار لما أوقدت
فعرفت ما معناك في إبعادها
هي ضرة لك بالتماع ضيائها
وبحسن صورتها لدى إيقادها
وأرى صنيعك بالقلوب صنيعها
بسيالها وأراكها وعرادها
شركتك في كل الأمور بحسنها
وضيائها وصلاحها وفسادها
ومات الحسن بن وهب فرثاه أخوه سليمان بن وهب:
مضى مذ مضى عز المعالي وأصبحت
لالي الحجا والقول ليس لها نظم
وأضحى نجى الفكر بعد فراقه
إذا هم بالإفصاح منطقه كظم
وكتب الحسن بن وهب يشكر:
من شكرك على درجة رفعته إليها، أو ثروة أقدرته عليها، فإن شكري لك على مهجة أحييتها، وحشاشة أبقيتها، ورمق أمسكت به، وقمت بين التلف وبينه؛ فلكل نعمة من نعم الدنيا حد تنتهي إليه، ومدى يوقف عنده، وغاية من الشكر يسمو إليها الطرف، خلا هذه النعمة التي فاقت الوصف، وأطالت الشكر وتجاوزت قدره، وأتت من وراء كل غاية؛ رددت عنا كيد العدو وأرغمت أنف الحسود، فنحن نلجأ منك إلى ظل ظليل، وكنف كريم، فكيف يشكر الشاكر، وأين يبلغ جهده المجتهد. (18) أشجع السلمي
201
كان متصلا بالبرامكة وله فيهم أشعار كثيرة، منها قوله في يحيى بن خالد وكان قد غاب:
قد غاب يحيى فما أرى أحدا
يأنس إلا بذكره الحسن
أوحشت الأرض حين فارقها
من الأيادي العظام والمنن
لولا رجاء الإياب لانصدعت
قلوبنا بعده من الحزن
وقال أيضا:
رأيت بغاة الخير في كل وجهة
لغيبة يحيى مستكينين خضعا
فإن يمس من في الرقتين مؤملا
لأوبة يحيى نحوها متطلعا
فما وجه يحيى وحده غاب عنهم
ولكن يحيى غاب بالخير أجمعا
وقال فيه أيضا:
إذا غاب يحيى عن بلاد تغيرت
وتشرق إن يحتلها فتطيب
وإن فعال الخير في كل بلدة
إذا لم يكن يحيى بها لغريب
وقال فيه حين اعتل:
لقد قرعت شكاة أبي علي
قلوب معاشر كانت صحاحا
فإن يدفع لنا الرحمن عنه
صروف الدهر والأجل المتاحا
فقد أمسى صلاح أبي علي
لأهل الأرض كلهم صلاحا
إذا ما الموت أخطأه فلسنا
نبالي الموت حيث غدا وراحا
وهو القائل:
ليس للحاجات إلا
من له وجه وقاح
ولسان طرمذار
202
وغدو ورواح
إن أكن أبطأ الحا
جة عني فاللحاح
فعلي الجهد فيها
وعلى الله النجاح
ويستجاد له في مدح الرشيد:
وصلت يداك السيف يوم تقطعت
أيدي الرجال وزلت الأقدام
وعلى عدوك يابن عم محمد
رصدان ضوء الصبح والإظلام
فإذا تنبه رعته وإذا غفا
سلت عليه سيوفك الأحلام
ويستجاد له أيضا قوله:
غدا يتفرق أهل الهوى
ويكثر باك ومسترجع
وتختلف الأرض بالظاعنين
وجوها تشد
203
ولا تجمع
وتفنى الطلول ويبقى الهوى
ويصنع ذو الشوق ما يصنع
وأنت تبكي وهم جيرة
فكيف يكون إذا ودعوا
أتطمع في العيش بعد الفراق
فبئس لعمرك ما تطمع
وفيها يقول في جعفر بن يحيى:
بديهته مثل تدبيره
متى هجته فهو مستجمع
إذا هم بالأملا لم يثنه
هجوع ولا شادن أفرع
ففي كفه للغنى مطلب
وللسر في صدره موضع
وكم قائل إذ رأى بهجتي
وما في فضول الغنى أصنع
غدا في ظلال ندى جعفر
يجر ثياب الغنى أشجع
وما خلفه لامرئ مطمع
ولا دونه لامرئ مقنع
وهو القائل في محمد بن منصور بن زياد يرثيه:
أنعى فتى الجود إلى الجود
ما مثل من أنعى بموجود
أنعى فتى أصبح معروفه
منتشرا في البيض والسود
أنعى فتى مص الثرى بعده
بقية الماء من العود
قد ثلم الدهر به ثلمة
جانبها ليس بمسدود
أنعى فتى كان ومعروفه
يملأ ما بين ذرى البيد
فأصبحا بعد تساميهما
قد جمعا في بطن ملحود
ألآن نخشى عثرات الندى
وعدوة البخل على الجود
ويستجاد له قوله في إبراهيم بن عثمان بن نهيك وكان صاحب شرط الرشيد وكان جبارا عبوسا:
في سيف إبراهيم خوف واقع
بذوي النفاق وفيه أمن المسلم
ويبيت يكلأ والعيون هواجع
مال المضيع ومهجة المستسلم
جعل الخطام بأنف كل مخالف
حتى استقام له الذي لم يخطم
لا يصلح السلطان إلا شدة
تغشى البرى بفضل ذنب المجرم
ومن الولاة مقحم لا يتقي
والسيف تقطر شفرتاه من الدم
منعت مهابتك النفوس حديثها
بالأمر تكرهه وإن لم تعلم
وقال لأخيه:
أبت غفلات قلبك أن تروحا
وكأس لا تزايلها صبوحا
كأنك لا ترى حسنا جميلا
بعينك يا أخي إلا قبيحا
ويستجاد له قوله في الرشيد:
لا زلت تنشر أعيادا وتطويها
تمضي بها لك أيام وتثنيها
مستقبلا جدة الدنيا وبهجتها
أيامها لك نظم في لياليها
العيد والعيد والأيام بينهما
موصولة لك لا تفنى وتفنيها
وليهنك النصر والأيام مقبلة
إليك بالفتح معقودا نواصيها
ويستجاد له قوله يمدح إسماعيل بن صبيح:
له نظر لا يغمض الأمر دونه
تكاد ستور الغيب عنه تمزق
وهو القائل:
وما ترك المداح فيك مقالة
ولا قال إلا دون ما فيك قائل
وقال أيضا:
مضى ابن سعيد حين لم يبق مشرق
ولا مغرب إلا له فيه مادح
وما كنت أدري ما فواضل كفه
على الناس حتى غيبته الصفائح
204
فأصبح في لحد من الأرض ميتا
وكانت به حيا تضيق الصحاصح
205
سأبكيك ما فاضت دموعي فإن تغض
فحسبك مني ما تجن الجوانح
206
فما أنا من رزء وإن جل جازع
ولا بسرور بعد موتك فارح
كأن لم يمت حي سواك ولم يقم
على أحد إلا عليك النوائح
لئن حسنت فيك المراثي وذكرها
لقد حسنت من قبل فيك المدائح (19) علي بن الجهم
كان علي بن الجهم
207
قد هجا بختيشوع، فسبه عند المتوكل فحبسه المتوكل. فقال علي بن الجهم في حبسه عدة قصائد كتب بها إلى المتوكل، فأطلقه بعد سنة ثم نفاه بعد ذلك إلى خراسان . فقال أول ما حبس قصيدة كتب بها إلى أخيه، أولها قوله:
توكلنا على رب السماء
وسلمنا لأسباب القضاء
ووطنا على غير الليالي
نفوسا سامحت بعد الإباء
وأفنية الملوك محجبات
وباب الله مبذول الفناء
هي الأيام تكلمنا وتأسو
وتأتي بالسعادة والشقاء
وما يجدي الثراء على غني
إذا ما كان محظور العطاء
حلبنا الدهر أشطره ومرت
بنا عقب الشدائد والرخاء
وجربنا وجرب أولونا
فلا شيء أعز من الوفاء
ولم ندع الحياء لمس ضر
وبعض الضر يذهب بالحياء
ولم نحزن على دنيا تولت
ولم نسبق إلى حسن العزاء
توق الناس يابن أبي وأمي
فهم تبع المهافة والرجاء
ولا يغررك من وغد إخاء
لأمر ما غدا حسن الإخاء
ألم تر مظهرين علي عتبا
وهم بالأمس إخوان الصفاء
فلما أن بليت غدوا وراحوا
علي أشد أسباب البلاء
أبت أخطارهم أن ينصروني
بمال أو بجاه أو ثراء
وخافوا أن يقال لهم خذلتم
صديقا فادعوا قدم الجفاء
تظافرت الروافض والنصارى
وأهل الإعتزال على هجائي
وعابوني وما ذنبي إليهم
سوى علمي بأولاد الزناء
فبختيشوع يشهد لابن عمرو
وعزون لهارون المرائي
وما الجذماء بنت أبي سمير
بجذماء اللسان على الخناء
إذا ما عد مثلكم رجالا
فما فضل الرجال على النساء
عليكم لعنة الله ابتداء
وعودا في الصباح وفي المساء
إذا سميتم للناس قالوا
أولئك شر من تحت السماء
أنا المتوكلي هوى ورأيا
وما بالواثقية من خفاء
وما حبس الخليفة لي بعار
وليس بمؤيسي منه التنائي
كان سبب حبس المتوكل علي بن الجهم أن جماعة من الجلساء سعوا به إليه وقالوا له: إنه يخمش الخدم ويغمزهم، وإنه كثير الطعن عليك والعيب لك والإزراء على أخلاقك، ولم يزالوا به يوغرون صدره عليه حتى حبسه، ثم أبلغوه عنه أنه هجاه، فنفاه إلى خراسان وكتب بأن يصلب إذا وردها يوما إلى الليل، فلما وصل إلى الشاذياخ حبسه طاهر بن عبد الله بن طاهر بها، ثم أخرج فصلب يوما إلى الليل مجردا ثم أنزل، فقال في ذلك:
لم ينصبوا بالشاذياخ عشية
الإثنين مسبوقا ولا مجهولا
نصبوا بحمد الله ملء قلوبهم
شرفا وملء صدروهم تبجيلا
ما ازداد إلا رفعة بنكوله
وازدادت الأعداء عنه نكولا
هل كان إلا الليث فارق غيله
فرأيته في محمل محمولا
لا يأمن الأعداء من شداته
شدا يفصل هامهم تفصيلا
ما عابه أن بز عنه لباسه
فالسيف أهول ما يرى مسلولا
إن يبتذل فالبدر لا يزري به
إن كان ليلة تمه مبدولا
أو يسلبوه المال يحزن فقده
ضيفا ألم وطارقا ونزيلا
أو يحبسوه فليس يحبس سائر
من شعره يدع العزيز ذليلا
إن المصائب ما تعدت دينه
نعم وإن صعبت عليه قليلا
والله ليس بغافل عن أمره
وكفى بربك ناصرا ووكيلا
ولتعلمن إذا القلوب تكشفت
عنها الأكنة من أضل سبيلا
وكتب المتوكل إلى طاهر بن عبد الله بإطلاق علي بن الجهم، فلما أطلقه قال:
أطاهر إني عن خراسان راحل
ومستخبر عنها فما أنا قائل
أأصدق أم أكني عن الصدق أيما
تخيرت أدته إليك المحافل
وسارت به الركبان واصطفقت به
أكف قيان واجتبته القبائل
وإني بعالي الحمد والذم عالم
بما فيهما نامي الرمية ناضل
وحقا أقول الصدق إني لمائل
إليك وإن لم يحظ بالود مائل
ألا حرمة ترعى ألا عقد ذمة
لجار ألا تعمل لقول مشاكل
ألا منصف إن لم نجد متفضلا
علينا ألا قاض من الناس عادل
فلا تقطعن غيظا علي أناملا
فقبلك ما عضت علي الأنامل
أطاهر إن تحسن فإني محسن
إليك وإن تبخل فإني باخل
فقال له طاهر: لا تقل إلا خيرا، فإني لا أفعل بك إلا ما تحب، فوصله وحمله وكساه.
وقال علي بن الجهم للمتوكل:
عفا الله عنك! ألا حرمة
تجود بعفوك أن أبعدا
لئن جل ذنب ولم أعتمد
لأنت أجل وأعلى يدا
ألم تر عبدا عدا طوره
ومولى عفا ورشيدا هدى
ومفسد أمر تلافيته
فعاد فأصلح ما أفسدا
أقلني أقالك من لم يزل
يقيك ويصرف عنك الردى
وأحسن شعر قاله في الحبس قصيدته التي أولها:
قالوا حبست فقلت ليس بضائري
حبسي وأي مهند لا يغمد
أو ما رأيت الليث يألف غيله
كبرا وأوباش السباع تردد
والشمس لولا أنها محجوبة
عن ناظريك لما أضاء الفرقد
والبدر يدركه السرار فتنجلي
أيامه وكأنه متجدد
والغيث يحصره الغمام فما يرى
إلا وريقه يراع ويرعد
والزاعبية لا يقيم كعوبها
إلا الثقاف وجذوة تتوقد
والنار في أحجارها مخبوءة
لا تصطلي إن لم تثرها الأزند
والحبس ما لم تغشه لدنية
شنعاء نعم المنزل المتودد
بيت يجدد للكريم كرامة
ويزار فيه ولا يزور ويحمد
لو لم يكن في الحبس إلا أنه
لا يستذلك بالحجاب الأعبد
كم من عليل قد تخطاه الردى
فنجا ومات طبيبه والعود
يا أحمد بن أبي دواد إنما
تدعى لكل عظيمة يا أحمد
أبلغ أمير المؤمنين ودونه
خوض الردى ومخاوف لا تنفد
أنتم بنو عم النبي محمد
أولى بما شرع النبي محمد
ما كان من كرم فأنتم أهله
كرمت مغارسكم وطاب المحتد
أمن السوية يابن عم محمد
خصم تقربه وآخر تبعد
إن الذين سعوا إليك بباطل
حساد نعمتك التي لا تجحد
شهدوا وغبنا عنهم فتحكموا
فينا، وليس كغائب من يشهد
لو يجمع الخصماء عندك مجلس
يوما لبان لك الطريق الأقصد
فبأي جرم أصبحت أعراضنا
نهبا تقسمها اللئيم الأوغد
خرج علي بن الجهم إلى الشأم في قافلة فخرجت عليهم الأعراب في خساف،
208
فهرب من كان في القافلة من المقاتلة وثبت علي بن الجهم، فقالتهم قتالا شديدا وثاب الناس إليه فدفعهم ولم يحظوا بشيء. فقال في ذلك:
صبرت ومثلي صبره ليس ينكر
وليس على ترك التقحم يعذر
غريزة حر لا اختلاق تكلف
إذا خام
209
في يوم الوغى المتصبر
ولما رأيت الموت تهفو بنوده
وبانت علامات له ليس تنكر
وأقبلت الأعراب من كل جانب
وثار عجاج أسود اللون أكدر
بكل مشيح
210
مستميت مشمر
يجول به طرف أقب مشمر
بأرض خساف حين لم يك دافع
ولا مانع إلا الصفيح المذكر
فقلل في عيني عظيم جموعهم
عزيمة قلب فيه ما جل يصغر
بمعترك فيه المنايا حواسر
ونار الوغى بالمشرفية تسعر
فما صنت وجهي عن ظبات سيوفهم
ولا انحزت عنهم والقنا تتكسر
ولم أك في حر الكريهة محجما
إذا لم يكن في الحرب للورد مصدر
إذا ساعد الطرف الفتى وجنانه
وأسمر خطي وأبيض مبتر
فذاك وإن كان الكريم بنفسه
إذا اصطلت الأبطال في النقع عسكر
منعتهم من أن ينالوا قلامة
وكنت شجاهم والأسنة تقطر
وتلك سجايانا قديما وحادثا
بها عرف الماضي وعز المؤخر
أبت لي قروم أنجبتني أن أرى
وإن جل خطب خاشعا أتضجر
أولئك آل الله فهر بن مالك
بهم يجبر العظم الكسير ويكسر
هم المنكب العالي على كل منكب
سيوفهم تفني وتغني وتفقر
كان علي بن الجهم يعاشر جماعة من فتيان بغداد لما أطلق من حبسه ورد من النفي، وكانوا يتقاينون ببغداد ويلزمون منزل مغن بالكرخ يقال له المفضل، فقال فيه علي بن الجهم:
نزلنا بباب الكرخ أطيب منزل
على محسنات من قيان المفضل
فلابن سريج والغريض ومعبد
بدائع في أسماعنا لم تبدل
أوانس ما للضيف منهن حشمة
ولا ربهن بالجليل المبجل
يسر إذا ما الضيف قل حياؤه
ويغفل عنه وهو غير مغفل
ويكثر من ذم الوقار وأهله
إذا الضيف لم يأنس ولم يتبذل
ولا يدفع الأيدي المريبة غيرة
إذا نال حظا من لبوس ومأكل
ويطرق إطراق الشجاع مهابة
ليطلق طرف الناظر المتأمل
أشر بيد واغمز بطرف ولا تخف
رقيبا إذا ما كنت غير مبخل
وأعرض عن المصباح والهج بمثله
فإن همد المصباح فادن وقبل
وسل غير ممنوع وقل غير مسكت
ونم غير مذعور وقم غير معجل
لك البيت ما دامت هداياك جمة
وكنت مليا بالنبيذ المعسل
فبادر بأيام الشباب فإنها
تقضى وتفنى والغواية تنجلي
ودع عنك قول الناس أتلف ماله
فلان فأضحى مدبرا غير مقبل
هل الدهر إلا ليلة طرحت بنا
أواخرها في يوم لهو معجل
سقى الله باب الكرخ من متنزه
إلى قصر وضاح فبركة زلزل
مساحب أذيال القيان ومسرح ال
حسان ومثوى كل خرق معذل
لو ان امرأ القيس بن حجر يحلها
لأقصر عن ذكر الدخول وحومل
إذن لرأى أن يمنح الود شادنا
مقصر أذيال القنا غير مسيل
إذا الليل أدنى مضجعي منه لم أقل «عقرت بعيري يا امرأ القيس فانزل»
دخل علي بن الجهم يوما على عبد الله بن طاهر في غداة من غدوات الربيع وفي السماء غيم رقيق، والمطر يجيء قليلا ويسكن قليلا، وقد كان عبد الله عزم على الصبوح فغاضبته حظية له، فتنغص عليه عزمه وفتر، فخبر علي بن الجهم بالخبر وقيل له: قل في هذا المعنى لعله ينشط للصبوح؛ فدخل عليه فأنشده:
أما ترى اليوم ما أحلى شمائله
صحو وغيم وإبراق وإرعاد
كأنه أنت يا من لا شبيه له
وصل وهجر وتغريب وإبعاد
فباكر الراح واشربها معتقة
لم يدخر مثلها كسرى ولا عاد
واشرب على الروض إذ لاحت زخارفه
زهر ونور وأوراق وأوراد
كأنما يومنا فعل الحبيب بنا
بذل وبخل وإيعاد وميعاد
وليس يذهب عني كل فعلكم
غي ورشد وإصلاح وإفساد
فاستحسن الأبيات وأمر له بثلثمائة دينار وحمله وخلع عليه.
لما أطلق عبد الله بن طاهر علي بن الجهم من الحبس أقام معه بالشاذياخ مدة، فخرجوا يوما إلى الصيد. واتفق لهم مرج كثير الطير والوحش وكانت أيام الزعفران، فاصطادوا صيدا كثيرا حسنا، وأقاموا يشربون على الزعفران، فقال علي بن الجهم يصف ذلك:
وطئنا رياض الزعفران وأمسكت
علينا البزاة البيض حمر الدرارج
211
ولم تحمها الأدغال منا وإنما
أبحنا حماها بالكلاب البوارج
بمستروحات سابحات بطونها
على الأرض أمثال السهام الزوالج
212
ومستشرفات بالهوادي كأنها
وما عقفت منها رءوس الصوالج
ومن دالعات ألسنا فكأنها
لحى من رجال خاضعين كواسج
فلينا بها الغيطان فليا كأنها
أنامل إحدى الغانيات الحوالج
فقل لبغاة الصيد هل من مفاخر
بصيد وهل من واصف أو مخارج
قرنا بزاة بالصقور وحومت
شواهيننا من بعد صيد الروامج
213
لما فلج ابن أبي دواد شمت به علي بن الجهم وأظهر ذلك له وقال فيه:
لم يبق منك سوى خيالك لامعا
فوق الفراش ممهدا بوساد
فرحت بمصرعك البرية كلها
من كان منهم موقنا بمعاد
كم مجلس لله قد عطلته
كي لا يحدث فيه بالإسناد
ولكم مصابيح لنا أطفأتها
حتى نزول عن الطريق الهادي
ولكم كريمة معشر أرملتها
ومحدث أوثقت في الأقياد
إن الأساري في السجون تفرجوا
لما أتتك مواكب العواد
وغدا لمصرعك الطبيب فلم يجد
شيئا لدائك حيلة المرتاد
فذق الهوان معجلا ومؤجلا
والله رب العرش بالمرصاد
لا زال فالجك الذي بك دائبا
وفجعت قبل الموت بالأولاد
ومن جيد شعره قوله:
نطق الهوى بجوى هو الحق
وملكتني فليهنك الرق
رفقا بقلبي يا معذبه
رفقا وليس لظالم رفق
وإذا رأيتك لا تكلمني
ضاقت علي الأرض والأفق
وله أيضا:
يا رحمة للغريب بالبلد النا
زح ماذا بنفسه صنعا
فارق أحبابه فما انتفعوا
بالعيش من بعده وما انتفعا (20) علي بن جبلة
قال المأمون يوما لبعض جلسائه: أقسم على أن حضر ممن يحفظ قصيدة علي بن جبلة
214
الأعمى في القاسم بن عيسى إلا أنشدنيها؛ فقال له بعض الجلساء: قد أقسم أمير المؤمنين ولا بد من إبرار قسمه، وما أحفظها ولكنها مكتوبة عندي؛ قال: قم فجئني بها، فمضى وأتاه بها وأنشده إياها، وهي:
ذاد ورد الغي عن صدره
وارعوى واللهو من وطره
وأبت إلا البكاء له
ضحكات الشيب في شعره
ندمي أن الشباب مضى
لم أبلغه مدى أشره
وانقضت أيامه سلما
لم أجد حولا على غيره
حسرت عني بشاشته
وذوى المحمود من ثمره
ودم أهدرت من رشأ
لم يرد عقلا على هدره
فأتت دون الصبا هنة
قلبت فوقي على وتره
جارتا ليس الشباب لمن
راح محنيا على كبره
ذهبت أشياء كنت لها
صارها
215
حلمي إلى صوره
دع جدا قحطان أو مضر
في يمانيه وفي مضره
وامتدح من وائل رجلا
عصر الآفاق في عصره
المنايا في مناقبه
والعطايا في ذرا حجره
ملك تندى أنامله
كانبلاج النوء عن مطره
مستهل عن مواهبه
كابتسام الروض عن زهره
جبل عزت مناكبه
أمنت عدنان في ثغره
إنما الدنيا أبو دلف
بين مبداه ومحتضره
فإذا ولى أبو دلف
ولت الدنيا على أثره
لست أدري ما أقول له
غير أن الأرض في خفره
يا دواء الأرض إن فسدت
ومديل اليسر من عسره
كل من في الأرض من عرب
بين باديه إلى حضره
مستعير منك مكرمة
يكتسيها يوم مفتخره
وفيها يقول:
وزحوف في صواهله
كصياح الحشر في أثره
قدته والموت مكتمن
في مذاكيه ومشتجره
فرمت حقويه منه يد
طوت المنشور من نظره
زرته والخيل عابسة
تحمل البؤسى على عقره
خارجات تحت رايتها
كخروج الطير من وكره
وعلى النعمان عجبت به
عوجة ذادته عن صدره
غمط النعمان صفوتها
فرددت الصفو في كدره
ولقرقور أدرت رحا
لم تكن ترتد في فكره
قد تأنيت البقاء له
فأبى المحتوم من قدره
وطغى حتى رفعت له
خطة شنعاء من ذكره
فغضب المأمون واغتاظ، وقال: لست لأبي إن لم أقطع لسانه أو أسفك دمه.
وكان يمدح حميد بن عبد الحميد، فلما سمع حميد هذا في أبي دلف قال: أي شيء بقيت لنا بعد هذا من مدحك؟ فقال:
إنما الدنيا حميد
وأياديه الجسام
فإذا ولى حميد
فعلى الدنيا السلام
وهو القائل في حميد:
دجلة تسقي وأبو غانم
يطعم من تسقي من الناس
والناس جسم وإمام الهدى
رأس وأنت العين في الراس
وقال للحسن بن سهل:
أعطيتني يا ولي الحق مبتدئا
عطية كافأت مدحي ولم ترني
ما شمت برقك حتى نلت ريقه
كأنما كنت بالجدوى تبادرني
وهو القائل في حميد:
إلى أكرم قحطان
وصلنا السهب بالسهب
إلى مجتمع النيل
وملقى أرحل الركب
حميد مفزع الأم
ة في الشرق وفي الغرب
كأن الناس جسم وه
و منه موضع القلب
إذا سالم أرضا غ
نيت آمنة السرب
وإن حاربها حلت
بها راغية السقب
إذا لاقى رعيل المو
ت بالشطبة والشطب
وبالماذية الخضر
وبالهندية القضب
غدا مجتمع القلب
له جند من الرعب
فيا فوز الذي والى
ويا بؤسى أخى الذنب
أيا ذا الجود فاسلم ما
جرت حقب إلى حقب
فأنت الغيث في السلم
وأنت الموت في الحرب
وأنت الجامع الفار
ق بين البعد والقرب
بك الله تلافى النا
س بعد العثر والنكب
ورد البيض والبيض
إلى الأغماد والحجب
بإقدامك في الحرب
وإطعامك في اللزب
فكم أمنت من خوف
وكم أشغبت من شغب
وكم أصلحت من خطب
وكم أيمت من خطب
وما تمهرها إلا
دراك الطعن والضرب
تناهت بك قحطان
إلى الغاية والحسب
ففاتت شرف الأحيا
ء فوت الرأس للعجب
216
ومما أسرف فيه فكفر أو قارب الكفر قوله في أبي دلف:
أنت الذي تنزل الأيام منزلها
وتنقل الدهر من حال إلى حال
وما مددت مدى طرف إلى أحد
إلا قضيت بأرزاق وآجال
تزور سخطا فتسمى البيض راضية
وتستهل فتبكي أوجه المال
وقال فيها:
كأن خيلك في أثناء غمرتها
أرسال قطر تهامى فوق أرسال
يخرجن من غمرات الموت سامية
نشر الأنامل من ذي القرة الصالي
وقال أيضا:
جلاء مشيب نزل
وأنش شباب رحل
طوى صاحب صاحبا
كذاك اختلاف الدول
أعاذلتي أقصري
كفاك المشيب العذل
بدا بدلا بالشبا
ب ليت الشباب البدل
جلال ولكنه
تحاماه حور المقل
وقد كان حميد ركب يوم عيد في جيش عظيم لم ير مثله، فقال علي بن جبلة يصف ذلك:
غدا بأمير المؤمنين ويمنه
أبو غانم غدو الندى والسحائب
وضاقت فجاج الأرض عن كل موكب
أحاط به مستعليا للمواكب
كأن سمو النقع والبيض فوقهم
سماوة ليل قرنت بالكواكب
فكان لأهل العيد عيد بنسكهم
وكان حميد عيدهم بالمواهب
ولولا حميد لم تبلج عن الندى
يمين ولم يدرك غنى كسب كاسب
ولو ملك الدنيا لما كان سائل
ولا اعتام فيها صاحب فضل صاحب
له ضحكة تستغرق المال بالندى
على عبسة تشجي القنا بالترائب
ذهبت بأيام العلا فاردا بها
وصرمت عن مسعاك شأو المطالب
وعدلت ميل الأرض حتى تعدلت
فلم ينأ منها جانب فوق جانب
بلغت بأدنى الحزم أبعد قطرها
كأنك منها شاهد كل غائب
شخص علي بن جبلة إلى عبد الله بن طاهر إلى خراسان، وقد مدحه فأجزل صلته، واستأذنه في الرجوع فسأله أن يقيم، وكان بره يتصل عنده؛ فلما طال مقامه اشتاق إلى أهله فدخل إليه فأنشده:
راعه الشيب إذ نزل
وكفاه من العذل
وانقضت مدة الصبا
وانقضى اللهو والغزل
قد لعمري دملته
بخضاب فما اندمل
فابك للشيب إذ بدا
لا على الربع والطلل
وصل الله للأمي
ر عرى الملك فاتصل
ملك عزمه الزما
ن وأفعاله الدول
كسروي، بمجده
يضرب الضارب المثل
وإلى ظل عزه
يلجأ الخائف الوجل
كل خلق سوى الإما
م لإنعامه خول
ليته حين جاد لي
بالغنى جاد بالقفل
فضحك وقال: أبيت إلا أن توحشنا، وأجزل صلته وأذن له.
دخل علي بن جبلة العكوك على حميد الطوسي في أول يوم من شهر رمضان، فأنشده:
جعل الله مدخل الصوم فوزا
لحميد ومتعة في البقاء
فهو شهر الربيع للقراء
وفراق الندمان والصهباء
وأنا الضامن الملي لمن عا
قرها مفطرا بطول الظماء
وكأني أرى الندامى على الخس
ف يرجون صبحهم بالمساء
قد طوى بعضهم زيارة بعض
واستعاضوا مصاحفا بالغناء
وفيها يقول:
بحميد - وأين مثل حميد -
فخرت طيء على الأحياء
جوده أظهر السماحة في الأر
ض وأغنى المقوى عن الإقواء
ملك يأمل العباد نداه
مثل ما يأملون قطر السماء
صاغه الله مطعم الناس في الأر
ض وصاغ السحاب للإسقاء
فأمر له بخمسة آلاف درهم، وقال: استعن بهذه على نفقة صومك؛ ثم دخل إليه ثاني شوال فأنشده:
عللاني بصفو ما في الدنان
واتركا ما يقوله العاذلان
واسبقا فاجع المنية بالعي
ش فكل على الجديدين فاني
عللاني بشربة تذهب اله
م وتنفي طوارق الأحزان
والقيا في مسامع سدها الصو
م رقى الموصلي أو دحمان
قد أتانا شوال فاقتبل العي
ش وأعدى قسرا على رمضان
نعم عون الفتى على نوب الده
ر سماع القيان والعيدان
وكئوس تجري بماء كروم
ومطي الكئوس أيدي القيان
من عقار تميت كل احتشام
وتسر الندمان بالندمان
وكأن المزاج يقدح منها
شررا في سبائك العقيان
فاشرب الراح واعص من لام فيها
إنها نعم عدة الفتيان
واصحب الدهر بارتحال وحل
لا تخف ما يجره الحادثان
حسب مستظهر على الدهر ركنا
بحميد ردءا من الحدثان
ملك يقتني المكارم كنزا
وتراه من أكرم الفتيان
خلقت راحتاه للجود والبأ
س وأمواله لشكر اللسان
ملكته على العباد معد
وأقرت له بنو قحطان
أريحي الندا جميل المحيا
يده والسماح معتقدان
وجهه مشرق إلى معتفيه
ويداه بالغيث تنفجران
جعل الدهر بين يوميه قسمي
ن بعرف جزل وحر طعان
فإذا سار بالخميس لحرب
كل عن نص جريه الخافقان
وإذا ما هززته لنوال
ضاق عن رحب صدره الأفقان
غيث جدب إذا أقام ربيع
يتغشى بالسيب كل مكان
يا أبا غانم بقيت على الده
ر وخلدت ما جرى العصران
ما نبالي إذا عدتك المنايا
من أصابت بكلكل وجران
قد جعلنا إليك بعث المطايا
هربا من زماننا الخوان
وحملنا الحاجات فوق عتاق
ضامنات حوائج الركبان
ليس جود وراء جودك ينتا
ب ولا يعتفي لغيرك عاني
فأمر له بعشر آلاف درهم، وقال: تلك كانت للصوم فخففت وخففنا، وهذه للفطر فقد زدتنا وزدناك.
ولما مات حميد الطوسي رثاه بقصيدته العينية المشهورة التي تعد من نادر الشعر وبديعه، وهي:
أللدهر تبكي أم على الدهر تجزع
وما صاحب الأيام إلا مفجع
ولو سهلت عنك الأسى كان في الأسى
عزاء معز للبيب ومقنع
تعز بما عزيت غيرك إنها
سهام المنايا حائمات ووقع
أصبنا بيوم في حميد لو انه
أصاب عروش الدهر ظلت تضعضع
وأدبنا ما أدب الناس قبلنا
ولكنه لم يبق للصبر موضع
ألم تر للأيام كيف تصرمت
به، وبه كانت تذاد وتدفع
وكيف التقى مثوى من الأرض ضيق
على جبل كانت به الأرض تمنع
ولما انقضت أيامه انقضت العلا
وأضحى به أنف الندى وهو أجدع
وراح عدو الدين جذلان ينتحي
أماني كانت في حشاه تقطع
وكان حميد معقلا ركعت به
قواعد ما كانت على الضيم تركع
وكنت أراه كالرزايا رزئتها
ولم أدر أن الخلق تبكيه أجمع
حمام رماه من مواضع أمنه
حمام، كذاك الخطب بالخطب يقدع
وليس بغرو أن تصيب منية
حمى أختها أو أن يذل الممنع
لقد أدركت فينا المنايا بثأرها
وحلت بخطب وهيه ليس يرقع
نعاء حميدا للسرايا إذا غدت
تذاد بأطراف الرماح وتوزع
وللمرهق المكروب ضاقت بأمره
فلم يدر في حوماتها كيف يصنع
وللبيض خلتها البعول ولم يدع
لها غيره داعي الصباح المفزع
كأن حميدا لم يقد جيش عسكر
إلى عسكر أشياعه لا تروع
ولم يبعث الخيل المغيرة بالضحى
مراحا ولم يرجع بها وهي ظلع
رواجع يحملن النهاب ولم تكن
كتائبه إلا على النهب ترجع
هوى جبل الدنيا المنيع وغيثها ال
مريع وحاميها الكمي المشيع
وسيف أمير المؤمنين ورمحه
ومفتاح باب الخطب والخطب أفظع
فأقنعه من ملكه ورباعه
ونائله قفر من الأرض بلقع
على أي شجو تشتكي النفس بعده
إلى شجوه أو يذخر الدمع مدمع
ألم تر أن الشمس حال ضياؤها
عليه وأضحى لونها وهو أسفع
وأوحشت الدنيا وأودى بهاؤها
وأجدب مرعاها الذي كان يمرع
وقد كانت الدنيا به مطمئنة
فقد جعلت أوتادها تتقلع
بكى فقده روح الحياة كما بكى
نداه الندى وابن السبيل المدفع
وفارقت البيض الخدور وأبرزت
عواطل حسري بعده لا تقنع
وأيقظ أجفانا وكان لها الكرى
ونامت عيون لم تكن قبل تهجع
ولكنه مقدار يوم ثوى به
لكل امرئ منه نهال ومشرع
وقد رأب الله الملا بمحمد
وبالأصل ينمي فرعه المتفرع
أغر، على أسيافه ورماحه
تقسم أنفال الخميس وتجمع
حوى عن أبيه بذل راحته الندى
وطعن الكي والزاعبية شرع
هوامش
المجلد الثالث
باب المنثور
(1) نصوص كتب الأمين والمأمون
1
نص كتاب الأمين إلى المأمون؛ وهو الكتاب الذي أشرنا إليه في الجزء الأول: إذا ورد عليك كتاب أخيك - أعاذه الله من فقدك - عند حلول ما لا مرد له ولا مدفع، مما قد أخلف وتناسخ الأمم الخالية، والقرون الماضية، بما عزاك الله به. واعلم أن الله جل ثناؤه، قد اختار لأمير المؤمنين أفضل الدارين، وأجزل الحظين، فقبضه الله طاهرا زاكيا، قد شكر سعيه، وغفر ذنبه، إن شاء الله. فقم في أمرك قيام ذي الحزم والعزم، والناظر لأخيه ونفسه، وسلطانه وعامة المسلمين. وإياك أن يغلب عليك الجزع، فإنه يحبط الأجر، ويعقب الوزر، وصلوات الله على أمير المؤمنين حيا وميتا، وإنا لله وإنا إليه راجعون. وخذ البيعة على من قبلك، من قوادك وجندك، وخاصتك وعامتك، لأخيك ثم لنفسك، ثم للقاسم ابن أمير المؤمنين، على الشريطة التي جعلها لك أمير المؤمنين: من نسخها له وإثباتها، فإنك مقلد من ذاك، ما قلدك الله وخليفته.
وأعلم من قبلك رأيى في صلاحهم، وسد خلتهم، والتوسعة عليهم؛ فمن أنكرته عند بيعته، أو اتهمته على طاعته، فابعث إلي برأسه مع خبره. وإياك وإقالته، فإن النار أولى به. واكتب إلى عمال ثغورك، وأمراء أجنادك، بما طرقك من المصيبة بأمير المؤمنين؛ وأعلمهم أن الله لم يرض الدنيا له ثوابا، حتى قبضه إلى روحه وراحته وجنته، مغبوطا محمودا، قائدا لجميع خلفائه إلى الجنة إن شاء الله، ومرهم أن يأخذوا البيعة على أجنادهم، وخواصهم وعوامهم، على مثل ما أمرتك به، من أخذها على من قبلك؛ وأوعز إليهم في ضبط ثغورهم، والقوة على عدوهم، إني متفقد حالاتهم، ولام شعثهم، وموسع عليهم، ولا آن في تقوية أجنادي وأنصاري. ولتكن كتبك إليهم كتبا عامة لتقرأ عليهم، فإن ذلك ما يسكنهم، ويبسط أملهم. واعمل بما نأمر به لمن حضرك، أو نأى عنك من أجنادك على حسب ما ترى وتشاهد. فإن أخاك يعرف حسن اختيارك، وصحة رأيك، وبعد نظرك، وهو يستحفظ الله لك، ويسأله أن يشد بك عضده، ويجمع بك أمره، إنه لطيف لما يشاء. وكتب بكر بن المعتمر بين يدي وإملائي في شوال سنة 192ه.
2
وهذا كتاب محمد الأمين إلى أخيه صالح:
بسم الله الرحمن الرحيم
إذا ورد عليك كتابي هذا، عند وقوع ما قد سبق في علم الله، ونفذ من قضائه، في خلفائه وأوليائه، وجرت به سنته في الأنبياء والمرسلين، والملائكة المقربين، فقال:
كل شيء هالك إلا وجهه له الحكم وإليه ترجعون . فاحمدوا الله على ما صار إليه أمير المؤمنين، من عظيم ثوابه ومرافقة أنبيائه، صلوات الله عليهم، إنا إليه راجعون؛ وإياه نسأل أن يحسن الخلافة على أمة نبيه محمد
صلى الله عليه وسلم . وقد كان لهم عصمة وكهفا، وبهم رءوفا رحيما.
فشمر في أمرك، وإياك أن تلقي بيديك، فإن أخاك قد اختارك لما استنهضك له، وهو متفقد مواقع فقدانك، فحقق ظنه، ونسأل الله التوفيق. وخذ البيعة على من قبلك، من ولد أمير المؤمنين، وأهل بيته ومواليه وخاصته وعامته لمحمد أمير المؤمنين، ثم لعبد الله ابن أمير المؤمنين، ثم للقاسم ابن أمير المؤمنين، على الشريطة التي جعلها أمير المؤمنين - صلوات الله عليه - من فسخها على القاسم أو إثباتها. فإن السعادة واليمن في الأخذ بعهده والمضي على مناهجه.
وأعلم من قبلك من الخاصة والعامة رأيي في استصلاحهم، ورد مظالمهم، وتفقد حالاتهم، وأداء أرزاقهم، وأعطياتهم عليهم. فإن شغب شاغب، أو نعر ناعر، فاسط به سطوة تجعله نكالا لما بين يديها وما خلفها وموعظة للمتقين. واضمم إلى الميمون ابن الميمون الفضل بن الربيع ولد أمير المؤمنين وخدمه وأهله؛ ومره بالمسير معهم فيمن معه، وجنده ورابطته؛ وصير إلى عبد الله بن مالك أمر العسكر وأحداثه، فإنه ثقة على ما يلي، مقبول عند العامة؛ واضمم إليه جميع جد الشرط، من الروابط وغيرهم، إلى من معه من جنده؛ ومره بالجد والتيقظ، وتقديم الحزم في أمره كله، ليله ونهاره. فإن أهل العداوة والنفاق لهذا السلطان يغتنمون مثل حلول هذه المصيبة؛ وأقر حاتم بن هرثمة على ما هو عليه، ومره بحراسة ما يحفظ به قصور أمير المؤمنين، فإنه ممن لا يعرف إلا بالطاعة، ولا يدين إلا بها، بمعاقد من الله، مما قدم له من حال أبيه المحمود عند الخلفاء؛ ومر الخدم بإحضار روابطهم، من يسد بهم وبأجنادهم مواضع الخلل من عسكرك، فإنهم حد من حدودك؛ وصير مقدمتك إلى أسد بن يزيد بن مزيد، وساقتك إلى يحيى بن معاذ، فيمن معه من الجنود، ومرهما بمناوبتك في كل ليلة.
والزم الطريق الأعظم، ولا تعدون المراحل، فإن ذلك أرفق بك؛ ومر أسد بن يزيد، أن يتخير رجلا من أهل بيته أو قواده، فيصير إلى مقدمته، ثم يصير أمامه، لتهيئة المنازل، أو بعض الطريق، فإن لم يحضرك في عسكرك بعض من سميت، فاختر لمواضعهم من تثق بطاعته، ونصيحته وهيبته، عند العوام؛ فإن ذلك لن يعوزك، من قوادك وأنصارك، إن شاء الله.
وإياك أن تنفذ رأيا، أو تبرم أمرا، إلا برأي شيخك، وبقية آبائك، الفضل بن الربيع، وأقرر جميع الخدم على ما في أيديهم من الأموال والسلاح والخزائن وغير ذلك؛ ولا تخرجن أحدا منهم، من ضمن ما يلي، إلى أن تقدم علي. وقد أوصيت بكر بن المعتمر بما سيبلغكه؛ واعمل في ذلك بقدر ما تشاهد وترى. وإن أمرت لأهل العسكر بعطاء أو رزق فليكن الفضل بن الربيع المتولي لإعطائهم، على دواوين يتخذها لنفسه، بمحضر من أصحاب الدواوين؛ فإن الفضل بن الربيع لم يزل مثل ذلك لمهمات الأمور. وأنفذ إلي عند وصول كتابي هذا إليك إسماعيل بن صبيح، وبكر بن المعتمر، على مركبيهما من البريد؛ ولا يكون لك عرجة ولا مهلة، بموضعك الذي أنت فيه، حتى توجه إلي بعسكرك بما فيه من الأموال والخزائن إن شاء الله. أخوك يستدفع الله عنك، ويسأله لك حسن التأييد برحمته. وكتب بكر بن المعتمر بين يدي وإملائي في شوال سنة 192ه. (2) القول بخلق القرآن
وهاك مثلا مما كتبه المأمون إلى ولاته في الأخذ بمذهبه في القول بخلق القرآن، وهو ما أرسله إلى عالمه إسحاق بن إبراهيم وما يرويه لنا الطبري مما حصل.
أما الكتاب فهو:
أما بعد، فإن حق الله على أئمة المسلمين وخلفائهم الاجتهاد في إقامة دين الله الذي استحفظهم، ومواريث النبوة التي أورثهم، وأثر العلم الذي استودعهم، والعمل بالحق في رعيتهم، والتشمير لطاعة الله فيهم؛ والله يسأل أمير المؤمنين، أن يوفقه لعزيمة الرشد وصريمته، والإقساط فيما ولاه الله من رعيته، برحمته ومنته؛ وقد عرف أمير المؤمنين أن الجمهور الأعظم، والسواد الأكبر، من حشو الرعية، وسفلة العامة، ممن لا نظر له ولا روية، ولا استدلال له بدلالة الله وهدايته، ولا استضاءة بنور العلم وبرهانه، في جميع الأقطار والآفاق، أهل جهالة بالله وعمى عنه، وضلالة عن حقيقة دينه وتوحيده والإيمان به، ونكوب عن واضحات أعلامه وواجب سبيله، وقصور أن يقدروا الله حق قدره، ويعرفوه كنه معرفته، ويفرقوا بينه وبين خلقه، لضعف آرائهم، ونقص عقولهم، وجفائهم عن التفكر والتذكر؛ وذلك أنهم ساووا بين الله تبارك وتعالى، وبين ما أنزل من القرآن، فأطبقوا مجتمعين، واتفقوا غير متعاجمين، على أنه قديم أول، لم يخلقه الله، ويحدثه ويخترعه، وقد قال الله عز وجل في محكم كتابه، الذي جعله لما في الصدور شفاء، وللمؤمنين رحمة وهدى:
إنا جعلناه قرآنا عربيا . فكل ما جعله الله فقد خلقه، وقال:
الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور . وقال عز وجل:
كذلك نقص عليك من أنباء ما قد سبق . فأخبر أنه قصص لأمور أحدثه بعدها، وتلا به متقدمها، وقال:
الر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير . وكل محكم مفصل، فله محكم مفصل، والله محكم كتابه ومفصله، فهو خالقه ومبتدعه؛ ثم هم الذين جادلوا بالباطل، فدعوا إلى قولهم، ونسبوا أنفسهم إلى السنة، وفي كل فصل من كتاب الله قصص من تلاوته، مبطل قولهم، ومكذب دعواهم، يرد عليهم قولهم ونحلتهم، ثم أظهروا مع ذلك أنهم أهل الحق والدين والجماعة، وأن من سواهم أهل الباطل والكفر والفرقة؛ فاستطالوا بذلك على الناس، وغروا به الجهال، حتى مال قوم من أهل السمت الكاذب، والتخشع لغير الله، والتقشف لغير الدين إلى موافقتهم عليه، ومواطأتهم على سيئ آرائهم، تزينا بذلك عندهم، وتصنعا للرياسة والعدالة فيهم، فتركوا الحق إلى باطلهم، واتخذوا دون الله وليجة إلى ضلالتهم، فقبلت بتزكيتهم لهم شهادتهم، ونفذت أحكام الكتاب بهم، على دغل دينهم، ونغل أديمهم، وفساد نياتهم ويقينهم؛ وكان ذلك غايتهم التي إليها جروا، وإياها طلبوا في متابعتهم، والكذب على مولاهم، وقد أخذ عليهم ميثاق الكتاب، ألا يقولوا على الله إلا الحق، ودرسوا ما فيه، أولئك الذين أصمهم الله، وأعمى أبصارهم،
أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها . فرأى أمير المؤمنين أن أولئك شر الأمة، ورءوس الضلالة، المنقوصون من التوحيد حظا، والمخسوسون من الإيمان نصيبا، وأوعية الجهالة وأعلام الكذب، ولسان إبليس الناطق في أوليائه، والهائل على أعدائه، من أهل دين الله، وأحق من يتهم في صدقه، وتطرح شهادته، ولا يوثق بقوله ولا عمله، فإنه لا عمل إلا بعد يقين، ولا يقين إلا بعد استكمال حقيقة الإسلام، وإخلاص التوحيد؛ ومن عمي عن رشده وحظه، من أهل الإيمان بالله وبتوحيده، كان عما سوى ذلك من عمله، والقصد في شهادته، أعمى وأضل سبيلا.
ولعمر أمير المؤمنين، إن أحجى الناس بالكذب في قوله، وتخرص الباطل في شهادته من كذب على الله ووحيه، ولم يعرف الله حقيقة معرفته، وأن أولاهم برد شهادته، في حكم الله ودينه من رد شهادة الله على كتابه، وبهت حق الله بباطله، فاجمع من بحضرتك من القضاة، واقرأ عليهم كتاب أمير المؤمنين هذا إليك، فابدأ بامتحانهم فيما يقولون، وتكشيفهم عما يعتقدون، في خلق الله القرآن وإحداثه، وأعلمهم أن أمير المؤمنين غير مستعين في عمله، ولا واثق فيما قلده الله، واستحفظه من أمور رعيته بمن لا يوثق بدينه، وخلوص توحيده ويقينه، فإذا أقروا بذلك، ووافقوا أمير المؤمنين فيه، وكانوا على سبيل الهدى والنجاة، فمرهم بنص من يحضرهم من الشهود على الناس، ومسألتهم عن علمهم في القرآن، وترك إثبات شهادة من لم يقر أنه مخلوق محدث ولم يره، والامتناع من توقيعها عنده؛ واكتب إلى أمير المؤمنين بما يأتيك، عن قضاة أهل عملك في مسألتهم، والأمر لهم بمثل ذلك، ثم أشرف عليهم، وتفقد آثارهم، حتى لا تنفذ أحكام الله، إلا بشهادة أهل البصائر في الدين، والإخلاص للتوحيد؛ واكتب إلى أمير المؤمنين بما يكون في ذلك إن شاء الله. وكتب في شهر ربيع الأول سنة 218ه.
وكتب المأمون إلى إسحاق بن إبراهيم في إشخاص سبعة نفر، منهم: محمد بن سعد كاتب الواقدي، وأبو مسلم مستملي يزيد بن هارون، ويحيى بن معين، وزهير بن حرب أبو خيثمة، وإسماعيل بن داود، وإسماعيل بن أبي مسعود، وأحمد بن الدورقي، فأشخصوا إليه، فامتحنهم، وسألهم عن خلق القرآن، فأجابوا جميعا أن القرآن مخلوق، فأشخصهم إلى مدينة السلام، وأحضرهم إسحاق بن إبراهيم داره، فشهر أمرهم وقولهم بحضرة الفقهاء والمشايخ من أهل الحديث، فأقروا بمثل ما أجابوا به المأمون فخلى سبيلهم، وكان ما فعل إسحاق بن إبراهيم من ذلك بأمر المأمون.
وكتب المأمون بعد ذلك إلى إسحاق بن إبراهيم:
أما بعد، فإن من حق الله على خلفائه في أرضه، وأمنائه على عباده، الذين ارتضاهم لإقامة دينه، وحملهم رعاية خلقه، وإمضاء حكمه وسننه، والائتمام بعدله في بريته، أن يجهدوا لله أنفسهم، وينصحوا له فيما استحفظهم وقلدهم، ويدلوا عليه - تبارك اسمه وتعالى - بفضل العلم الذي أودعهم، والمعرفة التي جعلها فيهم، ويهدوا إليه من زاغ عنه ، ويردوا من أدبر عن أمره، وينهجوا لرعاياهم سمت نجاتهم، ويقفوهم على حدود إيمانهم، وسبيل فوزهم وعصمتهم، ويكشفوا لهم عن مغطيات أمورهم، ومشتبهاتها عليهم، بما يدفعون الريب عنهم، ويعود بالضياء والبينة على كافتهم؛ وأن يؤثروا ذلك من إرشادهم وتبصيرهم، إذ كان جامعا لفنون مصانعهم، ومنتظما لحظوظ عاجلتهم وآجلتهم، ويتذكروا أن الله مرصد من مساءلتهم عما حملوه، ومجازاتهم بما أسلفوه، وقدموا عنده؛ وما توفيق أمير المؤمنين إلا بالله وحده، وحسبه الله وكفى به. ومما بينه أمير المؤمنين برويته، وطالعه بفكره، فتبين عظيم خطره، وجليل ما يرجع في الدين من وكفه وضرره ما ينال المسلمون بينهم من القول في القرآن الذي جعله الله إماما لهم، وأثرا من رسول الله وصفيه محمد
صلى الله عليه وسلم
باقيا لهم، واشتباهه على كثير منهم، حتى حسن عندهم، وتزين في عقولهم، ألا يكون مخلوقا، فتعرضوا بذلك لدفع خلق الله، الذي بان به عن خلقه، وتفرد بجلالته من ابتداع الأشياء كلها بحكمته، وإنشائها بقدرته، والتقدم عليها بأوليته، التي لا يبلغ أولاها، ولا يدرك مداها، وكان كل شيء دونه، خلقا من خلقه، وحدثا هو المحدث له، وإن كان القرآن ناطقا به، ودالا عليه، وقاطعا للاختلاف فيه، وضاهوا به قول النصارى، في ادعائهم في عيسى ابن مريم أنه ليس بمخلوق، إذ كان كلمة الله، والله عز وجل يقول:
إنا جعلناه قرآنا عربيا . وتأويل ذلك: إنا خلقناه، كما قال جل جلاله:
وجعل منها زوجها ليسكن إليها . وقال:
وجعلنا الليل لباسا * وجعلنا النهار معاشا ،
وجعلنا من الماء كل شيء حي . فسوى عز وجل بين القرآن وبين هذه الخلائق، التي ذكرها في شية الصنعة، وأخبر أنه جاعله وحده، فقال:
بل هو قرآن مجيد * في لوح محفوظ . فقال ذلك على إحاطة اللوح بالقرآن، ولا يحاط إلا بمخلوق، وقال لنبيه
صلى الله عليه وسلم :
لا تحرك به لسانك لتعجل به . وقال:
ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث . وقال:
فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته . وأخبر عن قوم ذمهم بكذبهم، أنهم قالوا:
ما أنزل الله على بشر من شيء . ثم أكذبهم على لسان رسوله، فقال لرسوله:
قل من أنزل الكتاب الذي جآء به موسى . فسمى الله تعالى القرآن قرآنا وذكرا، وإيمانا ونورا وهدى ومباركا وعربيا وقصصا، فقال:
نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن . وقال:
قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله
وقال:
قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات . وقال:
لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه . فجعل له أولا وآخرا، ودل عليه، أنه محدود مخلوق، وقد عظم هؤلاء الجهلة بقولهم في القرآن؛ الثلم في دينهم، والحرج في أمانتهم، وسهلوا السبيل لعدو الإسلام، واعترفوا بالتبديل والإلحاد على قلوبهم حتى عرفوا، ووصفوا خلق الله وفعله بالصفة التي هي لله وحده وشبهوه به، والإشباه أولى بخلقه، وليس يرى أمير المؤمنين، لمن قال بهذه المقالة حظا في الدين، ولا نصيبا من الإيمان واليقين، ولا يرى أن يحل أحدا منهم محل الثقة في أمانة ولا عدالة ولا شهادة، ولا صدق في قول ولا حكاية، ولا تولية لشيء من أمر الرعية؛ وإن ظهر قصد بعضهم، وعرف بالسداد مسدد فيهم، فإن الفروع مردودة إلى أصولها، ومحمولة في الحمد والذم عليها، ومن كان جاهلا بأمر دينه، الذي أمره الله به، من وحدانيته، فهو بما سواه أعظم جهلا، وعن الرشد في غيره أعمى وأضل سبيلا.
فاقرأ على جعفر بن عيسى وعبد الرحمن بن إسحاق القاضي كتاب أمير المؤمنين، بما كتب به إليك، وانصصهما عن علمهما في القرآن ، وأعلمهما أن أمير المؤمنين لا يستعين على شيء من أمور المسلمين، إلا بمن وثق بإخلاصه وتوحيده، وأنه لا توحيد لمن لم يقر بأن القرآن مخلوق، فإن قالا بقول أمير المؤمنين في ذلك فتقدم إليهما في امتحان من يحضر مجالسهما، بالشهادات على الحقوق، ونصهم عن قولهم في القرآن، فمن لم يقل منهم إنه مخلوق، أبطلا شهادته، ولم يقطعا حكما بقوله، وإن ثبت عفافه بالقصد والسداد في أمره، وافعل ذلك بمن في سائر عملك من القضاة، وأشرف عليهم إشرافا يزيد الله به ذا البصيرة في بصيرته، ويمنع المرتاب من إغفال دينه، واكتب إلى أمير المؤمنين بما يكون منك في ذلك إن شاء الله.
ثم لننظر ما حصل بعد ذلك مما يرويه لنا الطبري قال: فأحضر إسحاق بن إبراهيم لذلك جماعة من الفقهاء والحكام والمحدثين، وأحضر أبا حسان الزيادي، وبشر بن الوليد الكندي، وعلي بن أبي مقاتل، والفضل بن غانم، والذيال بن الهيثم، وسجادة، والقواريري، وأحمد بن حنبل، وقتيبة، وسعدويه الواسطي، وعلي بن الجعد، وإسحاق بن أبي إسرائيل، وابن الهرش، وابن علية الأكبر، ويحيى بن عبد الرحمن العمري، وشيخا آخر من ولد عمر بن الخطاب، كان قاضي الرقة وأبا نصر التمار وأبا معمر القطيعي، ومحمد بن حاتم بن ميمون، ومحمد بن نوح المضروب، وابن الفرخان، وجماعة منهم النضر بن شميل، وابن علي بن عاصم، وأبو العوام البزاز، وابن شجاع، وعبد الرحمن بن إسحاق؛ فأدخلوا جميعا على إسحاق، فقرأ عليهم كتاب المأمون هذا مرتين، حتى فهموه، ثم قال لبشر بن الوليد: ما تقول في القرآن؟ فقال: قد عرفت مقالتي لأمير المؤمنين غير مرة. قال: فقد تجدد من كتاب أمير المؤمنين ما قد ترى. فقال: أقول القرآن كلام الله. قال: لم أسألك عن هذا، أمخلوق هو؟ قال: الله خالق كل شيء. قال: ما القرآن شيء؟ قال: هو شيء. قال: فمخلوق؟ قال: ليس بخالق. قال: ليس أسألك عن هذا، أمخلوق هو؟ قال: ما أحسن غير ما قلت لك، وقد استعهدت أمير المؤمنين ألا أتكلم فيه، وليس عندي غير ما قلت لك. فأخذ إسحاق بن إبراهيم رقعة كانت بين يديه، فقرأها عليه، ووقفه عليها، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله أحدا فردا لم يكن قبله شيء، ولا بعده شيء، ولا يشبهه شيء من خلقه، في معنى من المعاني، ولا وجه من الوجوه. قال: نعم، وقد كنت أضرب الناس على دون هذا. فقال للكاتب: اكتب ما قال.
ثم قال لعلي بن أبي مقاتل: ما تقول يا علي ؟ قال: قد سمعت كلامي لأمير المؤمنين في هذا غير مرة، وما عندي غير ما سمع. فامتحنه بالرقعة، فأقر بما فيها، ثم قال: القرآن مخلوق؟ قال: القرآن كلام الله. قال: لم أسألك عن هذا. قال: هو كلام الله وإن أمرنا أمير المؤمنين بشيء سمعنا وأطعنا. فقال للكاتب: اكتب مقالته.
ثم قال للذيال نحوا من مقالته لعلي بن أبي مقاتل، فقال له مثل ذلك، ثم قال لأبي حسان الزيادي: ما عندك؟ قال: سل عما شئت. فقرأ عليه الرقعة، ووقفه عليها فأقر بما فيها. ثم قال: من لم يقل هذا القول فهو كافر. فقال: القرآن مخلوق هو؟ قال: القرآن كلام الله، والله خالق كل شيء، وما دون الله مخلوق، وأمير المؤمنين إمامنا، وبسببه سمعنا عامة العلم، وقد سمع ما لم نسمع، وعلم ما لم نعلم، وقد قلده الله أمرنا، فصار يقيم حجنا وصلاتنا، ونؤدي إليه زكاة أموالنا، ونجاهد معه، ونرى إمامته إمامة، وإن أمرنا ائتمرنا، وإن نهانا انتهينا، وإن دعانا أجبنا. قال: القرآن مخلوق هو؟ فأعاد عليه أبو حسان مقالته، قال: إن هذه مقالة أمير المؤمنين. قال: قد تكون مقالة أمير المؤمنين ولا يأمر بها الناس، ولا يدعوهم إليها، وإن أخبرتني أن أمير المؤمنين أمرك أن أقول قلت ما أمرتني به، فإنك الثقة، المأمون عليه فيما أبلغتني عنه من شيء، فإن أبلغتني عنه بشيء صرت إليه. قال: ما أمرني أن أبلغك شيئا. قال علي بن أبي مقاتل: قد يكون قوله كاختلاف أصحاب رسول الله
صلى الله عليه وسلم
في الفرائض والمواريث، ولم يحملوا الناس عليها. قال له أبو حسان: ما عندي إلا السمع والطاعة، فمرني آتمر. قال: ما أمرني أن آمرك، وإنما أمرني أن أمتحنك.
ثم عاد إلى أحمد بن حنبل، فقال له: ما تقول في القرآن؟ قال: هو كلام الله. قال: أمخلوق هو؟ قال: هو كلام الله لا أزيد عليها. فامتحنه بما في الرقعة، فلما أتى إلى
ليس كمثله شيء وهو السميع البصير
وأمسك عن لا يشبهه شيء من خلقه، في معنى من المعاني، ولا وجه من الوجوه؛ فاعترض عليه ابن البكاء الأصغر، فقال: أصلحك الله! إنه يقول: سميع من أذن، بصير من عين. فقال إسحاق لأحمد بن حنبل: ما معنى قوله سميع بصير؟ قال: هو كما وصف نفسه. قال: فما معناه؟ قال: لا أدري، هو كما وصف نفسه. ثم دعا بهم رجلا رجلا كلهم يقول: القرآن كلام الله، إلا هؤلاء النفر: قتيبة، وعبيد الله بن محمد بن الحسن، وابن علية الأكبر، وابن البكاء، وعبد المنعم بن إدريس بن بنت وهب بن منبه، والمظفر ابن مرجا، ورجلا ضريرا ليس من أهل الفقه، ولا يعرف بشيء منه إلا أنه دس في ذلك الموضع، ورجلا من ولد عمر بن الخطاب قاضي الرقة، وابن الأحمر، فأما ابن البكاء الأكبر فإنه قال: القرآن مجعول لقول الله تعالى:
إنا جعلناه قرآنا عربيا ، والقرآن محدث لقوله:
ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث . قال له إسحاق: فالمجعول مخلوق؟ قال: نعم. قال: فالقرآن مخلوق؟ قال: لا أقول مخلوق ولكنه مجعول. فكتب مقالته، فلما فرغ من امتحان القوم وكتب مقالاتهم اعترض ابن البكاء الأصغر فقال: أصلحك الله! إن هذين القاضيين أئمة، فلو أمرتهما فأعادا الكلام! قال له إسحاق: هما من يقوم بحجة أمير المؤمنين. قال: فلو أمرتهما أن يسمعانا مقالتهما لنحكي ذلك عنهما! قال له إسحاق: إن شهدت عندهما بشهادة فستعلم مقالتهما إن شاء الله. فكتب مقالة القوم رجلا رجلا ووجهت إلى المأمون، فمكث القوم تسعة أيام ثم دعا بهم. وقد ورد كتاب المأمون، جواب كتاب إسحاق بن إبراهيم في أمرهم. وهاك هو ما نجعله ختاما لكلمتنا. •••
بسم الله الرحمن الرحيم. أما بعد، فقد بلغ أمير المؤمنين كتابك جواب كتابه، كان إليك فيما ذهب إليه متصنعة أهل القبلة، وملتمسو الرياسة فيما ليسوا له بأهل من أهل الملة، من القول في القرآن، وأمرك به أمير المؤمنين، من امتحانهم، وتكشيف أحوالهم، وإحلالهم محالهم، تذكر إحضارك جعفر بن عيسى، وعبد الرحمن بن إسحاق، عند ورود كتاب أمير المؤمنين، مع من أحضرت ممن كان ينسب إلى الفقه، ويعرف بالجلوس للحديث، وينصب نفسه للفتيا بمدينة السلام، وقراءتك عليهم جميعا كتاب أمير المؤمنين، ومسألتك إياهم عن اعتقادهم في القرآن، والدلالة لهم على حظهم، وإطباقهم على نفي التشبيه، واختلافهم في القرآن، وأمرك من لم يقل منهم إنه مخلوق بالإمساك عن الحديث والفتوى، في السر والعلانية، وتقدمك إلى السندي، وعباس مولى أمير المؤمنين بما تقدمت به فيهم إلى القاضيين بمثل ما مثل لك أمير المؤمنين، من امتحان من يحضر مجالسهما من الشهود، وبث الكتب إلى القضاة في النواحي من عملك بالقدوم عليك، لتحملهم وتمتحنهم على ما حده أمير المؤمنين، وتثبيتك في آخر الكتاب أسماء من حضر ومقالاتهم، وفهم أمير المؤمنين ما اقتصصت؛ وأمير المؤمنين يحمد الله كثيرا كما هو أهله، ويسأله أن يصلي على عبده ورسوله محمد
صلى الله عليه وسلم ، ويرغب إلى الله في التوفيق لطاعته، وحسن المعونة، على صالح نيته برحمته.
وقد تدبر أمير المؤمنين ما كتبت به من أسماء من سألت عن القرآن، وما رجع إليك فيه كل امرئ منهم، وما شرحت من مقالتهم؛ فأما ما قال المغرور بشر بن الوليد في نفي التشبيه، وما أمسك عنه من أن القرآن مخلوق، وادعى من تركه الكلام في ذلك واستعهاده أمير المؤمنين، فقد كذب بشر في ذلك وكفر، وقال الزور والمنكر، ولم يكن جرى بين أمير المؤمنين وبينه في ذلك، ولا في غيره، عهد ولا نظر أكثر من إخباره أمير المؤمنين من اعتقاده كلمة الإخلاص والقول بأن القرآن مخلوق، فادع به إليك، وأعلمه ما أعلمك به أمير المؤمنين من ذلك، وانصصه عن قوله في القرآن، واستتبه منه، فإن أمير المؤمنين يرى أن تستتبب من قال بمقالته إذ كانت تلك المقالة الكفر الصراح والشرك المحض عند أمير المؤمنين، فإن تاب منها فأشهر أمره، وأمسك عنه، وإن أصر على شركه، ودفع أن يكون القرآن مخلوقا بكفره وإلحاده، فاضرب عنقه، وابعث إلى أمير المؤمنين برأسه، إن شاء الله، وكذلك إبراهيم بن المهدي فامتحنه بمثل ما تمتحن به بشرا، فإنه كان يقول بقوله، وقد بلغت أمير المؤمنين عنه بوالغ، فإن قال إن القرآن مخلوق، فأشهر أمره واكشفه، وإلا فاضرب عنقه، وابعث إلى أمير المؤمنين برأسه إن شاء الله.
وأما علي بن أبي مقاتل فقل له: ألست القائل لأمير المؤمنين إنك تحلل وتحرم والمكلم له بمثل ما كلمته به، مما لم يذهب عنه ذكره؟! وأما الذيال بن الهيثم، فأعلمه أنه كان في الطعام الذي كان يسرقه في الأنبار، وفيما يستولي عليه من أمر مدينة أمير المؤمنين أبي العباس ما يشغله، وأنه لو كان مقتفيا آثار سلفه، وسالكا مناهجهم، ومحتذيا سبيلهم، لما خرج إلى الشرك بعد إيمانه. وأما أحمد بن يزيد المعروف بأبي العوام، وقوله إنه لا يحسن الجواب في القرآن، فأعلمه أنه صبي في عقله، لا في سنه، جاهل، وأنه إن كان لا يحسن الجواب في القرآن فسيحسنه، إذا أخذه التأديب، ثم إن لم يفعل كان السيف من وراء ذلك إن شاء الله.
وأما أحمد بن حنبل، وما تكتب عنه، فأعلمه أن أمير المؤمنين قد عرف فحوى تلك المقالة، وسبيله فيها، واستدل على جهله، وآفته بها؛ وأما الفضل بن غانم، فأعلمه أنه لم يخف على أمير المؤمنين ما كان منه بمصر، وما اكتسب من الأموال في أقل من سنة، وما شجر بينه وبين المطلب بن عبد الله في ذلك، فإنه من كان شأنه شأنه، وكانت رغبته في الدينار والدرهم رغبته، فليس بمستنكر أن يبيع إيمانه طمعا فيهما، وإيثارا لعاجل نفعهما، وإنه مع ذلك القائل لعلي بن هشام ما قال، والمخالف له فيما خالفه فيه، فما الذي حال به عن ذلك، ونقله إلى غيره؟ وأما الزيادي، فأعلمه أنه كان منتحلا لأول دعي كان في الإسلام خولف فيه حكم رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، وكان جديرا أن يسلك مسلكه فأنكر أبو حسان أن يكون مولى لزياد، أو يكون مولى لأحد من الناس - وذكر أنه إنما نسب إلى زياد لأمر من الأمور - وأما المعروف بأبي نصر التمار، فإن أمير المؤمنين شبه خساسة عقله بخساسة متجره؛ وأما الفضل بن الفرخان، فأعلمه أنه حاول بالقول الذي قاله في القرآن أخذ الودائع التي أودعها إياه عبد الرحمن بن إسحاق وغيره، تربصا بمن استودعه، وطمعا في الاستكثار لما صار في يده، ولا سبيل عليه عن تقادم عهده، وتطاول الأيام به، فقل لعبد الرحمن بن إسحاق: لا جزاك الله خيرا عن تقويتك مثل هذا، وائتمانك إياه، وهو معتقد للشرك، منسلخ من التوحيد.
وأما محمد بن حاتم، وابن نوح، والمعروف بأبي معمر، فأعلمهم أنهم مشاغيل بأكل الربا، عن الوقوف على التوحيد، وأن أمير المؤمنين لو لم يستحل محاربتهم في الله ومجاهدتهم، إلا لإربائهم، وما نزل به كتاب الله في أمثالهم، لاستحل ذلك، فكيف بهم وقد جمعوا مع الإرباء شركا، وصاروا للنصارى مثلا؛ وأما أحمد بن شجاع، فأعلمه أنك صاحبه بالأمس، والمستخرج منه ما استخرجته من المال الذي كان استحله من مال علي بن هشام، وأنه ممن الدينار والدرهم دينه؛ وأما سعدويه الواسطي فقل له: قبح الله رجلا بلغ به التصنع للحديث، والتزين به، والحرص على طلب الرياسة فيه، أن يتمنى وقت المحنة فيقول بالتقرب بها: متى يمتحن فيجلس للحديث. وأما المعروف بسجادة، وإنكاره أن يكون سمع ممن كان يجالس من أهل الحديث، وأهل الفقه، القول بأن القرآن مخلوق، فأعلمه أنه في شغله بإعداد النوى، وحكه لإصلاح سجادته، وبالودائع التي دفعها إليه علي بن يحيى وغيره ما أذهله عن التوحيد وألهاه، ثم سله عما كان يوسف بن أبي يوسف، ومحمد بن الحسن، يقولانه إن كان شاهدهما وجالسهما؛ وأما القواريري ففيما تكشف من أحواله، وقبوله الرشا والمصانعات ما أبان عن مذهبه، وسوء طريقته، وسخافة عقله ودينه، وقد انتهى إلى أمير المؤمنين أنه يتولى لجعفر بن عيسى الحسني مسائله، فتقدم إلى جعفر بن عيسى في رفضه، وترك الثقة به، والاستنامة إليه.
وأما يحيى بن عبد الرحمن العمري، فإن كان من ولد عمر بن الخطاب فجوابه معروف؛ وأما محمد بن الحسن بن علي بن عاصم فإنه لو كان مقتديا بمن مضى من سلفه لم ينتحل النحلة التي حكيت عنه، وإنه بعد صبي يحتاج إلى تعلم، وقد كان أمير المؤمنين وجه إليك المعروف بأبي مسهر، بعد أن نصه أمير المؤمنين عن محنته في القرآن، فجمجم عنها، ولجلج فيها، حتى دعا له أمير المؤمنين بالسيف، فأقر ذميما، فانصصه عن إقراره، فإن كان مقيما عليه فأشهر ذلك وأظهره إن شاء الله؛ ومن لم يرجع عن شركه ممن سميت لأمير المؤمنين في كتابك، وذكره أمير المؤمنين لك، أو أمسك عن ذكره في كتابه هذا، ولم يقل إن القرآن مخلوق، بعد بشر بن الوليد، وإبراهيم بن المهدي، فاحملهم أجمعين، موثقين إلى عسكر أمير المؤمنين مع من يقوم بحفظهم، وحراستهم في طريقهم، حتى يؤديهم إلى عسكر أمير المؤمنين، ويسلمهم إلى من يؤمر بتسليمهم إليه، لينصهم أمير المؤمنين، فإن لم يرجعوا ويتوبوا حملهم جميعا على السيف إن شاء الله، ولا قوة إلا بالله؛ وقد أنفذ أمير المؤمنين كتابه هذا في خريطة بندارية، ولم ينظر به اجتماع الكتب الخرائطية معجلا به، تقربا إلى الله عز وجل بما أصدر من الحكم، ورجاء ما اعتمد، وإدراك ما أمل، من جزيل ثواب الله عليه، فأنفذ لما أتاك من أمر أمير المؤمنين، وعجل إجابة أمير المؤمنين بما يكون منك في خريطة بندارية مفردة عن سائر الخرائط، لتعرف أمير المؤمنين ما يعملونه إن شاء الله. وكتب سنة 218ه. (3) عهد طاهر بن الحسين
قال ابن طيفور: ولما عهد طاهر بن الحسين إلى عبد الله ابنه هذا العهد، تنازعه الناس وكتبوه وتدارسوه، وشاع أمره حتى بلغ المأمون، فدعا به وقرئ عليه، وقال: ما أبقى أبو الطيب شيئا من الدين والدنيا، والتدبير والرأي، وإصلاح الملك والرعية، وحفظ البيعة، وطاعة الخلفاء، وتقويم الخلافة إلا وقد أحكمه، وأوصى به، وتقدم فيه. وأمر أن يكتب بذلك إلى جميع العمال في نواحي الأعمال. ولما كان هذا العهد من الوثائق التاريخية التي لها قيمتها العلمية والأدبية والاجتماعية والسياسية آثرنا ذكره على ما فيه من طول رغبة منا في ألا يخلو كتابنا من هذا الأثر العظيم القيمة والخطر، وهاكه: عليك بتقوى الله وحده لا شريك له، وخشيته ومراقبته ومزايلة سخطه، وحفظ رعيتك، والزم ما ألبسك الله في العافية بالذكر لمعادك، وما أنت صائر إليه، وموقوف عليه، ومسئول عنه، والعمل في ذلك كله بما يعصمك الله وينجيك يوم القيامة من عذابه وأليم عقابه، فإن الله قد أحسن إليك، وأوجب عليك الرأفة بمن استرعاك أمرهم من عباده، وألزمك العدل عليهم، والقيام بحقه وحدوده فيهم، والذب عنهم، والدفع عن حريمهم وبيضتهم، والحقن لدمائهم، والأمن لسبيلهم، وإدخال الراحة عليهم في معايشهم، ومؤاخذك بما فرض عليك من ذلك، وموقفك عليه، ومسائلك عنه، ومثيبك عليه بما قدمت وأخرت، ففرغ لذلك فكرك وعقلك وبصرك ورويتك، ولا يذهلك عنه ذهل، ولا يشغلك عنه شغل، فإنه رأس أمرك وملاك شأنك، وأول ما يوفقك الله به لرشدك، وليكن أول ما تلزم به نفسك وتنسب إليه فعالك، المواظبة على ما افترض الله عليك من الصلوات الخمس، والجماعة عليها بالناس قبلك في مواقيتها على سننها في إسباغ الوضوء لها وافتتاح ذكر الله فيها، وترتل في قراءتك، وتمكن في ركوعك وسجودك وتشهدك، ولتصدق فيها لربك نيتك، واحضض عليها جماعة من معك وتحت يدك، وادأب عليها فإنها - كما قال الله - تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، ثم أتبع ذلك الأخذ بسنن رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، والمثابرة على خلائقه، واقتفاء آثار السلف الصالح من بعده. وإذا ورد عليك أمر فاستعن عليه باستخارة الله وتقواه، ولزوم ما أنزل الله في كتابه، من أمره ونهيه، وحلاله وحرامه، وائتمام ما جاءت به الآثار عن النبي
صلى الله عليه وسلم ، ثم قم فيه بما يحق لله عليك، ولا تمل عن العدل فيما أحببت أو كرهت، لقريب من الناس أو بعيد، وآثر الفقه وأهله، والدين وحملته، وكتاب الله والعاملين به، فإن أفضل ما تزين به المرء الفقه في دين الله، والطلب له والحث عليه، والمعرفة بما يتقرب به إلى الله، فإنه الدليل على الخير كله، والقائد له، والآمر به، والناهي عن المعاصي والموبقات كلها، وبها مع توفيق الله تزداد العباد معرفة بالله - عز وجل - وإجلالا له ودركا للدرجات العلى في المعاد، مع ما في ظهوره للناس من التوقير لأمرك والهيبة لسلطانك، والأنسة بك والثقة بعدلك. وعليك بالاقتصاد في الأمور كلها، فليس شيء أبين نفعا ولا أحضر أمنا ولا أجمع فضلا من القصد، والقصد داعية إلى الرشد، والرشد دليل على التوفيق، والتوفيق منقاد إلى السعادة، وقوام الدين والسنن الهادية بالاقتصاد، فآثره في دنياك كلها، ولا تقصر في طلب الآخرة والأجر والأعمال الصالحة، والسنن المعروفة ومعالم الرشد، فلا غاية للاستكثار من البر والسعي له، إذا كان يطلب به وجه الله ومرضاته، ومرافقة أوليائه، في دار كرامته.
واعلم أن القصد في شأن الدنيا يورث العز، ويحصن من الذنوب، وأنك لن تحوط نفسك ومن يليك، ولا تستصلح أمورك، بأفضل منه، فأته، واهتد به تتم أمورك، وتزد مقدرتك، وتصلح خاصتك وعامتك، وأحسن الظن بالله عز وجل تستقم لك رعيتك، والتمس الوسيلة إليه في الأمور كلها تستدم به النعمة عليك، ولا تنهض أحدا من الناس، فيما توليه من عملك، قبل تكشف أمره بالتهمة، فإن إيقاع التهم بالبرآء والظنون السيئة بهم مأثم، واجعل من شأنك، حسن الظن بأصحابك، واطرد عنك سوء الظن بهم، وارفضه عنهم، يعنك ذلك على اصطناعهم ورياضتهم، ولا يجدن عدو الله الشيطان في أمرك مغمزا، فإنه إنما يكتفي بالقليل من وهنك فيدخل عليك من الغم، في سوء الظن، ما ينغص عليك لذاذة عيشك، واعلم أنك تجد بحسن الظن، قوة وراحة، وتكفى به ما أحببت كفايته من أمورك، وتدعو به الناس إلى محبتك، والاستقامة في الأمور كلها لك.
ولا يمنعك حسن الظن بأصحابك، والرأفة برعيتك، أن تستعمل المسألة والبحث عن أمورك والمباشرة لأمور الأولياء، والحياطة للرعية، والنظر فيما يقيمها ويصلحها، بل لتكن المباشرة لأمور الأولياء، والحياطة للرعية، والنظر في حوائجهم، وحمل مئوناتهم، آثر عندك مما سوى ذلك، فإنه أقوم للدين، وأحيا للسنة. وأخلص نيتك في جميع هذا، وتفرد بتقويم نفسك، تفرد من يعلم أنه مسئول عما صنع، ومجزي بما أحسن، فإن الله جعل الدين حرزا وعزا، ورفع من اتبعه وعززه، فاسلك بمن تسوسه وترعاه، نهج الدين، وطريقة الهدى، وأقم حدود الله في أصحاب الجرائم على قدر منازلهم، وما استحقوه، ولا تعطل ذلك ولا تهاون به، ولا تؤخر عقوبة أهل العقوبة، فإن في تفريطك في ذلك، لما يفسد عليك حسن ظنك، واعزم على أمرك في ذلك بالسنن المعروفة، وجانب الشبه والبدعات، يسلم لك دينك، وتقم لك مروءتك، وإذا عاهدت عهدا فف به، وإذا وعدت الخير فأنجزه، واقبل الحسنة، وادفع بها، وأغمض عن عيب كل ذي عيب من رعيتك، واشدد لسانك عن قول الكذب والزور، وأبغض أهله، وأقص أهل النميمة، فإن أول فساد أمرك في عاجل الأمور وآجلها، تقريب الكذوب، والجرأة على الكذب، لأن الكذب رأس المآثم، والزور والنميمة خاتمتها، لأن النميمة لا يسلم صاحبها، وقائلها لا يسلم له صاحب ولا يستقيم لمطيعها أمر. وأحب أهل الصدق والصلاح، وأعن الأشراف بالحق، وواصل الضعفاء، وصل الرحم، وابتغ بذلك وجه الله، وعزة أمره، والتمس فيه ثوابه والدار الآخرة، واجتنب سوء الأهواء والجور، واصرف عنهما رأيك، وأظهر من ذلك لرعيتك، وأنعم بالعدل سياستهم، وقم بالحق فيهم، وبالمعرفة التي تنتهي بك إلى سبيل الهدى، واملك نفسك عند الغضب، وآثر الوقار والحلم.
وإياك والحدة والطيش والغرور فيما أنت بسبيله، وإياك أن تقول إني مسلط أفعل ما أشاء؛ فإن ذلك سريع فيك إلى نقص الرأي، وقلة اليقين بالله وحده لا شريك له. وأخلص لله وحده النية فيه، واليقين به، واعلم أن الملك لله، يعطيه من يشاء، وينزعه ممن يشاء، ولن تجد تغير النعمة، وحلول النقمة، إلى أحد أسرع منه، إلى حملة النعمة، من أصحاب السلطان، والمبسوط لهم في الدولة، إذا كفروا بنعم الله وإحسانه، واستطالوا بما آتاهم الله من فضله. ودع عنك شره نفسك، ولتكن ذخائرك وكنوزك التي تدخر وتكنز، البر والتقوى، والمعدلة، واستصلاح الرعية وعمارة بلادهم، والتفقد لأمورهم، والحفظ لدمائهم، والإغاثة لملهوفهم، واعلم أن الأموال إذا كثرت وذخرت في الخزائن، لا تثمر، وإذا كانت في إصلاح الرعية، وإعطاء حقوقهم، وكف المئونة عنهم، نمت وربت، وصلحت به العامة، وتزينت به الولاة، وطاب به الزمان، واعتقد فيه العز والمنفعة، فليكن كنز خزائنك تفريق الأموال في عمارة الإسلام وأهله، ووفر منه على أولياء أمير المؤمنين قبلك حقوقهم، وأوف رعيتك من ذلك حصصهم، وتعهد بما يصلح أمورهم ومعايشهم، فإنك إذا فعلت ذلك قرت النعمة عليك، واستوجبت المزيد من الله، وكنت بذلك على جباية خراجك، وجمع أموال رعيتك وعملك أقدر، وكان الجميع لما شملهم من عدلك وإحسانك أسلس لطاعتك، وأطيب نفسا بكل ما أردت، فاجهد نفسك، فيما حددت لك في هذا الباب، ولتعظم حسبتك فيه، فإنما يبقى من المال، ما أنفق في سبيل حقه.
واعرف للشاكرين شكرهم، وأثبهم عليه، وإياك أن تنسيك الدنيا وغرورها هول الآخرة، فتتهاون بما يحق عليك، فإن التهاون يوجب التفريط، والتفريط يورث البوار. وليكن عملك لله، وفيه تبارك وتعالى، وارج الثواب، فإن الله قد أسبغ عليك نعمته في الدنيا، وأظهر لديك فضله، فاعتصم بالشكر، وعليه فاعتمد، يزدك الله خيرا وإحسانا؛ فإن الله يثيب بقدر شكر الشاكرين وسيرة المحسنين، وقضاء الحق فيما حمل من النعم. والبس من العافية والكرامة، ولا تحتقرن ذنبا، ولا تمالئن حاسدا، ولا ترحمن فاجرا، ولا تصلن كفورا، ولا تداهنن عدوا، ولا تصدقن نماما، ولا تأمنن غدارا، ولا توالين فاسقا، ولا تتبعن غاويا، ولا تحمدن مرائيا، ولا تحقرن إنسانا، ولا تردن سائلا فقيرا، ولا تجيبن باطلا، ولا تلاحظن مضحكا، ولا تخلفن وعدا، ولا تذهبن فخرا، ولا تظهرن غضبا، ولا تأتين بذخا، ولا تمشين مرحا، ولا تركبن سفها، ولا تفرطن في طلب الآخرة، ولا تدفع الأيام عيانا، ولا تغمضن عن الظالم رهبة منه، أو مخافة، ولا تطلبن ثواب الآخرة في الدنيا، وأكثر مشاورة الفقهاء، واستعمل نفسك بالحلم، وخذ عن أهل التجارب وذوي العقل والرأي والحكمة، ولا تدخلن في مشورتك أهل الدقة والبخل، ولا تسمعن لهم قولا، فإن ضررهم أكثر من منفعتهم، وليس شيء أسرع فسادا لما استقبلت في أمر رعيتك من الشح، واعلم أنك إذا كنت حريصا، كنت كثير الأخذ، قليل العطية، وإذا كنت كذلك لم يستقم لك أمرك إلا قليلا، فإن رعيتك إنما تعتقد على محبتك بالكف عن أموالهم، وترك الجور عليهم، ويدوم صفاء أوليائك لك، بالإفضال عليهم، وحسن العطية لهم. فاجتنب الشح، واعلم أنه أول ما عصى به الإنسان ربه، وأن العاصي بمنزلة خزي، وهو قول الله عز وجل:
ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون . فسهل طريق الجود بالحق، واجعل للمسلمين كلهم من نيتك حظا ونصيبا، وأيقن أن الجود من أفضل أعمال العباد، فأعدده لنفسك خلقا، وارض به عملا ومذهبا.
وتفقد أمور الجند في دواوينهم، ومكاتبهم، وأدرر عليهم أرزاقهم، ووسع عليهم في معايشهم، ليذهب بذلك الله فاقتهم، ويقوم لك أمرهم، ويزيد به قلوبهم في طاعتك وأمرك، خلوصا وانشراحا، وحسب ذي سلطان من السعادة، أن يكون على جنده ورعيته، رحمة في عدله وحيطته وإنصافه وعنايته، وشفقته وبره وتوسعته، فزايل مكروه إحدى البليتين، باستشعار تكملة الباب الآخر ولزوم العمل به، تلق - إن شاء الله - نجاحا وصلاحا وفلاحا.
واعلم أن القضاء من الله، بالمكان الذي ليس مثله شيء من الأمور؛ لأنه ميزان الله الذي تعتدل عليه الأحوال في الأرض، وبإقامة العدل في القضاء والعمل تصلح الرعية، وتؤمن السبل، وينتصف المظلوم، ويأخذ الناس حقوقهم، وتحسن المعيشة، ويؤدى حق الطاعة، ويرزق الله العافية والسلامة، ويقوم الدين، وتجري السنن والشرائع، وعلى مجاريها ينتجز الحق والعدل في القضاء. واشتد في أمر الله وتورع عن النطف، وامض لإقامة الحدود، وأقلل العجلة، وابعد من الضجر والقلق، واقنع بالقسم، ولتسكن ريحك، ويقر جدك، وانتفع بتجربتك، وانتبه في صمتك، واسدد في منطقك، وأنصف الخصم، وقف عند الشبهة، وأبلغ في الحجة.
