كلمة تقديم
إلى قره ميدان
الليلة الأولى في السجن
التهريب
القراءة
المنع والترخيص
أخلاق (1)
أخلاق (2)
الوعظ
ليلة المستشفى
صفحة غير معروفة
أحمد حمزة
التسلية في السجن
الزيارة أو برج بابل
الطعام ومطالب الجسد
الوقت
يوم الإفراج
بعض الشخصيات
الجريمة والعقاب
بعض الإصلاح
كلمة تقديم
صفحة غير معروفة
إلى قره ميدان
الليلة الأولى في السجن
التهريب
القراءة
المنع والترخيص
أخلاق (1)
أخلاق (2)
الوعظ
ليلة المستشفى
أحمد حمزة
صفحة غير معروفة
التسلية في السجن
الزيارة أو برج بابل
الطعام ومطالب الجسد
الوقت
يوم الإفراج
بعض الشخصيات
الجريمة والعقاب
بعض الإصلاح
عالم السدود والقيود
عالم السدود والقيود
صفحة غير معروفة
تأليف
عباس محمود العقاد
كلمة تقديم
عالم السدود والقيود الآن - عندي وعند كل عابر بسبيله - هو ذلك البناء المعزول في ناحية منزوية إلى طرف من الأطراف في بعض أحياء القاهرة الواسعة الكثيرة، كأنه يحس نفرة الناس منه ونفرته من الناس، واسمه في سجلات الحكومة سجن مصر العمومي، واسمه الشائع على الألسنة «قره ميدان».
أما يوم كنت آوي إليه ولا أرى غيره ولا أسمع بالدنيا إلا من وراء جدرانه فلم يكن بناء معزولا ولا كانت الناحية التي هو فيها ناحية منزوية إلى طرف من الأطراف، ولكنه كان هو العالم بأسره وبأرضه وسمائه، وكان العالم الخارجي جزءا لاحقا به مضافا إليه، وتلك شيمة في النفس الإنسانية أن تنقل مركز الكون كله إلى حيث تكون، فالسجن وإن كان عند السجناء منزلا بغيضا يصبحون ويمسون على أمل الخلاص منه وكراهة الاستقرار فيه، هو مع ذلك محور العالم ما داموا بين جدرانه، وهو شط والدنيا كلها شط آخر يتقابلان ويتناظران، فلو ظهرت في السجن صحيفة كبيرة لكان لأخباره فيها مكان «الحوادث المحلية» الظاهر في صدور الصحف السيارة، ولكانت أخبار العالم فيه كأخبار الحوادث الخارجية ورسائل الأقاليم ومنقولات البرق والبريد، وإذا ارتقى بعضها إلى محل الرعاية والتنويه فإنما يرتقي إليه بالإضافة إلى سجين من السجناء أو حادث يدور حول عقره وحجراته وخباياه.
وهذه الصفحات هي خلاصة ما رأيته وأحسسته وفكرت فيه يوم كنت أنزل «عالم السدود والقيود» وأشعر به ذلك الشعور، وأنظر إلى العالم من ورائه ذلك النظر: لست أعني بها أن تكون قصة وإن كانت تشبه القصة في سرد حوادث ووصف شخوص، ولست أعني بها أن تكون بحثا في الإصلاح الاجتماعي وإن جاءت فيها إشارات لما عرض لي من وجوه ذلك الإصلاح، ولست أعني بها أن تكون رحلة وإن كانت كالرحلة في كل شيء إلا أنها مشاهدات في مكان واحد، ولا أن أستقصي كل ما رأيت وأحسست وإن كنت أقول بعد هذا إن الاستقصاء لا يزيد القارئ شعورا بما هناك، وإنه لا فرق بينه وبين الخلاصة إلا في التفصيل والتكرير، وإنما دعوى هذه الصفحات - بل خير دعواها - أنها تتكفل للقارئ بأن يستعرض عالم السجن كما استعرضته دون أن يقيم هناك تسعة شهور كما أقمت فيه.
فإن كانت الصفحات التالية عند دعواها فذاك وحده هو حقها من القراءة وشفاعتها عند القراء، وهي إذن قد اختصرت تسعة شهور طوالا في مدى ساعات معدودات يطويها القارئ بين دفتي هذا الكتاب الصغير وهو يتفكه ولا يضيق ذرعا بالسدود والقيود، وحسبها ذلك من نجاح.
عباس محمود العقاد
إلى قره ميدان
فتحت الكوة الصغيرة، ثم فتح باب الرتاج الكبير، ثم احتوانا البناء المخفور الذي يعرف في مصلحة السجون باسم «سجن مصر العمومي» ويعرف على ألسنة الناس باسم «قره ميدان»؛ أي الميدان الأسود، باللغة التركية!
صفحة غير معروفة
وخطر لي - وأنا أخطو الخطوة الأولى في أرض السجن - قول الفيلسوف ابن سينا وهو يخطو مثل هذه الخطوة:
دخولي باليقين بلا امتراء
وكل الشك في أمر الخروج
فهو تقرير فلسفي صحيح للواقع! ...
أما الدخول فها هو ذا يقين لا شك فيه، وأما الشك كل الشك فهو في أمر الخروج متى يكون وإلى أين يكون؟ أإلى رجعة قريبة، من السجن وإليه؟ أم إلى عالم الحياة مرة أخرى؟ أم إلى عالم الأموات؟
في تلك اللحظة عاهدت نفسي لئن خرجت إلى عالم الحياة لتكونن زيارتي الأولى إلى عالم الأموات، أو إلى ساحة الخلد كما سميتها بعد ذلك؛ أي ضريح سعد زغلول. •••
ولم تقع مني هذه الرحلة بين الدار والسجن موقع المفاجأة؛ لأنني كنت أنتظرها منذ زمن طويل ولو على سبيل الحجز الذي ينتهي بإفراج سريع، ولكني كنت لا أرى فرقا بين أيام أو أسابيع أقضيها على ذمة التحقيق وبين مدة أقضيها في الحبس بحكم القضاء، لأنني كنت أقدر أن حبس التحقيق - وإن قصر - كاف لأن يصيبني بأكبر الضرر الذي يخشاه الناس من السجن، وهو ضرر العلة التي لا تزول.
وعلى توقعي الاتهام والحبس كانت الأنباء تتوالى علي بما يؤكد ذلك التوقع من جهات عدة، وسمعت النبأ اليقين في هذا الأمر من صديقنا المغفور له سينوت حنا بك، وقد لقيني مرة فاستوقفني وقال لي: «حذار يا أستاذ!» فقلت له باسما: «لا يغني الحذر من القدر!» قال لي: «إني أروي لك ما أعلم لا ما أظن: إن مقالاتك تراجع في بعض الدوائر مراجعة خاصة، وإنهم ينتظرون يوما معينا ربما كتبت فيه ما يساعد على تأييد التهمة، ثم يقدمونك إلى المحاكمة بما استجمعوا من أدلة قديمة وحديثة!»
