نقول: إن هذا النظام مفرط في التوسعة والترفيه؛ لأننا نعتقد أن ضرره أعظم من نفعه، إذ المقصود من الرحمة بالسجين أن نجتنب الإيلام الذي لا ضرورة له ولا منفعة فيه، وليس المقصود أن نحول السجن إلى متعة يشتهيها بعض الطلقاء، ويؤثرونها على حياة البيت ومتاعب الحرية.
ونتيجة هذه التوسعة على السجناء في الروسيا غير واضحة في الإحصاءات الرسمية لا في الكتابات التي اطلعنا عليها، ولكنا نستطيع أن نقيسها على ما حدث في الهند، وهي بلاد تشبه الروسيا وتشبه مصر في طبقة المعيشة، إذا صرفنا النظر عن نظام الحكم، وعن الرخاء الذي تمتاز به البلاد المصرية، قال مستر رايت
Wright
الذي كان مفتشا للشرطة في أقاليم الهند الوسطى:
أذكر في بعض أيام الشدة والكساد التي ندر فيها الغيث وجاع الفلاحون أنه رئي من المصلحة أن يشار على القضاة بإصدار أحكام الجلد على صغار السراق، بدلا من إرسالهم إلى السجون ... فنجح العلاج وأتى بالنتيجة المطلوبة، ثم تبين أن جرائم السلب والسطو التي هي أعنف من السرقة الصغيرة تكفل لمقترفيها قضاء العقوبة في السجون، فأخذت هذه الجرائم في الزيادة السريعة، وأذكر في الأيام التي هي أروج من ذلك وأرغد أن أناسا تعمدوا السرقة ليستريحوا في أكناف السجون ...
وقد رأيت في سجن مصر من اعترف لي بمثل ذلك، ورأيت سجينا آخر يتخفى ولا يجيب نداء الحارس الذي يدعو المطلقين كل يوم؛ لأنه يرجو أن ينساه الحارس، ويظل في السجن أياما أخرى بغير عقوبة! •••
إن «نسبة» السجناء في مصر تلفت النظر بالقياس إلى كثير من الأمم في أوروبا وآسيا وأفريقيا، ويؤخذ في الإحصاء التقريبي المقارن الذي جمعته لجنة «عصبة الأمم» الموكلة بشئون الجزاء والمسائل الجنائية ونشرته قبل بضعة أشهر أن عدد السجناء في مصر يبلغ مائة وستة وأربعين من كل مائة ألف من جملة السكان، في حين أن هذه النسبة تنقص إلى نحو تسعة عشر في حكومة أيرلندة الحرة، وسبعة عشر في فلسطين، وخمسة وستين في زنجبار وستة وخمسين في اليابان، وسبعة وخمسين في أستراليا، وهي تزيد في بعض الأمم حتى تبلغ ثلاثمائة وثلاثة وثمانين في «سيراليون» ومائتين وخمسة وسبعين في إستونيا، ومائتين واثنين وثلاثين في حكومة اتحاد أفريقية الجنوبية، وقريبا من هذه النسبة في بلاد شتى من أمم الحضارة، ولكن النسبة في مصر تلفت النظر مع هذا؛ لأن الأمة المصرية لم تشتهر بحب الإجرام كما اشتهرت بعض الأمم التي لم تألف الحضارة والنظام، فهل لإيثار معيشة السجن على معيشة البيت دخل في زيادة عدد السجناء ولو بين طبقة الأراذل والخلعاء؟
يجوز هذا في نطاق محدود وحالات قليلة، ولكن ازدياد النسبة عندنا مرجعه فيما نظن إلى سبب آخر غير إيثار معيشة السجن على معيشة البيت، وهذا السبب هو تعاقب عصور الظلم والعسف والاستبداد حتى أصبح ضحية القانون وطريدة الحاكم موضع العطف لا موضع الازدراء، وأصبح دخول السجن لا يعيب صاحبه كما يعيبه في عهود الحرية والإنصاف، وسيزول هذا السبب رويدا رويدا ويعجل به الزوال كلما فهم الجهلاء والمنبوذون أن الخروج على الشريعة عداوة للمجتمع وليست عداوة للحاكم الظالم والحكومة الطاغية، وسبيل ذلك هو التعليم والتربية الخلقية وإصلاح المعيشة الاجتماعية لا تصعيب معيشة السجون وتعمد القسوة على السجناء.
ونحن كما أسلفنا في حل من كل تحسين ينقذ السجناء من الإيلام الذي لا ضرورة له، والتنغيص الذي لا نفع فيه، ولا يغلو إلى الحد الذي يغري بالإجرام والاستخفاف بالعقوبة.
ومن هذا التحسين فرض الكتابة والقراءة على الأميين، وتدريب الصناع على صناعاتهم حسب الأصول الحديثة، وتعليم من لا يحسنون الصناعات حرفة يبتغون بها الرزق والمعيشة الشريفة، وتخصيص درجات لمن يجتهدون في نقص تعلم القراءة والكتابة، أو في تعلم الصناعات وإتقانها تحسب لهم في نقص مدة العقوبة وتوفير وسائل الراحة، وتخول من يحصل عليها عند خروجه من السجن أن تضمنه الحكومة في عمل أو وظيفة ولو جازفت ببعض المال لتعويض الخسائر ووفاء الضمانات، فقد ثبت أن البلاء الذي يعانيه السجين بعد السجن أشد وأنكى من بلائه بالاعتقال وضياع الحرية؛ لأن الناس ينفرون منه ويسيئون الظن به ولا يأتمنونه على سعي ولا تجارة، فإذا أمنوا عاقبة السرقة والاختلاس أقدموا على استخدامه وانتفعوا بكفاءته ولم يحذروا غدرات طبعه، واستطاع كثير من الموصومين أن يستعيدوا حظهم من حياة العمل النافع والمكانة الاجتماعية.
صفحة غير معروفة