ولا يأخذك في أحد من رعيتك محاباة ولا مجاملة، ولا لوم لائم. وتثبت وتأن، وراقب وانظر، وتدبر وتفكر، واعتبر وتواضع لربك، وارأف بجميع الرعية، وسلط الحق على نفسك، ولا تسرعن إلى سفك دم، فإن الدماء من الله بمكان عظيم انتهاكا لها بغير حقها، وانظر هذا الخراج الذي استقامت عليه الرعية، وجعله الله للإسلام عزا ورفعة، ولأهله سعة ومنعة، ولعدوه وعدوهم كبتا وغيظا، ولأهل الكفر من معاهدتهم ذلا وصغارا، فوزعه بين أصحابه بالحق والعدل والتسوية، والعموم فيه، ولا تدفعن منه شيئا عن شريف لشرفه، وعن غني لغناه، ولا عن كاتب لك، ولا أحد من خاصتك، فلا تأخذن منه، فوق الاحتمال له، ولا تكلفن أمرا فيه شطط، واحمل الناس كلهم على مر الحق، فإن ذلك أجمع لألفتهم، وألزم لرضى العامة. واعلم أنك جعلت بولايتك خازنا وحافظا، وراعيا، وإنما سمي أهل عملك رعيتك، لأنك راعيهم، وقيمهم، تأخذ منهم ما أعطوك، من عفوهم ومقدرتهم، وتنفقه في قوام أمرهم وصلاحهم، وتقويم أودهم. فاستعمل عليهم في كور عملك، ذوي الرأي والتدبير والتجربة والخبرة بالعمل، والعلم بالسياسة والعفاف، ووسع عليهم في الرزق، فإن ذلك من الحقوق اللازمة لك فيما تقلدت وأسند إليك، ولا يشغلنك عنه شاغل، ولا يصرفنك عنه صارف، فإنك متى آثرته، وقمت فيه بالوجب، استدعيت به زيادة النعمة من ربك، وحسن الأحدوثة في عملك، واستجررت به المحبة من رعيتك، وأعنت على الصلاح، فدرت الخيرات ببلدك، وفشت العمارة بناحيتك، وظهر الخصب في كورك، وكثر خراجك، وتوفرت أموالك، وقويت بذلك على ارتباط جندك، وإرضاء العامة، بإفاضة العطاء فيهم من نفسك، وكنت محمود السياسة، مرضي العدل في ذلك عند عدوك، وكنت في أمورك كلها، ذا عدل وقوة، وآلة وعدة، فنافس في هذا، ولا تقدم عليه شيئا، تحمد مغبة أمرك، إن شاء الله.
واجعل في كل كورة من عملك أمينا، يخبرك أخبار عمالك، ويكتب إليك بسيرتهم وأعمالهم، حتى كأنك مع كل عامل في عمله ، معاين لأمره كله، وإن أردت أن تأمره بأمر، فانظر في عواقب ما أردت من ذلك، فإن رأيت السلامة فيه والعافية، ورجوت فيه حسن الدفاع، والنصح والصنع فأمضه، وإلا فتوقف عنه، وراجع أهل البصر والعلم، ثم خذ فيه عدته، فإنه ربما نظر الرجل في أمر من أمره، قد واتاه على ما يهوى، فقواه على ذلك وأعجبه، وإن لم ينظر في عواقبه أهلكه، ونقض عليه أمره، فاستعمل الحزم في كل ما أردت، وباشره بعد عون الله بالقوة، وأكثر استخارة ربك، في جميع أمورك، وافرغ من عمل يومك، ولا تؤخره لغدك، وأكثر مباشرته بنفسك، فإن لغد أمورا وحوادث تلهيك عن عمل يومك الذي أخرت، واعلم أن اليوم إذا مضى ذهب بما فيه، وإذا أخرت عمله اجتمع عليك أمر يومين، فشغلك ذلك حتى تعرض عنه، فإذا أمضيت لكل يوم عمله، أرحت نفسك وبدنك، وأحكمت أمور سلطانك. وانظر أحرار الناس وذوي الشرف منهم، ثم استيقن صفاء طويتهم، وتهذيب مودتهم لك، ومظاهرتهم بالنصح والمحافظة على أمرك، فاستخلصهم، وأحسن إليهم، وتعاهد أهل البيوتات ممن قد دخلت عليهم الحاجة، فاحتمل مئونتهم وأصلح حالهم، حتى لا يجدوا لخلتهم مسا، وأفرد نفسك للنظر في أمور الفقراء والمساكين، ومن لا يقدر على رفع مظلمة إليك، والمحتقر الذي لا علم له بطلب حقه، فاسأل عنه أخفى مسألة، ووكل بأمثاله أهل الصلاح من رعيتك، ومرهم برفع حوائجهم وحالاتهم إليك، لتنظر فيها بما يصلح الله به أمرهم، وتعاهد ذوي البأساء ويتاماهم وأراملهم، واجعل لهم أرزاقا من بيت المال اقتداء بأمير المؤمنين أعزه الله في العطف عليهم والصلة لهم، ليصلح الله بذلك عيشهم، ويرزقك به بركة وزيادة، وأجر للأمراء من بيت المال، وقدم حملة القرآن منهم، والحافظين لأكثره، في الجراية على غيرهم، وانصب لمرضى المسلمين دورا تئويهم، وقواما يرفقون بهم، وأطباء يعالجون أسقامهم، وأسعفهم بشهواتهم، ما لم يؤد ذلك إلى سرف في بيت المال، واعلم أن الناس إذا أعطوا حقوقهم، وأفضل أمانيهم لم يرضهم ذلك، ولم تطب أنفسهم، دون رفع حوائجهم إلى ولاتهم؛ طمعا في نيل الزيادة، وفضل الرفق منهم، وربما برم المتصفح لأمور الناس لكثرة ما يرد عليه، ويشغل فكره وذهنه، ومنها ما يناله به مئونة ومشقة، وليس من يرغب في العدل ويعرف محاسن أموره في العاجل وفضل ثواب الآجل، كالذي يستقبل ما يقربه إلى الله، ويلتمس رحمته به.
وأكثر الإذن للناس عليك، وأبرز لهم وجهك، وسكن لهم أحراسك، واخفض لهم جناحك، وأظهر لهم بشرك، ولن لهم في المسألة والمنطق، واعطف عليهم بجودك وفضلك، وإذا أعطيت فأعط بسماحة وطيب نفس، والتمس الصنيعة والأجر، غير مكدر ولا منان، فإن العطية على ذلك تجارة مربحة إن شاء الله. واعتبر بما ترى من أمور الدنيا، ومن مضى من قبلك، من أهل السلطان والرياسة، في القرون الخالية والأمم البائدة، ثم اعتصم في أحوالك كلها بأمر الله، والوقوف عند محبته، والعمل بشريعته وسنته وإقامة دينه وكتابه، واجتنب ما فارق ذلك وخالفه، ودعا إلى سخط الله، واعرف ما تجمع عمالك من الأموال، وينفقون منها، ولا تجمع حراما، ولا تنفق إسرافا. وأكثر مجالسة العلماء، ومشاورتهم ومخالطتهم، وليكن هواك اتباع السنن وإقامتها، وإيثار مكارم الأمور ومعاليها، وليكن أكرم دخلائك وخاصتك عليك من إذا رأى عيبا فيك لم تمنعه هيبتك من إنهاء ذلك إليك، في سر، وإعلامك ما فيه من النقص، فإن أولئك أنصح أوليائك ومظاهريك، وانظر عمالك الذين بحضرتك، وكتابك، فوقت لكل رجل منهم في كل يوم وقتا يدخل عليك فيه بكتبه ومؤامرته وما عنده من حوائج عمالك وأمر كورك ورعيتك، ثم فرغ لما يورده عليك من ذلك سمعك وبصرك، وفهمك وعقلك، وكرر النظر إليه والتدبير له، فما كان موافقا للحزم والحق فامضه واستخر الله فيه، وما كان مخالفا لذلك فاصرفه إلى التثبت فيه والمسألة عنه، ولا تمنن على رعيتك ولا على غيرهم بمعروف تأتيه إليهم، ولا تقبل من أحد منهم إلا الوفاء والاستقامة والعون في أمور أمير المؤمنين، ولا تضعن المعروف إلا على ذلك، وتفهم كتابي إليك، وأكثر النظر فيه، والعمل به، واستعن بالله على جميع أمورك واستخره، فإن الله مع الصلاح وأهله، وليكن أعظم سيرتك، وأفضل رغبتك، ما كان لله رضا، ولدينه نظاما، ولأهله عزا وتمكينا، وللذمة والملة عدلا وصلاحا. وأنا أسأل الله أن يحسن عونك وتوفيقك، ورشدك وكلاءك، وأن ينزل عليك فضله ورحمته، بتمام فضله عليك، وكرامته لك، حتى يجعلك أفضل أمثالك نصيبا، وأوفرهم حظا، وأسناهم ذكرا وأمرا، وأن يهلك عدوك ومن ناوأك وبغى عليك، ويرزقك من رعيتك العافية، ويحجز الشيطان عنك ووساوسه، حتى يستعلي أمرك بالعز والقوة والتوفيق، إنه قريب مجيب. (4) رسالة الخميس
من عبد الله الإمام المأمون أمير المؤمنين، إلى المبايعين على الحق، والناصرين للدين، من أهل خراسان وغيرهم من أهل الإسلام: سلام عليكم، فإن أمير المؤمنين يحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو، ويسأله أن يصلي على محمد عبده ورسوله.
أما بعد، فالحمد لله القادر القاهر، الباعث الوارث، ذي العز والسلطان، والنور والبرهان، فاطر السموات والأرض وما بينهما، والمتقدم بالمن والطول على أهلهما، قبل استحقاقهم لمثوبته، بالمحافظة على شرائع طاعته، الذي جعل ما أودع عباده من نعمته، دليلا هاديا لهم إلى معرفته، بما أفادهم من الألباب، التي يفهمون بها فصل الخطاب، حتى اقتنوا علم موارد الاختبار، وثقفوا مصادر الاعتبار، وحكموا على ما بطن بما ظهر، وعلى ما غاب بما حضر؛ واستدلوا بما أراهم من بالغ حكمته، ومتقن صنعته، وحاجة متزايل خلقه ومتواصله، إلى القوم
1
بما يلمه ويصلحه، على أن له بارئا أنشأه وابتدأه، ويسر بعضه لبعض. فكان من أقرب وجودهم، ما يباشرون به من أنفسهم في تصرف أحوالهم، وفنون انتقالهم، وما يظهرون عليه من العجز عن التأتي لما تكاملت به قواهم، وتمت به أدواتهم؛ مع أثر تدبير الله - عز وجل - وتقديره فيهم، حتى صاروا إلى الخلقة المحكمة، والصورة المعجبة، ليس لهم في شيء منها تلطف يتممونه، ولا مقصد يعتمدونه من أنفسهم؛ فإنه قال تعالى ذكره:
يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم * الذي خلقك فسواك فعدلك * في أي صورة ما شاء ركبك . ثم ما يتفكرون فيه من خلق السموات، وما يجري فيها من الشمس والقمر والنجوم مسخرات، على مسير لا يثبت العالم إلا به من تصاريف الأزمنة التي بها صلاح الحرث والنسل، وإحياء الأرض، ولفاح النبات والأشجار، وتعاور الليل والنهار، ومر الأيام والشهور والسنين التي تحصى بها الأوقات؛ ثم ما يوجد من دلائل التركيب في طبقات السقف المرفوع، والمهاد الموضوع، باختلاف أجزائه والتئامها، وخلق الأنهار، وإرساء الجبال.
ومن البيان الشاهد ما أخبر الله عز وجل به من إنشائه الخلق، وحدوثه بعد أن لم يكن مترقيا في النماء، وثباته إلى أجله في البقاء، ثم محاره منقضيا إلى غاية الفناء. ولو لم يكن له مفتتح عدد ولا منقطع أمد، ما ازداد بنشوء، ولا تحيفه نقصان، ولا تفاوت على الأزمان؛ لأن ما لا حد له ولا نهاية، غير ممكن الاحتمال للنقص والزيادة. ثم ما يوجد عليه منفعته من ثبات بعضه لبعض، وقوام كل شيء منه بما يسر له، في بدء استمداده إلى منتهى نفاده؛ كما احتج الله عز وجل على خلقه، فقال:
أولا يذكر الإنسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئا . وقال عز وجل:
كل من عليها فان * ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام . وكل ما تقدم من الأخبار عن آيات الله عز وجل ودلالاته في سمواته التي بنى، وأطباق الأرض التي دحا، وآثار صنعه فيما برأ وذرأ، ثابت في فطر العقول، حتى يسخر أولي الزيغ ما يدخلون على أنفسهم من الشبهة فيما يجعلون له من الأضداد والأنداد. جل عما يشركون. ولولا توحده بالتدبير، عن كل معين وظهير، لكان الشركاء جدراء أن تختلف بهم إرادتهم فيما يخلقون، ولم يكن التخلف في إثباته وإزالته ليخلو من أحد وجهيه، وأيهما كان فيه فالعجز والنقص مما أتاه وبرأه. جل البديع خالق الخلق ومالك الأمر عن ذلك وتعالى علوا كبيرا؛ كما قال سبحانه:
ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض سبحان الله عما يصفون . ثم من عظيم نعمة الله عز وجل على خلقه افتقاده إياهم، وأنه يسددهم ويدلهم على منافعهم، ويجنبهم مضارهم، ويهديهم لما فيه صلاحهم، ويرغبهم في المحافظة على التمسك بدين الله عز وجل الذي جعله عصمة لهم وحاجزا بينهم.
ولولا ما تقدم به من تلافيهم واستدراكهم بفضل رحمته، لاجتاحهم التلف، لقصور معرفتهم عن التأتي لأقواتهم ومعايشهم، ولم يكونوا ليقتصروا على حظوظهم وأقسامهم عما بنوا عليه من الجمع والرغبة، ولتهالكوا ببغي بعضهم على بعض، وعدوان قويهم على ضعيفهم، ولكنه بعد تعريفه إياهم ملك قدرته وجلالة عزته، بعث إليهم أنبياءه ورسله مبشرين ومنذرين، بالآيات التي لا تنالها أيدي المخلوقين؛ فرضوا بما قسط بينهم، وارتدعوا عن التباغي والتظالم، لما وعدوا من الثواب الجسيم وخوفوا من العقاب الأليم؛ ولم يكونوا ليطيعوا أمرا لآمر ولا نهيا لناه، إلا بحجة يتبين بها الحق على من خالفه من المبطلين، وتخويف يتقون به مقارفة ما حرم عليهم، ورجاء يتجشمون له مئونة ما تعبدوا به. فافتتح الله عز وجل بأبيهم آدم - عليه السلام - فعلمه الأسماء كلها، وأمر الملائكة بالسجود له - كما اقتص في وحيه المنزل - وكرم ولده وفضلهم، فقال جل وعز:
ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا . وجعل ما فطرهم عليه من العطف على ذراريهم وأبنائهم سببا لما أراد من بقائهم وتناسلهم، وما اختصهم به من العلم والفهم حجة عليهم، ليمتحن طاعتهم، ويبلوهم أيهم أحسن عملا.
ولم تزل رسل الله عز وجل إلى خلقه تترى بالنور الساطع، والبرهان القاطع، لا يجدون لما يوردون عليهم من الحق القاهر مردا ولا مدفعا؛ لقول الله عز وجل:
ولقد أرسلنا من قبلك رسلا إلى قومهم فجآءوهم بالبينات فانتقمنا من الذين أجرموا وكان حقا علينا نصر المؤمنين . فلم يجد المكذبون مساغا إلى دفع ما أقيم عليهم من لازم الحجة، إلا المعاندة والمجاحدة. وكان أنبياء الله - صلوات الله عليهم - يبعثون في أعصار الحقب، نذرا للأمم، حتى ختمهم الله عز وجل بالنبي الأمي محمد
صلى الله عليه وسلم ، فبعثه فردا وحيدا لا عاضد له ولا رافد، إلى قوم يعبدون أصناما بكما ، وحجارة صما، فكذب به القوم الذين بعث فيهم أول ما دعاهم، ورامه ملوك أقطار البلاد بتوجيه الأجناد، ومرافدة القوة والعتاد وبغي الغوائل، ونصب الحبائل، وهو يدعو إلى سبيل ربه بما أمره به، إذ يقول تعالى:
ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن . ثم جاهد بمن أطاعه من عصاه، وبمن اتبعه من خالفه، حتى أعز الله كلمته، وأظهر دعوته، وأكمل لعباده دينهم الذي ارتضى لهم. فلما اختار الله له ما لديه، واختصه بما عنده: من النعيم المقيم، والجزاء الكريم، بعد استقامة الدين ودخول الناس فيه أفواجا، خلفه، إذ ختم به الأنبياء، بالبررة النجباء من أدانيه ولحمته، لإقامة الشرائع المفترضة، وإنفاذ حكم الله المنزل، واقتفاء السنة المأثورة وحفظا له في قرابته ومجيبي دعوته، وإتماما لما أوجب له من الفضيلة، وقريب الوسيلة، وانجازا لما وعده من إظهار ما بعثه به، من دينه الذي اصطفاه وارتضاه. وكان اختيار أولي الفضل من لحمته وعصبته لإرث خلافته، ومن عظيم الزلف التي رغب إلى الله فيها أنبياؤه، وبما اقتص في منزل وحيه، واختص - تبارك وتعالى - نبيه
صلى الله عليه وسلم
بما أمره به من مسألة أمته تصيير مودته في القربى جزاءه ممن تبعه على الرسالة، وهداه من الضلالة؛ فكانت فضيلتهم عزيمة من الله عز وجل دون طلب رسول الله
صلى الله عليه وسلم ؛ ألزمه تأديته إلى خلقه وألزمهم أداءه، فقال عز وجل:
قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى . ودل بما أخبر به وأظهره من تطهيره إياهم وإذهابه الرجس عنهم، على اصطفائه لهم؛ فقال تعالى:
إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا . وكان مما أوجب لهم به حق الوراثة في محكم تنزيله قوله تعالى:
وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله . ثم قرن طاعتهم بطاعته، فقال:
أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم . وأحلهم من النباهة والصيت بالمحل الذي أعلى به أمرهم ورفع به ذكرهم، لما أحب من النبيين في الدلالة عليهم، والهداية إليهم، فإنه يقول عز وجل:
يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر .
ولو كان الأئمة المقلدون أمر عباده خاملة أنسابهم، متقطعة أسبابهم، غير مخصوصين بفضيلة يرونهم بها دون غيرهم، لم تعد طلبتهم عقد الخلافة لهم، وأن تكون من المفترضات على كافة الأمة، أو على بعض دون بعض؛ فإن كان لأهل الشرق والغرب من ذوي النقص والكمال أن يختاروا لأنفسهم، فليس في اجتماع آرائهم مع تفرقهم واختلافهم طمع آخر أيام الدهر. وإن كان إلى خاصة دون عامة، فستحتاج العامة من طلب معرفة تلك الحال إلى مثل ما احتاجوا إليه في أئمتهم، إذ لم يكن أهل الارتياب والطلب من أعلام الآفاق ليتواطئوا على اتفاق، لنفاد آجالهم قبل بلوغهم غاية الاجتهاد في الفحص والتكشيف، وحاجتهم إلى اختبار البلدان، وتمحيص أولي الفضائل بالامتحان، وما هو حاق عليهم من الشبه في اختيارهم، والاختلاف فيمن عسوا أن يجتبوه ويقدموه، حتى تتهالك الرعية بتظالمها بينها، ويطرق من يليها من الأمم إياها؛ إذ لا ذائد عنها ولا محامي. فإذا ألزمت الأمة الحاجة إلى نصب الحكام لإقامة الدين، وتقسيط الحقوق من المسلمين، ومجاهدة عدوهم من المشركين، لم يكن لهم في الإمام عليهم مجاز إلى التخلص من حقه إليهم، ولا ريب عند المعرفة برأفة الله ورحمته، ولطفه وحكمه، في دفعه عن عباده ما لم يجعل في حيلتهم له وسعا، ولا في حيلتهم له دركا، وكفايته إياهم ما يعجزهم من البحث والتنقيب عن ولاة أمرهم، بنصبه إياهم، وما رفعهم إليه من الدرجة التي أعلاها وأسناها، إذ وصل نسبهم برسول الله
صلى الله عليه وسلم ، وافترض مودتهم على خلقه، ولم يشنهم جهلهم للغرض الذي لزمهم له، ولم يجب عليهم فرض في معرفة من سواهم.
ولم يزل سياق أئمة الهدى مطردا، ونظامهم متصلا، يتلقاه كابر عن كابر، ويؤديه أول إلى آخر، حتى تناهى إلى أمير المؤمنين، وهو حال دار دعوته، وبين أنصاره من أهل خراسان، فنظر به خيرهم، وعرفوا ما تصرفت به أحوالهم، وظهر لهم من بيان حجته على من نازعه في الأمر، وشاهدوا من إبلاغه في العذر، واستظهاره بالتأني والصبر، ما أزاح عنهم الشبهة وكشط الحيرة، حتى استزالوا
2
نهوضه بحقه، وخافوا الزيغ على أديانهم فيما أعطوه من صفقة أيمانهم؛ وهو ماض على عادته، مستديم للموادعة، متلوم على المراجعة، بالغ غاية ما في وسعه من الرخصة في دفع الولاية التي نهنه بها الرعية، حتى ضاق عليه في دينه ترك القيام بما أنهضه الله به من ثقلها وقلده من حملها، وخاف المخلوع فانبعث بالشرة والغرة، فتناول أولياء الحق باغيا طاغيا، لما أراد الله من تأييدهم عليه بالبيان والحجة التي يجب لها قلبه، ويفت بها في عضده، ويقبل الله ما شرفكم به من النصر والغلبة فيه التي جعلها الله للمتقين. فاجتمع لكم معشر أهل خراسان في دولة أمير المؤمنين ثلاث خلال اختصكم الله بفضيلتها، وسني مراتبها، دون ثلاث شملتكم وغيركم.
أما الأولى:
من اللواتي خصكم الله بهن؛ فما تقدم لأسلافكم من نصرة أهل بيت النبي، والقائمين بميراثه من آباء أمير المؤمنين.
وأما الثانية:
فما آثركم الله به من نصرته في دعوته الثانية.
وأما الثالثة:
فما تقدمتم به من صحة ضمائركم، ومحض مناصحتكم.
وأما الثلاث اللواتي هن لكم ولغيركم:
فمنهن ما أكد الله لأمير المؤمنين في أعناق المسلمين: من العهد الذي أخذ إصره، وألهمهم الوفاء به والتمسك بوثائق عصمته، عند محاولة المخلوع ما حاول من الإعلان بالردة، والتمس من تبديل معالم الدين وتعفية آثاره، فلم يلف الرعية سدى مهملين، لا جامع لأمرهم، ولا ضام لنثرهم.
ومنهن ما أفادكم الله وإياهم من العبر، عند حلول الغير بمن غدر وختر، تذكرة لأولي النهى، وحجة بالغة على من أدبر وتولى، ليهتدي متحير ويتعظ مزدجر،
وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين . ومنهن اجتماع أهل الفضل من المسلمين: ممن لم يكن له نصر ولا أزر في الدعوة الأولى على المشايعة في الدعوة الثانية؛ فأصبح دعاة أمير المؤمنين من أهل الحرمين والمصرين ومدينة السلام والمشرق والمغرب ممن غار أو أنجد من المتمسكين بذممهم الموفين بنذورهم، من إخوانكم؛ وإن كان الله قد قدمكم في الأمرين جميعا بتفوق حالكم على غيركم، يعتدون من معاضدتكم ومكانفتكم بما جعله الله عز وجل ألفة لكم ومودة بينكم، يبيد بها ما كان الشيطان ينزغ به بين أهل التباعد في الأنساب، والتنائي في الأوطان من إيقاع العداوة والبغضاء، والانطواء على الأحقاد والدمن، وطلب تقديم الإحن، وصار أهل السمو إلى الدرجة العليا والاعتصام بالعروة الوثقى من أولياء أمير المؤمنين وشيعته، منشرحة صدورهم بمكانفته، منبسطة أيديهم بمعاونته على حقه، منفسحة آمالهم في إذكاء ناره على عدوه والإثخان في بلاده وافتتاح ممتنع حصونه، بما جمعهم الله عليه من الألفة، ورفع عنهم من الحمية والعصبية؛ راجين عودتهم إلى أحسن ما مضى عليه سلفهم، في عهد نبيه
صلى الله عليه وسلم ، من سلامة الصدور، وصلاح ذات البين، واجتماع القوى على مجاهدة من شاقهم؛ قد أفرد الله عنهم نفرة التحارب والتجاذب، وجعل ما كان يسعى به بعضهم من الإعداد لبعض، زيادة في ريحهم، وحدا في شوكتهم، لائتلافهم في دولة أمير المؤمنين المحدودة المؤيدة بصدق الضمائر، ونفاذ البصائر. وإلى الله يرغب أمير المؤمنين في إعانته على صالح نيته، وتبليغه منتهى سؤله وغاية همته، في إعزاز دينه وإذلال من صد عن سبيله؛ إنه سميع قريب.
ومن أقوى الأسباب إلى استدعاء الشكر على النعمة تذكر ما كانت عليه الحال قبلها، فاستديموا الإفاضة فيما رفع الله من خساستكم وأعلى من أقداركم، بنصرة أهل بيت نبيكم
صلى الله عليه وسلم ، وما أبلاكم الله في الدعوة الأولى مما لا يؤدى حقه إلا بعون الله وتوفيقه، فإنه ارتاح لهم بلطفه وتوفيقه، فأنالهم رغائب الأقسام وسني الخطوات، ورفع درجهم ودرج خلوفهم وأعقابهم من بعدهم، بعد إذ هم مستضعفون يخافون أن يتخطفهم الناس، مذعنون بقهر عدوهم واستئثاره عليهم، ثم لم يلبثوا أن صاروا إلى الحال التي يرونهم بها من الغبطة والبهجة، إلا أنهم أخذوها بحقها؛ وكانت في أيدي الظلمة من أهل بيت اللعنة وأتباعهم بخنسة
3
الباطل ومحنة الابتلاء،
وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب إن الله قوي عزيز . وليس أحد منكم بخارج من المحنة بما ألبس من النعمة، وإن كنتم أهلها الآخذين لها بحقها، بل الذي يلزمكم استدامتها والقيام بحفظها، على حسب ما أولاكم الله منها، فربما كان الذي يعقب أهلها من الغفلة والاغترار، ويلهيهم بها من حبورها وسرورها، أعظم إثما وحوبا مما يخاف على أهل البطالة والصبر من ضعف العزم وقلة الصبر، لما يستولي عليهم من استكانة الذلة، والاغترار بالتقصير، والفزع إلى ربهم في تنفيس كربهم، فإنه تبارك وتعالى قد وصف أهل الطبقتين فقال:
وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض ونأى بجانبه وإذا مسه الشر فذو دعاء عريض . فحاجتكم إذا أنجح الله سعيكم وأظفركم بطلبتكم، إلى حياطة ما أودعكم الله من مننه وحراسة ما آتاكم من فضله، بالشكر الممتري للمزيد. فتعهدوا معشر شيعة أمير المؤمنين أنفسكم بتذكر ما سهل الله لكم من الحزونة، وذلل لكم من الصعوبة، وحكم لكم به من النصر، على مراق الملة ومخالفي أهل القبلة، وأباحكم من ديارهم وأموالهم؛ فأصبحتم بمن الله عليكم حماة الدين، وأنصار الأئمة الراشدين، وحصون كافة المسلمين، بعدما اجتث الله بكم قرون النفاق، وأباد بكم صناديد الضلالة، وشرد من لم تستحمله سيوفكم، وأضرع إليكم من أذعن واستسلم، وقد استشرفكم معشر شيعة أمير المؤمنين أهل الشنآن، ولاحظوكم بأعين الحسد والمنافسة، فبين ذلك مجهر معالن، ومستسر مداهن، وداخل في عدادكم، ووالج في سوادكم، يرى أمنه بين ظهوركم، فطعنه عليكم في دولتكم بريبة التمويه وخدع التشبيه، أيسر عليه كلفة وأعظم فيكم خرجا ونكاية؛ فتوقوا هذه الطبقة أشد التوقي، فإن أكثر من يلجأ إلى استباحة الحيلة، من عجز عن المباداة والإصحار، وعند ظهور الحازم وغلبته يحترز من لطيف الخدع وخفي الاستدراج.
واحذروا معشر شيعة أمير المؤمنين من استمراء الطراءة، والركون إلى راحة الدعة ما قد رأيتم وباله عاد على أهله، وأورثتهم عواقبه طول الندم والحسرة؛ فإنكم قد كنتم في حال المراقبة لعدوكم، والخوف لبائقته متيقظين متحفظين لما كان يرومكم به من ختله وحيله، ثم أفضيتم إلى الحج وقد جهدكم السعي ومسكم النصب، وسيلقي الشيطان في أمانيكم أن قد اكتفيتم بسالف ما قاسيتم، ويجد من ضعف العزائم معينا داعيا إلى اغتنام الخفض، والإخلاد إلى الأرض، ما لم تعتصموا بما عاينتم من الاعتبار، وتمتثلوا مواضي الآثار فيمن سلف من القرون الخالية، وما أفضت به إليه العزة من زوال النعم ووقوع الغير، فإن جميع ما خولكم الله وأفادكم مرتهن بما ألزمكم من حياطته واستنمائه؛ فقد وجبت عليكم الحجة بما حضكم الله عليه، وعظمت عليكم المنة بما هداكم إليه، وأراكم من آياته ومثلاته فيمن خلا قبلكم ما فيه أبلغ الإعذار والإنذار لكم، ومن اجتمع له اقتناء صواب من تقدمه إلى ما ينبعث من نفسه، فكأنه قد اختبر بالتجربة، مع استمداده بما يستفيد، ويستزيد ما يفتح لبه ورأيه، وأيقنوا أنكم لن تصلوا إلى من سواكم، ممن هو أعسر طاعة عليكم وأعذر بمعصيتكم، حتى تبدءوا باستصلاح أنفسكم، وأنه لن يرجى لكم القوة على مجاهدة عدوكم حتى تقووا على مجاهدة أهوائكم، فإن على كل امرئ ريبة من أمره، وغطاء من غيبه، لا يكشفه إلا صحة المعرفة، والإذعان بالنصفة؛ فهناك يؤمن عليه الجهل والمعاندة، وإذا أمنت هاتان الخلتان انسدت بإذن الله ثلم الآفات، وفتوق المكاره، فإنه لا يخاف الضلال على من اهتدى، ولا اعتماد الجور على من انتصف من هوى.
وليكن أول ما تتعهدون به أنفسكم، وتثابرون عليه من صالح أدبكم تناصف الحق بينكم، بتقديم أهل الفضائل والآثار المحمودة منكم وتفخيم أمركم؛ فقد علمتم أن منكم المبرز الفائت الذي لا يدرك شأوه ولا يوازى بلاؤه، حين كشف الإبلاء ضمائر القلوب وجلا مشتبهات الظنون، فصرح بالمحاربة بعد التقدم في الحجة، وفاء بمؤكد العهد وركوبا منه لهائل الخطر، غير هائب مع صحبة الحق ما برق لديه الناكس المخلوع ورعد، ولا مستوحش فيما تفرد به إلى من تولى وأدبر، حتى أتى الغاية التي أجري إليها في الله عز وجل وفي خليفته، ثم لرؤسائكم من أهل المشايعة والمكانفة والنصرة والحظ الجزيل والأثر المبين، ثوابهم واجب وحقهم لازم؛ ثم منكم من يحفظ لسلفه وأوله من الآباء الذين يحفظون ولايتهم، فإن الله - عز وجل - يقول في ذكر اليتيمين :
وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة
الآية. وقال على لسان يعقوب لابنه يوسف:
وكذلك يجتبيك ربك ويعلمك من تأويل الأحاديث
الآية. وأمير المؤمنين يرى توريث الحكمة والذمام سنة عليه في أخلاقه التي يرعاها ويحافظ عليها؛ كما أنه يرى وراثة التركة فريضة واجبة، فيخلف السلف الصالح عنده من المزية والفضل ما يتلون به أهل الغناء بأنفسهم، ثم يتلوهم من اقتدى [بهم] واهتدى بهديهم. والسابق المتقدم من اعتد ببلاء نفسه إلى بلاء سلفه، ثم يتبعه بعد المبلي بنفسه، ثم يتلوهما المتوسل بآبائه، ثم الصاعد به هواه ورأيه، طبقة فطبقة؛ فليقصر كل امرئ منكم على المرتبة التي أحله بها سعيه، وليسلك إلى الازدياد فيها بالزيادة من نفسه؛ فإن من الفتوق العظيمة على أهل الدول ما ينزغ به الشيطان بينهم، ويكثر عندهم ما يكون منه، فيوافق من الحيف للأنفس ما يجد به مساغا إلى ما يروم من إيقاع الشحناء بينهم، وتثبيت الإحن في صدورهم، بعد التآزر والتناصر. ومتى يجمع المرء لمزية من فوقه، واغتباط من دونه كفي ما ترك. ولن تخلص نياتكم، وتسلم ضمائركم، حتى تمحضوا شكر ما أوليه إخوانكم، وتعتدوا ما نالهم شاملا لكم، وتجانبوا طريقة من اقتصر بأمنيته على خاصته، وتعتب فيما أوثر به أهل الفضل دونه. وكفى عظة فيما نهاكم الله عنه من ذلك؛ يقول الله عز وجل:
ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض
الآية. ولا يلتمسن أحد مودته عن سوء نية بحسن مداراة في ظاهر، فإن الله مقلد كل امرئ ربقة عمله ومطوقه طوق سريرته. ولا يغدرن فيما يلزمه لإمامه؛ فإنه إنما يغدر في حظه ويبخس قسمه، وينحس نفسه. ثم لا يقتصرن على استصلاحها حتى يتناول من كانت منته عليه من أقربيه وحسويه،
4
فإن يسير ما هو معان من تأديتهم لا ينشب أن يتجاوز أدنى المراتب إلى أقاصيها، وقريبها إلى متناهيها، حتى يستفيض شاملا عاما، بعد أن بدا محللا خاصا.
واعلموا أن أمير المؤمنين متفقد من تثقيفكم وتقويمكم على صالح الأدب ومحمود السيرة، ما لا يتفقد به من سواكم؛ فإنه إن كان يوجب على نفسه استصلاح الرعية وحملهم على ما فيه رشدهم وقوامهم، لما يلزمه من فضل العناية بالأخص والأولى فالأولى، فإن في أخلائكم من التقديم في التأديب والتعهد، وجوها من الضرر؛ منها: أنكم أولى بحسن الطاعة وسرعة الإجابة، للطف محلكم وقرب مكانكم عند أمير المؤمنين.
ومنها: أنكم يأنس بكم المؤتمون، ويقتدي بكم التابعون؛ فمتى قصرتم وأخللتم، اقتفى أثركم من نصبتم له أعلاما، ثم لم يكن لكم أن تزروا عليه، ولا أن تأخذوا فوق يده، بل كان قمينا أن يكون يسومكم الرضا بمثل ما سمعتموه، ثم تجري هذه العادة في الطبقات، حتى يطرد السياق، إلى أن يستفيض الفساد في حشو الناس وعامتهم، فلا تغني قوة ولا حزم ولا شدة، إلا العجز والإضاعة؛ ثم يجد الأعداء مساغا إلى الطعن والعيب، فلا يملكون أن يرهقوكم ويستولي عليكم الفشل؛ فإن الأيدي إنما تبسط بنفاذ العزائم، والعزائم إنما تنفذ بثبات الحجة، والحجة إنما تثبت إذا كانت عن الحق. وإذا أضيع أول هذه الرسوم، التي رسم لكم أمير المؤمنين، تبعته تواليه وشفعته لواحقه، ووجد العدو الملاحظ مكان العورة، مطمعا في إهمال ما كان يعد له من الغرة، ويتوفق به من مناهزة الفرصة، وليكن ما تفيضون فيه وتعدونه ظهيرا على طاعن إن طعن في دولتكم، ما ألهم الله أمير المؤمنين: من شمول رعيته بالعدل، وفرش الأمر في مضمراتها ومنقلبها، ورفع به عنهم من سير الجود، وبسط به يده من إثابة أهل البلاء، وتغمد الجرائم لأولي الزلل، والإبلاغ في دعاء من عاند وشاق إلى التوبة والإنابة، وإقالة العثرة بعد القدرة، والحقن لمباح الدماء، فلم تعلموه صبر محملا، ولا هتك لأحد ممن أظفره الله به سترا، ولا وقفه على عورة. ثم تولى الله أمير المؤمنين، في حروبه شرقا وغربا، التي أغناه الله عن الإطناب في وصف صنع الله لكم فيها، لاستفاضة أخبارها في دهمائكم، مع ما أحب من مطالعته إياكم ببالغ أدبه وشافي عطفه، أن يتنكب من الإسهاب، في غير ما صمد له ورأى من تقريع أسماعكم وأذهانكم، لوعي ما التمس أن تعوه من تبصيركم حظكم، وتنبيهكم على رشدكم. وحسب أمير المؤمنين في نفسه وفيكم الله، وكفى به مبينا.
وإن أمير المؤمنين مع ما تقدم به إليكم لعلى ثقة من حياطة الله خلافته التي جعلها عزا لدينه وقواما لخلقه، وأنه ليس بها ممن أدبر عن حقها اختلال، بل من خلع ربقتها وأضاع حظه منها، جلب الخلة والحاجة وخسران الدنيا والآخرة. وإنما أتي المقصرون في إعظام حقها من ضعف الروية عن بلوغ ما تفضي بهم إليه مصادر العواقب، وتؤديهم إليه رواجع ما قدموا، فلا يكونون بعملهم غير متجاوزين بهممهم، وفيهم الذي هم فيه إلى ما يمنعه.
5
واستديموا معشر المسلمين سابغ النعمة بحمد موليها والمتطول بها. وقد ترون ما كنتم فيه قبلها وما آلت إليه حال من سلبها؛ ثم يعقب الندامة حين لا مستعتب ولا نظرة يمكن فيها استقالة الفارط بتقصير ولا هفوة زلل. وثقوا من رعاية أمير المؤمنين محمود آثاركم، وما مضى من بلاء كل امرئ منكم، بما تطمئنون إليه وتتوقعون عادته، بأسنى ما ترتفع إليه آمالكم وتسمو إليه هممكم، إلى ما يدخر الله لمن تمسك بهداه، واعتصم بتقواه، وجاهد عن حقه، وافيا بأمر عهده من جزيل ثوابه وكريم مآبه، إلى الدار التي هي أكبر درجات، وأكبر تفضيلا.
أحب أمير المؤمنين أن يتعهدكم بعظة تنبهكم على حظكم، وتثبت من بصائركم، وتقطع من طمع الشيطان وحزبه فيكم، لما يجب عليه من إرشادكم، ويرجو من تأدية حق الله عز وجل فيكم، ولما يرى من اتصالكم بحبله، وما يشمله من الصنيع فيما ولاكم الله به، وتولاه لكم.
وأمير المؤمنين يسأل الله الذي دل على الدعاء تطولا، وتكفل بالإجابة حتما، فقال عز وجل:
ادعوني أستجب لكم ، أن يجمع على رضاه ألفتكم، وأن يصل على الطاعة حبلكم، وأن يمتعكم بأحسن ما أودعكم من مننه، ويوزعكم عليها من شكره، ما يواصل لكم مزيده، وأن يكفيكم كيد الكافرين، وحسد الباغين، ويحفظ أمير المؤمنين فيكم بأفضل ما حفظ به إمام هدى في أوليائه وشيعته، ويحمل عنه ثقل ما حمله منكم. وبالله يستعين أمير المؤمنين، على ما ينوي من جزائكم بالحسنى، وحملكم على الطريقة المثلى، وبه يرضى ناصرا ووليا، وكفى بالله وليا وكفى بالله نصيرا. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وللمأمون - لما كتبت إليه السيدة زبيدة بعد مقتل ولدها الأمين خطابها الآتي تستعطفه:
كل ذنب يا أمير المؤمنين وإن عظم صغير في جنب عفوك، وكل زلل وإن جل حقير عند صفحك. وذلك الذي عودك الله ؛ فأطال مدتك، وتمم نعمتك، وأدام بك الخير، ورفع بك الشر.
هذه رقعة الواله التي ترجوك في الحياة لنوائب الدهر، وفي الممات لجميل الذكر، فإن رأيت أن ترحم ضعفي، واستكانتي، وقلة حيلتي، وأن تصل رحمي، وتحتسب فيما جعلك الله له طالبا وفيه راغبا فافعل، وتذكر من لو كان حيا لكان شفيعي إليك.
فكتب إليها المأمون:
وصلت رقعتك يا أماه، أحاطك الله وتولاك بالرعاية. وقفت عليها وساءني - شهد الله - جميع ما أوضحت فيها، لكن الأقدار نافذة، والأحكام جارية، والأمور متصرفة، والمخلوقون في قبضتها، لا يقدرون على دفاعها، والدنيا كلها إلى شتات، وكل حي إلى ممات، والغدر والبغي حتف الإنسان، والمكر راجع إلى صاحبه. وقد أمرت برد جميع ما أخذ لك، ولم تفقدي ممن مضى إلى رحمة الله إلا وجهه. وأنا بعد ذلك لك على أكثر مما تختارين؛ والسلام. (5) أحمد بن يوسف
6
رسالة ممتعة لأحمد بن يوسف ذكرها ابن طيفور في اختيار المنظوم والمنثور وهي: أما بعد، فالحمد لله القاهر القادر، الخالق الرازق، فاطر السموات والأرض، الذي أحاط بكل شيء علما، ونطق به خبرا، وأتقنه حكمة وعلما، وألف بين مختلفه ومتفقه، ليدل بقوام بعضه على بعض، على اتصال تدبير مشيئته ومبتدعه، وأنه أحد صمد، لا ضد له ولا ند، إذ قدر له حاجته ثم شدها ببلاغها إلى الغاية التي جعلها، فقال جل وعز:
وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم ، وحكى عن نجيه موسى عليه السلام:
قال ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى ، وقال الله تعالى :
وكل شيء فصلناه تفصيلا ، ثم لم يكلف العباد من شكره كفاء نعمته، بل رضي منهم باليسير، وقبل منهم العفو، وجعل طاعتهم إياه عائدة عليهم بجزيل الحظ في دينهم ودنياهم؛ لغناه عن عبادتهم، واتساع قدرته بالتطول عليهم، مفتتحا وخاتما، وبادئا وعائدا.
والحمد لله الذي اصطفى محمدا
صلى الله عليه وسلم ، نبيا لرسالته، وأتمنه على وحيه، وأنزل عليه كتابه العزيز، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه، ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد، فأدى إلى خلقه الرسالة، واستنقذهم من الضلالة، وصدع بأمر ربه وجاهد في سبيله، ونصح لأمته حتى أتاه اليقين من ربه، بعد استنارة الحق، وظهور الحجة، فصلى الله عليه بشيرا ونذيرا، وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا، قد تلافى من الهلكه، وجمع الألفة بعد الفرقة، وأوضح الهدى بعد الدروس، ومعالم الرشد بعد الطموس، وكان بالمؤمنين رحيما.
والحمد لله الذي قفى على آثار المرسلين، والأئمة الراشدين، الهادي التقي، الطاهر الزكي، الإمام المأمون أمير المؤمنين، أعز الله نصره، فسد ثلمتهم، ورأب صدعهم، وقلده خلافتهم، وجعله لكافة المسلمين غياثا ورحمة، وجعل ما ألهمه من العدل والإحسان إليهم، منة عليه ورحمة ذخرها له، دون الخلفاء قبله، فيما أظهر من فضل زمانه على الأزمنة، وسياسة من تقدمه، ومنح الرعية من عطفه ونظره، ما لا يحمل عنهم أو به، ولا يؤدي عنهم شكره، إلا هو لا شريك له؛ وأحسن الله جزاء أمير المؤمنين ومثوبته، على صلة رحم رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، التي هي رحمه وقرابته، واختياره لولاية عهده الأمير الرضي علي بن موسى - حفظه الله - حين أحمد سيرته، ورضي محبته، وعرف استقلاله، بما قلده في هديه، ودينه ووفائه، بما أكد الله به عليه، من عهد أمير المؤمنين - أيده الله - في اعتيامه من أزره وأساه بما شفع رأيه، وأنفذ تدبيره، حين هم لاستصلاح ما استرعاه الله، من أمور عباده، لما انتقى القائم بدعوته، ورئيس شريعته، الأمير ذا الرياستين - رحمه الله - فاتخذه مكاتفا ظهيرا ووزيرا دون من سواه، فاتبع منهاج أمير المؤمنين - أيده الله - وسار بسيرته، شرقا وغربا، وغورا ونجدا، موفيا بعهده، قائما بدعوته، مقتفيا لأثره وسنته، فحسم الله به الأدواء، وقمع به الأعداء، من عتاة الأمم، وطواغيت الشرك، وأباد على يده، أهل الشقاق والنفاق، في كل أفق وطرف، بجد أمير المؤمنين - أعزه الله - وبركة سياسته ودولته، ونجح سعي من قام بنصرة من قام بحقه، وأنار برهانه، حتى توفاه الله عز وجل حين بلغ همته وغايته، وحتم أجله، وانقطعت مدته، سعيدا حميدا، شهيدا فقيدا، عند إمامه أكرمه الله، وعند الخاصة والعامة، وكان من إجلال أمير المؤمنين، الحادث الذي نزل به، فأحيا آثاره، بوصف محاسنه، في مشاهده ومجامعه، وترحمه عليه عند ذكره، وحفظه في لحمته، وأهل حرمته، وفيمن كان يحمد الله على طاعته ونصيحته، ما أتم به نعمته، عندنا وعندكم معشر الشيعة، فقد أصبح أمره بكم متصلا، وموقعه من جماعتكم متمكنا، يقبضكم ما قبضه، ويبسطكم ما بسطه من لومة المصيبة، وحسن العقبى، وقد علمتم معشر أهل الحجا والنهى، والطاعة لله عز وجل وخليفته، وذوي الغباء والبلاء في دعوته من أهل خراسان وغيرهم ممن حضر ممن امتحن الله قلبه بوفاء العهد والاستبصار في حق أمير المؤمنين - أبقاه الله - والمجاهدة دونه، والصبر على مواطن الصدق واللأواء، والذب عن البيضة والحريم، والمتحملين للنصب، والمصائب التي انجلت، حتى كأن لم تكن، وبقي أجرها على الله عز وجل ومحمود ذكرها شائعا في الناس.
إن نعم الله قد جلت ولطفت، وخصت وعمت، وعلت وسمقت، وتمت ودامت، حتى قصرنا عن موازينها، والإحاطة بأدائها، فإذا لم يكن لنا معشر إخواننا سبب إلى مكافأة بلائه بالعمل، فنحن جدراء أن نجتهد في القول، ونطنب في الوصف إن شاء الله جل وعز، فقد جعل ذكر النعم من أسباب الشكر، وقد جدد لنا أمير المؤمنين - أيده الله - من الحياة والكرامة، وجزيل الحيطة، وسني الرتبة التي قرئ بها عليكم كتابه ما يستغرق جهدنا، ويستفرغ وسعنا، فنرغب إلى الله عز وجل ولي الرغبة، ومؤتي السؤل والطلبة، في إعانتنا على تأدية ما وجب له، فيما منحنا من فوائده ونحله، ثم نسترفدكم ونستعينكم على شكره، وإمدادنا بما بلغته طاقتكم في السعي له، فقد آدنا ثقل ما حملنا، وثقل ما طوقنا، وعظمت فاقتنا إلى استعمال القوي من الأنفس والحامة، والخاصة والعامة، في جزاء ما جلل أمير المؤمنين فينا من سننه، وشملنا من تالد أياديه وطارفها، وقديمها وحديثها، وكيف يوجد إلى موازاة أمير المؤمنين سبيل ببذل جهد، أو بلوغ حشد، فإنما نقتدي بهداه، ونعشو بنوره في ديننا، وليس عجزنا عن أن نجزي حقه، بواضع عنا مئونة الدءوب في التحري لتأديته، فإن الله عز وجل قد أخبر بفضائل الشكر ومناقبه، وجعله من أسمائه:
ومن تطوع خيرا فإن الله شاكر عليم ، وقد قال تعالى:
ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم وكان الله شاكرا عليما ، وقال تعالى:
إن تقرضوا الله قرضا حسنا يضاعفه لكم ويغفر لكم والله شكور حليم .
ولولا أن الله عز وجل رضيه لنفسه، لأجللناه عن التسمية؛ إذ كان أكثر ما نستعمله، ونعرفه في مكافأة من من وتطول، ثم ثنى بذكر فضله في العباد، فإن الله تبارك وتعالى افتتح أول ما علم خلقه بالحمد، وجعله بدء كتابه، وخاتمة دعوة أهل جنته، فقال عز وجل:
وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين ، وخلق الله السموات والأرض، ومن برأ وذرأ في الحياة ليبلو عباده بشكره، وأعد الجنة في الآخرة لمن شكره، والنار لمن كفره، وقال الله تعالى:
وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد ، وقال الله تعالى:
ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة فاتقوا الله لعلكم تشكرون ؛ فجمل التقوى واقعة، والشكر مرجوا ليدل على ارتفاع رتبته، وعلو درجته عنده، وقال لنجيه موسى عليه السلام:
إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي فخذ ما آتيتك وكن من الشاكرين .
فلم يكلفه إلا أخذ ما أعطاه، والشكر على ما أتاه، وأخبر بعزته في العباد، فقال تعالى:
وقليل من عبادي الشكور ، فأية نعمة أجل قدرا، وأسنى أمرا، معشر الشيعة من نعمة أمير المؤمنين - أيده الله - عند الأمير ذي الرياستين، ومراتبه التي رتبه بها، فإنه أعطاه رياسة الحرب ، ورياسة التدبير، وعقد له على رأسهما علما في رواية دعوته، وقلده سيفهما وختمه بخاتم الخلافة، وخاتم الدولة، وجعل صلاته بين صاحب حرسه، وصاحب شرطته، ومسيره بين أمير المؤمنين وبينهما، أمامه وخلفه، وصير له الجلوس على الكرسي بحضرته، في صدر كل مجلس جلس، إلا أن يؤثر به من أحب من أبناء الخلفا، وقدمه في دخول دار الأمير راكبا إلى أقصى مكان ينتهي إليه أحد من بني هاشم، لأنه منهم، وأعظمهم غناء عنهم ، فسماه صاحب دعوته وسيفه على عدوه وبابه الذي يدخل إليه منه، وولاه خيوله في أقطار الأرض، ومقدمته بحضرته، وقلده من الثغور ما قد علمت، بما أفرده في عهده، إلى ما أنفذه من أمره، في جميع سلطانه وملكه، من مشارق الأرض ومغاربها، وأين يأتي الوصف على ما فضله به، وقدمه وشرفه على الناس كافة، ولكنا نخطر بذكره، ثم نكل السامعين إلى ما يرجعون إليه من المعرفة التي لا تبلغها الصفة، ثم لم يكن ما أكرمه به في حياته بأعلى مما أكرمه به في وفاته، تولى غسله وتكفينه، ومباشرته لجهازه، إلى حفرته بيده، وقاسى من الغصص، وبرحاء الحزن، وإذراء العبرة، وإراقة الدمعة، ما حال بينه وبين الكلام، وكاد يمنعه من القول والدعاء في صلاته عليه، من الحكم، وحفظ أهل الحرمة به رعاية له فيهم، ووفاء بعهده من بعده، وأقر خاصته، وقواده وعماله، وكتابه على مراتبهم، وحمد بحمده، وذم بذمه، وجدد لجنده، وتل
7
كريته، نظرا وعطفا، فلم يبق عليه في إحياء ذكره، وبلوغ كل ما يحبه في حياته غاية إلا أتى من ورائها؛ وأمر بقراءة فتوحه، كما كانت تقرأ على عهده، وأضاف كل ما حدث من بعده إلى ما تقدم من سعيه، وأخبر أنه كان سببه، والمفتتح به، وولى محمد بن الحسن خلافته، ونصبه منصبه، وأقامه مقامه إلى أن جدد العهد لي، فاستخلفته على ما ولي بحضرته.
ثم تتابعت كتب أمير المؤمنين - أكرمه الله - بعد مصاب الأمير ذي الرياستين، بما لا يقارب التفضيل، والإطلاق والتفويض الذي كنتم سمعتم به وبلغكم، فلم يكن يرى وراءه مجاراة، ولا فوقه مصعدا، حتى جدد لنا من كرامته، ما قد قرئ عليكم في كتابه، فبلغ بنا ما لم تكن الهمم تبلغه، والأماني لتحيط به، لولا ما منحنا الله عز وجل من الترقي في الفضل، إلى ما تنحسر من دونه الأبصار، وتنقطع دونه الآمال، وإنما اقتصصناه وذكرنا ما أبلانا واصطنع عندنا من بلائه بدعائنا إلى الله عز وجل وإلى طاعته بالعدل والإحسان إلى رعيته والنظر بالصفح، والأخذ بالفضل، والأمر بالمعروف، وصلة المروءة بالوفاء بالعهد، والشكر للمنن، ورعاية الأخلاق المحمودة، وإحظاء أهلها، وإقامة سوقها، حتى تنافسوها وتشاحوا فيها، وصارت هي الذرائع إليه، والوسائل عنده، فلو تأمل متأمل أهل الزلفة، والأثرة لديه، لوجد الأخص فالأخص، والأعلى قدرا عنده هو الأفضل دينا ومروءة، فلو لم يكن في الحظوة عنده إلا إيجابها لصاحبها صحة المحبة، والنزاهة عن كل ظنة، لكان فيها أعظم الغبطة، وأعدل الشهادة والدلالة. وسنقص عليكم بما أخبرناكم عنه ما لا سبيل إلى جحده وإنكاره، بوضوح معالمه ومنائره؛ أوليس المجاهد عن دين الله، والمحامي عن بيضة المسلمين، والمواتي لأغلظ عدوهم شوكة، وأخوفهم عداوة، والمنجح في بلادهم، بمن كان لا يرام، ولا يحاول لاستصعابه وشدة مقاساته، حتى أذعن جيغويه بالعبودية له، ثم أباح حريمه حين تمرد عليه، حتى بلغ السبي إلى ولده، وحاربونا به، وتغلغلت خيوله، حتى توصلت إلى قبته، ومنتهى عزه؟ أوليس مسكن التهيج بالمشرق، حتى خبت النيران فيه، وأذعن رؤساؤها وقادتها؟ أوليس غازي بلاد بابل حين طغى أميرها، وبدل، ونكث ونقض، حتى اجتثت أرومته، وأباح حريمه، وأراح المسلمين من معرته؟ أوليس ساد الثغور، ومحصن عوراتها، والمباشر لتدبيرها، والمسعدا لمكايدة المنجح فيمن أرادها، وفاك العناة، من رق الإسار، وناشر الرحمة على فقراء المسلمين وضعفائهم وأهل المسكنة، والخلة منهم، وقاسم الصدقات في أهلها، وعامر الموسم ومحصنه من الآفات حياطة للمسلمين في حجهم، وما يتقربون به إلى ربهم؟ وهل اقترن لأحد من الأئمة ما اقترن له في الملك والدين والعز، والتواضع والسعة، والبذل والقدرة، والعفو والغلظة، والليان في مواضعها، والنسك مع الهمة ، والسطوة مع الإقالة؟ وهل ترك معشر الأولياء والإخوان في الدين غاية لم يسم بنا إلى شرفها، وعلى مراتبها، ومستزاد الحظ في عاجل وآجل، لم يبلغناه ونختار لنا خاص مكرمته، ومدخر عاقبته؟ أرشدنا إلى الدين، وسلك بنا سبل الجنة، حاز لنا الملك، فلم يبق وراء ما ملكنا غاية، وورد بنا الحروب وساسها لنا، فلم يدع غاية للتعليم والدراية، سلط علينا بسلطان الله الذي أتاه، فلم يدع غاية في التقلد والفقه، فكم علمنا الفضائل، ثم فضلنا بها. غلب لنا الأمم، ثم خولناها. علمنا طرائق الشرف، ثم شرفنا بها. أخبرنا عن الأنباء فكفانا مئونة التماسها، وأغنانا بما عنده فيها، أخذ على أيدينا الخير للرعية، فوهب لنا شكرها، وصدق مقالتنا عند الشبهة، وأنفذ أمرنا في التدبير.
فيا أيها الإمام المنصور المهدي الرشيد، حزت فضائل الآباء، واهتديت بهدي الأنبياء، أنشكرك عن الإسلام، فأنت القائم به الداعي له، والناصر لحقه؟ أم نشكرك عن الأمصار، فأنت المفتتح لممتنعها عنوة، والمتطول على أهلها بالرحمة، والمنعطف عليهم بحسن الفائدة بعد ما هيجت منك سورة الغضب، فأطفأت نارها، وأخمدت لهبها، وعدت على من سفه، وأضاع حظه؟ أم نشكرك على المساجد، فأنت الذي أسستها على التقوى، وعمرتها بتلاوة القرآن، وطهرت المنابر وركبتها، تعلوها صائما، وتنطق عليها صادقا، وتدعو إلى الرشد عليها ناصحا، وتختم القرآن قبل أن تبدأها محسنا، وتتلو من قوارعه، ما تصيخ له الأسماع وتلين له القلوب؟ أم نشكرك على البيت العتيق، والركن والمقام، والحجر وزمزم، ومشاعر الحج، وأنت ذببت عنها، وأعدت إليها عهدها، في مبعث نبيها
صلى الله عليه وسلم ، فأمنت النازع إليها، من كل فج عميق، والحالين بها من الركوع والسجود؟
أم نشكرك عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، فيما حفظت فيه من عترته، بعفوك عن مجرمهم، ومضاعفتك نواب محسنهم، وإحيائك من أمرهم، ما كان قد اندرس وانطمس، بعد اللقاء بنبي الله
صلى الله عليه وسلم ، وقد راعيت منه في قرابته وقرابتك، وذوي رحمه ورحمك، ما ضيع الناس، ووصلت منهم ما كان وصله؛ إذ كان الله عز وجل قد فرض صلة الأرحام، فكان أطوع خلق الله عز وجل فيما فرض عليه؟ أم نشكرك عن العوام؛ فقد ألبست المسلمين ثوب الأمن، وأذقتهم طعم السعة والرفاهة، وعدلت بينهم بالإنصاف، وتوليت دونهم النصب، وآثرتهم الراحة؟ أم نشكرك عن الملوك والقواد والأجناد؛ فأنت الذي رفعت منازلهم، ووفرت عددهم، فلم يكن في دهر أحد من الخلفاء أسعد ولا أحظى منهم في سلطانك، بما بذلت لهم من المعاون، ووليتهم من الثغور والأمصار، وأدررت عليهم من الأرزاق والخواص؟ أم نشكرك عن الأحكام والسنن؛ فأنت الذي أنهجت سبيلها، فأوجبت فرضها، ونافست في أهلها؟ أم نشكرك عن الأعداء؛ فأنت الذي بدأتهم بالحجة، ودعوتهم إلى الفيئة والإنابة، ثم ثنيت معقبا بالعفو، ونعشتهم بعد البؤس، وآنستهم من الوحشة؟ أم نشكرك على مكارم الأخلاق، وأنت الذي ثبت وطأتها، ونفيت عنها أضدادها، ولو نطقت بالفضل، لنطقت بشكرك، في إزالتك إياها عن اللئام، وإخطائك من اعتزى إليها؟ أم نشكرك عن الثغور؛ فأنت الذي تممتها، وحصنت عوراتها؟ أم نشكرك عن السلف؛ فأنت الذي أشدت بفعالهم، وحفظتهم في أبنائهم؟ أم نشكرك عن برد رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، وعن القضيب الذي شخص به، حتى جعلتهما زينتك، وسموت بهما في أعيادك، عند حشدك، على الطهر والزكاة، والنسك والتقوى؟
أم نشكرك عن المسلمين في رعايتك إياهم، وما ترعيهم من جنابك، وتنفي عنهم من الآفات، وتقل عنهم من جبابرة الكفر، وتفض من جيوش الشرك والنكث، وتفتح من الحصون المستصعبة، وتسهل من الطرق الوعرة؟ أم نشكرك عن تواضعك لله عز وجل ولصالح المسلمين طلبا للرفعة عند الله؟ أم نشكرك عن الدين وقد جعلت السلطان عبدا وقائدا ومنفذا، وكان مأمورا فجعلته آمرا، وآلة للقوة فجعلت القوة له آلة؟
فيا من اتصل شكره بشكر الله عز وجل ونعمته بنعمة الله تعالى وطاعته، بطاعة الله فوهب الله لك شرف المنازل، ورقاك درج الفضائل، وجزاك الله عنا وعن غيرنا، مما شكر من ناطق أو صامت، جزيل الثواب ورفيع الدرجات، وأمتعك ما أتاك، وأمتع الأمة ما آتاهم منك، والحمد لله ذي الرغبات، ومتمم الصالحات، شكرا لرب العالمين، فإنه مبلغ طاقتنا، ومنتهى جهدنا، وبه نستعين على تأدية فرائضه، إنه لا يعين على ذلك إلا هو. أحببت أن نشكر إليكم أمير المؤمنين - أيده الله - إذ ورد علي من أنعامه وأفضاله، ما لا أبلغه بالفعل، وأن يكون ما اقتصصنا عليكم، داعيا لكم، إلى أن تشكروه عنا، وعن أنفسكم، وعن الإسلام والمسلمين، ورجوت بما وفقنا الله له، فيما شرحنا وأوضحنا، من الدلالة والبيان أن يكون مجتمعا ينتفع به من حضرنا، ومن عسى أن يؤدى إليه الخبر عنا، أو حدث بعدنا، وضننت بهذه المكرمة الرائعة، والمأثرة البارعة، التي ادخرها الله لأمير المؤمنين، أعز الله نصره، وأفرده بها، دون الأئمة والخلفاء، أن تمر بالأسماع صفحا، وتجتاز على القلوب سهوا، حتى تؤكد بالشواهد والبرهان، ليبقى ذكرها ونفعها في الخلوف والأعقاب، ونحن نسأل الله عز وجل الذي جمع بأمير المؤمنين - مد الله في عمره - ألفتنا، وعلى طاعته أهواءنا وضمائرنا، وأنالنا من الغبطة في دولته وسلطانه، ما لم تحوه شيعة إمام، ولا أنصار خليفة، أن يتم نور أمير المؤمنين، ويعلي كعبه، ويمتعنا ببقائه، حتى يبلغه سؤله وهمته في الاستكثار من البر وادخار الأجر، واستيجاب الحمد والشكر، وأن يلم به الشعث، ويرأب به الصدع، ويصلح على يديه الفساد، ويرتق به فتوق هذه الأمة، ويثخن بسياسته ونكايته في عدوها، ويتابع الفتوح في بلدانهم حتى يؤتيه من نجح السعي، ورغائب الحظ في الدنيا، ما يجزل عليه ثوابه في الآخرة، وأرشد نجباءه وأصفياءه، الذين يقول لهم:
فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة والله يحب المحسنين .
ومن توقيعاته نقلا عن كتاب الصولي:
وقع إلى عامل ظالم: «الحق طريق واضح لمن طلبه، تهديه محجته، ولا تخاف عثرته، وتؤمن في السر مغبته، فلا تستقلن منه ولا تعدلن عنه؛ فقد بالغت في مناصحتك، فلا تحوجني إلى معاودتك، فليس بعد التقدمة إليك إلا سطوة الإنكار عليك.»
ووقع في عناية بإنسان إلى بعض العمال: «أنا بفلان تام العناية، وله شديد الرعاية، وكنت أحب أن يكون ما أرعيته طرفك من أمره في كتابي مستودعا سمعك من خطابي، فلا تعدلن بعنايتك إلى غيره، ولا تمنحن بعقدك سواه حتى تنيله إرادته وتتجاوز به أمنيته إن شاء الله.»
وفي كتاب ابن طيفور من توقيعات أحمد بن يوسف الشيء الكثير، فارجع إليه إن شئت. (6) رسائل سهل بن هارون
8
من كلامه:
حكى الجاحظ قال: لقي رجل سهل بن هارون فقال: هب لي ما لا ضرر به عليك. فقال: وما هو يا أخي؟ قال: درهم. قال: لقد هونت الدرهم وهو طائع الله في أرضه لا يعصي، وهو عشر العشرة، والعشرة عشر المائة، والمائة عشر الألف، والألف دية المسلم. ألا ترى إلى أين انتهى الدرهم الذي هونته؟ وهل بيوت الأموال إلا درهم على درهم؟! فانصرف الرجل، ولولا انصرافه لم يسكت.
وحكى دعبل الخزاعي الشاعر قال: أقمنا يوما عند سهل بن هارون، وأطلنا الحديث حتى أضر به الجوع، فدعا بغذائه، فأتي بصحفة فيها مرق تحته ديك هرم، فأخذ كسرة وتفقد ما في الصحفة فلم يجد رأس الديك، فبقي مطرقا، ثم قال للغلام: أين الرأس؟ قال: رميت به. قال: ولم؟ قال: لم أظنك تأكله! قال: ولم ظننت ذلك؟! فوالله إني لأمقت من يرمي برجله فكيف برأسه! ولو لم أكره ما صنعت إلا للطيرة والفأل لكرهته. أما علمت أن الرأس رئيس يتفاءل به، وفيه الحواس الخمس، ومنه يصيح الديك، ولولا صوته ما أريد، وفيه فرقه الذي يتبرك به، وعينه التي يضرب بصفائها المثل فيقال: شراب كعين الديك، ودماغه عجب لوجع الكلية، ولم أر عظما قط أهش تحت الأسنان منه، وإن كان بلغ من نبلك أنك لا تأكله، فعندنا من يأكله، أوما علمت أنه خير من طرف الجناح ومن رأس العنق؟! انظر أين رميته. فقال: والله ما أدري. قال: أنا والله أدري! إنك رميت به والله في بطنك، فالله حسيبك.
ومن مؤلفاته كتاب البخلاء.
ولما صنف سهل كتابه في البخل أهداه إلى الحسن بن سهل واستماحه، فكتب إليه الحسن: قد مدحت ما ذمه الله، وحسنت ما قبحه الله، وما يقوم بفساد معناك صلاح لفظك، قد جعلنا ثواب مدحك فيه قبول قولك، فما نعطيك شيئا.
واتهم سهل بن هارون بالبخل وأورد له في ذلك قصص ونوادر، وعده الجاحظ من «متعاقلي البخلاء وأشحاء العلماء» قال: ما علمت أن أحدا جرد في البخل كتابا إلا سهل بن هارون، وأبا عبد الرحمن الثوري، والبخل في الفرس غالب في الجملة، غلبة الكرم على طبائع العرب، فاقتضى ذلك التفريط الذي رآه سهل في تبذير العرب، أن يدلي لقومه بآرائه المفرطة في الاقتصاد والإمساك. وما شوهد قط تفريط إلا وإلى جانبه إفراط.
كتبه وطريقته في التأليف
كان سهل بن هارون منقطع القرين في صنوف العلم والآداب، وناهيك بعالم كبير كالجاحظ كان يؤلف الكتاب الكثير المعاني، الحسن النظم، فينسبه إلى نفسه فلا يرى الأسماع تصغي إليه، ولا القلوب تيمم نحوه، ثم يؤلف - كما قال عن نفسه - ما هو أنقص منه مرتبة وأقل منه فائدة، فينحله عبد الله بن المقفع، أو سهل بن هارون، فيقبل الناس عليها، ويسارعون إلى نسخها.
ويقال إن طريقة سهل في كتابته طريقة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب؛ لا يتكلف لكلامه، فلا يشاهد فيه الناقد أثر التعمل، بل لا يكلف بغير إرسال النفس على سجيتها، فهو وابن المقفع والجاحظ على غرار واحد.
وقيل إن سهلا كاتب سلاطين، والجاحظ مؤلف دواوين. وكأن كلامه نغمة موسيقية تعرف انتهاء جملته من رنتها بعد أن ملكت عليك مشاعرك، لا يحفل بالأسجاع إلا إذا جاءت عفو الخاطر، شأن بلغاء الصدر الأول. وكان يقول الشعر، وأكثر شعره مما أملاه قلبه، في غرض من أغراض المجتمع. وعده الجاحظ من الخطباء والشعراء الذين جمعوا الشعر والخطب والرسائل الطوال والقصار، والكتب الكبار المجلدة، والسير الحسان المولدة، والأخبار المدونة. ولقبه مرة بالكاتب، ولعل لقب الكاتب في شرفه أكبر من عالم. وذكره ابن النديم في البلغاء وقال: إنه شاعر مقل، وعده في الشعراء الكتاب. وقال: إنه كان ممن يعمل الأسمار والخرافات على ألسنة الناس والطير والبهائم هو وعبد الله بن المقفع وعلي بن داود كاتب زبيدة . وشعره خمسون ورقة. أما الدهشة ففي تآليفه، فله ديوان رسائله، وكتاب النمر والثعلب، وكتاب أسباسيوس (أسانوس) في اتخاذ الإخوان، كتاب أسد بن أسد، كتاب سحرة العقل، كتاب تدبير الملك والسياسة، كتاب إلى عيسى بن أبان في القضاء، كتاب الفرس، كتاب الغزالين، كتاب ندود وودود ولدود، كتاب الرياض، كتاب ثعلة وعفراء، (وفي رواية ثعلة وعفرة) على مثال كتاب كليلة ودمنة، قلده في أبوابه وأمثاله.
وقال المسعودي: يزيد عليه - أي على كليلة ودمنة - في حسن نظمه، وقد صنفه للمأمون. ومن تآليفه: كتاب الهزلية والمخزومي، كتاب الوامق والعذراء، إلى غير ذلك من المصنفات التي لم تبق الأيام - ويا للأسف! - على واحد منها فيما علمنا.
دخل سهل على الرشيد وهو يضاحك المأمون؛ فقال: اللهم زده من الخيرات، وابسط له من البركات، حتى يكون في كل يوم من أيامه مربيا على أمسه، مقصرا عن غده. فقال الرشيد: يا سهل، من روى من الشعر أحسنه وأرصنه، ومن الحديث أفصحه وأوضحه، إذا رام أن يقول لا يعجزه القول؟ فقال سهل: يا أمير المؤمنين، ما ظننت أن أحدا تقدمني إلى هذا المعنى. قال: بل أعشى همدان حيث يقول:
رأيتك أمس خير بني لؤي
وأنت اليوم خير منك أمس
وأنت غدا تزيد الخير ضعفا
كذاك تزيد سادة عبد شمس
وقد شهد مقتل البرامكة في سنة 187ه، وحدث فيما كان عليه يحيى وجعفر من البلاغة فقال: إن سجاعي الخطب، ومحبري القريض عيال على يحيى بن خالد بن برمك وجعفر بن يحيى، ولو كان كلام يتصور درا، ويحيله المنطق السري جوهرا، لكان كلامهما، والمنتقى من لفظهما، ولقد كانا مع هذا عند كلام الرشيد في بديهته وتوقيعاته في كتبه، فدمين عيين، وجاهلين أميين، ولقد عمرت معهم، وأدركت طبقة المتكلمين في أيامهم، وهم يرون أن البلاغة لم تستكمل إلا فيهم، ولم تكن مقصورة إلا عليهم، ولا انقادت إلا لهم، وأنهم محض الأنام، ولباب الكرام، وملح الأيام، عشق منظر، وجودة مخبر، وجزالة منطق، وسهولة لفظ، ونزاهة نفس، واكتمال خصال، حتى لو فاخرت الدنيا بقليل أيامهم، والمأثور من خصالهم، كثير أيام من سواهم من لدن آدم أبيهم إلى النفخ في الصور، وابتعاث أهل القبور، حاشا أنبياء الله المكرمين، وأهل وحيه المرسلين، لما باهت إلا بهم، ولا عولت في الفخر إلا عليهم، ولقد كانوا مع تهذيب أخلاقهم، وكريم أعراقهم، وسعة آفاقهم، ورفق ميثاقهم، ومعسول مذاقهم، وبهاء إشراقهم، ونقاوة أعراضهم، وتهذيب أغراضهم، واكتمال خلال الخير فيهم، إلى ملء الأرض مثلهم في جنب محاسن المأمون كالنفثة (التفلة) في البحر، والخردلة في المهمه القفر.
قيل: وهذا الكلام على ما فيه من حقيقة في بيان سجايا البرامكة والرشيد والمأمون لم يختتم بالنصفة الحقة، ومال به سهل إلى المصانعة، وخرجه على نحو مبالغة الفرس، في الإطراء والملق لولي الأمر.
وروى بعض الرواة أن المأمون كان استقل سهل بن هارون؛ وقد دخل عليه يوما والناس على مراتبهم، فتكلم المأمون بكلام ذهب فيه كل مذهب، فلما فرغ من كلامه أقبل سهل بن هارون على الجمع فقال: ما لكم تسمعون ولا تعون، وتشاهدون ولا تفقهون، وتفهمون ولا تتعجبون، وتتعجبون ولا تنصفون! والله إنه ليقول ويفعل في اليوم القصير ما فعل بنو مروان في الدهر الطويل، عربكم كعجمكم، وعجمكم كعبيدكم، ولكن كيف يعرف بالدواء من لا يشعر بالداء! فرجع المأمون فيه إلى الرأى الأول؛ وعرف أنه الرجل كل الرجل، فقربه وأدناه على النحو الذي كان عليه في عهد والده.
ومن كلام له في كتابه ثعلة وعفرة:
اجعلوا أداء ما يجب عليكم من الحقوق مقدما قبل الذي تجودون به من تفضلكم، فإن تقديم النافلة مع الإبطاء في الفريضة شاهد على وهن العقيدة، وتقصير الروية، ومضر بالتدبير، ومخل بالاختيار، وليس في نفع تحمد به عوض من فساد المروءة، ولزوم النقيصة.
وهذا مأخوذ من قوله في يحيى بن جعفر:
عدو تلاد المال فيما ينوبه
منوع إذا ما منعه كان أحزما
مذلل نفس قد أبت غير أن ترى
مكاره ما تأتي من العيش مغنما
وكتب إلى صديق له أبل من ضعف:
بلغني خبر الفترة في إلمامها وانحسارها، والشكاة في حلولها وارتحالها، فكاد يشغل القلق بأوله عن السكون لآخره، وتذهل الحيرة في ابتدائه، عن المسرة في انتهائه، وكان تغيري في الحالين بقدرهما ارتياعا للأولى، وارتياحا للأخرى. •••
وكتب في البخل:
بسم الله الرحمن الرحيم
أصلح الله أمركم وجمع شملكم وعلمكم الخير وجعلكم من أهله. قال الأحنف بن قيس: يا معشر بني تميم، لا تسرعوا إلى الفتنة، فإن أسرع الناس إلى القتال أقلهم حياء من الفرار. وقد كانوا يقولون: إذا أردت أن ترى العيوب جمة فتأمل عيابا؛ فإنه إنما يعيب الناس بفضل ما فيه من العيب. ومن أعيب العيب أن تعيب ما ليس بعيب. وقبيح أن تنهى مرشدا وأن تغرى بمشفق. وما أردنا بما قلنا إلا هدايتكم وتقويمكم، وإصلاح فاسدكم، وإبقاء النعمة عليكم. وما أخطأنا سبيل حسن النية فيما بيننا وبينكم. وقد تعلمون أنا ما أوصيناكم إلا بما اخترناه لكم، ولأنفسنا قبلكم، وشهرنا به في الآفاق دونكم؛ ثم نقول في ذلك ما قال العبد الصالح لقومه:
وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب ، فما كان أحقنا منكم في حرمتنا بكم أن ترعوا حق قصدنا بذلك إليكم على ما رعيناه من واجب حقكم؛ فلا العذر المبسوط بلغتم، ولا بواجب الحرمة قمتم. ولو كان ذكر العيوب يراد به فخر لرأينا في أنفسنا من ذلك شغلا.
عبتموني بقولي لخادمي: أجيدي العجين فهو أطيب لطعمه وأزيد في ريعه.
9
وقد قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أملكوا العجين
10
فإنه أحد الربعين.
وعبتموني حين ختمت على ما فيه شيء ثمين من فاكهة رطبة نقية ومن رطبة غريبة على عبد نهم وصبي جشع وأمة لكعاء
11
وزوجة مضيعة.
وعبتموني بالختم وقد ختم بعض الأئمة على مزود سويق
12
وعلى كيس فارغ. وقال: طينة خير من طية، فأمسكتم عمن ختم على لا شيء، وعبتم من ختم على شيء.
وعبتموني أن قلت للغلام: إذا زدت في المرق فزد في الإنضاج ليجتمع مع التأدم باللحم طيب المرق.
وعبتموني بخصف النعل
13
وبتصدير القميص،
14
وحين زعمت أن المخصوفة من النعل أبقى وأقوى وأشبه بالشد، وأن الترقيع من الحزم والتفريط من التضييع، وقد كان رسول الله
صلى الله عليه وسلم
يخصف نعله ويرقع ثوبه ويقول: لو أهدي إلي ذراع لقبلت، ولو دعيت إلى كراع لأجبت. وقالت الحكماء: لا جديد لمن لم يلبس الخلق. وبعث زياد رجلا يرتاد له محدثا، واشترط عليه أن يكون عاقلا، فأتاه به موافقا فقال له: أكنت به ذا معرفة ؟ قال: لا، ولكني رأيته في يوم قائظ يلبس خلقا ويلبس الناس جديدا، فتفرست فيه العقل والأدب. وقد علمت أن الخلق في موضعه مثل الجديد في موضعه. وقد جعل الله لكل شيء قدرا وسما به موضعا كما جعل لكل زمان رجالا ولكل مقام مقالا. وقد أحيا الله بالسم وأمات بالدواء وأغص بالماء. وقد زعموا أن الإصلاح أحد الكاسبين كما زعموا أن قلة العيال أحد اليسارين. وقد جبر الأحنف بن قيس يد عنز، وأمر مالك بن أنس بفرك النعل. وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: من أكل بيضة فقد أكل دجاجة. ولبس سالم بن عبد الله جلد أضحية. وقال رجل لبعض الحكماء: أريد أن أهدي إليك دجاجة. فقال: إن كان لا بد فاجعلها بيوضا.
وعبتموني حين قلت: من لم يعرف مواضع السرف في الموجود الرخيص لم يعرف مواضع الاقتصاد في الممتنع الغالي. ولقد أتيت بماء للوضوء على مبلغ الكفاية وأشد من الكفاية، فلما صرت إلى تفريق أجزائه على الأعضاء وإلى التوفير عليها من وضيعة
15
الماء وجدت في الأعضاء فضلا عن الماء، فعلمت أن لو كنت سلكت الاقتصاد في أوائله لخرج آخره على كفاية أوله، ولكان نصيب الأول كنصيب الآخر، فعبتموني بذاك وشنعتم علي؛ وقد قال الحسن وذكر السرف: أما إنه ليكون في الماء والكلأ، فلم يرض بذكر الماء حتى أردفه الكلأ.
وعبتموني أن قلت: لا يغترن أحدكم بطول عمره وتقويس ظهره ورقة عظمه ووهن قوته، وأن يرى نحوه أكثر ذريته، فيدعوه ذلك إلى إخراج ماله من يده وتحويله إلى ملك غيره وإلى تحكيم السرف فيه وتسليط الشهوات عليه، فلعله يكون معمرا وهو لا يدري، وممدودا له في السن وهو لا يشعر، ولعله أن يرزق الولد على اليأس ويحدث عليه من آفات الدهر ما لا يخطر على بال ولا يدركه عقل، فيسترده ممن لا يرده، ويظهر الشكوى إلى من لا يرحمه أصعب ما كان عليه الطلب وأقبح ما كان به أن يطلب، فعبتموني بذلك؛ وقد قال عمرو بن العاص: اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا.
وعبتموني بأن قلت: بأن السرف والتبذير إلى مال المواريث وأموال الملوك، وأن الحفظ للمال المكتسب والغنى المجتلب، وإلى من لا يعرض فيه بذهاب الدين واهتضام العرض ونصب البدن واهتمام القلب أسرع، ومن لم يحسب نفقته لم يحسب دخله، ومن لم يحسب الدخل فقد أضاع الأصل، ومن لم يعرف للغنى قدره فقد أوذن بالفقر وطاب نفسا بالذل.
وعبتموني بأن قلت: إن كسب الحلال يضمن الإنفاق في الحلال، وإن الخبيث ينزع إلى الخبيث، وإن الطيب يدعو إلى الطيب، وإن الإنفاق في الهوى حجاب دون الهدى؛ فعبتم علي هذا القول، وقد قال معاوية: لم أر تبذيرا قط إلا وإلى جنبه حق مضيع. وقد قال الحسن: إن أردتم أن تعرفوا من أين أصاب الرجل ماله فانظروا فيماذا ينفقه؛ فإن الخبيث إنما ينفق في السرف. وقلت لكم بالشفقة عليكم وحسن النظر مني لكم وأنتم في دار الآفات، والجوائح غير مأمونات: فإن أحاطت بمال أحدكم آفة لم يرجع إلا إلى نفسه. فاحذروا النقم باختلاف الأمكنة؛ فإن البلية لا تجري في الجميع إلا بموت الجميع.
وقد قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - في العبد والأمة والشاة والبعير: فرقوا بين المنايا. وقال ابن سيرين لبعض البحريين: كيف تصنعون بأموالكم؟ قالوا: نفرقها في السفن، فإن عطب بعض سلم بعض. ولولا أن السلامة أكثر ما حملنا أموالنا في البحر. قال ابن سيرين: تحسبها خرقاء وهي صناع.
16
وعبتموني بأن قلت لكم عند إشفاقي عليكم: إن للغنى لسكرا وللمال لنزوة،
17
فمن لم يحفظ الغنى من سكره فقد أضاعه، ومن لم يرتبط المال لخوف الفقر فقد أهمله.
فعبتموني بذلك وقد قال زيد بن جبلة: ليس أحد أقصر عقلا من غني أمن الفقر، وسكر الغنى أكثر من سكر الخمر. وقد قال الشاعر في يحيى بن خالد بن برمك:
وهوب تلاد المال فيما ينوبه
منوع إذا ما منعه كان أحزما
وعبتموني حين زعمتم أني أقدم المال على العلم، لأن المال به يفاد العلم وبه تقوم النفس قبل أن تعرف فضل العلم، فهو أصل والأصل أحق بالتفضيل من الفرع، فقلتم: كيف هذا؟ وقد قيل لرئيس الحكماء: الأغنياء أفضل أم العلماء؟ قال: العلماء. قيل له: فما بال العلماء يأتون أبواب الأغنياء أكثر ما يأتي الأغنياء أبواب العلماء؟ قال: ذلك لمعرفة العلماء بفضل المال وجهل الأغنياء بحق العلم. فقلت: حالهما هي القاضية بينهما. وكيف يستوي شيء حاجة العامة إليه وشيء يغني فيه بعضهم عن بعض!
وكان النبي
صلى الله عليه وسلم
يأمر الأغنياء باتخاذ الغنم والفقراء باتخاذ الدجاج. وقال أبو بكر رضي الله عنه: إني لأبغض أهل بيت ينفقون نفقة الأيام في اليوم الواحد. وكان أبو الأسود الدؤلي يقول لولده: إذا بسط الله لك الرزق فابسط، وإذا قبض فاقبض.
وعبتموني حين قلت: فضل الغنى على القوت إنما هو كفضل الآلة تكون في البيت إذا احتيج إليها استعملت وإن استغني عنها كانت عدة. وقد قال الحصين بن المنذر: وددت أن لي مثل أحد ذهبا لا أنتفع منه بشيء. قيل له: فما كنت تصنع به؟ قال: لكثرة من كان يخدمني عليه؛ لأن المال مخدوم. وقد قال بعض الحكماء: عليك بطلب الغنى؛ فلو لم يكن فيه إلا أنه عز في قلبك وذل في قلب عدوك، لكان الحظ فيه جسيما والنفع فيه عظيما.
ولسنا ندع سيرة الأنبياء وتعليم الخلفاء وتأديب الحكماء لأصحاب اللهو؛ ولستم علي تردون ولا رأيي تفندون، فقدموا النظر قبل العزم، وأدركوا مالكم قبل أن تدركوا مآلكم، والسلام عليكم.
وسهل هو القائل:
تقسمني همان قد كسفا بالي
وقد تركا قلبي محلة بلبال
هما أذريا دمعي ولم تذر عبرتي
رهينة خد ذات سمط وخلخال
ولا قهوة لم يبق منها سوى الذي
على أن تحاكي النور في رأس ذيال
تحلل منها جرمها وتماسكت
لها نفس معدوم على الزمن الخالي
ولكنما أبكي بعين سخية
على حدث تبكي له عين أمثالي
فراق خليل لا يقوم به الأسى
وخلة حر لا يقوم بها مالي
فوا حسرتي حتى متى القلب موجع
لنفر خليل أو تعذر إفضال
وما الفضل إلا أن تجود بنائل
وإلا لقاء الخل ذي الخلق العالي
وهو القائل:
إذا امرؤ ضاق عني لم يضق خلقي
من أن يراني غنيا عنه بالياس
لا أطلب المال كي أغنى بفضلته
ما كان مطلبه فقرا من الناس (7) عمرو بن مسعدة
كان كاتبا بليغا، جزل العبارة وجيزها، سديد المقاصد، فضله شائع، ونبله ذائع؛ أشهر من أن ينبه عليه، أو يدل بالوصف إليه؛ قد ولي للمأمون الأعمال الجليلة، وألحق بذوي المراتب النبيلة.
18
وسماه بعض الشعراء وزيرا لعظم منزلته لا لأنه كان وزيرا، وهو قوله:
لقد أسعد الله الوزير ابن مسعده
وبث له في الناس شكر ومحمده
فهو كما كتب الحسن بن سهل إلى محمد بن سماعة القاضي - وقد احتاج إلى رجل يوليه بعض الأعمال - فقال: إنه يريد رجلا جامعا لخصال الخير، ذا عفة ونزاهة طعمة؛
19
قد هذبته الآداب، وأحكمته التجارب، ليس بظنين في رأيه، ولا بمطعون في حسبه، إن اؤتمن على الأسرار قام بها، وإن قلد مهما من الأمور أجزأ
20
فيه، له سن مع أدب ولسان، تعقده الرزانة، ويسكته الحلم، قد فر
21
عن ذكاء وفطنة، وعض
22
على قارحة من الكمال، تكفيه اللحظة، وترشده السكتة، قد أبصر خدمة الملوك وأحكمها، وقام في أمور فحمد فيها، له أناة الوزراء، وصولة الأمراء، وتواضع العلماء، وفهم الفقهاء، وجواب الحكماء، لا يبيع نصيب يومه بحرمان غده، يكاد يسترق قلوب الرجال بحلاوة لسانه، وحسن بيانه، دلائل الفضل عليه لائحة، وأمارات العلم له شاهدة، مضطلعا بما استنهض، مستقلا بما حمل.