وكان في نيتي أن أسافر صيف سنة 1930 إلى لندن مع وفد مجلس النواب لتمثيل مصر في مؤتمر المجالس النيابية الذي عقد تلك السنة في العاصمة الإنجليزية، وقد استخرجت جواز السفر السياسي، واشتريت دليل لندن ودليل العواصم الأوروبية التي كنت أنوي زيارتها، ولم يبق إلا تذكرة السفر والاتفاق على الموعد واللحاق بإخواننا الذين سبقونا إلى باريس ليشهدوا فيها الاحتفال بعيد الحرية، ثم بدا لي أنني إذا سافرت فقد أمهد بيدي وسيلة لنفيي في أوروبا سنوات بلا عمل، ولا قدرة على البقاء في ذلك الجو القارس أيام الشتاء، وربما كان منع عودتي أسهل على الوزارة من محاكمة قد تنتهي بالبراءة أو بعقوبة لا ترضيها، فعدلت عن السفر في اللحظة الأخيرة، وقلت: إن السجن أحب من النفي الذي لا عمل فيه ولا ضمان للصحة ولا الحياة!
وفي اليوم الثاني عشر من شهر أكتوبر دق الجرس أصيلا وأنا وحدي بالمنزل؛ لأن أخي كان معتقلا في قضية «البلطة» المشهورة متهما بالتآمر على حياة رئيس الوزارة، ولأن الخادم لم يعد من راحته الظهرية وصلاته العصرية، ففتحت الباب فإذا ضابط في رتبة «اليوزباشي» على ما أذكر يبادرني بالسؤال: هل حضرتك فلان؟
صفحة غير معروفة
قلت: نعم.
فمد إلي ورقة من دفتر في يده على هيئة ذكرتني الكونت نيمور وهو يلقي القفاز في محضر لويس الحادي عشر.
قلت: «تفضل أولا فاجلس.»
فتردد في الدخول، ثم دخل وجلس، فتناولت الورقة وقرأت فيها دعوة من صاحب السعادة النائب العمومي للحضور إلى مكتبه في الساعة العاشرة من صباح اليوم التالي، ووقعت على الدفتر - كما طلب الضابط - بأنني تسلمت الورقة، وأخذت في إعداد الكتب التي سأقرؤها في السجن، والأدوية التي أتعاطاها، والملابس البيتية التي أحتاج إليها هناك، وزدت فأعددت الأغطية الصوفية التي تلزمني للفراش والغطاء؛ لأنني كنت حتى تلك الساعة أجهل «تقاليد السجون»، وأظن أن الأغطية الخاصة مسموح بها كالملابس الخاصة أثناء التحقيق وفي الفترة التي تسبق المحاكمة. ثم حضر الطاهي فأريته هذه الأشياء كلها وقلت له: إنه سيحضرها لي في السجن غدا عند اللزوم.
فظهر لي أنه لم يفهم، وأنه ينوي أن يقصد بها سجن الأجانب الذي كان أخي معتقلا فيه.
فقلت له: «بل هي لي أنا في السجن الذي سيخبرونك عنه غدا بدار النيابة!» ووصفت له الدار واجتهدت أن أفهمه جهد المستطاع، وذلك جهد يعرف العارفون بالشيخ «أحمد» أنه ليس باليسير!
وذهبت في الموعد المحدود إلى دار النيابة، واستغرق التحقيق ساعات، ثم قال لي حضرة المحقق: «إنني آسف لأننا سنضطر إلى إبقائك عندنا قليلا يا أستاذ!» وبدأ حضرات المحامين يوجهون نظر رجال النيابة الحاضرين إلى «الحيطة الصحية» الواجبة في هذه الحالة، ومنها اختيار السجن الذي يوافقني أثناء الحبس «الاحتياطي» أكثر من سواه.
وكان الأساتذة المحامون لحسن الحظ من الخبيرين بمزايا سجون القاهرة التي تردد عليها في سنوات الثورة السياسية معظم المشتغلين بالقانون والسياسة، فأضافوا خبرتهم بالسجن إلى خبرتهم بالمحكمة وقدرتهم على النصح السديد للمتهمين والموكلين، واستحسنوا أن يكون الحبس في «سجن مصر»؛ لأن الجو فيه أوفق لي من سجن الاستئناف، وقد كان.
فذهبت مع الضابط والجند في سيارة خاصة إلى «قره ميدان» وتخطيت الباب فإذا هدوء غير مألوف؛ لأن الوقت كان وقت الراحة عقب الغداء، وتوجه بي الضابط نحو حجرة الكتاب لتسليم ما عندي من الودائع وكتابة الأوراق التي لا بد منها لكل مسجون جديد، وما هي إلا لحظة حتى توافد الموظفون وكثر دخول السجانين ينظرون إلى القادم الذي سرى بينهم نبأ قدومه، وأخذ كاتب هناك مرح ثرثارة يداعبهم واحدا بعد واحد كلما مروا به وتصنعوا سؤاله عما يضمره لهم بريد اليوم. فيقول لأحدهم: «اطمئن ... فقد عينوك مديرا لمصلحة السجون ...» ثم يحدج ببصره كمن يستغرب سكوته، ويقول له: «ألا تصدق؟ آه يا ابن الحلال. معذور، فإنك في السجن ولست في البيمارستان ...»
أو يقول لغيره: «تعال هنا ... قرب أذنك! قرب أيضا» ... ثم يناديه بصوت يسمعه كل من في المكان: «افرح ... نقلوك إلى أسوان، لا تقل لأحد يا ولد!»
صفحة غير معروفة
وهكذا في أثناء التسليم والتدوين، فاستعدت في ذهني موقف هملت وحفاري القبور إذ يغنون وهم في ذمار الموت!
الليلة الأولى في السجن
لم يكن مكتب الموظفين إلا بمثابة «الأعراف» التي تفصل بين نعيم الحرية وجحيم الاعتقال، ولكنها «أعراف» تنقل من النعيم إلى الجحيم كما تنقل من الجحيم إلى النعيم، وقد كانت في اليوم الذي سجلت فيه اسمي بين الداخلين تسجل أسماء شتى للخروج أو للإفراج كما يسمونه في لغة السجون! •••
وعبرنا مكتب الموظفين ومكتب المأمور مع ضابط العنبر في هذه المرة لا مع ضابط الشرطة الذي انتهى مقامه عند الباب.
فاتجه الضابط إلى عنبر «ب» وفتح الباب الحديدي ودخلنا العنبر فكان أول ما صادفنا فيه منظرا عجيبا لا تألفه العين: أناسا بملابسهم العادية جالسين القرفصاء في صمت لا يلتفت أحدهم يمنة ولا يسرة، ومن ورائهم نفر مكبون على الأرجل والأيدي كما تمشي الدواب يزحفون زحفا ويتغنى أحدهم بصوت خفيض والباقون يجيبونه بصدى - لا بكلام - يقولون فيه: «هيه هيه» ... أما المغني فالذي أذكره من أنشودته الآن عبارة واحدة: «رايحه له فين! ده عليه سنتين!»
فقلت: فأل جميل وايم الله ! وللفأل شأن كبير في «نفسيات» المسجونين كما سيرى القراء في بعض هذه الذكريات. •••
وكان لا بد لي من «فرجيل» يصاحبني كما صاحب الشاعر الإيطالي «دانتي» في طبقات الجحيم؛ ليدله على أنواع العذاب ودرجات المعذبين، فمن هؤلاء الجالسون القرفصاء؟ ومن هؤلاء المكبون على أربع؟ أهذا ضرب من العقاب في مكان العقوبات؟ وما بال أناس منهم يلبسون ثيابهم العادية على اختلافهم بين المعمم والمطربش ولابس «الطاقية»، ولا يلبسون كأهل السجون؟
على أنني لم ألبث طويلا حتى عثرت على الدليل الذي ينوب في جحيمنا عن فرجيل!
