الاختراع والإبداع
يقول أرسطو: كل شيء في كل شيء؛ أي إن كل موجود فيه كل شيء، وإنما يظهر هذا الشيء بالظروف والمناسبات والاستعداد. ويقول شكسبير: لا جديد تحت الشمس، وظاهر من هذا كله أن حياة الأفراد والجماعات إن هي إلا تكرار للماضي، وإعادة للسابق، وأن خطأ كبيرا أن يظن ظان في محدث أو مظهر جديد أنه شيء أكثر من أنه مظهر متجدد لكائن سابق.
ولقد استكمل الناسوت، ونضج العقل، وظهرت آثار العبقرية، في بعض المخلوقات، فكتب لهم القدر في لوحه آية التوفيق، ورفعوا من شأن الإنسانية، وخففوا من آلام الحياة في هذا العالم بما وفقوا إليه من استكشافات، بيد أني أخالف الذين يسمون هذه مخترعات أو مبتدعات، فلم يكن إسحاق نيوتن حين وفق إلى قانون الجاذبية مبدعا ولا مخترعا؛ لأن الجاذبية ليست شيئا معدوما أوجده نيوتن، وإنما هي موجودة قبل أن يظهرنا عليها العلامة نيوتن، كما أنها موجودة بعد أن نادى بها، ولم يكن إديسون مخترعا للكهرباء ولا مبدعا لشيء من الأشياء التي وفق إليها، وإنما هي قوى للطبيعة كانت مجهولة استكشفها النابغة إديسون، وتمكن من تسخيرها لمنفعة المجموع، ولا كانت النسبية معدومة قبل ظهور «أينشتين» وإنما كان فيه من الاستعداد، وتوفر له من الحظ والتوفيق ما أسعده على ظهوره في جو العلم بنظريته التي خلبت الألباب وحيرت العقول، وأحدثت تغييرا محسا في الأجواء العلمية.
هؤلاء ناس كان لهم حظ التوفيق في حياتهم التفكيرية العملية، وفي استعداداتهم ومؤهلاتهم الفطرية والمكتسبة، وفقوا إلى هتك مساتير الطبيعة، فكشفوا لنا بعض قواها، وتمكنوا من بعد ذلك من استخدام هذه القوى الطبيعية لمنفعة الإنسان، وتخفيف آلامه في الحياة، فما خلقوا خلقا، ولا أبدعوا إبداعا، وإنما هم وفقوا إلى تعرف قوى الطبيعة وبعض ما فيها من أسرار، فكان لهم حظ الذيوع والشهرة الواسعة.
العقل والوجدان
ولو أن إنسان هذا العصر عني بترقية وجدانه عنايته بترقية عقله، لكانت الحال غير الحال، وإذن لوجد «السوبرمان» أو المثل الأعلى للإنسانية.
ولكنه عمد إلى ترقية عقله المكتسب، وهو ضعيف لا يقوى على احتمال ما في هذا الكون من أسرار وعجائب، وأغفل شأن نفسه فلم يزكها، ولا هو عني بوجدانه عنايته باستظهار المعقولات، فأصبح لا يعيش إلا مع العقل، والعقل ليس هو كل شيء في هذا الوجود، والعقل كثير الخطأ، وأهمل ما فيه من استعدادات ومقدرات، فعاش مع الوهم، وتأخر تأخرا أدبيا بينا.
من الذي يعالج السائمة إذا مرض أحدها؟ إننا نعلم أن الحيوان إذا انتابه مرض امتنع عن الأكل أولا، ثم عمد إلى نوع من الحشائش فأكلها، وتم له الشفاء من غير حاجة إلى علاج أو طبيب، وإنما يعيش الحيوان بغريزته فيعتمد على إلهامها، وهي ترشده إلى ما فيه المنفعة غالبا، ولنضرب لذلك مثلا نزكي به هذه النظرية فنقول: إن نهر «الأمازون» في العالم الجديد «أميركا» له فيضانات فجائية، وهناك على شاطئ النهر يعيش بعض القبائل الرحل، وإنما تعرف هذه القبائل ساعة الفيضان، وإنما دليلها في ذلك نوع من الطير يعيش في ذلك الجو، ويحس بالفيضان قبل وقوعه بساعة أو نصف ساعة، فيرحل ويهجر البقاع، هنالك يسارع سكان ذلك الوادي من الرحل إلى الهجرة؛ حيث ينذرهم نذير الخطر.
ولولا هذا الطير ما استطاع أولئك الناس أن يعيشوا في ذلك الصقع، أو لهلكوا جميعا.
فهذا النوع من الإلهام - في هذا النوع من الطير - كان في الإنسان، فذهب به العقل المنفعل، وتلهى بشئون الحياة عن هذه الظاهرة النافعة، ولو أنه نماها وزكاها لانتفع بها وقواها.
صفحة غير معروفة