مقدمة
العدل الإلهي وأين أثره في المخلوقات؟
العدل الإلهي وأين أثره في المخلوقات
اعتراضات وتأملات
أين السعادة؟
في الروح
الخير والشر
حقائق الأشياء
الأرض بالنسبة للوجود الكلي
حول الكون
عظمة الكون (1)
في السدم
في المجرة
النجوم
مسألة الأرواح
في العالم
عظمة الكون (2)
فضل العرب على الغرب
فيما بعد الطبيعة (1)
فيما بعد الطبيعة (2)
في الأرواح
المذهب الروحاني (1)
المذهب الروحاني (2)
من العالم غير المنظور
خاتمة
مقدمة
العدل الإلهي وأين أثره في المخلوقات؟
العدل الإلهي وأين أثره في المخلوقات
اعتراضات وتأملات
أين السعادة؟
في الروح
الخير والشر
حقائق الأشياء
الأرض بالنسبة للوجود الكلي
حول الكون
عظمة الكون (1)
في السدم
في المجرة
النجوم
مسألة الأرواح
في العالم
عظمة الكون (2)
فضل العرب على الغرب
فيما بعد الطبيعة (1)
فيما بعد الطبيعة (2)
في الأرواح
المذهب الروحاني (1)
المذهب الروحاني (2)
من العالم غير المنظور
خاتمة
العدل الإلهي وأين أثره في المخلوقات
العدل الإلهي وأين أثره في المخلوقات
تأليف
حسن حسين
مقدمة
ما كل ما يعرف يقال، ولا كل ما يقال جاء أوانه، ولا كل ما جاء أوانه حضر أهله.
الإمام علي
ليس في العالم شيء هو خير بذاته، ولا شيء هو شر بذاته، بل بالوضع، وقد ينقلب الخير شرا والشر خيرا، فلا تكون هنالك حقيقته.
أرسطو )
فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض ( (قرآن كريم)
مثل هذا الوجود - كما يتصوره الملاحدة والماديون - أصحاب الرأي القائل: «إن هي إلا أرحام تدفع وأرض تبلع.» كمثل كتاب نفيس لمؤلف عبقري جليل، قدم له بمقدمة غاية في الإبداع والإمتاع، فإذا ما قرأتها وفرغت منها، ثم حاولت الاستئناس بما في الكتاب من قيم الفكر وصائب الآراء؛ لم تجد شيئا، أجل لو كانت الحياة تنتهي بإبدال ظلمة الرمس، بنور الشمس، وتنقضي بانقضاء مرحلة الشقاء التي يقضيها المخلوق على هذه الأرض جبرا، فلا رأي له ولا اختيار في وجوده وحياته وأجله ورزقه، لو كانت هذه هي كل ما من أجله نظم هذا الكون بهذا النظام البديع، حتى أصبح وليس في الإمكان أبدع مما كان، إذن لكان هذا الوجود - على ما يتصوره هؤلاء القوم - ليس مساغا ولا معقولا، وإذن لاستعصى على الأفهام أن تسيغه، وعلى العقول أن تستمرئه، فكان هباء في هباء.
البله - بله العلماء - لا يقدمون على إذاعة مصنف، ونشر مؤلف، في الناس، كله مقدمة بلا نتيجة، إذن فالمفهوم والمعقول أن تكون النتيجة لا على قدر المقدمة فحسب، بل أهم وأعظم، وإذن فما نراه، وما نسمع به، وما يقع عليه نظرنا في هذا الوجود العجيب المدهش - إذن فكل ذلك - ليس شيئا مذكورا إلى جانب النتيجة وهي كل ما في الموضوع، وإذن فالذي يصح في الأفهام أن تكون هناك حياة أرقى وأعظم وأهم وأبقى من هذه الحياة الدنيا.
وإذا كانت العلل لوغارتمات المعلولات، وكان كل ما في المصنوع من إقناع، وإبداع، وإتقان وتفوق - إنما يدل على ما في الصانع من حكمة وتفوق ومقدرة وعلم - كان لا بد لهذا الوجود العظيم، المنظم المتقن، من صانع حكيم عليم يفوق عقول البشر ومقدراتهم فئوقا لا حد له.