فقد كان على يسار الحجرة التي خصصت لي حجرة للصحفي الظريف علي أفندي شاهين رحمه الله، وكان محبوسا رهن المحاكمة في قضية مقالات ورسوم قذف بها بعض الوزراء وعلى رأسهم إسماعيل صدقي باشا كبير الوزراء في تلك الأيام، وكان واقفا عند باب حجرته ينتظرني بعد أن سبقت البشائر إلى العنبر بقدومي! فلقيني مرحبا، وعلى مقربة منه اثنان أو ثلاثة من أهل بولاق «دائرتي الانتخابية» كانوا في مؤخرة صفوف الجالسين القرفصاء، فنهضوا يحيونني ويهمون بالصياح لولا أن شاهدوا الضباط والسجانين فعادوا جالسين.
وعلمت بعد ذلك بهنيهة أن هؤلاء الجالسين القرفصاء هم المحبوسون على ذمة التحقيق ممن آثروا البقاء بملابسهم العادية، وأنهم جلسوا تلك الساعة في انتظار الخروج «للطابور» الذي هو موعد الرياضة المصطلح عليه مساء كل يوم، وللمحبوسين شوق إلى موعده يفرحون به أشد من فرح الطلقاء بنزهة الأصيل على شاطئ النيل وطريق الأهرام!
صفحة غير معروفة
أما المكبون على أربع فهم أصحاب النوبة المنوط بهم تنظيف بلاط العنبر وتلميعه، وهم يتغيرون كل شهر مرة ويقومون بهذا العمل طول النهار، ويؤثرونه على أعمال السجن الأخرى؛ لأنهم ينطلقون فيه على مدى واسع بعض السعة، ولا يحبسون في الحجرات. •••
قال دليلي أو «فرجيلي» بعد الشرح المتقدم: «وإن هؤلاء المساكين يعانون هذا العناء من أثر دعوة النبي يوسف عليه السلام.»
قلت: «وما ذاك أفادك الله!»
قال: «لقد دعا يوسف ربه في السجن أن يغزر ترابه ويحلي طعامه ويقصر أيامه.» فالتراب لا ينقطع لحظة عن أمثال هذا المكان.
قلت: «يخيل إلي أن يوسف عليه السلام قال: اللهم غزر رغامه ولم يقل: غزر ترابه ... لأن السجعة تقضي بذلك!»
وما لبثت في السجن نصف ساعة حتى رأيت بعيني حرص الأقدار على إجابة ذلك الدعاء، فما هو إلا أن يزحف الماسحون من طرف العنبر إلى طرفه حتى يكون التراب قد سفا على المكان الذي تركوه. •••
وإلى هنا لم أكن قد تناولت طعام الغداء مع اهتمامي برعاية المواعيد في تناول الوجبات.
فأين الطعام؟ هل أحضره الطاهي أو نسي إحضاره وفهم غير ما تعبت بالأمس في إفهامه إياه؟
هنا ظهرت لي قيود السجن دفعة واحدة، فليس من المستطاع أن أعرف هذا الخبر الصغير إلا بعد أن أسأل السجان، وبعد أن يسأل السجان الضابط، وبعد أن يسأل الضابط البواب، وبعد أن يحال البواب إلى المأمور وأطباء المستشفى، وبعد أن ينقضي في ذلك كله وقت غير قصير.
ولم يكن الذنب في هذه المرة على ذكاء «الشيخ أحمد» كما توهمت لأول وهلة، فإنه قد أحضر الطعام بعد انصرافي من دار النيابة، ولكنهم حجزوه على الباب حتى يتلقوا أمرا بقبوله وانتظام حضوره، وحتى يراه الطبيب ويرى الأدوية التي معه، وحتى يتم الفحص عن حالتي الصحية وما يصلح لي من الدواء، ثم قبلوا الطعام والدواء وردوا الغطاء والفراش؛ لأن السجن كما قالوا فيه الكفاية من غطاء وفراش!
صفحة غير معروفة
وفي هذه الأثناء بدأت أشعر بقشعريرة الرطوبة التي ينضح بها الأسفلت في أرض العنبر وسقوفه، ثم فرغ السجان وصاحب النوبة الموكل بحجرتي من إعداد سريرها وأدواتها ولوازمها، فألقيت نظرة على الغطاء الذي سيغنيني عن غطائي فلم أطمئن إليه كثيرا، ولكني قلت: لا بأس بالتجربة هذه الليلة، وبقيت متوجسا من هذه النافذة المفتوحة على رأسي يندفع منها الهواء طول ليل الخريف، فما العمل فيها؟
قال دليلي أو «فرجيلي» علي أفندي شاهين: «لا عليك من هذه النافذة! فسترى كيف نعالج خطبها.» والتفت إلى صاحب النوبة فأوصاه أن يسدها بالحصيرة المفروشة على أرض الحجرة كما يصنع في حجرته هو، ففعل صاحب النوبة توا ليريني كيف يحكم هذه الصناعة، وضحك شاهين أفندي ضحك العلم والمعرفة وهو يقول لي: «احمد الله على أنهم لم يختاروا لك سجن الاستئناف، فهناك النافذة أربعة أضعاف النافذة هنا ولا أمل في سدها بحال من الأحوال، فضلا عن الظلام المطبق من الصباح إلى المساء.»
قلت: «الحمد لله!»
وهبط ظلام الليل شيئا فشيئا، وعاد المسجونون قبل ذلك أفواجا إلى الحجرات، وتعالت بينهم ضجة كضجة السوق في يوم زحام، ثم توالى إغلاق الأبواب وإدارة المفاتيح في الأقفال، ثم بدأ «التتميم» أو المراجعة حجرة حجرة: كم يا ولد؟ عشرة!
كم يا ولد؟ أربعة ... وهكذا إلى نهاية الدور، وفي كل عنبر أربعة أدوار، ولن يبرح السجان دوره حتى يستوثق من مطابقة العدد الموجود للعدد المكتوب في سجله المعلق عند الباب.
وازدادت الضجة بعد انتهاء المراجعة فلم يكن للسامع أن يسمع إلا أسماء تتقاذف بها أفواه رجال ونساء، وصرخات وأهازيج وشتائم هي عندهم في منزلة التحيات المباركات! ثم سكنت الضجة بعض الشيء وتبين من هنا وهناك نداء مفهوم، وشرع اثنان في قافية من القوافي المعروفة في محافل الأعراس والموالد المصرية، وكأنهما علما بمقدم الصحفي الطارئ على السجن في تلك الليلة فجعلا للصحافة قسما من هذه المساجلات المحفوظة: الأولاد تنادي وراك وتقول: إيش معنى؟ - المؤيد! المؤيد ... وهو يعني «المقيد». ••• - فوق رأسك يا معلم علي. - إيش معنى؟ - المقطم!
وهذه حقيقة واقعة وليست بمجاز! لأن بناء السجن واقع في حضن جبل المقطم. ••• - الرغيف في سقف بيتكم. - إيش معنى؟ - كوكب! ••• - تطلع من هنا تقابلك في البيت. - إيش معنى؟ - الحمارة!
وقس على ذلك ما يقال، وما يسمع كرها ولا يقال.
أما أنا فقد أظلمت الحجرة عندي ظلامين؛ لأن النافذة المغلقة حجبت كل ضياء يتسلل إلى الحجرات من فناء السجن المنار بنوره الضئيل، فلم أستطع أن أعرف مكان الكوب ولا سلة الطعام في ذلك الظلام، ولبثت أسمع الأصوات تخفت وتخفت حتى انقطعت أو كادت في نحو الساعة التاسعة كما أنبأتني الساعة العربية التي تدق في مسجد القلعة، ولم يبق من مسموع إلا وقع أقدام الحراس على البلاط، وإلا صيحاتهم كل نصف ساعة يطيلونها ويتنافسون في إطالتها، فذكرتني مبيت ليلة على حدود الصحراء، أسمع فيها صياح الذئاب.