ومن كلام عمرو بن مسعدة:
أعظم الناس أجرا، وأنبههم ذكرا، من لم يرض بموت العدل في دولته، وظهور الحجة في سلطانه، وإيصال المنافع إلى رعيته في حياته، وأسعد الرعاة من دامت سعادة الحق في أيامه، وبعد وفاته وانقراضه.
وقال: الخط صور الكتب، ترد إليها أرواحها.
وقال: الخط صورة ضئيلة لها معان جليلة، وربما ضاق عن العيون، وقد ملأ أخطار الفنون.
وقال: لا تستصحب من يكون استمتاعه بمالك وجاهك، أكثر من إمتاعه لك بشكر لسانه وفوائد علمه، ومن كانت غايته الاحتيال على مالك وإطراءك في وجهك، فإن هذا لا يكون إلا رديء الغيب، سريعا إلى الذم.
وكتب إلى الحسن بن سهل:
أما بعد، فإنك ممن إذا غرس سقى، وإذا أسس بنى، ليستتم تشييد أسسه، ويجتني ثمار غرسه، وثناؤك عندي قد شارف الدروس، وغرسك مشف على اليبوس، فتدارك بناء ما أسست، وسقي ما غرست إن شاء الله.
وكتب إلى بعض أصحابه في شخص يعز عليه:
أما بعد، فموصل كتابي إليك سالم والسلام. أراد قول الشاعر:
يديرونني عن سالم وأديرهم
وجلدة بين العين والأنف سالم
أي يحل مني هذا المحل.
وكتب إلى المأمون في رجل من بني ضبة يستشفع له بالزيادة في منزلته وجعل كتابه تعريضا:
أما بعد، فقد استشفع بي فلان يا أمير المؤمنين لتطولك علي، في إلحاقه بنظرائه من الخاصة فيما يرتزقون به، وأعلمته أن أمير المؤمنين لم يجعلني في مراتب المستشفعين، وفي ابتدائه بذلك تعدي طاعته، والسلام.
فكتب إليه المأمون: «قد عرفنا توطئتك له، وتعريضك لنفسك، وأجبناك إليهما، ووافقناك عليهما.» وقوله: «إن أمير المؤمنين لم يجعلني في مراتب المستشفعين، وفي ابتدائه بذلك تعدي طاعته»، من الكلام السري الذي يدل على مبلغ عمرو وبعد غوره في السياسة ووقوفه على روح عصره ونفسية الخلفاء.
قدم رجل من أبناء دهاقين
23
قريش، على المأمون لعدة سلفت منه، فطال على الرجل انتظار خروج أمر المأمون، فقال لعمرو بن مسعدة: توصل مني رقعة إلى أمير المؤمنين تكون أنت الذي تكتبها تكن لك علي نعمتان. فكتب: «إن رأى أمير المؤمنين أن يفك أسر عبده من ربقة المطل بقضاء حاجته، أو يأذن له بالانصراف إلى بلده فعل إن شاء الله.»
فلما قرأ المأمون الرفعة دعا عمرا فجعل يعجب من حسن لفظها، وإيجاز المراد. فقال عمرو: فما نتيجتها يا أمير المؤمنين؟ قال: الكتاب له في هذا الوقت بما وعدناه، لئلا يتأخر فضل استحساننا كلامه، وبجائزة مائة ألف درهم، صلة عن دناءة المطل، وسماجة الإغفال.
وهذا مما يدل على سعة عقل المأمون وولوعه بالبلاغة وقدره أهلها حق قدرهم، دع ما هنالك من نفس ما أحبت إلا الجود والعطاء.
ومن حكم عمرو بن مسعدة:
العبودية عبودية الإخاء، لا عبودية الرق. الود أعطف من الرحم. إن الكريم ليرعى من المعرفة ما رعى الوصل من القرابة. عليكم بالإخوان فإنهم زينة في الرخاء، وعدة للبلاء. مثل الإخوان مثل النار، قليلها متاع، وكثيرها بوار. النفس بالصديق، آنس منها بالعشيق، وغزل المودة، أرق من غزل الصبابة. من حقوق المودة، عفو الإخوان، والإغضاء عن تقصير إن كان. ذكر رجل رجلا فقال: حسبك أنه خلق كما تشتهي إخوانه. المودة قرابة مستفادة. ما تواصل اثنان فدام تواصلهما، إلا لفضلهما أو فضل أحدهما. أسرع الأشياء انقطاعا مودة الأشرار. المحروم من حرم صالحي الإخوان. لقاء الخليل شفاء الغليل. قلة الزيارة، أمان من الملالة. إخوان السوء كشجر النار يحرق بعضه بعضا. علامة الصديق إذا أراد القطيعة أن يؤخر الجواب، ولا يبتدئ بالكتاب. لا يفسدنك الظن على صديق قد أصلحك اليقين له. من لم يقدم الامتحان قبل الثقة، والثقة قبل الأنس، أثمرت مودته ندما. إذا قدمت الحرمة، تشبهت بالقرابة. العتاب حياة المودة. ظاهر العتاب خير من باطن الحقد. ما أكثر من يعاتب لطلب علة، ويبقى الود ما بقي العتاب. كمون الحقد في الفؤاد ككمون النار في الزناد. القريب بعيد بعداوته، والبعيد قريب بمودته. لا تأمنن عدوك وإن كان مقهورا، واحذره وإن كان مفقودا، فإن حد السيف فيه وإن كان مغمودا. لا تتعرض لعدوك في دولته، فإنها إذا زالت كفتك مئونته. نصح الصديق تأديب، ونصح العدو تأنيب.
روى البيهقي قال: أخبرنا بعض أصحابنا قال: شهدت المأمون يوما وقد خرج من باب البستان ببغداد فصاح به رجل بصري: يا أمير المؤمنين، إني تزوجت بامرأة من آل زياد، وإن أبا الرازي فرق بيننا وقال: هي امرأة من قريش! قال: فأمر عمرو بن مسعدة فكتب إلى أبي الرازي: إنه قد بلغ أمير المؤمنين ما كان من الزيادية وخلعك إياها إذ كانت من قريش؛ فمتى تحاكمت إليك العرب؟ لا أم لك في أنسابها، ومتى وكلتك قريش يا بن اللخناء بأن تلصق بها من ليس منها؟ فخل بين الرجل وامرأته، فلئن كان زياد من قريش، إنه لابن سمية بغي عاهرة، لا يفتخر بقرابتها، ولا يتطاول بولادتها. ولئن كان ابن عبيد، لقد باء بأمر عظيم، إذ ادعى إلى غير أبيه، لحظ تعجله، وملك قهره.
وأمر المأمون عمرو بن مسعدة أن يكتب لرجل به عناية إلى بعض العمال في قضاء حقه، وأن يختصر كتابه ما أمكنه، حتى يكون ما يكتب به في سطر واحد، لا زيادة عليه، فكتب عمرو:
كتابي إليك كتاب واثق بمن كتبت إليه، معني بمن كتب له، ولن يضيع بين الثقة والعناية حامله.
وكتب إلى بعض الرؤساء، وقد تزوجت أمه فساءه ذلك، فلما قرأها ذلك الرئيس تسلى بها، وذهب عنه ما كان يجده. وقيل: إن هذه الرسالة من إنشاء ابن العميد وهي:
الحمد لله الذي كشف عنا ستر الحيرة، وهدانا لستر العورة. وجدع بما شرع من الحلال أنف الغيرة، ومنع من عضل الأمهات، كما منع من وأد البنات، استنزالا للنفوس الأبية، عن الحمية حمية الجاهلية، ثم عرض لجزيل الأجر، من استسلم لواقع قضائه، وعوض جليل الذخر من صبر على نازل بلائه، وهنأك الذي شرح للتقوى صدرك، ووسع في البلوى صبرك، وألهمك من التسليم لمشيئته، والرضا بقضيته، ما وفقك له من قضاء الواجب في أحد أبويك، ومن عظم حقه عليك، وجعل الله تعالى جده ما تجرعته من أنف، وكظمته من أسف، معدودا فيما يعظم به أجرك، ويجزل عليه ذخرك، وقرن بالحاضر من امتعاضك بفعلها، المنتظر من ارتماضك بدفنها، فتستوفي بها المصيبة، وتستكمل عنها المثوبة، فوصل الله لسيدي ما استشعره من الصبر على عرسها، بما يكتسبه من الصبر على نفسها، وعوضه من أسرة فرشها، أعواد نعشها، وجعل تعالى جده ما ينعم به عليه بعدها من نعمة، معرى من نقمة، وما يوليه بعد قبضها من منحة، مبرأ من محنة، فأحكام الله تعالى جده وتقدست أسماؤه، جارية على غير مراد المخلوقين، لكنه تعالى يختار لعباده المؤمنين ما هو خير لهم في العاجلة، وأبقى لهم في الآجلة، اختار الله لك في قبضها إليه، وقدومها عليه، ما هو أنفع لها، وأولى بها، وجعل القبر، كفؤا لها، والسلام.
وقال عبد العزيز بن يحيى المكي الذي ناظر بشر بن غياث المريسي بحضرة أمير المؤمنين في مسألة خلق القرآن:
جاءني خليفة عمرو بن مسعدة ومعه جمع من الفرسان والرجالة فحملني مكرما على دابته حتى صار إلى باب أمير المؤمنين فأوقفني حتى جاء عمرو بن مسعدة، فدخل فجلس في حجرته التي كان يجلس فيها ثم أذن لي بالدخول عليه، فدخلت، فلما صرت بين يديه أجلسني ثم قال لي: أنت مقيم على ما كنت عليه أو قد رجعت عنه؟ فقلت: بل مقيم على ما كنت، وقد ازددت بتوفيق الله تعالى إياي بصيرة في أمري. فقال لي عمرو بن مسعدة: أيها الرجل، قد حملت نفسك على أمر عظيم، وبلغت الغاية في مكروهها، وتعرضت لما لا قوام لك به في مخالفة أمير المؤمنين، وادعيت بما لا يثبت لك به حجة على مخالفتك، ولا لأحد غيرك، وليس وراءك بعد الحجة عليك إلا السيف، فانظر لنفسك وبادر أمرك، قبل أن تقع المناظرة وتظهر عليك الحجة، فلا تنفعك الندامة ولا يقبل منك معذرة ولا تقال لك عثرة، فقد رحمتك وأشفقت عليك مما هو نازل بك، وأنا أستقيل لك أمير المؤمنين وأسأله الصفح عن جرمك، وعظيم ما كان منك إذا أظهرت الرجوع عنه والندم على ما كان، وآخذ لك الأمان منه والجائزة، فإن كانت لك ظلامة أزلتها عنك، وإن كانت لك حاجة قضيتها لك، فإنما جلست رحمة لك مما هو نازل بك بعد ساعة إن أقمت على ما أنت عليه، ورجوت أن يخلصك الله تعالى على يدي من عظيم ما أوقعت نفسك فيه.
شعره
نقلنا أمثلة قليلة من نثر عمرو بن مسعدة، أما شعره فقليل جدا. ذكر المترجمون له أنه كان له فرس أدهم أغر، لم يكن لأحد مثله فراهة وحسنا. فبلغ المأمون خبره، وبلغ عمرو بن مسعدة ذلك، فخاف أن يأمر بقوده إليه فلا يكون له فيه محمدة، فوجه به إليه هدية وكتب معه:
يا إماما لا يدا
نيه إذا عد إمام
فضل الناس كما يف
ضل نقصانا تمام
قد بعثنا بجواد
مثله ليس يرام
فرس يزهى به لل
حسن سرج ولجام
دونه الخيل كما مث
لك في الفضل الأنام
وجهه صبح ولكن
سائر الجسم ظلام
والذي يصلح للمو
لى على العبد حرام
وعمرو هو القائل:
ومستعذب للهجر والوصل أعذب
أكاتمه حبي فينأى وأقرب
إذا جدت مني بالرضا جاد بالجفا
ويزعم أني مذنب وهو أذنب
تعلمت ألوان الرضا خوف هجره
وعلمه حبي له كيف يغضب
ولي غير وجه قد عرفت طريقه
ولكن بلا قلب إلى أين أذهب
ووقع مرة في ظهر رقعة لرجل:
أعزز علي بأمر أنت طالبه
لم يمكن النجح فيه وانقضى أمده
ولعمرو بن مسعدة حكايات منها ما حكاه القاضي التنوخي في كتاب الفرج بعد الشدة:
24
قال عمرو بن مسعدة: كنت مع المأمون عند قدومه من بلاد الروم حتى إذا نزلت الرقة قال: يا عمرو، ما ترى الرجحى قد احتوى على الأهواز، وهي سلة الخير وجميع المال قبله وطمع فيها، وكتبه متصلة بحملها، وهو يتعلل ويتربص بي الدوائر؟ فقلت: أنا أكفي أمير المؤمنين هذا، وأنفذ من يضطره إلى حمل ما عليه. فقال: ما يقنعني هذا. فقلت: فيأمر أمير المؤمنين بأمره. فقال: فاخرج إليه بنفسك حتى تصفده بالحديد، فتحمله إلى بغداد وتقبض على جميع ما في يده من أموالنا، وتنظر في أعمالنا وترتب لها عمالا. فقلت: السمع والطاعة! فلما كان في غد دخلت عليه فقال: ما فعلت فيما أمرتك به؟ قلت: أنا على ذلك. قال: أتريد أن تجيء في غد مودعا؟ قلت: السمع والطاعة! فلما كان في غد جئته مودعا، فقال: أريد أن تحلف لي أنك لا تقيم ببغداد إلا يوما واحدا. فاضطربت من ذلك إلى أن حضني واستحلفني ألا أقيم فيها أكثر من ثلاثة أيام، فخرجت حتى قدمت بغداد، فلم أقم بها إلا ثلاثة أيام، وانحدرت في زلالي أريد البصرة وجعل لي في الزلالي خيش، واستكثرت من الثلج لشدة الحر.
فلما صرت بين جرجان
25
وجبل سمعت صوتا من الشاطئ يصيح: يا ملاح! فرفعت سجف الزلالي وإذا بشيخ كبير السن جالس حاسر الرأس حافي القدمين خلق القميص، فقلت للغلام: أجبه. فأجابه، فقال: يا غلام، أنا شيخ كبير السن على هذه الصورة التي ترى، وقد أحرقتني الشمس وكادت تتلفني، وأريد جبل، فاحملوني معكم فإن الله يحسن أجر صاحبكم. قال: فشتمه الملاح وانتهره، فأدركتني رقة عليه وقلت: خذوه معنا. فتقدمنا الشط وصحنا به وحملناه، فلما صار معنا في الزلالي وانحدرنا نتقدم فدفعت إليه قميصا ومنديلا، وغسل وجهه واستراح وكأنه كان ميتا وعاد إلى الدنيا، فحضر وقت الغذاء وتقدمت وقلت للغلام: هاته يأكل معنا. فجاء وقعد على الطعام، فأكل أكل أديب نظيف غير أن الجوع أثر فيه، فلما رفعت المائدة أردت أن يقوم ويغسل يده ناحية كما تفعل العامة في مجالس الخاصة فلم يفعل، فغسلت يدي وتذممت أن آمر بقيامه، فقلت: قدموا له الطشت. فغسل يده، وأردت بعدها أن يقوم لأنام فلم يفعل، فقلت: يا شيخ، أي شيء صناعتك؟ قال: حائك أصلحك الله! فقلت في نفسي: هذه الحياكة علمته سوء الأدب، فتناومت عليه ومددت رجلي فقال: قد سألتني عن صناعتي، وأنت - أعزك الله - ما صناعتك؟ فأكبرت ذلك وقلت: أنا جنيت على نفسي هذه الجناية ولا بد من احتمالها، أتراه الأحمق لا يرى زلالي وغلماني ونعمتي وأن مثلي لا يقال له هذا؟! فقلت: كاتب. فقال: كاتب كامل أم كاتب ناقص فإن الكتاب خمسة، فأيهم أنت؟ فورد علي قول الحائك موردا عظيما، وسمعت كلاما أكبرته وكنت متكئا فجلست، ثم قلت: فصل الخمسة.
قال: نعم، كاتب خراج يحتاج أن يكون عالما بالشروط والطسوت والحساب والمساحة والبثوق والفتوق والرتوق، وكاتب أحكام يحتاج أن يكون عالما بالحلال والحرام والاحتجاج والإجماع والأصول والفروع، وكاتب معونة يحتاج أن يكون عالما بالقصاص والحدود والجراحات والمواثبات والسياسات، وكاتب جيش يحتاج أن يكون عالما بحلى الرجال وشيات الدواب ومداراة الأولياء وشيئا من العلم بالنسب والحساب ، وكاتب رسائل يحتاج أن يكون عالما بالصدور والفصول والإطالة والإيجاز وحسن البلاغة والخط. قال: فقلت: إني كاتب رسائل. قال: فأسألك عن بعضها. قلت: قل. فقال لي: أصلحك الله، لو أن رجلا من إخوانك تزوج أمك فأردت أن تكاتبه مهنئا فكيف كنت تكاتبه؟ ففكرت في الحال فلم يخطر ببالي شيء، فقلت: ما أرى للتهنئة وجها. قال: فكيف تكتب إليه تعزيه؟ ففكرت فلم يخطر ببالي شيء، فقلت: اعفني. قال: قد فعلت، ولكنك لست بكاتب رسائل. قلت: أنا كاتب خراج.
قال: لا بأس، لو أن أمير المؤمنين ولاك ناحية وأمرك فيها بالعدل والإنصاف وتقضي حاجة السلطان فيتظلم إليك بعضهم من مساحيك، وأحضرتهم للنظر بينهم وبين رعيتك، فحلف المساح بالله العظيم لقد أنصفوا وما ظلموا، وحلفت الرعية بالله إنهم لقد جاروا وظلموا، وقالت الرعية: قف معنا على ما مسحوه وانظر من الصادق من الكاذب، فخرجت لتقف عليه، فوقفوا على براح شكله قاتل قثا، كيف كنت تمسحه؟ قلت: كنت آخذ طوله على انعراجه وعرضه ثم أضربه في مثله. قال: إن شكل قاتل قثا أن يكون زاويتاه محدودتين، وفي تحديده تقويس. قلت: فآخذ الوسط فأضربه في العرض. قال: إذن ينثني عليك العمود! فأسكتني، فقلت: ولست كاتب خراج. قال: فإذن ما أنت؟ قلت: أنا كاتب قاض، قال: أرأيت لو أن رجلا توفي وخلف امرأتين حاملتين إحداهما حرة والأخرى سرية، فولدت السرية غلاما والحرة جارية، فعدت الحرة إلى ولد السرية فأخذته، وتركت بدله الجارية فاختصما في ذلك، فكيف الحكم بينهما؟ قلت: لا أدري. قال: فلست بكاتب قاض. قلت: فأنا كاتب جيش. فقال: لا بأس، أرأيت لو أن رجلين جاءا إليك لتحليهما وكل واحد منهما اسمه واسم أبيه كاسم الآخر إلا أن أحدهما مشقوق الشفة العليا، والآخر مشقوق الشفة السفلى، كيف كنت تحليهما؟ قال: قلت: فلان الأفلح وفلان الأعلم. قال: إن رزقهما مختلفان، وكل واحد منهما يجيء في دعوة الأخر؟ قلت: لا أدري. قال: فلست بكاتب جيش. قلت: أنا كاتب معونة. قال: لا تبالي، لو أن رجلين رفعا إليك قد شج أحدهما الآخر شجة موضحة،
26
وشج الآخر شجة مأمونة، كيف كنت تفصل بينهما؟ قلت: لا أدري. قال: لست إذن كاتب معونة، اطلب لنفسك أيها الرجل شغلا غير هذا. قال: فصغرت إلي نفسي وغاظني، فقلت: قد سألت عن هذه الأمور ويجوز ألا يكون عندك جوابها كما لم يكن عندي، فإن كنت عالما بالجواب فقل.
فقال: نعم، أما الذي تزوج أمك فتكتب إليه: أما بعد، فإن الأمور تجري من عند الله بغير محبة عباده ولا اختيارهم، بل هو تعالى يختار لهم ما أحب. وقد بلغني تزويج الوالدة خار الله لك في قبضها، وإن القبور أكرم الأزواج وأستر العيوب والسلام.
وأما براح قاتل قثا، فتمسح العمود حتى إذا صار عددا في يدك ضربته في مثله ومثل ثلثه، فما خرج فهو المساحة.
وأما الجارية والغلام، فيوزن لبن الاثنتين، فأيهما كان أخف فالجارية له.
وأما الجنديان المتفقا الاسمين، فإن كان الشق في الشفة العليا قيل فلان الأعلم، وإذا كان في الشفة السفلى قلت فلان الأفلح.
وأما صاحب الشجتين، فلصاحب الموضحة ثلث الدية، ولصاحب المأمونة نصف الدية.
فلما أجاب بهذه المسائل تعجبت منه وامتحنته بأشياء كثيرة غيرها فوجدته ماهرا في جميعها حاذقا بليغا، فقلت: ألست زعمت أنك حائك؟ فقال: أنا أصلحك الله حائك كلام ولست بحائك نساجة، وأنشأ يقول:
ما مر بؤس ولا نعيم
إلا ولي فيهما نصيب
فذقت حلوا وذقت مرا
كذاك عيش الفتى ضروب
نوائب الدهر أدبتني
وإنما يوعظ الأديب
قلت: فما الذي بك من سوء الحال؟ قال: أنا رجل كاتب دامت عطلتي، وكثرت عيلتي، وتواصلت محنتي، وقلت حيلتي، فخرجت أطلب تصرفا فقطع علي الطريق فصرت كما ترى، فمشيت على وجهي، فلما لاح لي الزلالي استغثت بك. قلت: فإني قد خرجت إلى متصرف جليل أحتاج فيه إلى جماعة مثلك، وقد أمرت لك بخلعة حسنة تصلح لمثلك وخمسة آلاف درهم تصلح بها أمرك، وتنفذ منها إلى عيالك، وتقوي نفسك بباقيها، وتصير معي إلى عملي فأوليك أجله. فقال: أحسن الله جزاءك، إذن تجدني بحيث أسرك ، ولا أقوم مقام معذر إليك إن شاء الله.
وأمرت بتقبيضه ما رسمت له قبضه، وانحدر إلى الأهواز معي، فجعلته المناظر للرجحي والمحاسب له بحضرتي، والمستخرج لما عليه، فقام بذلك أحسن قيام، وعظمت حاله معي، وعادت نعمته إلى أحسن ما كانت عليه.
وفي عمرو بن مسعدة يقول أبو محمد عبد الله بن أيوب التيمي:
أعني على بارق ناضب
خفى كوحيك بالحاجب
كأن تألقه في السماء
يدا كاتب أو يدا حاسب
فروى منازل تذكارها
يهيج من شوقك الغالب
غريب يحن لأوطانه
ويبكي على عصره الذاهب
كفاك أبو الفضل عمرو الندى
مطالعة الأمل الكاذب
وصدق الرجاء وحسن الوفاء
لعمرو بن مسعدة الكاتب
عريض الفناء طويل البنا
ء في العز والشرف الثاقب
بنى الملك طود له بيته
وأهل الخلافة من غالب
هو المرتجى لصروف الزمان
ومعتصم الراغب الراهب
جواد بما ملكت كفه
على الضيف والجار والصاحب
بأدم الركاب ووشي الثيا
ب والطرف والطفلة الكاعب
نؤمله لجسام الأمور
ونرجوه للجلل الكارب
خصيب الجناب مطير السحاب
بشيمته لين الجانب
يروي القنا من نحور العدا
ويغرق في الجود كاللاعب
إليك تبدت بأكوارها
حراجيج في مهمه لاحب
كأن نعاما تبارى بنا
بوابل من برد عاصب
يردن ندى كفك المرتجى
ويقضين من حقك الواجب
ولله ما أنت من خابر
بسجل لقوم ومن خارب
فتسقي العدا بكئوس الردى
وتسبق مسألة الطالب
وكم راغب نلته بالعطا
وكم نلت بالعطف من هارب
وتلك الخلائق أعطيتها
وفضل من المانع الواجب
كسبت الثناء وكسب الثنا
ء أفضل مكسبة الكاسب
يقينك يجلو ستور الدجى
وظنك يخبر بالغائب (8) رسائل الجاحظ
رسالته في بني أمية
قال أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ:
27
أطال الله بقاءك، وأتم نعمته عليك، وكرامته لك. اعلم - أرشد الله أمرك - أن هذه الأمة قد صارت بعد إسلامها، والخروج من جاهليتها، إلى طبقات متفاوتة، ومنازل مختلفة: فالطبقة الأولى عصر النبي
صلى الله عليه وسلم ، وأبي بكر وعمر - رضي الله عنهما - وست سنين من خلافة عثمان - رضي الله عنه - كانوا على التوحيد الصحيح، والإخلاص المحض ،
28
مع الألفة واجتماع الكلمة على الكتاب والسنة، وليس هناك عمل قبيح، ولا بدعة فاحشة، ولا نزع يد من طاعة، ولا حسد ولا غل ولا تأول، حتى كان الذي كان من قتل عثمان - رضي الله عنه - وما انتهك منه، ومن خبطهم إياه بالسلاح، وبعج بطنه بالحراب، وفري أوداجه بالمشاقص، وشدخ هامته بالعمد، مع كفه عن البسط، ونهيه عن الامتناع، مع تعريفه لهم قبل ذلك: من كم وجه يجوز قتل من شهد الشهادة، وصلى القبلة، وأكل الذبيحة؛ ومع ضرب نسائه بحضرته، وإقحام الرجال على حرمته، مع اتقاء نائلة بنت الفرافصة
29
عنه بيدها، حتى أطنوا
30
إصبعين من أصابعها، وقد كشفت عن قناعها، ورفعت عن ذيلها ليكون ذلك رادعا لهم، وكاسرا من غربهم؛ مع وطئهم في أضلاعه بعد موته، وإلقائهم على المزبلة جسده مجردا بعد سحبه، وهي الجزرة التي جعلها رسول الله
صلى الله عليه وسلم
كفئا لبناته وأياماه وعقائله، بعد السب والتعطيش والحصر الشديد، والمنع من الفوت، مع احتجاجه عليهم وإفحامه لهم؛ ومع اجتماعهم على أن دم الفاسق حرام، كدم المؤمن، إلا من ارتد بعد إسلام، أو زنى بعد إحصان، أو قتل مؤمنا على عمد، أو رجل عدا على الناس بسيفه فكان في امتناعهم منه عطبه؛ ومع اجتماعهم على ألا يقتل من هذه الأمة، ولا يجهز منها على جريح؛ ثم مع ذلك كله ذمروا
31
عليه وعلى أزواجه وحرمه وهو جالس في محرابه ومصحفه يلوح في حجره، لن يرى أن موحدا يقدم على قتل من كان في مثل صفته وحاله.
لا جرم لقد احتلبوا به دما لا تطير رغوته، ولا تسكن فورته، ولا يموت ثائره، ولا يكل طالبه، وكيف يضيع الله دم وليه، والمنتقم له! وما سمعنا بدم بعد دم يحيى بن زكريا - عليهما السلام - غلا غليانه، وقتل سافحه، وأدرك بطائلته، وبلغ كل محبته، كدمه رحمة الله عليه.
ولقد كان لهم في أخذه، وفي إقامته للناس، والاقتصاص منه، وفي بيع ما ظهر من رباعه، وحدائقه، وسائر أمواله، وفي حبسه بما بقي عليه، وفي طمره حتى لا يحس بذكره، ما يغنيهم عن قتله إن كان قد ركب كل ما قذفوه به، وادعوه عليه، وهذا كله بحضرة جلة المهاجرين والسلف المقدمين، والأنصار والتابعين.
ولكن الناس كانوا على طبقات مختلفة، ومراتب متباينة: من قاتل ومن شاد على عضده، ومن خاذل عن نصرته، والعاجز ناصر بإرادته، ومطيع بحسن نيته، وإنما الشك منا فيه، وفي خاذله، ومن أراد عزله والاستبدال به؛ فأما قاتله، والمعين على دمه، والمريد لذلك منه، فضلال لا شك فيهم، ومراق لا امتراء في حكمهم؛ على أن هذا لم يعد منهم الفجور: إما على سوء تأويل، وإما على تعمد للشقاء، ثم ما زالت الفتن متصلة، والحروب مترادفة، كحرب الجمل، وكوقائع صفين، وكيوم النهروان، وقبل ذلك يوم الزابوقة،
32
وفيه أسر ابن حنيف، وقتل حكيم بن جبلة، إلى أن قتل أشقاها علي بن أبي طالب - رضوان الله عليه - فأسعده الله بالشهادة، وأوجب لقاتله النار واللعنة؛ إلى أن كان من اعتزال الحسن - عليه السلام - الحروب وتخليته الأمور، عند انتثار أصحابه، وما رأى من الخلل في عسكره، وما عرف من اختلافهم على أبيه، وكثرة تلونهم عليه؛ فعندها استوى معاوية على الملك، واستبد على بقية الشورى، وعلى جماعة المسلمين، من الأنصار والمهاجرين، في العام الذي سموه عام الجماعة، وما كان عام جماعة، بل كان عام فرقة وقهر وجبرية وغلبة، والعام الذي تحولت فيه الإمامة ملكا كسرويا، والخلافة غصبا قيصريا، ولم يعد ذلك أجمع الضلال والفسق. ثم ما زالت معاصيه من جنس ما حكينا، وعلى منازل ما رتبنا، حتى رد قضية رسول الله
صلى الله عليه وسلم
ردا مكشوفا، وجحد حكمه جحدا ظاهرا، في ولد الفراش وما يجب للعاهر، مع اجتماع الأمة أن سمية لم تكن لأبي سفيان فراشا، وأنه إنما كان بها عاهرا. فخرج بذلك من حكم الفجار إلى حكم الكفار، وليس قتل حجر بن عدي، وإطعام عمرو بن العاص خراج مصر، وبيعة يزيد الخليع، والاستئثار بالفيء، واختيار الولاة على الهوى، وتعطيل الحدود بالشفاعة والقرابة، من جنس جحد الأحكام المنصوصة، والشرائع المشهورة، والسنن المنصوبة، وسواء في باب ما يستحق من الكفار جحد الكتاب ورد السنة إذا كانت السنة في شهرة الكتاب وظهوره، إلا أن أحدهما أعظم، وعقاب الآخرة عليه أشد، فهذه أول كفرة، كانت من الأمة، ثم لم تكن إلا فيمن يدعي إمامتها، والخلافة عليها؛ على أن كثيرا من أهل ذلك العصر قد كفروا بترك إكفاره، وقد أربت عليهم نابتة عصرنا، ومبتدعة دهرنا، فقالت: لا تسبوه، فإن له صحبة، وسب معاوية بدعة، ومن يبغضه فقد خالف السنة، فزعمت أن من السنة ترك البراءة، ممن جحد السنة؛ ثم الذي كان من يزيد ابنه، ومن عماله، وأهل نصرته، ثم غزو مكة، ورمي الكعبة، واستباحة المدينة، وقتل الحسين - عليه السلام - في أكثر أهل بيته، مصابيح الظلام، وأوتاد الإسلام، بعد الذي أعطى من نفسه، من تفريق أتباعه، والرجوع إلى داره وحرمه، أو الذهاب في الأرض، حتى لا يحس به، أو المقام حيث أمر به، فأبوا إلا قتله، والنزول على حكمهم، وسواء قتل نفسه بيده، أو أسلمها إلى عدوه، وخير فيها من لا يبرد غليله إلا بشرب دمه.
فاحسبوا قتله ليس بكفر، وإباحة المدينة وهتك الحرمة ليس بحجة؛ كيف تقولون في رمي الكعبة، وهدم البيت الحرام، وقبلة المسلمين؟ فإن قلتم ليس ذلك أرادوا بل إنما أرادوا المتحرز به، والمتحصن بحيطانه، أفما كان في حق البيت وحريمه أن يحصروه فيه، إلى أن يعطى بيده! وأي شيء بقي من رجل، قد أخذت عليه الأرض إلا موضع قدمه! واحسبوا ما رووا عليه من الأشعار، التي قولها شرك ، والتمثل بها كفر، شيئا مصنوعا؛ كيف تصنع بنقر القضيب بين ثنيتي الحسين عليه السلام، وحمل بنات رسول الله
صلى الله عليه وسلم
حواسر على الأقتاب العارية، والإبل الصعاب، والكشف عن عورة علي بن الحسين عند الشك في بلوغه! على أنهم إن وجدوه وقد أنبت قتلوه، وإن لم يكن أنبت حملوه، كما يصنع أمير جيش المسلمين، بذرارى المشركين؟ وكيف تقول في قول عبيد الله بن زياد لإخوته وخاصته: دعوني أقتله، فإنه بقية هذا النسل، فأحسم به هذا القرن، وأميت به هذا الداء، وأقطع به هذه المادة؟!
خبرونا علام تدل هذه القسوة، وهذه الغلظة! بعد أن شفوا أنفسهم بقتلهم، ونالوا ما أحبوا فيهم؟ أتدل على نصب، وسوء رأي وحقد، وبغضاء ونفاق، وعلى يقين مدخول وإيمان مخروج؟! أم تدل على الإخلاص، وعلى حب النبي
صلى الله عليه وسلم ، والحفظ له، وعلى براءة الساحة وصحة السريرة؟! فإن كان على ما وصفنا لا يعدو الفسق والضلال، وذلك أدنى منازله؛ فالفاسق ملعون، ومن نهى عن نهي الملعون فملعون.
وزعمت نابتة عصرنا، ومبتدعة دهرنا، أن سب ولاة السوء فتنة، ولعن الجورة بدعة، وإن كانوا يأخذون السمي بالسمي، والولي بالولي، والقريب بالقريب، وأخافوا الأولياء، وأمنوا الأعداء، وحكموا بالشفاعة والهوى، وإظهار الغدرة والتهاون بالأمة، والقمع للرعية، وأنهم في غير مداراة ولا تقية، وإن عدا ذلك إلى الكفر، وجاوز الضلال إلى الجحد، فذاك أضل ممن كف عن شتمهم، والبراءة منهم، على أنه ليس من استحق اسم الكفر بالقتل كمن استحقه برد السنة وهدم الكعبة، وليس من استحق اسم الكفر بذلك كمن شبه الله بخلقه، وليس من استحق الكفر بالتشبيه كمن استحقه بالتجوير،
33
والنابتة في هذا الوجه أكفر من يزيد وأبيه، وابن زياد وأبيه، ولو ثبت أيضا على يزيد أنه تمثل بقول ابن الزبعرى:
ليت أشياخي ببدر شهدوا
جزع الخزرج من وقع الأسل
لاستطاروا واستهلوا فرحا
ثم قالوا يا يزيد لا تسل
قد قتلنا الغر من ساداتهم
وعدلناه ببدر فاعتدل
كان تجوير النابتي لربه، وتشبيهه بخلقه، أعظم من ذلك وأقطع، على أنهم مجمعون على أنه ملعون من قتل مؤمنا، متعمدا أو متأولا؛ فإذا كان القاتل سلطانا جائرا، أو أميرا عاصيا، لم يستحلوا سبه، ولا خلعه، ولا نفيه، ولا عيبه، وإن أخاف الصلحاء، وقتل الفقهاء، وأجاع الفقير، وظلم الضعيف، وعطل الحدود والثغور، وشرب الخمور، وأظهر الفجور؛ ثم ما زال الناس يتسكعون مرة، ويداهنونهم مرة، ويقاربونهم مرة، ويشاركونهم مرة، إلا بقية ممن عصمه الله تعالى ذكره، حتى قام عبد الملك بن مروان، وابنه الوليد، وعاملهما الحجاج بن يوسف، ومولاه يزيد بن أبي مسلم، فأعادوا على البيت بالهدم، وعلى حرم المدينة بالغزو، فهدموا الكعبة، واستباحوا الحرمة، وحولوا قبلة واسط، وأخروا صلاة الجمعة، إلى مغيربان الشمس، فإن قال رجل لأحدهم: اتق الله فقد أخرت الصلاة عن وقتها، قتله على هذا القول جهارا غير ختل، وعلانية غير سر، ولا يعلم القتل على ذلك إلا أقبح من إنكاره؛ فكيف يكفر العبد بشيء ولا يكفر بأعظم منه؟!
وقد كان بعض الصالحين ربما وعظ الجبابرة، وخوفهم العواقب، وأراهم أن في الناس بقية ينهون عن الفساد في الأرض، حتى قام عبد الملك بن مروان، والحجاج بن يوسف، فزجرا عن ذلك، وعاقبا عليه، وقتلا فيه، فصاروا لا يتناهون عن منكر فعلوه؛ فاحسب تحويل القبلة كان غلطا، وهدم البيت كان تأويلا، واحسب ما رووا من كل وجه، أنهم كانوا يزعمون أن خليفة المرء في أهله
34
أرفع عنده من رسوله إليهم، باطلا ومسموعا مولدا، واحسب وسم أيدي المسلمين ونقش أيدي المسلمات، وردهم بعد الهجرة إلى قراهم، وقتل الفقهاء، وسب أئمة الهدى، والنصب لعترة رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، لا يكون كفرا؛ كيف تقول في جمع ثلاث صلوات فيهن الجمعة، ولا يصلون أولاهن، حتى تصير الشمس على أعالي الجدران، كالملاء المعصفر، فإن نطق مسلم، خبط بالسيف، وأخذته العمد، وشك بالرماح، وإن قال قائل: اتق الله، أخذته العزة بالإثم، ثم لم يرض إلا بنثر دماغه على صدره، وبصلبه حيث تراه عياله؟ ومما يدل على أن القوم لم يكونوا إلا في طريق التمرد على الله عز وجل، والاستخفاف بالدين، والتهاون بالمسلمين، والابتذال لأهل الحق، أكل أمرائهم الطعام، وشربهم الشراب على منابرهم أيام جمعهم وجموعهم، فعل ذلك حبيش
35
بن دلجة، وطارق مولى عثمان، والحجاج بن يوسف، وغيرهم، وذلك إن كان كفرا كله فلم يبلغ كفر نابتة عصرنا، وروافض دهرنا؛ لأن جنس كفر هؤلاء غير كفر أولئك. كان اختلاف الناس في القدر على أن طائفة تقول كل شيء بقضاء وقدر، وتقول طائفة أخرى كل شيء بقضاء وقدر إلا المعاصي ، ولم يكن أحد يقول إن الله يعذب الأبناء ليغيظ الآباء، وإن الكفر والإيمان مخلوقان في الإنسان، مثل العمى والبصر، وكانت طائفة منهم تقول إن الله يرى، لا تزيد على ذلك، فإن خافت أن يظن بها التشبيه قالت يرى بلا كيف تقززا من التجسيم والتصوير، حتى نبتت هذه النابتة، وتكلمت هذه الرافضة، فقالت جسيما، وجعلت له صورة وحدا، وأكفرت من قال بالرؤية على غير التجسيم والتصوير! ثم زعم أكثرهم أن كلام الله حسن وبين وحجة وبرهان، وأن التوراة غير الزبور، والزبور غير الإنجيل، والإنجيل غير القرآن، والبقرة غير آل عمران؛ وأن الله تولى تأليفه، وجعله برهانه على صدق رسوله، وأنه لو شاء أن يزيد فيه زاد، ولو شاء أن ينقص منه نقص، ولو شاء أن يبدله بدله، ولو شاء أن ينسخه كله بغيره نسخه؛ وأنه أنزله تنزيلا، وأنه فصله تفصيلا، وأنه بالله كان دون غيره، ولا يقدر عليه إلا هو، غير أن الله مع ذلك كله لم يخلقه؛ فأعطوا جميع صفات الخلق، ومنعوا اسم الخلق.
والعجب أن الخلق عند العرب إنما هو التقدير نفسه، فلذا قالوا: خلق كذا وكذا، ولذلك قال:
أحسن الخالقين . وقال:
وتخلقون إفكا
وقال:
وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير ، فقالوا: صنعه وجعله وقدره، وأنزله وفصله وأحدثه، ومنعوا خلقه، وليس تأويل خلقه أكثر من قدره، ولو قالوا بدل قولهم: قدره ولم يخلقه خلقه ولم يقدره، ما كانت المسألة عليهم إلا من وجه واحد؛ والعجب أن الذي منعه بزعمه أن يزعم أنه مخلوق، أنه لم يسمع ذلك من سلفه، وهو يعلم أنه لم يسمع أيضا من سلفه أنه ليس بمخلوق، وليس ذلك يهم، ولكن لما كان الكلام من الله تعالى عندهم على مثل خروج الصوت من الجوف، وعلى جهة تقطيع الحروف، وإعمال اللسان والشفتين، وما كان على غير هذه الصورة والصفة فليس بكلام، ولما كنا عندهم على غير هذه الصفة، وكنا لكلامنا غير خالقين، وجب أن الله عز وجل لكلامه غير خالق؛ إذ كنا غير خالقين لكلامنا، فإنما قالوا ذلك، لأنهم لم يجدوا بين كلامنا وكلامه فرقا، وإن لم يقروا بذلك بألسنتهم فذلك معناهم وقصدهم.
وقد كانت هذه الأمة لا تجاوز معاصيها الإثم والضلال، إلا ما حكيت لك عن بني أمية، وبني مروان، وعمالهم، ومن لم يدن بإكفارهم حتى نجمت النوابت، وتابعتها هذه العوام، فصار الغالب على هذا القرن الكفر، وهو التشبيه والجبر، فصار كفرهم أعظم من كفر من مضى في الأعمال التي هي الفسق، وشركاء
36
من كفر منهم بتوليهم، وترك إكفارهم، قال الله عز وجل من قائل:
ومن يتولهم منكم فإنه منهم .
وأرجو أن يكون الله قد أغاث المحقين، ورحمهم وقوى ضعفهم، وكثر قلتهم، حتى صار ولاة أمرنا في هذا الدهر الصعب والزمن الفاسد أشد استبصارا في التشبيه من عليتنا، وأعلم بما يلزم فيه منا، وأكشف للقناع من رؤسائنا؛ وصارفوا الناس وقد انتظموا معان
37
الفساد أجمع، وبلغوا غايات البدع، ثم قرنوا بذلك العصبية التي هلك بها عالم بعد عالم، والحمية التي لا تبقي دينا إلا أفسدته، ولا دنيا إلا أهلكتها، وهو ما صارت إليه العجم من مذهب الشعوبية، وما قد صار إليه الموالي من الفخر على العجم والعرب، وقد نجمت من الموالي ناجمة، ونبتت منهم نابتة، تزعم أن المولى بولائه قد صار عربيا، لقول النبي
صلى الله عليه وسلم : «مولى القوم منهم.» ولقوله: «الولاء لحمة كلحمة النسب لا يباع ولا يوهب.»
قال: فقد علمنا أن العجم حين كان فيهم الملك والنبوة كانوا أشرف من العرب، ولما حول ذلك إلى العرب صارت العرب أشرف منهم، قالوا: فنحن معاشر الموالي بقديمنا في العجم أشرف من العرب، وبالحديث الذي صار لنا في العرب أشرف من العجم، وللعرب القديم دون الحديث؛ ولنا خصلتان جميعا وافرتان فينا، وصاحب الخصلتين أفضل من صاحب الخصلة، وقد جعل الله المولى بعد أن كان عجميا عربيا بولائه، كما جعل حليف قريش من العرب قرشيا بحلفه، وجعل إسماعيل بعد أن كان أعجميا عربيا ولولا قول النبي
صلى الله عليه وسلم : «إن إسماعيل كان عربيا» ما كان عندنا إلا أعجميا لأن الأعجمي لا يصير عربيا، كما أن العربي لا يصير أعجميا، فإنما علمنا أن إسماعيل صيره الله عربيا بعد أن كان أعجميا، بقول النبي
صلى الله عليه وسلم ، فكذلك حكم قوله: «مولى القوم منهم.» وقوله: «والولاء لحمة.» قالوا: وقد جعل الله إبراهيم - عليه السلام - أبا لمن لم يلد، كما جعله أبا لمن ولد، وجعل أزواج النبي أمهات المؤمنين، ولم يلدن منهم أحدا، وجعل الجار والد من لم يلد في قول غير هذا كثير قد أتينا عليه في موضعه، وليس أدعى إلى الفساد، ولا أجلب للشر من المفاخرة، وليس على ظهرها إلا فخور (إلا قليل)، وأي شيء أغيظ من أن يكون عبدك يزعم أنه أشرف منك، وهو مقر أنه صار شريفا بعتقك إياه.
وقد كتبت - مد الله في عمرك - كتبا في مفاخرة قحطان، وفي تفضيل عدنان، وفي رد الموالي إلى مكانهم من الفضل والنقص، وإلى قدر ما جعل الله تعالى لهم بالعرب من الشرف؛ وأرجو أن يكون عدلا بينهم، وداعية إلى صلاحهم، ومنبهة عليهم ولهم؛ وقد أردت أن أرسل بالجزء الأول إليك ثم رأيت ألا يكون إلا بعد استئذانك، واستئمارك، والانتهاء في ذلك إلى رغبتك، فرأيك فيه موفق إن شاء الله عز وجل وبه الثقة.
وكتب إلى بعض إخوانه في ذم الزمان
بسم الله الرحمن الرحيم
حفظك الله حفظ من وفقه للقناعة، واستعمله بالطاعة؛ كتبت إليك وحالي حال من كثفت غمومه، وأشكلت عليه أموره، واشتبه عليه حال دهره، ومخرج أمره، وقل عنده من يثق بوفائه، أو يحمد مغبة إخائه، لاستحالة زماننا، وفساد أيامنا، ودولة أنذالنا؛ وقدما كان من قدم الحياء على نفسه، وحكم الصدق في قوله، وآثر الحق في أموره، ونبذ المشتبهات عليه من شئونه، تمت له السلامة، وفاز بوفور حظ العافية، وحمد مغبة مكروه العاقبة؛ فنظرنا إذ حال عندنا حكمه، وتحولت دولته؛ فوجدنا الحياء متصلا بالحرمان، والصدق آفة على المال، والقصد في الطلب بترك استعمال القحة، وإخلاق العرض من طريق التوكل دليلا على سخافة الرأي، إذ صارت الحظوة البالغة ، والنعمة السابغة، في لؤم المشيئة؛ وسناء الرزق من جهة محاشاة الرخاء، وملابسة معرة العار؛ ثم نظرنا في تعقب المتعقب لقولنا، والكاشر لحجتنا؛ فأقمنا له علما واضحا، وشاهدا قائما، ومنارا بينا؛ إذ وجدنا من فيه السفولية الواضحة، والمثالب الفاضحة، والكذب المبرح، والخلف المصرح، والجهالة المفرطة، والركاكة المستخفة، وضعف اليقين والاستثبات، وسرعة الغضب والجراءة، قد استكمل سروره، واعتدلت أموره، وفاز بالسهم الأغلب، والحظ الأوفر، والقدر الرفيع، والجواز الطائع، والأمر النافذ؛ إن زل قيل حكم، وإن أخطأ قيل أصاب، وإن هذى في كلامه وهو يقظان قيل رؤيا صادقة من نسمة مباركة؛ فهذه حجتنا والله على من زعم أن الجهل يخفض، وأن النوك يردي، وأن الكذب يضر، والخلف يزري؛ ثم نظرنا في الوفاء والأمانة والنبل والبلاغة وحسن المذهب وكمال المروءة وسعة الصدر وقلة الغضب وكرم الطبيعة، والفائق في سعة علمه، والحاكم على نفسه، والغالب لهواه، فوجدنا فلان بن فلان؛ ثم وجدنا الزمان لم ينصفه من حقه، ولا قام له بوظائف فرضه، ووجدنا فضائله القائمة له قاعدة به؛ فهذا دليل أن الطلاح أجدى من الصلاح، وأن الفضل قد مضى زمانه، وعفت آثاره، وصارت الدائرة عليه كما كانت الدائرة على ضده؛ ووجدنا العقل يشقى به قرينه، كما أن الجهل والحمق يحظى به خدينه؛ ووجدنا الشعر ناطقا على الزمان، ومعربا عن الأيام حيث يقول:
تحامق مع الحمقى إذا ما لقيتهم
ولاقهم بالجهل فعل أخي الجهل
وخلط إذا لاقيت يوما مخلطا
يخلط في قول صحيح وفي هزل
فإني رأيت المرء يشقى بعقله
كما كان قبل اليوم يسعد بالعقل
فبقيت - أبقاك الله - مثل من أصبح على أوفاز،
38
ومن النقلة على جهاز، لا يسوغ له نعمة، ولا تطعم عينه غمضة، في أهاويل يباكره مكروهها، ويراوحه عقائبها؛ فلو أن الدعاء أجيب، والتضرع سمع، لكانت العدة العظمى، والرجفة الكبرى؛ فليت أي أخي ما أستبطئه من النفخة، ومن فجأة الصيحة، قضي فحان، وأذن به فكان؛ فوالله ما عذبت أمة برجفة، ولا ريح ولا سخطة، عذاب عيني برؤية المغايظة المدمنة، والأخبار المهلكة، كأن الزمان يوكل بعذابي، أو ينصب بأيامي، فما عيش من لا يسر بأخ شفيق، ولا يصطبح في أول نهاره، إلا برؤية من يكرهه، ويغمه بطلعته؛ فقد طالت الغمة، وواظبت الكربة، وادلهمت الظلمة؛ وخمد السراج، وتباطأ الانفراج.
وصف الجاحظ لقريش وبني هاشم
قد علم الناس كيف كرم قريش وسخاؤها، وكيف عقولها ودهاؤها؛ وكيف رأيها وذكاؤها، وكيف سياستها وتدبيرها؛ وكيف إيجازها وتحسيرها، وكيف رجاحة أحلامها إذا خف الحليم، وحدة أذهانها إذا كل الحديد؛ وكيف صبرها عند اللقاء، وثباتها في اللأواء؛ وكيف وفاؤها إذا استحسن الغدر؛ وكيف جودها إذا حب المال؛ وكيف ذكرها لأحاديث غد، وقلة صدودها عن جهة القصد؛ وكيف إقرارها بالحق وصبرها عليه؛ وكيف وصفها له ودعاؤها إليه؛ وكيف سماحة أخلاقها، وصونها لأعراقها؛ وكيف وصلوا قديمهم بحديثهم، وطريفهم بتليدهم؛ وكيف أشبه علانيتهم سرهم، وقولهم فعلهم، وهل سلامة صدر أحدهم إلا على قدر بعد غديره؟! وهل غفلته إلا في وزن صدق ظنه؟! وهل ظنه إلا كيقين غيره؟!
وكتب في الاعتذار
أما بعد، فنعم البديل من الزلة الاعتذار، وبئس العوض من التوبة الإصرار، وإن أحق من عطفت عليه بحلمك من لم يستشفع إليك بغيرك، وإنني بمعرفتي بمبلغ حلمك وغاية عفوك، ضمنت لنفسي العفو من زلتها عندك، وقد مسني من الألم ما لم يشفه غير مواصلتك.
وله في الاستعطاف
ليس عندي - أعزك الله - سبب ولا أقدر على شفيع، إلا ما طبعك الله عليه من الكرم والرحمة والتأميل، الذي لا يكون إلا من نتاج حسن الظن وإثبات الفضل بحال المأمول. وأرجو أن تكون من الشاكرين فتكون خير معتب، وأكون أفضل شاكر، ولعل الله يجعل هذا الأمر سببا لهذا الإنعام، وهذا الإنعام سببا للانقطاع إليكم والكون تحت أجنحتكم، فيكون لا أعظم بركة، ولا أنمى بقية من ذنب أصبحت فيه، وبمثلك - جعلت فداك - عاد الذنب وسيلة، والسيئة حسنة، ومثلك من انقلب به الشر خيرا والغرم غنما.
من عاقب فقد أخذ حظه، وإنما الأجر في الآخرة، وطيب الذكر في الدنيا، على قدر الاحتمال وتجرع المرائر. وأرجو ألا أضيع وأهلك فيما بين كرمك وعقلك، وما أكثر من يعفو عمن صغر ذنبه وعظم حقه، وإنما الفضل والثناء العفو عن عظيم الجرم ضعيف الحرمة، وإن كان العفو عظيما مستطرفا من غيركم فهو تلاد فيكم، حتى ربما دعا ذلك كثيرا من الناس إلى مخالفة أمركم، فلا أنتم عن ذلك تنكلون، ولا على سالف إحسانكم تندمون، وما مثلكم إلا كمثل عيسى ابن مريم - عليه السلام - حين كان لا يمر بملأ من بني إسرائيل إلا أسمعوه شرا وأسمعهم خيرا، فقال له شمعون الصفا: ما رأيت كاليوم كلما أسمعوك شرا أسمعتهم خيرا؟ فقال: كل امرئ ينفق مما عنده، وليس عندكم إلا الخير ولا في أوعيتكم إلا الرحمة، «وكل إناء بالذي فيه ينضح».
وله في ذم الحسد
الحسد - أبقاك الله - داء ينهك الجسد، علاجه عسير، وصاحبه ضجر، وهو باب غامض، وما ظهر منه فلا يداوى وما بطن منه فمداويه في عناء، ولذلك قال النبي
صلى الله عليه وسلم : «دب إليكم داء الأمم من قبلكم: الحسد والبغضاء.» الحسد عقيد الكفر، وحليف الباطل، وضد الحق، منه تتولد العداوة، وهو سبب كل قطيعة ومفرق كل جماعة، وقاطع كل رحم من الأقرباء، ومحدث التفرق بين القرناء، وملقح الشر بين الحلفاء.
دفاع الجاحظ عن مؤلفاته
وقد ذكر الجاحظ جل مؤلفاته في كتاب «الحيوان»، ودافع عنها بعد أن وصفها فقال:
39
جنبك الله الشبهة، وعصمك من الحيرة، وجعل بينك وبين المعرفة نسبا، وبين الصدق سببا، وحبب إليك التثبت، وزين في عينك الإنصاف، وأذاقك حلاوة التقوى، وأشعر قلبك عز الحق، وأودع صدرك برد اليقين ، وطرد عنك ذل الطمع، وعرفك ما في الباطل من الذلة، وما في الجهل من القلة. ولعمري لقد كان غير هذا الدعاء أصوب في أمرك، وأدل على مقدار وزنك، وعلى الحال التي وضعت نفسك فيها، ووسمت عرضك بها، ورضيتها لدينك حظا، ولمروءتك شكلا؛ فقد انتهى إلي ميلك على أبي إسحاق، وحملك علي، وطعنك على معبد، وتنقصك له في الذي كان جرى بينهما في مساوي الديك ومحاسنه، وفي ذكر منافع الكلب ومضاره؛ والذي خرجا إليه من استقصاء ذلك وجمعه، ومن تتبعه ونظمه، ومن الموازنة بينهما، والحكم فيهما.
ثم عبتني بكتاب حيل اللصوص، وكتاب غش الصناعات؛ وعبتني بكتاب الملح والطرف، وما حر من النوادر وبرد، وعاد باردها حارا بفرط برده، حتى أمتع بأكثر من أمتاع الحار؛ وعبتني بكتاب احتجاجات البخلاء، ومناقضتهم للسمحاء، والقول في الفرق بين الصدق إذا كان ضارا في العاجل، والكذب إذا كان نافعا في الآجل، ولم جعلنا الصدق أبدا محمودا، والكذب أبدا مذموما، والفرق بين الغيرة وإضاعة الحرمة، وبين الإفراط في الحمية والأنفة، وبين التقصير في حفظ حق الحرمة، وقلة الاكتراث بسوء القالة؛ وهل الغيرة اكتساب وعادة، وبعض ما يعرض من جهة الديانة، ولبعض التزيد فيه والتحسن به، أو يكون ذلك شيئا في طبع الحرية وحقيقة الجوهرية، ما كانت العقول سليمة، والآفات منفية، والأخلاط معتدلة؛ وعبتني بكتاب الصرحاء والهجناء، ومفاخرة السودان والحمران، والموازنة بين حق الخئولة والعمومة؛ وعبتني بكتاب الزرع والنخل، والزيتون والأعناب، وأقسام فضول الصناعات، ومراتب التجارات؛ وبكتاب فضل ما بين الرجال والنساء، وفرق ما بين الذكور والإناث، وفي أي موضع يغلبن ويفضلن، وفي أي موضع يكن المغلوبات والمفضولات، ونصيب أيهما في الولد أوفر، وفي أي موضع يكون حقهن أوجب، وأي عمل هو بهن أليق، وأي صناعة هن فيها أبلغ.
وعبتني بكتاب القحطانية وكتاب العدنانية في الرد على القحطانية، وزعمت أني تجاوزت فيه حد الحمية، إلى حد العصبية، وأني لم أصل إلى تفضيل العدنانية إلا بتنقص القحطانية؛ وعبتني بكتاب العرب والموالي، وزعمت أني بخست الموالي حقوقهم، كما أني أعطيت العرب ما ليس لهم؛ وعبتني بكتاب العرب والعجم، وزعمت أن القول في فرق ما بين العرب والعجم هو القول في فرق ما بين الموالي والعرب، ونسبتني إلى التكرار والترداد، وإلى التكثير والجهل بما في المعاد من الخطل، وحمل الناس المؤن؛ وعبتني بكتاب الأصنام، وبذكر اعتلالات الهند لها، وسبب عبادة العرب إياها، وكيف اختلفا في جهة العلة مع اتفاقهما على جملة الديانة، وكيف صار عباد البددة
40
والمتمسكون بعبادة الأوثان المنحوتة، والأصنام المنجورة، أشد الناس إلفا لما دانوا به، وشغفا بما تعبدوا له، وأظهرهم جدا، وأشدهم على من خالفهم ضغنا، وبما دانوا صبابة وعجبا، وما الفرق بين البد والوثن، وما الفرق بين الوثن والصنم، وما الفرق بين الدمية والجثة، ولم صوروا في محاريبهم وبيوت عباداتهم صور عظمائهم ورجال دعوتهم، ولم تأنقوا في التصوير، وتجردوا في إقامة التركيب، وبالغوا في التحسين والتفخيم، وكيف كانت أولية تلك العبادات، وكيف افترقت تلك النحل، ومن أي شيء كانت خدع تلك السدنة، وكيف لم يزالوا أكثر الأصناف عددا، وكيف شمل ذلك المذهب الأجناس المختلفة!
وعبتني بكتاب المعادن، والقول في جواهر الأرض، وفي اختلاف أجناس الفلز، والإخبار عن ذائبها وجامدها، ومخلوقها ومصنوعها، وكيف يسرع الانقلاب إلى بعضها ويبطئ عن بعضها، وكيف صار بعض الألوان يصبغ ولا ينصبغ، وبعضها ينصبغ ولا يصبغ، وبعضها يصبغ وينصبغ، وما القول في الإكسير والتلطيف؛ وعبتني بكتاب فرق ما بين هاشم وعبد شمس، وبكتاب فرق ما بين الجن والإنس، وفرق ما بين الملائكة والجن، وكيف القول في معرفة الهدهد واستطاعة العفريت، وفي الذي كان عنده علم من الكتاب، وما ذلك العلم، وما تأويل قولهم: كان عنده اسم الله الأعظم؛ وعبتني بكتاب الأوفاق والرياضات، وما القول في الأرزاق والإنفاقات، وكيف أسباب التثمير والترقيح
41
وكيف تجتلب التجار الحرفاء، وكيف الاحتيال للودائع، وكيف التسبب إلى الوصايا، وما الذي يوجب لهم التعديل، ويصرف إليهم باب حسن الظن، وكيف ذكرنا غش الصناعات والتجارات، وكيف التسبب إلى تعرف ما قد ستروا، وكشف ما موهوا، وكيف باب الاحتراس منه والسلامة من أهله! وعبتني برسائلي، وبكل ما كتبت به إلى إخواني وخلطائي من مزح وجد، ومن إفصاح وتعريض، ومن تغافل وتوقيف، ومن هجاء لا يزال وسمه باقيا، ومديح لا يزال أثره ناميا، ومن ملح تضحك، ومواعظ تبكي؛ وعبتني برسائلي الهاشميات، واحتجاجي فيها، واستقصائي معانيها، وتصويري لها في أحسن صورة، وإظهاري لها في أتم حلية، وزعمت أني قد خرجت من حد المعتزلة إلى حد الزيدية، ومن حد الاعتدال في التشيع والاقتصاد فيه إلى حد السرف والإفراط فيه، وزعمت أن مقالة الزيدية خطبة مقالة الرافضة، ومقالة الرافضة خطبة مقالة الغالية، وزعمت أن في أصل القضية، والذي جرت عليه العادة أن كل كبير فأوله صغير، وأن كل كثير فإنما هو قليل جمع إلى قليل، وأنشدت قول الراجز:
قد يلحق الصغير بالجليل
وإنما القرم من الأفيل
42
وسحق النخل من الفسيل
وأنشدت قول الشاعر:
رب كبير هاجه صغير
وفي البحور تغرق البحور
وقلت وقال يزيد بن الحكم:
واعلم بني فإنه
بالعلم ينتفع العليم
إن الأمور دقيقها
مما يهيج له العظيم
وقلت وقال الآخر:
صار جدا ما مزحت به
رب جد ساقه اللعب
وأنشدت قول الآخر وهو عنترة:
43
ما تنظرون بحق وردة فيكم
تقضى الأمور ورهط وردة غيب
قد يبعث الأمر الكبير صغيره
حتى تظل له الدماء تصبب
وقالت كبشة بنت معد يكرب:
جدعتم بعبد الله آنف قومه
بني مازن أن سب راعي المخزم
وقال الآخر:
أية نار قدح القادح
وأي جد بلغ المازح
وتقول العرب: «العصى من العصية ولا تلد الحية إلا حيية.» وعبت كتابي في خلق القرآن، كما عبت كتابي في الرد على المشبهة؛ وعبت كتابي في أصول الفتيا والأحكام، كما عبت كتابي في الاحتجاج لنظم القرآن، وغريب تأليفه، وبديع تركيبه؛ وعبت معارضتي الزيدية، وتفضيلي الاعتزال على كل نحلة، كما عبت كتابي في الوعد والوعيد، وكتابي على النصارى واليهود؛ ثم عبت جملة كتبي في المعرفة، والتمست تهجينها بكل حيلة، وصغرت من شأنها، وحططت من قدرها، واعترضت على ناسخيها والمنتفعين بها.
وعبت كتاب الجوابات وكتاب الرسائل، وكتاب الرد على أصحاب الإلهام، وكتاب الحجة في تثبيت نبوة النبي
صلى الله عليه وسلم ، وكتاب الأخبار؛ ثم عبت كتابي إنكاري بصيرة غنام المرتد، وبصيرة كل جاحد وملحد، وتفريقي بين اعتزام الغمر
44
وبين استبصار المحق؛ وعبت كتاب الرد على الجهمية في الإدراك، وفي قولهم في الجهالات، وكتاب الفرق ما بين النبي والمتنبي، والفرق بين الحيل والمخاريق، وبين الحقائق الظاهرة والأعلام القاهرة؛ ثم قصدت إلى كتابي هذا بالتصغير لقدره، والتهجين لنظمه، والاعتراض على لفظه ، والتحقير لمعانيه فزريت على نحته وسبكه، كما زريت على معناه ولفظه، ثم طعنت في الغرض الذي إليه نزعنا، والغاية التي إليها أجرينا،
45
وهنا كتاب معناه أنبه من اسمه، وحقيقته آنق من لفظه، هو كتاب يحتاج إليه المتوسط العامي، كما يحتاج إليه العالم الخاصي، ويحتاج إليه الريض، كما يحتاج إليه الحاذق.
أما الريض فللتعلم والدربة، وللترتيب والرياضة، وللتمرين وتمكين العادة، إذ كان جليله يتقدم دقيقه، وإذ كانت مقدماته مرتبة، وطبقات معانيه منزلة؛ وأما الحاذق فلكفاية المئونة، ولأن كل من التقط كتابا جامعا، وبابا من أمهات العلم مجموعا كان له غنمه، وعلى مؤلفه غرمه، وكان له نفعه، وعلى صاحبه كده، مع تعرضه لمطاعن البغاة، ولاعتراض المنافسين، ومع عرضه عقله المكدود على العقول الفارغة، ومعانيه على الجهابذة، وتحكيمه فيه المتأولين والحسدة، ومتى ظفر بمثله صاحب علم، أو هجم عليه طالب فقه، وهو وادع رافه، ونشيط جام، ومؤلفه متعب مكدود، فقد كفي مئونة جمعه، وخزنه وتتبعه، وطلبه، وأغناه ذلك عن طول التفكير، واستنفاد العمر، وفل الحد، وأدرك أقصى حاجته، وهو مجتمع القوة، وعلى أن له عند ذلك أن يجعل هجومه عليه ضربا من التوفيق، وظفره به بابا من التسديد. (وهذا كتاب) تستوي فيه رغبة الأمم، وتتشابه فيه العرب والعجم؛ لأنه وإن كان عربيا أعرابيا، وإسلاميا جماعيا، فقد أخذ من طرف الفلسفة، وجمع بين معرفة السماع وعلم التجربة، وأشرك بين علم الكتاب والسنة، وبين وجدان الحاسة وإحساس الغريزة، ويشتهيه الفتيان كما يشتهيه الشيوخ، ويشتهيه الفاتك كما يشتهيه الناسك، ويشتهيه اللاعب ذو اللهو كما يشتهيه الجدي ذو الحزم، ويشتهيه الغفل كما يشتهيه الأديب، ويشتهيه الغبي كما يشتهيه الفطن؛ وعبتني بحكاية قول العثمانية والضرارية وأنت تسمعتني أقول في أول كتابي: وقالت العثمانية والضرارية، وكما سمعتني أقول: وقالت الرافضة والزيدية؛ فحكمت علي بالنصب لحكايتي قول العثمانية، فهلا حكمت علي بالتشيع لحكايتي قول الرافضة، وهلا كنت عندك من الغالية لحكايتي حجج الغالية، كما كنت عندك من الناصبة لحكايتي قول الناصبة، وقد حكينا في كتابنا قول الإباضية والصفرية، كما حكينا أقاويل الأزارقة والنجدية، وعلى هذه الأركان الأربعة بنيت الخارجية، وكل اسم سواها فإنما هو فرع ونتيجة واشتقاق منها، ومحمول عليها، فهلا كنا عندك من المحكمة الخارجة، كما صرنا عندك من الضرارية والناصبة! وكيف رضيت بأن تكون الشيعة إلى أعراض الناس أسرع من المارقة! اللهم إلا أن تكون وجدت حكايتي عن العثمانية والضرارية أشبع وأجمع، وأتم وأحكم وأجود صنعة، وأبعد غاية، ورأيتني قد وهنت حق أوليائك بقدر ما قويت باطل أعدائك، ولو كان ذلك كذلك لكان شاهدك من الكتاب حاضرا، وبرهانك على ما ادعيت واضحا.
وعبتني بكتاب العباسية، فهلا عبتني بحكاية مقالة من ادعى وجوب الإمامة، ومن يرى الامتناع من طاعة الأئمة الذين زعموا أن ترك الناس سدى بلا قيم أرد عليهم، وهملا بلا راع أربح لهم، وأجدر أن يجمع لهم ذلك بين سلامة العاجل وغنيمة الآجل، وأن تركهم نشرا لا نظام لهم أبعد لهم من المفاسد، وأجمع لهم على المراشد! بل ليس ذلك بك، ولكنه لما بهرك ما سمعت، وملأ صدرك الذي قرأت، وأبعلك وأبطرك، فلم تتجه للحجة وهي لك معرضة، ولم تعرف المقاتل وهي لك بادية، ولم تعرف باب المخرج إذ جهلت باب المدخل، ولم تعرف المصادر إذ جهلت الموارد؛ ورأيت أن سب الأولياء أشفى لدائك، وأبلغ في شفاء سقمك؛ ورأيت أن إرسال اللسان أحضر لذة، وأبعد من النصب، ومن إطالة الفكرة، ومن الاختلاف إلى أرباب هذه الصناعة؛ ولو كنت حين فطنت لعجزك وصلت نقصك بتمام غيرك، واستكفيت من هو موقوف على كفاية مثلك، وحبيس على تقويم أشباهك، كان ذلك أزين في العاجل، وأحق بالمثوبة في الآجل، وكنت إن أخطأتك الغنيمة لم تخطئك السلامة، ولقد سلم عليك المخالف، بقدر ما ابتلي به منك الموافق؛ وعلى أنه لم يبتل منك إلا بقدر ما ألزمته من مئونة تثقيفك، والتشاغل بتقويمك؛ وهل كنت في ذلك إلا كما قال العربي: وهل يضر السحاب نبح الكلاب؟ وإلا كما قال الشاعر:
هل يضر البحر أمسى زاخرا
أن رمى فيه غلام بحجر
وهل حالنا في ذلك إلا كما قال الأول:
ما ضر تغلب وائل أهجوتها
أم بلت حيث تناطح البحران
وقال حسان:
ما أبالي أنب بالحزن تيس
أم لحاني بظهر غيب لئيم
وما أشك أنك قد جعلت طول إعراضنا عنك مطية لك، ووجهت حلمنا عنك إلى الخوف منك، وقد قال زفر بن الحارث لبعض من لم ير حق الصفح فجعل العفو سببا إلى سوء القول:
فإن عدت والله الذي فوق عرشه
منحتك مسنون الغرارين أزرقا
فإن دواء الجهل أن تضرب الطلى
46
وأن يغمس العريض
47
حتى يغرقا
وقال الأول:
وما نفى عنك قوما أنت خائفهم
كمثل وقمك جهالا بجهال
فاقعس إذا حدبوا واحدب إذا قعسوا
ووازن الشر مثقالا بمثقال
وقال الآخر:
وضغائن داويتها بضغائن
حتى يمتن وبالحقود حقودا
وإني وإن لم يكن عندي سنان زفر بن الحارث، ولا معارضة هؤلاء: الشر بالشر، والجهل بالجهل، والحقد بالحقد، فإن عندي ما قال المسعودي:
فمسا تراب الأرض منها خلقتما
وفيها المعاد والمصير إلى الحشر
ولا تعجبا أن ترجعا فتسلما
فما حشي الأقوام شرا من الكبر
فلو شئت أدلى فيكما غير واحد
علانية أو قال عندي في ستر
فإن أنا لم آمر ولم أنه عنكما
ضحكت
48
له حتى يلج ويستشري
وقال النمر بن تولب:
جزى الله عني حمزة بنة نوفل
جزاء مغل بالأمانة كاذب
بما خبرت عني الوشاة ليكذبوا
علي وقد أوليتها في النوائب
يقول: أخرجت خبري إلى من يشتهي أن أعاب عندها.
ولو شئنا لعارضناك من القول بما هو أقبح أثرا، وأبقى وسما، وأصدق قيلا، وأعدل شاهدا؛ وليس كل من ترك المعارضة فقد صفح، كما أنه ليس كل من عارض فقد انتصر، وقد قال الشاعر قولا إن فهمته كفيتنا مئونة المعارضة، وكفيت نفسك لزوم العار، وهو قوله:
إن كنت لا ترهب ذمي لما
تعرف من صفحي عن الجاهل
فاخش سكوتي آذنا منصتا
فيك لمسموع خنا القائل
فالسامع الذم مقر به
كالمطعم المأكول للآكل
مقالة السوء إلى أهلها
أسرع من منحدر سائل
ومن دعى الناس إلى ذمه
ذموه بالحق وبالباطل
فلا تهج إن كنت ذا إربة
حزب أخي التجربة العاقل
فإن ذا العقل إذا هجته
هجت به ذا خبل خابل
يبصر في عاجل شداته
عليك غب الضرر الأجل
وقد يقال: إن العفو يفسد من اللئيم بقدر إصلاحه من الكريم؛ وقد قال الشاعر:
والعفو عند لبيب القوم موعظة
وبعضه لسفيه القوم تدريب
فإن كنا قد أسأنا في هذا التقريع والتوقيف، فالذي لم يأخذ فينا بحكم القرآن، ولا بأدب الرسول - عليه الصلاة والسلام - ولم يفزع إلى ما في الفطن الصحيحة، أو إلى ما توجبه المقاييس المطردة، والأمثال المضروبة، والأشعار السائرة، أولى بالإساءة، وأحق باللائمة، قال الله جل ثناؤه:
وإبراهيم الذي وفى * ألا تزر وازرة وزر أخرى ، وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: «لا تجن يمينك على شمالك.» وهذا حكم الله جل وعز، وآداب رسوله، والذي أنزل به الكتاب، ودل عليه في حجج العقول.
أخذ البريء بذنب المذنب
ثم قال في أخذ البريء بذنب المذنب: فأما ما قالوا في المثل المضروب: «رمتني بدائها وانسلت.» وأما قول الشعراء وذم الخطباء لمن أخذ إنسانا بذنب غيره، وما ضربوا في ذلك من الأمثال، كقول النابغة حيث يقول في شعره:
وكلفتني ذنب امرئ وتركته
كذي العر يكوى غيره وهو راتع
وكانوا إذا أصاب إبلهم العر كووا السليم ليذهب العر عن السقيم فأسقموا الصحيح من غير أن يبرئوا السقيم، وكانوا إذا كثرت إبل أحدهم فبلغت الألف فقئوا عين الفحل، فإن زادت الإبل على الألف فقئوا عينه الأخرى، فذلك المفقأ والمعمى اللذان سمعت بهما قال الفرزدق:
غلبتك بالمفقأ والمعمى
49
وبيت المجتبي
50
والخافقات
وكانوا يزعمون أن المفقأ يطرد عنها العين والسواف
51
والغارة، فقال الأول:
فقأت لها عين الفحيل تعيفا
وفيهن رعلاء
52
المسامع والحام
الرعلاء: التي تشق أذنها وتترك مدلاة لكرمها.
وكانوا يقولون في موضع الكفارة والأمنية، كقول الرجل: إذا بلغت إبلي كذا وكذا، وكذلك غنمي ذبحت عند الأوثان كذا وكذا عتيرة، والعتيرة: من نسك الرجبية، والجمع عتائر، والعتائر من الشاء، فإذا بلغت إبل أحدهم أو غنمه ذلك العدد استعمل التأويل وقال : إنما قلت: إني أذبح كذا وكذا شاة، والظباء: شاء، كما أن الغنم شاء، فجعل ذلك القربان كله مما يصيد من الظباء، فلذلك يقول الحارث بن حلزة اليشكري:
عننا باطلا شدوخا
53
كما تع
تر عن حجرة الربيض الظباء
بعد أن قال:
أم علينا جناح كندة أن يغ
م غازيهم ومنا الجزاء
وكانوا إذا أوردوا البقر فلم تشرب، إما لكدر الماء وإما لقلة العطش، ضربوا الثور ليقتحم الماء؛ لأن البقر تتبعه كما تتبع الشول الفحل، وكما تتبع أتن الوحش الحمار، فقال في ذلك عوف بن الخرع:
تمنت طيىء جهلا وجبنا
وقد خاليتهم فأبوا خلائي
هجوني أن هجوت جبال سلمى
كضرب الثور للبقر الظماء
وقال في ذلك أنس بن مدركة في قتله سليك بن السلكة:
إني وقتلي سليكا ثم أعقله
كالثور يضرب لما عافت البقر
أنفت
54
للمرء إذ تغشى حليلته
وإذ
55
يشد على وجعائها الثفر
56
وقال الهيبان الفهمي:
كما ضرب اليعسوب أن عاف باقر
وما ذنبه أن عافت الماء باقر
ولما كان الثور أمير البقر، وهي تطيعه كطاعة إناث النحل لليعسوب، سماه باسم أمير النحل.
وكانوا يزعمون أن الجن هي التي تصد الثيران عن الماء حتى تمسك البقر عن الشرب حتى تهلك؛ وقال في ذلك الأعشى:
وإني وإن كلفتموني وربكم
لأعلم من أمسى أحق وأحوبا
لكالثور والجني يضرب ظهره
وما ذنبه أن عافت الماء مشربا
وما ذنبه أن عافت الماء باقر
وما إن تعاف الماء إلا لتضربا
كأنه قال: إذ كان يضرب أبدا لأنها عافت الماء، فكأنها إنما عافت الماء ليضرب ؛ وقال يحيى بن منصور الذهلي في ذلك:
لكالثور والجني يضرب وجهه
وما ذنبه إن كانت الجن ظالمه
وقال نهشل بن جري:
أتترك عارض وبنو عدي
وتغرم دارم وهم براء
كدأب الثور يضرب بالهراوى
إذا ما عافت البقر الظماء
وكيف تكلف الشعرى سهيلا
وبينهما الكواكب والسماء
وقال أبو نويرة بن حصين حين أخذه الحكم بن أيوب بذنب العطرق:
أبا يوسف لو كنت تعلم طاعتي
ونصحي إذا ما بعتني بالمحلق
ولا ساق سراق العرافة صالح
بني ولا كلفت ذنب العطرق
وقال خداش بن زهير حين أخذ بدماء بني محارب:
أكلف قتلى معشر لست منهم
ولا دارهم داري ولا نصرهم نصري
أكلف قتلى العيص عيص شواحط
وذلك أمر لم تشف له قدري
وقال الآخر:
إذا عركت عجل بنا ذنب طيئ
عركنا بتيم اللات ذنب بني عجل
ولما وجد اليهودي أخا حنبص الضبابي في منزله فخصاه فمات، وأخذ حنبص بني عبس بجناية اليهودي، قال قيس بن زهير: أتأخذنا بذنب غيرنا، وتسألنا العقل، والقاتل يهودي من أهل تيماء؟ قال: والله لو قتله هيف الريح لوديتموه. فقال قيس لبني عبس: الموت في بني ذبيان خير لكم من الحياة في بني عامر. ثم أنشأ يقول:
أكلف ذا الخصيين إن كان ظالما
وإن كنت مظلوما وإن كنت شاطنا
خصاه امرؤ من أهل تيماء طابن
ولا يعدم الإنسي والجن طابنا
فهلا بني ذبيان أمك هابل
رهنت بهيف الريح إن كنت راهنا
إذا قلت قد أفلت من شر حنبص
أتاني بأخرى شره متباطنا
فقد جعلت أكبادنا تجتويكم
كما تجتوي سوق العضاه الكرازنا
ولما قتل لقمان بن عاد ابنته وهي صحر بنت لقمان قال حين قتلها: ألست امرأة؟ وذلك أنه تزوج عدة نساء وكلهن خنه في أنفسهن، فلما قتل أخراهن ونزل من الجبل كان أول من تلقاه صحر ابنته، فوثب عليها فقتلها، وقال وأنت أيضا امرأة؛ وكان قد ابتلي أيضا بأن أخته كانت محمقة، وكذلك كان زوجها، فقالت لإحدى نساء لقمان: هذه ليلة طهري وهي ليلتك، فدعيني أنم في مضجعك، فإن لقمان رجل منجب، فعسى أن يقع علي فأنجب، فوقع على أخته فحملت بلقيم. وفي ذلك قول النمر بن تولب:
لقيم بن لقمان من أخته
فكان ابن أخت له وابنما
ليالي حمق فاستحصنت
عليه فغر بها مظلما
فأحبلها رجل محكم
57
فجاءت به رجلا محكما
فضربت العرب في ذلك المثل بقتل لقمان بنته صحرا، فقال خفاف بن ندبة في ذلك:
وعباس يدب لي المنايا
وما أذنبت إلا ذنب صحر
وقال في ذلك ابن أذينة :
أتجمع تهياما بليلى إذا نأت
وهجرانها ظلما كما ظلمت صحر
وقال الحارث بن عباد:
قربا مربط النعامة مني
لقحت حرب وائل عن حيال
لم أكن من جناتها علم الل
ه وإني بحرها اليوم صالي
وقال الشاعر - وأظنه ابن المقفع:
فلا تلم المرء في شأنه
فرب ملوم ولم يذنب
وقال آخر:
لعل له عذرا وأنت تلوم
وكم لائم قد لام وهو مليم
وقال بعض العرب في قتل بعض الملوك سنمار الرومي: فإنه لما علا الخورنق، ورأى بنيانا لم ير مثله، ورأى ذلك المستشرف، وخاف إن هو استبقاه أن يموت فيبني مثل ذلك البنيان لملك آخر، فأمر به فرمي من فوق القصر، فقال في ذلك الكلبي في شيء كان بينه وبين بعض الملوك:
جزاني جزاه الله شر جزائه
جزاء سنمار وما كان ذا ذنب
سوى رصه البنيان سبعين حجة
يعلى عليه بالقراميد والسكب
فلما رأى البنيان تم سحوقه
وآض كمثل الطود ذي الباذخ الصعب
فظن سنمار به كل حبوة
وفاز لديه بالمودة والقرب
فقال اقذفوا بالعلج من رأس شاهق
فذاك لعمر الله من أعظم الخطب
وجاء المسلمون يروي خلف عن سلف، وتابع عن سابق، وآخر عن أول، أنهم لم يختلفوا في عيب قول الحجاج: لآخذن السمي بالسمي والولي بالولي، والجار بالجار. ولم يختلفوا عن لعن شاعرهم حيث يقول:
إذا أخذ البريء بغير جرم
تجنب ما يحاذره السقيم
قال: وقيل لعمرو بن عبيد: إن فلانا لما قدم رجلا ليضرب عنقه فقيل له: إنه مجنون، قال: لولا أن المجنون يلد عاقلا لخليت سبيله. قال: فقال عمرو: وما خلق الله النار إلا بالحق.
ولما قالت التغلبية للجحاف بن حكيم في وقعة البشر: فص الله عمادك، وأطال سهادك، وأقل رمادك، فوالله إن قتلت إلا نساء أسافلهن دمي، وأعاليهن ثدي. فقال لمن حوله: لولا أن تلد هذه مثلها لخليت سبيلها! فبلغ ذلك الحسن فقال: إن الجحاف جذوة من نار جهنم. قال وذم رجل عند الأحنف بن قيس الكمأة بالسمن، فقال عند ذلك الأحنف: رب ملوم لا ذنب له؛ فبهذه السيرة سرت فينا؛ وما أحسن ما قال سعيد بن عبد الرحمن بن حسان:
وإن امرأ يمسي ويصبح سالما
من الناس إلا ما جنى لسعيد
وقلت: وما بال أهل العلم والنظر، وأصحاب الفكر والعبر، وأرباب النحل، والعلماء بمخارج الملل، وورثة الأنبياء، وأعوان الخلفاء، يكتبون كتب الظرفاء والملحاء، وكتب الفراغ والخلعاء، وكتب الملاهي والفكاهات، وكتب أصحاب الخصومات والمراء، وكتب أصحاب العصبية، وحمية الجاهلية، حتى كأنهم لا يحاسبون أنفسهم، ولا يوازنون بين ما عليهم ولهم، ولا يخافون تصفح العلماء، ولا لائمة الأدباء وشنف الأكفاء، ومساءة الجلساء؛ فهلا أمسكت - رحمك الله - عن عيبنا، والطعن عليها، وعن المشورة والموعظة، وعن تخويف ما فيه سوء العاقبة إلى أن تبلغ حال العلماء، ومراتب الأكفاء.
أقسام البيان
وبعد أن تكلم في تقسيم العالم إلى ثلاثة أقسام، وذكر أقسام الحيوان، قال في أقسام البيان:
ووجدنا الحكمة على ضربين: شيء جعل حكمة وهو لا يعقل الحكمة ولا عاقبة الحكمة، وشيء جعل حكمة وهو يعقل الحكمة وعاقبة الحكمة، فاستوى بدن الشيء العاقل وغير العاقل في جهة الذلالة على أنه حكمة، واختلفا من جهة أن أحدهما دليل لا يستدل، والآخر دليل يستدل، فكل مستدل دليل، وليس كل دليل مستدلا، فشارك كل الحيوان سوى الإنسان جميع الجماد في الدلالة وفي عدم الاستدلال، واجتمع للإنسان بأن كان دليلا مستدلا، ثم جعل للمستدل سبب يدل به على وجوه استدلاله، ووجوه ما نتج له الاستدلال، وسموا ذلك بيانا؛ وجعل ذلك البيان على أربعة أقسام: لفظ وخط وعقد وإشارة، وجعل بيان الدليل الذي لا يستدل تمكينه المستدل من نفسه واقتياده كل من فكر فيه إلى معرفة ما استخزن من البرهان، وحشي من الدلالة، وأودع من عجيب الحكمة؛ فالأجسام الخرس الصامتة ناطقة من جهة الدلالة، ومعربة من جهة صحة الشهادة، على أن الذي فيها من التدبير والحكمة تلوحان لمن استخبرهما، وينطقان لمن استنطقهما كما يخبر الهزال وكمود اللون عن سوء الحال، وكما ينطق السمن والنضرة عن حسن الحال، وقد قال الشاعر:
فعاجوا فأثنوا بالذي أنت أهله
ولو سكتوا أثنت عليك الحقائب
وقال آخر:
متى تك في عدو أو صديق
تخبرك العيون عن القلوب
وقد قال العكلي في صدق شمه الذئب، وفي شدة حسه واسترواحه:
يستخبر الريح إذا لم يسمع
بمثل مقراع الصفا الموقع
وقال عنترة وهو يصف نعيب غراب:
حرق الجناح كأن لحيي رأسه
جلمان بالأخبار هش مولع
وقال الفضل بن عيسى بن أبان في قصصه: سل الأرض فقل: من شق أنهارك، وغرس أشجارك، وجنى ثمارك؟ فإن لم تجبك حوارا، أجابتك اعتبارا، فموضوع الجسم ونصبته دليل على ما فيه، وداعية إليه ومنبهة عليه، فالجماد الأبكم الأخرس من هذا الوجه قد شارك في البيان الإنسان الحي الناطق؛ فمن جعل أقسام البيان خمسة فقد ذهب أيضا مذهبا له جواز في اللغة، وشاهد في العقل، فهذا أحد قسمي الحكمة، وأحد معنيي ما استخزنها الله تعالى من الوديعة.