إثبات وجود الله
وما نحن بقادرين على أن نبلغ غاية نشداننا في هذا الموضوع - وإنما نحن نحاول محاولة أن نقرب إلى أفهام بعض الراغبين - صورة قد يأنسون لها، وينتفعون بها، في جدلهم وردهم على المبطلين، نقول: وإنه ليستحيل على المرء إدراك «الذات» الإلهية بعقله الضعيف الكليل الذي غره، فصار يزعم أنه يهيمن به على كل ما في الوجود، وعتا عتوا كبيرا.
والحق: أننا بحاجة إلى حاسة أخرى ليست لنا الآن، ولا نبلغها إلا بعد أن يبلغ روحنا درجة النقاء من غواشي المادة، وما علق بها من خلق وصفات مكتسبة.
نقول: وإنما نحن نستطيع أن نستدل على صفات ضرورية في الله - جل شأنه - من مقدمة برهان وجود - الواجب الوجود - مطلقا، ويجب أن تكون هذه الصفات القدسية أو الكمالات محور الدائرة في كل دين من الأديان.
اعرف نفسك بنفسك.
جملة سطرت على هيكل دلفيس، فلاكتها ألسنة حكماء اليونان قديما، فهل عرفنا أنفسنا؟ ومن عرف نفسه فقد عرف كل شيء.
وماذا ينفع الإنسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه؟
هذا ما يقوله الإنجيل، ونحن نقبل على كل شيء، ونلهو بذلك عن أنفسنا، فنضيع كل شيء. )
وفي أنفسكم أفلا تبصرون (
الآية القرآنية الشريفة، ولكننا لم نفكر في أنفسنا، ولا نزعنا إلى تعرف ما في خلقنا من غرائب وعجائب، أنا لا أريد تدليلا، ولا أبغي برهنة على وجود «الواجب الوجود» ولكني أدل الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر على طريقة سهلة نافعة قد تؤدي بهم إلى الإيمان من غير عناء ولا كد.
اندمج في حسك، وأنس إلى نفسك، بعيدا عن كل ضوضاء أو خيلاء، في وحدة وسكون، هناك وأنت منسجم مستسلم تشعر بميل غريزي يجتذبك نحو الحق، وتحس بأنه يحقق لك وجوده دون حاجة إلى تدليل أو برهنة.
أمثال نضربها (1) هبك سائرا في صحراء قحلاء، فصادفت ساعة منمقة مضبوطة تعينك على معرفة الوقت وضبط مواعيدك، ألا تستدل من وجود الساعة على أنه لا بد أن يكون قد مر بهذه الصحراء إنسان من غير سكانها وأنه متمدين؟ ألا تحكم على التو بأن هذه الساعة من صنع صانع لم تره ولم تعرفه، وأن هذا الصانع عاقل ومدبر وذو دراية بصنعته؟! (2) إذا رأيت طائرا يحلق في الجو أصابته رمية فجندلته وألقته صريعا وهو على حاله هذه، ألا تحكم للحال بأنه لا بد أن يكون هناك صياد ماهر عاقل ذو قدرة وعلم، ألا تحكم بكل هذا ولو لم تر ذلك الصياد؟! (3) إذا رأيت آلة بديعة الصنع، متقنة محكمة غاية في الإبداع، هل يقع بخاطرك وأنت تراها على هذه الصورة أنها إنما صنعت مصادفة، وأبدعتها الظروف الطارئة؟! (4) إذا آنست طرفة صناعية بديعة الصنع متقنة الوضع، ألا تحكم على التو بأنها لم تكن هكذا إلا بصنع صانع، وأن هذا الصانع عالم وحكيم وماهر في صنعته؟!
إنهم يستدلون على وجود الإنسان من وجود أعماله، ولقد استدل العلماء أصحاب التاريخ البشري على وجود الإنسان الغابر - السابق للطوفان العام - من وجود مصنوعات غليظة استكشفوها في طبقات الأرض الخاصة بذلك العهد؛ كحطمة من إناء خزفي، أو حجارة منحوتة، أو سلاح من حجر.
وما بنا من حاجة إلى الاستزادة من ضرب الأمثال، وهذه الطبيعة حولنا ناطقة بوجود القدير الحكيم المتعال. انظر إلى ما في هذه الطبيعة من إتقان وإبداع، وحسن وإحكام، ونظام وتدبير، ثم احكم بعد ذلك مجردا عن هوى الشيطان وزيغ القلب.