التهريب
صفحة غير معروفة
تقدمت في علم السجن بعد يوم واحد خطوات سريعات، وعلمت مركز الدور الذي أنا فيه - وهو الدور الخامس - بين أدوار السجن عامة، وعلمت ما له من الشرف والوجاهة المرموقة في تلك المدينة الصغيرة التي يسكنها نحو أربعة آلاف، فإنه هو محور حركة التهريب والحيل والمناورات.
وليس التهريب في السجون بالشيء الهين ولا بالطلب اليسير؛ لأنه هو الدفاع الوحيد الذي ينتقم به المسجونون من الأسوار والقيود والحراس، وهو فسحة الحرية الباقية لمن فقدوا الحرية، فعليه وحده تنصب جميع الجهود والحيل والخبائث، وله وحده تجارة واسعة النطاق تجري على معاملات خاصة ولغة خاصة ومواصلات خاصة، لا يكفي للعلم بها يوم واحد، ولكن لا يمضي يوم واحد على السجين حتى يأخذ في العلم ببعضها، ثم لا يزال في الافتنان والمزيد ما شاء الله أن يهبه من سعة الفهم والنبوغ!
والتبغ والحلوى هما عماد المهربات جميعا في السجون، وهما السلعة التي يغالي بأثمانها من يطلبونها هناك حتى يبلغ ثمن اللفيفة الواحدة خمسة قروش، وثمن عود الثقاب قرشا أو أكثر، وثمن القطعة «من الحلاوة الطحينية» كثمن اللفيفة من التبغ وربما زاد عليها في بعض الأحيان.
ولكل سلعة من السلع المهربة، بل لكل شيء من الأشياء التي يتصل بها السجناء رمز من الرموز، يعرفه كل من في السجن ولكنهم لا يزالون مصطلحين عليه بعد انكشاف سره وافتضاح صفره، فالحارس يعلم أن «الزمارة» هي اللفيفة، وأن «العين» هي النار من ثقاب أو غير ثقاب، وأن «العربة» هي الحارس نفسه، وأن السجين الذي يقول لزميله: «حاسب العربة فايتة.» إنما يعني أن الحارس في الطريق، ولكن السجناء مع هذا قد ألفوا الكناية والتخفي والزوغان فنسوا الكلمات الواضحة وصمدوا على هذه المصطلحات والرموز.
والدور الخامس فيه سجناء المحاكم المختلطة أو «الحمايات» كما يسمونهم هناك، وهم مميزون بطعام غير طعام السجن يشتمل على الخضر واللحم والفاكهة والحلوى كل يوم، ولهم في الإفطار كوب كبير من الشاي وبيضتان، وفي المساء جبن أو ما شابهه من طعام محرم على سائر المسجونين.
وفي الدور الخامس قسم آخر من سكان السجن المجدودين في نظر الزملاء الآخرين، وهو قسم المحبوسين على ذمة التحقيق الذين يسمح لهم «النظام» بالطعام واللباس من المنازل، فيصل إليهم كل يوم دجاج ولحوم وخضر مطبوخة وفاكهة وحلوى وألوان من «الثمرات» المحرمة المشتهاة في ذلك الجحيم.
وهؤلاء يشتاقون «التبغ» إن كانوا من المدخنين فيجدون في «العنبر» من يشتاقون الحلوى واللحوم ويملكون اللفائف أو «الزمامير» للبيع والمقايضة، فتنعقد الصفقات وتظهر البراعة والافتنان في التوصيل والتسليم.
على أن البيع لا يجري كله بالمقايضة ولا غنى فيه عن «النقد» في كثير من الأحيان، أما حمل النقد فممنوع في نظام السجن ولكن هل يمنع بلع النقد واحتواؤه في الأجواف؟ هيهات! ومن هنا كانت العملة المختارة في السجن هي قطعة القرشين الفضية وقطعة «نصف الجنيه» الذهبية، وما عدا ذلك من القطع فهو شذوذ يتوقف عليه شذوذ المعدات والأمعاء، ومنها ما تصل طاقته في الشذوذ إلى ربع ريال، وقد تزيد على ما يقال! •••
ولم تمض علي ليلة في السجن حتى عرف الخبثاء المتربصون أن هناك فرصة للاستغلال لا ينبغي أن تضيع، فاستغلوا جهلي بكل ما استطاعوا من وسيلة وحيلة، وكانوا موفقين كل التوفيق.
جاءني خادم الحجرة في الصباح الأول بعد الإفطار، وأنا لا أعلم بطبيعة الحال شيئا عن المحظورات والمباحات وأولها إعطاء الطعام والفاكهة لخدام الحجرات، فأعطيته كل ما بقي من الموز والفاكهة في السلة، ففرح بها وتهلل وجهه وأسرع فخبأ بعضها تحت لبدته ولف بعضها في سرواله، وتسلل من الحجرة إلى حيث لا أعلم، فأدهشني أنه لم يأكل ما أعطيت وظننت أنه يخفيه عن أصحابه حتى ينفرد بأكله في ناحية، ولكني عرفت بعد ذلك أنه باع معظمه بزمارة! وقنع منه بأكل القليل.
صفحة غير معروفة
وجاءني بعد ذلك فسألني: هل تعبت كثيرا من البق والبراغيث؟
قلت: كلا! لم أشعر لها بوجود.
قال: لكن هذه «الملاعين» ستظهر قريبا عندما تشم «نفس الناس» وتزعجك كثيرا، ومن العجيب أنها لم تظهر أمس والحجرة مهجورة والأغطية مخزونة، فلا بد من تطهير السرير وحدائد النافذة والباب للقضاء عليها ...
وطفق الخبيث يهول لي في فتك هذه الحشرات وألاعيبها في الاختفاء والظهور كأنها تحاور السجناء وتلاعبهم لعبة «الاستخفاء» عن عمد وتدبير.
وخشيت أن يكون ما قال حقا؛ لأن المزعجات كلها مسلطة على السجناء في اليقظة والرقاد.
فقلت: وكيف نقضي عليها ونستريح منها؟
قال: بالنار، اطلب سعادتك موقد الغاز من السجان وهو لا يضن به على مثلك، وقل له: إنك تريده لتطهير الحجرة من البق والبراغيث.
فشكرت له إخلاصه، وانتظرت حتى جاءني السجان فطلبت منه «الموقد» وذكرت له الغرض منه، فلم يضن به كما قال الرجل، بيد أني علمت بعد لحظات قليلة حقيقة ذلك الإخلاص الذي شكرت صاحبنا عليه!
فما هو إلا أن تسلم الموقد مشعلا حتى أسرع قبل كل شيء فأشعل منه لفة من خيوط الصوف ونظر إلى الدور الأعلى - وهو الدور السادس - فإذا بلبدة تسقط على مقربة منه كأنها سقطت عفوا بغير طلب، وإذا به يدس فيها اللفة المشعلة ويطويها طيا محكما ويقذف بها حيث سقطت، وهو يقول في صوت بين الهمس والنداء: «خذ التليفون؟»
والتليفون كما علمت بعد ذلك هو الخيط المهرب على هذا المنوال لإشعال الزمامير!