القسمة الأخرى ما أودع صدور صنوف سائر الحيوان من ضروب المعارف، وفطرها على غريب الهدايات، وسخر حناجرها له بضرب النغم الموزونة، والأصوات الملحنة، والمخارج الشجية، والأغاني المطربة، فقد يقال: إن جميع أصواتها معدلة، وموزونة موقعة، ثم الذي سهل لها من الرفق العجيب في الصنعة مما ذلله الله تعالى لمناقيرها وأكفها، وكيف فتح لها من باب المعرفة على قدر ما هيأ لها من الآلة، وكيف أعطى كثيرا منها من الحس اللطيف، والصنعة البديعة عن غير تأديب وتثقيف، وعن غير تقويم وتلقين، وعن غير تدريج وتمرين، فبلغت بعفوها ومقدار قوى فطرتها من البديه والارتجال، ومن الابتداء والاقتضاب، ما لا يقدر عليه حذاق رجال الرأي، وفلاسفة علماء البشر بيد ولا آلة، بل لا يبلغ ذلك من الناس أكملهم خصالا، وأتمهم حلالا، من جهة الارتجال والاقتضاب ولا من جهة التعسف والاقتدار، ولا من جهة التقديم فيه، والتأتي له؛ والترتيب لمقدماته، وتمكين الأسباب المعينة عليه فصار جهد الإنسان الثاقب الحس، الجامع القوى، المتصرف في الوجوه، المتقدم في الأمور، يعجز عن عفو كثير منها، وينظر إذ نظر إلى ضروب ما يجيء منها كما أعطيت العنكبوت، وكما أعطيت السرفة ، وكما علم النحل، بل عرف التنوط من بديع المعرفة، ومن غريب الصنعة في غير ذلك من أصناف الخلق، ثم لم يوجدهم العجز في أنفسهم في أكثر ذلك إلا عما قوى عليه الهمج والخشاش وصغار الحشرات، ثم جعل الإنسان ذا العقل والتمكين، والاستطاعة والتصريف، وذا التكلف والتجربة، وذا التأتي والمنافسة، وصاحب الادخار والمتفقد لشأن العاقبة متى أحسن شيئا كان كل شيء دونه في الغموض عليه أسهل، وجعل سائر الحيوان وإن كان يحسن أحدها ما لا يحسن أحذق الناس متى أحسن شيئا عجيبا لم يمكنه أن يحسن ما هو أقرب منه في الظن، وأسهل منه في الرأي، بل لا يحسن ما هو أقرب منه في الحقيقة؛ فلا الإنسان جعل نفسه كذلك، ولا شيء من الحيوان اختار ذلك، فأحسنت هذه الأجناس بلا تعلم ما يمتنع على الإنسان، وإن تعلم فصار لا يحاوله إذ كان لا يطمع فيه، ولا يحسدها إذ كان لا يأمل اللحاق بها، ثم جعل تعالى وعز هاتين الحكمتين إزاء عيون الناظرين، وتجاه أسماع المعتبرين، ثم حث على التفكير والاعتبار، وعلى الاتعاظ والازدجار، وعلى التعرف والتبين، وعلى التوقف والتذكر، فجعلها مذكرة منبهة، وجعل الفطر تنشئ الخواطر، وتجول بأهلها في المذاهب، ذلك رب العالمين، سبحان الله رب العالمين.
وهذا كتاب موعظة وتعريف، وتفقه وتنبيه، وأراك قد عبته قبل أن تقف على حدوده، وتتفكر في فصوله، وتتذكر آخره بأوله، ومصادره بموارده، وقد غلطك فيه بعض ما رأيت في أثنائه من مزح لم تعرف معانيه، ومن بطالة لم تدرك غورها، ولم تدر لم اجتلبت ولأي علة تكلفت، وأي معنى أريغ بها، ولأي جد احتمل ذلك الهزل، ولأية رياضة تجشمت تلك البطالة، ولم تدر أن المزاح جد إذا اجتلب لأن يكون علة للجد، وأن البطالة وقار وزمانة إذا تكلفت لتلك العاقبة، ولما قال الخليل بن أحمد: لا يصل أحد من علم النحو إلى ما يحتاج إليه حتى يتعلم ما لا يحتاج إليه؛ قال أبو شمر: إذا كان لا يصل إلى ما يحتاج إليه إلا بما لا يحتاج إليه فقد صار ما لا يحتاج إليه يحتاج إليه؛ وذلك مثل كتابنا هذا، لأنا إن حملنا جميع من يتكلف قراءة هذا الكتاب على مر الحق، وصعوبة الجد، وثقل المئونة وحقيقة الوقار، لم يصبر عليه مع طوله إلا من قد تجرد للعلم وفهم معناه، وذاق من ثمرته، واستشعر من عزه، ونال من سروره على حسب ما بورت الطول من الكد، والكثرة من السآمة، وما أكثر من يقاد إلى حظه بالسواجير، وبالسوق العنيف، وبالإخافة الشديدة.
مدح الكتب
ثم ذكر فقرات حسانا في مدح الكتب فقال: ثم لم أرك رضيت بالطعن على كل كتاب لي بعينه، حتى تجاوزت ذلك، إلى أن عبت وضع الكتب كيفما دارت بها الحال، وكيف تصرفت بها الوجوه؛ وقد كنت أعجب من عيبك البعض بلا علم، حتى عبت الكل بلا علم؛ ثم جاوزت ذلك إلى التشنيع، ثم تجاوزت التشنيع إلى نصب الحرب، فعبت الكتاب ونعم الذخر والعدة، ونعم الجليس والعمدة، ونعم النشوة والنزهة، ونعم المشتغل والحرفة، ونعم الأنيس ساعة الوحدة، ونعم المعرفة ببلاد الغربة، ونعم القرين والدخيل، ونعم الوزير والنزيل؛ والكتاب وعاء مليء علما، وظرف حشي ظرفا، وإناء شحن مزاحا وجدا؛ إن شئت كان أبين من سحبان وائل، وإن شئت كان أعيا من باقل، وإن شئت ضحكت من بوادره، وإن شئت عجبت من غرائب فوائده، وإن شئت ألهتك نوادره، وإن شئت شجتك مواعظه، ومن لك بواعظ مله، وبزاجر مغر، وبناسك فاتك، وبناطق أخرس، وببارد حار؛ وفي البارد الحار يقول الحسن بن هانئ:
قل لزهير إذا انتحى وشدا
أقلل أو أكثر فأنت مهدار
سخنت من شدة البرودة حتى
صرت عندي كأنك النار
لا يعجب السامعون من صفتي
كذلك الثلج بارد حار
ومن لك بطبيب
58
أعرابي، وبرومي هندي، وبفارسي يوناني، وبقديم مولد، وبميت ممتع؛ ومن لك بشيء يجمع لك الأول والآخر، والناقص والوافر، والخفي والظاهر، والشاهد والغائب، والرفيع والوضيع، والغث والسمين، والشكل وخلافه، والجنس وضده.
وبعد، فمتى رأيت بستانا يحمل في ردن، أو روضة تتقلب في حجر، وناطقا ينطق عن الموتى، ويترجم كلام الأحياء؛ ومن لك بمؤنس لا ينام إلا بنومك، ولا ينطق إلا بما تهوى، آمن من الأرض، وأكتم للسر من صاحب السر، وأضبط للوديعة من أرباب الوديعة، وأحفظ لما استحفظ من الأميين، ومن الأعراب المعربين، بل من الصبيان قبل اعتراض الأشغال، ومن العميان قبل التمتع بتمييز الأشخاص، حين العناية تامة لم تنقص، والأذهان فارغة لم تقتسم، والإرادة وافرة لم تستعب، والطينة لينة فهي أقبل ما تكون للطابع، والقضيب رطب فهو أقرب ما يكون من العلوق، حين هذه الخصال لم يبل جديدها، ولم يفل غربها، ولم تتفرق قواها، وكانت كما قال الشاعر:
أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى
فصادف قلبا فارغا فتمكنا
وقال عبدة
59
بن الطبيب:
لا تأمنوا قوما يشب صبيهم
بين القوابل بالعداوة ينشع
هذا مع قولهم: التعلم في الصغر كالنقش في الحجر. وقال جران العود:
تركن برحلة الروحاء حتى
تنكرت الديار على البصير
كوحي في الحجارة أو وشوم
بأيدي الروم باقية النئور
60
النئور: شيء كان يعمل في الجاهلية مثل الخضرة اليوم.
وقال آخر وهو صالح بن عبد القدوس:
وإن من أدبته في الصبا
كالعود يسقى الماء في غرسه
حتى تراه مورقا أخضرا
بعد الذي أبصرت من يبسه
وقال آخر:
يقوم من ميل الغلام المؤدب
ولا ينفع التأديب والرأس أشبب
وقال آخر:
أدبت عرسي بعد ما هرمت
ومن العناء رياضة الهرم
وقد قال ذو الرمة لعيسى بن عمر: اكتب شعري فالكتاب أعجب إلي من الحفظ، إن الأعرابي ينسى الكلمة قد سهرت في طلبها ليلة، فيضع في موضعها كلمة في وزنها ثم ينشدها الناس، والكتاب لا ينسى، ولا يبدل كلاما بكلام.
وعبت الكتاب ولا أعلم جارا أبر، ولا خليطا أنصف، ولا رفيقا أطوع، ولا معلما أخضع، ولا صاحبا أظهر كفاية، ولا أقل جناية، ولا أقل إملالا وإبراما، ولا أقل خلافا وإجراما، ولا أقل غيبة، ولا أبعد من عضيهة، ولا أكثر أعجوبة وتصرفا، ولا أقل صلفا وتكلفا، ولا أبعد من مراء، ولا أترك شغب، ولا أزهد في جدال، ولا أكف عن قتل، من كتاب؛ ولا أعلم قرينا أحسن مواتاة، ولا أعجل مكافأة، ولا أحضر معونة، ولا أخف مئونة، ولا شجرة أطول عمرا، ولا أجمع أمرا، ولا أطيب ثمرة، ولا أقرب مجنى، ولا أسرع إدراكا، ولا أوجد في كل إبان من كتاب؛ ولا أعلم نتاجا في حداثة سنه، وقرب ميلاده، ورخص ثمنه، وإمكان موجوده، يجمع من التدابير العجيبة، والعلوم الغريبة، ومن آثار العقول الصحيحة، ومحمود الأذهان اللطيفة، ومن الحكم الرفيعة، والمذاهب القديمة، والتجارب الحكيمة، ومن الأخبار عن القرون الماضية، والبلاد المتراخية، والأمثال السائرة، والأمم البائدة ما يجمع لك الكتاب.
وقد قال الله عز وجل لنبيه عليه الصلاة والسلام:
اقرأ وربك الأكرم * الذي علم بالقلم . وصف نفسه تبارك وتعالى جده بأن علم بالقلم، كما وصف نفسه بالكرم، واعتد ذلك في نعمه العظام، وفي أياديه الجسام، وقد قالت: القلم أحد اللسانين. وقالوا: كل من عرف فضل النعمة في بيان اللسان كان بفضل النعمة في بيان القلم أعرف؛ ثم جعل هذا الأمر قرآنا، ثم جعله في أول التنزيل، ومستفتح الكتاب، ثم اعلم - يرحمك الله تعالى - أن حاجة بعض الناس إلى بعض صفة لازمة لطبائعهم، وخلقة قائمة في جواهرهم، وثابتة لا تزايلهم، ومحيطة بجماعتهم، مشتملة على أدانيهم وأقاصيهم، وحاجتهم إلى ما غاب عنهم، مما يعيشهم ويحييهم، ويأخذ بأرماقهم، ويصلح بالهم، ويجمع شملهم، وإلى التعاون على درك ذلك، والتوازر عليه كحاجتهم إلى التعاون على معرفة ما بحضرتهم، والتوازر على ما يحتاجون من الارتفاق في أمورهم التي لم تغب عنهم، فحاجة الغائب موصولة بحاجة الشاهد، لاحتياج الأدنى إلى معرفة الأقصى، واختلال الأدنى إلى معونة الأقصى؛ معان متضمنة، وأسباب متصلة، وحبال متقيدة، وجعل حاجتنا إلى معرفة أخبار من كان قبلنا كحاجة من كان قبلنا إلى أخبار من كان قبلهم، وحاجة من يكون بعدنا إلى أخبارنا، ولذلك تقدمت في الكتب البشارات بالرسل، ولم يسخر لهم جميع خلقه إلا وهم يحتاجون إلى الارتفاق بجميع خلقه، وجعل الحاجة حاجتين: إحداهما قوام وقوت، والأخرى لذة وإمتاع، وازدياد في الآلة، وفي كل ما أجذل النفوس، وجمع لهم العتاد، وذلك المقدار من جميع الصنفين وفق لكثرة حاجاتهم وشهواتهم، وعلى قدر اتساع معرفتهم، وبعد غورهم، وعلى قدر احتمال طبع البشرية، وفطرة الإنسانية، ثم لم يقطع الزيادة عنهم إلا لعجز خلقهم عن احتمالها، ولم يجز أن يفرق بينهم وبين العجز إلا بعدم الأعيان، إذا كان العجز صفة من صفات الخلق، ونعتا من نعوت العبيد، ولم يخلق الله تعالى أحدا يستطيع بلوغ حاجته بنفسه دون الاستعانة ببعض من سخر له، فأدناهم مسخر لأقصاهم، وأجلهم ميسر لأدقهم، وعلى ذلك أحوج الملوك إلى السوقة في باب، وأحوج السوقة إلى الملوك في باب، وكذلك الغني والفقير، والعبد وسيده.
ثم جعل الله تعالى كل شيء للإنسان خولا وفي يده مذالا ميسرا؛ إما بالاحتيال له، والتلطف في إراغته واستمالته، إما بالصولة عليه والفتك به، وإما أن يأتيه سهوا ورهوا، وعلى أن الإنسان لولا حاجته إليها لما احتال لها، ولما صال عليها، إلا أن الحاجة تفترق في الجنس والجهة، وفي الحظ والتقدير، ثم تعبد الإنسان بالفكر فيها، والنظر في أمورها، وبالاعتبار بما يرى، ووصل بين عقولهم، وبين معرفة تلك الحكم الشريفة، وتلك الحاجات اللازمة بالنظر والتفكير، والتنقب والتنقير، والتنبت، والتوقف، ووصل معارفهم بمواقع حاجاتهم إليها، وتشاعرهم بمواضع الحكم فيها بالبيان عنها، وهو البيان الذي جعله الله تعالى سببا فيما بينهم، ومعبرا عن حقائق حاجاتهم، ومعرفا لمواضع سد الخلة، ودفع الشبهة، ومداواة الحيرة؛ ولأن أكثر الناس عن الناس أفهم منهم عن الأشباح الماثلة، والأجسام الجامدة، والأجرام الساكنة التي لا يتعرف ما فيها من دفائن الحكم وكنوز الأدب، وينابيع العلم، إلا بالعقل اللطيف الثاقب، وبالنظر التام النافذ، وبالأداة الكاملة، وبالأسباب الوافرة، والصبر على مكروه الفكر، والاحتراس من وجوه الخدع، والتحفظ من دواعي الهوينى، ولأن الشكل أفهم عن شكله وأسكن إليه وأصب به، وذلك موجود في أجناس البهائم وضروب السباع، والصبي عن الصبي أفهم وله آلف، وإليه أنزع، وكذلك العالم والعالم، والجاهل والجاهل، وقال الله عز وجل لنبيه عليه الصلاة والسلام:
ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا ؛ لأن الإنسان عن الإنسان أفهم، وطباعه بطباعه آنس، وعلى قدر ذلك يكون موقع ما يسمع منه؛ ثم لم يرض من البيان لهم بصنف واحد، بل جمع ذلك ولم يفرق، وكثر ولم يقلل، وأظهر ولم يخف، فجعل أصناف البيان التي بها يتعارفون معانيهم، والترجمان الذي إليه يرجعون عند اختلافهم في أربعة أشياء وفي خصلة خامسة، وإن نقصت عن بلوغ هذه الأربعة في جهاتها، فقد تكمل بجنسه الذي وضع له، وصرف إليه.
وهذه الخصال الأربع: هي اللفظ والخط والإشارة والعقد، والخصلة الخامسة: ما أوجد من صحة الدلالة، وصدق الشهادة، ووضوح البرهان في الأجرام الجامدة الصامتة، والساكنة الثابتة، التي لا تنبس ولا تفهم، ولا تحس وتتحرك إلا بداخل دخل عليها، أو عند ممسك خلى عنها بعد تقييده كان لها؛ ثم قسم الأقسام، ورتب المحسوسات، وحصل الموجودات، فجعل اللفظ للسامع، وجعل الإشارة للناظر، وأشرك بين الناظر واللامس، في معرفة العقد إلا بما فضل الله به نصيب الناظر في ذلك على نصيب اللامس، وجعل الخط دليلا على ما غاب من حوائجه عنه، وسببا موصولا بينه وبين أعوانه، وجعله خازنا لما لا يأمن نسيانه مما قد أحصاه وحفظه، وأتقنه وجمعه، وتكلف الإحاطة به، ولم يجعل للشام والذائق في ذلك نصيبا.
ولولا خطوط الهند لضاع من الحساب الكثير البسيط، ولبطلت معرفة التضاعيف، ولعدموا الإحاطة بالباورات، وباورات الباورات، ولو أدركوا ذلك لما أدركوه إلا بعد أن تغلظ المئونة، وتنتقص المنة، ولصاروا إلى حال معجزة وحسور، وإلى حال مضيعة وكلال حد، مع التشاغل بأمور لولا فقد هذه الآلة لكان أربح لهم، وأرد عليهم أن يصرفوا ذلك الشغل في أبواب منافع الدين والدنيا؛ ونفع الحساب معلوم، والخلة في موضع فقده معروفة، قال الله تعالى:
الرحمن * علم القرآن * خلق الإنسان * علمه البيان ، ثم قال:
الشمس والقمر بحسبان ، وبالبيان عرف الناس القرآن، قال الله تبارك وتعالى:
هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب ، فأجرى الحساب مجرى البيان، وألحق البيان بالقرآن، وبحسبان منازل القمر عرفنا حالات المد والجزر، وكيف تكون الزيادة في الأهلة وأنصاف الشهور، وكيف يكون النقصان في خلال ذلك، وكيف تلك المراتب وتلك الأقدار.
ولولا الكتب المدونة، والأخبار المخلدة، والحكم المخطوطة التي تحصر الحساب وغير الحساب، لبطل أكثر العلم، ولغلب سلطان النسيان سلطان الذكر، ولما كان للناس مفزع إلى موضع استذكار، ولو تم ذلك لحرمنا أكثر النفع؛ إذ كنا قد علمنا أن مقدار حفظ الناس لعواجل حاجاتهم وأواجلها لا يبلغ من ذلك مبلغا مذكورا، ولا يغني فيه غناء محمودا، ولو كلف عامة من يطلب العلم، ويصطنع الكتب، ألا يزال حافظا لفهرس كتبه لأعجزه ذلك، ولكلف شططا، ولشغله ذلك عن كثير مما هو أولى به؛ ففهمك لمعاني كلام الناس ينقطع قبل انقطاع فهم عين الصوت مجردا، وأبعد فهمك لصوت صاحبك ومعاملك، والمعاون لك ما كان صياحا صرفا، وصوتا مصمتا، ونداء خالصا، ولا يكون مع ذلك إلا وهو بعيد من المفاهمة، وعطل من الدلالة، فجعل الله جل وعز اللفظ لأقرب الحاجات، والصوت لأنفس من ذلك قليلا، والكتاب للنازح من الحاجات.
فأما الإشارة فأقرب المفهوم منها رفع الحواجب، وكسر الأجفان، ولي الشفاه، وتحريك الأعناق، وقبض جلدة الوجه؛ وأبعدها أن تلوي بثوب على مقطع جبل تجاه عين الناظر، ثم ينقطع عملها، ويدرس أثرها، ويموت ذكرها، وتصير بعد كل شيء فضل عن انتهاء مدة الصوت، ومنتهى الطرف في الحاجة، إلى التفاهم بالخطوط والكتب؛ فأي نفع أعظم، وأي مرفق أعون من الخط، والحال فيه كما ذكرنا!
وليس للعقد حظ الإشارة في بعد الغاية، ولا للاشارة حظ الخط في بعد الغاية، فلذلك وضع الله عز وجل القلم في المكان الرفيع، ونوه بذكره في المنصب الشريف حين قال:
ن والقلم وما يسطرون ، فأقسم بالقلم كما أقسم بما يخط بالقلم؛ إذ كان اللسان لا يتعاطى شأوه، ولا يشق غباره، ولا يجري في حلبته، ولا يتكلف بعد غايته، ولكن لما كانت حاجات الناس بالحضرة أكثر من حاجاتهم في سائر الأماكن، وكانت الحاجة إلى بيان اللسان حاجة دائمة راكدة، وراهنة ثابتة؛ وكانت الحاجة إلى بيان القلم أمرا يكون في الغيبة وعند النائبة، إلا ما خصت به الدواوين، فإن لسان القلم هناك أبسط، وأثره أعم، فلذلك قدموا اللسان على القلم، فاللسان الآن إنما هو في منافع اليد والمرافق التي فيها، والحاجات التي تبلغها؛ فمن ذلك حظها وقسطها من منافع الإشارة، ثم نصيبها في تقويم القلم، ثم حظها في التصوير، ثم حظها في الصناعات، ثم حظها في العقد، ثم حظها في الدفع عن النفس، ثم حظها في إيصال الطعام والشراب إلى الفم، ثم التوضؤ والامتساح، ثم انتقاد الدنانير والدراهم، ثم لبس الثياب؛ وفي الدفع عن النفس أصناف الرمي، وأصناف الضرب، وأصناف الطعن، ثم الضرب التقن بالعود وتحريك الوتر، ولولا ذلك لبطل الطرب كله أو عامته؛ وكيف لا تكون كذلك ولها ضرب الطبل والدف وتحريك الصفاقتين، وتحريك مخارق خروق المزامير، وما في ذلك من الإطلاق والحبس؛ ولو لم يكن في اليد إلا إمساك العنان والزمام والخطام، لكان ذلك من أعظم الحظوظ.
وقد اضطربوا في الحكم بين العقد والإشارة، ولولا أن مغزانا في هذا الكتاب سوى هذا الباب لقد كان هذا مما أحب أن يعرفه إخواننا وخلطاؤنا، ولا ينبغي لنا أيضا أن نأخذ في هذا الباب من الكلام إلا بعد الفراغ مما هو أولى بنا منه؛ إذ كنت لم تنازعني، ولم تعب كتبي من طريق فضل ما بين العقد والإشارة، ولا في تمييز ما بين اللفظ وبينهما؛ وإنما قصدنا بكلامنا إلى الإخبار عن فضل الكتب.
والكتاب هو الذي قيد على الناس كتب علم الدين، وحساب الدواوين، مع خفة ثقله، وصغر حجمه، صامت ما أسكته، وبليغ إذا استنطقته، ومن لك بمسامر لا يبتدئك في حال شغلك، ويدعوك في أوقات نشاطك، ولا يحوجك إلى التجمل له، والتذمم منه؛ ومن لك بزائر إن شئت جعل زيارته غبا، ووروده خمسا؛ وإن شئت لزمك لزوم ظلك، فكان منك مكان بعضك.
والقلم مكتف بنفسه ولا يحتاج إلى ما عند غيره، ولا بد لبيان اللسان من أمور، منها: إشارة اليد، ولولا الإشارة لما فهموا عنك خاص الخاص، إذا كان أخص الخاص قد يدخل في باب العام، إلا أنه أدنى طبقاته، وليس يكتفي خاص الخاص باللفظ عما أداه، كاكتفاء عام العام، والطبقات التي بينه وبين أخص الخاص.
والكتاب هو الجليس الذي لا يطريك، والصديق الذي لا يغريك، والرفيق الذي لا يملك، والمستميح الذي لا يستزيدك، والجار الذي لا يستبطئك، والصاحب الذي لا يريد استخراج ما عندك بالملق، ولا يعاملك بالمكر، ولا يخدعك بالنفاق، ولا يحتال لك بالكذب.
والكتاب هو الذي إن نظرت فيه أطال إمتاعك، وشحذ طباعك، وبسط لسانك، وجود بيانك، وفخم ألفاظك، وبجح نفسك، وعمر صدرك، ومنحك تعظيم العوام، وصداقة الملوك؛ وعرفت به في شهر ما لا تعرفه من أفواه الرجال في دهر، مع السلامة من الغرم، ومن كد الطلب، ومن الوقوف بباب المتكسب بالتعليم، وبالجلوس بين يدي من أنت أفضل منه خلقا، وأكرم عرقا، ومع السلامة من مجالسة البغضاء، ومقارنة الأغبياء.
والكتاب هو الذي يطيعك بالليل كطاعته بالنهار؛ ويطيعك في السفر كطاعته في الحضر، ولا يعتل بنوم، ولا يعتريه كلال السهر؛ وهو المعلم الذي إن افتقرت لم يحقرك، وإن قطعت عنه المادة لم يقطع عنك الفائدة، وإن عزلت لم يدع طاعتك، وإن هبت ريح أعاديك لم ينقلب عليك؛ ومتى كنت منه متعلقا بسبب، أو معتصما بأدنى حبل، لم تضطرك معه وحشة الوحدة إلى جليس السوء؛ ولم لم يكن من فضله عليك، وإحسانه إليك، إلا منعه لك من الجلوس على بابك، والنظر إلى المارة بك، مع ما في ذلك من التعرض للحقوق التي تلزم ، ومن فضول النظر، ومن عادة الخوض فيما لا يعنيك، ومن ملابسة صغار الناس، ومن حضور ألفاظهم الساقطة، ومعانيهم الفاسدة، وأخلاقهم الردية، وجهلاتهم المذمومة، لكان في ذلك السلامة ثم الغنيمة، وإحراز الأصل مع استفادة الفرع، ولو لم يكن في ذلك إلا أن يشغلك عن سخف المنى، وعن اعتياد الراحة، وعن اللعب، وكل ما أشبه اللعب، لقد كان في ذلك على صاحبه أسبغ النعمة، وأعظم المنة؛ وقد علمنا أن أمثل ما يقطع به الفراغ نهارهم، وأصحاب الفكاهات ساعات ليلهم، هو الشيء الذي لا ترى له فيهم مع النيل أثرا في ازدياد في تجربة ولا في عقل، ولا في مروءة ولا في صون عرض، ولا في إصلاح دين، ولا في تثمير مال، ولا في تربية صنيعة، ولا في ابتداء بإنعام.
قال أبو عبيدة: قال المهلب لبنيه في وصيته: يا بني، لا تقفوا في الأسواق إلا على زراد أو وراق.
وحدثني صديق لي قال: قرأت على شيخ شامي كتابا فيه مآثر غطفان، فقال لي: ذهبت المكارم إلا من الكتب. وسمعت الحسن اللؤلؤي يقول: عبرت أربعين عاما ما قلت ولا بت إلا والكتاب موضوع على صدري. وقال ابن الجهم: إذا غشيني النعاس في غير وقت نوم، وبئس الشيء النوم الفاضل عن الحاجة، تناولت كتابا من كتب الحكم فأجد اهتزازي للفوائد، والأريحية التي تعتريني عند الظفر ببعض الحاجة، والذي يغشى قلبي من سرور الاستبانة، وعز التبين، أشد إيقاظا من نهيق الحمير، وهدة الهدم.
وقال ابن الجهم: إذا استحسنت الكتاب واستجدته، ورجوت منه الفائدة، ورأيت ذلك فيه، فلو ترونني وأنا ساعة بعد ساعة أبصر كم بقي من ورقه مخافة استنفاده، وانقطاع المادة من قبله، وإن كان المصحف في عظيم الحجم، وكان الورق كثير العدد، لرأيتم كيف تم عيشي، وكمل سروري.
وذكر القيني كتابا لبعض القدماء فقال: لولا طوله، وكثرة ورقه، لنسخته! قال ابن الجهم: لكنني ما رغبني فيه إلا الشيء الذي زهدك فيه، وما قرأت كتابا قط كبيرا فأخلاني من فائدة، وما أحصي كم قرأت من صغار الكتب فخرجت منها كلما دخلت.
وقال القيني ذات يوم لابن الجهم: ألا تتعجب من فلان! نظر في كتاب الإقليدس مع جارية سلمويه في يوم واحد وساعة واحدة، فقد فرغت الجارية من الكتاب وهو بعد لم يحكم مقالة واحدة، على أنه حر مخير وتلك أمة مقصورة، وهو أحرص على قراءة الكتب من سلمويه على تعليم جاريته. قال ابن الجهم: قد كنت أظن أنه لا يفهم منه شكلا واحدا، وأراك تزعم أنه قد فرغ من مقالة. قال القيني: وكيف ظننت به هذا الظن كله وهو رجل ذو لسان وأدب؟ قال: لأني سمعته يقول لابنه: كم أنفقت على كتاب كذا وكذا؟ قال: أنفقت كذا وكذا. قال: إنما رغبني في العلم أني ظننت أني أنفق قليلا وأكتسب كثيرا، فأما إذا صرت أنفق الكثير وليس في يدي منه إلا المواعيد فإني لا أريد العلم بشيء. والإنسان لا يعلم حتى يكثر سماعه، ولا بد من أن تصير كتبه أكثر من سماعه، ولا يعلم ولا يجمع ولا يختلف حتى يكون الإنفاق عليه من ماله ألذ عنده من الإنفاق من مال عدوه؛ ومن لم تكن نفقته التي تخرج في الكتب ألذ عنده من عشاق القبان، والمستهترين بالبنيان، لم يبلغ في العلم مبلغا رضيا. وليس ينتفع بإنفاقه حتى يؤثر لذة اتخاذ الكتب إيثار الأعرابي فرسه باللبن على عياله، وحتى يؤمل في العلم ما لا يؤمل الأعرابي في فرسه.
وقال إبراهيم بن السندى مرة: وددت أن الزنادقة لم يكونوا حرصاء على المغالاة بالورق النقي الأبيض، ولا على تخير الحبر الأسود البراق، ولا على استجادة الخط والإرغاب لمن يخط، فإني لم أر كورق كتبهم ورقا، ولا كالخطوط التي فيها خطا. وإني غرمت مالا عظيما مع حبي للمال وبغضي للغرم، لأن سخاء النفس بالإنفاق على الكتب دليل على تعظيم العلم، وتعظيم العلم دليل على شرف النفس وعلى السلامة من سكر الآفات. وقلت لإبراهيم: إن إنفاق الزنادقة على الكتب كإنفاق النصارى على البيع، ولو كانت كتب الزنادقة كتب حكمة، وكتب فلسفة، وكانت مقاييس تبيين، أو لو كانت كتبهم كتبا تعرف الناس أبواب الصناعات، أو سبل التكسب والتجارات، أو كتب إرفاق ورياضات، أو بعض ما يتعاطاه الناس من الفطن والأدب، أو كان ذلك لا يقرب من غنى، ولا يباعد من مأثم، لكانوا ممن قد يجوز أن يظن بهم تعظيم البيان والرغبة في التبيين، ولكنهم ذهبوا فيها مذهب الديانة على طريق تعظيم الملة؛ فإنما إنفاقهم في ذلك كإنفاق المجوس على بيت النار، وكإنفاق النصارى على صلبان الذهب ، أو كإنفاق الهند على سدنة البد؛ ولو كانوا العلم أرادوا لكان العلم لهم معرضا؛ وكتب الحكمة لهم مبذولة، والطرق إليها سهلة معروفة؛ فما بالهم لا يصنعون ذلك إلا بكتب ديانتهم كما يزخرف النصارى بيوت عبادتهم؛ ولو كان هذا المعنى مستحسنا عند المسلمين، وكانوا يرون أن ذلك داعية إلى العبادة وباعثة على الخشوع، لبلغوا في ذلك بعفوهم ما لا يبلغه النصارى بغاية الجهد.
وقد رأيتم مسجد دمشق حين استجاز هذه السبيل ملك من ملوكنا، ومن رآه فقد علم أن أحدا لا يرومه، وأن الروم لا تسخو أنفسهم به؛ فلما قام عمر بن عبد العزيز جلله بالجلال، وغطاه بالكرابيس،
61
وطبخ سلاسل القناديل حتى ذهب عنها ذلك التلألؤ والبريق، وذهب إلى أن ذلك الصنيع مجانب لسنة الإسلام، وأن ذلك الحسن الرائع والمحاسن الدقاق مذهلة للقلوب، مشغلة دون الخشوع، وأن البال لا يكون مجتمعا وهناك شيء يفرقه ويعترض عليه.
والذي يدلنا على ما قلنا أنه ليس في كتبهم مثل سائر، ولا خبر طريف، ولا صنعة أدب، ولا حكمة غرزية ولا فلسفية، ولا مسألة كلامية، ولا تعريف صناعة، ولا استخراج آلة، ولا تعليم فلاحة، ولا تدبير حرب، ولا مقارعة عن دين، ولا مناضلة عن نحلة؛ وجله ذكر النور والظلمة، وتناكح الشياطين، وتسافد العفاريت، وذكر الصنديد والتهويل بعمود السنخ، والإخبار عن شقلون وعن الهامة والهمامة، وهذر وعي ودعوى وخرافة وسخف وتكذب، لا ترى فيه موعظة حسنة، ولا حديثا مونقا، ولا تدبير معاش ولا سياسة عامة، ولا ترتيب خاصة؛ فأي كتاب أجهل، وأي تدبير أفسد من كتاب يوجب على الناس الطاعة والبخوع بالديانة على جهة الاستبصار والمحبة، وليس فيه صلاح معاش، ولا تصحيح دين، والناس لا يجيبون إلا دينا أو دنيا؟!
فأما الدنيا فإقامة سوقها وإحضار نفعها. وأما الدين فأقل ما يطمع في استجابة العامة واستمالة الخاصة، أن يصور في صورة مغلطة، ويموه تمويه الدينار البهرج والدرهم الزائف الذي يغلط فيه الكثير ويعرف حقيقته القليل. فليس انفاقهم عليها من حيث ظننت. وكل دين يكون أظهر اختلافا وأكثر فسادا يحتاج من الترقيع والتمويه ومن الاحتشاد له والتغليظ فيه إلى أكثر من غيره.
وقد علمت أن النصرانية أشد انتشارا من اليهودية تعبدا، فعلى حسب ذلك يكون تزيدهم في توكيده، واحتفالهم في إظهار تعظيمه.
وقال بعضهم: كنت عند بعض العلماء فكنت أكتب عنه بعضا وأدع بعضا، فقال لي: اكتب كل ما تسمع، فإن أخس ما تسمع خير من مكانه أبيض. وقال الخليل بن أحمد: تكثر من العلم لتعرف، وتقلل منه لتحفظ. وقال أبو إسحاق: القليل والكثير للكتب، والقليل وحده للصدر. وأنشد قول ابن يسير:
أما لو أعي كل ما أسمع
وأحفظ من ذاك ما أجمع
ولم أستفد غير ما قد جمع
ت لقيل هو العالم المقنع
ولكن نفسي إلى كل نو
ع من العلم نسمعه تنزع
أشاهد بالعي في مجلسي
وعلمي في البيت مستودع
فلا أنا أحفظ ما قد جمع
ت ولا أنا من جمعه أشبع
ومن يك في علمه هكذا
يكن دهره القهقري يرجع
إذا لم تكن حافظا واعيا
فجمعك للعلم لا ينفع
قال أبو إسحاق: كلف ابن يسير الكتب ما ليس عليها، إن الكتب لا تحيي الموتى، ولا تحول الأحمق عاقلا، ولا البليد ذكيا؛ وذلك أن الطبيعة إذا كان فيها أدنى قبول فالكتب تشحذ وتفتق وترهف وتشفي؛ ومن أراد أن يعلم كل شيء فينبغي لأهله أن يداووه، فإن ذلك إنما تصور له لشيء اعتراه. فمن كان عاقلا ذكيا حافظا فليقصد إلى شيئين أو ثلاثة أشياء: فلا ينزع عن الدرس والمطارحة، ولا يدع أن يمر على سمعه وعلى بصره وعلى ذهنه ما قدر عليه من سائر الأصناف، فيكون عالما بخواص ويكون غير غفل من سائر ما يجري فيه الناس ويخوضون فيه؛ ومن كان مع الدرس لا يحفظ شيئا إلا نسي أكثر منه فهو من الحفظ من أفواه الرجال أبعد.
وحدثني موسى بن يحيى قال: ما كان في خزانة كتب يحيى وفي بيت مدرسة كتاب إلا وله فيه ثلاث نسخ.
وقال أبو عمرو بن العلاء: ما دخلت على رجل قط ولا مررت ببابه فرأيته ينظر في دفتر وجليسه فارغ اليد إلا اعتقدت أنه أعقل منه وأفضل.
قال أبو عمرو: وقيل لنا يوما: إن في دار فلان ناسا قد اشتملوا على سوءة، وهم جلوس على خميرة لهم وعندهم طنبور. قال: فذمرنا عليهم في جماعة من رجال الحي، فإذا فتى جالس في وسط الدار وإذا أصحابه حوله، وإذا هم بيض اللحى، وإذا هو يقرأ عليهم كتاب شعر، فقال الذي كان سعى بهم: السوءة في ذلك البيت، وإن دخلتموه عثرتم بها. قال: قلت: والله لا أكشف فتى أصحابه شيوخ وفي يده دفتر علم ولو كان في ثوبه دم يحيى بن زكرياء. قال: وأنشد رجل يونس النحوي قوله:
أستودع العلم قرطاسا فضيعه
فبئس مستودع العلم القراطيس
قال: فقال يونس: قاتله الله! ما أشد صبابته بالعلم وأحسن صيانته له! إن علمك من روحك، ومالك من بدنك، فضعه منك بمكان الروح، وضع مالك بمكان البدن.
وقيل لابن داحة وأخرج كتاب أبي الشمقمق وإذا هو في جلود كوفية ودفتين طائفيتين وبخط عجيب، فقيل له:
62
لقد ضيع درهمه من تجود لشعر أبي الشمقمق. قال: لا جرم والله، إن العلم ليعطيكم على حساب ما تعطونه، ولو استطعت أن أودعه سويداء قلبي وأجعله مخطوطا على ناظري لفعلت.
ولقد دخلت على إسحاق بن سليمان في إمرته، فرأيت السماطين بين يديه والرجال مثولا كأن على رءوسهم الطير، ورأيت فرشته
63
وبزته، ثم دخلت عليه وهو معزول، وإذا هو في بيت كتبه وحواليه الأسفاط والرفوف والقماطر والدفاتر والمساطر والمحابر، فما رأيته قط أفخم ولا أنبل ولا أهيب ولا أجزل منه في ذلك اليوم، إلا أنه جمع مع المهابة المحبة، ومع الفخامة الحلاوة، ومع السودد الحكمة.
وقال ابن داحة: كان عبد الله بن عبد العزيز بن عبد الله بن عمر بن الخطاب لا يجالس الناس، ونزل مقبرة من المقابر، وكان لا يكاد يرى إلا وفي يده كتاب يقرؤه، فسئل عن ذلك وعن نزوله المقبرة، فقال: لم أر أوعظ من قبر، ولا أمتع من كتاب، ولا أسلم من الوحدة. فقيل له: فقد جاء في الوحدة ما قد جاء. قال: ما أفسدها للجاهل وأصلحها للعاقل!
وضروب من الخطوط بعد ذلك تدل على قدر منفعة الخط، قال الله تبارك وتعالى:
كراما كاتبين * يعلمون ما تفعلون ، وقال الله عز وجل:
في صحف مكرمة * مرفوعة مطهرة * بأيدي سفرة ، وقال:
فأما من أوتي كتابه بيمينه ، وقال:
وأما من أوتي كتابه وراء ظهره ، وقال:
اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا .
الترغيب في اصطناع الكتب (وبعد أن تكلم عن الخط في الأرض عند التفكر وما قيل في ذلك من الأشعار، وذكر الخط ومقدار الحاجة إليه، وتاريخ الشعر قبل الإسلام، وبيان أن فضيلته مقصورة على العرب، استطرد القول بالترغيب في اصطناع الكتب) فقال: إن على من شكر المعرفة بمغاوي الناس ومراشدهم ومضارهم ومنافعهم، أن يحتمل ثقل مئونتهم في معرفتهم، وأن يتوخى إرشادهم وإن جهلوا فضل ما يسدى إليهم. ولن يصان العلم بمثل بذله، ولن تستبقى النعمة فيه بمثل نشره. على أن قراءة الكتب أبلغ في إرشادهم من تلاقيهم؛ إذ كان مع التلاقي يشتد التصنع، ويكثر التظالم، وتفرط العصبية، وتقوى الحمية؛ وعند المواجهة والمقابلة يشتد حب الغلبة، وشهوة المباهاة والرياسة مع الاستحياء من الرجوع، والأنفة من الخضوع؛ وعن جميع ذلك تحدث الضغائن ويظهر التباين؛ فإذا كانت القلوب على هذه الصفة وعلى هذه الهيئة، امتنعت من التعرف، وعميت عن موضع الدلالة؛ وليست للكتب علة تمنع من درك البغية، وإصابة الحجة؛ لأن المتوحد بدرسها والمنفرد بفهم معانيها، لا يباهي نفسه، ولا يغالب عقله، وقد عدم من له يباهي، ومن أجله يغالب؛ والكتاب قد يفضل صاحبه ويتقدم مؤلفه، ويرجح قلمه على لسانه بأمور: منها، أن الكتاب يقرأ بكل مكان، ويظهر ما فيه على كل لسان، ويوجد مع كل زمان على تفاوت ما بين الأعصار، وتباعد ما بين الأمصار؛ وذلك أمر يستحيل في واضع الكتاب، والمنازع بالمسألة والجواب؛ ومناقلة اللسان وهدايته لا تجوزان مجلس صاحبه، ومبلغ صوته؛ وقد يذهب الحكيم وتبقى كتبه، ويفنى العقل ويبقى أثره.
ولولا ما تسمت لنا الأوائل في كتبها، وخلدت من عجيب حكمتها، ودونت من أنواع سيرها، حتى شاهدنا بها ما غاب عنا، وفتحنا بها كل مستغلق كان علينا، فجمعنا إلى قليلنا كثيرهم، وأدركنا ما لم نكن ندركه إلا بهم، لقد خس حظنا من الحكمة، وضعف سببنا إلى المعرفة؛ ولو ألجئنا إلى قدر قوتنا، ومبلغ خواطرنا، ومنتهى تجربتنا لما تدركه حواسنا وتشاهده نفوسنا، لقد قلت المعرفة، وقصرت الهمة، وانتقضت المنة، وعاد الرأي عقيما، والخاطر فاسدا، ولكل الحد، وتبلد العقل. وأكثر من كتبهم نفعا، وأشرف منها خطرا، وأحسن موقعا، كتب الله تعالى التي فيها الهدى والرحمة، والإخبار عن كل عبرة، وتعريف كل سيئة وحسنة. وما زالت كتب الله تعالى في الألواح والصحف والمهارق
64
والمصاحف، فقد قال الله عز وجل:
الم * ذلك الكتاب لا ريب فيه ، وقال:
ما فرطنا في الكتاب من شيء . ويقال لأهل التوراة والإنجيل: أهل الكتاب. وينبغي أن يكون سبيلنا لمن بعدنا كسبيل من كان قبلنا فينا. على أنا قد وجدنا من العبرة أكثر مما وجدوا، كما أن من بعدنا يجد من العبرة أكثر مما وجدنا، فيما ينتظر العالم بإظهار ما عنده، وما يمنع الناصر للحق من القيام بما يلزمه، وقد أمكن القول، وصلح الدهر، وهوى نجم التقية، وهبت ريح العلماء، وكسد العي والجهل، وقامت سوق البيان والعلم. والإنسان ليس يجد في كل حال إنسانا يدرسه ومقوما يثقفه، والصبر على إفهام الريض شديد، وصرف النفس عن مغالبة العالم أشد منه هما.
والمتعلم يجد في كل مكان الكتاب عتيدا، وبما يحتاج إليه قائما. وما أكثر من فرط في التعلم أيام خمول ذكره وأيام حداثة سنه. ولولا جياد الكتب وحسنها، ومبينها ومختصرها، لما تحركت همم هؤلاء لطلب العلم، ونازعت إلى حب الأدب، وأنفت من حال الجهل وأن تكون في غمار الحشو، ولدخل على هؤلاء من الضرر والمضرة والجهل وسوء الحال ما عسى ألا يمكن الإخبار عن مقداره إلا بالكلام الكثير.
ولذلك قال عمر رضي الله تعالى عنه: تفقهوا قبل أن تسودوا. وقد تجد الرجل يطلب الآثار وتأويل القرآن ويجالس الفقهاء خمسين سنة، ولا يعد فقيها ولا يجعل قاضيا؛ وما هو إلا أن ينظر في كتب أبي حنيفة وأشباه أبي حنيفة، ويحفظ كتب الشروط في مقدار سنة أو سنتين حتى تمر ببابه فتظن أنه باب بعض العمال؛ وبالحرى ألا يمر عليه من الأيام إلا اليسير حتى يصير حاكما على مصر من الأمصار، أو بلدة من البلدان.
وينبغي لمن كتب كتابا ألا يكتبه إلا على أن الناس كلهم له أعداء، وكلهم عالم بالأمور، وكلهم متفرغ له؛ ثم لا يرضى بذلك حتى يدع كتابه يغب ويختمر، ولا يثق بالرأي الفطير؛ فإن لابتداء الكتاب فتنة وعجبا، فإذا سكنت الطبيعة وهدأت الحركة، وتراجعت الأخلاط، وعادت النفس وافرة، أعاد النظر فيه وتوقف عند فصوله توقف من يكون وزن طمعه في السلامة أنقص من وزن خوفه من العيب، ويتفهم معنى قول الشاعر:
إن الحديث تغر القوم خلوته
حتى يكون لهم عي وإكثار
ويقف عند قولهم في المثل: «كل مجر في الخلاء يسر»، فيخاف أن يعتريه ما يعتري من أجرى فرسه وحده، أو خلا بقلمه عند فقد خصومه وأهل المزية من أهل صناعته. وليعلم أن صاحب القلم يعتريه ما يعتري المؤدب عند ضربه وعقابه؛ فما أكثر من يعزم على عشرة أسواط فيضرب مائة؛ لأنه ابتدأ الضرب وهو ساكن الطباع فأراه السكون أن الصواب في الإقلال، فلما ضرب تحرك دمه فأشاع فيه الحرارة وزاد في غضبه، فأراه الغضب أن الرأي في الإكثار؛ وكذلك صاحب القلم، فما أكثر من يبتدئ الكتاب وهو يريد مقدار سطرين فيكتب عشرة. والحفظ مع الإقلال أمكن، وهو مع الإكثار أبعد.
واعلم أن العاقل إن لم يكن بالمشبع فكثيرا ما يغر من ولده ويحسن في عينه منه القبيح في عين غيره، فليعلم أن لفظه أقرب إليه نسبا من ابنه، وحركته أمس به رحما من ولده؛ لأن حركته شيء أحدثه من نفسه وبذاته، ومن عين جوهره فصلت، ومن نفسه كانت، وإنما الولد كالمخطة يمتخطها؛ وكالنخامة يقذفها، ولا سواء إخراجك من نفسك شيئا لم يكن منك، وإظهارك حركة لم تكن حتى كانت منك؛ ولذلك نجد فتنة الرجل بشعره وفتنته بكلامه وكتبه، فوق فتنته بجميع نعمته.
وليس الكتاب إلى شيء أحوج منه إلى إفهام معانيه حتى لا يحتاج السامع بما فيه إلى الروية فيه. ويحتاج من اللفظ إلى مقدار يرتفع به عن ألفاظ السفلة والحشو، ويحطه عن غريب الأعراب، ووحشي الكلام. وليس له أن يهذبه جدا وينقحه ويصفيه ويزوقه حتى لا ينطق إلا باللب وبالسر، وباللفظ الذي قد حذف فضوله وتعرق زوائده، حتى عاد خالصا لا شوب فيه؛ فإنه إن فعل ذلك لم يفهم عنه إلا بأن يجدد لهم إفهاما وتكرارا؛ لأن الناس كلهم قد تعودوا المبسوط من الكلام، وصارت أفهامهم لا تزيد على عاداتهم إلا بأن تعطس عليها وتؤخذ بها؛ ألا ترى أن كتاب المنطق الذي قد وسم بهذا الاسم لو قرأته على جميع خطباء الأمصار وبلغاء الأعراب لما فهموا أكثره؟! وفي كتاب إقليدس، كلام يدور وهو عربي وقد صفي، ولو سمعه بعض الخطباء لما فهمه، إلا بأن يفهمه من يريد تعليمه؛ لأنه يحتاج إلى أن يكون قد عرف جهة الأمر، وتعود اللفظ المنطقي الذي استخرج من جميع الكلام.
وقد قال معاوية بن أبي سفيان - رضي الله تعالى عنهما - لصحار العبدي: ما الإيجاز؟ قال: أن تجيب فلا تبطئ، وتقول فلا تخطئ. قال معاوية: أو كذاك تقول. قال صحار: أقلني يا أمير المؤمنين، لا تخطئ ولا تبطئ. فلو أن سائلا سألك عن الإيجاز فقلت: لا تخطئ ولا تبطئ وبحضرتك خالد بن صفوان لما عرف بالبديهة وعند أول وهلة أن قولك لا تخطئ مضمن بالقول، وقولك لا تبطئ مضمن بالجواب. وهذا حديث - كما ترى - قد ارتضوه ورووه؛ ولو أن قائلا قال لبعضنا: ما الإيجاز؟ لظننت أنه كان سيقول الاختصار والإيجاز، ليس يعني به قلة عدد الحروف واللفظ. وقد يكون الباب من الكلام من أتى عليه فيما يسع بطن طومار
65
فقد أوجز، وكذلك الإطالة. وإنما ينبغي أن يحذف بقدر ما لا يكون سببا لإغلاقه، ولا يردد وهو يكتفي في الإفهام بشطره، فما فضل عن المقدار فهو الخطل.
وقلت لأبي الحسن الأخفش: أنت أعلم الناس بالنحو، فلم لا تجعل كتبك مفهومة كلها؟ وما بالنا نفهم بعضها ولا نفهم أكثرها؟ وما بالك تقدم بعض العويص وتؤخر بعض المفهوم؟ قال: أنا رجل لم أضع كتبي هذه لله، وليست هي من كتب الدين، ولو وضعتها هذا الوضع الذي تدعوني إليه قلت حاجاتهم إلي فيه، وإنما غايتي المنالة، فإذن أضع بعضها هذا الوضع المفهوم لتدعوهم حلاوة ما فهموا إلى التماس فهم ما لم يفهموا، وأنا قد كسبت في هذا التدبير إذ كنت إلى التكسب ذهبت، ولكن ما بال إبراهيم النظام وفلان وفلان يكتبون الكتب لله بزعمهم، ثم يأخذها مثلي في موافقته وحسن نظره وشدة عنايته، فلا يفهم أكثرها؟
وأقول لو أن يوسف السمتي كتب هذه الشروط أيام جلس سلمان بن ربيعة شهرين للقضاء فلم يتقدم إليه رجلان والقلوب سليمة والحقوق على أهلها موفرة، لكان ذلك خطلا ولغوا، ولو كتب في دهرنا شروط دهر سلمان لكان ذلك غرارة ونقصا، وجهلا بالسياسة وما يصلح لكل دهر؛ ووجدنا الناس إذا خطبوا في صلح بين العشائر أطالوا، وإذا أنشدوا الشعر بين السماطين في مدح الملوك أطالوا؛ فللإطالة موضع وليس ذلك بخطل، وللإقلال موضع وليس ذلك من عجز.
ولولا أني أتكل على أنك لا تمل باب القول في البعير حتى تخرج إلى الفيل، وفي الذرة حتى تخرج إلى البعوضة، وفي العقرب حتى تخرج إلى الحية، وفي الرجل حتى تخرج إلى المرأة، وفي الذبان والنحل حتى تخرج إلى الغربان والعقبان، وفي الكلب حتى تخرج إلى الديك، وفي الذئب حتى تخرج إلى الضبع، وفي الظلف حتى تخرج إلى الحافر، وفي الحافر حتى تخرج إلى الخف، وفي الخف حتى تخرج إلى البرثن، وفي البرثن حتى تخرج إلى المخلب؛ وكذلك القول في الطير وعامة الأصناف، لرأيت أن ذلك يوجب الملال، ويعقب الفترة المانعة من البلوغ في الفهم، وتعرف ما يحتاج منه إلى التعرف، فرأيت أن جملة الكتاب وإن كثر عدد ورقه، أن ذلك ليس مما تمل من كثرة قراءته أبدا وتعتد علي فيه بالإطالة؛ لأنه وإن كان كتابا واحدا فإنه كتب كثيرة، وكل مصحف منها أم على حدة. فإن أراد قراءة الجميع لم يطل عليه الباب الأول حتى يهجم على الثاني، ولا الثاني حتى يهجم على الثالث، فهو أبدا مستفيد ومستطرف، وبعضه يكون جماما لبعض، ولا يزال نشاطه زائدا، ومتى خرج من آي القرآن صار إلى أثر، ومتى خرج من أثر صار إلى خبر، ثم يخرج من الخبر إلى شعر، ومن الشعر إلى نوادر، ومن النوادر إلى حكم عقلية ومقاييس سداد، ثم لا يترك هذا الباب فلعله أن يكون أثقل، والملال إليه أسرع، حتى يفضى به إلى مزح وفكاهة وإلى سخف وخرافة. ولست أراه سخفا إذ كنت إنما استعملت سيرة الحكماء ومأدبة العلماء، ورأينا الله تبارك وتعالى إذا خاطب العرب والأعراب أخرج الكلام مخرج الإشارة والوحي والحذف، وإذا خاطب بني إسرائيل أو حكى عنهم جعله مبسوطا وزاد في الكلم. فأصوب العمل اتباع آثار العلماء والاحتذاء على مثال القدماء، والأخذ بما عليه الجماعة. وقال ابن يسير في صفة الكتب كلمة له:
أقبلت أهرب لا آلو مباعدة
في الأرض منهم فلم يحصني الهرب
بقصر أوس فما والت خنادقه
إلى النواويس فالماخور فالخرب
فأيما موئل منها اعتصمت به
فمن ورائي حثيثا منهم الطلب
لما رأيت بأني غير معجزهم
فوتا ولا هربا قربت أحتجب
وصرت في البيت مسرورا به جذلا
جارا لبوءة لا شكوى ولا شغب
فردا تحدثني الموتى وتنطق لي
عن علم ما غاب عني منهم الكتب
هم مؤنسون وألاف غنيت بهم
فليس لي في أنيس غيرهم أرب
لله من جلساء لا جليسهمو
ولا عشيرهمو للسوء مرتقب
لا بادرات الأذى يخشى رفيقهم
ولا يلاقيه منهم منطق ذرب
أبقوا لنا حكما تبقى منافعها
أخرى الليالي على الأيام وانشعبوا
فأيما أدب منهم مددت يدي
يوما إليه فدان من يدي كثب
إن شئت من محكم الآثار يرفعها
إلى النبي ثقات برة نجب
أو شئت من عرب علما بأولها
في الجاهلية أنبتني به العرب
أو شئت من سير الأملاك من عجم
تنبي وتخبر كيف الرأي والأدب
حتى كأني قد شاهدت عصرهمو
وقد مضت دونه من دهرهم حقب
يا قائلا قصرت في العلم نهيته
أمسى إلى الجهل فيما قال ينتسب
إن الأوائل قد بانوا بعلمهم
خلاف قولك قد ماتوا وقد ذهبوا
ما مات منا امرؤ أبقى لنا أدبا
يكون منه إذا ما مات يكتسب
وقال أبو وجزة وهو يصف صحيفة كتب له فيها بستين وسقا:
راحت بستين وسقا في حقيبتها
ما حملت حملها الأدنى ولا السددا
ولا رأيت قلوصا قبلها حملت
ستين وسقا ولا جابت بها بلدا
وقال الراجز:
تعلمن أن الدواة والقلم
تبقى ويفني حادث الدهر الغنم
يقول كتابك الذي تكتبه علي يبقى فتأخذني به وتذهب غنمي فيما يذهب. ومما يدل على نفع الكتاب أنه لولا الكتاب لم يجز أن يعلم أهل الرقة والموصل وبغداد وواسط ما كان بالبصرة وحدث بالكوفة في بياض يوم، فتكون الحادثة بالكوفة غدوة فيعلمها أهل البصرة قبل المساء.
وذلك مشهور في الحمام الهدي: إذا جعلت بردا قال الله جل وعز، وذكر سليمان وملكه الذي لم يؤت أحدا مثله، فقال:
وتفقد الطير فقال ما لي لا أرى الهدهد
إلى قوله:
أو لأذبحنه أو ليأتيني بسلطان مبين ، فلم يلبث أن قال الهدهد:
وجئتك من سبإ بنبإ يقين * إني وجدت امرأة تملكهم وأوتيت من كل شيء ولها عرش عظيم
قال سليمان:
اذهب بكتابي هذا فألقه إليهم ، وقد كان عنده من يبلغ الرسالة على تمامها من عفريت ومن بعض من عنده علم من الكتاب، فرأى أن الكتاب أبهى وأنبل وأكرم وأفخم من الرسالة عن ظهر لسان وإن أحاط بجميع ما في الكتاب. وقالت ملكة سبأ:
يا أيها الملأ إني ألقي إلي كتاب كريم ، فهذا مما يدل على قدر اختيار الكتب، وقد يريد بعض الجلة الكبار وبعض الأدباء والحكماء أن يدعو بعض من يجري مجراه في سلطان أو أدب إلى مأدبة أو ندام أو خروج إلى متنزه أو بعض ما يشبه ذلك، فلو شاء أن يبلغه الرسول إرادته ومعناه لأصاب من يحسن الأداء ويصدق في الإبلاغ فيرى أن الكتاب في ذلك أسرى وأنبه وأبلغ، ولو شاء النبي
صلى الله عليه وسلم
ألا يكتب الكتب إلى كسرى وقيصر والنجاشي والمقوقس وإلى بني الجلندي وإلى العباهلة من حمير وإلى هوذة بن علي وإلى الملوك العظماء والسادة النجباء لفعل ولوجد المبلغ المعصوم من الخطأ والتبديل، ولكنه - عليه السلام - علم أن الكتاب أشبه بتلك الحال، وأليق بتلك المراتب، وأبلغ في تعظيم ما حواه الكتاب، ولو شاء الله أن يجعل البشارات على الألسنة بالمرسلين ولم يودعها الكتب لفعل، ولكنه تعالى وعز علم أن ذلك أتم وأكمل، وأجمع وأنبل؛ وقد يكتب بعض من له مرتبة في سلطان أو ديانة إلى بعض من يشاكله أو يجري مجراه، فلا يرضى بالكتاب حتى يخزمه ويختمه، وربما لم يرض بذلك حتى يعنونه ويعظمه.
قال الله جل وعز:
أم لم ينبأ بما في صحف موسى * وإبراهيم الذي وفى ، فذكر صحف موسى الموجودة وصحف إبراهيم البائدة المعدومة ليعرف الناس مقدار النفع والمصلحة في الكتب. قالوا: وكانت فلاسفة اليونانية تورث البنات العين وتورث البنين الدين؛ وكانت تصل العجز بالكفاية والمئونة بالكلفة، وكانت تقول: لا تورثوا الابن من المال إلا ما يكون عونا له على طلب المال، واغذوه بحلاوة العلم، واطبعوه على تعظيم الحكمة ليصير جمع العلم أغلب عليه من جمع المال، وليرى أنه العدة والعتاد، وأنه أكرم مستفاد. وكانوا يقولون: لا تورثوا الابن من المال إلا ما يسد الخلة، ويكون له عونا على درك الفضول إن كان لا بد من الفضول، فإنه إن كان فاسدا زادت تلك الفضول في فساده، وإن كان صالحا كان فيما أورثتموه من العلم، وبقيتم له من الكفاية ما يكسبه الحال، فإن الحال أفضل من المال، ولأن المال لم يزل تابعا للحال، وقد لا يتبع الحال المال، وصاحب الفضول بعرض فساد وعلى شفا إضاعة مع تمام الحنكة واجتماع القوة؛ فما ظنكم بها مع غرارة الحداثة وسوء الاعتبار وقلة التجربة! وكانوا يقولون: خير ميراث ما كسبك الأركان الأربعة، وأحاط بأصول المنفعة، وعجل لك حلاوة المحبة، وبقى لك الأحدوثة الحسنة، وأعطاك عاجل الخير وآجله، وظاهره وباطنه؛ وليس يجمع ذلك إلا كرام الكتب النفيسة المشتملة على ينابيع العلم، والجامعة لكنوز الأدب ومعرفة الصناعات وفوائد الإرفاق؛ وحجج الدين الذي بصحته وعند وضوح برهانه تسكن النفوس وتثلج الصدور، ويعود القلب معمورا، والعز راسخا، والأصل فسيحا؛ وهذه الكتب هي التي تزيد في العقل وتشحذه، وتداويه وتصلحه، وتهذبه وتنفي الخبث عنه، وتفيدك العلم وتصادق بينك وبين الحجة، وتعودك الأخذ بالثقة وتجلب الحال وتكسب المال. ووراثة الكتب الشريفة والأبواب الرفيعة منبهة للمورث وكنز عند الوارث، إلا أنه كنز لا تجب فيه الزكاة ولا حق السلطان، وإذا كانت الكنوز جامدة ينقصها ما أخذ منها كان ذلك الكنز مائعا يزيده ما أخذ منه، ولا يزال بها المورث مذكورا في الحكماء ومنوها باسمه في الأسماء، وإماما متبوعا، وعلما منصوبا، ولا يزال الوارث محفوظا، ومن أجله محبوبا ممنوعا؛ ولا تزال تلك المحبة نامية ما كانت تلك الفوائد قائمة، ولن تزال فوائدها موجودة ما كانت الدار دار حاجة، ولن يزال من تعظيمها في القلوب أثر ما كان من فوائدها على الناس أثر.
وقالوا: متى ورثته كتابا وأودعته علما، فقد ورثته ما يغل ولا يستغل، وقد ورثته الضيعة التي لا تحتاج إلى إثارة، ولا إلى سقي، ولا إلى إسجال بايغار، ولا إلى شرط، ولا تحتاج إلى أكار ولا إلى أن يثار، وليس عليها عشر ولا للسلطان عليها خرج ، وسواء أفدته علما أو ورثته آلة علم، وسواء دفعك إليه الكفاية أو ما يجلب الكفاية، وإنما تجري الأمور وتتصرف الأفعال على قدر الإمكان، فمن لم يقدر إلا على دفع السبب لم يجب عليه إحضار المسبب، فكتب الآباء تحبيب للأحياء، ومحيا لذكر الموتى.
وقالوا: ومتى كان الأب جامعا بارعا وكانت مواريثه كتبا بارعة، وآدابا جامعة، كان الولد أجدر أن يرى التعلم حظا، وأجدر أن يسرع التعليم إليه ويرى تركه خطأ، وأجدر أن يجري من الأدب على طريق قد أنهج له، ومنهاج قد وطئ له، وأجدر أن يسري إليه عرق من نجله وسقي من غرسه، وأجدر أن يجعل بدل الطلب للكتب النظر في الكتب، فلا يأتي عليه من الأيام مقدار الشغل بجمع الكتب، والاختلاف في سماع العلم، إلا وقد بلغ بالكفاية غاية الحاجة، وإنما تفسد الكفاية من تمت آدابه، وتوافت إليه أسبابه، فأما الحدث الغرير، والمنقوص الفقير، فخير مواريثه الكفاية إلى أن يبلغ التمام، ويكمل للطلب. فخير ميراث ورث كتب وعلم، وخير المورثين من أورث ما يجمع ولا يفرق، ويبصر ولا يعمي، ويعطي ولا يأخذ، ويجود بالكل دون البعض، ويدع لك الكنز الذي ليس للسلطان فيه حق، والركاز الذي ليس للفقراء فيه نصيب، والنعمة التي ليس للحاسد فيها حيلة، ولا للصوص فيها رغبة، وليس للخصم عليك فيه حجة، ولا على الجار فيه مئونة.
وأما ديمقراط فإنه قال: ينبغي أن يعرف أنه لا بد من أن يكون لكل كتاب علم وضعه أحد من الحكماء ثمانية أوجه، منها الهمة والمنفعة، والنسبة والصحة، والصنف والتأليف، والإسناد والتدبير، فأولها أن تكون لصاحبه همة، وأن يكون فيما وضع منفعة، وأن يكون له نسبة ينسب إليها، وأن يكون صحيحا، وأن يكون على صنف من أصناف الكتب معروفا به، وأن يكون مؤتلفا من أجزاء خمسة، وأن يكون مسندا إلى وجه من وجوه الحكمة، وأن يكون له تدبير موصوف. فذكر أن أبقراط قد جمع هذه الثمانية الأوجه في هذا الكتاب، وهو كتابه الذي يسمى «أفوريسموا» تفسيره: كتاب الفصول. وقولك وما بلغ من قدر الكلب مع لؤم أصله، وخبث طبعه، وسقوط قدره، ومهانة نفسه، ومع قلة خيره وكثرة شره، واجتماع الأمم كلها على استسقاطه واستسفاله، ومع ضربهم المثل في ذلك كله به، ومع حاله التي يعرف بها من العجز عن صولة السباع، واقتدارها، ومن تمنعها وتشرفها وتوحشها، وقلة إسماحها، وعن مسالمة البهائم وموادعتها، والتمكين من إقامة مصلحتها، والانتفاع بها؛ إذ لم يكن في طبعها دفع السباع عن أنفسها، ولا الاحتيال لمعاشها، ولا المعرفة بالمواضع الحريزة من المواضع المخوفة. ولأن الكلب ليس بسبع تام ولا بهيمة تامة حتى كأنه من الخلق المركب، والطبائع الملفقة، والأخلاط المجتلبة، كالبغل المتلون في أخلاقه الكثير العيوب المتولدة عن مزاجه؛ وشر الطبائع ما تجاذبته الأعراق المتضادة والأخلاق المتفاوتة، والعناصر المتباعدة، كالراعبي من الحمام الذي ذهبت عنه هداية الحمام، وشكل هديره وسرعة طيرانه، وبطل عنه عمر الورشان، وقوة جناحه، وشدة عصبه، وحسن صوته، وشجا حلقه، وشكل لحونه، وشدة إطرابه، واحتماله لوقع البنادق، وجرح المخالب. وفي الراعبي أنه مسرول مثقل، وحدث له عظم بدن وثقل وزن لم يكن لأبيه ولا لأمه.
وكذلك البغل خرج من بين حيوانين يلدان حيوانا مثلهما ويعيش نتاجهما ويبقى بقاءهما، وهو لا يعيش له ولد وليس بعقيم، ولا يبقى للبغلة ولد وليست بعاقر؛ فلو كان البغل عقيما والبغلة عاقرا لكان ذلك أزيد في قوتهما وأتم لشدتهما، فمع البغل من الشبق والنعظ ما ليس مع أبيه، ومع البغلة من الشوس وطلب السفاد ما ليس مع أمها؛ وذلك كله قدح في القوة ونقص في البنية، وخرج غرموله أعظم من غراميل أعمامه وأخواله، فترك شبههما ونزع إلى شيء ليس له في الأرض أصل، وخرج أطول عمرا من أبويه وأصبر على الأثقال من أبويه؛ أو كابن المذكرة من النساء، والمؤنث من الرجال، فإنه يكون أخبث نتاجا من البغل وأفسد أعراقا من السمع،
66
وأكثر عيوبا من العسبار،
67
ومن كل خلق خلق إذا تركب من ضد، ومن كل شجرة مطعمة بخلاف؛ وليس يعتري مثل ذلك الخلاسي
68
من الدجاج، ولا الورداني
69
من الحمام؛ وكل ضعف دخل على الخلقة، وكل رقة عرضت للحيوان، فعلى قدر جنسه وعلى وزن مقداره وتمكنه يظهر العجز والعيب. وزعم الأصمعي أنه لم يسبق الحلبة فرس أهضم قط. وقال محمد بن سلام لم يسبق الحلبة أبلق قط ولا بلقاء.
والهداية في الحمام والقوة على بعد الغاية إنما هي للمصمتة من الخضر. وزعموا أن الشيات كلها ضعف ونقص، والشية: كل لون دخل على لون. وقال الله عز وجل:
قال إنه يقول إنها بقرة لا ذلول تثير الأرض ولا تسقي الحرث مسلمة لا شية فيها . وزعم عثمان بن الحكم أن ابن المذكرة من المؤنث يأخذ أسوأ خصال أبيه وأردأ خصال أمه فتجتمع فيه عظام الدواهي وأعيان المساوي، وأنه إذا خرج كذلك لم ينجع فيه أدب ولا يطمع في علاجه طبيب، وأنه رأى في دور ثقيف فتى اجتمعت فيه هذه الخصال، فما كان في الأرض يوم إلا وهم يتحدثون عنه بشيء يصغر في جنبه أكبر ذنب كان ينسب إليه.
وزعمت أن الكلب في ذلك كالخنثى الذي هو لا ذكر ولا أنثى، أو كالخصي الذي لما قطع منه ما صار به الذكر فحلا خرج من حد كمال الذكر بفقدان الذكر، ولم يكمل لأن يصير أنثى للغريزة الأصلية وبقية الجوهرية؛ وزعمت أنه يصير كالنبيذ الذي يفسده إفراط الحر، فيخرجه من حد الخل، ولا يدخله في حد النبيذ. وقال مرداس بن خذام:
سقينا عقالا بالثوية شربة
فمالت بلب الكاهلي عقال
فقلت اصطبحها يا عقال فإنما
هي الخمر خيلنا لها بخيال
رميت بأم الخل حبة قلبه
فلم ينتعش منها ثلاث ليال
فجعل الخمر أم الخل قد يتولد عنها، وقد يتولد عن الخل إذا كان خمرا مرة الخمر.
وقال سعيد بن وهب:
هلا وأنت بماء وجهك تشتهى
رود الشباب قليل شعر العارض
فالآن حين بدت بخدك لحية
ذهبت بملحك ملء كف القابض
مثل السلافة عاد خمر عصيرها
بعد اللذاذة خل خمر حامض
ويصير أيضا كالشعر الوسط والغناء الوسط، والنادرة الفاترة التي لم تخرج من الحر إلى البرد فتضحك السن ولم تخرج من البرد إلى الحر فتضحك السن.
هوامش
باب الرسائل
(1) الفصول المنتخبة من الرسائل المختارة في كل فن
1
كتب رجل إلى صديق له:
إن آباءك شادوا أكارمهم بالفضائل التي كانت فيهم، وإنك قد كنت أخذت في مدرجتهم فأوفيت على غايتهم، ثم اختلجك الهوى ببعض جديلتك
2
وجودك، من لباس فضلك الذي كنت تطول به على أكفائك، وتملك به أعنة كافة جندك، وألقيت مالك على شر عواقبه عليك لا لك إن زلت مكاره بوادره عنك.
فصل:
قيل إن مروءة الرجل في نفسه نسب لقوم آخرين، فإنه إذا فعل الخير عرف له، وبقي في الأعقاب والأصحاب، ولقيه يوم الحساب.
فصل:
إن حق الله على المسلمين أن ينظروا في دينهم بالنصيحة لأئمتهم، فإن الأئمة إذا صلحوا بدل الهوى بالتقوى في قلوبهم، وماتت سورة الغضب فيهم لأحلامهم، وسكنت العامة إلى عدلهم وذلت لإنصافهم. وإذا كان للمحسن من الحق ما يقنعه، وللظالم من النكير ما يقمعه، بذل المحسن الحق عليه رغبة، وذل المسيء بالحق عليه رهبة. فأول ما آمرك به رجاء الله وتقواه؛ فأما رجاؤه فأن تحسن به في الصنع إذا أطلعته، ويكون لك وقاية إذا آثرته مطمئنا. وأما تقواه فأن تكون له فيما أمرك به ونهاك عنه مراقبا؛ فإن تقية المؤمن تزيد في انشراح صدره، وإن شدة خوفه ترد هواه على عقله.
فصل:
تنبه إذا نبهت، واذكر إذا ذكرت، وانتفع فقد وعظت، واسمع فقد نوديت، نبهك الوعيد، وحذرك الزاجر، وأمرك ونهاك الكتاب، ونعتك آثار الموت، ودعاك إلى الجنة مليء جواد، فالجد الجد، فقبل المهجرة يريح المدلج.
فصل:
ما نظرت في معروفي عند أحد، فوجدته قصر عن أمله وكان يمكنني أن يكون أكثر منه، إلا عددته سيئة لي عنده، لأني ذوقته ما أحب، ثم منعته إياه، وكأني قصدت لإشخاص قلبه. ولا نظرت في معروفي عند أحد فوجدته قد تناهى عند تناهي أمله وكان يمكنني أن يكون أكثر منه، إلا رأيتني في ذلك واترا لنفسي، لأنه كفى عيبا لها وإزراء بها، أن أقنع
3 ... فضل نتخذه بمثل ما أقنع رجلا من فضل يتخذه عليه.
فصل:
ما أنت ممن يعلم من جهل به، ولا تحس منه بادرة زلة، ولا يقابل بين أمرين إلا عرف خيرهما فآثره، وشرهما فاجتنبه. وقد رأيت ما ساقت إليك الطاعة من حظ العاجلة، فلا تتعرض لزوال ما أنت فيه، فتخسر الحظين، وتندم في الدارين؛ فقد رأيت من عاند الحق كيف صرعه الله وبسط يد وليه على سفك دمه، وإحلال النقمة به، فصار بعد أن كان في الأمنية مثلا، ولجميع الخلق غاية وأملا، فكرة في الاعتبار، وعظة للأبصار. فلا يبعد الله إلا من ظلم وختر، وذهب عن الحق وأدبر. وأنت اليوم محكم في أمرك، مخير في رأيك، تدعى إلى حظك بالحظ الجزيل بتدلل. فاهتبل ما قد هدف لك وهو ممكن ليدك، فإنك إن أهملت وتراخيت، لم يكن بالحق ووليه وحشة إليك، ومضت أحكام الله في نصرها وتأييدها على أذلالها،
4
وصفرت يدك بما لا يشرف لك بمثله، وأخطرت بدمك وأسلته أخبث مسيل وأضل سبيل، حيث لا تبكي عليك السماء والأرض.
فصل:
الناس رجلان: عالم لا غنى به عن الازدياد، وجاهل به أعظم الحاجة إلى التعلم، وليس في كل حال يكون العالم لما يبدهه من الأمور معدا، ولا المتعلم على ما يستفيد منه قادرا وفيا.
فصل:
إن أنت عطلتنا من أمورك، وأعفيت ظهورنا من أثقالك ومئونتك، وتركتنا أغفالا في ولايتك من تنبيهك وتحريكك، فقد أنزلتنا منزلة من لا خير عنده، وجعلت نفسك أسوة من لا معين له، وكفى بذلك ظلما.
فصل:
إن إعلامي إياك
5 ... غير محدد شيئا، ولكنه أقرب من الجميل في معرفة عذر المعتذر، وأحمل للائمة على المسيء المقصر.
فصل:
الذي اعتمدنا عليه من رأيك، ونثق به من جميل نظرك، قد خلطني بأهل صنائعك، والخاصة من ثقاتك، وبسط أملي فيك إلى غاية خير يرتجى، أو جزيل حظ يؤمل.
فصل:
ليس يسوغ لأحد في الأمير أمل، ولا يتوجه إليه منه رغبة، ولا يلزمه في قضاء حقه، ودنانة
6
مئونته إلا وفضله مستغرق لها.
فصل:
من أحمد الأمور وأجمل المذاهب، ما كان آخره موصولا بأوله، ومؤديا بدؤه إلى حمد عاقبته؛ فحافظ على الأمور التي حسن فيها عند أمير المؤمنين أثرك، مستقلا فيها لكثير ما يكون منك، معتدا بها في النعم عندك، والإحسان الواصل إليك، فيما يوفقك الله له منها ويخصك به من الفضل في اختيارها، وأمير المؤمنين يستحفظه الله لك، ويستمتعه في النعمة فيك.
فصل:
قد كان يجب أن تجعلنا بمتابعة النعم علينا في خاصة الشاكرين لفضلك، ولا تجعلنا بتواتر الإساءات إلينا في عامة الشاكين لك.
فصل:
علمي بما بنى الله عليه أخلاق الأمير - أكرمه الله - وجعل عليه رأيه في بسط العدل على رعيته، وبث الفضل على ملتمسي فضله، يبعثني على الكتاب في مثل ما كتبت إليه فيه، من ظلامة مظلوم يستعيذ فيها بعدله، وحاجة ملهوف يرجع فيها إلى فضله؛ فأجمع إلى ما ألتمس من الثواب في ذلك موافقة رأي الأمير، وإذكاره ما يجب أن يذكر به؛ فزاد الله الأمير من نعمه، وأوزعه من الشكر عليها ما يوجب له تتابعها عنده، وترادفها له.
فصل:
أنت - والحمد لله - ممن احتمل الصنيعة، وقبل الأدب، وصدق المخيلة، وخلص على المحنة وحسن الظن؛ فاستقامت طريقته وقدمه جميل مذهبه وآثاره، وجرت على قصد السبيل طاعته، واشتدت على السريرة والعلانية مناصحته؛ فأصبح أمير المؤمنين لا يتناهى في برك وتكرمتك، إلا رآك مستحقا لها ولما فوقها، ولا يرفعك إلى درجة إلا رآك أهلا لأشرف منها، صنعا من الله لك بما وفقك له من طاعته، ووهب لك من جميل مراتبه، والمكان منه والأثرة عنده.
فصل:
فضل مشاركتنا إياك في محبوب الأمور ومكروهها يحملنا في السرور بالنعمة عندك - فجددها الله لك - ويوجب الشكر بما يكون لحقها قاضيا، وللمزيد فيها موجبا.
سعيد بن حميد:
شغلك يقطعنا عن مطالبتك بالحق في جوابات كتبنا إليك، وصدق مودتنا لك يمنعنا من التقصي في الحجة عليك، ومن يكلك إلى رأيك فإنه لا يفي بك إلا لك، صلة إخوانك والتعاهد لهم من برك، بما يشبه فضلك والنعمة عليهم فيك.
وفلان بيني وبينه مودة أقدمه بها على الأخوة؛ لأنك تعلم قرب ما بين المودة والقرابة، وقد بلوته على الحالات كلها، فلم يزدني اختباره إلا اختيارا له؛ ولا أعلم بالعسكر جليلا إلا وهو لي صديق، يشكر بشكره ويوجب على نفسه المنة فيما آتى إليه؛ فأما من بين إخوانه فلست أعدل من قضاء حقه، ولا أتأخر عن معروف أسدي إليه؛ فإن رأيت أن تحله بالمحل الذي يستحقه بنفسه وسلفه، فوالله ما رأيت سوق الأحرار أنفق منها عندكم أهل البيت؛ أبقى الله تبارك وتعالى باقيكم ورحم ماضيكم.
فصل:
إن أحدا ليس بمستخلص شيئا من غضارة عيش إلا من بين خلال مكاره، فمن انتظر بعاجل الدرك آجل الاستقصاء سلبته الأيام فرصته، لأن من صناعتها السلب، ومن شرط الزمان الإفاتة.
فصل:
إن الأمير قد جل فضله عن أن يحيط به وصف، أو يأتي على تعداده اجتهاد، فلو كان شيء أكثر من الشكر لكان الأمير يستحقه علينا، ويستوجبه منا.
فصل:
قد أصبح المختلفون مجتمعين على تقريظه ومدحه، حتى إن العدو يقول اضطرارا ما يقوله الولي اختيارا؛ والبعيد يثق من إنعامه علينا بما يثق به القريب خاصا.
فصل:
المائلون إليه بين نعم مكتنفة من تالد به يستديمونه، وطارف منه يستعيدونه، ومواهب متجددة، وفوائد مترادفة؛ هي مبسوطة به إلى بركة أيامه، وعلو حظ
7
من اتصل به، فزاده الله من فضله، وزاد أولياءه به وببركة دولته.
فصل:
اعتمدت أخا لا يذم إخاؤه، ولا تنكر أحواله، على بعد الدار وقربها، واتصال المكاتبة وانقطاعها؛ تجده متصرفا معك في الخطوب التي يطرق بها الزمان، ويدا لك في الأمور التي يمتحن فيها الإخوان.
فصل:
أسأل الله أن يجعل ما تطول به فيه من الجلالة في القلوب والعيون عند الولي والعدو موصولا بالإنساء في مدته، والإدامة لعزه وسلامته، والإعلاء ليده وكلمته.
أحمد بن يوسف:
عندي فلان وفلان، فإن كنا من شأنك فقد آذناك.
في صفة حرب:
كانت لكم الكرة، وعليهم الدبرة؛ فحملوا حملة كاذبة، أتبعناها بأخرى صادقة.
فصل في هدية:
قد أهديت إليك من فنون كلامي وعيون مقالي، دفترا ظريف المعاني، شريف المباني، صحيح الألفاظ؛ يلذ بأفواه الناطقين، ويلين على أسماع الصامتين.
فصل في شفاعة:
لفلان قبلك حاجة، ليس يحتاج فيها إلى معدلتك ونصفتك المبسوطتين لمن لا يتوسل بخلطتك ومعرفتك، ولكنه يريد ما في ذلك العدل والإنصاف من الرفق والإحسان المذخورين للخاصة والإخوان.
فصل لرجل تميمي:
ضعف حالي يدعوني إلى كثرة الطلب، ومعرفتي بجميل رأيك تحجزني عن الإلحاح عليك، خوفا أن أكون جاهلا بعنايتك، وحسن نظرك، والكرم يستحيي بعضه لبعض، ويبعث بعضه بعضا، ودين حيلته الغير على العقود، فبعثه كرمه للنهوض، أو دعاه هواه إلى المنع، فجاءه عقله على البذل؛ وحالي جانحة لدى فضلك ونعمة الله عليك من سد خلتها، ومداواة علتها بجاهك الواسع، ورفدك النافع.
أحمد بن يوسف:
قد بذلت لنا من نفسك أعز مبذول وأنفسه، والمودة التي كلما يحمد من صاحبها، فهو لها نافع. وثقتنا بك واستنامتنا إلى ناحيتك، على أحسن ما أكد الله بيننا وبينك. وإن كان مدى اللقاء بيننا لم يطل فأثل منه ما يرعاه أهل الوفاء والمخالصة، ويقصر في المحافظة عليه وعلى أكثر منه، من دخلت نيته، وضعفت خلته.
فصل:
قد أصبحت للخاصة عدة، وللعامة عصمة، وللأنام ثقة في مناصحتك.
فصل في الصفح لأبي علي:
إن الذي فرط منك، وإن تجاوز مني ما أرضاه لك، لم يبلغ ما يغضبني عليك؛ وحيث انتهى ما يخالفني من قولك وفعلك، فإن وراءه تغمدا مني لإساءتك وصفحا عن زلتك؛ فإن تأمنا لا نخنك، وإن يسؤ ظنك فإنما نحتاج إلى إصلاحه منك.
أحمد بن يوسف
إلى إبراهيم بن المهدي في هدية استقلها:
بلغني استقلالك لما ألطفتك، والذي نحن عليه من الأنس سهل علينا قلة الحشد لك في البر، فأهدينا هدية من لا يحتشم إلى من لا يغتنم.
كتب عقال بن شبة
إلى خالد بن عبد الله في شفاعة:
إن الله انتجبك من جوهرة كرم ومنبت شرف، وقسم لك خطرا شهرته العرب وتحدثت به الحاضرة والبادية، وأعان خطرك بقدرة مبسوطة، ومنزلة ملحوظة؛ فجميع أكفائك من جماهير العرب، يعرف فضلك، ويسره ما خار الله لك، وليس كلهم أداله الزمان ولا ساعده الحظ؛ وأنت أحق من تعطف على أهل البيوتات، وعاد لهم بما يبقي له ذكره ويحسن به نشره، مثلك. وقد وجهت إليك فلانا، وهو من دنية قرابتي، وذوي الهيئة من أسرتي، وعرف معروفك؛ وأحببت أن تلبسه نعمتك وتصرفه إلي وقد أودعتني وإياه ما تجده باقيا على النشر، جميلا في الغب.
فصل في التوديع
أستودع الله الأمير بأحسن وداعه، وأسأله أن يجعله في كنفه وحرزه، فقد أكرم المثوى، وأحسن الابتغاء؛ فأطال الله له البقاء، وأدام عليه النعماء.
في الصفح
بلغني كتابك، تذكر كتابي إليك بوضعي عنك موجدتي، وردي لك إلى أحسن ما عهدت من منزلتك عندي؛ وقد حللت منا المحل الذي خلطناك فيه بأنفسنا، وأدخلناك منه مداخل أهل ثقتنا؛ ولست تؤتى من جهالة بما أنت فيه، ولبعض ما أنت عليه من التجارب تستفاد بمثلها العبر، وينتفع بها في عطف الأمور.
جواب في فتح
كتب سالم بن هشام إلى يوسف بن عمر حين قتل زيد بن علي رحمة الله عليه:
قد بلغ أمير المؤمنين كتابك بما أبلى الله في مدره السوء، وأنه لما عضتهم الحرب، وآلمهم الحديد، عادوا بالمسجد الجامع، قد أكذب الله ظنونهم، وخذل مخرجهم، وقتل إمام ضلالتهم؛ وحفظ لأمير المؤمنين ما ضيعوا من حقه، وحاط له ما أباحوا من الغدر فيه؛ وقد رأى أمير المؤمنين أن يجعل من شكر الله على نعمه، الصفح عنهم، وتغمد حرمهم، وأن يعمهم من عدله، بما يرد به الجاهل عن جهله، والغوي عن غوايته؛ ويعلمون مكانه من الله، واستجابته لعزه ونصره؛ وأنه الخليفة المتقى، والإمام المتألف؛ وأنه يقدم العفو في الطاعة، على الحجة في العقوبة، والحسبة في الاستصلاح، على القوة في التأييد؛ فأمسك عنهم بيدك؛ فإن أمير المؤمنين قد وهب ذلك كله لله، ورجا به ما ليس ضائعا عنده من ثوابه.
في الصفح عن الجفاء
لو كان من نازع إلى الغدر، قلدناه عنان الهجر، لم يكن أقرب منا إلى الذنب، ونحن نرد عليك من نفسك، ونأخذ لنفسك منك، حتى يكون تركنا إياك، وعذرنا فيه وافرا.
فصل:
الحمد لله على البلية التي طال أمدها، وبعد ما بين طرفيها.
آخر:
اقتفرت في التثبت أناة ذوي الحجى، وقدمت المقدم من الأناة على العجلة، وأطعت في أمرك النظرة، وانتهيت إلى العذرة والمعرفة، فملكت ما ملكك، وحكمت على الذي حكم عليك، فأخذت مثل الذي أعطيت.
فصل:
بدء أسباب الأمور دليل على عواقب الأمل فيها، والخيرة بعد الله عز وجل.
فصل اعتذار
لو كان الناس يقضون الحقوق التي تجب عليهم، ويحافظون على الأمور التي تلزمهم، لقلت اللائمة، وخلصت المودة، وارتفعت أسباب العتاب؛ ولكنهم عجزة منقوصون، يضعفون عن العلم، بأكثر ما تدركه عقولهم، وتعوقهم عن ذلك أشغال لا يجب بها العذر، ولا تستحق الإيثار؛ ولم أزل عاتبا على نفسي فيما ضيعت من مكاتبتك، مع معرفتي بفضلك، وموقع ذلك عندك، وما اعتذاري إليك، سوء ظن بك، ولا مخافة للائمتك؛ ولئن فعلت ما ظلمت؛ غير أني أحببت أن أكفيك المئونة، فيما عسيت أن تنقبض عنه من مقايستي ومعاتبتي؛ وأنا أحب أن تقبل العذر، وتعين على مستقبل البر.
فصل:
أنت في زمان إن لم تغالط أهله، وتختلهم على ما في أيديهم، وتصبر على مكاره الأمور بعد المطالبة، لم تصل إلى شيء، ولم تجد أحدا ما على فضل منك وإن عرفه فيك، ولم يفته من محاسنك شيء، إلا رأى في مساوئ غيرك عوضا منه؛ فكان بذلك أثلج، وإليه أسكن؛ فعليك بالصبر، فإن غايته إلى خير، وأقل ما فيه أن صاحبه لا يلوم نفسه، ولا يلومه أحد، ولعله يظفر أو يدلل.