على حين أننا لا نزال خاضعين لناموس النمو والارتقاء، ولا نزال في حالة انحطاط عقلي وأدبي، إذن فليس يمكننا ونحن في هذه الحالة أن ندرك عدم تناهي المولى جل وعلا، ولقد تصوروه كائنا محدودا، وتمثلوه بأشباه تعالى الله عما يصفون علوا كبيرا.
ومن الناس من يجادل بالباطل في عدل المولى )
وكان الإنسان أكثر شيء جدلا (
قالوا: إذا كان الله عادلا فلماذا هذا التناحر القائم ليل نهار بين الوحوش في الفيافي؟
نقول: والرأي السائد أن هذا الناموس الطبيعي يظهر بادي الرأي أنه مناف لجوده وعدله سبحانه وتعالى، وإنما يعتقد الإتلاف المذكور نقصا أولئك الذين يعيشون في جلودهم، فلا ترتفع أبصارهم إلى ما فوقهم، ولا تقوى شاعرياتهم على الوصول إلى الحقائق، ولا عقولهم على إدراك الحقيقة، أولئك الذين يقيسون كمالات الله - جل وعلا - على قدود أفهامهم ومستوى مداركهم، وما فيهم من ماهية إدراكية، وكان فوت أفهامهم أنهم إنما يزعمون الخلل والنقص في عين الحكمة، وما دروا كيف يمكن لخير حقيقي أن ينتج من شر ظاهر، ولو أنهم ولوا وجوههم شطر المظهر الروحي، ووحدة نظام الكون؛ لزال من أنفسهم هذا الوهم، أو انتفى الشك، وتحققوا أنه الصواب في ما ظنوه نقصا وشذوذا، وأن الحياة الجسدية إن هي إلا كساء وقتي، أما الحياة الحقة الصحيحة - في الحيوان والإنسان - فهي في العنصر الروحي.
بين مذهبين
لا نبالغ إذا قلنا إننا نعيش في عصر المادة، وقد ملك المذهب المادي على الناس جماع حواسهم ومشاعرهم، فصاروا ماديين في كل شيء، في كل مظهر من مظاهر حياتهم، لا يهتمون إلا بالمادة، ولا يأنسون إلا لها، ولا يفكرون إلا فيها، فانتصر المذهب المادي على المذهب الأدبي، ولكن إلى حين، أما المذهب الروحاني فالرأي عندنا أنه مذهب المستقبل، ولقد مل الناس هذه المادية بعد أن قطعوا فيها من عامة عمرهم شطرا كبيرا، وما في هذا المذهب (المادي) من فضل إلا في تكييف وتسهيل سبل الحياة الدنيا، وحسبنا أن نعلم أن النهليست والفوضويين والشيوعيين، حسبنا أن نعلم أن هؤلاء - وهم أخطر ما يكونون على المجتمع الإنساني وأضر ما ظهر على الإنسانية - من الذين ارتشفوا المادية البحتة، هنالك يحق لنا أن نمقت الاندماج في المادة بكل حواسنا، وهنالك يحق لنا أن نعمل على إحياء المذهب الروحاني وقد أذن مؤذن البشرى، ودقت ساعة الانتعاش، وبدأ نجم هذا المذهب في الظهور، بعد أن اعتنقه كثيرون، وأقبل عليه عظماء جليلون من عمد العلم وزعماء الفلسفة، وأقطاب المذهب المادي، وحسبك أن تعلم أن أمثال: إديسون المخترع الأمريكي الأشهر، وأولفر لودج رئيس المجمع العلمي البريطاني وأكبر مظهر في جو العلم وزعيم في حلبة المادة، ووليم جيمس ومكانته مكانته في العلم الحديث، وكونان دويل، وستيد، وأمثال هؤلاء النوابغ؛ قد هجروا المادية بعد أن عافوها واعتنقوا «المذهب الروحاني» وعالجوا كثيرا من موضوعاته عمليا. •••
من منا يستطيع أن يقف حركة تفكيره والناس مفطورون على التفكير، شغفون بتعرف ما خفي وعمي عليهم، كلفون بالنظر في ماضيهم ومستقبلهم، فأول ما يهم الإنسان التفكير فيه هو أن يعرف ويسأل نفسه في: من هو؟ من أين أتى؟ إلى أين هو ذاهب؟ وما هي الغاية من وجوده في هذا العالم؟
ولما لم يأنس الإنسان في نفسه قدرة على تعرف الصواب من هذه الأمور ولى وجهه شطر العالم غير المنظور، فعالج مسائل المذهب الروحاني وانتفع بها: انظر كيف قصد شاوول الملك إلى عرافة عين دور، ثم طلب إليها أن تستحضر له روح صموئيل، فحضر روح صموئيل، واستطلع منه نتائج الحرب كما جاء في التوراة.