صفحة غير معروفة
قلت: «يا شيطان! أهذا هو البق الذي تريد إحراقه؟»
فحاول أن يتمادى في الكتمان والزوغان، ولكنه ضحك على الرغم منه وأفصح لي بسر هذه «التهريبة» التي كانوا لا يظفرون بها إلا في الفلتات، وقال لي: إنهم كثيرا ما يشعلون خيط الصوف على طريقة قدح الزناد، ثم يقذفون به في الحجرة المجاورة فيتلقاه أحد السجناء على ذراعه الممدودة خارج «شعاع» الباب ثم يلقي به إلى جاره حتى يدور في الدور كله؛ ولذلك سموا هذا الخيط بالتليفون! •••
وماذا يصنع المدخن الذي يود التدخين لا محالة ومعدته خاوية من «ذات القرشين» أو من الزرار كما يسمون تلك القطعة في لغة الاصطلاح؟
أتراه يقلع عن تلك العادة؟ كلا ذلك آخر ما يفكر فيه، بل ذلك حديث لا يفكر فيه آخرا ولا أولا فيما يظهر، وإنما يعتمد على الثقة ومعاملات القرض والتسليف حتى يفرجها الله، وإنها لمعاملات معترف بها تسري بين السجناء سريانها بين الطلقاء، فلكل سجين «حسابه الجاري» الذي يليق بسمعته المالية وكفاءته «السجنية»، وهي على نقيض الكفاءة التي توجب الثقة في معاملات المصارف والمتاجر الخارجية؛ لأن أسوأ الناس سلوكا وأطولهم إقامة في السجن هو أحقهم بزيادة الاعتماد وحسن السمعة، وأما البريء أو المحكوم عليه في أمر يسير فذلك في حكم المفلس المعدم الذي لا يوثق به في التسليف من هنا إلى هناك!
ولا أزال أذكر صرخة الفزع التي سمعتها من أحد تجار التبغ المشهورين حين أبلغوه أن مدينه «فلانا» قد برئ في محكمة الاستئناف بعد أن كان ميئوسا من براءته وكان هو أول اليائسين المتفائلين ببقائه ... فقد صاح التاجر فيمن أبلغوه شامتين مستهزئين: «ويحكم ماذا تقولون؟ هل برءوه النذل الوضيع؟» ثم عاد فاستسلم وأناب وقال لمن حوله وكأنه يحدث نفسه: «ولكن الحق علي أنا المغفل الذي أثق بمثل هذا الكاركي الحقير!» وكان الأولى به أن يقول: «هذا البريء الحقير.» بدلا من كلمة الكاركي التي هي عندهم اصطلاح على من دخل السجن محكوما عليه لأول مرة، ولعلهم أخذوها من كلمة «الكاكي» الذي يشبه لونه لون العلامة الموضوعة على لبدة هذه الفئة من فئات المسجونين.
وربما تبادر إلى الذهن أن ديون السجن عرضة للغدر والاهتضام إذ كان صاحبها لا يجسر على المطالبة بها؛ خشية العقاب إذا هو أقر على نفسه بالتهريب والاتجار بالمحظورات، ولكن الحقيقة أن ديون السجن كديون الشرف عند جماعة المقامرين هي أحق الديون بالضياع وهي مع ذلك أبعد الديون عن الضياع، ولا شك أن الدائن يستميت في رد حقه على قدر حاجته إلى الاستماتة والمجازفة، وهو يحتاج إلى الاستماتة والمجازفة كلما قل اعتماده على المطالبة المشروعة والأصول المتفق عليها، فيذهب في طلب الدين المهرب إلى أقصى حدود العنف والإرهاب، ويلقي في روع غريمه أن رد المال أهون من الإصابة التي لا مفر منها إذا هو تذرع بالغدر والمحال، وربما استنكر «الرأي العام» بين هؤلاء اللصوص أن يأكل المدين مال الدائن في غيابة السجون، وهم جميعا لا يستنكرون الخطف والسطو والاختلاس في فضاء الله الرحيب؛ لأنهم يحتاجون في السجن إلى تجارة المهربات ويعلمون أنها تجارة قوامها الثقة والسداد، وإن كان هذا لا يمنعهم أن يعجبوا «بالشاطر» الناجح الذي يستدين ثم يتمكن من الزوغان!
ومن هؤلاء الأشقياء من يعجز عن معاملة التسليف فيهجم على التزييف وهو يتوقع ما وراءه من الخطر والعقوبة القاصمة.
رأيت من هؤلاء اثنين جاء بهما أحد السجانين إلى مكتب السجان الأول في انتظار عرضهما على حضرة المأمور، وكنت أجلس أثناء الرياضة في فناء السجن بين المكتبين المتقابلين.
فبسط لي السجان المصاحب لهما يده وقال: «انظر! هذا من تزييف هؤلاء المجرمين.» وعد أمامي ثماني عشرة قطعة من ذات القرشين صنعها ذانك السجينان في المعمل وأتقنا صنعها جد الإتقان، مع السرعة وقلة الأدوات وشدة الحذر من الرقباء، فلا تختلف القطعة الصحيحة إلا بالرنين وهو محك مأمون في داخل السجون، ومن ذا الذي «يرن» الزرار في لحظة التهريب؟ فالشياطين يعلمون أن صاحب البضاعة سرعان ما يتناول القطعة بيده حتى يقذف بها إلى معدته، ثم يختلط الصحيح بالزائف في ذلك الكيس الحي وتختفي الشبهة باختفاء القطعة بين أحشاء التاجر المخدوع.
قال أحدهما لصاحبه: «فيها خمس سنوات يا فلان.»
صفحة غير معروفة
فاضطرب صاحبه، وقال: «قسمة ونصيب ... وكل هذا من أجل نفسين لا طلعا ولا نزلا.»
ثم التفت نحوي كالمستغيث سائلا: أصحيح أن الحكاية فيها خمس سنوات؟
قلت: لا أظن.
فنظر إلي الأول نظرة يتنازعها ادعاء العلم بأحوال السجون ولهفة الخلاص، وقال لي كأنه يتحدى ويستزيد من الاطمئنان في وقت واحد: وكيف هذا وقد رأيت بعيني جماعة عوقبوا بالسجن خمس سنوات لأنهم زيفوا النقود؟
فطاب لي أن أداعب مهارة هذين الشيطانين وأخذت أشرح لهما ما أعتقد من الفارق بين التزييف في الخارج والتزييف في داخل السجن، وقلت لهما: إن المزيف في الخارج يختلس حق الحكومة وحق الناس، ولكن المزيف هنا يختلس ما هو مختلس بطبيعته ومستحق للمصادرة عند ضبطه، وليس على هذا عقوبة أكثر من عشرين أو ثلاثين جلدة، وأيام أو أسابيع من سجن الانفراد والخبز القفار.
قال: لتكن مائة جلدة، وانطلق يدعو لي بالطمأنينة وارتقاء المراتب والصحة والعافية وكل شيء ...
قلت: هداك الله يا صاح، ولكن هذه الدعوات الصالحات هل تراها «عملة صحيحة» عند صيارفة السماء؟!