إلى المأمون من عامل
قل من يسارع إلى بذل الحق من نفسه، إذا كان الحق مضرا به، وقل من يدع الاستعانة بالباطل، إذا كان فيه صلاح معاشه، وسبب مكتسبه؛ وإذا تفرق الحق في أيدي جماعة فطولبت به، تشابهت في الكره لبذله، وتعاونت على دفعه ومنعه، بالحيل وبالشبه قولا وفعلا؛ واحتاج المبتلى باستخراج ذلك الحق من أيديها، إلى استعمال مجاهدتها ومصابرتها على الحيلة في مدافعتها.
ابن الكلبي
كان خبر ما أبلاك الله في فلان بعد أمانه ما عزمت عليه من الأمان، خبرا عظم مكانه من أمير المؤمنين، وحسن موقعه من الدين؛ ثم ردف خبرك بإذعانه عند ما عضه من بأسك، ومسه من مؤلم إيقاعك للاستسلام، وطلب عقد الأمان؛ وإنك بذلت له ما طلب لا لرهبة بقيت في ناحيتك، إلا الاحتذاء على مثال أمير المؤمنين وأدبه؛ فكان إباؤه ما عرضت عليه في أول أمره ذخيرة حظ فيما كشفت عنه البلوى من محمود أثرك، واجتمع لك في ذلك حظان: الظفر آخرا، والدرك لما حاولته أولا، فلا زلت على نصيبك من الحظ، مؤيدا بالنصر والمعونة، والحمد لله على ما حقق من الظن
8 ... من هذه النعمة على يديك وبسعيك.
إبراهيم بن إسماعيل بن داود إلى ذي الرياستين
وصل إلي كتابك بخط يدك المباركة، فلم أر قليلا أجمع، ولا إيجازا أكفأ من إطناب، ولا اختصار أبلغ في معرفة وفهم منه؛ وما رأيت كتابا على وجازته، أحاط بما أحاط، وضربت ظني في فلان فعظم ذلك سروري، وقد يستعطف الظالم، ويستعتب المتجني؛ وفي رفقك وعلمك بالأمور ما يصلح الفاسد، ويذلل الصعب، ويقبل المدبر؛ ولا يمنعنك جور من جار عليك، من الاعتقاد في الحجة عليه، والأخذ بالثقة في أمره، فإن الله عز وجل لم يجعل عليك في ذلك منقصة ولا غضاضة، بل فيه الإعذار والإنذار والاستبصار، وقضاء حاجة النفس، مع التأدية إلى السلامة، والأمن من الندامة.
فصل:
أنا في حال عافية، تتجاوز إلى حال نعمة، والحمد لله حتى يرضى، فقد أرضى؛ فأما ما أشرت به، وخبرت من إمضاء رأيك فيه، والإمساك عنه، فمثلك جعل لمن نصحه شركاء في كل أمره، ولم يجعل رأيه فرضا لبعضه أن يتعدى،
9
وذكرت أدب فلانة، وعندنا لفلانة الطمع المستقبل مع الإنعام المتقدم، مع أنه لا شيء لها عندنا قل ولا جل، ولو كان ما استحللنا حبسه صفقة كف، ولا تغميض طرف؛ وذكرت أنه لا يستغني مثلنا عن مثلها، وأبدال الله كثيرة عتيدة، وما بان علينا فقد أحد ممن كان قبلها في دارنا، فحال بيننا وبينه حائل، ولا اختللنا له مع نظر الله تبارك وتعالى وأخلافه؛ وبعد هذا فأحسن الله جزاءك، وحاط لي فيك ما أحب منك، وكفاك المهم وكفانيه بك، فما تقوم نفس لو كانت لي أخرى مقامك في نصيحتي وبري، والاهتمام لي، بما أنا عنه ساهية لاهية من أمري، لا أعدمنيك الله ولا النصيحة منك.
فصل:
قال أبو جعفر الكرماني للحسن بن سهل ووعده شيئا فأبطأ عليه: أنا أعرف تكامل الثقة فيك، ورجاحة الفضل بك؛ وأعلم أن فعلك يربي على قولك، وأن إنجازك أكثر من وعدك؛ فقدم لي من كرمك، ما أثمره إلى أن
10
يلحقه المتأخر عنه، وإلا فدلني على ما أقول إذا سألني من بعثته على شكرك، عما بلغه من الحظ على نيتك. فقال الحسن: تقول ما ينبغي. فقال: فافعل ما ينبغي أقله.
عمرو بن مسعدة
وصل إلي كتابك، على ظمأ مني إليه، وتطلع شديد، وبعد عهد بعيد، ولوم مني على ما مسستني به، من جفائك، على كثرة ما تابعت من الكتب، وعدمت من الجواب، فكان أول ما سبق إلي من كتابك السرور بالنظر إليه أنسا بما تجدد لي من رأيك، في المواصلة بالمكاتبة، ثم تضاعف المسرة، بخبر السلامة، وعلم الحال في الهيئة؛ ورأيتك بما تظاهرت من الاحتجاج، في ترك الكتاب، سالكا سبيل التخلص مما أنا مخلصك منه، بالإغضاء عن إلزامك الحجة، في ترك الابتداء والإجابة؛ وذكرت شغلك بوجوه من الأشغال كثيرة متظاهرة ممكنة، لا أجشمك متابعة الكتب، ولا أحمل عليك المشاكلة بالجواب؛ ويقنعني منك في كل شهر كتاب، ولن [تلزم]
11
من نفسك في البر قليلا، إلا ألزمت نفسي عنه كثيرا، وإن كنت لا أستكثر شيئا منك؛ أدام الله مودتك وثبت إخاءك، واستماح لي منك؛ فرأيت في متابعة الكتب ومحادثتي فيها بخبرك موفقا إن شاء الله.
عيسى بن واضح إلى الفضل بن الربيع
قد أكد الله من حرمتي بك، ووصل من الشعب بيني وبينك ما جعله ذخيرة ليوم الحاجة، وعدة عند ملم النازلة.
جبل بن يزيد
أما بعد، فإن من صحب الدنيا لم يخل من تصرف أحوالها، وكثرة معاريض فجائعها، في اخترام الأنفس في خواصها، ومواقع البلايا بين ذلك فيما يهدها، ويفر من الأشياء عليها؛ وكان ذلك لا سبيل إلى دفعه، ولا حيلة يستعان بها عند نزوله، إلا الرضا عن الله عز وجل فيما قضى، والتسليم لأمره في كل ما أتى، والسكون إلى الأسوة التي نهج الله سبلها، وخفف بها مواقع المصيبات على أهلها؛ ثم الرجاء بعد ذلك لحسن ثواب الله، [وقد] جعله الله لمن لزم أمره وأجشم نفسه مكروهها في مواطن الصبر على المصيبة، والشكر في حال العافية.
وله في المطر
قد كنت كتبت إلى أمير المؤمنين أعلمه المطرة التي أصابتنا، وما أنزل الله بها من رحمته ثم عادت لنا بعدها من الله عائدة رحمة، بولي مطر أنزله الله بأحسن ما رأينا من المطر وابلا جودا، لا يفتر غزيره ولا يرعوي جوده، إلا إلى ديمة عن ديمة، يتراخى إليها يسيرا ريثما تعود، فأقامت علينا سماؤه مستهلة بذلك وكذلك إلى غروب الشمس؛ ثم انقطع مطرها بسكون من الريح، وفتور من القر، وفضل من الله عظيم، ينشر به رحمته، ويبسط به رزقه، فأسبغ النعمة، وأوسع البركة، وأوبق بحمد الله معارف الخصب والحمى. والله محمود على آلآئه ومشكور على بلائه، وما أنزل الله من سقياه ورحمته، بعد الذي أقبلت به السنة البرية والقحط وعدم الإمطار، وشدة ما بلغ الناس من القنوط وسوء الظنون.
وله إلى بعض إخوانه
أما بعد، فإن أعظم الأمور فيما بين الناس حقا أمران: منهما الإخاء في الدين، فهو سبب وصية الله بين عباده بالألفة والمحبة التي انقطعت بها قرائن القلوب من بعضهم إلى بعض، فاتصلت بحبائلهم مرائر حبلها، وتقطعت فيما بينهم عاطفات وصلها؛ ومنهما مجاملة جميل الأعداء، وحفظ ما يحق لأهل حسن البلاء؛ ثم الصنائع بعد ذلك في مواقعها فضائل بقدر ما جرت به أسبابها ولطفت مداخلها.
فصل:
الصناعة ليست يزيدها الأخلاق الجميلة، ويزيد في أسبابها أواصر المودة؛ وقد جعلك الله في صناعتك مقدما، وفي مودتك متفضلا؛ فلا زالت عنك نعم الله، ولا برحت سكنا لإخوانك، وأنسا وموضعا لما تستميحون من معروفك، ويستميرون من يدبرك.
فصل:
إن لك من قلبي لموضعا معمورا بالمودة والثقة، والاسترسال والأنسة، فلا تخرج فلانا من سعة جميل برك، إلى عقبى استحقاقه.
آخر
قد طالت الصبابة إليك، وللدهر عقب عائدة بالنفع والصنع، ولا سيما لمن كان على مثل شاكلتك في أدبك وفضلك وإنصافك إخوانك وبرك بهم، وما توجبه على نفسك لهم مما يقصرون عن شأوك فيه.
الكلبي
كان أسلافنا تقارضوا ديونا من الصفاء يستأديها كل عقب من صاحبه؛ وقد أورثونا مودة لا نعجز عن اكتساب مثلها.
ابن أعين كاتب الخيزران
ليس يكون منك شيء وإن حسن، إلا وحسن ظني بك يبلغه، فاستتم أحسن ما كان منك، يتم لك أحسن ما تحب مني. ولا يمنعنك الاكتفاء بحالك اليوم من طلب الزيادة في غد؛ فأنه لقل شيء لا يزيد إلا نقص، والزمان يمحق الكثير، كما يربو على الزيادة القليل.
ابن الكلبي
أنت من أطول بمكانه وأثق بجميل رأيه، وأعتمد على رفده، وأرجو درك كل فضيلة به؛ ومما أحب علمه مقر نعم الله عز وجل لديك.
علي بن عبيدة إلى ابن الكلبي
وصل الله أيام عمري باتباع موافقتك؛ ولولا موعد أخذ علي، لأطعتك فيما أمرت به، متبعا مع إجابتك سرور نفسي برؤيتك في السلامة.
أما بعد، فإني أصبحت وقد استفرغ الأمير مني كل مودة ونصيحة، ومبلغ جهد وطاقة فيما عرفت له فيه موافقة.
فصل:
فإن الذي شعب الله بيننا من التواصل والتكاتب، يدعوني إلى متابعة الكتب إليك في تعهد حقك، وإن كان الخبر عن ظاهر الحال قلما يغني، فإن له من الأنس والموقع في الكتب ما ليس لمستعرضات الأخبار.
فصل:
قد كنت أعلمت الأمير انقطاع بني فلان إلى فلان، بأهوائهم وبصائرهم وشراء
12
ما قبله بغيره، وما كان وصل إلينا في ذلك من الأمور التي حملوا إصرها، وبقي لنا أجرها وذكرها ونافلتها وسابقتها؛ فنحن عدد الأمير وخباياه وذخائره، ومن يأمل يومه وغده، ولا متخطى له عنه ولا مقتصر دونه.
عمارة
بلغني كتابك يصف كذا، فإن رأيت ألا تعتمد على ما لصقت [به] من عذرك، وأطعت فيه الهوى من قبول عفوك، وتجعلني أحد من يسر بسرورك، وتشركه في مهمات أمورك، فإني أحدهم وأوسطهم عناية بما عناك وتوسطا لما عراك، فعلت.
فصل:
والدنو من دارك إذ الدار جامعة والحبل متصل، إذ نحن في الاستيفاء بالخبر والعلم بدخلة الحال، بمنزلة من كأنه يعاني من يشتاق إليه ويصبو به في كل يوم، حتى نأت النوى، وأنت في اللقاء والإنظار في كل أمر وعلى كل حال من لا يشك في صفاء غيبه، وصدق إخائه.
فصل:
مشاركتنا إياك في محبوب الأمور ومكروهها يحلنا محلك في السرور بالنعمة يجددها الله لك، ويوجب من الشكر علينا
13
مثل الذي يوجب عليك. فوصل الله كل نعمة يهبها لك من الشكر بما يكون لحقها قاضيا، وللمزيد فيها موجبا.
سعيد بن عبد الملك
كتبت على شغل في قطع من القرطاس، ولم يقطع بي حسن الظن بك في قبولك العذر، وتحسينك ما أنت أهل لتحسينه؛ فإنك تقبل دون حقك، وتهب الذنب فيه، فيكون شكرك جاريا على سبيلين، كلاهما يبين لك عن فضلك، ويوجب لك ما لا يقصر معه إلا مغبون الحظ خسيس النصيب.
فصل:
وقد ظهر من أمير المؤمنين في فلان بعد وفاته، ما هو أعدل شاهد على حسن منقلبه، ورد إليك من رأيه وتفقده ما أرجو أن يكون فيه أعظم العوض. والله أسأل أن يتولى لك أمورك في السراء والضراء، والشدة والرخاء، والشكر وحسن العزاء.
جبل بن يزيد إلى بعض إخوانه
تمم الله علينا وعليك النعم، وأجزل لنا
14
ولك محاسن صالح القسم. إن الله تبارك وتعالى أجرى بيننا وبينك لطيف مودة، وخاص أخوة، غير أن المعرفة قد تحمد بعد الخبرة، والثقة إنما تعرف بعد التجربة، وقد أحببت أن يعلم من قبلك
15
الذي أحدث الله لك من حال دولتك، وأن يعلم هل أبقت لنا منك النعمة سعة، أم تركت لنا منك صفحة نعرف بها عهدك ونأمل بها وصلك ؟ فإن أصحاب السلطان، بحال بلوى في التغير والانتقال، إلا من نالته من الله تبارك وتعالى عصمة. فإن كنت على ما رجونا من الوفاء، وحسن الحفظ للمودة والإخاء، فمثلك لم يرض لنفسه إلا بأجمل الأخلاق وأوفقها للسداد. وإن حجزك عن ذلك ما تأتي به الأقدار في متصرف الليل والنهار، نعذرك بما نعذر به أهل السلطان، إذا غيرتهم الحال، وتنكرت شمائلهم بين الإخوان.
وله إلى بعض إخوانه أيضا: اعلم أني إليك مشوق، وأن صلة الإخوان كرم، وخير الصلات ما لم يكن لها وجه إلا الرجاء والحفظ وتجديد المودة وتصحيح الإخاء؛ فإن الذي يكاتب إخوانه على حال الرغبة يكفي القائل كتابه حيث شاء، إن أحب مال به إلى الصحة، وإن شاء وضعه للرغبة، والرغبة أملكهما
16
به. والذي يكاتب إخوانه على حال الضرورة، فقد يستقطع الصلة عند الحدث مخافة الملامة
17
من الناس على القطيعة الشنعاء المشهورة لإخوانه؛ فإن الذي لا مودة له قد يصل ذلك في تلك القطيعة بأهل البلاء.
والكتاب على مثل حالنا وحالك اليوم شاهد على أن ذلك ليس إلا صحة الإخاء والشوق إلى المحادثة بالكتاب، حين لا يلومك اللائمون لمنزلة البلاء تلك اللائمة على التقصير، ولا يوضع منك الرغبة في الإطماع. إياك أن تعتل بالأشغال أن كنت في خاصة نفسك، فإن أداء الحق وصلة الإخوان أعظم الخاصة بك خاصة. وإنما أمرنا في كل هذا كأمرك في الذي يستغني من خاصتك تلك التي لنا، فإن لنا ما لك، وهذه التي لنا لك؛ أليس ما سرنا سرك وما سلبناه حظا لك، فهذه كذلك وذلك كهذي. والله يوفقنا وإياك. وأنت أبا يوسف. هكذا حال ما بيننا وبينك ما وصفت لأبي سعيد، غير أنه سألنا أمرا لم يسألناه قط، فله فضل السبق علينا في المسألة، ولنا فضل المنزلة عليك في اللائمة. ولن أدعك والفعل، دون أن تشفعه بالعمل الذي هو صلة القول. وسلام عليك ورحمة الله، وقضى الله عز وجل بالحسنى لنا ولك.
فصل:
أتاني كتابك، فأنعمت أن يسرني بسلامتك، وما حاق فيه كرم برك ، ولطيف عنايتك، ما لم أفقد في حالة من حالاتك، فكان الكتاب مصدقا لما سلف، مبشرا بما يستأنف، مذكرا منك عهدا موصو
18 ... مثاله طرفي وقلبي، ملصقا ذكره بلساني وقلبي. فلا عدمتك، بل أمتعني الله بك فأطال، وكثرني ببقائك.
فصل:
أتاني كتابك فطامن قلبي وطرفي، بعد ما كان شاخصا إليه، متشوقا إلى رؤيته، ثم ملأني سرورا ما رأيت فيه من آثار برك وكريم تفقدك. وأفضل ما عندي منك قبله، مما إن ذكرته، فللاستراحة
19
إلى الذكر، وإن أمسكت، فللعجز عن الشكر. فأما الضمير فمبني على الإقرار بفضلك، والنية خالصة بشكرك. وقليل ذلك لك، فأعطاك الله فأطاب، ووهب فأجزل.
فصل:
وصل إلي كتابك فخيل لي حين نظرت إلى أثر يدك بمجرى قلمك في بطن صحيفتك، أنك ماثل بين عيني: أنظر إلى شخصك وأسمع من لفظك، فابتعث ذلك مني طربا شائقا، وصبابة هيجت الأحزان وذكرت الإخوان. وكنت من إخواني الذين أفخر بسلامتهم للود الذي أجرى الله بيننا وبينك، فتواصلنا بحرمته، وتعاطفنا بوصله.
فصل:
إن الله جعل عاقبة كل نعمة وإن عظمت، تبعا لأولها، وجعل الشكر عليها سببا لتمامها وموجبا لأحسن الزيادة منها.
فصل في شكر:
فإن الله جعلك للخير معدنا، وللفضل موضعا، فيما حملته نفسك من ثقل أعباء المروءة، وحملتها عليه من عظام المكارم، حتى صرت بما أنعم الله به عليك، منتهى كل أمل وغاية كل رغبة. ثم ألبست النعمة لباس التواضع، وناسبت في الأخلاق من سبقت به عليك الأمور، حتى كأنهم في النعمة لك شركاء. وتحننت على الأقربين والمتقربين من الإخوان والأكفاء، حتى كأنهم لك ولد، وأجبرت نفسك حين ساعدك الدهر، على طبيعة التقرب إلى العامة؛ فكلهم يدلي إليك بدلو رغبته، ويمتاح منك متاحة فضل؛ فلا عدمت ألا تزال تنعش سقطة، وتقيل عثرة، وتسد خللا، وتنيل أملا؛ ولا عدم من شهد ذلك منك، أن يستتم هذه النعمة عليك وعلى نفسه؛ فإن من سعادة العامة أن يجعل سارها عند خيارها. ومن البلاء العظيم عليها الموجع لها، أن يخص شرارها بموضع رغباتها.
فاسلم كلأك الله بهذه النعمة، غير منغص بها، ولا مكدر عليك
20
صفوها، حتى تسلمك النعمة العاجلة إلى النعمة الباقية؛ فإنا وإن علمنا أن من شأن الدهر الغدران في العواقب فقد علمنا أنك فيما أهدى الله إليك من النعمة، قد أديت حق الله عز وجل ثم حق إخوانك فيها، فكنت آخر من نال فضلك، كرما في السناء، ورضا في الأثرة، غير متطاول لما نأمل، ولا متضعضع لما تحذر؛ فإنا نجزي شكر الماضي منك، ورجاء الباقي، فنرى تضييعا منا في عقد الرأي، وإزراء بنا في وثائق الأمور، ألا نمنحك من أنفسنا مودة الولد ورقة الوالد، وإذا أعطاك امرؤ ثمرة فؤاده، فقد فرغ إليك من جميع حقك؛ لأن ذات يد امرئ في البذل أهون عليه من ذات نفسه في الشكر. وكفى لامرئ من امرئ أن يستولي عليه حتى لا يدع لغيره فيه فضلا. وكفى بك لنا من غيرك. وكثير منا أن نقوى على أداء أدنى صنوف حقك، غير أن أوثق أمورنا فيك عند أنفسنا ألا نسأم النظر إلى فنائك بهجين بك إن برزت، وعاذرين لك إن شغلت.
فصل:
إن الهدى والضلالة يقتسمان دول الأزمنة، لغير كرامة للباطل، ولا هوان للحق. وأهل الحق كيف تصرفت أحوالهم في كرامة من الله عز وجل، ونعمة بين دولة تكون لهم، يقومون لله فيها بحقه ويظهرون هداه ودينه، ودولة تكون للباطل، يكونون فيها كهوفا للخيرات، ومعدنا للحسنات، يستكن الحق في صدورهم، ويأوي البر والصدق إليهم؛ فهم بين يومي صبر وشكر، ليس أحدهما دون صاحبه في الفضل.
وأهل الباطل كيف تصرفت أمورهم بين سخط الله وعقوبته؛ لأن الله تعالى لم يجعل في الباطل فرجا لأهله، وإن كانت لهم دولة كانت إملاء واستدراجا، وكانوا فيها على مدرجة هلكة وسبيل نقمة؛ وإن كانت الدولة لأهل الحق، كانوا فيها بين ذيل وضيم، وخوف وجزع، وقد سدت عليهم المطالع، وضاقت عليهم الأرض بما رحبت. ففي أي يوميهم مستراحهم: أيوم دولتهم، وهم لا يشكرون النعمة ولا يقطعون أسباب النقمة؟ أم يوم علو الحق عليهم، وهم لا يصبرون على المحنة ولا يبصرون من العمى؟ وأهل الحق بين حالي غبطة وحسبة، وأهل الباطل بين حالي إملاء ونقمة.
فصل في صفة الجند:
إن الغالب على أهواء جماعة من فئام أولياء الأمير وجنده إعظام الأمير ومعرفة فضله، والتقرب إلى الله بمحبته ومناصحته وطاعته، ومعاداة عدوه؛ وتلك نعمة يعتدونها ويتقربون إلى الله بها، ويتوسلون إلى الأمير بخزي قوم خالفوا.
فصل:
حل بين فلان وبين التشريد بهم والاجتياح لهم، فإن ذلك أرضى لربك، وأجمع للألفة، وأقوم لعمود الخلافة الذي سدد الله دعائم الإسلام وأس الدين به. واعلم أن من حاط الله دينه، ورمت عن فوقه الجماعة، وعادى أهل النقض لها، ابتعثه الله آمنا من هول الحساب وضيق المحشر، والله بنصره أحق وأولى. وكن لله بحيث افترض عليك، فإنه قال لنبيه
صلى الله عليه وسلم :
يا أيها النبي جاهد الكفار .
كتب جعفر بن محمد بن الأشعث إلى رجل لم يكاتبه
لست بما صرفت إلي من معروفك بأسر مني، بما أهديت إلي من قضاء الحق عنك، وقلة ذوي الحرمة بك؛ لأنك قد تصل من لا يثق ولا يأنس إلا بمن يعتمد عليه.
كتب الفضل بن يحيى إلى رجل يشاوره في أمر حدث
ليس كل امرئ وإن كان ذا عزيمة في رأيه، وأصالة في عقله، بمستغن عن مكاشفة أهل الرأي؛ لتوزيع الله عز وجل، أقسام الفضل في خلقه، وإشراكه إياهم، في عطاياه؛ فرأيك في كذا.
ركب إبراهيم بن المهدي إلى أحمد بن يوسف، فكتب أحمد إلى إسحاق بن إبراهيم الموصلي
عندي من أنا عبده، وحجتنا عليك، إعلامنا إياك.
توسل
توسل رجل إلى رجل بمحمد بن عبد الملك وادعى قرابته منه، وبلغ ذلك محمدا فكتب إلى المتوسل إليه:
بلغني أن رجلا ادعى قرابتي، وأورد عليك كتابا ذكر أنه مني؛ وما أنكر أن ينتفع بي من توسل بنسبي، إلا أنه من ادعى قرابة، ولا قرابة له، كان استعمال الشفاعة في أمره أولى.
كتب طاهر بن الحسين إلى الفضل بن سهل
أسعدك الله بمحاربتك، التي بذلت فيها مهجتك، ومهج من هو موصول بك منا.
محمد بن الجهم
وليس في جميع الناس أعدى لك: من صديق مؤمل، أو حميم راج، إن منعتهما شتماك وبهتاك، وإن أعنتهما الباهتة
21
اغتالاك.
محمد بن مسعر
قال: كنت أنا ويحيى بن أكثم عند سفيان، فبكى سفيان، فقال له يحيى: ما يبكيك يا أبا محمد؟ قال: بعد مجالستي من جالس أصحاب رسول الله
صلى الله عليه وسلم
ابتليت بمجالستكم! فقال له يحيى: فمصيبة من جالست منهم بمجالستهم إياك بعد أصحاب رسول الله
صلى الله عليه وسلم
أعظم من مصيبتك بنا! فقال: يا غلام، أظن السلطان سيحتاج إليك.
دخل ميمون بن مهران على بعض خلفاء بني أمية - وأحسبه عمر بن عبد العزيز - فقال له وقد قعد في أخريات مجلسه: عظني! فقال له: إنك لمن خير أهلك إن وقيت ثلاثا. قال: ما هن؟ قال: السلطان وقدرته، والشباب وغرته، والمال وفتنته. فقال: أنت أولى بمكاني مني فارتفع إلي. فأجلسه معه على سريره.
ابن وهب في الاعتذار
لو لم نعذرك لم نعذر أنفسنا بقطيعتك، فكن لنا في لائمة نفسك، كما كنا لك في عذرك.
وفي مثله
ليس في الإساءة فضل عن الاعتذار، وفي عائدتك فضل عن إساءتنا، فمن أين يسقط بين فضلك والاعتذار!
آخر
فلان من حملة المعروف، يكثر عندهم قليله في شكرهم، ويقل لهم كثيره في عظيم حقوقهم.
فصل:
لئن عميت عن الرأي فيك، لقد أبصرته بك.
فصل:
تغيب فأشتاق، ونلتقي فلا أشتفي. (2) فصول من رسائل مختارة في كل فن
وهي مثل مما كتب به الكتاب في أبواب لا نظير لها.
فمن ذلك ما كتب به في التحميد لله عز وجل في أوائل الفتوح وأواخرها وأوائل الكتب التي فيها تحميد الله عز وجل.
التحميد الأول
الحمد لله القادر القاهر، المتوحد بالسلطان والربوبية، والمتفرد بالبقاء والقدرة، والمتجبر بالكبرياء والعظمة؛ ذي الجلال والإكرام، والإفضال والإنعام، والعز والبرهان، والأسماء الحسنى، والمثل الأعلى؛ الأول بلا غاية، والآخر بلا نهاية، الذي لا يحيط به وصف الواصفين، ولا تبلغ مدى عظمته أوهام المتوهمين، ولا تدركه الأبصار ، وهو يدرك الأبصار، وهو اللطيف الخبير؛ لا يئوده حفظ كبير، ولا يعزب عنه علم صغير، يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، وما تسقط من ورقة إلا يعلمها، ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين.
التحميد الثاني
الحمد لله الذي خلق الأشياء على غير مثال ولا رسوم، وأنشأها على غير حدود، ودبر الأمور بلا مشير، وقضى في الدهور بلا ظهير، وسمك السماء بقدرته، وبناها على إرادته، وأسكنها ملائكته الذين اصطفاهم لمجاورته، وجبلهم على طاعته، ونزههم عن معصيته، وجعلهم حملة عرشه، وسكان سماواته، ورسله إلى أنبيائه، يسبحون الليل والنهار لا يفترون؛ ودحا الأرض وبسطها لكافة خلقه، وقسم بينهم الأرزاق، وقدر لهم الأقوات، فهم في قبضته يتقلبون وعلى أقضيته يجرون، حتى يرث الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين.
وصدر تحميد مفرد
الحمد لله العلي مكانه، المنير برهانه، التامة كلماته، الشافية آياته؛ والحمد لله ولي أوليائه وعدو أعدائه.
وصدر تحميد
الحمد لله الغالب الذي لا يغلب، والمقتدر الذي لا يعان، والمنجز وعده، والمؤيد أولياءه، والخاتم بالفلج
22
والظهور لهم، والمديل من أعدائه، ومحيط دائرة السوء بهم.
ولكاتب خزيمة بن خازم في فتح الصنارية تحميد مختار
أما بعد، فالحمد لله ذي الملكوت والقدرة، والجبروت والعزة، والسلطان والقوة؛ أهل المحامد كلها، ومدبر الأمور ووليها، وخالق الخلائق وبارئها، ومميتها ومحييها، وباعثها ووارثها؛ الذي أوجب على نفسه بما نفذ من مشيئته، وسبق من علمه، وثبت في اللوح المحفوظ عنده إعزاز دينه، وإظهار حقه، وإعلاء كلمته، وإبلاج حجته، وإزهاق باطل أعدائه؛ الصارفين عن طاعته، والجاحدين لربوبيته، المكذبين بكتبه ورسله؛ بلغ بذلك أمره، ونطق به كتابه؛ فإنه يقول تبارك اسمه في المنزل من فرقانه:
بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ولكم الويل مما تصفون .
وتحميد لأحمد بن يوسف إلى الولاة عن الخليفة
أما بعد، فالحمد لله ذي المنن الظاهرة، والحجج القاهرة؛ الذي قطع بينه وبين عباده المعذرة، ورادف عليهم البينة، ومهلة النظرة؛ وجعل ما أتاهم من حظوظ الدنيا بالقسم المكتوب، وما ذخر لهم من ثواب الآخرة بالنجح المطلوب؛ فهم في العاجلة شركاء في النعمة، وفي الآجلة شتى في الرحمة؛ يختص بها أهلها المنتفعين بما ضرب لهم من الأمثال، وتصريف الحال بعد الحال؛ المبادرين بأعمالهم إلى انقضاء مدد آجالهم، قبل حلول ما يتوقع، وفوت ما لا يرتجع.
وتحميد لإبراهيم بن العباس في فتح إسحاق بن إسماعيل
الحمد لله معز الحق ومديله، وقامع الباطل ومزيله، الطالب فلا يفوته من طلب، والغالب فلا يعجزه من غلب ؛ مؤيد خليفته وعبده، وناصر أوليائه وحزبه؛ الذين أقام بهم دعوته، وأعلى بهم كلمته، وأظهر بهم دينه، وأدال بهم حقه، وجاهد بهم أعداءه، وأنار بهم سبيله؛ حمدا يتقبله ويرضاه، ويوجب أفضل عواقب نصره، وسوابغ نعمائه.
التحميد الثاني
الحمد لله الغالب ذي القدرة، والقاهر ذي العزة؛ الذي لم يقابل بالحق باطلا في موطن من مواطن التحاكم بين عباده، إلا جعل أولياء الحق منهم حزبه وجنده، وجعل الباطل بهم فلا منكوبا، ودحيضا زهوقا؛ إن نهض به أولياؤه كانت مراصد عواقبه مفرقة ما جمع، ومبترة ما أعد، وقائدة بأشياعه إلى مصرع الظالمين، حتى يكون الحق الطالب الأعز، والباطل المطلوب الأذل؛ وأولياء الحق الأعلين يدا وأيدا، وأشياع الضلال الأخسرين أعمالا وكيدا؛ قضاء الله وسنته، وعادة الله وإرادته، في الفئة المنصورة أن تعز فلا ترام، وأن يمكن لها في الأرض كما مكن للذين من قبلها؛ وفي الفئة الناكبين عنه، أن تزل فتكون كلمتها السفلى، وكلمة الله هي العليا، والله عزيز حكيم.
وتحميد له مبتدأ مقام بين يدي الخليفة
أما بعد، فالحمد لله الأول بلا أيد يحصى، والآخر بلا أمد يفنى؛ الظاهر لخلقه بعزته، العزيز في سلطانه بعظمته، الفرد في وحدانيته بقدرته، المدبر في ملكه بجبروته؛ الذي نأى عن الأشياء أن يكون فيها محويا، واتصل بها فلم يك من علمها خليا، وهو فيها غير مستكن، ومعها غير مماس في لجج البحار، ومفاوز القفار، وشوامخ الجبال، وكثبان الرمال؛ مع كل خلق، وفي كل أفق، وعلى كل شرف ومكان، وفي كل وقت وأوان؛ موجود إذا طلب، وقريب حيث ندب؛ عالم خفيات الغيوب، وخطرات القلوب، وما في السموات وما في الأرض، ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم، ولا خمسة إلا هو سادسهم، ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم؛ وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين.
وتحميد ثان يتلو الأول
الحمد لله المتعالي عن تشبيه الجاهلين، وتحديد الواصفين، وتكييف الناعتين؛ يوصف لا بالعرض والطول ، وينعت بغير الشبح الممثول، ويحد لا بالخلق المعدود، والجسم الموجود؛ بل يتناهى من وصفه، إلى ما دل عليه من صنعه، ويوقف عليه من نعته، على ما أخبر به عن نفسه؛ وكيف يوصف من لم يره أحد، ويحد من لم يحده بلد؛ أو يشبه غير ذي أعضاء، أو يكيف غير ذي أجزاء؛ لو رئي لوصف، ولو وصف لمثل، ولو مثل لكان له نظير؛ سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا، لا تجنه الأقطار، ولا يحويه قرار؛ ولا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار، وهو اللطيف الخبير؛ لا يوصف أولاه، ولا يدرك أخراه، ولا يعرف منتهاه؛ عظم أن يحصره وهم، وجل أن يدركه فهم، وامتنع من أن يخاله علم، ولا يغيره ليل ولا يوم؛ ولا تأخذه سنة ولا نوم، له ما في السموات وما في الأرض، من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه، يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء، وسع كرسيه السموات والأرض ولا يئوده حفظهما، وهو العلي العظيم.
وتحميد ثالث
الحمد لله الذي ألهمنا من الإقرار بربوبيته، والإيمان بوحدانيته، وأنه غير ذي صاحبة يسكن إليها من وحشة، ولا ولد يتكثر به من ضعف قلة، ولا شريك يعاونه من عجز قدرة، ولا ظهير يكانفه لملال فترة؛ ما جعل لنا به أوثق الأسباب لديه، وأرجى الوسائل إليه؛ إذ كان من أنكر ما دللنا الإقرار به يصير بجحد ما أخنعنا الاعتراف فيه، إلى أليم عقوبته بالمعصية التي استحكمت السخطة على أهلها، وحلت النقمة بمن فارقها؛ ثم جعلنا تبع إشراف كثير على أنفسنا في مشيئة منه، بسط إليها آمالنا وأحسن عليها أطماعنا بكرم عفوه، وعظيم حلمه، وسعة رحمته، التي وعد أهل الإيمان بها؛ إذ صار من فارقهم في ذلك بما استهوت عليهم، بتزيينه لهم شياطينهم، ورانت على أفئدتهم
23 ... وما ظلمته قرباؤهم إلى الناس من كل طمع يجدي وخبر ينجي؛ جزاء بما أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا، إن الله لا يغفر أن يشرك به، ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء، ومن يشرك بالله فقد حبط عمله، وهو في الآخرة من الخاسرين.
وتحميد يتلو الثالث في هذا المقام
الحمد لله الذي ابتدع لا من شيء ما أنشأ، وابتدأ على غير مثال ما ابتدأ؛ فجعل كثيرا من لطائف تقديره، وصنوف تدبيره، وتصاريف أموره؛ حججا واضحة، وآيات بينة، وعبرا شافية؛ تشهد له بعزة القدرة، ونفاذ الحول والقوة؛ فخلق مدبرا بلا مشورة أحد، سبعا دحاهن على الماء على غير سند؛ مبسوطات في تكاثف أجزائهن، على معين ماء مسخر من تحتهن، فجر خلالهن أنهارا، وقدر فيهن من المعاش أقواتا، وجعل لهن من الجبال أوتادا، ثم استوى إلى السماء وهي دخان، فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا آتينا طائعين. ففطر من الدخان في خفته على الهواء سبعا، جعل بينهن من الجو متسعا، سبع سموات طباقا مرتفعات، بلا دعائم قبلها ولا علاقات، يمسكهن بقدرة أن يرتفعن فوق ما حبسهن عليه، وأن يهوين إلى قرار دون ما رفعهن إليه؛ فأتقن صنعها، وأوحى في كل سماء أمرها؛ وزين السماء الدنيا بالمصابيح النيرة، والشهب الثاقبة، والنجوم الواضحة؛ وسخر الشمس والقمر علما للمهتدين، وسراجا للمبصرين، ورجوما للشياطين، وأوقاتا لاختلاف السنين، ومعرفة لكل حين؛ لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون؛ فقضاهن سبع سموات في يومين، ولو شاء خلقها في أسرع من طرف العين؛ إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون؛ بلا معاناة لقول، ولا ضعف من حول؛ ثم أسكنهن من خلقه ملائكة اصطفاهم لعبادته ، واجتباهم لتبليغ رسالته، معصومين من أن يشركوا بالله، ما لم ينزل به سلطانا، وأن يقولوا على الله إفكا وبهتانا؛ يسبحونه بالليل والنهار لا يفترون ولا يسأمون من عبادته، ولا يستحسرون عن طاعته؛ يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون.
وتحميد في فتح لابن العباس
أما بعد، فالحمد لله الذي حمد نفسه، وفرض حمده على خلقه، وأعز دينه وأكرم بطاعته أولياءه، وأكرم طاعته بأوليائه، فجعل جنده منهم المنصورين، وحزبه منهم الغالبين؛ نهج بهم سبيله، وأقام بهم حجته، وجاهد بهم أعداءه، وأظهر بهم حقه، وقمع بهم الباطل وأهله؛ وأعلى كلمتهم، وأيد نصرهم، وألف لهم وبهم، ومكن لهم في الأرض، فجعلهم أئمة وجعلهم الوارثين.
والحمد لله المعز لدينه، المظهر لحقه، الناصر لخلفائه، الممكن لحزبه؛ المنتقم بهم ممن صدف عنه، مؤيدا دينه بالنصر، ليظهره على الأديان، وحفه بالعز، فلا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه؛ وجنوده بالفلج فهم الأعلون إن استنصر بهم، والأعزون إن كاد بهم؛ والأقربون منه إخلاصا وعملا؛ حمدا يؤازي نعمه، ويمتري بمثله فواضله ومزيده.
وله في فتح ابن البعيث لما ظفر به
أما بعد، فالحمد لله ناصر أنبيائه وخلفائه، وهادي أوليائه، أولياء الحق وحزب الهدى؛ الذين أقام بهم سبل الرشاد، ونصب بهم مناهج الدين، فأظهره على الدين كله ولو كره المشركون.
وله صدر كتاب الخميس في تحميد الله وتمجيده
أما بعد، فالحمد لله الذي جلت نعمه، وتظاهرت مننه، وتتابعت أياديه، وعم إحسانه؛ إله كل شيء وخالقه، وبارئه ومصوره؛ والكائن قبله، والباقي بعده، كما قال في كتابه:
كل شيء هالك إلا وجهه له الحكم وإليه ترجعون . العالي في مشيئته والقاهر فوق عباده، المتعالي عن شبه خلقه، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، خلق العباد بقدرته، وهداهم برحمته، وأوضح لهم السبيل إلى معرفته بما نصب لهم من دلائله، وأراهم من عبره، وصرفهم فيه من صنعه، كما قال جل جلاله:
الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين * ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين * ثم سواه ونفخ فيه من روحه وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون .
وذلك كله من خلقه إياهم بتمثيله ما مثل لهم من الدلائل التي نصبها لهم، والأعلام التي جعلها إزاء قلوبهم، وأسماعهم وأبصارهم، ويسر لهم خواطرهم وفكرهم، والهيئة التي هيأهم لها ليقع الأمر والنهي عليهم؛ فلا يكلفهم فوق طاقتهم، ولا يجشمهم ما يقصر عنه وسعهم، نظرا منه تبارك وتعالى إليهم ورحمة بهم؛ ليؤمنوا به ويعبدوه، فيستحقوا به رحمته ورضوانه، والخلود في النعيم المقيم، والظل المديد، والعيش الدائم؛ كما قال تعالى ذكره:
إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم . وكان من نظره ورأفته بهم أن بعث فيهم أنبياءه ورسله، يدعونهم إلى طاعته، ويبينون لهم هداه، ويوضحون لهم سبيله؛ ويهدونهم إلى رحمته، ويعدونهم ثوابه، وينذرونهم عقابه، ويبسطون لهم توبته، ويحذرونهم سخطه، ويبينون لهم سنته وشرائعه، ويكشفون لهم مواعظه، ويعلمونهم كتابه وحكمته، كما قال تبارك وتعالى:
ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة وإن الله لسميع عليم . وكان من رأفته بهم، ونظره لهم، أن بعثهم إليهم بالحجج الظاهرة، والأعلام البينة، والشواهد الناطقة، التي أظهر بها صدقهم، وأقام بها برهانهم، وأوضح بها دليلهم، وأثابهم عمل سواهم، ليكون أدعى لهم إلى تصديقهم، والقبول عنهم، وأوكد للحجة على من أبى ذلك منهم.
وتحميد أحمد بن يوسف في صدر رسالة الخميس التي كانت تقرأ بخراسان
أما بعد، فالحمد لله القادر القاهر، الباعث الوارث، ذي العز والسلطان، والنور والبرهان؛ فاطر السماء والأرض وما بينهما، والمتقدم بالمن والطول على أهلهما؛ قبل استحقاقهم لمثوبته، بالمحافظة على شرائع طاعته، الذي جعل ما أودع عباده من نعمته، دليلا هاديا لهم إلى معرفته، بما أفادهم من الألباب، التي يفهمون بها فصل الخطاب؛ حتى اقتنوا علم موارد الاختبار، وثقفوا مصادر الاعتبار، وحكموا على ما بطن بما ظهر، وعلى ما غاب بما حضر؛ واستدلوا بما أراهم من بالغ حكمته، ومتقن صنعته، وحاجة متزايل خلقه ومتواصلة، إلى القوام بما يلمه ويصلحه، على أن له بارئا هو أنشأه وابتدأه، ويسر بعضه لبعض، فكان من أقرب وجودهم، ما يباشرون به من أنفسهم؛ في تصرف أحوالهم، وفنون انتقالها، وما يظهرون عليه من العجز عن التأتي لما تكاملت به قواهم، وتمت به أدواتهم، مع أثر التدبير والتقدير فيهم، حتى صاروا إلى الخلقة المحكمة، والصورة المعجبة، ليس لهم في شيء منها تلطف يتيممونه، ولا مقصد يعتمدونه من أنفسهم؛ فإنه قال تعالى ذكره:
يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم * الذي خلقك فسواك فعدلك * في أي صورة ما شاء ركبك . وما يتفكرون فيه من خلق السماء، وما يجري فيها من الشمس والقمر؛ والنجوم مسخرات على مسير لا يثبت العالم إلا به، من تصاريف الأزمنة، التي بها صلاح الحرث والنسل، وإحياء الأرض، ولقاح النبات والأشجار، وتعاور الليل والنهار، وممر الشهور والأيام؛ والسنين التي تحصي بها الأوقات؛ ثم ما يوجد من دليل التركيب، في طبقات السقف المرفوع، والمهاد الموضوع، باختلاف أجزائه والتئامها، وخرق الأنهار، وإرساء الجبال، ومن التئام الشاهد على ما أخبر الله به من إنشائه الخلق وحدوثه بعد أن لم يكن، مترقيا في النماء، وثباته إلى أجله في البقاء، ثم محاره منقضيا إلى آخر الفناء؛ ولم يكن له مفتتح عدد، ولا منقطع أمد، وما ازداد بنشوء، ولا تحيفه نقصان، ولا تفاوت على الأزمان؛ لأن ما لا حد له ولا نهاية، غير ممكن الاحتمال للنقص والزيادة؛ ثم أجرى فيما ذكر من خلق الله وخلق الإنسان إلى ذكر ما تفضل الله به على عباده الأنبياء، وما اختصهم به من مبعث النبي
صلى الله عليه وسلم ، إلى ذكر الخلفاء أولا، ثم إلى ذكر المأمون ودولته.
وتحميد للعباس في مقام له بين يدي المأمون
الحمد لله على نعمه علينا، وإحسانه إلينا، بالأرض المبسوطة، والسماء المرفوعة، والرياح المسخرة، والأمطار النازلة، والأوقات القائمة، والمنافع الدائمة؛ والدين المبين، والأدب القويم؛ حمدا يكون إليه صاعدا، ولديه ناميا، ولملكوته مالئا؛ والحمد لله حمدا يثبت رضوانه، ويورث إحسانه، ويوجب مزيده؛ فهو المنعم المحمود، والمتطول المشكور؛ لا إله إلا هو لا شريك له، كما شهد الله وملائكته قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم.
وتحميد لعبد الحميد في أبي العلاء الحروري
الحمد لله الناصر لدينه، وأوليائه وخلفائه، المظهر للحق وأهله، والمذل لأعدائه وأهل البدعة والضلالة؛ الذي لم يجمع بين حق وباطل، وأهل طاعة ومعصية، إلا جعل النصرة والفلج والعاقبة لأهل حقه وطاعته، وجعل الخزي والذلة والصغار، على أهل الباطل والخلاف والمعصية؛ حمدا يتقبله ويرضاه، ويوجب به لأمير المؤمنين وأهل طاعته الزيادة التي وعد من شكره؛ والحمد لله على ما يتولى من إعزاز أمير المؤمنين ونصره وإفلاجه وإظهار حقه، على ما وقع بأعدائه وأهل معصيته والخلاف عليه من سطواته ونقماته وبأسه، فيما ولي أمير المؤمنين من موالاة من والاه، وعداوة من بغى عليه وعاداه؛ لا يكله في شيء من الأمور إلى نفسه، ولا إلى حوله وقوته ومكيدته، فإنه لا حول ولا قوة لأمير المؤمنين إلا به.
وتحميد في آخر فتح
الحمد لله المعز لدينه، المظهر لحقه، الناصر لأوليائه، المنتقم من أعدائه أهل الكفر؛ المنزل بهم من بأسه، ونقمته وجوائحه؛ الذي لم يجمع بين أهل حقه، وباطل عدوه، في موطن من مواطن التحاكم، إلا جعل فيه لأوليائه الظفر، وأفرغ عليهم الصبر، ومنحهم النصر؛ وجعل الدائرة وسوء العاقبة على عدوه، وأهل الكفر؛ حمدا كثيرا يرضاه من الشكر، ويحسن به المزيد.
وتحميد في فتح إلى أمير لقمامة
الحمد لله الفتاح العليم، الذي خص الأمير بأفضل الكرامة وأتم النعمة؛ وأحسن الولاية، وأعظم الكفاية؛ وحفظ ما استرعاه، وأعز أولياءه، وقمع بالمذلة أعداءه، وجعل حسن العاقبة له ولأهل طاعته، ودائرة السوء على أهل معاندته؛ حمدا يحسن به القضاء، وتزيد به النعماء.
وصدر تحميد لغسان بن عبد الحميد في خطبة موجزة
الحمد لله الذي لا يدرك خير إلا برحمته، ولا ينال الفضل إلا بنعمته؛ ولي التسديد للحسنات، والعصمة من السيئات.
تحميد لعبد الحميد في فتح
الحمد لله العلي مكانه، المنير برهانه، العزيز سلطانه، الثابتة كلماته، الشافية آياته، النافذ قضاؤه، الصادق وعده؛ الذي قدر على خلقه بملكه، وعز في سماواته بعظمته، ودبر الأمور بعلمه، وقدرها بحلمه، على ما يشاء من عزمه؛ مبتدعا لها بإنشائه إياها، وقدرته عليها، واستصغاره عظيمها، نافذة إرادته فيها، لا تجري إلا على تقديره، ولا تنتهي إلا إلى تأجيله، ولا تقع إلا على سبق من حتمه، على كل ذلك بلطفه وقدرته، وتصريف وحيه؛ لا معدل لها عنه، ولا سبيل لها غيره، ولا علم أحد بخفاياها ومعادها إلا هو؛ فإنه يقول في كتابه الصادق:
وعنده مفاتح الغيب
إلى آخر الآية.
وتحميد ثان
الحمد لله الذي علا بالحجب التي استتر بها عن جميع خلقه، واستغنى بها عنهم لما توحد به دونهم من عباده الذين فطرهم على المعرفة، رءوفا عليهم بمنه ومتطولا وهو فيما يمضي من أقداره، مفصلا لهم بابتدائه خلقهم في أحسن تقويم، وإعطائه إياهم عاجل كل خير مقسوم، وتسخيره لهم جميع ما في السموات والأرض، وبسطه لهم في معايشهم أوسع الرزق، وإسباغه عليهم فيها أفضل النعم التي لطفت فبطنت، وعظمت فظهرت، ولبست فعمت، وانتشرت فجللت، وكثرت فلا يحصيها عاد، وجزلت فلا يؤدي حق ما افترض منها شاكر، فإنه يقول:
وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الله لغفور رحيم .
والحمد لله الذي لم يقتصر بهم في إكرامه وتفضيله إياهم على عاجل، فإنه مضمحل زائل مما أعطاهم إياه، ولم يكلهم في معرفة خالقهم تبارك وتعالى، ومتولي النعم عليهم، والإحسان إليهم، والارتياش لهم؛ ولا في مبتغى سبيل طاعته، وأداء حقه، وشكر نعمته، واستيجاب غبطة المعاد إليه إلى أن يعوا ذلك بعقولهم، والنظر فيه بألبابهم، والتصريف له على أهوائهم؛ فإنه لو ألجأ ذلك إليهم، وأفردهم فيه إلى أنفسهم، ووكلهم فيما أمرهم به إلى مقدرتهم، لحارت عنه منهم الأبصار، ولتاهت فيه منهم العقول، ولأضلهم عن قصده العمى، ولمال بهم إلى غيره الهوى، ولاستحكم عليهم شرك الردى؛ ولكنه بعث فيها أنبياءه الهادين، يدعونهم إلى الصراط المستقيم، بنوره المضيء، ودينه القويم، وآياته البينة، وكتبه الفارقة التي بين فيها محابه ومكروهه، وطاعته ومعصيته، وثواب الفريقين في ذلك من عباده ليحذروا ما حذرهم فيه من سخطه، ونزل بهم فيه من نقمته؛ وليسارعوا فيما جعل لأهله به إلى أفضل المثوبة، وأحسن العاقبة في الدنيا والآخرة، وكشف لهم الجهالة، وهدى من الضلالة، وبصرهم سبيل الحق، وبين لهم معالم الإسلام، ليرجع جائر، ويقصد زائغ، ويعرف جاهل، وليعبد الرب بما وحد به نفسه، وليستبين العلم، ويستضيء الحق، وليبتغي من الله الثواب بلزوم دينه الذي شرع، وأداء فرائضه التي فرض، وإيثار طاعته التي أوجب، وليكون لله الحجة البالغة على عباده فيما تركوا من ذلك وسفهوا بعد استبانته لهم، واستفاضته فيهم وإعذاره إليهم، فإنه يقول:
ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة وإن الله لسميع عليم ، ويقول:
ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى .
لأنس بن أبي شيخ
الحمد لله الذي بالقلوب معرفته، وبالعقول حجته، الذي بعث محمدا
صلى الله عليه وسلم
أمينا فوفى له، ومبلغا فأدى عنه فحج به المنكر، وتألف به المدبر، وثبت به المستبصر، إلى أن توفاه على منهاج طاعته، وشريعة دينه، ثم أورثكم عهده وخصكم بكلمة التقوى، وجعلكم الأمة الوسطى.
ولعبد الحميد في فتح يعظم فيه أمر الإسلام بمحمد
صلى الله عليه وسلم
أما بعد، فالحمد لله الذي اصطفى الإسلام دينا رضي شرائعه، وبين أحكامه ونور هداه، ثم كنفه بالعز المؤيد، وأيده بالظفر القاهر، وآزره بالسعادة المنتجبة، وجعل من قام به داعيا إليه من جنده الغالبين، وأنصاره المسلطين، كلما قهر بهم مناوئا أورثهم رباعتهم المأمولة، وأموالهم المثرية، ودارهم الفسيحة، ودولتهم المطولة، أمرا حتمه على نفسه؛ ثم جعل من عاندهم وابتغى غير سبيلهم مسلما قد استهوته ذلة الكفر بظلمها، وحيرة الجهالة بحوارها، وتيه الشقاء بمغاويه، وكلما ازدادوا لدعوة الحق إباء، ازداد الحق إليهم ازدلافا، وعليهم عكوفا، وفيهم إقامة، إلى أن يحل بهم عز الغلبة؛ ونجاة المتجاوز؛ راغبين فيما شوقهم إليه، محافظين على ما ندبهم له، قد بذلوا في طاعة الله دماءهم، وقبلوا المعرض عليهم في مبايعة ربهم لهم بأنفسهم الجنة. محمود صبرهم، مسهل بهم عزمهم، إلى خير الدنيا والآخرة.
والحمد لله الذي أكرم محمدا
صلى الله عليه وسلم
بما حفظ له من أمور أمته؛ أن اختار لمواريث نبوته ما أصار إلى أمير المؤمنين من تطويقه ما حمل بحسن نهوض به وشح عليه، ومنافسة فيه، أن فعل وفعل. والحمد لله الذي تمم وعده لرسوله وخليفته في أمة نبيه مسددا له فيما اعتزم عليه. والحمد لله المعز لدينه، المتولي نصر أمته بنبيه المتخلي ممن عاداهم وناوأهم، حمدا يزيد به من رضي شكره، وحمدا يعلو حمد الحامدين من أوليائه الذين تكاملت عليهم نعمه فلا توصف، وجلت أياديه فلا تحصى، الذي حملنا ما لا قوة بنا على شكره إلا بعونه، وبالله يستعين أمير المؤمنين على ذلك، وإليه يرغب، إنه على كل شيء قدير.
ولعبد الحميد أيضا
أما بعد، فالحمد لله الذي اصطفى الإسلام لنفسه، وارتضاه دينا لملائكته، وأهل طاعته من عباده، وجعله رحمة وكرامة ونجاة وسعادة لمن هدى به من خلقه، وأكرمهم وفضلهم وجعلهم بما أنعم عليهم منه أولياءه المقربين، وحزبه الغالبين، وجنده المنصورين، وتوكل لهم بالظهور والفلج، وقضى لهم بالعلو والتمكين، وجعل من خالفه وعزب عنه وابتغى سبيل غيره أعداءه الأقلين، وأولياء الشيطان الأخسرين، وأهل الضلالة الأسفلين، مع ما عليهم في دنياهم من الذل والصغار، وما عجل لهم فيها من الخذلان والانتقام، إلى ما أعد لهم في آخرتهم من الخزي والهوان المقيم، والعذاب الأليم، إنه عزيز ذو انتقام.
وفي ذكر الإسلام وأهله وما فضلهم الله تعالى به
أما بعد، فالحمد لله الذي عظم الإسلام تعظيما، وفضله تفضيلا، فلم يبق ملك مقرب، ولا نبي مرسل، ولا إمام لأهل حق مهتد إلا دان به، واتصل إلى ولاية الله بما هداه له منه، وليس في دين الله الذي ارتضى، وخيرته من أهل الإسلام الذين اصطفى، تغاشم ولا تظالم، ولا تحاسد، ولا تقاطع ولا تدابر، ولكنهم كما وصفهم الله عز وجل بالتبار والتراحم، والتواد والتناصف، قلوبهم متفقة، وأهواؤهم مؤتلفة، وأيديهم على أهل معصيته مبسوطة، أعوانا على الحق، وإخوانا في الدين، ألف الله بينهم، وجعل الإسلام نسبهم، فقال في كتابه:
محمد رسول الله والذين معه
إلى آخر الآية. فهذه صفة الله أهل دينه فيما بينهم، وكذلك كان أسلاف الحق قبلهم، في تواد وتبارهم، وتواصلهم وتعاونهم، وبذلك دان أهل السماء، فلم يختلفوا فيه، ولم يرغبوا عنه، ولم يحتذوا مثالا غيره، وبه يدين لله الباقون من خلقه، المتمسكون بحقه إلى يوم القيامة، سنة مسنونة، وشريعة متبوعة، لا يبتغون بها بدلا، ولا يريدون عنها حولا، فأهل طاعة الله أهل سلامة في دنياهم، وإخوان - كما قال الله عز وجل - في آخرتهم، لم تنقطع الولاية فيما بينهم، لانقطاع الدنيا عنهم، ولكن الله وصلها بالآخرة لهم، فجمعهم في داره وجواره، كما ألف في الدنيا بين قلوبهم، وعصم بالإسلام ألفتهم.
تحميد
الحمد لله المثيب على حمده وهو ابتداؤه، والمنعم بشكره وعليه جزاؤه، والمثني بالإيمان وهو عطاؤه.
ولقمامه
الحمد لله الذي أكرم الإسلام وفضله، وشرفه وعظمه، وأعلى منزلته، وجعل أهله القائمين به، والحامدين عليه، أولياءه وحزبه الذين قضى لهم بالتمكين، والظهور على الدين كله ولو كره المشركون.
ولزيد بن علي - رحمة الله عليه - خطبة
الحمد لله الواصل النعم بالشكر، والشكر بالمزيد، حمد من يعلم أن الحمد فريضة واجبة، وأن تركه خطيئة مهلكة، وأومن بالله إيمانا نفى إخلاصه الشرك، ويقينه الشك، وأتوكل عليه توكل الواثق به ثقة أهل الرجاء، ومفزع أهل التوكل.
تحميد في الإسلام
الحمد لله الذي اختار الإسلام دينا لنفسه، وأنبيائه ورسله، وشرفه وعظمه، وأناره، وأظهره، ونزهه وأعزه ومنعه، ولم يقبل غيره، ولم يجعل حسن الجزاء إلا لأهله، الذين كتب لمن أسعده بالوليجة فيه منهم الرضوان والمغفرة والرأفة، وعلى من خالفه وابتغى غير سبيله الحسرة والندامة، والذلة والصغار في الآخرة والأولى، والممات والمحيا، إذ يقول الله عز وجل:
ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين
والحمد لله الذي اجتبى محمدا
صلى الله عليه وسلم
بما اصطفاه من نبوته، واختاره له من رسالته، وحباه بفضيلته، واجتباه من أفضل عمائر العرب، وأشرفها منصبا، وأعرقها حسبا، وأكرمها نسبا، وأوراها زنادا، وأرفعها عمادا، فبعثه بالنور ساطعا، وبالحق صادعا، وبالهدى آمرا، وعن الكفر زاجرا، وعلى النبيين مهيمنا، وإلى سبيل ربه داعيا، وبالكتاب عاملا، فبلغ عن الله الرسالة، وهدى من الضلالة، وانتاش من الهلكة، وأنهج معالم الدين وأدى فرائضه، وبين شرائعه، وأوضح سننه، ونصح لأمته، وجاهد في سبيل الله حق جهاده حتى أتاه اليقين،
صلى الله عليه وسلم .
تحميد لأبي عبيد الله
الحمد لله الذي شرع لإظهار حقه وإنفاذ سابق قضائه فيمن ذرأ وبرأ من عباده، بإدخال من أراد أن يدخل في رحمته، وإنجاز ما حق له من العبادة على خلقه، بابتدائه خلقهم ، ومظاهرته الآلاء عليهم، وإحسانه البلاء عندهم، وإبلاغه في الحجج إلى عامتهم، دينا رضيه لنفسه وملائكته الذين أسكن سماواته ورسله، فأتمن على وجه من لم يرض إلا به، ولم يقبل إلا إياه، ثم كان ما أعز به نفسه، وأظهر به نوره، وأراد أن يبلو به عباده، تحقيقا لما سبق به علمه، وإنفاذا لما جرت به مقاديره، أن بعث لما شرع من دينه، واصطفى لتسبيحه وتقديسه من ملائكته المقربين، من ارتضى واختار من أنبيائه ورسله المجتبين، لتبليغ رسالته وإظهار حقه، واستشلاء
24
من أراد سعادته من خلقه بالرحمة التي اطلعت عليهم وعمتهم، ليعبد مخلصا له، محمودا بما استحمد به إلى خلقه، مشهودا له بما أشهد به من كلمة الحق، فكان منهم التبليغ لما أرسلوا به، والنصيحة لمن أرسلو إليه، غير مختلفين فيما بعثوا له، ولا متفرقين فيما استعملوا فيه، يدعوهم آخر إلى ما دعاهم إليه أول، فيصدق بذلك بعضهم بعضا، ويهدون إلى الحق وإلى طريق مستقيم، فمضت رسل الله وأنبياؤه على ذلك سالكين منهاج الحق وسبيله، والدعاء إلى الله عز وجل وإلى طاعته، هادين مهديين غير مبخوسين شيئا مما كانوا أهله في المنزلة عند الله، والقربة منه، والوسيلة إليه، هم ومن آمن بهم وعززهم، واتبع النور الذي أنزل معهم، حتى تقضت بهم الأعمار، وتقطعت بهم الآثار، وتخرمتهم الآجال.
وكذا لأبي عبيد الله
الحمد لله الذي جعل الإسلام رحمة قدمها لعباده قبل خلقه إياهم، واستيجابهم إياها منه، فاصطفاه لنفسه وشرعه لهم دينا يدينون به، ثم جعل تحديد وحيه ومتابعة رسله رحمة تلافاهم بها بعد تقديمها، ومنة ظاهرها عليهم قبل استيجابهم لها، تطولا على العباد بالنعماء، وإعذارا إليهم بالحجج، وتقدمة بالوعد، وإنذارا إليهم عواقب سخطه في المعاد.
والحمد لله الذي ابتعث محمدا
صلى الله عليه وسلم
بهداه وشرائع حقه على فترة من الرسل، وطموس من معالم الحق، ودروس من سبل الهدى، عند الوقت الذي بلغ في سابق علمه ومقاديره، أن يجتبي لدينه الأصفياء، ويختار له الأولياء، الظاهرين بحقه، القاهرين لمن ابتغى سبيلا غير سبيله، فعظم حرمته، ووسع حوزته، وصدع بأمره، وجاهد عن حقه في حومات الضلالة وظلمات الكفر، بالحق المبين؛ والسراج المنير، ثم جعله مصدقا لمن سبقه من الرسل ومجددا لما بعثوا له وهدى ورحمة؛ ثم جعل لدينه وظائف وظفها على أهله، وشرائع شرعها لهم لا يكمل دينهم إلا بها، وجعل أداءها إليه، واعتصامهم بها إماما لدينه، ونظاما لنوره، وقواما لحقه، واستيجابا لما وعد عليه من ثوابه، وأمنا لما أوعد من خالفه من عقابه؛ فليس يسع أهل الإيمان بالله الذين أكرمهم به وأجزل لهم فضله وأجره، وجعل لهم عزه وعلوه، واختار لهم الغلبة والعاقبة على من فارقهم فيه إلا معرفتها، وأداؤها بما يستكمل به حدودها، ومما لها من كذا وكذا.
إبراهيم بن المهدي: صدر رسالة له في الخميس
الحمد لله الذي اختار الإسلام دينا لنفسه، ورضي أن يعبده من في سمواته من الملائكة المقربين، ومن في أرضه من النبيين والمرسلين، ومن آمن بالنور الذي هداهم له من الثقلين، واختار لرسالته في سابق علمه، والذكر الحكيم عنده، محمدا
صلى الله عليه وسلم ، وأنزل عليه كتابه وجعل طاعته وطاعة نبيه
صلى الله عليه وسلم
موصولة بكذا فقال:
أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم .
تحميد
الحمد لله المتكبر في جبروته المتعزز بسلطانه، المتعالي في سمواته، المحتجب عن خلقه، فلا تدركه في الدنيا أبصار الناظرين، ولا تحيط به أوهام المتوهمين، ولا تبلغه صفات الواصفين، الذي لا يئوده عظيم، ولا يفوته مطلوب، ولا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، وهو السميع العليم.
تحميد آخر
الحمد لله الحكيم العدل، الذي فصل بين الحق والباطل، فنفذ قضاؤه في خلقه، وحكم فيهم فجرى حكمه على إرادته، يقضي بالنصر والتأييد، والعز والفلج، والتمكين للحق وأهله، وبالذل والوقم والخزي والصغار للباطل وأهله، وجعل ذلك من فضله وحكمه عادة جارية باقية، وسنة ماضية، لا راد فيما قضى منه لقضائه.
والحمد لله الذي اختص محمدا
صلى الله عليه وسلم
بكراماته، واصطنعه لرسالاته، وأنزل عليه كتابه العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، بما أحل وحرم، ورضي وسخط، وأمر به ونهى عنه، وجعله خاتم النبيين والمهيمن عليهم، وكتابه الذي أنزل، آخر الكتب المصدق بها النبي
صلى الله عليه وسلم .
تحميد في الإسلام وما امتن به على أهله من مبعث النبي
صلى الله عليه وسلم
وهو في صدر الجهاد
أما بعد، فإن لدين الله الذي ارتضاه لنفسه، ولمن اصطفاه من خلقه، واجتباه من عباده وجعله معلما بين الهدى والضلالة، وفرقانا بين الحق والباطل، وحاجزا بين الكفر والإيمان، وظائف وظفها على أهلها، وشرائع شرعها لهم؛ فجعل أداءها إليه ومعرفتها له، ومحافظتهم عليها، واعتصامهم بها قواما لدينه، ونظاما لنوره وثباتا لحقه، واستيجابا لما وعد من ثوابه، وأمنا لما أوعد من عقابه؛ فليس يسع أهل الإيمان بالله والإقامة على حقه من المسلمين الذين سماهم المسلمين بالإسلام، وأحرز لهم فضله وعزه، وأصار لهم الغلبة على من خالفهم وفارقهم بما ركنوا إليه من الصدود عن سبيله، والتكذيب بكتبه ورسله، ودلتهم فيه قرباؤهم، وقادتهم إليه أهواؤهم، من الملل الضالة، والأديان المجموعة، التي لم ينزل بها من الله سلطان، ولا كتاب ولا برهان، إلا معرفتها وأداؤها بما يستكمل من حدودها ومعالمها.
تحميد في الجهاد وما بعث به النبي
صلى الله عليه وسلم
أما بعد، فإن الله خلق الخلائق بقدرته، وقدر الأمور بعلمه، وأنفذ على ما مضى من مشيئته، من غير أن يكون له ظهير في ملكه، أو معين على ما يرى من عجائب خلقه، واحتذاء منه على سابق من صنعة غيره، فوحد نفسه بما تفرد به دون غيره من خلقه، ليعبد مخلصا مبرأ من الأنداد، إتماما لنوره، وتعزيزا لتوحيده، وتأييدا لدينه، وإعلاء لمن اعتصم به، وإقلالا لمن خالفه وعند عنه وعبد غيره، وإحقاقا لكلمته، فإنه يقول:
كذلك حقت كلمة ربك
الآية؛ بذلك أنزل كتبه، وأرسل رسله، واحتج بهم وبما أنزل إليهم على من مضى من القرون السالفة، والأمم الخالية، يدعو آخرهم إلى ما سبق إليه أولهم، من عبادته وتوحيده، لا يستوحشون من قلة، ولا يؤتون من كثرة؛ يعزهم الله بقوته، ويؤيدهم بجنده، وينصرهم وينصر بهم إلى أن بعث الله محمدا
صلى الله عليه وسلم
بما خصهم به، وجعله مصدقا لهم، ومهيمنا عليهم، وخاتم النبيين بعدهم؛ يمضي لأمر الله، ويجاهد من لم يجبه إلى الدخول في دين الله، فأظهره الله وأنار حقه، وأرهق عدوه، وأنجز له ما وعده وأتم بذلك النعمة عليه وعلى من اتبعه، فإنه يقول:
هو الذي أرسل رسوله بالهدى .
تحميد في فتح
الحمد لله الفتاح العليم، الرحمن الرحيم، العزيز الحكيم، الذي أعز الإسلام بقدرته، وأيده بنصره؛ فلم يلحد فيه ملحد، ويسع في تشتيت الكلمة وشق العصا ساع، ويوضع في الكفر والمعصية موضع، ويمتنع من قضائه وإرادته ممتنع إلا أذله الله وقصمه، وأضرع خده، وأتعس جده، وضلل سعيه، وعجل بواره واستئصاله؛ حمدا دائما لا انقطاع له، ولا نفاد لمدته.
تحميد ثان
والحمد لله الذي اختار الإسلام وشرفه، وكرمه وطهره، وأظهره وأعزه، وفطر عليه ملائكته، وبعث به أنبياءه ورسله، واختار له خيرته من خلقه محمدا
صلى الله عليه وسلم ، فبعثه برسالته، وأكرمه بوحيه، واصطفاه على خلقه؛ يبشر بالجنة من أطاعه، وينذر بالنار من عصاه؛ وجعله دينه القيم الذي لا يقبل دينا غيره ولا يثيب أحدا إلا عليه.
تحميد في فتح
الحمد لله العزيز في ملكوته، القاهر فوق بريته، الذي خلق الخلق بقدرته، وأنفذ فيهم إرادته ومشيئته، وقدر كل شيء وأتقنه وأحكمه، وأحاط علما به؛ فلا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين .
صدر تحميد في فتح
الحمد لله الذي ابتدع الخلق لا من شيء، وجعل الليل والنهار كهفا ومستجنا لكل حي؛ بقدرته تبحرت البحار، وجرت لمواقيتها الأنهار؛ فدار وتطارد الليل والنهار، لا إله إلا هو رب العرش العظيم.
والحمد لله الذي فات بعظمته أبصار المرتئين، وعلا بمجده عن خطرات الحاسبين، واحتجب بأستار جبروته عن مواقع فكر المحصلين المتعمقين؛ فلم تحوه الكمية، ولم يقع عليه أدوات التحصيل والكيفية، ولا أدركه هاجس تبعيض ولا كلية، ولم ينسب إلى زيادة في حين، ولا إلى تقصير في شهور ولا سنين، فكل أمره - عز جلاله - تمام ودوام، وكل صفات صنعه اعتدال وكمال؛ وكل ما دونه يحتكم فيه الفناء والزوال، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير.
والحمد لله الذي عرفنا ربوبيته إلهاما، ونهج لنا سبل طاعته منا وإكراما، وتعبدنا بفرضه تقويما وتعليما وامتنانا؛ فقامت علينا وعلى الخلق حجته، بالصادع بأمره، والمبلغ لرسالته، والمجاهد فيه حق جهاده، محمد
صلى الله عليه وسلم . والحمد لله الذي أعز دينه، وأظهر تمكينه، ونصر وليه، وخذل عدوه، وأوقع بأسه ونقمته بمحل الفرية، وجرثومة الضلالة، ومناخ الشرك، ومركز الكفر؛ بعد طول الإملاء، والاعتداء في سفك الدماء، والمثلة بالأسرى، وقلة المراقبة والارعواء.
تحميد
الحمد لله حمدا يكون رضاه منتهاه، والمزيد من فضله جزاءه، والحمد لله حمدا إليه يتناهى حمد الحامدين، وشكر الشاكرين. والحمد لله الذي لا تحصى نعماؤه، ولا تجزى آلاؤه، ولا يكافأ بلاؤه، ولا يبلغ شكره إلا بمنه وتوفيقه؛ حمدا يرضاه ويتقبله، ويزكو لديه، ويوجب ما تأذن للشاكرين من يده.
تحميد على فتح
أما بعد، فالحمد لله الواحد القهار، العزيز الجبار، ذي المن والإنعام، والجلال والإكرام؛ الذي اصطفى الإسلام دينا، واصطفى له من عباده أهلا هداهم له، وأكرمهم به وبين لهم ما يأتون، ولم يتركهم في ريب من أمرهم، ولا شبهة من دينهم؛ فله الحجة البالغة ليهلك من هلك عن بينة، ويحيا من حي عن بينة، وإن الله لسميع عليم.
والحمد لله الذي ختم بمحمد
صلى الله عليه وسلم
النبوة، وانتجبه لتبليغ الرسالة، وبعثه إلى خلقه كافة، فبلغ رسالته، وصدع بأمره، وقام فيما بعثه له بحقه، ثم أنجز له وعده، وأتم له كلمته، وأظهر دين الإسلام به على الدين كله ولو كره المشركون.
تحميد في فتح
أما بعد، فالحمد لله الأول الآخر، الظاهر الباطن، الولي الحميد، القوي العزيز؛ الذي لا يقدر العباد قدره، ولا يحصون نعمه، ولا يبلغون شكره؛ المحيط بكل شيء علما، والمحصي كل شيء عددا؛ فلا يعجزه كبير، ولا يعزب عنه صغير، والأرض جميعا قبضته يوم القيامة، والسموات مطويات بيمينه، سبحانه وتعالى عما يشركون.
تحميد
الحمد لله المتوحد بالخلق والأمر، قادرا قاهرا أحاط بكل شيء علما، وأحصى كل شيء عددا، وملأه عظمة، ووسعه عدلا، وأتقنه صنعا. والحمد لله الذي أعز بالحق من أطاعه، وأذل بالباطل من عصاه، وجعل الطاعة والجماعة حرزا حريزا، وموئلا منيفا؛ فلم يجمع بين أهل كفر وإيمان، وطاعة وعصيان، إلا توحد بالصنع لأهل طاعته، وأنجح سعيهم، وأعلى كلمتهم، وأفلج حجتهم، وأنزل بأهل الكفر المعاندين عنه، الرادين لأمره الذلة والصغار في عاجلهم وآجلهم؛ حمدا يكون لمزيده موجبا، ولحقه مؤديا.
تحميد في فتح لسعيد بن حميد عن وصيف
أما بعد، فالحمد لله الحميد المجيد، الفعال لما يريد؛ الذي خلق الخلق بقدرته، وأمضاه على مشيئته، ودبره بعلمه، وأظهر فيه آثار حكمته التي تدعو العقول إلى معرفته، وتشهد لذوي الألباب بربوبيته، وتدل على وحدانيته؛ لم يكن له شريك في ملكه فينازعه، ولا معين على ما خلق فتلزمه الحاجة إليه؛ فليس يتصرف عباده في حال إلا كانت دليلا عليه، ولا تقع الأبصار على شيء إلا كان شاهدا له، بما رسم فيه من آثار صنعه، وأبان فيه من دلائل تدبيره، إعذارا بحجته، وتطولا بنعمته، وهداية إلى حقه، وإرشادا إلى سبيل طاعته، وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده، وهو أهون عليه؛ وله المثل الأعلى في السموات والأرض، وهو العزيز الحكيم.
والحمد لله العزيز القهار، الملك الجبار، الذي اصطفى الإسلام واختاره، وارتضاه وطهره، وأعلاه وأظهره؛ فجعله حجة أهله على من شاقهم، ووسيلتهم إلى النصر على [من] عند في حقهم، وابتغى غير سبيلهم؛ وبعث به رسله يدعون إلى حقه، ويهدون إلى سبيله، بالآيات التي يبينون بها عن المخلوقين، ويوجبون بها الحجة على المخالفين؛ حتى انتهت كرامة الله إلى خاتم أنبيائه، وحامل كتابه، ومفتاح رحمته
صلى الله عليه وسلم ؛ على حين فترة من الرسل، واختلاف من الملل، ودثور من أعلام الحق، واستعلاء من الباطل؛ والناس عاندون عن سبيل ربهم، يتسافكون دماءهم، ويحلون ما حرم الله عليهم، ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم؛ وأيده بالبرهان الواضح، والحجج القواطع، والآيات الشواهد؛ وأنزل عليه كتابه العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد؛ وجعل فيه أوضح الدليل على رسالته، وأعدل الشواهد على نبوته؛ إذ عجز المخلوقون عن أن يأتوا بمثله على مر الأيام، وكثرة الأعداء والمنازعين؛ يتحداهم به في المواسم، ويقصدهم بحجته في المحافل؛ ولا يزدادون عنه إلا حسورا وعجزا، ولا تزداد حجة الله عليهم إلا تظاهرا وعلوا؛ ثم أيده بالنصر بأنصار ألف بينهم بطاعته، وجمعهم على حقه، ولم شعثهم بنصرة دينه، بعد الشقاق المتصل بينهم، والحرب المفرقة لجماعتهم؛ كما قال عز وجل:
هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين . وقدم إليه وعده بالنصرة والتمكين؛ فجعله بشرى للمؤمنين، وحجة على الكافرين، ودليلا على ما بعثه به من الدين؛ فهزم بالقليل من عددهم الكثير من عدد أعدائهم، وغلب بضعفائهم أهل القوة ممن ناوأهم؛ ففل به حدهم، وفض جموعهم، وافتتح حصونهم، وحريز معاقلهم؛ وأظهر بحجته ونصره عليهم، وأنجز سابق وعده لهم وفيهم، والله لا يخلف الميعاد.
تحميد لابن المقفع
الحمد لله ذي العظمة القاهرة، والآلاء الظاهرة؛ الذي لا يعجزه شيء ولا يمتنع منه، ولا يدفع قضاؤه ولا أمره؛
إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون . والحمد لله الذي خلق الخلق بعلمه، ودبر الأمور بحكمه، وأنفذ فيما اختار واصطفى منها عزمه؛ بقدرة منه عليها، وملكة منه لها، لا معقب لحكمه، ولا شريك له في شيء من الأمور، يخلق ما يشاء ويختار؛ ما كان للناس الخيرة في شيء من أمورهم، سبحان الله وتعالى عما يشركون.
والحمد لله الذي جعل صفوة ما اختار من الأمور دينه الذي ارتضى لنفسه ولمن أراد كرامته من عباده، فقام به ملائكته المقربون، يعظمون جلاله، ويقدسون أسماءه، ويذكرون آلاءه، لا يستحسرون عن عبادته ولا يستكبرون، يسبحون الليل والنهار لا يفترون؛ وقام به من اختار من أنبيائه وخلفائه وأوليائه في أرضه، يطيعون أمره، ويذبون عن محارمه، ويصدقون بوعده، ويوفون بعهده، ويأخذون بحقه، ويجاهدون عدوه ؛ وكان لهم عند ما وعدهم من تصديقه قولهم وإفلاجه حجتهم، وإعزازه دينهم، وإظهاره حقهم، وتمكينه لهم؛ وكان لعدوه وعدوهم عند ما أوعدهم من خزيه، وإحلاله بأسهم، وانتقامه منهم، وغضبه عليهم، مضى على ذلك أمره، ونفذ فيه قضاؤه فيما مضى، وهو ممضيه ومنفذه على ذلك فيما بقي، ليتم نوره ولو كره الكافرون؛ وليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون.
والحمد لله الذي لا يقضي في الأمور ولا يدبرها غيره، ابتدأها بعلمه؛ وأمضاها بقدرته، وهو وليها ومنتهاها، وولي الخيرة فيها، والإمضاء لما أحب أن يمضي منها، يخلق ما يشاء ويختار، ما كان لهم الخيرة سبحان الله وتعالى عما يشركون.
والحمد لله الفتاح العليم، العزيز الحكيم، ذي المن والطول، والقدرة والحول، الذي لا ممسك لما فتح لأوليائه من رحمته، ولا دافع لما أنزل بأعدائه من نقمته، ولا راد لأمره في ذلك وقضائه، يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد.
والحمد لله المثيب بحمده ومنه ابتداؤه، والمنعم بشكره وعليه جزاؤه، والمثني بالإيمان وهو عطاؤه.
لآخر
الحمد لله الذي يتطول بالنعم مبتدئا، ويعطي الخير من يشاء ويثيب عليه.
تحميد لغسان بن عبد الحميد
كاتب جعفر بن سليمان في المطر:
الحمد لله الذي نشر رحمته في بلاده، وبسط سعته على عباده، الذي لا يزال العباد منه في رزق يقتسمونه، وفضل ينتظرونه، لا ينقضه ما قبله، ولا ينقضي ما بعده.
لأحمد بن يوسف في فتح السند
الحمد لله ولي الحمد، وأهل الثناء والمجد، خالق الخلق، ومدبر الأمر؛ المسبغ على عباده، والموجب عليهم حجته؛ فليسوا يرجون إلا سعة فضله، ولا يحذرون إلا ما اجترحوا من معصيته؛ لما سبق من جزيل إحسانه، وتظاهر من امتنانه، وتقدم به الإعذار والإنذار اللذان لا يستخف بما عظم منهما إلا من استحوذ عليه الشيطان، واستولى عليه الخذلان، وقاده الحين إلى موارد الهلكة.
التحميد الثاني
الحمد لله الذي اصطفى الإسلام دينا فطهره وأسناه، وأظهره وأعلاه؛ وزينه بكل حسنة، ونفى عنه كل سيئة، وجعله إلى مذخور كرامته سببا وأصلا، وسبيلا ونهجا، وبعث به محمدا
صلى الله عليه وسلم
ليهدي من كان حيا، ويحق القول على الكافرين.
تقريظه في الخليفة
الحمد لله الذي اصطفى أمير المؤمنين لخلافته، وتلافى الأمة بسلطانه، فجعله القائم فيهم بقسطه، والمستفرغ في التماس مصلحتهم همه.
لأحمد بن يوسف
عن ذي الرياستين إلى إبراهيم بن إسماعيل بن داود صدر فتح:
أما بعد، فالحمد لله الذي حفظ من دينه ما ضيع الملحدون، ورأب منه ما [فرقته]
25
الصدعة؛ وأعاد من حبله ما حاولوا نقضه، حتى أعاد لعباده أحسن ألفتهم، ورد إليهم أجمل عودهم، من الاستشلاء بعد التردي في قحم المعاطب، والاستنقاذ بعد التوريط في المهالك؛ وبلغ خليفته القائم بحقه، المؤتم بكتابه، الذائد عن حريم الدين، وميراث النبيين، أجزل ما بلغ للخلفاء الراشدين المهديين، من إعلاء الكلمة، وغلبة الأعداء، والفوز بالعاقبة التي وعدها المتقين؛ وفرغه لما أشعر قلبه، وشرح له صدره، من إمضاء حكم الفرائض الموجبة، واقتفاء السنن الهادية، حيث سلك به من المناهج؛ حمدا يوازي نعمه، ويبلغ أداء شكره، ويوجب مزيده.
والحمد لله على ما خصنا به من إعلاء الدرجة، وإسناء الرتبة، في مشايعة أمير المؤمنين - أيده الله - والمجاهدة عن حقه، والوفاء لله بما عقده له؛ لا نريد بما كان منا إلا وجهه، ولا نسعى فيه إلا لرضاه؛ حمدا لا يحصى عدده، ولا ينقطع أمده.
تحميد لأبي عبيد الله
أما بعد، فالحمد لله ذي الآلاء والقدرة، والطول والعزة؛ الذي اصطفى الإسلام دينا لنفسه، وملائكته وأنبيائه ومن كرم عليه من خلقه؛ فبعث به محمدا
صلى الله عليه وسلم
اختصاصا له في ذلك بكراماته، واصطفاء له به على عباده؛ فأعزه ومنعه، وكفاه وحاطه، وتوكل لأهله بالعلم والتمكين، والظهور والتأييد؛ فلم يلحد فيه ملحد، ولم يزغ عن قبول حقه زائغ، بعد إعذار الله إليه، وإعادة الحجة لله عليه، إلا أنزل به من الذل والصغار والاجتياح والاستئصال ما يجعل له فيه قمعا؛ حمدا كثيرا دائما مرضيا له، مؤمنا من غيره، موجبا لأفضل مزيد ثوابه.
تحميد لسعيد بن حميد في فتح
أما بعد، فالحمد لله المنعم، فلا يبلغ أحد شكر نعمته ، والقادر فلا يعارض في قدرته، والعزيز فلا يغالب في أمره، والحكم العدل فلا يرد حكمه، والناصر فلا يكون نصره إلا للحق وأهله، والمالك لكل شيء فلا يخرج أحد عن سلطانه، والهادي إلى سبيل رحمته فلا يضل من انقاد لطاعته، والمقدم إعذاره ليظاهر به حجته؛ الذي جعل دينه لعباده رحمة، وخلافته عصمة، وطاعة خلفائه فرضا واجبا على كافة الأمم؛ فهم المستحفظون في أرضه على ما بعث به رسله، وأمناؤه على خلقه فيما دعاهم إليه من دينه، والحاملون لهم على مناهج حقه، لئلا تشعب بهم الطرق المخالفة لسبيله، والهادون لهم إلى صراطه ليجمعهم على الجادة التي ندب إليها عباده؛ بهم حمي الدين من البغاة الطاغين، وحفظت معالم الحق من الغواة المخالفين، محتجين على الأمم بكتاب الله عز وجل الذي استعملهم به، ورعاة للأمر بحق الله الذي اختارهم له؛ إن جادلوا كانت حجة الله معهم، وإن حاربوا فالنصر لهم، وإن جاهدوا كان في طاعة الله نصرهم، وإن بغاهم عدو كانت نكاية الله حائلة دونهم، ومعقلا لهم، وإن كادهم كائد فالله في عونهم؛ نصبهم الله لإعزاز دينه، فمن عاداهم فإنما عادى الذين عز بهم وحرس بهم حقه، ومن ناوأهم فإنما طعن على الحق الذي تكلؤه حراستهم، جيوشهم بالرعب منصورة، وكتائبهم بسلطان الله من عدوهم محوطة، وأيديهم بذبها عن دين الله عالية، وأشياعهم بتناصرهم غالبة، وأحزاب أعدائهم ببغيهم مقموعة، وحجتهم عند الله وخلقه داحضة، ووسائلهم إلى النصر مردودة، وأحكام الله بخذلانهم واقعة، وأقداره بإسلامهم إلى أوليائه جارية، وعادته فيهم وفي الأمم السالفة والقرون الخالية ماضية، ليكون أهل الحق على ثقة من إنجاز سابق الوعد، وأعداؤه محجوجين بما قدم إليهم من الإنذار، معجلة لهم نقمة الله بأيدي أوليائه، معدا لهم العذاب عند ردهم إليه خزيا موصولا بنواصيهم في دنياهم؛ وعذاب الآخرة من ورائهم، وما الله بظلام للعبيد. وصلى الله على محمد أمينه المصطفى، ورسوله المرتضى، والمنقذ من الضلالة والعمى، صلاة نامية بركاتها، دائما اتصالها، وسلم تسليما.
والحمد لله تواضعا لعظمته، والحمد لله إقرارا بربوبيته، والحمد لله اعترافا بقصور أقصى منازل الشكر عن أدنى منزلة من منازل كرامته.
فيما يقرظ به الخليفة
والحمد لله الذي حاز لأمير المؤمنين وراثته، وساق إليه خلافته، بالحاجة منها إليه، والرغبة منه عنها، واستخلص من خلقه من جعله ظهيرا للحوادث، وعدة للنوازل؛ فلما أفضت الخلافة إليه حسر أمامه أحاجلته،
26
وكشف قناعه لمحاربته؛ فالحمد لله الذي اختص أمير المؤمنين بخلافته، وارتضاه لولاية أمر أمة نبيه محمد
صلى الله عليه وسلم ، والقيام بحقه، والذب عن حرماته؛ وحاط له ما استرعاه من ذلك، وقلده بحسن الولاية والكفاية، وتوكل له بالحفظ والتأييد، والنصر والغلبة والظهور على من عند عن طاعته، وصدف عن حقه، وابتغى غير سبيله؛ كرامة من الله تطول بها عليه، ومنة منه توحد بها له.