إن كثيرا من اليهود كانوا يتناقلون تعليما سريا يدعى القبالة، موضوعه مناجاة الأرواح، ولم يكونوا يقبلون في شركتهم إلا من قيد نفسه بالأيمان المغلظة على الأمانة وحفظ السر، وهاك ما جاء في التلمود بهذا المعنى: كل من تعلم هذا السر «استنباء الأرواح» وحرص على كتمانه في قلب نقي؛ يحظى بمحبة الله، ومودة البشر، ويكون اسمه مبجلا، وعلمه لا يشوبه النسيان، ويكون وريثا للعالمين رأي الحاضر والعتيد.
وأنت تعلم من تتبع سير الأقدمين أن الشعوب جميعها كانت تؤمن قديما بإمكان مخاطبة الأرواح، وإنما كانت طائفة معينة في كل أمة، وبين كل جيل من الخلق تحتكر هذا الموضوع، وتجعله سرا مكتوما، وتخفيه على الكافة من الشعب.
ولقد يحدثنا التاريخ أن كهنة الهنود كانوا يعالجون تعويد بعض أناس على استحضار الأرواح، وعلى معالجة حوادث أخرى مدهشة بالمغناطيسية الحيوية، على أن هذا السر - سر استحضار الأرواح - لم يكن يعلمه إلا من قضى أربعين سنة في التجربة والطاعة العمياء، أما المتمرنون فكانوا على ثلاث طبقات: (1) البراهمة: ووظيفتهم العناية بالطقوس الخارجية، وخدمة هياكل الأصنام، وإرشاد الشعب وتعليمه. (2) هم المقسمون والعرافون، ومستحضرو الأرواح: ووظيفتهم الإبهام على عقول الشعب بحوادث خارقة، وكانوا يقرءون ويفسرون كتاب «الإطار فافيدا». (3) هم البراهمة المتقدمون المعتزلون عن الشعب: وكانوا يعالجون دراسة قوى الكون والعلل الطبيعية، ولم يكونوا يظهرون خارج الصوامع إلا نادرا وبهيئة مخوفة.
وكذا أجمع المؤرخون على أن كهنة المصريين كانوا يأتون أعمالا خارقة للعادة، منها تلك الأشياء التي تحدثنا عنها التوراة في سحرة فرعون.
أما سيدنا موسى - عليه السلام - فقد نهى قومه عن ممارسة استحضار الأرواح؛ حيث جاء في سفر التثنية:
لا يستعملن أحد منكم السحر والرفاء، ولا يستحضرن الأموات لاستطلاع الحقيقة.
ولا يزال النزاع قائما بين الروحيين والماديين في مسألة وجود نفس مدركة عاقلة في الإنسان، فأصحاب الدين يقولون بالروح، وهي مصدر الذات العاقلة، والماديون يكفرون بذلك، ويقولون بأن الدماغ مصدر القوى العاقلة في الإنسان، وأن نسبة الدماغ للفكر كنسبة البول للكلى، أو الصفراء للكبد، فهم يجحدون كل ما هو غير «هيولاني»؛ أي كل ما هو غير مادي، ويقولون بأن الإنسان إن هو إلا آلة مادية، تتلاعب به التأثيرات الخارجية، حتى إذا جاء أجله انطفأ نور الفكر، وانعدم كل شيء.