القراءة
يسمح النظام في «قره ميدان» بالقراءة للمحجوزين على ذمة التحقيق والمحكوم عليهم بالحبس البسيط، وتنحصر القراءة المسموح بها في الكتب الدينية والعلمية والأدبية التي «لا تخل بالنظام» ما عدا الروايات وكتب التسلية، ويرجع الأمر في التفريق بين ما هو جائز من المقروءات وما هو محظور إلى رأي الموظف «الكتابي» الذي يتفق وجوده ساعة وصول الكتاب؛ لأن الموظفين العسكريين يترفعون عن الخوض في هذه المسائل «الملكية» ولا يشعرون بغضاضة على أنفسهم من إلقائها على كاهل حملة الأقلام، ولكن ما الحكم في اللغات التي لا يعرفها الموظف الحاضر؟ وما الحكم في الروايات التي هي من صميم الأدب؟ وما الحكم في الكتب التي لا يلوح عليها أنها روايات إلا لمن قرأها وأحاط بتراجم أصحابها؟ وما الحكم فيما يخالف النظام من التصانيف إذا كان المراقب الفاضل لم يسمع قط باسم كارل ماركس ولا كروبتكين، ولا مانع عنده من إجازة كل تأليف لإخوان هذا الطراز؟
الحكم في ذلك كله للمصادفة والمزاج، فكثيرا ما يتوغل في السجن من أجل هذا كتاب يقشعر له بدن النظام الاجتماعي وكل نظام في الوجود، وكثيرا ما ينتظر الكتاب الإذن بعبور الجدران أياما وأسابيع حتى يرسل إلى الإدارة العامة ويعثر هناك على من يعرف الألمانية أو الأوردية أو الأرمنية وما شابهها إذا كان مكتوبا بإحدى هذه اللغات.
صفحة غير معروفة
وقد وقع اختياري عندما وصل إلي إعلان دعوة التحقيق على كتابين في التاريخ والأدب، وهما الطبعة الجديدة من مختصر تاريخ العالم للمصلح الإنجليزي «ه.ج.ولز»، وسيرة بيرون للكاتب الفرنسي «أندريه موروا» مترجمة إلى الإنجليزية ، فأفردتهما جانبا ووضعت علامات على الكتب الأخرى التي سأطلبها بعد الفراغ من هذين الكتابين.
ولم يكن اختيارا في الحقيقة ذلك الذي هداني إلى اختصاص تاريخ العالم وسيرة بيرون بالقراءة في أيام السجن الأولى، ولكن الكتابين كانا قد وصلا إلي في البريد الأخير فوجدت الفرصة سانحة للفراغ منهما في هذه العزلة المقسورة!
على أنني لو تعمدت الاختيار المناسب «لمقتضى الحال» كما يقولون لما اخترت غير كتابين من هذا الباب وعلى هذه الوتيرة، فليس أحب إلى الإنسان من أن يعوض حركة الجسم إذا فقدها بحركة الخيال، وليس أقرب إلى المعقول من أن يلتمس في عالم القراءة ما يعز عليه في عالم الواقع، وأي قراءة أليق بالسجين على هذا الاعتبار من تاريخ يصاحب به حركة الإنسانية بأسرها من بداية نشأتها ومن قبل نشأتها إلى يومها الحاضر؟ أو من سيرة رجل قضى حياته كلها جامحا بين رحلات الخيال ورحلات السياحة ورحلات الهوى والمغامرة؟
فقد أحسن القدر الاختيار لي فيما أرى! ومن قبل ذلك بأعوام أذكر أنني كنت أنتقي ما أقرأ وأنا مريض يائس من الشفاء، فكانت يدي تتجه إلى نوعين من الكتب بينهما مسافة بعيدة من الاختلاف في الموضوع والوجهة، وأعني بهما الكتب التي تغلب عليها النزعة الجسدية والمتع المادية والكتب التي فيها بحث عما وراء الطبيعة واستكناه لحقائق الأرواح وعالم الغيب، وما أشد الاختلاف بين الموضوعين! وما أبعد المسافة بين النوعين! ولكن الصلة التي تجمع بينهما أقرب الجمع بعد ذلك هي «التعويض» النفسي الذي يشتركان فيه، فكلاهما كفيل بتعويض المريض الذي يحس من نفسه أنه سيفقد الحياة، وإنما يعوضانه في عالم الخيال والتفكير؛ لأن حياته الواقعية تريه مقدار الحاجة إلى عالم الحس كما تريه مقدار الحاجة إلى عالم الروح. •••
على أنني لم ألبث أن عرفت أن للكتاب في السجن فائدة غير فائدة القراءة، وربما كانت فائدته الأخرى هي المقصودة في كثير من الأحيان عند كثير من المسجونين، ولا سيما المصاحف وكتب الدين على اختلاف الأديان.
أما هذه الفائدة الأخرى فهي الاستخارة! وهي أن يفتح القارئ الكتاب على الصفحة اليمنى ثم يعد سبعة أسطر ويقرأ ما يصادفه في السطر السابع، فإذا هو المصير الذي ينتظره و«القرعة» التي تصيبه بغير تدبير ولا مجاملة ولا مداراة، فإذا كان الكتاب مصحفا أو سفرا دينيا كائنا ما كان فذاك إذن أشبه بالوحي السماوي وصوت النذير من عند الله.
ولا أظن أحدا من القراء لم يسمع قائلا يقول في دهشة وغضب: «أتريد أن أغالط نفسي؟ ...» كأن مغالطة النفس أبعد الأشياء! وكأن الإنسان لا يغالطه إلا الآخرون ولا يغالط هو إلا الآخرين.
ولكن ساعة من ساعات الضيق الشديد أو الحزن الشديد أو اللهفة الشديدة لترين الإنسان - كل إنسان - أن المغالطة الكبرى إنما تكون من جانب النفس لا من جانب الخادعين بين الأصدقاء والأعداء، فهو يصدق الرجاء أو العزاء؛ لأنه يحتاج إلى تصديقه، لا لأنه يقيم البرهان عليه ويتبين الوقائع التي ترجحه وتقويه، والمقياس الوحيد لصدق العزاء في ساعة الضيق أنه ضروري لازم لا أنه صحيح معزز بالبرهان، ولهذا يغتبط المسجونون بالبشارة التي تأتي من الاستخارة كأنها خبر وثيق لا كذب فيه، بل يغتبطون بها؛ لأنها خبر لا يضير فيه الكذب ما دام يسر، ولا يفتقر إلى تمحيص الغد ما دام مقبولا في حينه.
وقد كان بعض المسجونين الذين يلقونني عند الحلاق ويرونني في غفلة من الحراس يحدثونني ببشائر «الاستخارة» والأحلام كأنهم يتحدثون «بالأسانيد» والبينات، فأشكر لهم مودتهم، ولا أحب أن أزعزع فيهم ركنا من أركان العزاء، وما أوهى أركان العزاء جميعا عند بني الإنسان!
كان باب الحجرة عندي مفتوحا للتنظيف في صباح يوم، فجاءني زميلي ودليلي وجاري السيد علي شاهين يحمل مصحفه ويعلمني هذه الفائدة الجديدة من فوائد الكتب بين جدران السجون، ومن المصادفات المدهشة أنه أخذ في الاستخارة لنفسه، وانفتحت له إحدى الصفحات اليمنى من سورة يوسف فقرأ في السطر السابع:
صفحة غير معروفة
سوءا إلا أن يسجن أو عذاب أليم * قال هي راودتني .
فانتفض صاحبنا كأنما سمع الحكم بالسجن يتلى عليه! وحق له أن ينتفض لأن المصادفة في الحقيقة كانت من المدهشات التي قلما تتفق في هذه الاستخارات، إذ ليس في المصحف كله آية تناسب استخارة السجين الذي سيحكم عليه كما تناسبها هذه الآية، ولكن ما أعمق معين المغالطة في نفس الإنسان كلما احتاج إلى الرجاء والعزاء! فإن صاحبنا لم يقف عند السطر السابع بل زعم أن أصول الاستخارة تقضي بمتابعة المعنى إلى تمامه، وجعل يقرأ ويقرأ حتى وصل في ختام الصفحة التالية إلى الآية التي تقول:
فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهن إنه هو السميع العليم .