والحمد لله الذي جعل نية أمير المؤمنين عزيمته، وفكره ورويته، منذ أفضى الله بالخلافة إليه، وجعله القائم بإرث نبيه محمد
صلى الله عليه وسلم ، واستحفظه من عباده وبلاده فيما فيه عز الدين، ونظام أمر المسلمين وترهين الشكر، وإذلال الأعداء، وإشجاؤهم ووقمهم، وتحصين البيضة، وإشحان الثغور، ولم المنتشر، وضم الأطراف؛ لا يفثأه عن ذلك فاثئ، ولا يذهله عن تفقد كبير أمره وصغيره ومقابلته ذاهل؛ يستقل كثير ما ينفق من الأموال في سد الثغور، وتحصينها وحراستها، لما يرجو فيه من جسيم الحظ، وجزيل الذخر، وكثير الأجر؛ تقربا إلى الله واحتسابا له في جنب ثوابه، وكريم مآبه؛ حتى رأب به الصدع، ورتق به الفتق، وأمن به السبل، وأقام به العوج، وأفلج به الحجج، وأعلى به الدرج، وأزهق به الباطل، وأحيا به الحق، وأشام به سيوف أهل الضلالة والفتنة؛ لا تأخذه في القيام بحق الله والانتصار لدينه، والانتصاح لأمة نبيه محمد
صلى الله عليه وسلم ، والذب عن حوزتهم، والرمي من ورائهم، ودفع بائقة أهل الشقاق والنفاق والخلاف والمعصية عنهم فترة ولا سآمة؛ توفيقا من الله، وتسديدا لحرمته، وتأييدا لعزمه، إذ كان لله شاكرا، ولدينه ناصرا، وبحقه قائما؛ وما توفيق أمير المؤمنين إلا بالله وحده، عليه يتوكل وعليه يتوكل المتوكلون.
والحمد لله الذي لم يزل منذ أفضى إلى أمير المؤمنين بخلافته، وحياه بكرامته، يختصه بالخيرة في كل ما أمضى من أمره، ويتولاه بالتوفيق في كل ما أبرم من تدبيره، ويحمل عنه أعباء ما حمله، ويعينه بتأييده على ما قلده، ويحوطه بجميل الصنع فيما ولاه واستحفظه، ويلهمه جهاد عدوه، ويحبوه بنصره؛ حمدا قاضيا لحق نعمته، موجبا أفضل مزيده.
والحمد لله الذي أورث أمير المؤمنين مواريث نبوته، وصير إليه مقاليد خلافته، وأوجب ذلك له بالقرابة برسوله
صلى الله عليه وسلم ، والوراثة لوراثته من عصبته وأولى الناس به؛ ثم أعز نصره، وأعلى كلمته، وأفلج حجته، وأظهر على المشركين والمنافقين، ومن حاده وعانده من الناكثين والمارقين، والباغين والملحدين، فأتعس جدودهم وفعل وفعل.
والحمد لله الذي عرف أمير المؤمنين منذ استخلفه في أرضه، وائتمنه على خلقه، من عظيم نعمه، ولطيف صنعه، وجميل بلائه، واعزاز نصره، وإعلاء يده وكلمته، وإفلاج حجته على من ضاده وحاده، إن الله بعظيم طوله ومنه ارتضى أمير المؤمنين لدينه، واصطنعه لخلافته؛ فملاه سربالها، ورداه بهاءها وجمالها، فاستعمله بالكتاب والسنة والحق والعدل فيها؛ فأيده بقوته، وأعزه بنصره، وحاطه بكفايته، وتولى الصنع له في جميع أموره؛ فلم يكده كائد، ويعانده معاند، ويمرق عن طاعته الواجبة مارق، ويلحد في إمامته ملحد، ممن يعالن بمعصية وشقاق، أو ينطوي على غل ونفاق، إلا أوهن الله كيده، وأتعس جده، وعاجل المبادئ بعداوته، الشاهر على الدين والمسلمين سيفه، باصطلام وبوار، وأمكن منه بذلة وصغار، وقتل المسر غيره، المنطوي على غله بغيظه وغمه، وأماته بدائه وحسرته؛ إنجازا منه جل ثناؤه لوعده ، وإتماما لكلمته فيما وعد الذين آمنوا وعملوا الصالحات من استخلافهم في أرضه، والتمكين في دينه؛ وله الحمد دائما، والشكر خالصا، كما هو أهله، وكما ينبغي أن يحمد ويشكر، لا إله إلا هو الواحد القهار.
والحمد لله الذي لم يبق لأمير المؤمنين عدوا من الناكثين والجاحدين، والمشركين والمنافقين، حاول نقضا لإمامته التي صيرها الله إليه، وقلده إياها؛ أو صاول جيشا من جيوشه التي أعدها للمحاماة عن دين الله ومحارمه، وإقامة سننه ومعالمه، إلا أحل به النقمة، وأصاره إلى الصغار والذلة، والبوار والهلكة، وعجله إلى ناره وعذابه.
والحمد لله الذي لم يزل يتولى أمير المؤمنين بحياطته، ويتوحد له من إعزاز نصره وإعلاء كلمته، وإفلاج حجته، وتأييد أوليائه وأنصار حقه؛ وأنزل البأس والنقمة والمثلات والسطوة بمن عانده، والذب عن حريم المسلمين وأهله؛ بما يبين به عن مكانه منه، ومنزلته عنده؛ حميدا ربنا بذلك كما هو أهله ومستحقه، مشكورا بعظيم منه فيه وطوله، مسئولا لتمام أحسن عائدته وماضي سنته؛ فإن الله المحمود على نعمه، المشكور بآلائه، لم يزل ما يتوحد به لأمير المؤمنين بسلطانه من التعزيز، وفي أوليائه من التأييد بنصره، عادة يتبين بها برهانه، ويفلج بها حجته، ويدل بها على كرامته عليه، ويخبر بها عن منزلته عنده؛ ويجعل ما نزل بأعدائه المتولين عنه، الراغبين إلى غيره، الملحدين في حقه، عظة لمن قسا قلبه، وران عليه سوء عمله، ليكون ما يعطيه من البسط في ملكه، والتمهيد فيما خوله له، ويوفقه من السطوة بعدوه، والتنكيل بمن خالفه، حجتين متظاهرتين، وعبرتين ىعىىن؛
27
فيعتصم معتصم، وينجو ناج، وليشجب [شاجب]
28
ويهلك هالك، وقد مضت من الله المشيئة، ووضح منه الإعذار، وكان الله بعباده عليما، وبأعمالهم خبيرا.
والحمد لله الذي أكرم أمير المؤمنين بخلافته، وجعله وارث وحيه، وقيمه بكتابه في عباده، وأكرم هذه الأمة التي جعلها خير أمة أخرجت للناس به؛ فهو الميمون في تدبيره المنجح حويله، الميمون النقيبة، الموفق الرأي والسياسة؛ فإن الله عز وجل خلق الخلائق بقدرته، واختارهم بعلمه، فاختار أمير المؤمنين لخلافته، واصطنعه للقيام في العباد والبلاد بأمره وقسطه، وألهمه إقامة أحكامه وفرائضه، والعمل بحقه وعدله، وأبلى أهل الشرك به، وأخرها إلى أيام دولته، وحظرها عمن كان قبله؛ حتى حاز له أجرها، وأبقى له سناءها وذكرها، ونشر عنه أحدوثتها وسماعها؛ وفتح عليه البلدان القاصية، والمدائن المتنائية، التي لم تكن ترام من أهلها، ولا يطمع في زوالها؛ وذلت له الملوك القديم عتوها وعنادها، والأمم المستصعب مراسها وجهادها، الحامية في آباد الدهور حماها؛ فأنفذ فيهم مكيدته، وأنجح سعيه، ورماهم بالتخويف ، وملأ قلوبهم رعبا منه؛ فأذعن مذعنوهم بطاعته، وانقادوا لأمره، وصاروا يدا وأعوانا لأوليائه على أعدائه.
أما بعد، فإن أعظم النعم قدرا، وأجلها أمرا، وأسرها موقعا، وأوجبها شكرا، ما عم الإسلام والمسلمين نفعها، وعادت عليهم عائدتها، وجعل الله فيها عز الدين، وذل المشركين؛ وقد جعل الله ذلك في خلافة أمير المؤمنين أطال الله بقاءه بيمنه وبركاته، وما أخلص الله من نيته وطاعته، وتأدية حقه فيما استحفظه من أمر دينه وعباده، وفرغ له نفسه، وأنصب فيه بدنه، وأسهر فيه ليله، من حياطة حريم الإسلام، والزيادة في حدودها متصلا متتابعا، والنعم متظاهرة ومتوافرة، فسهل الصعب، وذلل له العزيز، وقصم عتاة الأعداء ومتكبريهم، والمستعصين والمستصعبين منهم، في آباد الدهور على من رامهم، وفتح عليهم حصون مدائنهم؛ وممتنع قلاعهم، وأنفذ مكيدته فيهم؛ فبين مقتول ومأسور، وشريد طريد عن محلته، وموضع عزه ومنعته، مستسلم معط قياده باخع بطاعته؛ وكذا فإن الله بمنه وطوله قد أوصل لأمير المؤمنين من صنعه له فيما قلده من خلافته، وحياطته إياها فيما يحوطه من دينه، وعرفه من كفايته فيما قام به من حقه، وأيده من نصره فيما جاهد عنه في سبيله، ما قد جعل النعمة به عامة، والشكر به لازما، والمنة به واجبة، والصنع عظيما؛ فالحمد لله على نعمه في ذلك كثيرا.
والحمد لله الذي جعل اجتهاد أمير المؤمنين ومقام أمره وتدبيره، في آناء الليل ونهاره، فيما فيه صلاح عباده، وإعزاز دينه وإقامة حقه.
تحميد
الحمد لله الذي لما افترض من الطاعة لولاة الأمر من خلفائه جعل أوائلها ناطقة عن فضل أواخرها، وبوادئها مخبرة عن حميد عواقبها، ومواردها مبشرة بالعلو في مصادرها، بما يعقبه أهلها من السعادة في الماضين من أوليائها القائمين بحقها؛ وعاد من الشقوة على مقارفي المعصية الملحدين إليها؛ حين أقبلت بهم هوادي الفتن، وكشفت لهم تواليها عن البوار والهلكة؛ معتذرين حين لا عذر ولا حجة، طالبين للمهارب بعد أن كانت منازل السلامة بهم مطمئنة، وخائفين وقد كانت سبل الأمن لهم واضحة؛ قد جعلتهم النقمة الواقعة بهم أمثالا سائرة ، وفرقت بينهم وبين النعم الشاملة، وحصلت السعادة لمن اتعظ بهم باقية، سنة من الله فيهم ماضية، وعادة جارية، ولن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا.
والحمد لله الذي اختار أمير المؤمنين لخلافته فحرس به دينه من البغاة الناكلين عنه، واختصه بإعلاء رتب كرامته، وافترض طاعته على عباده، وجعلها بمواقعها في دينه نظاما لسائر فرائضه، فتاركها مفارق لعصمة حقه، خارج من جملة الأمة التي سبقت لها رحمته؛ يستنصر أشياع الباطل والله خاذله، ويغالب الحق والله غالبه، ويطلب ما لا سبيل له إليه والله طالبه؛ حتى يخلجه أجله عن أمله، وأقدار الله فيه عن تقديره، ونفوذ قضاء الله فيه عن نفوذ حيله؛ فضلا من الله على أوليائه وقضاء منه عدلا في أعدائه، والله ذو الفضل العظيم.
والحمد لله الذي اختار أمير المؤمنين لرعاية عباده، وحفظ بلاده، وتنفيذ أحكامه، وإقامة حدوده؛ فجمع به الألفة، وكف به بوائق الفتنة، وأصلح به أمور الأمة، وسكن به الدهماء، ودفع به عظيم البلاء، وأنقذ به من الجهد واللأواء؛ وجدد لرعيته العبر الشافية، والعظة الناهية، وجعل همه السعي لربه، وطلب الحق الذي أوجبه له من خلافته، ليؤدي فرضه في الأمانة التي حملها؛ فيوجب له بذلك ما لا يزول ولا ينقطع من ثوابه، فأعمل رأيه في الرأفة بمن ولاه أمره، والحياطة له، والعناية بصلاحهم؛ فأعطاه لين الموعظة في وقت التأني، والنفوذ لإقامة الحجة والبينة، وشدة السطوة على من غمط النعمة وعند به الإصرار عن النزوع والفيئة؛ منا من الله وتفضلا، وإحسانا وتطولا، والله ذو فضل عظيم.
ويسأل الله أمير المؤمنين مبتدئا ومعقبا، وأولا وآخرا، وقبل كل مسألة، وأمام كل رغبة، ومقدمة كل طلبة؛ أن يصلي على صفوته من عباده، وخيرته وخاتم أنبيائه ورسله، محمد عبده ورسوله، أفضل صلواته، ويبارك أكثر بركاته، وأن يديم له كرامته، ويجري عنده أجمل عاداته، ويتمم له ما اختص به من إحسانه؛ حتى يملأ الأرض عدلا وقسطا، والإسلام تأييدا وعزا، والشرك ذلا وقمعا؛ إنه ولي كل نعمة، ومنتهى كل رغبة، وغاية كل حاجة.
ولم يزل أمير المؤمنين منذ الوقت الذي أفضى الله إليه بخلافته، وأكرمه برد حقه من إرث نبوته، يتلقى عظيم النعمة في ذلك بالإخلاص للنية والطوية في الصفح عن كل زلة، والإقالة لكل عثرة، والتعمد للهفوة وقبول الفيئة، والإنابة ممن عظم جرمه، وجل ذنبه، وظن أن لا توبة له؛ وكلما جدد الله له نعمة، جدد له في ذلك نية حسنة، شكرا لله عز وجل على ما ابتدأه به، وارتهانا لنعمه عنده، واستزادة من جميل مواهبه، وتقديم الاهتمام بما فيه صلاح رعيته، واستقامة أمورها، وحياطتها والذب عنها، وكف الأذى والمكروه عن الداني والقاصي منها؛ ويتخلص إلى ذلك بكل ما يجد إليه السبيل ويجتهد فيه، ويعمل لكثرة أوقات دهره في كل ما بلغه محبته نظرا لها، وحدبا على كافتها، وإشفاقا من سوء حالها؛ إذ كان لها والدا برا، وراعيا كالئا، وناظرا لطيفا؛ ويستعمل كل ما يرجو ائتلافها، والإبقاء على أحوالها، والسلامة لها في دينها ودنياها؛ وينصب لذلك ليله ونهاره، ويذيب فيه نفسه، ويجعله شغله دون غيره.
والحمد لله الذي اصطفى أمير المؤمنين بخلافته، وأكرمه بإرث نبوته، وجعل خلافته خلافة يمن وبركة، ولطف وسعادة؛ انتاش بها أولياءه من موارد الهلكة فرفع منزلتهم، وشرف درجتهم، وأعلى كلمتهم، وأذل بها أعداءهم، وجذ دوابرهم، ورد دائرة السوء عليهم؛ وحباه مزية نصره وتمكينه، وإعزازه وتأييده، وإظهاره على من ناوأه وعند عن حقه، وصدف عن طاعته؛ فإن الله لما اختار أمير المؤمنين لخلافته فأيده بها، جعل الحق نيته، وإعزاز الدين بغيته، ومجاهدة أعداء الله شرقا وغربا وبرا وبحرا نهمته وإرادته؛ ثم يسره في ذلك لما أحسن به عونه، على من استحفظه وقلده، فضلا من الله ونعمة، والله عليم حكيم.
والحمد لله الذي كان لسابق علمه وسالف قضائه، الذي لا يستطيع الناس رده، ولا منعه ولا صرفه، ما ولى المؤمنين من خلافته، وما ابتعثه له من النصر لدينه، والطلب لحقه، والجهاد لأعدائه؛ وأحسن في ذلك عونه فيه وبلاءه، وأيده في نفسه، لم ينقصه خذلان خاذل، ولا مخالفة من خالف ، ولم يزد أمره في شيء من ذلك إلا تماما وإحكاما؛ حتى أظهر حقه، وأفلج حجته، ومحق باطل أعدائه، وأدحض حججهم؛ وجعل أهل طاعته حزبه الغالبين، وجنده المنصورين؛ وجعل عدوه وعدوكم حزب الشيطان الخاسرين، وأولياءه الأذلين؛ بغير حول من أمير المؤمنين في شيء مما ولاه وأبلاه، ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
لأبي عبيد الله
والحمد لله الذي أكرم أمير المؤمنين بما أصار إليه من الخلافة وإرث النبوة، وجعله القائم بأمر عباده وبلاده، والمحيي لسننه، والذاب عن دينه وحقه، والمناصب لأهل الشرك والجحود به؛ ثم نصره وأظهر فضل أيامه ودولته، ومكن له في بلاد عدوه، وجعل كلمته العليا وأنصاره الغالبين، ومن ناوأه من أهل الخلاف الأذلين المقهورين؛ وعرفه من نعمته في ذلك ومنته وجميل صنعه وعاداته، أحسن ما عود أحدا من أوليائه الذابين عن الإسلام وأهله؛ حمدا متتابعا لا انقطاع له ولا انصرام، دون بلوغ حقه، وقد كان كذا وكذا.
ما يكتب به في المخالفين في وقت الهزيمة
نكصوا على أدبارهم منكوبين مهزومين، قد ضرب الله وجوههم، وفت في أعضادهم، ومنح الأولياء أكتافهم؛ فقتلوهم في كل فج، وعلى رأس كل تلعة ومهرب ومسلك؛ أباد الله خضراءهم وغضراءهم، وحصد شوكتهم، وفل حدهم، وأباخ
29
نيران ضلالتهم وكفرهم، وشفى منهم الصدور، وأدرك منهم الإحن؛ ونفل المسلمين أموالهم وذراريهم، وجعلهم لهم خولا وعبيدا، وأورثهم أرضهم وديارهم، وأحل الله بهم من البأس والنقمة والجائحة والظهور والغلبة جزاء من الله لمن أخلد إلى المعصية وابتغى غير سبيله المسلوكة. وكذلك يفعل الله بالقوم الظالمين، ويستدرجهم من حيث لا يعلمون، إن الله لا يخلف الميعاد. ثم أنزل الله عز وجل من صار إلى الأمصار منهم هربا، واعتصم بالحصون، وتعوذ بالجبال، ولاذ بالقلاع، ولجأ إلى الأودية، من صياصيهم، وأمكن من نواصيهم، واستخرجهم من أوزارهم ومعاقلهم ومتعوذهم، وأخذ أسيرا ذليلا منكوبا خائفا قد نخب الوجل قلبه وملأ الرعب صدره، متوقعا أن ينزل الله به من النقمات والمثلات ما لا مرد له عن مثله من القوم الظالمين، وفشت في الكفرة الجراحات، وعضتهم السيوف، وشرعت فيهم الفنا، وهرتهم نار الحرب، وغالهم النزال، ومارسهم الأبطال، واستحر فيهم القتل، فصبر لهم الأولياء أحسن صبر، فلم يطيقوا بالموت مراما ولا على الحرب مقاما.
في صفة الخالعين
الناصبين لدين الله، المكذبين بآياته، الجاحدين رسله، الجاعلين معه إلها، لا إله إلا هو، لطول مدتهم، وشدة شوكتهم، وصعوبة مرامهم، وقطعهم السبل وانتهاكهم المحارم وسفكهم الدماء التي أوجب الله على من سفكها بغير حلها واقترف واحتمل وزرها، أليم العذاب وشديد العقاب، فأبوا إلا تماديا في ضلالتهم، وعتوا في طغيانهم، وثبوتا على عصيانهم، ومقاما على كفرهم، لأحداثه السالفة، وغوائله المتقدمة، وبوائقه المشجية، فوقف مميلا بين ثكل التقدم وحقيقة الاصطلام في التأخر، دعاهم إلى الفيئة والمراجعة والإنابة وقبول الأمان والدخول في الطاعة، استظهارا بالحجة عليهم، ورجاء لصنع الله فيهم. فلما بلغهم نزولي فيمن معي، جمع أصحابه، وضم جنده، وتحرز في معسكره، وخندق على منزله، واحترس بجهده، فأقمت معسكري، وأنا مع ذلك في كل يوم أوجه رسلي وأدعوه إلى حظه، من طاعة أمير المؤمنين والدخول في أمانه، وأعلمه أن له نظراء ممن غمط الطاعة، وسفه الجماعة، وقد ركضوا في الفتنة عمرهم وسعوا فيه دهرهم، فانتشر خبرهم، وكثر تبعهم، وكبر وزرهم، وثقل وقرهم، ثم أذعنوا لطاعتهم، واستقلوا ناهضين من عثرتهم، ومنتعشين من زلتهم، فغفرت ذنوبهم، وقبلت توبتهم، وفسح لهم في أمانهم، وشرفت منزلتهم، واستبدلوا بالخوف أمنا وبالذل عزا؛ فأبى به ميل الهوى، وغلبة الشقوة، ومستعلي الغواية، والقدر المحارب، والقضاء المحتوم. وتقدمت في موافقتهم وترغيبهم، والأخذ بالمخنق منهم، من غير قتال، ولا تناول سلاح، ولا تناوش صيال،
30
وعرضت عليهم التوبة، ودعوتهم إلى الإنابة، وأعطيتهم الأمان، وأعلمتهم أنهم إن قبلوا حمدتهم وأخمدت نار الحرب بيني وبينهم، وإن أبوا إلا تماديا في غيهم ونكوصا على شقائهم، وليت مناجزتهم وعرفت من الله الخيرة في محاربتهم، واستعنته عليهم، واستكفيته أمرهم، ورجوت حسن عادته عند أمير المؤمنين في أمثالهم. ثم وجهت الأولياء فنفذوا نحو عسكرهم ليلا وهم متفرقون في رحالهم، مغترون في أوطانهم، قد أمنوا خدع الحروب ومكرها ومكيدتها، ووقعة البيات وهولها، إلا طائفة منهم أهل عدد وعدة، وبأس في أنفسهم وقوة، اتخذوا الليل جملا، وسروا نحونا يرجون غرتنا ويأملون غفلتنا، فوقف جندنا بمكانهم آخذين أهبتهم، متمسكين بالطاعة فيما به إمرتهم، فأسرعت إليهم من أعدائهم طائفة فدفعوهم عن أنفسهم، ونالوهم بجراحات مع قتلى منهم عند تناوشهم، ثم نكصوا على أدبارهم، ورجعوا القهقرى على أعقابهم إلى الباقين من سريتهم، فاستجاشوهم فاجاهم بالمكانفة والمؤازرة، وأقبلوا بحميتهم وحنقهم حتى حملوا حملة رجل واحد، وضاق الفضاء وطارت أفئدة جندنا رعبا من حملتهم، وبلغت القلوب الحناجر منهم، إلا طائفة قليلة من لواقح الحرب ومواضي رواسخها وأشبال لبدتها، تزينوا بالطاعة فأموا حسن العاقبة، ونصروا الدين، فوثقوا بالتمكين، انتدبوا إليهم، ووقفوا لهم، وازدادوا بصيرة في أمرهم، ونفاذا وجدا في اجتهادهم ومجاهدتهم، فثبتوا قائمين بالقسط في أحوالهم، قائلين بالعدل في أملائهم، يسألونهم الكرة بعد الكرة، ويعدونهم الغلبة، ويمنونهم السلامة، ويضمنون لهم الغنيمة؛ ففاءوا إليهم، ورجعوا إلى الحق لله عز وجل عليهم، فشافعوا ساعة بالقنى بعد تراميهم إرشاقا بالسهام.
فلما رأى أعداء الله جدهم، وعرفوا صدقهم، وخافوا حدهم، نكصوا على أعقابهم، يريدون اللحاق بمعسكرهم، وتحرك أصحابنا في طلبهم، ورجوا سوء الصباح لهم، فأمعنوا في أثرهم؛ فلما أحسوا الفساق أعطوهم الضمة وولوا إلى ديارهم لا يلوي قريب على قريب، ولا ذو رحم على حبيب؛ ونالتهم القنى فدسرتهم، وعضت هامهم السيوف فكلمتهم، وحيل بينهم وبين الدخول من باب عسكرهم، فأخذوا في غير طريقه منهزمين، قد فل الله حدهم، وقلل كثرتهم، وقتل عامتهم؛ ورجع أصحابنا إلى معسكر أعدائهم بعد التشريد والتفريق بجماعتهم، فأحاطوا بهم في آخر ليلتهم، فلما رأوا غفلتهم، وأمنوا غرتهم، وانتهزوا مكان الفرصة منهم أحاطوا بهم وهم نائمون، فارون غافلون متفرقون، فوضعوا السلاح فيهم، ضربا بالسيوف، وطعنا بالرماح، وضربا بالأعمدة، وذبحا بالشفار، لا يشوون من جرحوا، ولا يبقون من كلموا، غير مدفوعين ولا ممنوعين، حتى انثنت السيوف، وتحطمت القنى واندقت الأعمدة، وكلت الشفار، وبقيت منهم عدة يسيرة وشرذمة قليلة ممن لم ينله القتل، فأخذوا أسرى، وأوثقوا حديدا، وكبلوا قيودا، وكان أول رأس أتاني بخبره
31
بشيرهم وأسرع به إلي ذو المعرفة منهم رأس
32
عدو الله المارق الباغي، الشاق لعصا المسلمين، ملأني رئيس ضلالتهم، وقائد جهالتهم، ومستغوي جماعتهم، فعرفته بحليته ونعته وصفته في عدد كثير من رءوس قواده وأهل الفتنة وأئمة البدعة، فلم يلبثوا إلا ريثما تصدعوا في كل جبل وخمر، منهزمين هاربين، لا يستطيعون لما أتاهم من عذاب الله دفعا ولا منعا بأيد ولا قوة؛ ولا يلجئون إلى ركن وعصمة، قد تشتت بهم نظامهم، وفارقهم وجوههم وأعلامهم، فأخذهم أسرا قسرا قد منهم النصب، وملأ قلوبهم الرعب وتخرمتهم الوقائع، ونخبتهم الهزائم، وتحيفهم القتل، وغلب الله عز وجل لأمير المؤمنين على حصنه الذي كان مناف عزه، وموضع منعته في نفسه، ومجتمع عدته، ومادة قوته، فقوضوا عساكرهم، وأقشعوا عن حصنهم يتبع آخرهم أولهم، متحيرين متلددين، أذلة خاسرين، فتفرقوا لا نظام لهم ولا جامع لشتاتهم. فلما استحر القتل فيهم، وفشت الجراحات في عامتهم، وطحنتهم الحرب بكلكلها، وألموا وقع حديد أنيابها ومساعرها، قذف الله الرعب في قلوبهم وزلزل بهم أقدامهم، فولوا منهزمين مغلولين، وركب المسلمون أكتافهم، يقتلونهم في رءوس جبالهم، وخلال غياضهم، وبطون أوديتهم، ومقاصي تلاعهم، وفي كل ناحية من نواحيهم، حتى عجز الليل دونهم، وأعجزوهم هربا في معاقلهم.
وفي العصاة
حتى إذا ظن أن قد عز بضلاله، وتحصن بمعاقله، واستكمل قواه، وكثف تدبيره، ولجأ إلى مانع منه ودافع عنه، عطفت عليه عواطف الحق بأولياء الحق وأنصاره، ناقضين ما أبرم، ومتداولين ما سد، ومتوغلين إلى غيه ببصائرهم، وإلى باطله بحقهم، فاستنزل عن موضع عزه قسرا، وأمكن الله أولياءه أسرا؛ سنة الله فيمن عند عن سبيله، وألحد في دينه، ومرق عن الطاعة وثائقها، واستبدل بالحق ومنهاجه، ولن تجد لسنة الله تبديلا، ولن تجد لسنة الله تحويلا، ولن تجد من دونه ملتحدا ولا نصيرا؛ حتى إذا تراءى الجمعان تبرأ الشيطان من حزبه، وأرهق الله باطلهم بحقه، وجعل الفلج والظفر لأولى الحزبين به، بذلك جرت سنة الله في الماضين من خلقه، وذلك ما وعد من تمسك بأمره وطاعته.
وفي مدح قواد الجيوش وصفة الأولياء في أحوالهم
لما بلا من طاعته، واختبر من نصيحته، ويمن نقيبته، وشدة شكيمته، وصحة عزيمته، وصدق نيته، وثقل وطأته على أعداء الله وأعداء الدين والمسلمين، وعلمه بمراوضة الحرب وممارستها، ومكايدة الأعداء ومواقفتهم فيها، فشمر تشمير أهل الحسبة وحسن الظن بالله من غير ونية ولا فترة ولا بقاء جد ولا اجتهاد، راجيا أن ينجح الله سعيه، ويفلج حجته، ويظهره على عدوه من الاستقلال الذي حمله، والاضطلاع بما أسند إليه، والامتثال لسيرته، والانتهاء إلى أمره، والقبول لأدبه، والخفوف بما يستنهضه له من حروبه وأموره مثل الذي جعل عند فلان: يفضلهم بطوله، ويطولهم بمحاسنه، ويتقدمهم بحسن بلائه وغنائه، ومواقفه ومساعيه، لم يختبره أمير المؤمنين في جميع خصاله إلا وجده عند الاختبار والتحصيل سالكا لمناهجه، قابلا لأمره، متبعا لأثره، ساميا بهمته إلى أقصى الغايات وأعلى الدرجات، حتى صار عند أمير المؤمنين مقدما في القدر والرتبة، مخصوصا بالمنزلة والرفعة، يرى ذلك قليلا في كثير ما وجب بطاعته ونصيحته، فبارك الله عليه وليا ظهيرا. فأقدموا متوكلين على الله مسلمين لأمره صابرين على ما نالهم من اللأواء والجهد والتعب وكلب الشتاء وحمارة القيظ، وصعوبة المرام من أعداء الله الكفرة، يرجون نصر الله وتنجز ما وعد الصابرين والمجاهدين في سبيله من الظفر والنصر والغلبة على عدوهم، توحد به من نصرهم وإعزازهم أن كان الله عز وجل تكفل لأوليائه بالنصر والعز والحيطة، وجعل حسن العاقبة لهم، وكبت من حادهم وأخلد إلى المعصية والكفر والأسر، ليكونوا بذلك عظة ونكالا لمن أمهله الله منهم ، ولتكون كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا السفلى، والله عزيز حكيم؛ أعظمهم غناء، وأحسنهم بلاء، وأشدهم صولة، وأقساهم نكاية، وآمنهم سريرة، وأمضاهم عزيمة، وأربطهم جأشا، وأصدقهم بأسا، وأملأهم للأقران، وأرعاهم لوثائق الإيمان، وأشدهم تحدبا على السلطان، فآزره بهم، وحصن أطراف خلافته بأيديهم، فكفوه المهم وقاموا دونه بالملم، غير مستطيلين بغناء، ولا متعرضين لطلب جزاء، قد تعبدهم الوفاء، وغنوا بقربة الولاء؛ فإن الله جعل آباءه أعلاما في الطاعة يهدون إليها، وأوليته قادة إلى سبيل النصيحة يتمسك المناصحون بآثارهم فيها، باقيا على كر الأيام ذكر مساعيهم، وزائدة على تصرف الأيام حقوقهم، وباديا للعيون حميد أفعالهم، لا تنصرم الأخبار عن سالف لهم إلا وصلوه بحادث، ولا يتقادم لهم من بلائهم أول إلا اتبعه آخر. ففلان يجري في أمره على منهاج قد أوضحوه له، ويسلك في الطاعة طريقا قد سهلوا له مذاهبه، ويتمسك بعرى وثيقة قد رأى آثارها على من تقدمه، والله محمود. ولم يزل الله يعرف أمير المؤمنين في كل ما أسنده إلى فلان من أعماله وقلده من أموره، المبالغة في قضاء الحق عليه ويمن النقيبة فيما يتولاه، والاجتهاد في كل ما قربه من الله وخليفته. وأمير المؤمنين يحمد الله على ما يخصه به من نعمته، وإياه يستعين على قضاء حقه، إنه سميع قريب.
فإن كتابك ورد على أمير المؤمنين بما لم يزل يتطلع إليه منك ويؤمله عندك، ويرجو أن يوفقك الله فيه لرشدك، ويؤثرك منه بحظك، للذي كان يبلغه وينتهي إليه من خبرك، في أحوالك وتصرفك في خصال الخير، وتنقلك في درجتها، مساميا لأهل الفضل في مراتبهم، متزينا بصالح أفعال الملوك في قصد سيرتهم، وحسن طريقتهم، ولين أكنافهم. فحقق الله ظنه بك، وأجاب دعاءه لك، وبلغ بك أمنيته، وأعطاه فيك رغبته. وكنت فيما هديت له بانقيادك إليه راغبا، ودخولك فيه محتسبا، مستوليا على أسنى الأمور مئونة، وأفضلها ذخيرة، وأعلاها درجة، وخيرها عاقبة، وأعمها سلامة، وأمنعها كهفا، وأبقاها شرفا، وأعدلها حكما، وأطولها سلما، مستحقا بذلك على الله عز وجل زيادة الملك فيها ، وبهاء الثروة، وانبساط القدرة، واتساع المملكة، وظهور الغلبة وعز التمكين، والنصرة في الدار التي حبيت فيها بقليل ما ترجو أن تصير إليه من ثواب الله عز وجل وحسن مجازاته بالنعيم المقيم في دار الأمد، ومحل الأبد، بما لا يبلغه إحصاء، ولا يكون له انتهاء؛ وملأه فرحا وابتهاجا، وسرورا وجذلا، ورجاء لك من الله عز وجل حسن عونه وتوفيقه أن يغلب لك على حظك، وأن يأخذ إلى تقواه بقلبك ويجعل فيما عنده رغبتك ، وإلى ذلك سموك وهمتك. وليس ينفك أمير المؤمنين مقتفرا فيك أثرا يحمده، ومتصفحا بخبر يبهجه، ومستحدثا نعمة من الله عز وجل يرجو اتصالها واتساقها لديه بك، حتى يتناهى إلى الدرجة العليا، والغاية القصوى، فيما [يبتغيه]
33
من اجتثاث أرومة الفسقة وقطع دابرهم. وبالله الثقة والحول والقوة، متعرفا من الله فيما فارقه من جهاد عدوه أتم مصادق وعد القائمين بحقه، الصابرين في جنبه، وأحسن ما أبلى، ذائدا عن حريم، ومحصنا لبيضة، ومدافعا عن ملة، فشمر شاريا لله نفسه، طارحا عنه لباس الغفلة، متجافيا عن مهاد الوطأة، وليس تدخله الخلة والوحشة على من كنت قريبا منه، ولا يمتنع لأمير المؤمنين طرف أنت فيه، ولا أمر يعين عليه ويتمسك بسبب من أسبابه.
وصف الأولياء في الكتب
وصار أهل السمو إلى الدرجة العليا، والاعتصام بالعروة الوثقى، من أولياء أمير المؤمنين وشيعته، منشرحة صدورهم بمكانفته، منبسطة أيديهم بمعاونته؛ وقسم لأمير المؤمنين من أولياء دينه وأنصاره، قوم آزرهم بالنصر، وكنفهم باليقين، وألف بصائرهم على الحق، وأيدهم بمؤيدات التقوى؛ فلما أمرهم أطاعوا أمره، ولما فرضوا في ذات الله طاعته، فرض الله نصرهم وتمكينهم، فجاهد مجاهدهم مستبصرا محتسبا، وقام قائمهم بالحق عليه مخلصا مجتهدا؛ وقادتهم طلائع الدين ودواعيه أرسالا قدما، فاتبعوا سبيله لا ناكلين عن إقدام، ولا متوقفين عن ارتياب، ولا متهيبين، مع دخائلهم وبصائرهم، عدوا ولا عنادا؛ طالبين بثأر الدين بغاته، وبطوائل الإسلام عداته: من صنوف أمم الكفر ومردة النفاق وأئمة الملحدين؛ متقلدين للحق ونصرته، ولئن تمم الحق بهم ومضى، ولين مع الحق من نكث عنه بألسنتهم وأيديهم، حتى فتح الله عز وجل لأمير المؤمنين معاقل الشرك وأممه، وأناخ الباطل وأركانه، وأعلام البدع وأتباعها، فضلا من الله ونعمة، والله عليم حكيم؛ إن هززتهم قطعوا قطع الحسام، وإن أجريتهم في عظيمة وقعوا وقع الجياد، وإن استغنيت ودام الغناء لك عن جميع العاملين، كانوا رصدا لك فوق أعناق الحاسدين.
ما يقرظ به أمير المؤمنين في أواخر الكتب
ليعرفوا موقع نعم الله عند أمير المؤمنين، يحوطه به في أوليائه، من النصر والتمكين، وعلى أعدائه من الوقم
34
والتوهين؛ ويشكر الله على النعمة في ذلك، إن الشكر محصن للنعم، وأمان من الغير، لتحلو مواقع النعمة عليهم، فيما يجمع الله بأمير المؤمنين من كلمتهم، ويحوط من حريمهم، ويحل من بأسه ونقمته بمن صدف عن سبيله وحاول تشتيت جماعتهم وتوهين حقهم، ويقابلون ذلك بما ترتبط به نعمه، ويستدر مزيده.
سعيد بن حميد
ليشكروا الله على ما منح خليفته من هؤلاء المراق الخارجين من جماعة المسلمين، فإن الشكر أمان من الغير ومادة للمزيد. (3) التحاميد في أواخر الكتب
تحميد لسعيد بن نصر في آخر كتاب فتح له
الحمد لله المعز لدينه، المظهر لحقه، المؤيد لأوليائه، الصانع للإسلام وأهله، الناصر لخليفته، الحافظ لما استحفظه، المتوحد بالنعمة عليه فيما حمله.
تحميد لإبراهيم بن العباس في آخر كتاب فتح
فالحمد لله المزيل لما يمهد المبطلون، ويمكر به الماكرون، ويكيد به الملحدون، تمكينا لعبده وخليفته، وذبا عن دينه وحقه، وإظهارا لأوليائه وحزبه، وإمضاء لعزائمه وقدرته، منعما قادرا، وممليا ممهلا، عدلا إذا استدرج، متفضلا إذا أنعم، حمدا يستنزل به نصره، ويبلغ به رضوانه، ويمترى بمثله فواضل مزيده.
تحميد في فتح لإبراهيم بن العباس
والحمد لله بجميع محامده التي حمد بها، على جميع آلائه وجميل بلائه، فيما ولي به خليفته، ونصر به دينه، وأقام به حقه، وأعز به وليه، وقمع به من ألحد عن سبيله، حمدا يؤدي حق نعته، ويوجب به أفضل مزيده بمنه وطوله.
تحميد لأبي عبيد الله في آخر كتاب
فالحمد لله على ما يحدث لأمير المؤمنين في دولته وسلطانه، ولعامة المسلمين من صنعه وكراماته، في جسيم الأمور ولطيفها، وخاصها وعامها، بما يجعله للنعمة تماما، وعلى ما يحل بعدوه من بأسه وقوارعه، ويوقع بهم من جوائحه واستئصاله، ما يكون لموعوده إنجازا، حمدا يبلغ رضاه ويستوجب مزيده.
تحميد آخر
الحمد لله الذي تمم لأمير المؤمنين نعمته، وأكمل دعوته، وجعل العاقبة فيه لمن اختاره لخلافته، ورد إليه من شد عنه من رعيته، وأتى أمير المؤمنين بصنعه على حد نيته وقدر أمنيته، ولم يفل رأيه ولم يخلف ظنه، حمدا كثيرا دائما بما يزكو عنده فيتقبله، ويرفع إليه فيبلغ رضاه؛ حمدا يكون لأسبغ نعمه جزاء، ولأفضل إحسانه كفاء، وللمزيد من فضله وإحسانه موجبا، وإلى أعلى الدرجات عنده مؤديا، وللخلود في جنته وسيلة وسببا.
آخر:
الحمد لله الذي جمع لأمير المؤمنين ما حباه بمزية نصره وتمكينه وإعزازه وتأييده، وإظهاره على من ناوأه وصد عن حقه، وصدف عن طاعته، ووفقه لاختصاص فلان بما وكله إليه وعصبه به من أعباء أموره وجلائل أعماله، وأجرى بفلان وعلى يديه وبركته وسعادة جده ويمن طائره، من تتابع الفتوح، وتواتر النصر، وإقبال الصنع، وإعلاء الحق وإنارته، وإزالة الباطل وإبادته، حمدا يؤدي حقه، ويرى عزه، ويمير من أحسن
35
مزيده، بكرمه وجوده.
آخر:
الحمد لله الذي أكرم أمير المؤمنين بالخلافة، وخصه بالإمامة، وقلده من أمور عباده وبلاده ما تولاه بكفايته وكلاءته وتأييده وحياطته، حمدا يوجب المزيد من فضله.
ولإبراهيم بن العباس
الحمد لله الذي أنجز وعده، ونصر عبده، وأيد جنده، وجعل فتوح أمير المؤمنين شرقا وغربا مشفوعة بين إقامة حق وإدالة باطل وإزالة عاند وإبادة عائد وإقالة
36
مستقيل. ويسأل الله أمير المؤمنين، مسألة العبد سيده ومولاه رغبة إليه متذللا له أن يصلي أفضل صلواته عنده على أكرم أنبيائه.
دعاء أمير المؤمنين في الكتب والدعاء له
وأمير المؤمنين يسأل الله ربه ووليه، أن يكنفه فيما حباه واستحفظه عليه بأفضل تأييده وأعز نصره، وأن يهب له مع كل نعمة يجددها له حارسا من شكرها، يتابع به أفضل مزيده، فإن النعمة منه، والشكر بتوفيقه، والمزيد لمن شكره.
وأمير المؤمنين يسأل الله ربه وربكم وولي النعم عليه وعليكم، أن يلهمه وإياكم أداء حقه وشكر نعمته وحمده عليها، ويطوقه وإياكم أفضل الأعمال وأرضاها عنده وأشدها استيجابا لما وعد الشاكرين من مزيده؛ إنه سميع قريب.
وأمير المؤمنين يسأل الله الذي ولاه خلافته وأعلاه بها، أن يطوقه ما حمله، ويلهمه العدل بين رعيته، ويلهمهم نصيحته وطاعته، ويصلح أمرهم به في ولايته وخلافته. ويرغب إلى الله الذي أيده بنصره ومكن له بغير حول منه ولا قوة، أن يلهمه وإياكم شكره وذكره وخشيته، ويشمله وإياكم بطاعته ومرضاته ومحبته، وأن يعرفه وإياكم الزيادة في نعمه والنصر على عدوه والتمكين في بلاده؛ إنه ذو فضل عظيم.
وإلى الله يرغب أمير المؤمنين في إعانته على نيته وتبليغه منتهى سؤله وغاية همته وإعزاز دينه وإذلال من صد عن سبيله؛ إنه سميع قريب. وأمير المؤمنين يسأل الله الذي دل على الدعاء تطولا وتكفل بالإجابة حتما، فقال:
ادعوني أستجب لكم
أن يجمع على رضاه ألفتكم وأن يصل على الطاعة حبلكم، وأن يمتعكم بأحسن ما عودكم من مننه، ويوزعكم عليها من شكره ما يواصل لكم به مزيده، وأن يكفيكم كيد الكائدين، وحسد الباغين؛ ويحفظ أمير المؤمنين فيكم، أفضل ما حفظ به إمام هدى في أوليائه وشيعته؛ ويحمل عنه ثقل ما حمله من أمركم؛ وبالله يستعين أمير المؤمنين على ما ينوي من جزائكم بالحسنى، وحملكم على الطريقة المثلى، وبه يرضى لكم ناصرا ووليا، وكفى بالله وليا وكفى بالله نصيرا.
ويسأل الله أمير المؤمنين، أن يحسن على صلاح نيته عونه، وأن يتولاه فيما استرعاه، ولاية جامعة، لصلاح ما قلده، إنه سميع قريب.
ويسأل الله أمير المؤمنين الذي بيده مفاتيح مقاديره وفواضله، أن يصلي أفضل صلواته على أفضل أنبيائه، وأن يجعل ما ادخر لأمير المؤمنين إلى دولته وخلافته، وحباه به من وسائل الخير عنده، أن يجمع إلى أحسن توفيقه لما يرضى من شكره وحسن معونته على ما أصلح له ربه، فإنه شاكر يحب من شكره ويوجب لمن وفق لشكره مزيدا بمنه وطوله وفضله وإنعامه، إنه جواد كريم.
ويسأل الله أمير المؤمنين مبتدئا ومعقبا وأولا وآخرا، وقبل كل مسألة، وأمام كل رغبة ومقدمة كل طلبة، أن يصلي على صفوته من عباده وخير خلقه وخاتم أنبيائه ورسله، محمد عبده ورسوله، أفضل صلواته، ويبارك عليه أكثر بركاته؛ وأن يديم له كرامته، ويجري عنده على أجمل عاداته، وأن يتمم له ما اختصه به من إحسانه، حتى يملأ الأرض عدلا وقسطا، والإسلام تأييدا وعزا، والشرك ذلا وقمعا، إنه ولي نعمته ومنتهى كل رغبة، وغاية كل حاجة، وهو على كل شيء قدير.
وأمير المؤمنين يقول: الحمد لله طاعة لأمره، واعتصاما من الفتنة بشكره، واستدامة لنعمه المتزايدة
37
عنده، إنه سميع قريب.
وأمير المؤمنين، يسأل الله السامع كلام من جهر، والعالم بغيب من أسر، المطلع على ضمائر العباد ووسوستهم، والمستنقذ من يشاء برحمته، والممتن على من يشاء بقدرته، أن يجمع على الحق أهواءكم، وينصركم على أعدائكم، ويصلح ذات بينكم، ولا يكلكم في موطن من مواطن اللقاء، والتحاكم والتناجز إلى أنفسكم، ويكفيكم ويكفي بكم إنه سميع قريب.
الدعاء لأمير المؤمنين في أواخر الكتب
ونسأل الله أن يهنأ أمير المؤمنين ما صنع له، ويعينه على شكر ما أولاه، إنه ولي ذلك وإنا إليه فيه راغبون والسلام.
وله:
ونسأل الله أن يهنأ أمير المؤمنين الكرامات التي يتابعها، والنعم التي يظاهرها عليه، والفتوح التي جعلها في خلافته، وولايته ودولته، ويهب له من المعرفة بحقه في ذلك والشكر له بحسن بلائه فيه، ما يبلغ أعظم رغبة وأقصى أمنية، من ذخائر الخير وفضيلة الأجر وحسن الثواب في الدنيا والآخرة.
أسأل الله لأمير المؤمنين في غابر أموره، أحسن ما عوده في سالفها، من السلامة التي حرسه بها من المكاره، والعز الذي قهر له به الأعداء، والنصر الذي مكن له في البلاد، والهدى الذي وهب له به المحبة، والرفق الذي أدر له به الحلب، والاستصلاح الذي اتسقت له به الرغبة، حتى يكون بما أعطاه من ذلك، وما هو مستقبل به، أبعد خلفائه ذكرا، وأبقاهم في العدل أثرا ، وأطولهم في العمر مدة، وأحسنهم في المعاد منقلبا.
أسأل الله لأمير المؤمنين نعمة لا تزول، وكرامة لا تنفد، وعزا لا يضام، ونصرا لا يغلب، وكفاية ينتظم بها جميع الصلاح، حتى لا يكون بأول من ذلك أسعد منه بآخر، ولا بماض أسر منه بمستقبل.
أسأل الله لأمير المؤمنين في عاقبة كل نعمة أفضل ما وهب له في عاجلها، حتى يجعل كل نعمة أنعم بها عليه، وكرامة حازها له، موصولة بالتمام، محوطة بالحفظ، مكلوءة من الغير، ممدودة إلى طول غايات البقاء؛ لا يشوب صفوها كدر، ولا سلامتها غير، ولا سرورها تنغيص؛ وهنأ الله أمير المؤمنين الظفر، وأدام له عادة النصر والتمكين الموضح، وحجته المدحضة لحجة أعدائه، والغلبة المظهرة لحقه، المجتاحة لمن خالفه؛ ثم لا برحت نعمة الله راهنة بمثله في الأولياء نصرا، وفي الأعداء إباحة، وفي الناكثين تنكيلا.
سر الله أمير المؤمنين بما أهدى له من كفايته، وحاطه به من منعته، وأيده به من نصره، وجعله وما استرعاه من دينه وسلطانه، في كنفه الذي لا يستباح وتحت يده المانعة وجناحه المحفوظ.
أدام الله لأمير المؤمنين السرور بما يقذي به عيون أعدائه في تمكينه وتوهينهم، ونصره وخذلانهم، وإعزازه والمجاهدة لهم؛ ولا زالت نعمة الله تزيده في قوة الظفر، وعزة النصر، وتفد من آفاق الأرض بالبشارات والفتوح، حتى تملأ له ما بين طرفي ملكه أمنا وعزا، ويملأ به قلوب أعدائه خوفا ورعبا، ويعدهم على خلافه سطوة وتنكيلا.
أحمد بن يوسف
وهنأ الله أمير المؤمنين نعمه، وملأه كرامته، وأولى له فتوحه، وأدام إعزازه، وتولى حياطته وكفايته، فيما دنا منه وما غاب عنه، وأطال بقاءه والامتناع به. (4) مختار ما كتب من باب التهاني في كل فن
تهنئة خليفة بظفر
الحمد لله الذي جمع لأمير المؤمنين مع الغلبة الحجة، ومع الظفر المعذرة، وجمع لعدوه مع الذل السطوة، ومع دحوض الحجة النكال؛ فلم يجمعه والناكثين موطن من مواطن الصبر، إلا جعل الحجة عليهم فيه، ولسان العذر فيه معه، ويد الظهور فيه له؛ ثم وهب له عند الظفر من الشكر، وعند الفلج من التواضع، وعند القدرة من العفو، ما جعله مستوجبا لما أصفاه به، معرفا بأن العذر منقطع ممن نكبه، وأن مستزاد الحجة ومطلب السلامة، في التمسك بطاعته ومناصحته، والمجاهدة دونه.
وفي مثله:
أدام الله لأمير المؤمنين السرور بما يقذي به عيون أعدائه.
وكتب إبراهيم بن المهدي إلى المعتصم يهنئه بخروجه عن أرض الروم بعد فتح عمورية
الحمد لله الذي تمم لأمير المؤمنين غزوته، فأذل بها رقاب المشركين وشفى بها صدور قوم مؤمنين؛ ثم سهل الله له الأوبة سالما غانما، وكذا وكذا؛ وليهنئه ما كتب الله له، مما أحصاه فلا ينساه، ليقفه به موقفا يرضاه، فإنه عز وجل يقول:
إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم
الآية، فطوى الله لأمير المؤمنين نازح البعد برا وبحرا، ووقاه وصب السفر سهلا ووعرا، وحاطه بحراسته كالئا، ودافع عنه بحفظه راعيا؛ حتى يؤديه إلى المحل من داره، والوطن من قراره؛ وجزاه عن الإسلام خاصة، وعن رعيته كافة، بتخيره مستخلفا عليهم، وقائما مقامه فيهم هارون ابن أمير المؤمنين؛ فقد استخلفه رفيقا شفيقا، حليما وقورا، يقظان ساكنا؛ لم يشذب عليه أمر، ولم ينتشر عليه طرف، ولم يضع معه سبيل، ولم يسخط وليا مكانفا، ولا عدوا مخالفا، بلا سيف أشرعه، ولا سور أقرع به؛ فمثل جزاء أمير المؤمنين في تخيره إياه، فجزاه الله على ما حفظ من وصاته، على محمود مقامه، إنه مجيب الداعي.
وكتب أحمد بن يوسف إلى عبد الله بن طاهر يهنئه بظفر
بلغني - فتح الله عليك - خروج ابن السري إليك، فالحمد لله الناصر لدينه المعز لوليه وخليفته على عباده، المذل لمن صد عن حقه ورغب عن طاعته؛ ونسأل الله أن يظاهر النعم ويفتح بلدان الشرك به؛ والحمد لله على ما والاك منذ ظعنت لوجهك، فإنا نتذاكر سيرتك في حربك وسلمك، ونكثر التعجب لما وفقت له، من وضع الشدة والليان بموضعهما، ولا نعلم سائر جند ولا رعية عدل بينهم عدلك، ولا عفا بعد القدرة عمن آسفه وأضغنه عفوك.
تهنئة خليفة بحج
أصلح الله أمير المؤمنين وأراه من الزيادة في نعمه، ما يكون تماما لما ابتدأه به من فضله؛ والحمد لله على ما خص به أمير المؤمنين من كرامته، وأعطاه من الفضل في نيته، وجعله يستعين على دينه، بما بسط له في دنياه، ويحمل على بدنه النصب فيما يتقرب به إليه؛ فيجفو عن دعته على لينها، ويشخص عن طمأنينته على فضلها، إيثارا لآخرته، وأداء لحق ربه؛ بادر له بذلك ليكرمه به، ثم يستعمل فيه نفسه، تقربا إليه ، فيسعده بالإذن في ذلك حين كان من الله له، وبالعمل فيه حين كان لله منه؛ فيكون قبوله الخير حين يعرضه له، دليلا على قبوله الخير عنه حين يعمل لربه؛ وكان من ذلك ما أذن الله لأمير المؤمنين في زيارة نبيه
صلى الله عليه وسلم
العام، وموافاة مشاعره العظام، في وقتها من الأيام، التي لا توافى إلا معها، ولا تكون مناسكه إلا فيها؛ فكتب الله له في ذلك الآثار الصالحة والأعمال المبرورة، فدخل في الإحرام له بتعظيم حقه، وخرج منه بقضاء نسكه، أجرا عقده الله عليه في ابتدائه، ثم أتمه له باستيفائه.
ولمحمد بن مكرم تهنئة لحاج
بلغك الله الرضا في أملك من نجح كل حاجة وإبلاغ كل أمنية، وتقبل كل دعوة خصصت بها نفسك أو عممت بها أحدا من أهلك، في مجامع وفوده، ومعتزل قراره، فكنت شافع من شاهدك، ووافد من غاب عنك، يستفتح بدعائك، ويرجي بركة محضرك، والقربة إلى الله عز وجل بفضل جاهك.
تهنئة بولاية
نرى ما أحدث الله لك من الولاية، لنا خاصا وإلينا واصلا.
آخر:
ولم تتخطني النعمة إذ أصابتك، ولم تتعدني إذ دخلت بك، ولم أخل من لازم شكرها، وما ينفلك الله منها، إذ قلدتها، اعتدادا بكل ما طوقت من المنن، وإيجابا على نفسي ما حملت من الشكر.
ولسعيد بن حميد إلى بعض إخوانه
سرك الله بتتابع نعمه، وترادف إحسانه، وزادك من فواضل أقسامه. بلغني - أكرمك الله - ما وهب الله لك من سلطانك، فقواك الله على ما استرعاك. ورزقك الشكر على ما أولاك .
وفي مثل ذلك:
أكمل الله لك السعادة، وزادك في الكرامة، وخصك بدوام النعمة. بلغني ما وهب الله لك من سلطانك، فسررت به، وسألت الله إتمام نعمه عليك فيه بتأييدك، وتوفيقك للعدل في سيرتك، وغرس المحبة لك في قلوب رعيتك، وأن يعينك عليه، ويرزقك السلامة في الدين والدنيا.
وله في مثله:
أنا أهنئ بك العمل الذي وليته، ولا أهنئك به، لأن الله أصاره إلى من يورده موارد الصواب، ويصدره مصادر الحجة، ويصونه من كل خلل وتقصير، ويمضيه بالرأى الأصيل، والمعرفة الكاملة، قرن الله لك كل نعمة بشكرها، وأوجب لك بطوله المزيد منها، وأوزعك من المعرفة بها ما يصونها من الفتن، ويحوطها من النقص.
آخر:
قد وليت من العمل ما أسأل الله عز وجل أن يرزقك بركة بدئه وعاقبته، ويعطيك الرضا ممن وليت له وعليه.
آخر:
هنأك الله هذه النعمة المقبلة، الدال أولها على تمامها، وأوزعك شكرها.
آخر:
أسعدك الله بهذه الولاية وجعلها مباركة، تنتقل بظل السلامة منها، ونيل الكفاية فيها إلى أملك بنهايته ورجائك بغايته، ورزقك السلامة ممن وليت له وعليه.
آخر:
سرك الله بما جدد لك من هذه المنزلة، ونفعك بهذه الولاية، وأرضى عنك من وليت له ومن وليت عليه.
وكتب محمد بن مكرم إلى أحمد بن دينار
نحن من السرور أيها الأمير بما قد استفاض من جميل أثرك فيما تلي من أعمالك، وزمك إياها بحزمك وعزمك، وانتياشك
38
أهلها من جور من وليهم قبلك، وسرورهم بتطاول أيامك والكون في ظل يدك وجناحك، في إعانة من تخصه وتعمه نعمتك، وتحول به الحول حيث حالت بك؛ فالحمد لله الذي جعل العاقبة لك، ولم يردد علينا آمالنا فيك منكوسة، كما ردها على غيرنا في غيرك. ولوددت أن أباك كان عاين آثارك هذه ومناقبك، وإن كان الافتراق لم يقع بينكما حتى علم أنك خلفه، وألقى إليك بأمره ومعاقد ثقته، وجعلك موضع اختصاصه وأثرته، وصرف ذلك عمن كان لا يستحقه، وذم سالف رأيه فيك وفيه وحمد آخره، ثم نعمة اتصلت لك بما قبلها، انتظمت بها أمورك فاعتدلت، وتلاحمت عليها واتسقت، ما منحت في كاتبك، ومستقر ثقتك، وحامل أعبائك، من الكفاية والنصيحة، ووضعه عن قلبك مئونة التهمة والقص لأثره، وإدخاله راحة الطمأنينة إليه وروح الثقة به، لا كما ابتلي أخوك، فإنه صحبه فخلط عليه أمره، وأفشى أسراره إلى صاحب بريده، فأنفل ذلك بينهم، وقطع حبالهم، حتى هجنت آثاره مع حسنها ووضوحها، وصفرت يده من حظ عمله، ولزمه الذم من أهله؛ فهذه كتبه إلي، في اطراح نصيحة له كانت فيه، ويسألني أن أشخص إليه كاتبا يحمل ثقله، ويفتح له ما أرتجه من أمره. وهذا من سعادة جدك، ويمن طائرك، وإقبال الأمور إليك، وسعيها على طريق موافقتك، وهنيئا هنأك الله نعمه خاصها وعامها، وأوزعك شكرها، وأوجب لك بالشكر أحسن المزيد فيها.
تهنئة بعزل
كتب رجل إلى مالك بن طوق لما عزل عن عمله:
أصبحت - والله - فاضحا متعبا: أما فاضحا فلكل وال قبلك بحسن سيرتك؛ وأما متعبا فلكل وال بعدك أن يلحقك.
فصل
سواء علينا أوليت أم صرفت، إنا لنشهد بك الولاية، بما بسط الله من يدك ببذل العرف، ونهنئك بالعرف بما يلحقك من ثناء ما أسلفت من الجميل؛ ولا نخاف عليك أن تفارق عملا وأنت محل له، ولا أن تصحبه وليس به فاقة إليك. فهنأك الله النعمة، وأعانك على الشكر، وأيدك بالمزيد.
تهنئة بعزل عامل عن عمله
بلغني صرفك، فخار الله لك، وهناك لطيف نظره وجليل إحسانه، فإني أرى الرجل عند خروجه من العمل سالما نقيا من مأثمه ودنسه، أولى بالتهنئة منه عند دخوله فيه، وأرى الدعاء له عند بدء تلبسه به بالخلاص منه معصوما بريئا من تبعاته ورواجع آثامه، أولى بمن عني به وأحب صلاحه، ولذلك قدمت تهنئتك.
ولسعيد بن حميد في مثله إلى بعض إخوانه:
حفظك الله بحفظه، وأسبغ عليك كرامته، وأدام إليك إحسانه. إن سروري بصرفك، أكثر من سرور أهل عملك بما خصوا به من ولايتك. وقد كنت - أعزك الله - فيما يربأ بك عنه، بما أنت عليه في قدرك واستئهالك؛ ولكنا رجونا أن يكون سببا لك إلى ما تستحق، فطبنا نفسا بالذي رجونا. فالحمد لله الذي سلمك منه، ونسأله تمام نعمه عليك وعلينا فيك، بتبليغك أملك وآمالنا فيك، وشفاع ما كان من ولايتك بأعظم الدرجات وأشرف المراتب؛ ثم خصك الله بجميل الصنع، وبلغك غاية المؤملين. إن من سعادة الوالي - حفظك الله - وأعظم ما يخص به في عمله وولايته السلامة من بوائق الإثم، ونوائب الدنيا وشرها، والعاقبة مما يخاف منها؛ وقد خصك الله منها بمنه وطوله ما نرجو أن يكون سببا لك إلى نيل ما تستحق من المراتب. والله نسأل إيزاعك شكر ما من به عليك، وتبليغك غاية أملك في جميع أمورك، برحمته وفضله.
آخر:
ما أحسن ما كشفت عنك الولاية! وأجمل ما أبرز منك العمل! قد كسبك الله حمد ولايتك وعزل عنك لائمتها، بما انتشر عنك من عدلك، وظهر من معروفك، فإذا ساءك هذا فليسررك.
وكتب محمد بن مكرم إلى إبراهيم بن المدبر:
الحمد لله رب العالمين حمدا يجوز حمد الحامدين، الذي جعل قضاءه خيرة لك؛ فإن زادك نعمة وفقك لشكرها، وإن امتحنك ببلوى من نفث حاسد أو كيد كائد، أنار برهانك وأفلح حجتك وجمع بين وليك وعدوك في الشهادة لك؛ وإن نقل أمرا عن يدك، فربما يرجعه إليك مختلا لفقدك. هذا إلى ما جعل عندك من خواص النعم التي إن ذكرناها فأطنبنا أو تجوزنا فقصرنا، كان غايتنا إلى الحسور دون مدى غايتك. وقد زادك الله بهذا الحادث فضلا عظيما، لما ظهر من وله العامة إليك وتطلعها إلى ما كانت فيه: من لين إنصافك وكريم أخلاقك، ووحشة الخاصة لما فقدت من حسن معاملتك وكثير تفضلك. وأيقن أهل الرأي والتأمل لصفحات الأمور، أن كل ما خرج عنك فعائد إليك ومتصل به غيره، حتى تستقر في يدك عرى الأمور ومعاقدها، وتفتح برأيك وتدبيرك أبوابها ومغالقها، فليهنك أن كل ما زاد غيرك نقصا زادك فضلا، وكل ما نقص من الرجال وحطها ألحق بك شرفا. فزادك الله وزادنا منك، وجعلنا ممن يقبله رأيك، ويقدمه اختيارك، ويقع من الأمور بموافقتك ، ويجري منها على سبيل طاعتك.
وكتب سعيد بن حميد إلى بعض إخوانه:
جعلني الله من السوء والمكروه فداءك، وأطال في الخير والسرور بقاءك، وأتم نعمه عليك، وأحسن منها مزيدك، وبلغك أقصى أمنيتك، وقدمني أمامك، وقد بلغني ما اختار الله لك، فسررت من حيث يغتم لك من لا يعرف قدر النعمة عليك، ولا يراك بعين استحقاقك. ولئن ساءني ما ساء إخوانك من عزلك، لقد سرني ما يسر الله لك. والحمد لله الذي جعل انصرافك محمودا، وقضى لك في عاقبتك الحسنى، وأقول:
ليهنك أن أصبحت مجتمع الحمد
وراعي المعالي والمحامي عن المجد
وأنك صنت الأمر فيما وليته
ففرقت ما بين الغواية والرشد
فلا يحسب الباغون عزلك مغنما
فإن إلى الإصدار عاقبة الورد
وما كنت إلا السيف جرد للوغى
فأحمد فيها ثم رد إلى الغمد
وقد قال الأول:
فمن يكن بورود العزل مكتئبا
فإنني بورود العزل مسرور
بعد الولاية عزل يستبين به
طول الولاة وبعد العزل تأمير
أما ما عندي مع تصور العاقبة لك في نفسي، فيمسني في أمرك في حال المحنة ما يخصني منه في وقت تجدد النعمة. وبحسب ضميرك الشاهد على ما عندي ما أجده لك في نفسي. فلا زلت في نعم متتابعة متجددة، ولا عدمت الثروة والزيادة؛ وبلغك الله أقصى أملك، وأمل أخيك لك، وكبت أعداءك، وجعلني وقاءك المقدم عنك. أحب أن تشرح لي صورة الأمر إلام تأدت، وكيف كان الابتداء؛ فإني لا أشك أنها حيلة ونية من عز الصاحب الجليل القدر؛ ولها عاقبة منه إن شاء الله محمودة، وتفضي من ذلك إلى ما تسكن إليه نفسي، إن شاء الله.
تهنئة بتزويج وبناء بأهل
بطائر اليمن فليكن هذا البناء، وبأسباب السعادة فليتصل عقد هذا الاجتماع، وبكل ذكاء الولد، وثروة العدد، فلتجر لك الأقدار، وفي أطول غايات البقاء فلتدم هذه الغبطة والسرور.
تهنئة بتزويج
بلغني تزوجك من فلانة، فبالرفاء والبنين، تهنئة السلف الصالحين، ومبلغ سنة المجتهدين المتبحرين، ونقول على يمن الطائر، وسعادة الجد، ونماء العدد، واتفاق الهوى، وطيب المناسمة، واجتماع الشمل ، وثبات الريع، وتملي النعم. أسأل الله الذي قضاها أن يجعلها لك سكنا ويجعلك لها شجنا، وأن يؤخر حمامها إلى انتهاء نفسك عنها، وجعلك جائزا تربها، ووليت المال وهناءة العيش وملاهاة الغواني بعدها.
تهنئة لغسان بن عبد الحميد بتزويج
قد بلغني جمع الأمير أهله على الحال التي جمعهم عليها من نعمة الله عليه. فالحمد لله على كل ما يرى الأمير فيما له فيه نعمة. فأسأل الله أن يجعل الطائر في ذلك ميمونا، والشمل مجتمعا، والبركة عظيمة، والأمور سليمة؛ وكذلك فقد عظم الله القسم منه لزوجه، جعل الأمير سكنا لها، وأجرى المودة والرحمة بينهما، فإنه يقول عز وجل:
خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة . فلما كان الأمير هو المنظور إليه، وهي المنظور إليها، اختارها الأمير لنفسه واختار نفسه لها، وأراد الله عز وجل أن يزيدها مع فضلها في نفسها فضلا باختيار الأمير إياها، وباختصاص الله لها بالأمير دون غيرها؛ فكان ذلك فضلا من الله زينه بفضل، وكرامة من الله وصل بعضها ببعض. فنرغب إلى الله عز وجل في أن يزيد الأمير في كل سعة مبسوطة، ونعمة مقسومة، ويعطيه في ذلك شكرا يكون لرضاه موجبا، كما أعطاه فضلا كان الشكر له به واجبا؛ ثم يملي الأمير ذلك بأحسن ما ملى أحدا من خلقه كرامة اصطنعها عنده.
تهنئة بمولود
كتب العباس بن الحسن الطالبي إلى المأمون يهنئه بمولود له:
قد كان أجذلني ما أحدث الله لأمير المؤمنين من الموهبة التي ليس - وإن كان أولى بها من غيره - بأعظم فيها حظا من رعيته. فعمر الله لك يا أمير المؤمنين قلوبهم بنور الحكمة وأبصارهم حتى يشد بهم عضدك، ويسد بهم ثلمتك، ويبلغهم الغاية المأمول لهم بلوغها بعدك، غير مقعد بك مهل، ولا محل بك أجل، ولا مكذبك أمل، ولا منقطعة أيامك، حتى تخترم أنفسنا قبلك.
وكتب أحمد بن يوسف إلى بعض إخوانه يهنئه بمولود له:
بارك الله في مولودك الذي أتاك، وهنأك نعمته بعطيته، وملاك كرامته بفائدته، وأدام سرورك بزيادته، وجعله بارا تقيا، ميمونا مباركا زكيا، ممدودا له في البقاء، مبلغا غاية الأمل، مشدودا به عضدك، مكثرا به ولدك، مداما به سرورك، مدفوعا به الآفات عنك، مشفوعا بأكثر العدد، من طيب الولد.
وله في مثل ذلك:
هنأك الله هذه الفائدة التي أفادكها، وبارك الله في الهبة التي رزقكها، وشفعها بإخوة متواترين، يسرونك في حياتك ويخلفونك في عقبك.
كتب رجل إلى رجل يهنئه بمولود:
جعلت فداءك، للبقاء مولودك، في السناء نباته، وفي اليمن شبابه ، وعلى البركة ميلاده.
كتب الحسن بن سهل إلى ذي الرياستين:
إنه ليس من نعم الله، وفوائد قسمه - وإن خص موقعها ووجب شكرها - نعمة تعدل النعمة في الولد، لنمائها في العدد، وزيادتها في قوة العضد، وما يتعجل به من عظيم بهجتها، ويرجى من باقي ذكرها في الخلوف والأعقاب، ولاحق بركتها في الدعاء والاستغفار. وإن الله قد أفادك وأنالك غلاما سريا، سميته فلانا، فكان ميلاده عند فتح الله على أمير المؤمنين. فرجوت أن تكون موافاته بالنصر الذي أظهرنا الله به على عدو الدين والمسلمين من دلائل بركته ويمنه، وشواهد سعادته والسعادة به. فبارك الله لأمير المؤمنين في طارف نعمه وتالدها، وشفع له قديم مننه بحادثها، ورزقه ذكورا طيبين مهذبين، يأنس بهم ربعه، ويتصل بهم نجاحه، ويجعلهم ذرية زاكية، وبقية صالحة.
آخر:
بلغني الذي وهب الله لك، فجعله الله ذخرا سنيا، وعقبا كريما.
عمرو بن مسعدة إلى الحسن بن سهل
أما بعد، فإن هبة الله لك هبة لأمير المؤمنين، وزيادته إياك في عدده لمحلك عنده ومكانك في دولتك من دولته. وقد بلغ أمير المؤمنين أن الله وهب لك غلاما سريا، فبارك الله لك فيه، وجعله بارا تقيا، مباركا سعيدا زكيا.
تهنئة بمولود
الحمد لله الذي رضي منا بيسير القول عند عظيم النعمة، حمدا نستوجب به بقاء هذه الموهبة للنماء والفائدة؛ فإن نعمة الله وإن كانت لم تزل متتابعة، فقد كان ما يقبض الأمل منا ذكر انفراد الأمير بنفسه وقلة نسله، وما لا يؤمن من انقطاع الذكر بفوات الأجل، ومن دثور الأنام ، بواقع الحمام، وقد أصبحنا من الله من يدين في فسحة المهل، ومده مواقع الأجل، لمن أراد فيه موضع أملنا في حسن الخلافة من الأمير وإحياء ذكره.
تهنئة بمولود
سرورك سرور يخصني منه ما يخصك، وتلبسني فيه النعمة ما تلبسك، والحمد لله على النعمة فيك وعندك.
كتب أحمد بن يوسف إلى بعض إخوانه يهنئه بمولود:
أما بعد، فقد بلغني من متجدد نعم الله عز وجل عليك، وإحسانه إليك فيما رزقك من الهبة ما اشتد جذلي به، وسألت الله أن يشفعه بأمثاله؛ ولذلك أقول:
قد شفع الواحد بالوافد
وأرغم الأنف من الحاسد
أبا حسين قر عينا بما
أعطيته من هبة الماجد
قد قلت لما بشروني به
بورك في المولود للوالد
إنا لنرجو وافدا مثله
والطائر الميمون للوافد
وله إلى بعض إخوانه يهنئه بمولود:
أما بعد، فإنه ليس من أمر يجعل الله لك فيه سرورا وفرحا، إلا كنت به بهجا، أعتد فيه بالنعمة من الله الذي أوجب علي من حقك وعرفني من جميل رأيك. فزادك الله خيرا، وأدام إحسانه إليك. وقد بلغني أن الله وهب لك غلاما سريا، أكمل لك صورته، وأتم خلقه، وأحسن البلاء فيه عندك، فاشتد سروري بذلك، وأكثرت حمد الله عليه. فبارك الله فيه، وجعله بارا تقيا، يشد عضدك، ويكثر عددك، ويقر عينك.
وكتب إسحاق بن يحيى إلى بعض إخوانه يهنئه بابنة له:
رب مكروه أعقب مسرة، ومحبوب أعقب معرة. وخالق المنفعة والمضرة، أعلم بمواضع الخيرة.
كتب ابن المقفع إلى صديق له ولدت له جارية:
بارك الله لك في الابنة المستفادة، وجعلها لكم زينا، وأجرى لكم بها خيرا، فلا تكرهها؛ فإنهن الأمهات والأخوات، والعمات والخالات، ومنهن الباقيات الصالحات؛ ورب غلام ساء أهله بعد مسرتهم، ورب جارية فرحت أهلها بعد مساءتهم.
وكتب عبد الحميد بن يحيى إلى أخ له في مولود ولد له وهو أول مولود كان:
أما بعد، فإن مما أتعرف من مواهب الله، نعمة خصصت بمزيتها، واصطفيت بخصيصتها، كانت أسر لي من هبة الله ولدا سميته فلانا، وأملت ببقائه بعدي حياة وذكرى، وحسن خلافتي في حرمتي، وإشراكه إياي في دعائه، شافعا إلى ربه عند خلواته في صلاته وحجه، وكل موطن من مواطن طاعته، فإذا نظرت إلى شخصه تحرك به وجدي وظهر به سروري، وتعطفت عليه منه أنه الولد، وتولت عني به وحشة الوحدة، فأنا به جذل في مغيبي ومشهدي، أحاول مس جسده بيدي في الظلم، وتارة أعانقه وأرشفه، ليس يعدله عندي عظيمات الفوائد، ولا منفسات الرغائب. سرني به واهبه لي على حين حاجتي، فشد به أزري، وحملني من شكره فيه ما قد آدني بثقل حمل النعم السالفة إلي به، المقرونة سراؤها في العجب بقدر ما يدركني به من رقة الشفقة عليه، مخافة مجاذبة المنايا إياه، ووجلا من عواطف الأيام عليه. فأسأل الله الذي امتن علينا بحسن صنعه في الأرحام، وتأديته بالزكاء، وحرسه بالعافية، أن يرزقنا شكر ما حملنا فيه وفي غيره، وأن يجعل ما يهب لنا من سلامته والمدة في عمره موصولا بالزيادة، معروفا بالعافية، محوطا من المكروه، فإنه المنان بالمواهب والواهب بالمنى، لا شريك له. حملني على الكتاب إليك لعلم ما سررت به علمي بحالك فيه وشركك إياي في كل نعمة أسداها إلي ولي النعم. وأهل الشكر أولى بالمزيد من الله جل ذكره. والسلام عليك.
تهنئة بنقلة إلى دار جديدة
تناهى إلي نقلتك إلى الدار التي أرجو أن يجعلها الله نقلة المكروه عنك، ونقلة السرور إليك، ودوام نعمة الله عليك. جعلها الله لك أيمن دار وأعظمها بركة، ووصل نعمه فينا عندك ونعمه عندنا فيك.
تهنئة لمحمد بن مكرم إلى نصراني أسلم
أنا أقول الحمد لله الذي وفقك لشكره، وعرفك هدايته، فطهر من الارتياب قلبك، ومن الافتراء عليه لسانك. وما زالت مخايلك ممثلة لنا جميل ما وهب الله لك، حتى كأنك لم تزل بالإسلام موسوما، وإن كنت على غيره مقيما، وكنا مؤملين لما صرت إليه، مشفقين لك مما كنت عليه، وإذ كاد إشفاقنا يستعلي رجاءنا، أتت السعادة بما لم تزل الأنفس تعد منك. فأسأل الله الذي نور لك في رأيك وأضاء لك سبيل رشدك، أن يوفقك لصالح العمل، وأن يؤتيك في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة ويقيك عذاب النار.
هوامش
باب المنظوم
(1) أبو نواس
كان أبو نواس
1
ينادم ولد المهدي ويلازمهم، فلم يلف مع أحد من الناس غيرهم، ثم نادم القاسم بن الرشيد ولقي منه أشياء كرهها وكرهت له، ففارقه.
ثم جلس أبو نواس إلى الناشئ الراوية فقرأ عليه شعر ذي الرمة، فأقبل الناشئ على أبيه هانئ وقال له: إن عاش ابنك هذا وقال الشعر ليقولنه بلسان شتوم.
ثم اتصل بوالبة بن الحباب الأسدي، لقيه بدار النجاشي الأسدي والي الأهواز للمنصور، فقال له والبة: إني أرى فيك مخايل فلاح، وأرى أنك لا تضيعها، وستقول الشعر وتعلو فيه، فاصحبني حتى أخرجك؛ فقال: ومن أنت؟ قال: أبو أسامة. قال: والبة؟ قال: نعم. قال: أنا والله - جعلت فداك - في طلبك، وقد أردت الخروج إلى الكوفة وإلى بغداد من أجلك! قال: ولماذا؟ قال: شهوة للقائك ولأبيات سمعتها لك. قال: وما هي؟ فأنشده:
ولها ولا ذنب لها
حب كأطراف الرماح
جرحت فؤادي بالهوى
فالقلب مجروح النواحي
سل الخليفة صارما
هو للفساد وللصلاح
أجداه كف أبي الولي
د يدا مبارية الرياح
ألقى بجانب خصره
أمضى من الأجل المتاح
وكأنما ذر الهبا
ء عليه أنفاس الرياح
فمضى معه، ثم سأله أن يخرج إلى البادية مع وفد بني أسد ليتعلم العربية والغريب، فأخرجه مع قوم منهم، فأقام بالبادية سنة؛ ثم قدم ففارق والبة ورجع إلى بغداد.
وكان أبو نواس متكلما جدلا راوية فحلا، رقيق الطبع ثابت الفهم في الكلام اللطيف. ويدل على معرفته بالكلام أشياء من شعره، منها قوله:
وذات خد مورد
قوهية المتجرد
تأمل العين منها
محاسنا ليس تنفد
فبعضه قد تناهى
وبعضه يتولد
والحسن في كل شيء
منها معاد مردد
ومنها قوله:
يا عاقد القلب عني
هلا تذكرت حلا
تركت غيي قليلا
من القليل أقلا
يكاد لا يتجزى
أقل في اللفظ من لا
ومنها قوله في امرأة اسمها حسن:
إن اسم حسن لوجهها صفة
ولا أرى ذا في غيرها جمعا
فهي إذا سميت فقد وصفت
فيجمع الاسم معنيين معا
ومن قوله فيما يتعلق بالحكمة:
قل لزهير إذا حدا رشدا
أقلل أو أكثر فأنت مهذار
سخنت من شدة البرودة حتى
صرت عندي كأنك النار
لا يعجب السامعون من صفتي
كذلك الثلج بارد حار
هذا شيء أخذه أبو نواس من مذهب حكماء الهند، فإنهم يقولون: إن الشيء إذا أفرط في البرودة انقلب حارا، وقالوا: إن الصندل يحك منه اليسير فيبرد، فإذا أكثر منه سخن.
قالوا: كان أبو نواس دعيا يخلط في دعوته. فمن ذلك قوله يهجو عرب البصرة:
ألا كل بصري يرى أنما العلا
مكمهة سحق لهن جرين
2
فإن تغرسوا نخلا فإن غراسنا
ضراب وطعن في النحور سخين
فإن أك بصريا فإن مهاجري
دمشق ولكن الحديث فنون
مجاور قوم ليس بيني وبينهم
أواصر إلا دعوة وظنون
إذا ما دعا باسمي العريف أجبته
إلى دعوة مما علي تهون
ثم هجا اليمن في هذه القصيدة بقوله:
لأزد عمان بالمهلب نزوة
إذا افتخر الأقوام ثم تلين
وبكر ترى أن النبوة أنزلت
على مسمع في الرحم وهو جنين
وقالت تميم لا نرى أن واحدا
كأحنفنا حتى الممات يكون
فما لمت قيسا بعدها في قتيبة
وفخر به إن الفخار فنون
وإنما نشأ أبو نواس بالبصرة وليس له بدمشق قبل ولا بعد.
ومما هجا به اليمن أيضا قوله لهاشم بن حديج:
وردنا على هاشم مصره
فبارت تجارتنا عنده
يقول فيها:
رأيتك عند حضور الخوا
ن شديدا على العبد والعبده
وتحتد حتى يخاف الجلي
س شذاك عليه من الحده
وتختم ذاك بفخر عليه
بكندة فاسلح على كنده
فإن حديجا له هجرة
ولكنها زمن الرده
وما كان إيمانكم بالرسول
سوى قتلكم صهره بعده
تعدونها في مساعيكم
كعد الأهلة معتده
وما كان قاتله في الرجال
بحمل لطهر ولا رشده
فلو شهدته قريش البطا
ح لما محشت ناركم جلده
3
وقوله أيضا:
ما منك سلمى ولا أطلالها الدرس
ولا نواطق من طير ولا خرس
يا هاشم بن حديج لو عددت أبا
مثل القلمس لم يعلق بك الدنس
إذ أصبح الملك النعمان وافده
ومن قضاعة أسرى عنده حبس
فابتاعهم بإخاء الدهر ما عمروا
فلم ينل مثلها من مثلهم أنس
أو رحت مثل حوى في مكارمه
هيهات منك حوى حين يلتمس
أو كالسموءل إذ طاف الهمام به
في جحفل لجب الأصوات يرتجس
فاختار ثكلا ولم يغدر بذمته
إذ قيل أشرف تر الأوداج تنبجس
ما زاد ذاك على تيه خصصت به
وكيف بعدل غير السوءة الغرس
وقوله:
يا هاشم بن حديج ليس فخركم
بقتل صهر رسول الله بالسدد
أدرجتم في إهاب العير جثته
فبئس ما قدمت أيديكم لغد
إن تقتلوا ابن أبي بكر فقد قتلت
حجرا بدارة ملحوب بنو أسد
وطردوكم إلى الأجبال من أجأ
طرد النعام إذا ما تاه في البلد
وقد أصاب شراحيلا أبو حنش
يوم الكلاب فما دافعتم بيد
ويوم قلتم لزيد وهو يقتلكم
قتل الكلاب لقد أبرحت من ولد
وكل كندية قالت لجارتها
والدمع ينهل من مثنى ومنفرد
ألهى امرأ القيس تشبيب بغانية
عن ثأره وصفات النوء والوتد
وقد رثى أبو نواس خلفا الأحمر بعد موته بقصائد من شعره، منها قصيدته التي أولها قوله:
لو كان حي وائلا
4
من التلف
لوألت شغواء في أعلى شعف
أم فريخ أحرزته في لجف
5
مزغب الألغاد لم يأكل بكف
كأنه مستقعد من الخرف
هاتيك أو عصماء في أعلى شرف
تروغ في الطباق
6
والنزع الألف
أودى جماع العلم مذ أودى خلف
من لا يعد العلم إلا ما عرف
قليذم
7
من العياليم الخسف
كنا متى نشاء منه نغترف
رواية لا تجتنى من الصحف
ومنها قوله يرثيه:
لا تئل العصم في الهضاب ولا
شغواء تغذو فرخين في لجف
يكنها الجو في النهار ويؤ
ويها سواد الدجى إلى شرف
تحنو بجؤشوشها
8
على ضرم
كقعدة المنحني من الخرف
ولا شبوب
9
باتت تؤرقه الن
نثرة منها بوابل قصف
دان على الأرض والوصيد وفي
بهو أمين الإياد ذي هدف
10
ديدنه ذاك طول ليلته
حتى إذا انجاب حاجب السدف
غدا كوقف الهلوك ينهفت ال
قطقط
11
من منبتيه والكتف
كأن شذرا وهت معاقده
بين صلاه فملعب الشنف
وأخدري صلب النواهق صل
صال أمين الفصوص والوظف
منفرد في الفلاة توسعه
ريا وما يختليه من علف
ما ترك الموت من أولى شبحا
بادت بتلك القلال والشعف
لما رأيت المنون آخذة
كل شديد وكل ذي ضعف
بت أعزي الفؤاد عن خلف
وبات دمعي إلا يفض يكف
أنسى الرزايا ميت فجعت به
أمسى رهين التراب في جدف
كان يسني
12
برفقه غلقا
في غير عي منه ولا عنف
يجوب عنك التي غشيت بها
من قبل حتى يشفيك في لطف
لا يبهم الحاء في القراءة بالخا
ء ولا لامها مع الألف
ولا يعمي معنى الكلام ولا
يكون إنشاده عن الصحف
وكان ممن مضى لنا خلفا
فليس منه إذ بان من خلف
واختلف أبو نواس إلى أبي زيد فكتب الغريب من الألفاظ، ثم نظر في نحو سيبويه، ثم طلب الحديث فكتب عن عبد الواحد بن زياد ويحيى القطان وأزهر السمان وغيرهم، فلم يتخلف عن أحد منهم، وأدرك الناس فعلم، ثم قدم بغداد بعد ذلك.