نقول: «فإذا نظرنا إلى ما جاءنا به العلم سيما علم الفزيولجية على لسان علمائه الطبيعيين؛ نجد أنهم يقولون بأن كل حركة تصدر من إنسان أو حيوان إنما يصحبها احتراق جزء من المادة العضلية، وكل فعل من الحس أو الإرادة ينشأ عنه فناء في الأعصاب، وكذا كل تفكير ينشأ عنه إتلاف في الدماغ، ومعنى هذا أنه ليس يمكن أبدا لذرة واحدة من المادة أن تصلح مرتين للحياة، فإذا ما بدأ عمل عقلي أو عضلي فالجزء من المادة الحية الذي يصرف لصدور هذا إنما ينعدم تماما، فإذا عاد العمل وتكرر فمادة جديدة تصلح لصدوره ثانية، وكذلك دواليك، والقاعدة أن النسبة محفوظة في الإتلاف، أي إنه كلما اشتد ظهور الحياة ازداد تلف المادة الحية، وإنما المادة المستجدة الداخلة في الدم بواسطة الهواء والمواد الغذائية تعوض من هذا التلف باستمرار، وإنما يرتبط هذان العاملان الواحد بالآخر، فعامل الإتلاف وعامل التجديد يتصل الواحد بالآخر في الكائن الحي، وعامل التجديد سري خفي، أما عامل الإتلاف فيبدو للعيان، والحاصل من هذا عند العقل أن جسمنا يتجدد مرات كثيرة في مرحلة الحياة.
يقول الماديون: إن الذاكرة عبارة عن اهتزازات فسفورية، تتخزن في القلية العصبية من الدماغ بعد أن تصل إليها التأثيرات الخارجية، فإن صح ذلك، وإذا تقرر أن كل ما فينا من قلالي عصبية، وأنسجة عضلية، وعظام تنعدم وتتجدد في فترة معلومة لا تزيد على السبع السنين؛ لاقتضى لقوة الذاكرة أن تنقص فينا بالتدريج إلى أن تتلاشى في سبع سنين، وأن نضطر في كل سبع سنين إلى تجديد كل ما تعلمناه سابقا، على أنا نشعر بأن الأمر على العكس؛ ذلك بأن تيار المادة المتجددة فينا لم يحدث أقل تغيير في ذاكرتنا، وأنا في إبان الهرم نذكر أمورا وقعت في حداثتنا، وعليه فالواقع ينطق بأنه برغم استبدال ذرات كياننا، فإن كل ما فينا يؤيد ثبات شخصيتنا، وهو ما يدل على أن هناك غير «الهيولي» نفسا أو روحا، يقيها جوهرها اللطيف من كل ما يطرأ من تحول أو تقلب ينتاب المادة، على حين أن هذا لا يمنع من انطباع صور الحوادث والذكريات فيها وكذا المعارف والعلوم انطباعا يدوم زمانا طويلا، وهو عمل القدرة الإلهية.»
أولم يروا إلى التنويم المغنطيسي، ويشاهدوا كيف يكون اتصال النفس بالجسد؟ وكيف تقوم بأعمال غريبة مدهشة؟ وكيف تظهر في النفس قدرات تخفى في غير هذا الموقف؟ إنهم إن لم يؤمنوا بما أظهرتهم عليه الطبيعة أمهم كانوا من الضالين المتعنتين، ومعلوم أن مرجع الانفعالات والتأثيرات الدماغ، ومعلوم أن الانفعالات والتأثيرات الخارجية تهتز الألياف الدقيقة التي تحمل هذه التأثيرات إلى المجموع العصبي؛ لينقذها ويجري حكمه فيها، ومعلوم أن الأعصاب قد اختصت كل منها بوظيفة خاصة تقوم بها، فلا أعصاب السمع تؤثر في أعصاب البصر، ولا هذه تؤثر في غيرها، وإنما يقوم كل عصب بما خلق له. ونحن إذا بحثنا مثلا حاسة البصر نجد أن الحركة التموجية في الأثير - بتأثيرها في شبكة العين - تحدث في العصب البصري اهتزازا، ونجد أن هذا الاهتزاز يمتد إلى الطبقة البصرية المستقرة في وسط الدماغ، قال: ومن هنا يندفع إلى مركز الحواس، حيث ينتشر في القلالي الدقيقة، ويوقظ العناصر التي وظيفتها نقل التأثيرات البصرية. إذن فكل هذه التأثيرات الحسية تتفرق ثم تجتمع في مكان خاص من الدماغ، وقد أثبت التشريح وجود أماكن معينة في الدماغ لتجمع وتكييف هذه التأثيرات، ولقد أثبت العلماء الفزيولوجيون بالتجربة أنهم إذا قطعوا من المادة المخية قطعة أصولية؛ يفقد الحيوان قوة إدراك التأثيرات السمعية أو البصرية.