وكنت أقلب في كتاب «تاريخ العالم» فقال لي صاحبي: «ألا تستخير عندك؟»
قلت: «وهل تصلح الكتب الإفرنجية للاستخارة؟»
قال: «جرب!»
ولا أظن شيئا يبعث الأسى على تاريخ بني الإنسان المساكين كما تبعثه الاستخارة في كتاب تاريخ عام، فما أذكر أننا وقفنا على سطر إلا وكان فيه عراك أو نكبة أو معنى محزن إن كان فيه معنى على الإطلاق، وفي إحدى هذه الاستخارات ظهرت لنا آية قرآنية مترجمة علمت موضعها بقلم رصاص كان مع السيد علي شاهين، ولم أكن أنا أحمل قلما ولا رضيت أن يحمل إلي شيء من المهربات، فإذا السطر السابع منها هكذا:
Grieve at what had escaped you, nor at what befell you; and (Allah is aware of what you do).
وتمام هذه الآية من القرآن في سورة آل عمران:
إذ تصعدون ولا تلوون على أحد والرسول يدعوكم في أخراكم فأثابكم غما بغم لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم والله خبير بما تعملون * ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا يغشى طائفة منكم ... •••
صفحة غير معروفة
وفي اليوم التالي لدخولي السجن أبلغت أن المصلحة ترخص لي في شراء الصحف التي أريدها على حسابي، فتعبنا جدا في إحضار صحف المساء قبل الغروب وإغلاق الحجرات - وهي توزع في ميدان القلعة نحو الساعة الرابعة - لأن البائع الخبيث علم أن هذه النسخ «مضمونة البيع» فالأولى به إذن أن يبدأ ببيع النسخ «غير المضمونة»! ولم يشأ من أجل هذا أن يحضر إلى السجن وفي ضوء النهار بقية، وأصر على ذلك مع تنبيهه مرة بعد أخرى، وإن كان هذا لا يمنعه أن يلقاني بالدعاء والابتهال كلما خرجت من السجن، وكلما عدت إليه في طريق التحقيق والمحاكمة!
وربما علم بعض حضرات القراء أنني شرعت في أيام سجني أتعلم اللغة الفرنسية، وهي مصادفة من المصادفات أيضا لم تكن تجول في نيتي عندما دخلت السجن واخترت كتب القراءة التي تقدمت الإشارة إليها، وإنما فكرت في ذلك على أثر تحية وجيزة لقيتها من رجل إيطالي مهاجر وضعوه في الحبس ريثما يتثبتون من «جنسيته» في الوكالة الإيطالية، فقد اقترب مني هذا الرجل يوما ورفع قبعته محييا وهو يقول بالفرنسية: «يا حضرة النائب ...» ثم شفع ذلك بكلام كل ما فهمته منه يومئذ أنه قرأ أخبار قضيتي، وأنه يسره أن يراني ويبلغني تحياته، فحاولت أن أفهمه جوابي بالإنجليزية فلم يفهم إلا قليلا لا يزيد على ما فهمت منه! فسألت نفسي: وما بالي لا أتعلم الفرنسية في هذه الفرصة؟ أمامي الآن نحو خمسة أشهر وهي مدة كافية للإلمام بالمبادئ، ولم يكن وقت التحقيق صالحا للشروع في هذا البرنامج؛ لأنه وقت غير محدود، فلنبدأ الآن فقد عرفنا بعد صدور الحكم بالحبس البسيط مدى ذلك الوقت المحدود. •••
وأنت أيها القارئ - وقاك الله - لا تعلم كما علمت أنا في السجن أن دخول الجمل في سم الخياط أيسر من دخول «قلم» إلى حجرة سجين بإذن من مصلحة السجون، فإن الترخيص للسجين بحمل القلم يقتضيه كما قيل لي أن يكتب عريضة لإدارة السجن، وأن ترفع هذه العريضة إلى مدير المصلحة، وأن ترفع بعد ذلك إلى كل من وزير الداخلية ووزير الحقانية، وهناك يصدر الأمر بالرفض أو القبول إذا شملته رعاية خاصة، والأرجح أن يرفض لغير سبب إلا أن الرفض مباح للرئيس، وإنه في معظم الأحيان شرط من شروط الرئاسة.
ولم كل هذا العناء؟
نعم إن القلم ضروري لتعليم الأسطر كما تعودت في دراساتي ومطالعاتي، ثم تدوين الكلمات التي تراجع وتحفظ، ولكني استعضت منه بالظفر أحز به العلامة في الهامش وفي خلال السطور، وبثني الصفحات في مواضع المراجعة والإعادة، واستغنيت عن كتابة العرائض التي يقول فيها جبرائيل لميكائيل وميكائيل لإسرافيل وإسرافيل لعزرائيل، ثم لا ينتهي بعد ذلك إلى كثير ولا قليل.
ومن طرائف المقترحات التي سمعتها وأنا أبدأ دروس الفرنسية الأولى أن أدع هذه اللغة وأعد نفسي - بدرس الفقه والشريعة والتصوف - لأن أكون إماما واعظا في الأقطار الإسلامية! وأن أفطن للحكمة الإلهية التي قيضت لي محنة السجن، كما فطن لها صاحب الاقتراح الملهم بظهر الغيب.
وجعل صاحبي - أعني صاحب الاقتراح - يسأل ثم يجيب نفسه: هل تستحق أنت بلاء السجن؟ لا ولا ريب!
إذن لا يظلم ربك أحدا! وما أراد ربك بسجنك إلا نفعك ونفع المسلمين بك، وأن لا تكون غاية سعيك خدمة الوطنية المصرية دون الجامعة الإسلامية، فدع الفرنسية واقرأ في الأشهر الباقية كتب التفسير وأصول الدين، وتجرد لما جردك له الله، وثق أنك هنا لأمر عظيم.
وهكذا كان يحاورني من حين إلى حين رسول تلك البشارة المغموطة، والهداية التي تخلق الهداة على الرغم منهم! ورسولنا هذا هو هندي متورع محبوس في قسم الحمايات لتهمة اختلاس في تجارة كبيرة ينكرها أشد الإنكار، ويزعم أن عداوته للحكومة في الحركة الهندية هي علة تلفيق التهمة عليه، وكان لا ينقطع عن كتب التفسير والأحاديث يقرؤها بالعربية فيفهمها بعض الفهم، ولكنه يتكلم الإنجليزية إذا أراد التبسط في الحديث.
وفارق الرجل السجن وفارق مصر وهو بغصة المحسور على ذلك الإمام الذي هو واثق أنه إمام منتظر، وواثق كذلك أنه قد ضيع بيديه الإمامة التي أعده لها القدر، وما أعجب الجمع بين الثقتين!
صفحة غير معروفة
المنع والترخيص
كل شيء في السجن ممنوع حتى يصدر الأمر بإباحته وإلغاء منعه.
فالأصل في السجن «المنع» لغير سبب وبغير تفسير، فإذا أبيح عمل من الأعمال وأجيز أمر من الأمور، فذاك الذي يحتاج إلى سبب ويحتاج بعد ذلك إلى ترخيص واستئذان.