وكان أيضا يتنزر ويدعى للفرزدق. ثم وقع بينه وبين الحكم بن قنبر المازني، فهجاه الحكم وذكر بريه العود وبغى عليه ونكبه. ولما قال أبو نواس قصيدته التي يهجو بها خندف، وهي:
ألم تربع على الطلل الطماس
عفاه كل أسحم ذي ارتجاس
13
وذاري الترب مرتكم حصاه
نسيج الميث معنقة الدهاس
14
سوى سفع أعارتها الليالي
سواد الليل من بعد اغبساس
15
وأورق حالف المثواة هاب
كضاوي الفراخ من الهلاس
16
منازل من عفيرة أو سليمى
أو الدهماء أخت بني الحماس
كأن معاقد الأوضاح منها
بجيد أغن نوم في الكناس
وتبسم عن أغر كأن فيه
مجاج سلافة من بيت راس
17
فمن ذا مبلغ عمرا رسولا
فقد ذكرت ودك غير ناس
فلم أهجرك هجر قلى ولكن
نوائب لا نزال لها نقاسي
نوائب تعجز الأدباء عنها
ويعيا دونها اللقن النطاسي
وقد نافحت عن أحساب قوم
هم ورثوا مكارم ذي نواس
فإن تك أوقدت للحرب نار
فما غطيت خوف الحرب راسي
سأبلي خير ما أبلى محام
إذا ما النبل ألجم بالقياس
18
وسمت الوائلين بفاقرات
بهن وسمت رهط أبي فراس
وقالت كاهل وبنو قعين
حنانك إننا لسنا بناس
فما بال النعاج ثغت بشتمي
وفي زمعاتهن دم الفراس
وما حامت عن الأحساب إلا
لترفع ذكرها بأبي نواس
عارضه الحكم وهجاه، فانقلب على النزارية وادعى أنه من حاء وحكم؛ فزجره يزيد بن منصور الحميري خال المهدي وقال له: أنت خوزي، فمالك ولحاء وحكم! فقال له: أنا مولى لهم. فتركوه، وقال بعضهم لبعض: إنه لظريف اللسان غزير العلوم فدعوه، وبهذا الولاء يتعصب لنا ويكايد عنا ويهجو النزارية. فكان كما قالوا وكما ظنوا، فانقلب إلى اليمن وعدل عن كنيته بأبي فراس واكتنى بأبي نواس، تشبها بكنية ذي نواس كما كانت اليمن تكتني، وندم على هجاء اليمن، ووجدهم له أنصر ولدعوته أقبل، فاعتذر إلى هاشم بن حديج الكندي من هجائه، ومدح اليمن فقال:
أهاشم خذ مني رضاك وإن أتى
رضاك على نفسي فغير ملوم
فأقسم ما جاوزت بالشتم والدي
وعرضي وما مزقت غير أديمي
فعذت بحقوي هاشم فأعاذني
كريم أراه فوق كل كريم
وإن امرأ أغضى على مثل زلتي
وإن جرحت فيه لجد حليم
تطاول فوق الناس حتى كأنما
يرون به نجما أمام نجوم
إذا امتازت الأحساب يوما بأهلها
أناخ إلى عادية وصميم
إلى كل معصوب به التاج مقول
إليه أيادي عامر وتميم
وكان قبل أن ينتمي لليمن ويدعى لنزار يتعاجم في شعره، فمن ذلك قوله:
فاسقنيها وغن صو
تا، لك الخير، أعجما
ليس في نعت دمنة
لا ولا زجر أشأما
وكان الجاحظ يقول: ما أعرف لأبي نواس شعرا يفضل هذه القصيدة، وهي:
ودار ندامى عطلوها وأدلجوا
بها أثر منهم جديد ودارس
مساحب من جر الزقاق على الثرى
وأضغاث ريحان جني ويابس
حبست بها صحبي فجددت عهدهم
وإني على أمثال تلك لحابس
ولم أدر منهم غير ما شهدت به
بشرقي ساباط الديار البسابس
أقمنا بها يوما ويوما وثالثا
ويوما له يوم الترحل خامس
تدار علينا الراح في عسجدية
حبتها بأنواع التصاوير فارس
قرارتها كسرى وفي جنباتها
مها تدريها بالقسي الفوارس
فللخمر
19
ما زرت عليه جيوبها
وللماء ما دارت عليه القلانس
وقوله يصف كرمة وعبر عنها بالهجمة وهو يريد الدنان:
لنا هجمة لا يدرك الذئب سخلها
ولا راعها نزو الفحالة والخطر
إذا امتحنت ألوانها مال صفوها
إلى الكمت إلا أن أوبارها خضر
وإن قام فيها الحالبون اتقتهم
بنجلاء ثقب الجوف درتها الخمر
مسارحها الغربي من نهر صرصر
فقطربل فالصالحية فالعقر
تراث أبي ساسان كسرى ولم تكن
مواريث ما أبقت تميم ولا بكر
قصرت بها ليلي وليل ابن حرة
له حسب زاك وليس له وفر
وفي تعاجم أبي نواس في شعره يقول الرقاشي يهجوه:
نبطي فإذا قيل له
أنت مولى حكم قال أجل
هو مولى الله إذ كان به
لاحقا فالله أعلى وأجل
واضعا نسبته حيث اشتهى
فإذا ما رابه ريب رحل
فقال أبو نواس يهجوه:
هجوت الفضل دهري وهو عندي
رقاشي كما زعم المسول
فلما سوئلت عنه رقاش
لنعلم ما تقول وما يقول
ولما أن نصصناه إليها
لتعلم ما يقال وما نقول
وجدنا الفضل أبعد من رقاش
من الأتن ادعت فيها الفيول
وجدنا الفضل أكرم من رقاش
لأن الفضل مولاه الرسول
يريد بذلك قوله
صلى الله عليه وسلم : «أنا مولى من لا مولى له.»
وقال أيضا يهجوه:
قل للرقاشي إذا جئته
لو مت يا أحمق لم أهجكا
لأنني أكرم عرضي ولا
أقرنه يوما إلى عرضكا
إن تهجني تهج فتى ماجدا
لا يرفع الطرف إلى مثلكا
دونك عرضي فاهجه راشدا
لا تدنس الأعراض من هجوكا
والله لو كنت جريرا لما
كنت بأهجى لك من أصلكا
وقال أيضا يهجوه:
يا عربيا من صنعة السوق
وصنعة السوق ذات تشقيق
ما رأيكم يا نزار في رجل
يدخل فيكم من خلق مخلوق
ويحمل الوطب والعلاب ولا
يصلح إلا لحمل إبريق
لقد ضربنا بالطبل أنك في ال
قوم صحيح وصيح في البوق
قد أخذ الله من رقاش على
تركهم المجد بالمواثيق
فالناس يسعون للعلا قدما
وهم وراء مكسرو السوق
هذا كذاكم وفي الهياج إذا
هيج فما شئت من بواشيق
20
وقال أيضا يهجوه:
أصبح الفضل ظاهر التيه
وذاك مذ صرت أهاجيه
لله شعري، أي مفواهة
لكل من دوني قوافيه
كم بين فضل منذ هاجيته
وبينه قبل أهاجيه
فالحمد لله وإن كنت لم
أحفل بقوم نصحوا فيه
رضيت أن يشتمني ساقط
شسعي خير من مواليه
وكان أبو نواس في دعاويه يتماجن ويعبث ويخفي نسبه واسم أمه لئلا يهجى، وذلك مشهور عنه. ولو غضب هو نفسه على أبيه لهجاه ولم يحتشم. والمذكور من أمره أنه كان مولى الحكميين، يفتخر باليمن ويمدحهم لذلك، ويمدح العجم ويذكرهم لأنه منهم، فلذلك قال في العجم ما قال.
قال أبو الفرج الأصفهاني: كان أبو عبيدة يقول: ذهبت اليمن بجد الشعر وهزله: امرؤ القيس بجده، وأبو نواس بهزله. وكان يقول: ذهبت اليمن بجيد الشعر في قديمه وحديثه: امرؤ القيس في الأوائل، وأبو نواس في المحدثين. وكان يقول: شعراء اليمن ثلاثة: امرؤ القيس وحسان بن ثابت وأبو نواس. وقال أيضا: أبو نواس في المحدثين مثل امرئ القيس في المتقدمين، فتح لهم هذه الفطن ودلهم على المعاني وأرشدهم إلى طريق الأدب والتصرف في فنونه. وكان يقول: يعجبني من شعر أبي نواس قوله:
بنينا على كسرى سماء مدامة
مكللة حافاتها بنجوم
فلو رد في كسرى بن ساسان روحه
إذن لاصطفاني دون كل نديم
وسئل يعقوب بن السكيت عما يختار روايته من أشعار الشعراء، فقال: إذا أردت من الجاهليين فلأمرئ القيس والأعشى، ومن الإسلاميين فلجرير والفرزدق، ومن المحدثين فلأبي نواس فحسب. وقيل للعتبي: من أشعر الناس؟ قال: عند الناس أم عندي؟ قيل: عند الناس؟ قال: امرؤ القيس. قيل: فعندك؟ قال: أبو نواس.
وقال عبد الله بن محمد بن عائشة: من طلب الأدب فلم يرو شعر أبي نواس فليس بتام الأدب. وسئل: من أشعر المحدثين؟ فقال: الذي يقول:
كأن ثيابه أطلع
ن من أزراره قمرا
يزيدك وجهه حسنا
إذا ما زدته نظرا
بعين خالط التفتي
ر من أجفانها الحورا
ووجه سابري لو
تصوب ماؤه قطرا
وقد خطت حواضنه
له من عنبر طررا
وقال إبراهيم بن العباس الطويل: إذا رأيت الرجل يحفظ شعر أبي نواس علمت أن ذلك عنوان أدبه ورائد ظرفه.
وكان أبو نواس يقول عن نفسه: سفلت عن طبقة من تقدمني من الشعراء، وعلوت عن طبقة من معي ومن يجيء بعدي، فأنا نسيج وحدي.
وحدث جماعة من الرواة ممن شاهد أبا نواس قالوا: كان أقل ما في أبي نواس قول الشعر، وكان فحلا راوية عالما.
وقال أبو عبيدة: بلغني أن أبا نواس يتعاطى قرض الشعر فتلقاني وهو سكران ما طر شاربه بعد، فقلت له: كيف فلان عندك؟ فقال: ثقيل الظل، جامد النسيم. فقلت: زد. فقال: مظلم الهواء؛ منتن الفناء. فقلت: زد. فقال: غليظ الطبع، بارد الشكل. قلت: زد؛ فقال: وخم الطلعة؛ عسر القلعة؛ قلت: زد. قال: ناتئ الجنبات، بارد الحركات. قال: فخففت عنه. فقال: زدني سؤالا أزدك جوابا. فقلت: «كفى من القلادة ما أحاط بالعنق.»
وقال سليمان بن أبي سهل لأبي نواس: ما الذي استجيد من أجناس شعرك؟ فقال: أشعاري في الخمر لم يقل مثلها، وأشعاري في الغزل فوق أشعار الناس، وهما أجود شعري إن لم يزاحم غزلي ما قلته في الطرد.
وكان يقول: ما قلت الشعر حتى رويت لستين امرأة من العرب منهن الخنساء وليلى، فما ظنك بالرجال؟ وإني لأروي سبعمائة أرجوزة ما تعرف.
وكان قد استأذن خلفا في نظم الشعر، فقال: لا آذن لك في عمل الشعر إلا أن تحفظ ألف مقطوع للعرب ما بين أرجوزة وقصيدة ومقطوعة؛ فغاب عنه مدة وحضر إليه فقال له: قد حفظتها. فقال: أنشدها. فأنشده أكثرها في عدة أيام، ثم سأله أن يأذن له في نظم الشعر؛ فقال له: لا آذن لك إلا أن تنسى هذه الألف أرجوزة كأنك لم تحفظها. فقال له: هذا أمر يصعب علي فإني قد أتقنت حفظها، فقال له: لا آذن لك إلا أن تنساها، فذهب إلى بعض الديرة وخلا بنفسه وأقام مدة حتى نسيها، ثم حضر فقال: قد نسيتها حتى كأن لم أكن قد حفظتها قط. فقال له: الآن فانظم الشعر.
وكان أبو نواس يقول: لا أكاد أقول شعرا جيدا حتى تكون نفسي طيبة، وأكون في بستان مونق، وعلى حال أرتضيها من صلة أوصل بها أو وعد بصلة، وقد قلت وأنا على غير هذه الحال أشعارا لا أرضاها. وكان يعمل القصيدة ثم يتركها أياما، ثم يعرضها على نفسه فيسقط كثيرا منها ويترك صافيها، ولا يسره كل ما يقذف به خاطره. وكان يهمه الشعر في الخمر فلا يعمله إلا في وقت نشاطه. ولم يكن في الشعر بالبطيء ولا بالسريع بل كان في منزلة وسطى.
وكان الأصمعي يقول: يعجبني من شعر الشاعر بيت واحد قد أجاد قائله وهو:
ضعيفة كر الطرف تحسب أنها
قريبة عهد بالإفاقة من سقم
وإني لآتي الأمر من حيث يتقى
ويعلم سهمي حين أنزع من أرمي
قال العنابي لرجلين تناظرا في شعر أبي نواس: والله لو أدرك الخبيث الجاهلية ما فضل عليه أحد.
وقال أبو عمرو الشيباني: أشعر الناس في وصف الخمر ثلاثة: الأعشى والأخطل وأبو نواس.
قال محمد بن عمر: لم يكن شاعر في عصر أبي نواس إلا وهو يحسده لميل الناس إليه وشهوتهم لمعاشرته، وبعد صيته وظرف لسانه.
وقال أبو حاتم: سئل أبو نواس عن شعره فقال: إذا أردت أن أجد، قلت مثل قصيدي: «أيها المنتاب عن عفره»، وإذا أردت العبث قلت مثل قصيدي: «طاب الهوى لعميده»، فأما الذي أنا فيه وحدي وكله جيد فإذا وصفت الخمر.
وقال أبو ذكوان: كنا عند التوزي فذكرت عنده أبا نواس، فوضع منه بعض الحاضرين؛ فقال له التوزي: أتقول هذا لرجل يقول:
يخافه الناس ويرجونه
كأنه الجنة والنار
ويقول:
فما جازه جود ولا حل دونه
ولكن يصير الجود حيث يصير
ويقول:
فتمشت في مفاصلهم
كتمشي البرء في السقم
قال ابن الأعرابي يوما لجلسائه: ما أشعر ما قال أبو نواس في الخمر؟ فقال بعضهم:
إذا عب فيها شارب القوم خلته
يقبل في داج من الليل كوكبا
وقال آخر:
كأن كبرى وصغرى من فقاقعها
حصباء در على أرض من الذهب
وقال آخر:
ترى حيث ما كانت من البيت مشرقا
وما لم تكن فيه من البيت مغربا
وقال آخر:
فكأن الكئوس فينا نجوم
دائرات بروجها أيدينا
وقال آخر:
صفراء لا تنزل الأحزان ساحتها
لو مسها حجر مسته سراء
فقال ابن الأعرابي: إن هذا كله لشاعر انفرد بالإحسان فيه، وتقدم من سبقه ومن تأخر عنه، ولكنه أشعر من هذا كله في قوله:
لا ينزل الليل حيث حلت
فدهر شرابها نهار
قال مسلم بن بهرام: لقيت أبا العتاهية فقلت له: من أشعر الناس؟ قال: تريد جاهليها أو إسلاميها أو مولدها؟ قال: كلا أريد. قال: الذي يقول في المديح:
إذا نحن أثنينا عليك بصالح
فأنت كما نثني وفوق الذي نثني
وإن جرت الألفاظ يوما بمدحة
لغيرك إنسانا فأنت الذي نعني
والذي يقول في الزهد:
ألا رب وجه في التراب عتيق
ويارب حسن في التراب رقيق
ويارب حرم في التراب ونجدة
ويارب رأي في التراب وثيق
فقل لقريب الدار إنك راحل
إلى منزل نائي المحل سحيق
وما الناس إلا هالك وابن هالك
وذو نسب في الهالكين عريق
إذا امتحن الدنيا لبيب تكشفت
له عن عدو في ثياب صديق
وكان يقول: سبقني أبو نواس إلى ثلاثة أبيات وددت أني سبقته إليها بكل ما قلته؛ فإنه أشعر الناس فيها، منها قوله:
يا كبير الذنب عفو الله
من ذنبك أكبر
وقوله:
من لم يكن لله متهما
لم يمس محتاجا إلى أحد
وقوله:
إذا امتحن الدنيا لبيب تكشفت
له عن عدو في ثياب صديق
ثم قال: قلت في الزهد ستة عشر ألف بيت وددت أن أبا نواس له ثلثها بهذه الأبيات.
وقال الجاحظ: سمعت النظام يقول، وقد أنشد شعرا لأبي نواس: كأن هذا الفتى جمع له الكلام فاختار أحسنه. وقال بعضهم: كأن المعاني حبست عليه، فأخذ حاجته وفرق الباقي على الناس. وقال أبو حاتم: كانت المعاني مدفونة حتى أثارها أبو نواس.
حدث الحسين بن الخصيب الكاتب، قال: قال أحمد بن يوسف الكاتب: كنت أنا وعبد الله بن طاهر عند المأمون، وهو مستلق على قفاه، فقال لعبد الله بن طاهر: يا أبا العباس، من أشعر من قال الشعر في خلافة بني هاشم؟ فقال: أمير المؤمنين أعرف بهذا وأعلى عينا. فقال له المأمون: على ذلك قفل. تكلم أنت يا أحمد بن يوسف. فقال عبد الله بن طاهر: أشعرهم الذي يقول :
ويا قبر معن كنت أول حفرة
من الأرض خطت للسماحة منزلا
قال أحمد بن يوسف الكاتب: فقلت: بل أشعرهم الذي يقول:
أشبهت أعدائي فصرت أحبهم
إذ كان حظي منك حظي منهم
فقال المأمون: يا أحمد أبيت إلا غزلا! أين أنتم عن الذي يقول:
يا شقيق النفس من حكم
نمت عن ليلي ولم أنم
فقلنا: صدقت يا أمير المؤمنين.
وكان المأمون يقول: لو سئلت الدنيا عن نفسها فنطقت، لما وصفت نفسها كما وصفها أبو نواس في قوله:
إذا امتحن الدنيا لبيب تكشفت
له عن عدو في ثياب صديق
ورد على العتابي بحلب عدة من الكبار من أهل قنسرين، فدخلوا وسلموا؛ وكان في يده رقعة ينظر إليها، فقال لهم: لقد سلك صاحب هذه الرقعة واديا ما سلكه أحد قبله! فنظروا فإذا هو شعر أبي نواس في جنان جارية آل عبد الوهاب الثقفي، وهو قوله:
ربع الكرى بين الجفون محيل
عفى عليه بكي عليك طويل
يا ناظرا ما أقلعت لحظاته
حتى تشحط بينهن قتيل
أحللت قلبي من هواك محلة
ما حلها المشروب والمأكول
بكمال صورتك التي من دونها
يتخير التشبيه والتمثيل
فوق القصيرة والقصيرة فوقها
دون السمين ودونها المهزول
ومما أنشده العتابي لأبي نواس فقال أحسن وأجاد:
متتايه بجماله صلف
لا يستطاع كلامه تيها
للحسن في وجناته بدع
ما إن يمل الدرس قاريها
لو كانت الأشياء تعقله
أجللنه إجلال باريها
لو تستطيع الأرض لانقبضت
حتى يصير جميعه فيها
وقوله:
إن السحاب لتستحيي إذا نظرت
إلى نداك فقاسته بما فيها
حتى تهم بإقلاع فيمنعها
خوف من السخط من إجلال منشيها
قال محمد بن صالح بن بيهس الكلابي: لما دخلت العراق صرت إلى مدينة السلام فسألت عمن بها من الشعراء المحسنين، وذلك في أيام خلافة الأمين أو عند موته قبل دخول المأمون بيسير، فقيل لي: قد غلب عليهم فتى من أهل البصرة يقال له الحسن بن هانئ ويعرف بأبي نواس. وقد كنت سمعت شيئا من شعره، فأتاني فتى كان من أهل الأدب، فقلت له: هل تروي لأبي نواسكم هذا شيئا؟ قال: أروي له أبياتا في الزهد وليس هو من طريقته. فقلت: أنشدنيها. فأنشدني:
أخي ما بال قلبك ليس ينقى
كأنك لا تظن الموت حقا
ألا يا بن الذين فنوا وبادوا
أما والله ما ذهبوا لتبقى
وما للنفس عندك من مقام
إذا ما استكملت أجلا ورزقا
وما أحد بزادك منك أحظى
ولا أحد بذنبك منك أشقى
ولا لك غير تقوى الله زاد
إذا جعلت إلى اللهوات ترقى
فقلت له: أحسن والله! قال: أفلا أنشدك أحسن من هذا؟ قلت بلى. فأنشدني في رثاء محمد الأمين:
طوى الموت ما بيني وبين محمد
وليس لما تطوي المنية ناشر
فلا وصل إلا عبرة تستديمها
أحاديث نفس ما لها الدهر ذاكر
لئن عمرت دور بمن لا أوده
لقد عمرت ممن أحب المقابر
وكنت عليه أحذر الموت وحده
فلم يبق لي شيء عليه أحاذر
فقال: بحق ما غلب هذا على أهل الأدب وقدموه على غيره.
قال محمد بن جعفر الأصم: كنا عند أبي نعيم، فتذاكرنا قول عائشة أم المؤمنين - رضي الله عنها - حين ذكرت شعر لبيد يرثي أخاه أربد:
ذهب الذين يعاش في أكنافهم
وبقيت في خلف كجلد الأجرب
ولقد أنشدني أبو نعيم أبياتا، قلنا: أنشدناها. فقال:
ذهب الناس فاستقلوا وصرنا
خلفا في أراذل النسناس
في أناس نعدهم من عديد
فإذا فتشوا فليسوا بناس
كلما جئت أبتغي الفضل منهم
بدروني قبل السؤال بياس
وبكوا لي حتى تمنيت أني
مفلت عند ذاك رأسا براس
ثم قال: أتدرون لمن الشعر؟ قلنا: لا . قال: للحسن بن هانئ.
قال أبو عبد الرحمن الضرير: رأيت مسلم بن الوليد بجرجان وهو يتولاها، فسألني عمن خلفت من الشعراء؛ فقلت له: أما من الكوفيين فأبو نواس، وهو مقدم عندهم. فقال: ويحك! كيف يتقدم وهو يقول: رويدك يا إنسان لا أنت تقفز؟ أرأيت قوله: «تقفز» خرجت من بين فكي شاعر قط؟! ثم قال: ويلك! وكيف يكون كذلك وهو يحيل ويتخطى من صفة المخلوق إلى صفة الخالق؟ فقلت: مثل ماذا من قوله ؟ قال: أما فيما أحال فكقوله:
وأخفت أهل الشرك حتى إنه
لتخافك النطف التي لم تخلق
وهذا من الإغراق المستحيل في العقول ومما ليس على مذهب القوم؛ وأما في تخطيه بصفة المخلوق إلى صفة الخالق فكقوله:
يجل أن تلحق الصفات به
فكل خلق لخلقه مثل
وكقوله:
بريء من الأشباه ليس له مثل
ومما قيل عن أبي نواس إن الشعر إنما هو بين المدح والهجاء وأبو نواس لا يحسنهما، وأجود شعره في الخمر والطرد، وأحسن ما فيهما مأخوذ ليس له وإنما سرقه، وحسبك من رجل يريد المعنى ليأخذه فلا يحسن أن يبني عليه حتى يجيء به قبيحا، مثل قوله: «وداوني بالتي كانت هي الداء» أخذه من قول الأعشى: «وأخرى تداويت منها بها» والذي أخذه منه أحسن. ومنها أيضا قوله: «إن الشباب مطية الجهل» أخذه من قول النابغة الجعدي: «فإن مطية الجهل الشباب». وقوله: «كطلعة الأشمط من إهابه» أخذه من قول أبي النجم: «كطلعة الأشمط من كسائه». ولكن رزق أبو نواس في شعره أن سار وحمله الناس وقدمه أهل عصره، وإن له على ذلك لأشياء حسانا لا يدفعها ولا يطرحها إلا جاهل بالكلام أو حاسد.
ومن أحسن مدائح أبي نواس قوله من أرجوزته التي يمدح بها الفضل بن الربيع، وهي:
وبلدة فيها زور
صعراء تحظى في صعر
مرت
21
إذا الذئب اقتفر
بها من القوم الأثر
كان له من الجزر
كل جنين ما اشتكر
22
ولا تعلاه شعر
ميت النساحي الثغر
عسفتها
23
على خطر
وغرر من الغرر
ببازل حين فطر
يهزه جن الأشر
لا متشك من سدر
24
ولا قريب من خور
كأنه بعد الضمر
وبعد ما جال الضفر
25
وانمح في فحسر:
جأب
26
رباع المثغر
يحدو بحقب كالأكر
ترى بأثباج القصر
27
منهن توشيم الجدر
رعين أبكار الخضر
شهري ربيع وصفر
حتى إذا الفحل جفر
28
وأشبه السفى الإبر
ونش أذخار النقر
29
قلن له: ما تأتمر؟
وهن إذ قلن: أشر
غير عواص ما أمر
كأنها لمن نظر
ركب يشيمون مطر
حتى إذا الظل قصر
يممن من جنبي هجر
أخضر طمام العكر
وبين أحقاف القتر
سار وليس للسمر
ولا تلاوات السور
يمسح مرنانا يسر
30
زمت بمشزور المرر
لأم كحلقوم النغر
31
حتى إذا اصطف السطر
أهدى لها لو لم تجر
دهياء يحدوها القدر
فتلك عنس لم تدر
شهبا إذا الآل ظهر
إليك كلفنا السفر
خوصا يجاذبن النظر
قد انطوت منها السرر
طي القراري
32
الحبر
لم تتقعدها الطير
ولا السنيح المزدجر
يا فضل للقوم البطر
إذ ليس في الناس عصر
ولا من الخوف وزر
ونزلت إحدى الكبر
وقيل صماء الغير
فالناس أبناء الحذر:
فرجت هاتيك الغمر
عنا «وقد صابت بقر»
33
كالشمس في شخص بشر
أعيا مجاريك الخطر
أبوك جلي عن مضر
يوم الرواق المحتضر
والخوف يفري ويذر
لما رأى الأمر اقمطر
34
قام كريما فانتصر
كهزة العضب الذكر
ما مس من شيء هبر
35
وأنت تقتاف الأثر
من ذي حجول وغرر
معيد ورد وصدر
وإن علا الأمر اقتدر
فأين أصحاب الغمر
إذ شربوا كأس المقر
36
وقصروا فيمن قصر
هيهات لا يخفى القمر
أصحرت
37
إذ دبوا الخمر
شكرا، وحر من شكر
فالله يعطيك الشبر
38
وفي أعاديك الظفر
والله من شاء نصر
وأنت إن خفنا الحصر
39
وهر دهر وكشر
عن ناجذيه وبسر
40
أغنيت ما أغنى المطر
وفيك أخلاق اليسر
فإن أبوا إلا العسر
أمررت
41
حبلا فاستمر
حتى ترى تلك الزمر
تهوي لأذقان الثغر
42
من جذب ألوى
43
لو نتر
إليه طودا لانأطر
44
صعب إذا لاقى أبر
وإن هفا القوم وقر
أو رهبوا الأمر جسر
ثم تسامى ففغر
عن شقشق ثم هدر
ثم تناجى فخطر
بذي سبيب
45
وعذر
يمضع أطراف الوبر
هل لك والهل
46
خير
فيمن إذا غبت حضر
أو نالك القوم ثأر
وإن رأى خيرا شكر
أو كان تقصير عذر
ولما عمل أبو نواس القصيدة التي أولها: «ومستعبد إخوانه بثرائه» بلغت الأمين، فبعث إليه، وعنده سليمان بن جعفر، فلما دخل عليه قال له: يا عاض بظر أمه العاهرة، ويا مدعي ولاء حاء وحكم! أتدري يا بن اللخناء من توليت وإلى من ادعيت؟ إلى ألأم قبيلتين في اليمن، علوج باغين. أنت تكتسب بشعرك أوساخ أيدي الناس اللئام، وتقول: «ولا صاحب التاج المحجب في القصر»! أما والله ما نلت مني شيئا بعد ذلك أبدا!
فقال له سليمان بن أبي جعفر: إي والله! نعم هو مع هذا من كبار الثنوية
47 (وكان يرمي بذلك). فقال له محمد الأمين: وهل يشهد عليه شاهد بشيء من ذلك؟ فأتاه سليمان بعدة نفر، فشهدوا عليه أنه شرب في يوم مطير فوضع قدحه تحت السماء في المطر فوقع فيه المطر؛ فقالوا له: ما تصنع بذلك ويحك؟ قال: أنتم تزعمون أنه ينزل مع كل قطرة ملك، فكم تراني أشرب من الملائكة؟! ثم شرب ما في القدح؛ فغضب محمد، وأمر به إلى السجن. فذلك قول أبي نواس:
يا رب إن القوم قد ظلموني
وبلا اقتراف معطل حبسوني
وإلى الجحود بما عرفت خلافه
ربي إليك بكذبهم نسبوني
ما كان إلا الجري في ميدانهم
في كل خزي والمجانة ديني
لا العذر يقبل لي ويفرق شاهدي
منهم، ولا يرضون حلف يميني
ما كان - لو يدرون - أول مخبأ
في دار منقصة ومنزل هون
أما الأمين فلست أرجو دفعه
عني، فمن لي اليوم بالمأمون
فبلغت أبياته المأمون، فقال: والله لئن لحقته لأغنينه غنى لا يؤمله. فمات قبل دخول المأمون بغداد.
لما وصلت الخلافة إلى محمد الأمين وولى الفضل بن الربيع الوزارة، تفرغ محمد للهو والصيد والنزهة، وكان لا يخرج إلا لصيد أو لنزهة. فخرج ذات يوم وقد أمر الجند والقواد فركبوا، ولبس ثيابه وتقلد سيفه، وأعدت الحراقات
48
والزلاجات في دجلة ؛ فقال له إسماعيل بن صبيح - وكان كاتب سره: يا أمير المؤمنين، إن قوادك وجندك وعامة رعيتك قد خبثت نفوسهم، وساءت ظنونهم، وكبر عندهم ما يرون من احتجابك عنهم، فلو جلست لهم ساعة من نهار فدخلوا عليك! فإن في ذلك تسكينا لهم ومراجعة لآمالهم! فجلس في مجلسه وأذن للناس عامة فدخلوا على مراتبهم ومنازلهم، وقام الخطباء فخطبوا، والشعراء فأنشدوا، فلم يكن أحد منهم يتعدى إلى الإطناب والتطويل، إلا أمر بالسكوت ومنع من القول .
وقام فيمن قام أبو نواس، فقال: يا أمير المؤمنين! هؤلاء الشعراء أهل حجر ومدر، وإبل ووصف للبقر وبيوت الشعر، قد جفت ألفاظهم، وغلظت معانيهم، ليس لهم بصر بمدح الخلفاء ونشر مكارمهم، فإن رأى أمير المؤمنين أن يأذن لي في إنشاده فليفعل. فأذن له فأنشده:
أيا دارها بالماء حتى تلينها
فلن تكرم الصهباء حتى تهينها
أغالي بها حتى إذا ما ملكتها
أهنت لإكرام الخليل مصونها
وصفراء قبل المزج بيضاء بعده
كأن شعاع الشمس يلقاك دونها
ترى العين تستعفيك من لمعانها
وتحسر حتى ما تقل جفونها
نزوع بنفس المرء عما يسوءه
ويجذله ألا يزال قرينها
كأن يواقيتا رواكد حولها
وزرق سنانير تدير عيونها
وشمطاء حل الدهر منها بنجوة
دلفت إليها فاستللت جبينها
كأنا حلول بين أكناف روضة
إذا ما سلبناها مع الليل طينها
إلى أن أكمل القصيدة. فقال له محمد: ألم أنهك عن شرب الخمر! قال: بلى يا أمير المؤمنين، والله ما شربتها منذ نهيتني عنها ومنعتني من شربها، وأنا الذي أقول:
أيها الرائحان باللوم لوما
لا أذوق المدام إلا شميما
نالني بالملام فيها إمام
لا أرى لي خلافه مستقيما
فاصرفاها إلى سواي فإني
لست إلا على الحديث نديما
كبر حظي منها إذا هي دارت
أن أراها وأن أشم النسيما
فكأني وما أزين منها
قعدي يحسن التحكيما
49
كل عن حمله السلاح إلى الحر
ب فأوصى المطيق ألا يقيما
فتبسم محمد، وقال له: أحسنت! وقام بعض الشعراء فأنشد:
ترقى في فضائله الأمين
وزايله المشاكل والقرين
وأورق زهرة التقوى وعزت
خلافته وصدقت الظنون
تمس منابر الخلفاء منه
يد بخلاف طاعتها المنون
يخاف الخوف صولته ويرجو
نداه الجود فهو له خدين
فقال عدة ممن حضر: قد أوجز وأجاد، أكرم الله أمير المؤمنين! فقال أبو نواس: أشعر منه يا أمير المؤمنين الذي يقول:
ألا يا خير من رأت العيون
نظيرك لا يحس ولا يكون
وفضلك لا يحد ولا يجارى
ولا تحوي حيازته الظنون
فأنت نسيج وحدك لا شبيه
نحاشيه عليك ولا خدين
خلقت بلا مشاكلة لشيء
فأنت الفوق والثقلان دون
كأن الملك لم يك قبل شيئا
إلى أن قام بالملك الأمين
قال: ففضله محمد وأحسن جائزته. ويقال: إنه قالها بديها.
ثم نهض محمد من مجلسه ذلك، فركب الحراقة إلى الشماسية، واصطفت له الخيل وعليها الرجال على شاطئ دجلة، وحملت معه المطابح والخزائن. وكان ركوبه حراقة
50
على مثال الأسد. فما رأى الناس منظرا كان أبهى ولا مسيرا كان أحسن من ذلك المنظر والمسير. وركب أبو نواس معه يومئذ وهو ينادمه، فقال:
سخر الله للأمين مطايا
لم تسخر لصاحب المحراب
51
فإذا ما ركابه سرن بحرا
سار في الماء راكبا ليث غاب
أسدا باسطا ذراعيه يعدو
أهرت الشدق
52
كالح الأنياب
لا يعانيه باللجام ولا السو
ط ولا غمز رجله في الركاب
عجب الناس إذ رأوك على صو
رة ليث تمر مر السحاب
سبحوا إذ رأوك سرت عليه
كيف لو أبصروك فوق العقاب
ذات زور ومنسر وجناحي
ن تشق العباب بعد العباب
تسبق الطير في السماء إذا ما اس
تعجلوها بجيئة وذهاب
بارك الله للأمين وأبقا
ه وأبقى له رداء الشباب
ملك تقصر المدائح عنه
هاشمي موفق للصواب
ويقال: إن هذا الشعر قاله أبو نواس في محمد، وقد ركب حراقته الدلفين؛ فقال له شيخ إلى جانبه: اتق الله يا هذا! فقال له أبو نواس: يا شيخ، إن الله لم يسخر لصاحب المحراب الدلفين، وقد سخر له ما هو خير من الدلفين، فأي شيء تنكر من هذا؟
قال ابن حبيب: كنت مع مؤنس بن عمران، ونحن نريد الفضل بن الربيع ببغداد، فقال مؤنس: لو دخلنا على أبي نواس في السجن فسلمنا عليه! ففعلنا؛ فقال أبو نواس لمؤنس: أين تريد؟ فقال: أريد أبا العباس الفضل بن الربيع. قال: فبلغه رقعة أعطيكها. قال: نعم. فأعطاه رقعة فيها:
ما من يد في الناس واجدة
كيد أبو العباس مولاها
نام البغاة على مضاجعهم
وسرى إلى نفسي فأحياها
قد كنت خفتك ثم أمنني
من أن أخافك خوفك الله
فعفوت عني عفو مقتدر
وجبت له نقم فألغاها
فكانت هذه الأبيات سبب خروجه من السجن.
انصرف أبو نواس من بعض المواخير سكران، فمر بمسجد قد حضرت فيه الصلاة، فدخل فقام في الصف الأول؛ فقرأ الإمام:
قل يا أيها الكافرون
فقال أبو نواس من خلفه: لبيك! فلما قضيت الصلاة لببوه
53
وقالوا له: يا كافر، نشهد عليك بالكفر! ودفعوه. فبلغ خبره الرشيد، فدعا له حمدويه صاحب الزندقة، وأحضر أبا نواس فقال له حمدويه: يا أمير المؤمنين، إن هذا ماجن، وليس هو بحيث يظن. فقال له الرشيد: ويحك! إنه وقع في نفسي منه شيء، فامتحنه. قال: فخط له صورة ماني،
54
وقال له: ابصق عليها. فأهوى أبو نواس بفيه ليقيء عليها؛ فقال له حمدويه: قد قلت لك يا أمير المؤمنين إنه ماجن. قال: ودعا برجل من الزنادقة مشهور، وقال له: ابصق عليها. فقال: وما معنى البصاق! إنه من أخلاق الشرك ولا أفعله، وأبى أن يفعل. فقال الرشيد لبعض خدم القصر: امض بهذا (يعني أبا نواس) إلى السندي، فقل له: أدبه وأطلقه، وبهذا (يعني الزنديق) فقل له: احبسه قبلك إلى أن تستتيبه، فإن تاب وإلا قتلناه. قال: فمضى بهما الخادم، فلما صار في آخر الصحن، قال أبو نواس للخادم: إلى أين تذهب بنا؟ قال: إلى السندي. قال: فما تقول له؟ قال: أقول له يحبسك قبله حتى تستتاب أو تقتل، ويؤدب هذا ويطلقه. قال: فرفع أبو نواس يده ولطمه، وقال له: يا بن الزانية، من الساعة نسيت! وبصر بهم الرشيد، فقال: ردوهم. فقال لأبي نواس: ما هذا الذي رأيت منك؟ قال: أراد والله أن يهلكني ويطرحني بحيث أنسى أبدا أو أبقى مخلدا، سله يا أمير المؤمنين عن الرسالة، فإذا هو قد غيرها. فضحك من أبي نواس وأطلقه.
قال رزين الكاتب: اجتمعنا يوما أنا وأبو نواس وعلي بن الخليل في سوق الكرخ، وكنا نجتمع ونتناشد الأشعار ونتذاكر الأخبار ونتحدث بها؛ فقال أبو نواس: أدبر من كان في نفسي وكان أسرع الخلق في طاعتي، فما أدري ما أحتال له! فقال علي بن الخليل يمازحه: يا أبا علي، سل شيخك وأستاذك يعطفه عليك؛ فقال له أبو نواس: من تعني؟ قال: من أنت في طاعته ليلك ونهارك (يعني إبليس)، فإن لم يقض لك هذه الحاجة، فما ينبغي لك أن تسأله مسألة ولا أن تقر عينه بمعصية. فقال: هو أسد لرأيه من أن يخل بي أو يخذلني. وانقضى مجلسنا ذلك. فلما كان بعد أيام اجتمعنا في ذلك الموضع، وأخذنا في أحاديثنا، فضحك أبو نواس؛ فقلنا له: ما أضحكك؟ فقال: ذكرت قول علي بن الخليل يومئذ: سل شيخك يعطفه عليك. حينئذ قد سألته يا أبا الحسن فقضى الحاجة، وما مضت والله ثالثة حتى أتاني من غير أن أبعث إليه ومن غير أن أستزيره، فعاتبني واسترضاني، وكان الغضب منه والتجني، وأحسب الشيخ (يعني إبليس) كان يتسمع علينا في وقت كلامنا؛ وقد قلت أبياتا في ذلك. فقلنا: هاتها. فأنشد:
لما جفاني الحبيب وامتنعت
عني الرسالات منه والخبر
واشتد شوقي فكاد يقتلني
ذكر حبيبي والهم والفكر
دعوت إبليس ثم قلت له
في خلوة والدموع تنحدر:
أما ترى كيف قد بليت وقد
أقرح جفني البكاء والسهر؟
إن أنت لم تلق لي المودة في
صدر حبيبي وأنت مقتدر
لا قلت شعرا ولا سمعت غنا
ولا جرى في مفاصلي السكر
ولا آزال القرآن أدرسه
أروح في درسه وأبتكر
وألزم الصوم والصلاة ولا
أزال دهري بالخير آتمر
فما مضت بعد ذاك ثالثة
حتى أتاني الحبيب يعتذر
ويطلب الود والوصال على
أفضل ما كان قبل يهتجر
فيا لها منة لقد عظمت
عندي لإبليس ما لها خطر
لما قدم أبو نواس على الخصيب
55
بمصر أذن له وعنده جماعة من الشعراء فاستنشده، فقال له: هنا جماعة من الشعراء هم أقدم مني وأسن، فأذن لهم في الإنشاد، فإن كان شعري نظير أشعارهم أنشدت وإلا أمسكت؛ فاستنشدهم الخصيب، فأنشدوا مديحا في الخصيب، فلم تكن أشعارهم مقاربة لشعر أبي نواس؛ فتبسم أبو نواس ثم قال: أنشدك أيها الأمير قصيدة هي بمنزلة عصا موسى لتلقف ما يأفكون؟ قال هات. فأنشده قصيدته التي أولها:
أجارة بيتينا أبوك غيور
وميسور ما يرجى لديك عسير
حتى أتى على آخرها، فانفض الشعراء من حوله.
ويقال: إن أبا نواس كان خرج إلى مصر في زي الشطار
56
وتقطيعهم بطرة قد صففها وكمين واسعين وذيل مجرور ونعل مطبق، وكان خروجه مع سليمان بن أبي سهل؛ فلما دخل على الخصيب بهذه الصورة ازدراه واستخف به، وكان تورد عليه كتب الجلة ممن بباب السلطان، ووردت كتب أبي نواس فيها فقرأها ولم يستنشده، فانصرف مهموما. وجاءه أهل الأدب فاستمعوا شعره وكتبوه وأنشدوه للخصيب؛ فاستحضره فأنشده:
أجارة بيتينا أبوك غيور
وميسور ما يرجى لديك عسير
فإن كنت لا خلما
57
ولا أنت زوجة
فلا برحت دوني عليك ستور
وجاورت قوما لا تزاور بينهم
ولا وصل إلا أن يكون نشور
فما أنا بالمشغوف ضربة لازب
ولا كل سلطان علي قدير
وإني لطرف العين بالعين زاجر
فقد كدت لا يخفى علي ضمير
كما نظرت والريح ساكنة لها
عقاب بأرساغ اليدين ندور
58
طوت ليلتين القوت عن ذي ضرورة
أزيغب لم ينبت عليه شكير
59
فأوفت على علياء حين بدا لها
من الشمس قرن والضريب يمور
60
تقلب طرفا في حجاجي مغارة
من الرأس لم يدخل عليه ذرور
61
ولما قال أبو نواس:
تقول التي من بيتها خف مركبي:
عزيز علينا أن نراك تسير
أما دون مصر للغنى متطلب؟
بلى إن أسباب الغنى لكثير
فقلت لها واستعجلتها بوادر
جرت فجرى في جريهن عبير
ذريني أكثر حاسديك برحلة
إلى بلد فيه الخصيب أمير
قال له الخصيب: إذا يكثر حسادها وتبلغ أملها. وأمر له بألف دينار.
وتمامها:
إذا لم تزر أرض الخصيب ركابنا
فأي فتى بعد الخصيب تزور!
فما جازه جود ولا حل دونه
ولكن يصير الجود حيث يصير
فتى يشتري حسن الثناء بماله
ويعلم أن الدائرات تدور
ولم تر عيني سوددا مثل سودد
يحل أبو نصر به ويسير
وأطرق حيات البلاد لحية
خصيبية التصميم حين تسور
62
سموت لأهل الجور في حال أمنهم
فأضحوا وكل في الوثاق أسير
إذا قام غنته على الساق حلية
لها خطوه عند القيام قصير
فمن يك أمسى جاهلا بمقالتي
فإن أمير المؤمنين خبير
فما زلت توليه النصيحة يافعا
إلى أن بدا في العارضين قتير
63
إذا غاله أمر فإما كفيته
وإما عليه بالكفاء تشير
إليك رمت بالقوم هوج كأنما
جماجمها تحت الرحال قبور
رحلن بنا من عقرقوف
64
وقد بدا
من الصبح مفتوق الأديم شهير
فما نجدت
65
بالماء حتى رأيتها
مع الشمس في عيني أباغ تغور
وغمرن من ماء النقيب بشربة
وقد حان من ديك الصباح زمير
ووافين إشراقا كنائس تدمر
وهن إلى رعن المدخن صور
66
يؤممن أهل الغوطتين كأنما
لها عند أهل الغوطتين ثئور
وأصبحن بالجولان يرضخن
67
صخرها
ولم يبق من أجراحهن شطور
وقاسين ليلا دون بيسان لم يكد
سنا صبحه للناظرين ينير
وأصبحن قد فوزن من نهر فطرس
وهن عن البيت المقدس زور
68
طوالب بالركبان غرة هاشم
وفي الفرما من حاجهن شقور
69
ولما أتت فسطاط مصر أجارها
على ركبها أن لا تزال مجير
من القوم بسام كأن جبينه
سنا الفجر يسري ضوءه وينير
زها بالخصيب السيف والرمح في الوغى
وفي السلم يزهو منبر وسرير
جواد إذا الأيدي كففن عن الندى
ومن دون عورات النساء غيور
له سلف في الأعجمين كأنهم
إذا استؤذنوا يوم السلام بدور
وإني جدير إذ بلغتك بالمنى
وأنت بما أملت منك جدير
فإن تولني منك الجميل فأهله
وإلا فإني عاذر وشكور
وقال يمدح العباس بن الفضل بن الربيع وأجاد:
ساد الملوك ثلاثة ما منهم
إن حصلوا إلا أغر قريع
ساد الربيع وساد فضل بعده
وعلت بعباس الكريم فروع
عباس عباس إذا احتدم الوغى
والفضل فضل والربيع ربيع
وقال يعاتب عمر الوراق:
يا من جفاني وملا
نسيت أهلا وسهلا
ومات مرحب لما
رأيت مالي قلا
إني أظنك تحكي
فيما فعلت القرلى
70
تلقاه في الشر ينأى
وفي الرخا يتدلى
وله في عزة النفس:
ومستعبد إخوانه بثرائه
لبست له كبرا أبر على الكبر
إذا ضمني يوما وإياه محفل
يرى جانبي وعرا يزيد على الوعر
أخالفه في شكله وأجره
على المنطق المبرور والنظر الشزر
وقد زادني تيها على الناس أنني
أراني أغناهم وإن كنت ذا فقر
فوالله لا يبدي لساني لجاجة
إلى أحد حتى أغيب في قبري
فلا يطمعن في ذاك مني طامع
ولا صاحب التاج المحجب في القصر
فلو لم أرث فخرا لكانت صيانتي
عن الناس حسبي من سؤالي من الفخر
دخل أبو نواس بعد ما نسك على قوم من إخوانه عندهم شراب ومغن، فعرضوا عليه الجلوس فأبى، وأخذ الدواة والقرطاس وكتب:
إذا لم تنه نفسك عن هواها
وتحسن صونها فإليك عني
فإني قد شبعت من المعاصي
ومن إدمانها وشبعن مني
ومن أسوأ وأقبح من لبيب
يرى متطربا في مثل سني
ومن شعر أبي نواس:
عفى المصلى وأقوت الكثب
مني فالمربدان فاللهب
منازل قد عمرتها يفعا
حتى بدا في عذاري الشهب
في فتية كالسيوف هزهم
شرخ شباب وزانهم أدب
ثم أراب الزمان فانقسموا
أيدي سبا في البلاد فانشعبوا
لن يخلف الدهر مثلهم أبدا
على هيهات شأنهم عجب
لما تيقنت أن روحتهم
ليس لها ما حييت منقلب
أبليت صبرا لم يبله أحد
واقتسمتني مآرب شعب
لذاك أني إذا رزئت أخا
فليس بيني وبينه نسب
قطربل مربعي ولي بقرى ال
كرخ مصيف وأمي العنب
ترضعني درها وتلحفني
بطلها والهجير يلتهب
إذا ثنته الغصون جللني
فينان
71
ما في أديمه جرب
تبيت في مأتم حمائمه
كما تراءى الفواقد السلب
يهب شوقي وشوقهن معا
كأنما يستخفنا الطرب
فقمت أحبو إلى الرضاع كما
تحامل الطفل مسه السغب
حتى تخيرت بنت دسكرة
قد عجمتها السنون والحقب
هتكت عنها والليل معتكر
مهلهل النسج ما له هدب
من نسج خرقاء لا تشد لها
أخية في الثرى ولا طنب
ثم توجأت خصرها بشبا ال
إ شفى فجاءت كأنها لهب
فاستوسق الشرب للندام وأج
راها علينا اللجين والغرب
72
أقول لما تحاكيا شبها
أيهما للتشابه الذهب
هما سواء وفرق بينهما
أنهما جامد ومنسكب
ملس وأمثالها محفرة
صور فيها القسوس والصلب
يتلون إنجيلهم وفوقهم
سماء خمر نجومها حبب
كأنها لؤلؤ تبدده
أيدي عذارى أفضى بها اللعب
ومن جيد شعره قوله لما منعه الأمين من شرب الخمر، وذلك أن المأمون أمر الخطباء بخراسان أن يعيبوا الأمين بشعر أبي نواس ويقولوا هو جليسه ونديمه وينشدوا على المنابر شعره، فمنعه الأمين فقال:
غننا بالطلول كيف بلينا
واسقنا نعطك الثناء الثمينا
من سلاف كأنه كل طيب
يتمنى مخبر أن يكونا
أكل الدهر ما تجسم منها
وتبقى لبابها المكنونا
ثم شجت فاستضحكت عن لآل
لو تجمعن في يد لاقتنينا
وإذا ما لمستها فهباء
تمنع الكف ما تبيح العيونا
في كئوس كأنهن نجوم
جاريات بروجها أيدينا
طالعات من السقاة علينا
فإذا ما غربن يغربن فينا
لو ترى الشرب حولها من بعيد
قلت قوم من قرة يصطلونا
وغزال يديرها ببنان
ناعمات يزيدها العسر لينا
ذاك عيش لو دام لي غير أني
عفته مكرها وخفت الأمينا
أدر الكأس حان أن تسقينا
وانقر العود إنه يلهينا
ودع الذكر للطلول إذا ما
دارت الكأس يسرة ويمينا
ومن قول أبي نواس يمدح العباس بن عبد الله بن جعفر بن أبي جعفر:
غرد الديك الصدوح
فاسقني طاب الصبوح
اسقني حتى تراني
حسنا عندي القبيح
قهوة تذكر نوحا
حين شاد الفلك نوح
نحن نخفيها ويأبى
طيب عرف فيفوح
فكأن القوم نهبى
بينهم مسك ذبيح
أنا في دنيا من العب
باس أغدو وأروح
هاشمي عبد لي
عنده يغلو المديح
علم الجود كتاب
بين عينيه يلوح
كل جو يا أميري
ما خلا جودك ريح
إنما أنت عطايا
أبدا ما تستريح
بح صوت المال مما
منك يشكو ويصيح
ما لهذا أحد فو
ق يديه أو نصيح
جدت بالأموال حتى
قيل ما هذا صحيح
فهو بالمال جواد
وهو بالعرض شحيح
صور الجود مثالا
وله العباس روح
قال محمد بن عيينة: لقيت أبا نواس بعسكر مكرم فقلت له: أحب أن تنشدني من شعرك شيئا تضن به على غيري، فأنشدني:
يكفي الكريم من الكلا
م لمن يحادثه أقله
والشيء شيء لم يزل
بأدقه يأتي أجله
إن لم يصبك من الكري
م الحر وابله فطله
يبدي مكارمه كما
يبدي فرند السيف سله
والنذل يوقع نفسه
متعمدا فيما يذله
والحر يكرم نفسه
بالصفح عمن لا يجله
وقال أبو نواس يمدح الأمين:
صببت على الأمين ثياب مدحي
فكل الناس حسن واستجادا
ولولا فضله ما جاد شعري
ولا أعطتني الفطن القيادا
وقالوا قد أجدت فقلت إني
وجدت القول يمكنني فجادا
ومن خمرياته:
ذكر الصبوح بسحرة فارتاحا
وأمله ديك الصباح صياحا
أوفى على شرف الجدار بسدفة
غردا يصفق بالجناح جناحا
فأدر صباحك بالصبوح ولا تكن
كمسوفين غدوا عليك شحاحا
إن الصبوح جلاء كل مخمر
بدرت يداه بكأسه الإصباحا
وخدين لذات معلل صاحب
تقتات منه فكاهة ومزاحا
نبهته والليل ملتبس به
وأزحت عنه نعاسه فانزاحا
قال ابغني المصباح، قلت له اتئد
حسبي وحسبك ضوءها مصباحا
فسكبت منها في الزجاجة شربة
كانت له حتى الصباح صباحا
من قهوة جاءتك قبل مزاجها
عطلا فألبسها المزاج وشاحا
شك البزال فؤادها فكأنها
أهدت إليك بريحها تفاحا
صفراء تفترس النفوس فلا ترى
منها بهن سوى السبات جراحا
ومنها:
لا تبك ليلى ولا تطرب إلى هند
واشرب على الورد من حمراء كالورد
كأسا إذا انحدرت في حلق شاربها
أجدته حمرتها في العين والخد
فالخمر ياقوتة والكأس لؤلؤة
من كف لؤلؤة ممشوقة القد
تسقيك من طرفها خمرا ومن يدها
خمرا فما لك من سكرين من بد
لي نشوتان وللندمان واحدة
شيء خصصت به من دونهم وحدي
كان الأصمعي يفضل أبا نواس على شعراء زمانه بهذه القصيدة:
أما ترى الشمس حلت الحملا
وطاب وقت الزمان واعتدلا
وغنت الطير بعد عجمتها
واستوفت الخمر حولها كملا
واكتست الأرض من زخارفها
وشي ثياب تخاله حللا
فاشرب على جدة الزمان فقد
أصبح وجه الزمان مقتبلا
من قهوة تذهب الهموم فلا
أرهب فيها الملام والعذلا
كرخية تترك الطويل من العي
ش قصيرا وتبسط الأملا
تلمع لمع السراب في قدح ال
قوم إذا ما حبابها اتصلا
يقول صرف إذا مزجت له
من لم يكن للكثير محتملا
فسق هذا بقدر طاقته
واحمل على ذا بقدر ما احتملا
عجنا بشيئين من طبائعها
حسن وطيب ترى به المثلا
كان أبو نواس لا يستنشد شيئا من شعره إلا أنشد هذه القصيدة:
وخيمة ناطور
73
برأس منيفة
تهم يدا من رامها بزليل
74
إذا عارضتها الشمس فاء ظلالها
وإن واجهتها آذنت بدخول
حططنا بها الأثقال فل
75
هجيرة
عبورية تذكى بغير فتيل
تأنت
76
قليلا ثم فاءت بمذقة
من الظل في رث الأباء ضئيل
كأنا لديها بين عطفي نعامة
جفا زورها عن مبرك ومقيل
حلبت لأصحابي بها درة الصبا
بصهباء من ماء الكروم شمول
إذا ما أتت دون اللهاة من الفتى
دعا همه من صدره برحيل
فلما توفى الشمس جنح من الدجى
تصابيت واستجملت غير جميل
وعاطيت من أهوى الحديث كما بدا
وذللت صعبا كان غير ذليل
فغنى وقد وسدت يسراي خده
ألا ربما طالبت غير منيل
وأنزلت حاجاتي بحقوي مساعد
وإن كان أدنى صاحب وخليل
وأصبحت ألحى السكر والسكر محسن
ألا رب إحسان عليك ثقيل
كفى حزنا أن الجواد مقتر
عليه ولا معروف عند بخيل
سأبغي الغنى إما جليس خليفة
يقوم سواء أو مخيف سبيل
بكل فتى لا يستطار جنانه
إذا نوه الزحفان باسم قتيل
لنخمس مال الله من كل فاجر
أخي بطنة للطيبات أكول
ألم تر أن المال عون على الندى
وليس جواد مقتر كبخيل
فإن استزيد أنشد هذه القصيدة الأخرى:
كان الشباب مطية الجهل
ومحسن الضحكات والهزل
كان الجمال إذا ارتديت به
ومشيت أخطر صيت النعل
كان البليغ إذا نطقت به
وأصاخت الآذان للمملي
كان المشفع في مآربه
عند الفتاة ومدرك التبل
والآمري حتى إذا عزمت
نفسي أعان يدي بالفعل
فالآن صرت إلى مقاربة
وحططت عن ظهر الصبا رحلي
والراح أهواها وإن رزأت
بلغ المعاش وقللت فضلي
صفراء مجدها مرازبها
جلت عن النظراء والمثل
ذخرت لآدم قبل خلقته
فتقدمته بحظوة القبل
فأتاك شيء لا تلامسه
إلا بحسن غريزة العقل
فترود منها العين في بشر
حر الصفيحة ناصع سهل
فإذا علاها الماء ألبسها
حببا شبيه جلاجل الحجل
حتى إذا سكنت جوامحها
خطت بمثل أكارع النمل
خطين من شتى ومجتمع
غفل من الإعجام والشكل
فاعذر أخاك فإنه رجل
مرنت مسامعه على العذل
ومن طيب شعره، والشطر الأول من القصيدة لفظ ابن الدمينة:
أعاذل ما على وجهي قتوم
ولا عرضي لأول من يسوم
يفضلني على الفتيان أني
أبيت فلا ألام ولا ألوم
أعاذل إن يكن برداي رثا
فلا يعدمك بينهما كريم
شققت من الصبا واشتق مني
كما اشتقت من الكرم الكروم
فلست أسوم للذات نفسي
مياومة كما دفع الغريم
ومتصل بأسباب المعالي
له في كل مكرمة قديم
رفعت له النداء بقم فخذها
وقد أخذت مطالعها النجوم
بتفدية تزال النفس فيها
وتمتهن الخئولة والعموم
فقام وقمت من أخوين هاجا
على طرب وليلهما بهيم
أجر الزق وهو يجر رجلا
يجور به النعاس ويستقيم
سل الندمان ما أولته منها
وسلها ما احتوى منها الكريم
كلا الشخصين منتصف ولكن
قضت وطرا وذا منها سقيم
وقال:
إني صرفت الهوى إلى قمر
لم تبتذله العيون بالنظر
إذا تأملته تعاظمك ال
إقرار أنه من البشر
ومن قوله:
يا شقيق النفس من حكم
نمت عن ليلى ولم أنم
فاسقني البكر التي اختمرت
بخمار الشيب في الرحم
ثمت انصات الشباب لها
بعد ما جازت مدى الهرم
فهي لليوم التي بزلت
وهي ترب الدهر في القدم
عتقت حتى لو اتصلت
بلسان ناطق وفم
لاحتبت في القوم ماثلة
ثم قصت قصة الأمم
فرعتها بالمزاج يد
خلقت للسيف والقلم
في ندامى سادة زهر
أخذوا اللذات من أمم
فتمشت في مفاصلهم
كتمشي البرء في السقم
فعلت في البيت إذ مزجت
مثل فعل الصبح في الظلم
فاهتدى ساري الظلام بها
كاهتداء السفر بالعلم
ومن طرديات أبي نواس في صفة الكلب:
أنعت كلبا أهله من كده
قد سعدت جدودهم بجده
فكل خير عندهم من عنده
وكل رفد نالهم من رفده
يظل مولاه له كعبده
يبيت أدنى صاحب من مهده
وإن عرى جلله ببرده
ذا غرة محجلا بزنده
تلذ منه العين حسن قده
يا حسن شدقيه وطول قده
تلقى الظباء عنتا من طرده
يشرب كأسا شدها من شده
يا لك من كلب نسيج وحده
أبو نواس وجنان
قال أبو الفرج: كانت جنان هذه جارية آل عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي، وكانت حلوة جميلة المنظر أديبة، ويقال: إن أبا نواس لم يصدق في حب امرأة غيرها، وقيل له يوما إن جنان قد عزمت على الحج، فكان هذا سبب حجه وقال: أما والله لا يفوتني المسير معها والحج عامي هذا إن أقامت على عزيمتها! وقال وقد حج وعاد:
ألم تر أنني أفنيت عمري
بمطلبها ومطلبها عسير
فلما لم أجد سببا إليها
يقربني وأعيتني الأمور
حججت وقلت قد حجت جنان
فيجمعني وإياها المسير
قال من شهده حين حج مع جنان وقد أحرم: لما جنه الليل جعل يلبي بشعر ويحدو به ويطرب، فغنى به كل من سمعه وهو قوله:
إلهنا ما أعدلك
مليك كل من ملك
لبيك قد لبيت لك
لبيك إن الحمد لك
والملك لا شريك لك
والليل لما أن حلك
والسابحات في الفلك
على مجاري المنسلك
ما خاب عبد أملك
أنت له حيث سلك
لولاك يا رب هلك
كل نبي وملك
وكل من أهل لك
سبح أو لبى فلك
يا مخطئا ما أغفلك
عجل وبادر أجلك
واختم بخير عملك
لبيك إن الملك لك
والحمد والنعمة لك
والعز لا شريك لك
وفيها يقول:
جفن عيني قد كان يس
قط من طول ما اختلج
وفؤادي من حر حب
ك والهجر قد نضج
خبريني فدتك نف
سي وأهلي متى الفرج
كان ميعادنا خرو
ج زياد فقد خرج
أنت من قتل عائذ
بك في أضيق الحرج
قال الأصفهاني: قال محمد بن إبراهيم بن كثير الصوفي: دخلنا على أبي نواس نعوده في علته التي مات فيها، فقال له علي بن صالح الهاشمي: يا أبا علي، أنت في أول يوم من أيام الآخرة وآخر يوم من أيام الدنيا، وبينك وبين الله عز وجل هنات، فتب إلى الله عز وجل. فبكى ساعة ثم قال: ساندوني ساندوني! ثم قال: أأخوف بالله عز وجل وقد حدثني حماد بن مسلم عن زيد الرقاشي عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : «لكل نبي شفاعة، وإني اختبأت شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي يوم القيامة.» أفتراني لا أكون منهم؟
ومن قوله في مرض موته:
دب في السقام علوا وسفلا
وأراني أموت عضوا فعضوا
ليس تمضي من لحظة بي إلا
نقصتني بمرها في جزوا
ذهبت جدتي بحاجة نفسي
وتطلبت طاعة الله نضوا
لهف نفسي على ليل وأيا
م تجاوزتهن لعبا ولهوا
قد أسأنا كل الإساءة فالل
هم صفحا عنا وغفرا وعفوا
ثم قال:
شعر حي أتاك من لفظ ميت
صار بين الحياة والموت وقفا
قد برت جسمه الحوادث حتى
كاد عن عين الخلائق يخفى
لو تأملتني لتبصر وجهي
لم تبن من كتاب وجهي حرفا
ولكررت طرف عينيك فيمن
قد براه السقام حتى تعفى
وكان عمر أبي نواس تسعا وخمسين سنة، وكانت وفاته قبل دخول المأمون مدينة السلام بست سنين (سنة 198). (2) العتابي
77
قال أحمد بن سهل: تذاكرنا شعر العتابى فقال بعضنا: فيه تكلف، ونصره بعضنا، فقال: شيخ حاضر: ويحكم! أيقال إن في شعره تكلفا وهو القائل:
رسل الضمير إليك تترى
بالشوق ظالعة وحسرى
متزجيات
78
ما يني
ن على الوجا من بعد مسرى
ما جف للعينين بع
دك يا قرير العين مجرى
فاسلم سلمت مبرأ
من صبوتي أبدا معرى
إن الصبابة لم تدع
مني سوى عظم مبرى
ومدامع عبرى على
كبد عليك الدهر حرى
أو يقال إنه متكلف وهو الذي يقول:
فلو كان للشكر شخص يبين
إذا ما تأمله الناظر
لمثلته لك حتى تراه
لتعلم أني امرؤ شاكر
وجد الرشيد على العتابي فدخل سرا مع المتظلمين بغير إذن، فمثل بين يدي الرشيد وقال له: يا أمير المؤمنين، قد آذتني الناس لك ولنفسي فيك، وردني ابتلاؤهم إلى شكرك، وما مع تذكرك قناعة بغيرك، ولنعم الصائن لنفسي كنت لو أعانني عليك الصبر، وفي ذلك أقول:
أخضني المقام الغمر إن كان غرني
سنا خلب أو زلت القدمان
أتتركني جدب المعيشة مقترا
وكفاك من ماء الندى تكفان
وتجعلني سهم المطامع بعد ما
بللت يميني بالندى ولساني
فأعجب الرشيد قوله، وخرج وعليه الخلع، وقد أمر له بجائزة.
كلم العتابي يحيى بن خالد في حاجة بكلمات قليلة، فقال له يحيى: لقد نزر كلامك اليوم وقل. فقال له: وكيف لا يقل وقد تكنفني ذل المسألة وحيرة الطلب وخوف الرد؟ فقال: والله لئن قل كلامك لقد كثرت فوائده، وقضى حاجته.
قال يحيى بن خالد البرمكي لولده: إن قدرتم أن تكتبوا أنفاس كلثوم بن عمرو العتابي فضلا عن رسائله وشعره، فلن تروا أبدا مثله.
وقف العتابي بباب المأمون يلتمس الوصول إليه، فصادف يحيى بن أكثم جالسا ينتظر الإذن، فقال له: إن رأيت - أعزك الله - أن تذكر أمري لأمير المؤمنين إذا دخلت فافعل. قال له: لست - أعزك الله - بحاجبه. قال: فإن لم تكن حاجبا فقد يفعل مثلك ما سألت، واعلم أن الله عز وجل جعل في كل شيء زكاة، وجعل زكاة المال رفد المستعين، وزكاة الجاه إغاثة المهلوف؛ واعلم أن الله عز وجل مقبل عليك بالزيادة إن شكرت، أو التغيير إن كفرت. وإني لك اليوم أصلح منك لنفسك، لأني أدعوك إلى ازدياد نعمتك وأنت تأبى. فقال له يحيى: أفعل وكرامة. وخرج الإذن ليحيى، فلما دخل لم يبدأ بشيء بعد السلام إلا أن استأذن المأمون للعتابي، فأذن له.
وقيل له: لو تزوجت! فقال: إني وجدت مكابدة العفة أيسر علي من الاحتيال لمصلحة العيال.
قال دعبل: ما حسدت أحدا قط على شعر كما حسدت العتابي على قوله:
هيبة الإخوان قاطعة
لأخي الحاجات عن طلبه
فإذا ما هبت ذا أمل
مات ما أملت من سببه
كان العتابي جالسا ذات يوم ينظر في كتاب، فمر به بعض جيرانه، فقال: أيش ينفع العلم والأدب من لا مال له؟ فأنشد العتابي قوله:
يا قاتل الله أقواما إذا ثقفوا
ذا اللب ينظر في الآداب والحكم
قالوا: وليس بهم إلا نفاسته
79
أنافع ذا من الإقتار والعدم
وليس يدرون ما الحظ الذي حرموا - لحاهم الله - من علم ومن فهم
ومن قوله أيضا:
لئن كانت الدنيا أنالتك ثروة
فأصبحت ذا يسر وقد كنت ذا عسر
لقد كشف الإثراء منك مخازيا
من اللؤم كانت تحت ستر من الفقر
وقال أيضا:
رحل الرجاء إليك مغتربا
حشدت عليه نوائب الدهر
ردت إليك ندامتي أملي
وثنا إليك عنانه شكري
وجعلت عتبك عتب موعظة
ورجاء عفوك منتهى أملي
لما سعى منصور النمري بالعتابي إلى الرشيد اغتاظ عليه فطلبه، فستره جعفر بن يحيى عنه مدة وجعل يستعطفه عليه حتى استل ما في نفسه وأمنه، فقال يمدح جعفر بن يحيى:
ما زلت في غمرات الموت مطرحا
قد ضاق عني فسيح الأرض من حيلي
ولم تزل دائبا تسعى بلطفك لي
حتى اختلست حياتي من يدي أجلي
عاد عبد الله بن طاهر وإسحاق بن إبراهيم بن مصعب كلثوم بن عمرو العتابي في علة اعتلها، فقال الناس: هذه خطرة خطرت. فبلغ ذلك العتابي، فكتب إلى عبد الله بن طاهر:
قالوا الزيارة خطرة خطرت
وبحار برك ليس بالخطر
أبطل مقالتهم بثانية
تستنفد المعروف من شكري
فلما بلغت أبياته عبد الله بن طاهر ضحك من قوله وركب هو وإسحاق فعاداه مرة ثانية.
كانت له امرأة من باهلة، فلما مضى إلى رأس عين قالت له: هذا منصور النمري، قد أخذ الأموال فحلى نساءه وبنى داره واشترى ضياعا وأنت ههنا كما ترى! فأنشأ يقول:
تلوم على ترك الغنى باهلية
ذوى الفقر عنها كل طرف وتالد
رأت حولها النسوان يرفلن في الثرى
مقلدة أعناقها بالقلائد
أسرك أني نلت ما نال جعفر
من العيش أو ما نال يحيى بن خالد
وأن أمير المؤمنين أغصني
مغصهما بالمرهفات البوارد
رأيت رفيعات الأمور مشوبة
بمستودعات في بطون الأساود
دعيني تجئني ميتتي مطمئنة
ولم أتجشم هول تلك الموارد
لما قدم العتابي مدينة السلام على المأمون أذن له، فدخل عليه وعنده إسحاق بن إبراهيم الموصلي، وكان العتابي شيخا جليلا نبيلا، فسلم فرد عليه وأدناه وقربه حتى قرب منه، فقبل يده ، ثم أمره بالجلوس فجلس، وأقبل عليه يسائله عن حاله وهو يجيبه بلسان ذلق طلق، فاستظرف المأمون ذلك وأقبل عليه بالمداعبة والمزاح، فظن الشيخ أنه استخف به، فقال: يا أمير المؤمنين، الإيناس قبل الإبساس.
80
فاشتبه على المأمون قوله، فنظر إلى إسحاق مستفهما، فأومأ إليه وغمزه على معناه حتى فهم، فقال: يا غلام، ألف دينار! فأتى بذلك، فوضع بين يدي العتابي وأخذوا في الحديث، وغمز المأمون إسحاق بن إبراهيم عليه، فجعل العتابي لا يأخذ في شيء إلا عارضه إسحاق، فبقى العتابي متعجبا، ثم قال: يا أمير المؤمنين، أتأذن لي في سؤال هذا الشيخ عن اسمه؟ قال: نعم سل. فقال لإسحاق: يا شيخ، من أنت وما اسمك؟ قال: أنا من الناس واسمي كل بصل. فتبسم العتابي وقال: أما أنت فمعروف وأما الاسم فمنكر. فقال إسحاق: ما أقل إنصافك! أتنكر أن يكون اسمي كل بصل، واسمك كلثوم، وكلثوم من الأسماء، أو ليس البصل أطيب من الثوم؟ فقال له العتابي: لله درك! فما أحجك، أتأذن لي يا أمير المؤمنين في أن أصله بما وصلتني به؟ فقال المأمون: بل ذلك موفر عليك ونأمر له بمثله. فقال له إسحاق: أما إذ أقررت بهذه فتوهمني تجدني. فقال: ما أظنك إلا إسحاق الموصلي الذي يتناهى إلينا خبره. قال: أنا حيث ظننت. وأقبل عليه بالتحية والسلام، فقال المأمون - وقد طال الحديث بينهما: أما إذ قد اتفقتما على المودة فانصرفا متنادمين. فانصرف العتابي إلى منزل إسحاق فأقام عنده.
قال عثمان الوراق: رأيت العتابي يأكل خبزا على الطريق بباب الشام ، فقلت له: ويحك! أما تستحي؟ فقال لي: أرأيت لو كنا في دار بها بقر كنت تستحي وتحتشم أن تأكل وهي تراك؟ فقال: لا! قال: فاصبر حتى أعلمك أنهم بقر! فقام فوعظ وقص ودعا حتى كثر الزحام عليه ثم قال لهم: روى لنا غير واحد أنه من بلغ لسانه أرنبة أنفه لم يدخل النار! فما بقي أحد إلا أخرج لسانه يومئ به نحو أرنبة أنفه ويقدره حتى يبلغها أم لا، فلما تفرقوا قال لي العتابي: ألم أخبرك أنهم بقر؟
قال الفضل: رأيت العتابي بين يدي المأمون وقد أسن، فلما أراد القيام قام المأمون فأخذ بيده واعتمد الشيخ على المأمون، فما زال المأمون ينهضه رويدا رويدا حتى أقله فنهض.
وكتب كلثوم بن عمرو العتابي إلى صديق له يستجديه:
أما بعد - أطال الله بقاءك وجعله يمتد بك إلى رضوانه والجنة - فإنك كنت عندنا روضة من رياض الكرم، تبتهج النفوس بها، وتستريح القلوب إليها؛ وكنا نعفيها من النجعة
81
استتماما لزهرتها، وشفقة على خضرتها، وادخارا لثمرتها، حتى أصابتنا سنة كانت عندي قطعة من سني يوسف اشتد علينا كلبها،
82
وغابت قطتها، وكذبتنا غيومها، وأخلفتنا بروقها، وفقدنا صالح الإخوان فيها، فانتجعتك. وأنا بانتجاعي إياك شديد الشفقة عليك، مع علمي بأنك موضع الرائد،
83
وأنك تغطي عين الحاسد. والله يعلم أني ما أعدك إلا في حومة
84
الأهل. واعلم أن الكريم إذا استحيا من إعطاء القليل ولم يمكنه الكثير، لم يعرف جوده ولم تظهر همته. وأنا أقول في ذلك:
إذا تكرمت عن بذل القليل ولم
تقدر على سعة لم يظهر الجود
بث النوال ولا تمنعك قلته
فكل ما سد فقرا فهو محمود
قيل فشاطره جميع ماله. (3) دعبل
85
شاعر متقدم مطبوع هجاء خبيث اللسان، لم يسلم منه أحد من الخلفاء ولا من وزرائهم ولا أولادهم ولا ذو نباهة أحسن إليه أم لم يحسن، ولا أفلت منه كبير أو صغير.
وكان دعبل من الشيعة المشهورين بالميل إلى علي صلوات الله عليه. وقصيدته: «مدارس آيات خلت من تلاوة» من أحسن الشعر وفاخر المدائح المقولة في أهل البيت عليهم السلام، وقصد بها أبا علي بن موسى الرضا بخراسان، فأعطاه عشرة آلاف درهم من الدراهم المضروبة باسمه، وخلع عليه خلعة من ثيابه، فأعطاه بها أهل قم ثلاثين ألف درهم، فلم يبعها فقطعوا عليه الطريق فأخذوها؛ فقال لهم: إنها إنما تراد لله عز وجل وهي محرمة عليكم. فدفعوا إليه ثلاثين ألف درهم، فحلف ألا يبيعها أو يعطوه بعضها ليكون في كفنه، فأعطوه فرد كم، فكان من أكفانه.
قال إبراهيم بن المهدي للمأمون قولا في دعبل يحرضه عليه؛ فضحك المأمون وقال: إنما تحرضني عليه لقوله فيك:
يا معشر الأجناد لا تقنطوا
وارضوا بما كان ولا تسخطوا
فسوف تعطون حنينية
86
يلتذها الأمرد والأشمط
والمعبديات
87
لقوادكم
لا تدخل الكيس ولا تربط
وهكذا يرزق قواده
خليفة مصحفه البربط
قد ختم الصك بأرزاقكم
وصحح العزم فلا تسخطوا
بيعة إبراهيم مشئومة
يقتل فيها الخلق أو يقحطوا
فقال له إبراهيم: فقد والله هجاك أنت يا أمير المؤمنين. فقال: دع هذا عنك، فقد عفوت عنه في هجائه إياي لقوله هذا! وضحك. ثم دخل أبو عباد، فلما رآه المأمون من بعد قال لإبراهيم: دعبل يجسر على أبي عباد في الهجاء ويحجم عن أحد! فقال له: وكأن أبا عباد أبسط يدا منك يا أمير المؤمنين! قال: لا! ولكنه حديد جاهل لا يؤمن، وأنا أحلم وأصفح، والله ما رأيت أبا عباد مقبلا إلا أضحكني قول دعبل فيه:
أولى الأمور بضيعة وفساد
أمر يدبره أبو عباد
خرق على جلسائه فكأنهم
حضروا لملحمة ويوم جلاد
يسطو على كتابه بدواته
فمضمخ بدم ونضح مداد
وكأنه من دير هرقل مفلت
حرد يجر سلاسل الأقياد
فاشدد أمير المؤمنين وثاقه
فأصح منه بقية الحداد
وكان «بقية» هذا مجنونا في البيمارستان.
قال أبو خالد الخزاعي لدعبل: ويحك! قد هجوت الخلفاء والوزراء والقواد ووترت الناس جميعا، فأنت دهرك كله شريد طريد هارب خائف، فلو كففت عن هذا وصرفت هذا الشر عن نفسك! فقال: ويحك! إني تأملت ما تقول فوجدت أكثر الناس لا ينتفع بهم إلا على الرهبة، ولا يبالي الشاعر وإن كان مجيدا إذا لم يخف شره، ولمن يتقيك على عرضه أكثر ممن يرغب إليك في تشريفه، وعيوب الناس أكثر من محاسنهم، وليس كل من شرفته شرف، ولا كل من وصفته بالجود والمجد والشجاعة ولم يكن ذلك فيه انتفع بقولك، فإذا رآك أوجعت عرض غيره وفضحته اتقاك وخاف من مثل ما جرى على الآخر، ويحك يا أبا خالد! إن الهجاء المقذع آخذ بضبع الشاعر من المديح المضرع ! فضحك أبو خالد وقال: هذا والله مقال من لا يموت حتف أنفه.
كان سبب خروج دعبل من الكوفة أنه كان يتشطر ويصحب الشطار، فخرج هو ورجل من أشجع فيما بين العشاء والعتمة، فجلسا على طريق رجل من الصيارفة، وكان يروح كل ليلة بكيسه إلى منزله، فلما طلع مقبلا إليهما وثبا إليه فجرحاه وأخذا ما في كمه، فإذا هي ثلاث رمانات في خرقة، ولم يكن كيسه ليلتئذ معه، ومات الرجل مكانه، واستتر دعبل وصاحبه، وجد أولياء الرجل في طلبهما وجد السلطان في ذلك، فطال على دعبل الاستتار فاضطر إلى أن هرب من الكوفة، فما دخلها حتى لم يبق من أولياء الرجل أحد.
قال أحمد بن خالد: كنا يوما بدار صالح بن علي من عبد القيس ببغداد ومعنا جماعة من أصحابنا، فسقط على سطح البيت ديك طار من دار دعبل، فلما رأيناه قلنا: هذا صيدنا، فأخذناه، فقال صالح: ما نصنع به؟ قلنا: نذبحه. فذبحناه وشويناه، وخرج دعبل فسأل عن الديك فعرف أنه سقط في دار صالح، فطلبه منا فجحدناه وشربنا يومنا، فلما كان من الغد خرج دعبل فصلى الغداة ثم جلس على باب المسجد - وكان ذلك المسجد مجمع الناس يجتمع فيه جماعة من العلماء وينتابهم الناس - فجلس دعبل على باب المسجد وقال:
أسر المؤذن صالح وضيوفه
أسر الكمي هفا خلال المأقط
بعثوا عليه بنيهم وبناتهم
من بين ناتفة وآخر سامط
يتنازعون كأنهم قد أوثقوا
خاقان أو هزموا قبائل ناعط
88
نهشوه فانتزعت له أسنانهم
وتهشمت أقفاؤهم بالحائط
فكتبها الناس عنه ومضوا ؛ فقال لي أبي، وقد رجع إلى البيت: ويحكم! ضاقت عليكم المآكل فلم تجدوا شيئا تأكلونه سوى ديك دعبل! ثم أنشدنا الشعر، وقال: لا تدع ديكا ولا دجاجة تقدر عليه إلا اشتريته وبعثت به إلى دعبل وإلا وقعنا في لسانه! ففعلت ذلك.
قال أحمد بن أبي كامل: كان دعبل ينشدني كثيرا هجاء له، فأقول له: فيمن هذا؟ فيقول: ما استحقه أحد بعينه بعد، وليس له صاحب، فإذا وجد على رجل جعل ذلك الشعر فيه وذكر اسمه في الشعر.
كان دعبل يختلف إلى الفضل بن العباس بن جعفر بن محمد بن الأشعث، وهو خرجه وفهمه وأدبه، فظهر له منه جفاء وبلغه أنه يعيبه ويذكره وينال منه، فقال يهجوه:
يا بؤس للفضل لو لم يأت ما عابه
يستفرغ السم من صماء قرضابه
ما إن يزال وفيه العيب يجمعه
جهلا لأعراض أهل المجد عيابه
إن عابني لم يعب إلا مؤدبه
ونفسه عاب لما عاب أدابه
فكان كالكلب ضراه مكلبه
لغيره فعدا فاصطاد كلابه
كان دعبل يقول: ما كانت لأحد قط عندي منة إلا تمنيت موته.
كتب دعبل إلى أبي نهشل بن حميد الطوسي قوله:
إنما العيش في منادمة الإخوا
ن لا في الجلوس عند الكعاب
وبصرف كأنها ألسن البر
ق إذا استعرضت رقيق السحاب
إن تكونوا تركتم لذة العي
ش حذار العقاب يوم العقاب
فدعوني وما ألذ وأهوى
وادفعوا بي في صدر يوم الحساب
قال محمد بن زكريا الفرغاني: سمعت دعبلا يقول في كلام جرى «ليسك» فأنكرته عليه؛ فقال: دخل زيد الخيل على النبي
صلى الله عليه وسلم
فقال له: «يا زيد ما وصف لي رجل إلا رأيته دون وصفه ليسك.» يريد غيرك.
قال عمرو بن مسعدة: حضرت أبا دلف عند المأمون وقد قال له المأمون: أي شيء تروي لأخي خزاعة يا قاسم؟ فقال: وأي أخي خزاعة يا أمير المؤمنين؟ قال: ومن تعرف فيهم شاعرا؟ فقال: أما من أنفسهم فأبو الشيص ودعبل وابن أبي الشيص وداود بن أبي رزين، وأما من مواليهم فطاهر وابنه عبد الله. فقال: ومن عسى من هؤلاء أن يسأل عن شعره سوى دعبل! هات أي شيء عندك فيه؛ فقال: وأي شيء أقول في رجل لم يسلم عليه أهل بيته حتى هجاهم، فقرن إحسانهم بالإساءة وبذلهم بالمنع وجودهم بالبخل، حتى جعل كل حسنة منهم بإزاء سيئة منه! قال: حين يقول ماذا؟ قال: حين يقول في المطلب بن عبد الله بن مالك، وهو أصدق الناس له وأقربهم منه، وقد وفد إليه إلى مصر فأعطاه الجزيل وولاه، ولم يمنعه ذلك أن قال فيه:
اضرب ندى طلحة الطلحات متئدا
بلؤم مطلب فينا وكن حكما
تخرج خزاعة من لؤم ومن كرم
فلا تحس لها لؤما ولا كرما
فقال المأمون: قاتله الله! ما أغوصه وألطفه وأدهاه! وجعل يضحك. ثم دخل عبد الله بن طاهر فقال: أي شيء تحفظ يا عبد الله لدعبل؟ فقال: أحفظ أبياتا له في أهل بيت أمير المؤمنين. قال: هاتها ويحك! فأنشده:
سقيا ورعيا لأيام الصبابات
أيام أرفل في أثواب لذاتي
أيام غصني رطيب من ليانته
أصبو إلى غير جارات وكنات
دع عنك ذكر زمان فات مطلبه
واقذف برحلك عن متن الجهالات
واقصد بكل مديح أنت قائله
نحو الهداة بني بيت الكرامات
فقال المأمون: إنه قد وجد والله مقالا فقال، ونال ببعيد ذكرهم ما لا يناله في وصف غيرهم.
ومن قول دعبل وفيه غناء:
أين الشباب وأية سلكا
لا أين يطلب ضل من هلكا
لا تعجبي يا سلم من رجل
ضحك المشيب برأسه فبكى
يا ليت شعري كيف يومكما
يا صاحبي إذا دمي سفكا
لا تأخذوا بظلامتي أحدا
قلبي وطرفي في دمي اشتركا
قال إبراهيم بن المدبر: لقيت دعبل بن علي فقلت له: أنت أجسر الناس عندي وأقدمهم حيث تقول:
إني من القوم الذين سيوفهم
قتلت أخاك وشرفتك بمقعد
رفعوا محلك بعد طول خموله
واستنقذوك من الحضيض الأوهد
وأولها:
أخذ المشيب من الشباب الأغيد
والنائبات من الأنام بمرصد
فقال: يا أبا اسحاق، أنا أحمل خشبتي منذ أربعين سنة، فلا أجد من يصلبني عليها .
كان دعبل يخرج فيغيب سنين يدور الدنيا كلها ويرجع وقد أفاد وأثرى، وكانت الشراة والصعاليك يلقونه فلا يؤذونه ويؤاكلونه ويشاربونه ويبرون به، وكان إذا لقيهم وضع طعامه وشرابه ودعاهم إليه ودعا بغلاميه: نفنف وشعف، وكانا مغنيين، فأقعدهما يغنيان وسقاهم وشرب معهم وأنشدهم، فكانوا قد عرفوه وألفوه لكثرة أسفاره، وكانوا يواصلونه ويصلونه. وأنشد دعبل لنفسه في بعد أسفاره:
حللت محلا يقصر البرق دونه
ويعجز عنه الطيف أن يتجشما
قال البحتري: دعبل بن علي أشعر عندي من مسلم بن الوليد؛ لأن كلام دعبل أدخل في كلام العرب من كلام مسلم، ومذهبه أشبه بمذاهبهم؛ وكان يتعصب له.
كان المعتصم يبغض دعبلا لطول لسانه. وبلغ دعبلا أنه يريد اغتياله وقتله، فهرب إلى الجبل؛ وقال يهجوه:
بكى لشتات الدين مكتئب صب
وفاض بفرط الدمع من عينه غرب
وقام إمام لم يكن ذا هداية
فليس له دين وليس له لب
وما كانت الأنباء تأتي بمثله
يملك يوما أو تدين له العرب
ولكن كما قال الذين تتابعوا
من السلف الماضين إذ عظم الخطب
ملوك بني العباس في الكتب سبعة
ولم تأتنا عن ثامن لهم كتب
كذلك أهل الكهف في الكهف سبعة
خيار إذا عدوا وثامنهم كلب
وإني لأعلي كلبهم عنك رفعة
لأنك ذو ذنب وليس له ذنب
لقد ضاع ملك الناس إذ ساس ملكهم
وصيف وأشناس وقد عظم الكرب
وفضل بن مروان يثلم ثلمة
يظل لها الإسلام ليس له شعب
لما مات المعتصم قال محمد بن عبد الملك الزيات يرثيه:
قد قلت إذ غيبوه وانصرفوا
في خير قبر لخير مدفون
لن يجبر الله أمة فقدت
مثلك إلا بمثل هارون
فقال دعبل يعارضه:
قد قلت إذ غيبوه وانصرفوا
في شر قبر لشر مدفون
اذهب إلى النار والعذاب فما
خلقك إلا من الشياطين
ما زلت حتى عقدت بيعة من
أضر بالمسلمين والدين
وقال في ذلك وفي قيام الواثق:
الحمد لله لا صبر ولا جلد
ولا عزاء إذا أهل البلا رقدوا
خليفة مات لم يحزن له أحد
وآخر قام لم يفرح به أحد
ولقد أحسن في وصف سفر سافره، فطال ذلك السفر عليه، فقال فيه:
ألم يأن للسفر الذين تحملوا
إلى وطن قبل الممات رجوع
فقلت ولم أملك سوابق عبرة
نطقن بما ضمت عليه ضلوع
تبين فكم دار تفرق شملها
وشمل شتيت عاد وهو جميع
كذاك الليالي صرفهن كما ترى
لكل أناس جدبة وربيع
ثم قال: ما سافرت قط إلا كانت هذه الأبيات نصب عيني في سفري وهجيراي ومسليتي حتى أعود.