فإذا سألت أحد الماديين: كيف تتحول هذه الحركات الاهتزازية بعد وصولها إلى مراكزها النسبية من الدماغ إلى أفكار فهمية؟ قال: إنها حينما تبلغ القلالي الحسية يحدث فيها من رد الفعل ما يحدث في قلالي النخاع الشوكي.
قال: وهذا يحدث في ضفدعة قطع رأسها، ومع ذلك تتشنج رجلها لدى مسيسها بحامض مهيج، قال: فالأمر نفسه يحدث في مؤثرات القلالي الحسية من الدماغ؛ أي إن القلية القشرية عندما يبلغها الاهتزاز الخارجي تنتبه، وتفزع القوة الكامنة فيها، وتمتد الحركة حتى تبلغ القلالي الغليظة، وهذه تنقلها إلى المادة الرمادية ذات الأخاديد فيها من الدماغ التي تقوي الاهتزازات، وتدفعها إلى الأعضاء على شكل تأثير أو أمر أو محرك.
إنا نسلم مع ناكري النفس بكيفية مجرى الحس المعبر عنه بالاهتزاز العصبي، بيد أن هؤلاء فاتهم أمر خطير بين بلوغ الحادثات إلى الدماغ ورد الفعل، هو حادث الإدراك، أي دراية الشخصية الإنسانية بما حدث من الأمور الخارجية، ذلك أن الاهتزازات والتهيجات العصبية إن هي إلا حركات مادية، تولد حركاتها مثلها ولكنها لا تحدث إدراكا، وما نتيجتها سوى تنبيه القوة العاقلة لإدراك مصدر هذا التنبيه وعلته وغايته.
قال: إن القلية العصبية المركبة من كميات متناسبة من الكوليسترين والماء والفوسفور وحامض الأوميك إلخ ... ليست بذاتها قوة مدركة، والحركة الاهتزازية هي بذاتها حركة مادية محضة، فكيف يعقل أن اهتزاز هذه القلية العصبية وانتصابها يولد إدراكا؟ وهنا ما يعجز الماديون عن تبيانه، أما الروحيون فيعلموننا وجود شخصية عاقلة فينا تسمى نفسا، تنتبه بهذا الاهتزاز إلى ما طرأ من الحوادث الخارجية، وعندما يتم انتباهها هذا يحدث الإدراك.
قال: ويؤيد هذا بأجلى بيان حادث الذهول ... مثلا عندما نكون مستغرقين داخل حجرتنا في أي عمل من الأعمال، إنا نغفل عن تكتكة الساعة، بل عن طرق ناقوسها أيضا، مع أن اهتزازات الصوت أثرت في عصب سمعنا، وبلغت حتى الدماغ دون أن ننتبه لها، وما ذلك إلا لأن نفسنا المشتغلة بأفكار أخرى لم تنتبه، ولا أثرت فيها اهتزازات القلالي الدماغية، فلم يحصل الإدراك السمعي، والحاصل أن المادة ذاتها عديمة الاختيار لا تولد شيئا من نفسها، والمادة الدماغية آلة لتبيان إحساسات النفس العاقلة وأفكارها، فلا تعقل لما تصدر بواسطتها من التعبيرات الفكرية، كما أن آلة الساعة مثلا لا تدرك حركة الأوقات التي تشير إليها، ولا قراطيس الكتاب الأفكار المسطرة عليها، ومن زعم أن الدماغ يدرك الفكر كمن يزعم أن الساعة تدرك حركة الوقت، والقرطاس معاني الكتابة.
وما لنا نعنت أنفسنا ونكد عقولنا في نقد المذهب المادي، ونقض ما قام عليه من أسس، ولدينا من آراء فحول المادية، ومشهوري الطبيعيين ما يغنينا عن ذلك، ويبين للملأ أن قدرة الخالق ظاهرة في كل الموجودات، وينطق بعظمتها وحكمتها حتى أصحاب الجحود ممن عاشوا في جلودهم، وعبروا عامة عمرهم بين معامل الكيمياء لا يخنعون إلا للظاهر المحسوس، ولا هم يؤمنون إلا بما هو طبيعي ذو أثر بين.