وإن هذه القاعدة وحدها لكافية لأن تجعل السجن سجونا كثيرة بعضها أضيق وأثقل من بعض، ولكنها مع ذلك رحمة سماوية إذا قيست إلى الطريقة التي ينفذونها بها حرفا حرفا ومرة مرة، بغير تصرف ولا قياس ولا مراعاة للنظائر والمناسبات.
فإذا أبيح الشيء مرة فإنما يباح في حالة لا تسري إلى غيرها وفي وقت لا يمتد إلى ما بعده، فلا يمكن أن تتكرر الإباحة ولو تكررت الدواعي والمناسبات، ولا يمكن أن يباح الشيء الذي يشبهه تمام المشابهة ويجري مجراه في وصفه وفحواه ذهابا مع القياس والاستطراد، كلا! بل كل شيء مباح بحرفه ووسمه ووقته وشخص المقصود به، فإذا تغير الحرف أو الوسم أو الوقت أو الشخص فقد بطلت الإباحة وعاد المنع كما كان!
وبعض الأمثلة غني عن الإسهاب في هذا الباب.
كان قوام طعامي خارج السجن الفاكهة والخضار الطازج ولا سيما في الصباح والمساء، وقد ميزت من الخضار الجرجير والخس، ومن الفاكهة الكمثرى الإيطالية والجوافة؛ لأن هذه الفاكهة تشتمل على خلايا وبذور تساعد الهضم بخشونتها مساعدة لا تقوم بها الثمار الأخرى.
فأما الفاكهة فقد فصلت فيها مصلحة السجون من قديم عهدها الأول فصل أنبياء بني إسرائيل في المباح والمحظور من الطعام والشراب، فهذا حلال وهذا حرام، ولا نقض بعد ذلك ولا إبرام، وليست الكمثرى مما يسمح به ذلك «الحاخام»، أما الجوافة فلم يحن أوانها من العام!
واختلف الحال في الخضار فلم يتنزل في أمره تحريم كذلك التحريم بين آيات الكتاب العظيم، ولكن كهان الهيكل قد حجروا على ما أباح الكتاب واسعا فلبث «المنع» الأصيل في مكانه القديم لا يتراجع عنه ولا يريم!
كتبت اللجنة الطبية التي تقرر لي أصناف طعامي كل أسبوعين هذه العبارة في تذكرتي الصحية: «يصرف له خضار كالفجل والجرجير ...»
صفحة غير معروفة
فمضت أيام وأنا لا أرى غير الفجل في كل غداء، والفجل، وقاك الله، صنف يحتمله الهضم الضعيف يوما، ثم لا بد له من أسبوع على الأقل لينساه ويجازف مرة أخرى بالرجوع إليه، فأما الفجل وحده ولا خضار غيره مطبوخا أو نيئا في كل غداء فذاك بلاء للهضم الضعيف وليس بغذاء أو دواء!
قلت: «فأين الجرجير؟»
قالوا: «إن الساعي الذي يذهب في طلب هذه الأصناف لا يجده في السوق، ولا يسعه أن ينتظره حتى يعبر به الباعة في الطريق.»
قلت: «وما باله لا يشتري الخس مثلا أو الكراث؟»
قالوا: «إن اللجنة الطبية لم تسمح بغير الفجل والجرجير!»
قلت: «بل سمحت بكل خضار لأنها لم تذكر الفجل والجرجير إلا على سبيل التمثيل.»
قالوا: «لا بد من سؤالها والاستئذان منها؛ لأنها لو شاءت لذكرت أسماء الأصناف الأخرى ولم تقصر الإشارة على هذين الصنفين.»
وبديه أن السجن مدرسة كما يقولون، ولكنه ليس بالمدرسة التي ألقي فيها درسا في معنى التمثيل بالكاف أو في معنى التخصيص والتعميم! •••
وسمحت لي اللجنة باللبن في طعام الإفطار، فكأنها قد سمحت لي بكوب فارغ لا شيء فيه؛ لأن اللبن الذي يصل إلي في الصباح الباكر لا يكون صالحا للغذاء، ولا ينبغي أن يصلح لغير الإهراق قبل ذلك بساعات.
وبيان ذلك أن اللبن الذي يجلبه المتعهد إلى مستشفى السجن إنما «يسلم» في الساعة العاشرة من كل صباح.
صفحة غير معروفة
والساعة العاشرة موعد حسن لمن يتناولون اللبن في الغداء، وموعد لا بأس به لمن يتناولونه في العشاء، على شريطة أن يكون محلوبا في صباح يومه ولا يكون «بائتا» متخلفا من اليوم الذي قبله.
فأما في طعام الإفطار فأين هو المستشفى الذي يطعم مرضاه لبنا مضت عليه أربع وعشرون ساعة في الصيف أو في الشتاء؟
وخطر لوكيل السجن الذي خاطبته في هذه المسألة عند مروره بي ساعة الرياضة أن «يتصرف» فيها بعض التصرف على خلاف القاعدة المرعية هناك، فأمر رئيس الممرضين أن يضع المقدار اللازم لي من اللبن في «الثلاجة» من ساعة وصوله حتى ساعة تقديمه في صباح اليوم التالي، عسى أن يمنع ذلك فساده وتخثره ويبقيه سائغا سليما حتى موعد الإفطار.
لكن رئيس الممرضين ذهب إلى المأمور يستأذنه كما هي العادة في كل شيء، فأنكر المأمور هذا الحل «الهرطقي» لأنه بدعة عجيبة لم يتنزل بها الوحي في «الناموس» القديم، ووجب أن يهرق اللبن هدرا وأن يلغى الإفطار عليه حتى تعود اللجنة الطبية إلى فحص جديد.
وليس يخفى أن «النظام» لا يمكن أن يمنع وضع اللبن في ثلاجة المعمل الملحق بالمستشفى أو في أي مكان يحتويه، ولا يمكن أن يمنع صيانة اللبن من الفساد بغير كلفة ولا نفقة زائدة ما دام الثلج لا ينقطع عن المعمل في صيف ولا شتاء، بل صيانة اللبن أنفع للمستشفى وأقل نفقة عليه من شراء لبن جديد لي في الصباح الباكر قبل حضور الأطباء.
ولكن «الناموس» لم ينص بالحرف والوصف على قنينة من اللبن توضع في الثلاجة لأجل سجين يسمى عباس العقاد فهو قد نص إذن على المنع والتحريم! •••
على أن الأخطر والأغرب في باب الضحك والفكاهة، لولا ما فيه من مساس بالحياة، هو قصة انتقالي إلى المستشفى أو انتقال المستشفى إلي، ثم ما كان بعد ذلك من فصل حكيم في هذه المشكلة العضال التي ليس لها إلا ذكاء سليمان بن داود.
وسيعجب القارئ من «عنوان» هذه القصة كما أسلفته؛ لأنه لن يتخيل أن هناك مشكلة تقوم بين مريض ومستشفى لينتقل المريض إلى المستشفى أو ينتقل المستشفى إلى المريض.
ولكنه إذا عرف القصة على جليتها لم يستطع أن يتخذ لها عنوانا أصدق من ذلك العنوان، فهي في الواقع خلاف بيني وبين المستشفى قد انتهى - بحكمة سليمانية - على أن ينتقل هو إلي بدلا من انتقالي أنا إليه.
وجلية القصة أن الأطباء قرروا بعد أيام من دخولي السجن وجوب وضعي في مستشفاه ومعاملتي في اختيار الطعام والفراش وأوقات الرياضة معاملة المرضى.
صفحة غير معروفة