ومن قول دعبل وفيه غناء:
سرى طيف ليلى حين آن هبوب
وقضيت شوقا حين كاد يذوب
فلم أر مطروقا يحل برحلة
ولا طارقا يقرى المنى ويثيب
ومن قوله:
لقد عجبت سلمى وذاك عجيب
رأت بي شيبا عجلته خطوب
وما شيبتني كبرة غير أنني
بدهر به رأس الفطيم يشيب
وقال في صالح بن عطية الأضجم، وكان من أقبح الناس وجها، وخاطب فيها المعتصم:
قل للإمام إمام آل محمد
قول امرئ حدب عليك محام
أنكرت أن تفتر عنك صنيعة
في صالح بن عطية الحجام
ليس الصنائع عنده بصنائع
لكنهن طوائل الإسلام
اضرب به جيش العدو فإنه
جيش من الطاعون والبرسام
قال أبو تمام: ما زال دعبل مائلا إلى مسلم بن الوليد مقرا بأستاذيته، حتى ورد عليه بجرجان فجفاه مسلم، وكان فيه بخل، فهجره دعبل وكتب إليه:
أبا مخلد كنا عقيدي مودة
هوانا وقلبانا جميعا معا معا
أحوطك بالغيب الذي أنت حائطي
وأجزع إشفاقا من أن تتوجعا
فصيرتني بعد انتكاثك متهما
لنفسي عليها أرهب الخلق أجمعا
غششت الهوى حتى تداعت أصوله
بنا وابتذلت الوصل حتى تقطعا
وأنزلت من بين الجوانج والحشى
ذخيرة ود طالما قد تمنعا
فلا تلحيني ليس لي فيك مطمع
تخرقت حتى لم أجد لك مرقعا
فهبك يميني استأكلت فقطعتها
وجشمت قلبي صبره فتشجعا
ثم تهاجرا فما التقيا بعد ذلك.
أجرى الرشيد على دعبل رزقا سنيا، فكان أول من حرضه على قول الشعر. فوالله ما بلغه أن الرشيد مات حتى كافأه على فعله من العطاء السني والغنى بعد الفقر والرفعة بعد الخمول بأقبح مكافأة، وقال فيه يهجوه من قصيدة مدح بها أهل البيت عليهم السلام:
وليس حي من الأحياء نعلمه
من ذي يمان ومن بكر ومن مضر
إلا وهم شركاء في دمائهم
كما تشارك أيسار على جزر
قتل وأسر وتحريق ومنهبة
فعل الغزاة بأرض الروم والخزر
أرى أمية معذورين إن قتلوا
ولا أرى لبني العباس من عذر
اربع بطوس على القبر الزكي إذا
ما كنت تربع من دين على وطر
قبران في طوس خير الناس كلهم
وقبر شرهم هذا من العبر
ما ينفع الرجس من قرب الزكي ولا
على الزكي بقرب الرجس من ضرر
هيهات، كل امرئ رهن بما كسبت
له يداه فخذ ما شئت أو فذر
استدعى بعض بني هاشم دعبلا وهو يتولى للمعتصم ناحية من نواحي الشام، فقصده إليها فلم يقع منه بحسن ظن وجفاه، فكتب إليه دعبل:
دليتني بغرور وعدك في
متلاطم من حومة الغرق
حتى إذا شمت العدو وقد
شهر انتقاصك شهرة البلق
أنشأت تحلف أن ودك لي
صاف وحبلك غير منحذق
وحسبتني فقعا بقرقرة
فوطئتني وطئا على حنق
ونصبتني علما على غرض
ترمينني الأعداء بالحدق
وظننت أرض الله ضيقة
عني وأرض الله لم تضق
من غير ما جرم سوى ثقة
مني بوعدك حين قلت ثق
ومودة تحنو عليك بها
نفسي بلا من ولا ملق
فمتى سألتك حاجة أبدا
فاشدد بها قفلا على غلق
وقف الإخاء على شفا جرف
هار فبعه بيعة الخلق
وأعد لي قفلا وجامعة
فاشدد يدي بها إلى عنقي
أعفيك مما لا تحب بها
واسدد على مذاهب الأفق
ما أطول الدنيا وأعرضها
وأدلني بمسالك الطرق
دخل دعبل على عبد الله بن طاهر فأنشده وهو ببغداد:
جئت بلا حرمة ولا سبب
إليك إلا بحرمة الأدب
فاقض ذمامي فإنني رجل
غير ملح عليك في الطلب
فانتقل عبد الله ودخل الحرم ووجه إليه بصرة فيها ألف درهم، وكتب إليه:
أعجلتنا فأتاك عاجل برنا
ولو انتظرت كثيره لم يقلل
فخذ القليل وكن كأنك لم تقل
ونكون نحن كأننا لم نفعل
مات دعبل بقرية من قرى السوس، بعث إليه مالك بن طوق من ضرب ظهره بعكاز لها زج مسموم فمات من غد. (4) حسين بن الضحاك
89
شاعر
90
ظريف شديد الظرف، ربما انقطع نظيره في شعراء العصر العباسي كله، وهو مع ظرفه وإسرافه في المجون، قليل الفحش في اللفظ. غير متهالك على القول الآثم والألفاظ المنكرة، لا يتخيرها ولا يقصد إليها، وإنما يعرض لها إذا اضطر إليها اضطرارا، وهو على ظرفه ورقة حاشيته وحرصه على نقاء اللفظ وطهره شاعر بالمعنى الصحيح لهذه الكلمة، مجود إذا فكر، مظفر إذا بحث، موفق إلى اللفظ المتين، والأسلوب الرصين في غير جفوة ولا غلظة، لا يعرف التكلف في لفظ ولا معنى، وإنما ينطلق لسانه مع سجيته، وسجيته سهلة مرسلة غنية غزيرة المادة، لا تكاد تنضب، ولا ينالها إعياء أو كلال، وحياته كلها عبر وعظات ولكنها عبر وعظات مبتسمة ليست بالمظلمة ولا العابسة ولا بالتي تردك وتنفرك، وتجعل للحزن والأسى إلى قلبك سبيلا، ولعلك لا تجد من شعراء هذا العصر رجلا مثله، تقرأ أخباره فتظل مبتسما منذ تبتدئ إلى أن تنتهي دون أن تعبس أو تقطب. وربما تجاوزت الابتسام إلى الإغراق في الضحك من حين إلى حين، ولكنك لن تترك الابتسام إلى الحزن الشديد. وربما اعترضتك في طريقك سحابة محزنة، ولكن هذه السحابة رقيقة هادئة هينة، فهي أضعف من أن تزيل ابتسامتك. وكان هذا الشاعر من المعمرين، بلغ المائة أو كاد، وعاصر طبقات من الشعراء، وألوانا من حاشية الخلفاء، ولكنه ظل محتفظا بشخصيته الوادعة المبتسمة، تغير الناس واختلفت الظروف، وظل هو واحدا لم يتغير. كان خليعا، بل كان يعرف بالخليع، وكان كثير المجون مسرفا فيه، وما أحسب أن أبا نواس سبقه إلى لذة أو برز عليه في مأثم، ولكنه على خلاعته وإسرافه في المجون وتهالكه على اللذات، احتفظ طول حياته بشيء من كرم الخلق وطهارة العنصر وجودة الأصل، كأنما كانت هذه اللذات والآثام تنزلق على نفسه وأخلاقه انزلاقا دون أن تترك فيها أثرا باقيا، وإنما كانت الآثار التي تتركها لياليه الساهرة، وأيامه المملوءة بالعبث، هذه الأشعار الجميلة الحلوة التي سأظهرك على طرف منها.
فلم يكن هذا الرجل كغيره من الشعراء الذين إنما كانوا يصلون إلى الخلفاء بعد الجهد والكد، وبعد التلطف وحسن الحيلة؛ وإنما كان متصلا بالخلفاء اتصالا شديدا، يعاشرهم ويرافقهم ويتدخل في حياتهم الخاصة، وربما تدخل إلى أكثر مما ينبغي. وكان الخلفاء يبحثون عنه، ويحرصون على عشرته، ويبذلون في ذلك غير قليل من الإلحاح والعطاء، وكان شعره كله أو أكثره مرآة لحياة القصر في أيام طائفة غير قليلة من الخلفاء.
فترى من هذا الوصف أنه شاعر أديب ظريف مطبوع، حسن التصرف في الشعر، حلو المذهب، لشعره قبول ورونق صاف، وكان أبو نواس يأخذ معانيه في الخمر فيغير عليها، وإذا شاع له شعر نادر في هذا المعنى نسبه الناس إلى أبي نواس، وله معان في صفتها أبدع فيها، وهاجى مسلم بن الوليد فانتصف منه، وله غزل كثير جيد، وهو من المطبوعين الذين تخلو أشعارهم ومذاهبهم جملة من التكلف.
قال: أنشدت أبا نواس قصيدتي التي قلتها في الخمر وهي:
بدلت من نفحات الورد بالآء
91
ومن صبوحك در الإبل والشاء
فلما انتهيت منها إلى قولي:
حتى إذا أسندت في البيت واحتضرت
عند الصبوح ببسامين أكفاء
فضت خواتمها في نعت واصفها
عن مثل رقراقة في جفن مرهاء
92
فصعق صعقة أفزعتني وقال: أحسنت والله يا أشقر! فقلت: ويلك يا حسن، إنك أفزعتني والله! فقال: بلى والله أنت أفزعتني ورعتني، هذا معنى من المعاني التي كان فكري لا بد أن ينتهي إليها أو أغوص عليها وأقولها، فسبقتني إليه واختلسته مني، وستعلم لمن يروى؛ ألي أم لك! فكان والله كما قال، سمعت من لا يعلم يرويها له.
لما قدم المأمون من خراسان أمر بأن يسمى له قوم من أهل الأدب ليجالسوه ويسامروه، فذكر له جماعة فيهم الحسين بن الضحاك، وكان من جلساء محمد المخلوع، فلما رأى اسمه قال: أليس هو الذي يقول في محمد:
هلا بقيت لسد فاقتنا
أبدا وكان لغيرك التلف
فلقد خلفت خلائفا سلفوا
ولسوف يعوز بعدك الخلف
لا حاجة لي فيه، والله ولا يراني أبدا إلا في الطريق. ولم يعاقب الحسين على ما كان من هجائه له وتعريضه به، وانحدر حسين إلى البصرة فأقام بها طول أيام المأمون.
قال أبو صالح بن الرشيد: دخلت يوما على المأمون ومعي بيتان للحسين بن الضحاك، فقلت: يا أمير المؤمنين، أحب أن تسمع مني بيتين. فقال: أنشدهما. فأنشدتهما:
حمدنا الله شكرا إذ حبانا
بنصرك يا أمير المؤمنينا
فأنت خليفة الرحمن حقا
جمعت سماحة وجمعت دينا
فقال: لمن هذان البيتان؟ فقلت: لعبدك يا أمير المؤمنين حسين بن الضحاك. قال: قد أحسن. فقلت: وله يا أمير المؤمنين أجود من هذا. فقال: وما هو؟ فأنشدته قوله:
أجرني فإني قد ظمئت إلى الوعد
متى تنجز الوعد المؤكد بالعهد
أعيذك من خلف الملوك وقد بدا
تقطع أنفاس عليك من الوجد
أيبخل فرد الحسن عني بنائل
قليل وقد أفردته بهوى فرد
رأى الله عبد الله خير عباده
فملكه والله أعلم بالعبد
ألا إنما المأمون للناس عصمة
مميزة بين الضلالة والرشد
فأطرق ساعة ثم قال: ما تطيب نفسي له بخير بعد ما قال في أخي محمد ما قال.
ومن قوله يرثي محمدا الأمين:
أطل حزنا وابك الإمام محمدا
بحزن وإن خفت الحسام المهندا
فلا تمت الأشياء بعد محمد
ولا زال شمل الملك منها مبددا
ولا فرح المأمون بالملك بعده
ولا زال في الدنيا طريدا مشردا
ولحسين في محمد الأمين مراث كثيرة جياد، وكان كثير التحقق به والموالاة له لكثرة إفضاله عليه، وميله إليه، وتقديمه إياه، وبلغ من جزعه عليه أنه خولط فكان ينكر قتله لما بلغه ويدفعه ويقول: إنه مستتر وأنه قد وقف على دعاته في الأمصار يدعون إلى مراجعة أمره والوفاء ببيعته ضنا به وشفقة عليه.
ومن جيد مراثيه إياه قوله:
سألونا أن كيف نحن؟ فقلنا
من هوى نجمه فكيف يكون؟
نحن قوم أصابنا حدث الده
ر فظلنا لريبه نستكين
نتمنى من الأمين إيابا
لهف نفسي وأين مني الأمين
ومن جيد قوله في مراثيه إياه:
أعزي يا محمد عنك نفسي
معاذ الله والأيدي الجسام
فهلا مات قوم لم يموتوا
ودوفع عنك لي يوم الحمام
كأن الموت صادف منك غنما
أو استشفى بقربك من سقام
وقال أيضا يرثيه:
يا خير أسرته وإن زعموا
إني عليك لمثبت أسف
الله يعلم أن لي كبدا
حري عليك ومقلة تكف
ولئن شجيت بما رزئت به
إني لأضمر فوق ما أصف
هلا بقيت لسد فاقتنا
أبدا وكان لغيرك التلف
فلقد خلفت خلائفا سلفوا
ولسوف يعوز بعدك الخلف
لا بات رهطك بعد هفوتهم
إني لرهطك بعدها شنف
93
هتكوا بحرمتك التي هتكت
حرم الرسول ودونها السجف
وثبت أقاربك التي خذلت
وجميعها بالذل معترف
لم يفعلوا بالشط إذ حضروا
ما تفعل الغيرانة الأنف
تركوا حريم أبيهم نفلا
والمحصنات صوارخ هتف
أبدت مخلخلها على دهش
أبكارهن ورنت النصف
سلبت معاجرهن
94
واجتليت
ذات النقاب ونوزع الشنف
فكأنهن خلال منتهب
در تكشف دونه الصدف
ملك تخون ملكه قدر
فوهى وصرف الدهر مختلف
هيهات بعدك أن يدوم لنا
عز وأن يبقى لنا شرف
لا هيبوا صحفا مشرفة
للغادرين تحتها الجدف
أفبعد عهد الله تقتله
والقتل بعد أمانة سرف
فستعرفون غدا بعاقبة
عز الإله فأوردوا وقفوا
يا من يخون نومه أرق
هدت الشجون وقلبه لهف
قد كنت لي أملا غنيت به
فمضى وحل محله الأسف
مرج النظام وعاد منكرنا
عرفا وأنكر بعدك العرف
فالشمل منتشر لفقدك وال
دنيا سدى والبال منكسف
وقال أيضا يرثيه:
إذا ذكر الأمين نعى الأمينا
وإن رقد الخلي حمى الجفونا
وما برحت منازل بين بصرى
وكلواذى تهيج لي شجونا
عراص الملك خاوية تهادى
بها الأرواح تنسجها فنونا
تخون عز ساكنها زمان
تلعب بالقرون الأولينا
فشتت شملهم بعد اجتماع
وكنت بحسن ألفتهم ضنينا
فلم أر بعدهم حسنا سواهم
ولم ترهم عيون الناظرينا
فوا أسفا وإن شمت الأعادي
وآه على أمير المؤمنينا
أضل العرف بعدك متبعوه
ورفه عن مطايا الراغبينا
وكن إلى جنابك كل يوم
يرحن على السعود ويغتدينا
هو الجبل الذي هوت المعالي
لهدته وريع الصالحونا
ستندب بعدك الدنيا جوارا
وتندب بعدك الدين المصونا
فقد ذهبت بشاشة كل شيء
وعاد الدين مطروحا مهينا
تعقد
95
عز متصل بكسرى
وملته وذل المسلمونا
وقال أيضا يرثيه:
أسفا عليك سلاك أقرب قربة
مني وأحزاني عليك تزيد
قال أبو العباس محمد بن يزيد الأزدي: حسين بن الضحاك أشعر المحدثين حيث يقول:
أي ديباجة حسن
هيجت لوعة حزني
إذ رماني القمر الزا
هر عن فترة جفن
بأبي شمس نهار
برزت في يوم دجن
قربتني بالمنى حت
ى إذا ما أخلفتني
تركتني بين ميعا
د وخلف وتجن
ما أرى في من الصب
وة إلا حسن ظني
إنما دامت على الغد
ر لما تعرف مني
أستعيذ الله من إعرا
ض من أعرض عني
لما ولي المعتصم أمر بمكاتبته بالقدوم عليه، فلما دخل وسلم استأذنه في الإنشاد، فأذن له، فأنشده قوله:
هلا سألت تلذذ المشتاق
ومننت قبل فراقه بتلاق
إن الرقيب ليستريب تنفسا
صعدا إليك وظاهر الإقلاق
ولئن أربت لقد نظرت بمقلة
عبرى عليك سخينة الآماق
نفسي الفداء لخائف مترقب
جعل الوداع إشارة بعناق
إذ لا جواب لمفحم متحير
إلا الدموع تصان بالإطراق
حتى انتهى إلى قوله:
خير الوفود مبشر بخلافة
خصت ببهجتها أبا إسحاق
وافته في الشهر الحرام سليمة
من كل مشكلة وكل شقاق
أعطته صفقتها الضمائر طاعة
قبل الأكف بأوكد الميثاق
سكن الأنام إلى إمام سلامة
عف الضمير مهذب الأخلاق
فحمى رعيته ودافع دونها
وأجار مملقها من الإملاق
حتى أتمها، فقال له المعتصم: ادن مني. فدنا منه، فملأ فمه جوهرا من جوهر كان بين يديه، ثم أمره بأن يخرجه من فمه، فأخرجه وأمر بأن ينظم ويدفع إليه ويخرج إلى الناس وهو في يده، ليعلموا موقعه من رأيه، ويعرفوا فضله، فكان أحسن ما مدح به يومئذ.
ومن شعره قوله:
أمين الله ثق بالله
تعط الصبر والنصره
كل الأمر إلى الله
كلاك الله ذو القدره
لنا النصر بعون الله
والكرة لا الفره
وللمراق أعدا
ئك يوم السوء والدبره
وكأس تلفظ الموت
كريه طعمها مره
سقونا وسقيناهم
ولكن بهم الحره
كذاك الحرب أحيانا
علينا ولنا مره
ومن قوله في غضب حظية للواثق من زيارته أخرى في نوبتها:
غضبت أن زرت أخرى خلسة
فلها العتبى لدينا والرضا
يا فدتك النفس كانت هفوة
فاغفريها واصفحي عما مضى
واتركي العدل على من قاله
وانسبي جوري إلى حكم القضا
فلقد نبهتني من رقدتي
وعلى قلبي كنيران الغضا
كان الواثق يتحظى جارية له فماتت، فجزع عليها وترك الشراب أياما، ثم سلاها وعاد إلى حاله، فدعا الحسين ليلة وقال له: رأيت فلانة في النوم فليت نومي كان طال قليلا لأتمتع بلقائها، فقل في هذا شيئا. فقال:
ليت عين الدهر عنا غفلت
ورقيب الليل عنا رقدا
وأقام النوم في مدته
كالذي كان وكنا أبدا
بأبي زور تلفت له
فتنفست إليه الصعدا
بينما أضحك مسرورا به
إذ تقطعت عليه كبدا
لما أعيته الحيلة في رضا المأمون عنه رمى بأمره إلى عمرو بن مسعدة وكتب إليه:
أنت طودي من بين هذي الهضاب
وشهابي من دون كل شهاب
أنت يا عمرو قوتي وحياتي
ولساني وأنت ظفري ونابي
أتراني أنسى أياديك البي
ض إذا اسود نائل الأصحاب
أين أخلاقك الرضية حالت
في أم أين رقة الكتاب؟
أنا في ذمة السحاب وأطما؟
إن هذا لوصمة في السحاب
قم إلى سيد البرية عني
قومة تستجر حسن الخطاب
فلعل الإله يطفئ عني
بك نارا علي ذات التهاب
فلم يزل عمرو يلطف للمأمون حتى أوصله إليه وأدر أرزاقه.
ولما عفا المأمون عنه أمر بإحضاره، فلما حضر سلم، فرد عليه السلام ردا جافيا، ثم أقبل عليه فقال: أخبرني عنك، هل عرفت يوم قتل أخي محمد هاشمية قتلت أو هتكت؟ قال: لا. قال: فما معنى قولك:
وسرب ظباء من ذؤابة هاشم
هتفن بدعوى خير حي وميت
أرد يدا مني إذا ما ذكرته
على كبد حرى وقلب مفتت
فلا بات ليل الشامتين بغبطة
ولا بلغت آمالهم ما تمنت
فقال: يا أمير المؤمنين، لوعة غلبتني، وروعة فاجأتني، ونعمة فقدتها بعد أن غمرتني، وإحسان شكرته فأنطقني، وسيد فقدته فأقلقني، فإن عاقبت فبحقك، وإن عطفت فبفضلك. فدمعت عينا المأمون وقال: قد عفوت عنك، وأمرت بإدرار رزقك، وإعطائك ما فات منه، وجعلت عقوبتك امتناعي من استخدامك.
ومن قوله:
وكالوردة الحمراء حيا بأحمر
من الورد يمشي في قراطق كالورد
له عبثات عند كل تحية
بعينيه تستدعي الحليم إلى الوجد
تمنيت أن أسقى بكفيه شربة
تذكرني ما قد نسيت من العهد
سقى الله دهرا لم أبت فيه ليلة
خليا ولكن من حبيب على وعد
ومن قوله:
وا بأبي مفحم لعزته
قلت له إذ خلوت مكتتما
تحب بالله من يخصك بال
ود فما قال لا ولا نعما
ثم تولى بمقلتي خجل
أراد رجع الجواب فاحتشما
فكنت كالمبتغي بحيلته
برءا من السقم فابتدا سقما
وقال في هوى له:
عالم بحبيه
مطرق من التيه
يوسف الجمال وفر
عون في تعديه
لا وحق ما أنا في
ه من عطف أرجيه
ما الحياة نافعة
لي على تأبيه
النعيم يشغله
والجمال يطغيه
فهو غير مكترث
للذي ألاقيه
تائه تزهده
في رغبتي فيه
ومن قوله في هوى له:
إن من لا أرى وليس يراني
نصب عيني ممثل بالأماني
بأبي من ضميره وضميري
أبدا بالمغيب ينتجيان
نحن شخصان إن نظرت ورو
حان إذا ما اختبرت يمتزجان
فإذا ما هممت بالأمر أو هم
بشيء بدأته وبداني
كان وفقا ما كان منه ومني
فكأني حكيته وحكاني
خطرات الجفون منا سواء
وسواء تحرك الأبدان
ومن قوله:
فديت من قال لي على خفره
وغض من جفنه على حوره
سمع بأشعارك المليح فما
ينفك شاد بها على وتره
حسبك بعض الذي أذعت ولا
حسب لصب لم يقض من وطره
وقلت يا مستعير سالفة ال
خشف وحسن الفتور من نظره
لا تنكرن الحبيب من طرب
عاود فيك الصبا على كبره
ومن قوله:
سائل بطيفك عن ليلي وعن سهري
وعن تتابع أنفاسي وعن فكري
لم يخل قلبي من ذكراك إذ نظرت
عيني إليك على صحوي ولا سكري
سقيا ليوم سروري إذ تنازعني
صفو المدامة بين الأنس والخفر
وفضل كأسك يأتيني فأشربه
جهرا وتشرب كأسي غير مستتر
وكيف أشمله لثمي وألزمه
نحري وترفعه كفي إلى بصري
فليت مدة يومي إذ مضى سلفا
كانت ومدة أيامي على قدر
حتى إذا ما انطوت عنا بشاشته
صرنا جميعا كذا جارين في الحفر
ومن قوله لهوى كان له:
تعز بيأس عن هواي فإنني
إذا انصرفت نفسي فهيهات عن ردي
إذا خنتم بالغيب ودي فمالكم
تدلون إدلال المقيم على العهد
ولي منك بد فاجتنبني مذمما
وإن خلت أني ليس لي منك من بد
لما ولي الواثق الخلافة أنشده حسين:
أكلتم وجدي فما ينكتم
بمن لو شكوت إليه رحم
وإني على حسن ظني به
لأحذر إن بحت أن يحتشم
ولي عند لحظته روعة
تحقق ما ظنه المتهم
وقد علم الناس أنى له
محب وأحسبه قد علم
وإني لمغض على لوعة
من الشوق في كبدي تضطرم
عشية ودعت عن مقلة
سفوح وزفرة قلب سدم
فما كان عند النوى مسعد
سوى العين تمزج دمعا بدم
سيذكر من بان أوطانه
ويبكي المقيمين من لم يقم
كتب إلى الحسن بن رجاء في يوم شك، وقد أمر الواثق بالإفطار، فقال:
هززتك للصبوح وقد نهاني
أمير المؤمنين عن الصيام
وعندي من قيان المصر عشر
تطيب بهن عاتقة المدام
ومن أمثالهن إذا انتشينا
ترانا نجتني ثمر الغرام
فكن أنت الجواب فليس شيء
أحب إلي من حذف الكلام
فوردت رقعته، وقد سبقه إليه محمد بن الحارث بن بسخنر ووجه إليه بغلام نظيف الوجه ومعه ثلاثة غلمة أقران حسان الوجه، ومعهم رقعة كتبها كما تكتب المناشير، وختمها في أسفلها وكتب فيها يقول:
سر على اسم الله يا أش
كل من غصن لجين
في ثلاث من بني الرو
م إلى دار حسين
أشخص الكهل إلى مو
لاك يا قرة عيني
أره العنف إذا استع
صى وطالبه بدين
ودع اللفظ وخاطب
ه بغمز الحاجبين
واحذر الرجعة من وج
هك في خفي حنين
فمضى معهم.
ومن قوله لمن أعرض عنه:
تتيه علينا أن رزقت ملاحة
فمهلا علينا بعض تيهك يا بدر
لقد طال ما كنا ملاحا وربما
صددنا وتهنا ثم غيرنا الدهر
وله في هوى حجب عنه:
ظن من لا كان ظن
بحبيبي فحماه
أرصد الباب رقيبي
ن له فاكتنفاه
فإذا ما اشتاق قربي
ولقائي منعاه
جعل الله رقيبي
ه من السوء فداه
والذي أقرح في الشا
دن قلبي ولواه
كل مشتاق إليه
فمن السوء فداه
سيما من حالت الأح
راس من دون مناه
أمره المتوكل بأن ينادمه ويلازمه، فلم يطق ذلك لكبر سنه، فقال للمتوكل بعض من حضر عنده: هو يطيق الذهاب إلى القرى والمواخير والسكر فيها ويعجز عن خدمتك! فبلغه ذلك، فدفع إلى أحمد بن حمدون أبياتا قالها وسأله إيصالها، فأوصلها إلى المتوكل، وهي:
أما في ثمانين وفيتها
عذير وإن أنا لم أعتذر
فكيف وقد جزتها صاعدا
مع الصاعدين بتسع أخر
وقد رفع الله أقلامه
عن ابن ثمانين دون البشر
سوى من أصر على فتنة
وألحد في دينه أو كفر
وإني لمن أسراء الإل
ه في الأرض نصب صروف القدر
فإن يقض لي عملا صالحا
أثاب وإن يقض شرا غفر
فلا تلح في كبر هدني
فلا ذنب لي أن بلغت الكبر
هو الشيب حل بعقب الشباب
فمن ذا يلوم إذا ما عذر
وإني لفي كنف مغدق
وعز بنصر أبي المنتصر
يباري الرياح بفضل السما
ح حتى تبلد أو تنحسر
له أكد الوحي ميراثه
ومن ذا يخالف وحي السور
وما للحسود وأشباهه
ومن كذب الحق إلا الحجر
فلما أوصلها شيعها بكلام يعذره وقال: لو أطاق خدمة أمير المؤمنين لكان أسعد بها! فقال المتوكل: صدقت. وأمر له بعشرين ألف درهم. (5) محمد بن عبد الملك الزيات
96
كان محمد شاعرا مجيدا لا يقاس به أحد من الكتاب، وإن كان إبراهيم بن العباس مثله في ذلك، فإن إبراهيم مقل وصاحب قصار ومقطعات. وكان محمد شاعرا يطيل فيجيد، ويأتي بالقصار فيجيد؛ وكان بليغا حسن اللفظ إذا تكلم وإذا كتب.
ولما تولى محمد الوزارة اشترط ألا يلبس القباء، وأن يلبس الدراعة ويتقلد عليها سيفا بحمائل، فأجيب إلى ذلك.
وكان يقول: الرحمة خور في الطبيعة، وضعف في المنة، ما رحمت شيئا قط؛ فكانوا يطعنون عليه في دينه بهذا القول، فلما وضع في الثقل والحديد قال: ارحموني! فقالوا له: وهل رحمت شيئا قط فترحم؟ هذه شهادتك على نفسك وحكمك عليها.
لما ماتت أم ابنه عمرو رثاها بقصيدة منها:
يقول لي الخلان لو زرت قبرها
فقلت وهل غير الفؤاد لها قبر
على حين لم أحدث فأجهل قبرها
ولم أبلغ السن التي معها الصبر
ومن شعره قوله:
ما أعجب الشيء ترجوه فتحرمه
قد كنت أحسب أني قد ملأت يدي
ما لي إذا غبت لم أذكر بصالحة
وإن مرضت فطال السقم لم أعد
ومن شعره قوله:
ألم تعجب لمكتئب حزين
خدين صبابة وحليف صبر
يقول إذا سألت به بخير
وكيف يكون مهجور بخير
وكان لمحمد برذون أشهب لم ير مثله فراهة وحسنا، فسعى به محمد بن خالد إلى المعتصم ووصف له فراهته، فبعث إليه المعتصم فأخذه منه، فقال محمد بن عبد الملك يرثيه:
كيف العزاء وقد مضى لسبيله
عنا فودعنا الأحم الأشهب
دب الوشاة فأبعدوك وربما
بعد الفتى وهو الأحب الأقرب
لله يوم نأيت عني ظاعنا
وسلبت قربك أي علق أسلب
نفس مفرقة أقام فريقها
ومضى لطيته فريق يجنب
فالآن إذ كملت أداتك كلها
ودعا العيون إليك لون معجب
واختير من سر الحدائد خيرها
لك خالصا ومن الحلي الأغرب
وغدوت طنان اللجام كأنما
في كل عضو منك صنج يضرب
وكأن سرجك إذ علاك غمامة
وكأنما تحت الغمامة كوكب
ورأى علي بك الصديق جلالة
وغدا العدو وصدره يتلهب
أنساك لا زالت إذا منيته
نفسي ولا زالت يميني تنكب
أضمرت منك اليأس حين رأيتني
وقوى حبالي من قواك تقضب
ورجعت حين رجعت منك بحسرة
لله ما فعل الأحم الأشهب
ولما وثب إبراهيم بن المهدي على الخلافة اقترض من مياسير التجار مالا، فأخذ من عبد الملك أبي محمد عشرة آلاف درهم وقال له: أنا أردها إذا جاءني مال. ولم يتم أمره، فاستخفى ثم ظهر ورضي عنه المأمون، فطالبه الناس بأموالهم، فقال: إنما أخذتها للمسلمين وأردت قضاءها من فيئهم، والأمر الآن إلى غيري. فعمل محمد بن عبد الملك قصيدة خاطب فيها المأمون ومضى إلى إبراهيم بن المهدي فأقرأه إياها وقال: والله لئن لم تعطني المال الذي اقترضته من أبي لأوصلن هذه القصيدة إلى المأمون! فخاف أن يقرأها المأمون فيتدبر ما قاله، فيوقع به ، فقال له: خذ مني بعض المال ونجم على بعضه. ففعل؛ والقصيدة قوله:
ألم تر أن الشيء للشيء علة
تكون له كالنار تقدح بالزند
كذلك جربت الأمور وإنما
يدلك ما قد كان قبل على البعد
وظني بإبراهيم أن مكانه
سيبعث يوما مثل أيامه النكد
رأيت حسينا حين صار محمد
بغير أمان في يديه ولا عقد
فلو كان أمضى السيف فيه بضربة
فصيره بالقاع منعفر الخد
إذا لم تكن للجند فيه بقية
فقد كان ما بلغت من خبر الجند
هم قتلوه بعد أن قتلوا له
ثلاثين ألفا من كهول ومن مرد
وما نصروه عن يد سلفت له
ولا قتلوه يوم ذلك عن حقد
ولكنه الغدر الصراح وخفة ال
حلوم وبعد الرأي عن سنن القصد
فذلك يوم كان للناس عبرة
سيبقى بقاء الوحي في الحجر الصلد
وما يوم إبراهيم إن طال عمره
بأبعد في المكروه من يومه عندي
تذكر أمير المؤمنين مقامه
وأيمانه في الهزل منه وفي الجد
أما والذي أمسيت عبدا خليفة
له شر إيمان الخليفة والعبد
إذا هز أعواد المنابر باسته
تغنى بليلى أو بمية أو هند
فوالله ما من توبة نزعت به
إليك ولا ميل إليك ولا ود
ولكن إخلاص الضمير مقرب
إلى الله زلفى لا تبيد ولا تكدي
أتاك بها كرها إليك بأنفه
على رغمه واستأثر الله بالحمد
فلا تتركن للناس موضع شبهة
فإنك مجزي بحسب الذي تسدي
فقد غلطوا للناس في نصب مثله
ومن ليس للمنصور بابن ولا المهدي
فكيف بمن قد بايع الناس والتقت
ببيعته الركبان غورا إلى نجد
ومن سك تسليم الخلافة سمعه
ينادى به بين السماطين من بعد
وأي امرئ سمى بها قط نفسه
ففارقها حتى يغيب في اللحد
وتزعم هذي النابتية أنه
إمام لها فيما تسر وما تبدي
يقولون سني وأية سنة
تنم بصعل الرأس جون القفا جعد
وقد جعلوا رخص الطعام بعهده
زعيما له باليمن والكوكب السعد
إذا ما رأوا يوما غلاء رأيتهم
يحنون تحنانا إلى ذلك العهد
وإقباله في العيد يوجف حوله
وجيف الجياد واصطكاك القنا الجرد
ورجالة يمشون بالبيض قبله
وقد تبعوه بالقضيب وبالبرد
فإن قلت قد رام الخلافة قبله
فلم يؤت فيما كان حاول من جد
فلم أجزه إذ خيب الله سعيه
على خطأ إذ كان منه على عمد
ولم أرض بعد العفو حتى رفعته
وللعم أولى بالتغمد والرفد
فليس سواء خارجي رمى به
إليك سفاه الراي والرأي قد يردي
تعادت له من كل أوب عصابة
متى يوردوا لا يصدروه عن الورد
ومن هو في بيت الخلافة تلتقي
به وبك الآباء في ذروة المجد
فمولاك مولاه وجندك جنده
وهل يجمع القين الحسامين في غمد
وقد رابني من أهل بيتك أنني
رأيت لهم وجدا به أيما وجد
يقولون لا تبعد من ابن ملمة
صبور على اللأواء ذي مرة جلد
فدانا وهانت نفسه دون ملكنا
عليه لدى الحال التي قل من يفدي
على حين أعطى الناس صفق أكفهم
علي بن موسى بالولاية والعهد
فما كان فينا من أبى الضيم غيره
كريم كفى ما في القبول وفي الرد
وجرد إبراهيم للموت نفسه
وأبدى سلاحا فوق ذي ميعة نهد
وأبلى ومن يبلغ من الأمر جهده
فليس بمذموم وإن كان لم يجد
فهذي أمور قد يخاف ذوو النهى
مغبتها والله يهديك للرشد
وكانت الخلافة في أيام الواثق تدور على إيتاخ وكاتبه سليمان بن وهب، وعلى أشناس وكاتبه أحمد بن الخصيب، فعمل محمد بن عبد الملك قصيدة وأوصلها إلى الواثق على أنها لبعض أهل العسكر، وهي:
يا بن الخلائف والأملاك إن نسبوا
حزت الخلافة عن آبائك الأول
أجرت أم رقدت عيناك عن عجب
فيه البرية من خوف ومن وهل
وليت أربعة أمر العباد معا
وكلهم حاطب في حبل محتبل
هذا سليمان قد ملكت راحته
مشارق الأرض من سهل ومن جبل
ملكته السند فالشحرين من عدن
إلى الجزيرة فالأطراف من ملل
خلافة قد حواها وحده فمضت
أحكامه في دماء القوم والنفل
وابن الخصيب الذي ملكت راحته
خلافة الشأم والغازين والقفل
فنيل مصر فبحر الشأم قد جريا
بما أراد من الأموال والحلل
كأنهم في الذي قسمت بينهم
بنو الرشيد زمان القسم للدول
حوى سليمان ما كان الأمين حوى
من الخلافة والتبليغ للأمل
وأحمد بن خصيب في إمارته
كالقاسم بن الرشيد الجامع السبل
أصبحت لا ناصح يأتيك مستترا
ولا علانية خوفا من الحيل
سل بيت مالك أين المال تعرفه
وسل خراجك عن أموالك الجمل
كم في حبوسك ممن لا ذنوب لهم
أسرى التكذب في الأقياد والكبل
سميت باسم الرشيد المرتضى فبه
تسمى الأمور التي تنجي من الزلل
عث فيهم مثل ما عاثت يداه معا
على البرامك بالتهديم للقلل
فلما قرأ الواثق هذا الشعر غاظه، ونكب سليمان بن وهب وأحمد بن الخصيب، وأخذ منهما ومن أسبابهما ألفي ألف دينار فجعلها في بيت المال. (6) ابن البواب
97
لما أتي المأمون بشعر ابن البواب الذي يقول فيه:
أيبخل فرد الحسن فرد صفاته
علي وقد أفردته بهوى فرد
رأى الله عبد الله خير عباده
فملكه والله أعلم بالعبد
ألا إنما المأمون للناس عصمة
مميزة بين الضلالة والرشد
فقال المأمون: أليس هو القائل:
أعيني جودا وابكيا لي محمدا
ولا تذخرا دمعا عليه وأسعدا
فلا فرح المأمون بالملك بعده
ولا زال في الدنيا شريدا مطردا
واحدة بواحدة، ولم يصله بشيء. ولما سخط عليه قال قصيدة يمدحه بها، ودس من غناه في بعضها لما وجد منه نشاطا، فسأل: من قائلها؟ فأخبر به، فرضي عنه ورده إلى رسمه من الخدمة، وهي:
هل للمحب معين
إذ شط عنه القرين
فليس يبكي لشجو ال
حزين إلا الحزين
يا ظاعنا غاب عنا
غداة بان القطين
أبكى العيون وكانت
به تقر العيون
يا أيها المأمون ال
مبارك الميمون
لقد صفت بك دنيا
للمسلمين ودين
عليك نور جلال
ونور ملك مبين
القول منك فعال
والظن منك يقين
ما من يديك شمال
كلتا يديك يمين
كأنما أنت في الجو
د والتقى هارون
من نال من كل فضل
ما ناله المأمون
تألف الناس منه
فضل وجود ولين
كالبدر يبدو عليه
سكينة وسكون
فالرزق من راحتيه
مقسم مضمون
وكل خصلة فضل
كانت فمنه تكون
ومما يغنى فيه قوله:
أفق أيها القلب المعذب كم تصبو؟
فلا النأي عن سلماك يسلي ولا القرب
أقول غداة استخبرت مم علتي؟
من الحب كرب ليس يشبهه كرب
إذا أبصرتك العين من بعد غاية
فأدخلت شكا فيك أثبتك القلب
ولو أن ركبا يمموك لقادهم
نسيمك حتى يستدل بك الركب
أملق ابن البواب حين جفاه الخليفة وعلت سنه عن الخدمة، فرحل إلى أبي دلف القاسم بن عيسى ومدحه بقصيدة، فوهب له ثلاثين ألف درهم وعاد بها إلى بغداد، فما نفدت حتى مات؛ وهي قوله:
طرقتك صائدة القلوب رباب
ونأت فليس لها إليك مآب
وتصرمت منها العهود وغلقت
من دون نيل طلابها الأبواب
فلأصدفن عن الهوى وطلابه
فالحب فيه بلية وعذاب
وأخص بالمدح المهذب سيدا
نفحاته للمجتدين رغاب
وإلى أبى دلف رحلت مطيتي
قد شفها الإرقال
98
والإتعاب
تعلو بنا قلل الجبال ودونها
مما هوت أهوية وشعاب
فإذا حللت لدى الأمير بأرضه
نلت المنى وتقضت الآراب
ملك تأثل عن أبيه وجده
مجدا يقصر دونه الطلاب
وإذا وزنت قديم ذي حسب به
خضعت لفضل قديمه الأحساب
قوم علوا أملاك كل قبيلة
فالناس كلهم له أذناب
ضربت عليه المكرمات قبابها
فعلا العمود وطالت الأطناب
عقم النساء بمثله وتعطلت
من أن تضمن مثله الأصلاب (7) الخريمي
كان متصلا بمحمد بن منصور بن زياد كاتب البرامكة،
99
وله فيه مدائح جياد، ثم رثاه بعد موته، فقيل له: يا أبا يعقوب، مدائحك لآل منصور بن زياد أحسن من مراثيك وأجود . فقال: كنا يومئذ نعمل على الرجاء، ونحن اليوم نعمل على الوفاء، وبينهما بون بعيد.
وهو القائل في عينيه:
أصغي إلى قائدي ليخبرني
إذا التقينا عمن يحييني
أريد أن أعدل السلام وأن
أفصل بين الشريف والدون
أسمع ما لا أرى فأكره أن
أخطئ والسمع غير مأمون
لله عيني التي فجعت بها
لو أن دهرا بها يواتيني
لو كنت خيرت ما أخذت بها
تعمير نوح في ملك قارون
حق أخلائي أن يعودوني
وأن يعزوا عني ويبكوني
وهو القائل:
إذا ما مات بعضك فابك بعضا
فإن البعض عن بعض قريب
يمنيني الطبيب شفاء عيني
وهل غير الإله لها طبيب
وقال يذكر بغداد والفتنة التي كانت بها:
قالوا ولم يلعب الزمان ببغ
داد وتعثر بها عواثرها
إذ هي مثل العروس بادئها
مهول للفتى وحاضرها
جنة دنيا ودار مغبطة
قل من النائبات وائرها
100
درت خلوف الدنيا لساكنها
وقل معسورها وعاسرها
وانفرجت بالنعيم وانتجعت
فيها بلذاتها حواضرها
فالقوم منها في روضة أنف
أشرق غب القطار زاهرها
من غره العيش في بلهنية
لو أن دنيا يدوم عامرها
دار ملوك رست قواعدها
فيها وقرت بها منابرها
أهل العلا والثرى وأندية ال
فخر إذا عددت مفاخرها
أفراخ نعمى في إرث مملكة
شد عراها لها أكابرها
فلم يزل والزمان ذو غير
يقدح في ملكها أصاغرها
حتى تساقت كأسا مثملة
من فتنة لا يقال عاثرها
وافترقت بعد ألفة شيعا
مقطوعة بينها أواصرها
يا هل رأيت الأملاك ما صنعت
إذ لم يزعها بالنصح زاجرها
أورد أملاكنا نفوسهم
هوة غي أعيت مصادرها
ما ضرها لو وفت بموثقها
واستحكمت في التقى بصائرها
ولم تسافك دماء شيعتها
وتبتعل فتية تكابرها
وأقنعتها الدنيا التي جمعت
لها ورغب النفوس ضائرها
ما زال حوض الأملاك [...]
مسجورها بالهوى وساجرها
تبقي فضول الدنيا مكاثرة
حتى أبيحت كرها ذخائرها
تبيع ما جمع الأبوة لل
أبناء لا أربحت متاجرها
يا هل رأيت الجنان زاهرة
يروق عين البصير زاهرها
وهل رأيت القصور شارعة
تكن مثل الدمى مقاصرها
وهل رأيت القرى التي غرس ال
أملاك مخضرة دساكرها
محفوفة بالكروم والنخل وال
ريحان قد دميت محاجرها
101
فإنها أصبحت خلايا من ال
إنسان قد دميت محاجرها
102
قفرا خلاء تعوي الكلاب بها
ينكر منها الرسوم داثرها
وأصبح البؤس ما يفارقها
إلفا لها والسرور هاجرها
بزند ورد والياسرية وال
شطين حيث انتهت معابرها
وبالرحى والخيزرانية ال
عليا التي أشرفت قناطرها
وقصر عبدويه عبرة وهدى
لكل نفس زكت سرائرها
فأين حراسها وحارسها
وأين مجبورها وجابرها
وأين خصيانها وحشوتها
وأين سكانها وعامرها
أين الجرادية الصقالب وال
أحبش تعدو هدلا مشافرها
ينصدع الجند عن مواكبها
تعدو بها سربا ضوامرها
بالسند والهند والصقالب وال
نوبة شيبت بها برابرها
طيرا أبابيل أرسلت عبثا
يقدم سودانها أحامرها
أين الظباء الأبكار في روضة ال
ملك تهادى بها غرائرها
أين غضاراتها ولذتها
وأين محبورها وحابرها
بالمسك والعنبر اليماني وال
يلنجوج مشبوبة مجامرها
يرفلن في الخز والمجاسد وال
موشي مخطومة مزامرها
فأين رقاصها وزامرها
يجبن حيث انتهت حناجرها
تكاد أسماعهم تسل إذا
عارض عيدانها مزاهرها
أمست كجوف الحمار خالية
يسعرها بالجحيم ساعرها
كأنما أصبحت بساحتهم
عاد ومستهم صراصرها
لا تعلم النفس ما يبايتها
من حادث الدهر أو يباكرها
تضحى وتمسي درية غرضا
حيث استقرت بها شراشرها
لأسهم الدهر وهو يرشقها
محنطها مرة وباقرها
يابؤس بغداد دار مملكة
دارت على أهلها دوائرها
أمهلها الله ثم عاقبها
لما أحاطت بها كبائرها
بالخسف والقذف والحريق وبال
حرب التي أصبحت تساورها
كم قد رأينا من المعاصي بها
كالعاهر السوء ...
حلت ببغداد وهي آمنة
داهية لم تكن تحاذرها
طالعها السوء من مطالعه
وأدركت أهلها جرائرها
رق بها الدين واستخف بذي ال
فضل وعز النساك فاجرها
وخطم العبد أنف سيده
بالرغم واستعبدت مخادرها
وصار رب الجيران فاسقهم
وابتز أمر الدروب ذاعرها
من ير بغداد والجنود بها
قد ربقت حولها عساكرها
كل طحون شهباء باسلة
تسقط أحبالها زماجرها
تلقى بغي الردى أوانسها
يرهقها للقاء طاهرها
والشيخ يعدو حزما كتائبه
يقدم أعجازها يعاورها
ولزهير بالقول مأسدة
مرقومة صلبة مكاسرها
كتائب الموت تحت ألوية
أبرح منصورها وناصرها
يعلم أن الأقدار واقعة
وقعا على ما أحب قادرها
فتلك بغداد ما يبن من ال
دله في دورها عصافرها
محفوفة بالردى منطقة
بالصقر محصورة جبابرها
وبين شط الفرات منه إلى
دجلة حيث انتهت معابرها
كهادي السفراء نافره
تركض من حولها أشاقرها
يحرقها ذا وذاك يهدمها
ويشتفي بالنهاب شاطرها
والكرخ أسواقها معطلة
يستن عيارها وعائرها
أخرجت الحرب من سواقطها
آساد غيل غلبا تساورها
من البوارى تراسها ومن ال
خوص إذا استلأمت مغافرها
تغدو إلى الحرب في جواشنها ال
صوف إذا ما عدت أساورها
كتائب الهرش تحت رايته
ساعد طرارها مقامرها
لا الرزق تبغي ولا العطاء ولا
يحشرها للقاء حاشرها
في كل درب وكل ناحية
خطارة يستهل خاطرها
بمثل هام الرجال من فلق ال
صخر يزود المقلاع بائرها
كأنما فوق هامها عدف
من القطا الكدر هاج نافرها
والقوم من تحتها لهم زجل
وهي ترامى بها خواطرها
بل هل رأيت السيوف مصلتة
أشهرها في الأسواق شاهرها
والخيل تستن في أزقتها
بالترك مسنونة خناجرها
والنفط والنار في طرائقها
وهابيا للدخان عامرها
والنهب تعدو به الرجال وقد
أبدت خلاخيلها حرائرها
معصوصبات وسط الأزقة قد
أبرزها للعيون ساترها
كل رقود الضحى مخبأة
لم تبد في أهلها محاجرها
بيضة خدر مكنونة برزت
للناس منشورة غدائرها
تعثر في ثوبها وتعجلها
كبة خيل زيعت حوافرها
تسأل أين الطريق والهة
والنار من خلفها تبادرها
لم تجتل الشمس حسن بهجتها
حتى اجتلتها حرب تباشرها
يا هل رأيت الثكلى مولولة
في الطرق تسعى والجهد باهرها
في إثر نعش عليه واحدها
في صدره طعنة يساورها
فرغاء تلقي النثار من يدها
103
يهزها بالسنان شاجرها
تنظر في وجهه وتهتف بال
ثكل وعز الدموع خامرها
غرغر بالنفس ثم أسلمها
مطلولة لا يخاف ثائرها
وقد رأيت الفتيان في عرصة ال
معرك معفورة مناخرها
كل فتى مناع حقيقته
تشقى به في الوغى مساعرها
باتت عليه الكلاب تنهشه
مخضوبة من دم أظافرها
أما رأيت الخيول جائلة
بالقوم منكوبة دوائرها
تعثر بالأوجه الحسان من ال
قتلى وغلت دما أشاعرها
يطأن أكباد فتية نجد
يفلق هاماتهم حوافرها
أما رأيت النساء تحت المجا
نيق تعادى شعثا ضفائرها
عقائل القوم والعجائز وال
عنس لم تختبر معاصرها
يحملن قوتا من الطحين على ال
أكتاف معصوبة معاجرها
وذات عيش ضنك ومقعسة
تشدخها صخرة تعاورها
تسأل عن أهلها وقد سلبت
وابتز عن رأسها غفائرها
يا ليت ما والدهر ذو دول
ترجى وأخرى تخشى بوادرها
هل ترجعن أرضنا كما غنيت
وقد تناهت بنا مصايرها
من مبلغ ذا الرياستين رسا
لات تأتى للنصح شاعرها
بأن خير الولاة قد علم الن
اس إذا عددت مآثرها
خليفة الله من بريته ال
مأمون سائسها وجابرها
سمت إليه آمال أمته
منقادة برها وفاجرها
شاموا حيا العدل من مخايله
وأصحرت بالتقى بصائرها
وأحمدوا منك سيرة جلت ال
شك وأخرى صحت معاذرها
واستجمعت طاعة برفقك لل
مأمون نجديها وغائرها
وأنت سمع في العالمين له
ومقلة ما يكل ناظرها
فاشكر لذي العرش فضل نعمته
أوجب فضل المزيد شاكرها
واحذر فداء لك الرعية وال
أجناد مأمورها وآمرها
لا تردن غمرة بنفسك لا
يصدر عنها بالرأي صادرها
عليك ضحضاحها فلا تلج ال
غمر ملتجة زواخرها
والقصد إن الطريق ذو شعب
أشأمها وعثها وجائرها
أصبحت في أمة أوائلها
قد فارقت هديها أواخرها
وأنت سرسورها وسائسها
فهل على الحق أنت قاسرها
أدب رجالا رأيت سيرتهم
خالف حكم الكتاب سائرها
وامدد إلى الناس كف مرحمة
تسد منهم بها مفاقرها
أمكنك العدل إذ هممت به
ووافقت مده مقادرها
وأبصر الناس قصد وجههم
وملكت أمة أخايرها
تشرع أعناقنا إليك إذا الس
ادات يوما جمت عشائرها
كم عندنا من نصيحة لك في الله
وقربى عزت زوافرها
وحرمة قربت أواصرها
منك وأخرى هل أنت ذاكرها
سعي رجال في العلم مطلبهم
رائحها باكر وباكرها
دونك غراء كالوذيلة لا
تفقد في بلدة سوائرها
لا طمعا قلتها ولا بطرا
لكل نفس نفس تؤامرها
سيرها الله بالنصيحة وال
خشية فاستدمجت مرائرها
جاءتك تحكي لك الأمور كما
ينشر بز التجار ناشرها
حملتها صاحبا أخا ثقة
يظل عجبا بها يحاضرها
ومن جيد شعره قوله:
الناس أخلاقهم شتى وإن جبلوا
على تشابه أرواح وأجساد
للخير والشر أهل وكلوا بهما
كل له من دواعي نفسه هاد
منهم خليل صفاء ذو محافظة
أرسى الوفاء أواخيه بأوتاد
ومشعر الغدر محني أضالعه
على سريرة غمر غلها باد
مشاكس خدع جم غوائله
يبدي الصفاء ويخفي ضربة الهادي
يأتيك بالبغى في أهل الصفاء ولا
ينفك يسعى بإصلاح لإفساد
ومن جيد شعر الخريمي قوله:
أضاحك ضيفي قبل إنزال رحله
ويخصب عندي والمحل جديب
وما الخصب للأضياف أن يكثر القرى
ولكنما وجه الكريم خصيب
ومن جيد شعره قوله:
زاد معروفك عندي عظما
أنه عندك محقور صغير
وتناسيه كأن لم تأته
وهو عند الناس مشهور كبير
وهو القائل:
وإن أشد الناس في الحشر حسرة
لمورث مال غيره وهو كاسبه
كفى سفها بالكهل أن يتبع الصبا
وأن يأتي الأمر الذي هو عائبه
ويستجاد له قوله:
ودون الندى في كل قلب ثنية
لها مصعد وعر ومنحدر سهل
وود الفتى في كل نيل ينيله
إذا ما انقضى لو أن نائله جزل
وأعلم علما ليس بالظن أنه
لكل أناس من ضرائبهم شكل
وأن أخلاء الزمان غناؤهم
قليل إذا الإنسان زلت به النعل
تزود من الدنيا متاعا لغيرها
فقد شمرت حذاء وانصرم الحبل
وهل أنت إلا هامة اليوم أو غد
لكل أناس من طوارقها الثكل
وفي هذا الشعر يقول:
أبا لصغد بأس إذ تعيرني جمل
سفاها ومن أخلاق جارتي الجهل
فإن تفخري يا جمل أو تتجملي
فلا فخر إلا فوقه الدين والعقل
أرى الناس شرعا في الحياة ولا يرى
لقبر على قبر علاء ولا فضل
وما ضرني أن لم تلدني يحابر
ولم تشتمل جرم علي ولا عكل
وهو القائل:
ما أحسن الغيرة في حينها
وأقبح الغيرة في كل حين
من لم يزل متهما عرسه
مناصبا فيها لريب الظنون
أوشك أن يغريها بالذي
يخاف أن يبرزها للعيون
حسبك من تحصينها وضعها
منك إلى عرض صحيح ودين
لا تطلع منك على ريبة
فيتبع المقرون حبل القرين (8) عبد الله بن طاهر
كان بمحل من علو المنزلة وعظم القدر ولطف مكان من الخلفاء، يستغنى به عن التقريظ له والدلالة عليه، وأمره في ذلك مشهور عند الخاصة والعامة، وله في الأدب مع ذلك المحل الذي لا يدفع، وفي السماحة والشجاعة ما لا يقاربه فيه أحد.
104
وكان أديبا ظريفا جيد الغناء، نسب إليه صاحب الأغاني أصواتا كثيرة أحسن فيها ونقلها أهل الصنعة عنه، وله شعر رائع ورسائل ظريفة، فمن شعره قوله:
نحن قوم تليننا الحدق النج
ل على أننا نلين الحديدا
طوع أيدي الظباء تقتادنا العي
ن ونقتاد بالطعان الأسودا
نملك الصيد ثم تملكنا البي
ض المصونات أعينا وخدودا
تتقي سخطنا الأسود ونخشى
سخط الخشف حين يبدي الصدودا
فترانا يوم الكريهة أحرا
را وفي السلم للغواني عبيدا
أعطاه المأمون مال مصر لسنة، خراجها وضياعها، فوهبه كله وفرقه في الناس ورجع صفرا من ذلك، فغاظ المأمون فعله، فدخل إليه يوم مقدمه، فأنشده أبياتا قالها في هذا المعنى، وهي:
نفسي فداؤك والأعناق خاضعة
للنائبات أبيا غير مهتضم
إليك أقبلت من أرض أقمت بها
حولين بعدك في شوق وفي ألم
أقفو مساعيك اللائي خصصت بها
حذو الشراك على مثل من الأدم
فكان فضلي فيها أنني تبع
لما سننت من الإنعام والنعم
ولو وكلت إلى نفسي عنيت بها
لكن بدأت فلم أعجز ولم ألم
فضحك المأمون وقال: والله ما نفست عليك مكرمة نلتها، ولا أحدوثة حسن عندك ذكرها، ولكن هذا شيء إذا عودته نفسك افتقرت، ولم تقدر على لم شعثك وإصلاح حالك. وزال ما كان في نفسه.
لما فتح عبد الله مصر سوغه المأمون خراجها، فصعد المنبر فلم يزل حتى أجاز بها كلها ثلاثة آلاف ألف دينار أو نحوها، فأتاه معلى الطائي وقد أعلموه ما صنع بالناس في الجوائز وكان عليه واجدا، فوقف بين يديه تحت المنبر فقال: أصلح الله الأمير، أنا معلى الطائي، وقد بلغ مني ما كان منك من جفاء وغلظ، فلا يغلظن علي قلبك، ولا يستخفنك الذي بلغك، أنا الذي أقول :
يا أعظم الناس عفوا عند مقدرة
وأظلم الناس عند الجود للمال
لو أصبح النيل يجري ماؤه ذهبا
لما أشرت إلى خزن بمثقال
تغلي بما فيه رق الحمد تملكه
وليس شيء أعاض الحمد بالغالي
تفك باليسر كف العسر من زمن
إذا استطال على قوم بإقلال
لم تخل كفك من جود لمختبط
ومرهف قاتل في رأس قتال
وما بثثت رعيل الخيل في بلد
إلا عصفن بأرزاق وآجال
إن كنت منك على بال مننت به
فإن شكرك من قلبي على بال
ما زلت مقتضبا لولا مجاهرة
من ألسن خضن في صدري بأقوال
فضحك عبد الله وسر بما كان منه وقال: يا أبا السمراء، أقرضني عشرة آلاف دينار فما أمسيت أملكها. فأقرضه فدفعها إليه.
كان موسى بن خاقان مع عبد الله بن طاهر بمصر، وكان نديمه وجليسه، وكان له مؤثرا مقدما، فأصاب منه معروفا كثيرا وأجازه بجوائز سنية هناك وقبل ذلك، ثم إنه وجد عليه في بعض الأمر فجفاه وظهر له منه بعض ما لم يحبه، فرجع حينئذ إلى بغداد وقال:
إن كان عبد الله خلانا
لا مبدئا عرفا وإحسانا
فحسبنا الله رضينا به
ثم بعبد الله مولانا
يعني به المأمون، وغنت فيه جاريته وسمعه المأمون، فاستحسنه ووصله وإياها، فبلغ ذلك عبد الله بن طاهر، فغاظه ذلك وقال: أجل! صنعنا المعروف إلى غير أهله فضاع.
ولعبد الله ألحان صاغها، فمنها ومن مختارها وصدورها ومقدمها لحنه في شعر أخت عاصية، فإنه صوت نادر جيد صحيح العمل مزدوج النغم، بين لين وشدة على رسم الحذاق من القدماء، وهو:
هلا سقيتم بني سهم أسيركم
نفسي فداؤك من ذي غلة صادي
الطاعن الطعنة النجلاء يتبعها
مضرج بعد ما جادت بإزباد
ومن غنائه أيضا:
راح صحبي وعاود القلب داء
من حبيب طلابه لي عناء
حسن الرأي والمواعيد لا يل
فى لشيء مما يقول وفاء
من تعزى عمن يحب فإني
ليس لي ما حييت عنه عزاء (9) ما قيل في هجاء الأمين ورثائه
قيل في هجائه:
لم نبكيك لماذا للطرب
يا أبا موسى وترويح اللعب
ولترك الخمس في أوقاتها
حرصا منها على ماء العنب
وشنيف أنا لا أبكي له
وعلى كوثر لا أخشى العطب
لم تكن تعرف ما حد الرضا
لا ولا تعرف ما حد الغضب
لم تكن تصلح للملك ولم
تعطك الطاعة بالملك العرب
أيها الباكي عليه لا بكت
عين من أبكاك إلا للعجب
لم نبكيك لما عرضتنا
للمجانيق وطورا للسلب
ولقوم صيرونا أعبدا
لهم يبدو على الرأس الذنب
في عذاب وحصار مجهد
سدد الطرق فلا وجه طلب
زعموا أنك حي حاشر
كل من قد قال هذا قد كذب
ليت من قد قاله في وحدة
من جميع ذاهب حيث ذهب
أوجب الله علينا قتله
فإذا ما أوجب الأمر وجب
كان والله علينا فتنة
غضب الله عليه وكتب
وقال عبد الرحمن بن أبي الهداهد يرثيه:
يا غرب جودي قد بت من وذمه
فقد فقدنا الغزير من ديمه
ألوت بدنياك كف نائبة
وصرت مغضى لنا على نقمه
أصبح للموت عندنا علم
يضحك سن المنون من علمه
ما استنزلت درة المنون على
أكرم من حل في ثرى رحمه
خليفة الله في بريته
تقصر أيدي الملوك عن شيمه
يفتر عن وجهه سنا قمر
ينشق عن نوره دجى ظلمه
زلزلت الأرض من جوانبها
إذ أولغ السيف من نجيع دمه
من سكتت نفسه لمصرعة
من عمم الناس أو ذوي رحمه
رأيته مثل ما رآه به
حتى تذوق الأمر من سقمه
كم قد رأينا عزيز مملكة
ينقل عن أهله وعن خدمه
يا ملكا ليس بعده ملك
لخاتم الأنبياء في أممه
جاد وحي الذي أقمت به
سح غزير الوكيف من ديمه
لو أحجم الموت عن أخي ثقة
أسوي في العز مستوى قدمه
أو ملك لا ترام سطوته
إلا مرام الشتيم في أجمه
خلدك العز ما سرى سدف
أو قام طفل العشى في قدمه
أصبح ملك إذا اتزرت به
يقرع سن الشقاة من ندمه
أثر ذو العرش في عداك كما
أثر في عاده وفي إرمه
لا يبعد الله صيورة تليت
لخير داع دعاه في حرمه
ما كنت إلا كحلم ذي حلم
أولج باب السرور في حلمه
حتى إذا أطلقته رقدته
عاد إلى ما اعتراه من عدمه
وقال أيضا يرثيه:
أقول وقد دنوت من الفرار
سقيت الغيث يا قصر القرار
رمتك يد الزمان بسهم عين
فصرت ملوحا بدخان نار
أبن لي عن جميعك أين حلوا
وأين مزارهم بعد المزار
وأين محمد وابناه ما لي
أرى أطلالهم سود الديار
كأن لم يؤنسوا بأنيس ملك
يطول على الملوك بخير جار
إمام كان في الحدثان عونا
لنا والغيث يمنح بالقطار
لقد ترك الزمان بني أبيه
وقد غمرتهم سود البحار
أضاعوا شمسهم فجرت بنحس
فصاروا في الظلام بلا نهار
وأجلوا عنهم قمرا منيرا
وداستهم خيول بني الشرار
ولو كانوا لهم كفؤا ومثلا
إذا ما توجوا تيجان عار
ألا بان الأمام ووارثاه
لقد ضرم الحشى منا بنار
وقالوا الخلد بيع فقلت ذلا
يصير ببائعيه إلى صغار
كذاك الملك يتبع أوليه
إذا قطع القرار من القرار
وقال مقدس بن صيفي يرثيه:
خليلي ما أتتك به الخطوب
فقد أعطاك طاعته النحيب
تدلت من شماريخ المنايا
منايا ما تقوم لها القلوب
خلال مقابر البستان قبر
يجاور قبره أسد غريب
لقد عظمت مصيبته على من
له في كل مكرمة نصيب
على أمثاله العبرات تذرى
وتهتك في مآتمه الجيوب
وما ادخرت زبيدة عنه دمعا
تخص به النسيبة والنسيب
دعوا موسى ابنه لبكاء دهر
على موسى ابنه دخل الحزيب
رأيت مشاهد الخلفاء منه
خلاء ما بساحتها مجيب
ليهنك أنني كهل عليه
أذوب وفي الحشى كبد تذوب
أصيب به البعيد فخر حزنا
وعاين يومه فيه المريب
أنادي من بطون الأرض شخصا
يحركه النداء فما يجيب
لئن نعت الحروب إليه نفسا
لقد فجعت بمصرعه الحروب
وقال خزيمة بن الحسن يرثيه على لسان أم جعفر:
لخير إمام قام من خير عنصر
وأفضل سام فوق أعواد منبر
لوارث علم الأولين وفهمهم
وللملك المأمون من أم جعفر
كتبت وعيني مستهل دموعها
إليك ابن عمي من جفوني ومحجري
وقد مسني ضر وذل كآبة
وأرق عيني يا ابن عمي تفكري
وهمت لما لاقيت بعد مصابه
فأمري عظيم منكر جد منكر
سأشكو الذي لاقيته بعد فقده
إليك شكاة المستهام المقهر
وأرجو لما قد مر بي مذ فقدته
فأنت لبثي خير رب مغير
أتى طاهر لا طهر الله طاهرا
فما طاهر فيما أتى بمطهر
فأخرجني مكشوفة الوجه حاسرا
وأنهب أموالي وأحرق آدري
يعز على هارون ما قد لقيته
وما مر بي من ناقص الخلق أعور
فإن كان ما أسدى بأمر أمرته
صبرت لأمر من قدير مقدر
تذكر أمير المؤمنين قرابتي
فديتك من ذي حرمة متذكر
وقال أيضا يرثيه:
سبحان ربك رب العزة الصمد
ماذا أصبنا به في صبحة الأحد
وما أصيب به الإسلام قاطبة
من التضعضع في ركنيه والأود
من لم يصب بأمير المؤمنين ولم
يصبح بمهلكة والهم في صعد
فقد أصبت به حتى تبين في
عقلي وديني ودنياي وفي جسدي
يا ليلة يشتكي الإسلام مدتها
والعالمون جميعا آخر الأبد
غدرت بالملك الميمون طائره
وبالإمام وبالضرغامة الأسد
سارت إليه المنايا وهي ترهبه
فواجهته بأوغاد ذوي عدد
بشورجين وأغتام يقودهم
قريش بالبيض في قمص من الزرد
فصادفوه وحيدا لا معين له
عليهم غائب الأنصار بالمدد
فجرعوه المنايا غير ممتنع
فردا فيا لك من مستسلم فرد
يلقى الوجوه بوجه غير مبتذل
أبهى وأنقى من القوهية الجدد
وا حسرتا وقريش قد أحاط به
والسيف مرتعد في كف مرتعد
فما تحرك بل ما زال منتصبا
منكس الرأس لم يبدئ ولم يعد
حتى إذا السيف وافى وسط مفرقه
أذرته عنه يداه فعل متئد
وقام فاعتلقت كفاه لبته
كضيغم شرس مستبسل لبد
فاجتره ثم أهوى فاستقل به
للأرض من كف ليث محرج حرد
فكاد يقتله لو لم يكاثره
وقام منفلتا منه ولم يكد
هذا حديث أمير المؤمنين وما
نقصت من أمره حرفا ولم أزد
لا زلت أندبه حتى الممات وإن
أخنى عليه الذي أخنى على لبد
وذكر عمر بن شبة أن محمد بن أحمد الهاشمي حدثه أن لبابة ابنة علي بن المهدي قالت البيتين الآتيين وقيل إنهما لابنة عيسى بن جعفر وكانت مملكة بمحمد:
أبكيك لا للنعيم والأنس
بل للمعالي والرمح والترس
أبكي على هالك فجعت به
أرملني قبل ليلة العرس (10) هجاء يحيى
105
بن أكثم
وعدناك في المجلد الأول أن نذكر مثلا من الهجاء قاله بعض الشعراء في يحيى بن أكثم، وها هو ذا:
أرقه برح الهوى وسدمه
ومله الحب فبات يألمه
طورا يعانيه وطورا يشتمه
مثل الحريق في الحشا يضرمه
ففاضت العين بدمع تسجمه
نمت عليه كل شوق يكتمه
وباح بالحب الذي يجمجمه
وبات والقلب يسامي هممه
من لمحب قد تراه يرحمه
أصبح بالبأساء عار أنغمه
طال تصابيه وطال سقمه
وبلي الجسم ورقت أعظمه
يشهدني الله على من يظلمه
يمنعه طعم الكرى ويحرمه
واها له يصرم من لا يصرمه
أصبح هذا الدين رثا رممه
عطله الجور وطال قدمه
سحت من الجور عليه ديمه
فباد مغنى ربعه وأرسمه
إلا بقايا قومه وجممه
أوطنه الجور فأضحى معلمه
يرود فيه شاؤه ونعمه
من يشهد الجور فنحن نعلمه
أنوك قاض في البلاد نعلمه
يقول حقا لا تعيث ترحمه
مذ ولي الحكم أبيح حرمه
وانتهكت من القضاء حرمه
واضطربت أركانه ودعمه
والله يبنيه ونحن نهدمه
يا ليت يحيى لم يلده أكثمه
ولم تطأ أرض العراق قدمه
ملعونة أخلاقه وشيمه
106
والله والله لقد حل دمه
لو أن للدين عمادا يدعمه
يعدل عنه الميل أو يقومه
لكان قد رن عليه مأتمه
أرجو ويقضي الله لا يسلمه
من وجهه هذا ولكن يقصمه
بالسيف إذ حلت عليه نقمه (11) وصف ثورة بغداد وحريقها
أما ما أصاب بغداد من سلب ونهب وتحريق وتخريب وفتنة شعواء وقتل ودماء، فإنا نترك الكلمة في ذلك لشعراء ذلك العصر.
قال الأعمى يصف دمار الحرب:
تقطعت الأرحام بين العشائر
وأسلمهم أهل التقى والبصائر
فذاك انتقام الله من خلقه بهم
لما اجترموه من ركوب الكبائر
فلا نحن أظهرنا من الذنب توبة
ولا نحن أصلحنا فساد السرائر
ولم نستمع من واعظ ومذكر
فينجع فينا وعظ ناه وآمر
فابك على الإسلام لما تقطعت
عراه ورجى ضره كل كافر
فأصبح بعض الناس يقتل بعضهم
فمن بين مقهور عزيز وقاهر
وصار رئيس القوم يحمل نفسه
وصار رئيسا فيهم كل شاطر
فلا فاجر للبر يحفظ حرمة
ولا يستطيع البر دفعا لفاجر
تراهم كأمثال الذئاب رأت دما
فأمته لا تلوي على زجر زاجر
وأصبح فساق القبائل بينهم
تسل على أقرانها بالخناجر
فابك لقتلي من صديق ومن أخ
كريم ومن جار شفيق مجاور
ووالدة تبكي بحزن على ابنها
فيبكي لها من رحمة كل ظائر
وذات حليل أصبحت وهي أيم
وتبكي عليه بالدموع البوادر
تقول له قد كنت عزا وناصرا
فغيب عني اليوم عزي وناصري
وابك لإحراق وهدم منازل
وقتل وإنهاب اللهى والذخائر
وإبراز ربات الخدور حواسرا
خرجن بلا خمر ولا بمآزر
تراها حيارى ليس تعرف مذهبا
نوافر أمثال الظباء النوافر
كأن لم تكن بغداد أحسن منظرا
وملهى رأته عين لاه وناظر
بل هكذا كانت فأذهب حسنها
وبدد منها الشمل حكم المقادر
وحل بهم ما حل بالناس قبلهم
فأضحوا أحاديثا لباد وحاضر
أبغداد يا دار الملوك ومحتمى
صروف المنايا مستقر المنابر
ويا جنة الدنيا ومطلب الغنى
ومستنبط الأموال عند الضرائر
أبيني لنا أين الذين عهدتهم
يحلون في روض من العيش زاهر
وأين ملوك في المواكب تغتدي
تشبه حسنا بالنجوم الزواهر
وأين القضاة الحاكمون برأيهم
لورد أمور مشكلات الأوامر
أو القائلون الناطقون بحكمة
ورصف كلام من خطيب وشاعر
وأين مراح
107
للملوك عهدتها
مزخرفة فيها صنوف الجواهر
ترش بماء المسك والورد أرضها
يفوح بها من بعد ريح المجامر
وروح الندامى فيه كل عشية
إلى كل فياض كريم العناصر
وأين قيان تستجيب لنغمها
إذا هو لباها حنين المزامر
وأين الملوك الغر من آل هاشم
وأشياعهم فيها اكتفوا بالمعاذر
يروحون في سلطانهم وكأنهم
يروحون في سلطان بعض العشائر
يجادل عما نالهم كبراؤهم
فنالتهمو بالكره أيدي الأصاغر
فأقسم لو أن الملوك تناصروا
لزلت لها خوفا رقاب الجبابر
وقال عمرو بن عبد الملك الوراق يبكي بغداد ويهجو طاهرا ويعرض به:
من ذا أصابك يا بغداد بالعين
ألم تكوني زمانا قرة العين
ألم يكن فيك أقوام لهم شرف
بالصالحات وبالمعروف يلقوني
ألم يكن فيك قوم كان مسكنهم
وكان قربهم زينا من الزين
صاح الزمان بهم بالبين فانقرضوا
ماذا الذي فجعتني لوعة البين
استوع الله قوما ما ذكرتهمو
ألا تحدر ماء العين من عيني
كانوا ففرقهم دهر وصدعهم
والدهر يصدع ما بين الفريقين
كم كان لي مسعد منهم على زمني
كم كان منهم على المعروف من عون
لله در زمان كان يجمعنا
أين الزمان الذي ولى ومن أين
يا من يخرب بغدادا ليعمرها
أهلكت نفسك ما بين الطريقين
كانت قلوب جميع الناس واحدة
عينا وليس يكون العين كالدين
لما استبيتهم فرقتهم فرقا
والناس طرا جميعا بين قلبين
ولبعض فتيان بغداد:
بكيت دما على بغداد لما
فقدت غضارة العيش الأنيق
تبدلنا هموما من سرور
ومن سعة تبدلنا بضيق
أصابتها من الحساد عين
فأفنت أهلها بالمنجنيق
فقوم أحرقوا بالنار قسرا
ونائحة تنوح على غريق
وصائحة تنادي وا صباحا
وباكية لفقدان الشفيق
وحوراء المدامع ذات دل
مضمخة المجاسد بالخلوق
تفر من الحريق إلى انتهاب
ووالدها يفر إلى الحريق
وسالبة الغزالة مقلتيها
مضاحكها كلألأة البروق
حيارى كالهدايا مبكرات
عليهن القلائد في الحلوق
ينادين الشفيق ولا شفيق
وقد فقد الشفيق من الشفيق
وقوم أخرجوا من ظل دنيا
متاعهم يباع بكل سوق
ومغترب قريب الدار ملقى
بلا رأس بقارعة الطريق
توسط من قتالهم جميعا
فما يدرون من أي الفريق
فلا ولد يقيم على أبيه
وقد هرب الصديق من صديق
ومهما أنس من شيء تولى
فإني ذاكر دار الرقيق
هوامش
بيان المصادر العربية والإفرنجية الهامة التي عولنا عليها في المراجعة لكتاب عصر المأمون
نثبت لك هنا الهام من مراجع الكتاب عدا دواوين الشعراء ومعجمات اللغة التي أشرنا إليها في مواضعها من الكتاب وهوامشه. وهي:
المصادر باللغة العربية
تاريخ الطبري، طبعة مصر وليدن.
تاريخ الكامل لابن الأثير، طبعة مصر.
تاريخ مروج الذهب للمسعودي، طبعة مصر وباريس .
تاريخ اليعقوبي، طبعة ليدن بإشراف المسيو هتسما.
تاريخ أبي الفدا للملك المؤيد، طبعة الأستانة.
تاريخ علماء الأندلس لأبي الوليد عبد الله محمد بن يوسف، طبعة أوروبا.
تجارب الأمم لابن مسكويه، طبعة مصر.
تاريخ العبر والمبتدا والخبر لابن خلدون، طبعة مصر.
الأخبار الطوال لأبي حنيفة الدينوري، طبعة ليدن.
نظم الجوهر لابن البطريق، طبعة أكسفورد سنة 1659 للمستشرق إدوار بوكوك.
تاريخ دمشق لابن عساكر، مخطوط.
تاريخ المشارقة لصليبا بن يوحنا، مخطوط.
تاريخ بغداد للخطيب البغدادي ، مخطوط.
تاريخ بغداد لابن طيفور (الجزء السادس طبعة أوروبا).
تاريخ التشريع الإسلامي للمرحوم الخضري بك، طبعة مصر.
تاريخ الآداب السلطانية والدول الإسلامية لابن طباطبا، طبعة أوروبا.
تاريخ النجوم الزاهرة لابن تغريبردي، طبعة أوروبا.
البدء والتاريخ لأبي زيد البلخي، طبعة باريس سنة 1899 «أرنست لرو».
الآثار الباقية للبيروني، طبعة ليبسك.
مختصر تاريخ الدول لأبي الفرج الملطي، طبعة بيروت.
تاريخ الإسحاقي، طبعة أوروبا.
فتوح الشام للواقدي، طبعة مصر.
نشوار المحاضرة وأخبار المذاكرة، طبعة مصر.
ولاة مصر وقضاتها للكندي، طبعة بيروت.
مختصر أخبار الخلفاء لابن الساعي، طبعة مصر.
كشف الظنون لحاجي خليفة، طبعة الأستانة وليبسك ومصر.
المستطرف للابشيهي، طبعة بولاق.
معجم البلدان لياقوت الحموي، طبعة ليبسك ومصر.
المزهر للسيوطي، طبعة بولاق.
الأحكام السلطانية للماوردي، طبعة أوروبا.
أعلام الناس للأتليدي، طبعة مصر.
كتاب المعارف لابن قتيبة، طبعة أوروبا.
معجم الأدباء لياقوت الرومي، طبعة مصر وإشراف مرجليوث.
الفهرست لابن النديم، طبعة ليبسك.
طبقات الأمم لابن صاعد، طبعة بيروت.
طبقات الأطباء لابن أبي أصيبعة، طبعة مصر.
تراجم الحكماء للقفطي، طبعة مصر.
طبقات الأدباء لعبد الرحمن الأنباري، طبعة مصر.
وفيات الأعيان لابن خلكان، طبعة مصر.
فوات الوفيات لابن شاكر الكتبي، طبعة مصر.
الملل والنحل للشهرستاني، طبعة مصر.
ألف باء ليوسف البلوي، طبعة مصر.
مسالك الأبصار لابن فضل الله العمري، طبعة دار الكتب.
فتوح البلدان للبلاذري، طبعة ليدن.
كتاب البلدان لابن الفقيه الهمذاني، طبعة ليدن.
كتاب البلدان لليعقوبي، طبعة ليدن.
مسالك الممالك للأصطخري، طبعة ليدن.
المسالك والممالك لابن حوقل، طبعة ليدن.
أحسن التقاسيم للمقدسي، طبعة ليدن.
المسال والممالك لابن خرداذبه، طبعة ليدن.
الأعلاق النفيسة لابن رستة، طبعة ليدن.
حسن المحاضرة للسيوطي، طبعة مصر.
بلوغ الأرب في أحوال العرب للألوسي، طبعة بغداد.
مقدمة إلياذة هوميروس تعريب البستاني، طبعة مصر.
حضارة الإسلام في دار السلام لجميل مدور، طبعة مصر.
كتاب الأغاني للأصبهاني، طبعة بولاق والساسي.
الجزء الأول من كتاب الأغاني، طبع مطبعة دار الكتب المصرية.
نهاية الأرب، طبع مطبعة دار الكتب المصرية والنسخة الفتوغرافية بالدار.
صبح الأعشى، طبع مطبعة دار الكتب المصرية.
كتاب التاج المنسوب للجاحظ، طبع مطبعة دار الكتب المصرية.
كتاب الأمالي لأبي علي القالي، طبع مطبعة دار الكتب المصرية.
كتاب الكامل للمبرد، طبعة مصر.
كتاب البيان والتبيين للجاحظ، طبعة مصر.
العمدة لابن رشيق، طبعة مصر.
كتاب المحاسن والمساوي للبيهقي، طبعة فردرك شوالي.
كتاب المحاسن والأضداد للجاحظ، طبعة ليدن.
كتاب البخلاء للجاحظ، طبعة مصر.
كتاب الحيوان للجاحظ، (نسخة فتوغرافية محفوظة بدار الكتب المصرية).
كتاب الكشكول للعاملي، طبعة مصر.
سراج الملوك للطرطوشي، طبعة مصر.
كتاب الخراج لقدامة بن جعفر، طبعة ليدن.
كتاب الخراج لأبي يوسف، طبعة بولاق.
تاريخ الوزراء المنسوب للصولي، طبعة بيروت.
أشهر مشاهير الإسلام، للمرحوم رفيق العظم بك، طبعة مصر.
كتاب نفح الطيب، طبعة مصر وأوروبا.
مفاتيح العلوم للخوارزمي، طبعة مصر.
مفيد العلوم للخوارزمي، طبعة مصر.
كتاب المواهب الفتحية للمرحوم الشيخ حمزة فتح الله، طبعة مصر.
كتاب السيرة لابن هشام، طبعة مصر.
مقدمة ابن خلدون، طبعة مصر.
خطط الشام للأستاذ محمد كرد علي، طبعة دمشق.
مجموعة مجلة المشرق، طبعة بيروت.
مجموعة مجلة المجمع العلمي، طبعة دمشق.
مجموعة مجلة الهلال، طبعة مصر.
مجموعة مجلة المقتطف، طبعة مصر.
بعض فصول ومباحث من المجلة الآسيوية.
حديث الأربعاء للدكتور طه حسين، طبعة مصر.
منهل الرواد في علم الانتقاد لقسطاكي الحمصي بك، طبعة مصر.
محاضرات الأستاذ الإسكندري المدرس بدار العلوم، طبعة مصر.
الوسيط للأستاذ الإسكندري المدرس بدار العلوم، طبعة مصر.
أدبيات اللغة العربية للأستاذ مصطفى صادق الرافعي، طبعة مصر.
أدبيات اللغة العربية للمرحوم عاطف بركات بك وزملائه، طبعة مصر.
مهذب الأغاني للمرحوم الخضري بك، طبعة مصر.
بلاغة العرب للدكتور أحمد ضيف، طبعة مصر.
الشعر والشعراء لابن قتية، طبعة ليدن.
طبقات الشعراء لمحمد بن سلام الجمحي، طبعة ليدن ومصر.
العقد الفريد للملك السعيد، طبعة مصر.
العقد الفريد لابن عبد ربه، طبعة مصر.
لطائف المعارف للثعالبي، طبعة ليدن.
عيون الأخبار لابن قتيبة، طبعة دار الكتب وأوروبا.
حلبة الكميت، طبعة بولاق.
خزانة الأدب لابن حجة الحموي، طبعة بولاق.
خزانة الأدب للبغدادي، طبعة بولاق.
محاضرات الفلسفة لسنتللانه بالجامعة المصرية.
محاضرات علم الفلك بالجامعة المصرية للسنيور كرلو نلينو، طبعة روما.
مفتاح السعادة ومصباح السيادة لطاشكبري زاده، طبعة حيدر آباد.
محاضرات الشيخ عبد الوهاب النجار بالجامعة المصرية.
محاضرات المرحوم الشيخ محمد المهدي بالجامعة المصرية.
محاضرات الأستاذ الخضري بك في تاريخ الأمم الإسلامية، طبعة مصر.
محاضرات الأستاذ الخضري بك في تاريخ الدولة الأموية، طبعة مصر.
التمدن الإسلامي للمرحوم جورجي بك زيدان، طبعة مصر.
تاريخ آداب اللغة العربية للمرحوم جورجي بك زيدان، طبعة مصر.
طبقات ابن سعد، طبعة أوروبا.
طبقات الشافعية للسبكي، طبعة مصر.
المنثور والمنظوم لابن طيفور.
رسالة بني أمية للجاحظ، خطية.
كتاب الوزراء والكتاب لأبي عبد الله محمد بن عبدوس الجهشياري، طبعة فيينا سنة 1926.
كتاب الاشتقاق لابن دريد الأزدي، طبعة جوتنجن سنة 1854.
الأوراق للصولي، خطية.
مطبوعات تذكار جيب الإنجليزية، وخاصة مؤلفات الأستاذين مرجليوث وبرون.
زهر الآداب للحصري، طبعة مصر.
المشتبه في أسماء الرجال للذهبي، طبعة أوروبا.
الوافي بالوفيات للصفدي (المحفوظ بدار الكتب المصرية تحت رقم 1219).
أخبار أبي نواس لابن منظور، طبعة مصر.
رسائل البلغاء لأستاذ محمد كرد علي، طبعة مصر.
جمهرة أشعار العرب لأبي زيد، طبعة مصر.
المفضليات للضبي، طبعة مصر.
حماسة البحتري، طبعة بيروت.
الصناعتين لأبي هلال العسكري، طبعة مصر.
الموشى لأبي الطيب، طبعة أوروبا.
ديوان الحماسة لأبي تمام، طبعة مصر.
مجاني الأدب وشرحه، طبعة بيروت.
مختارات البارودي، طبعة مصر.
حياة الحيوان للدميري، طبعة مصر.
عيون التواريخ لابن شاكر الكتبي (أجزاء منه محفوظة بدار الكتب المصرية).
الفرج بعد الشدة للتنوخي، طبعة مصر.
المصادر الإفرنجية
Histoire des Arabes par Cl. Huart: Paris.
Life of Mohamet by Sir W. Muir. (London).
The Life and Teachings of Mohammed and the Spirit of Islam by Ameer Ali. (London).
D. S. Margoliouth: Mohammed and the Rise of Islam. (London) in “Heroes of the Nations’ Series”.
H. Lammens: “Etudes sur les régnes des Califs. Omaiyades Moawia 1
er
et Yasid 1
er ”. (Beyiouth).
Library of Universal History (N. Y.).
History of Arabic Literature: Cl. Huart. (London).
A Literary History of Persia: Ed. G. Browne. (London).
A Literary History of the Arabs by R. A. Nicholson. (London).
Short History of the Saracens by Ameer Ali, (London).
The Caliphate: its rise decline and fall by Sir W. Muir. (London).
Annals of the Early Caliphate by Sir W. Muir. (London).
Baghdad during the Abbasid Caliphate by G. le Strange. (Oxford).
Encyclopaedia of Islam. (Luzac).
Encyclopaedia Britannica. (London).
La Grande Encyclopédie. Paris.
The Historians’ History of the World by H. S. Williams. (New York).
Ency. of Religion & Ethics by I. Hastings. (London).
The History of the Decline and Fall of the Roman Empire by Gibbon. (London).
The History of Philosophy in Islam by J. de Boer translated by Jones. (London).
Muhammedanische Studien by Ignaz Goldziher, (Halle).
Histoire des Musulmans d’Espagne Jusqu’ à la Conquête de l’Andalusie par les Almoravides by R. Dozy. (London).
Development of Muslim Theology, Jurisprudence and Constitutional Theory by D. B. Macdonald. (London).
Margoliouth’s Works Etc.
R. Dozy: Supplément aux Dictionnaires Arabes. 1927.
Bibliothek Arabischer Historiker und Geographen: Hans V. Mzik, (Leipzig).
صفحة غير معروفة