وإنا موردون طائفة من هذه الآراء يستعرضها القارئ الكريم؛ ليجري من بعد ذلك حكمه غير خاضع لمؤثر، أو متنكب سبيل الصواب، وهاك هي:
الأستاذ ميلن:
في جامعة السربون يقول إن الحيوان المسمى إكسيلوكوب من المحيرات للفكر، قال: إن هذا الحيوان يرى طائرا في الربيع، ويعيش منفردا، ويموت بعد أن يبيض مباشرة، فلا يرى صغاره، ويعيش في مكان محكم، حتى إذا حان وقت البيض عمدت الأنثى إلى قطعة من الخشب فحفرت فيها سردابا طويلا، ثم عمرته بذخيرة تكفي صغارها سنة كاملة، وهي طلع الأزهار، وبعض الأوراق السكرية، وتأتي بنشارة الخشب تجعلها سقفا على تلك البيضة، ثم تجيء بذخيرة جديدة تضعها فوق ذلك السقف، ثم تضع بيضة أخرى، وهكذا فتبني بيتها مكونا من جملة أدوار، فإذا تم لها ذلك، ودعته وهلكت، قال الأستاذ: إن الإنسان ليدهش إذ يرى هذه العجائب، ويرى من الناس من لا يزال يقول: إنها كلها نتيجة المصادفة.
باستور:
صاحب التجاريب في الاختمار، سأله سائل: كيف يا دكتور نستطيع أن نوفق بين استكشافاتك العلمية والتعاليم الدينية؟ فأجابه قائلا: اعلم بأن دروسي بدلا من أن تزعزع اعتقادي جعلتني في إيماني كالفلاح البريطاني (وهو مثل فرنسي يضرب لشدة الاستمساك).
هارفي:
مستكشف دوران الدم في البدن قال ما شرحت حيوانا إلا رأيت فيه شيئا جديدا يدل على العناية الإلهية.
الأستاذ جولييه:
يقول إن مذهب لامارك ومذهب دروين يستويان في القصور؛ فإنهما لا يفسران إلا التحول من الحياة المائية إلى الحياة الأرضية، ولا التحول من هذه إلى الهوائية، قال: فكيف استطاع الحيوان الزاحف - وهو سلف العصفور - أن يناسب البيئة التي ليست ولا يمكن أن تكون له إلا بعد أن يتحول من صورة حيوان زاحف إلى صورة عصفور؟ وكيف يستطيع أن تكون له حياة هوائية قبل أن تكون له أجنحة نافعة؟ أما مسألة الحشرة فإنها أشد استحالة من ذلك، فهل هناك أية علاقة من جهة علم الحياة بين الدودة وبين الحشرة الكاملة التي تنقلب إليها؟ لأن الحشرة التي اعتادت الحياة الدودية تحت الأرض وفي الماء، فكيف تصل شيئا فشيئا إلى إيجاد أجنحة لجسمها تصلح لحياة هوائية بعيدة عنها بل مجهولة لها؟!
نيوتن:
دحض آراء الماديين في أربع رسائل كتبها، ثم بعث بها إلى الدكتور «تنبلي».
فون باير:
من أقطاب الفيزيولوجية ومؤسس علم الأجنة قال: إن الرأي القائل بأن النوع الإنساني متولد من القردة السيمائية هو - بلا شك - أدخل رأي في الجنون قاله رجل على تاريخ الإنسان.
دوفري:
يقول إن التحولات الفجائية هي القاعدة في عالمي الحيوان والنبات، وقد أعلن هذه الحقيقة «جوفر» و«سان هيلر» و«كوب» وثبت أن الظهور الفجائي للأنواع الكبيرة الرئيسية كالزواحف والطيور، وذوات الثدي؛ كان في الأرض الجيولوجية، ومتى ظهرت حصلت على صفاتها.
هكسلي:
يعترف في كتابه «داروينا» بأنه يستحيل نقض الألوهية بحسب مذهب الارتقاء، ويقول في مقال آخر: إن من ينكر وجود الإله كما تصوره «سبينوزا» لأحمق، وهو يعترف أخيرا بالقوة الفاعلة القادرة.
دكتور جوستاف جوليه:
يقول يكفي لإبطال النظريات الدروينية أن يتأمل الإنسان الحشرة؛ فإنها ظهرت في أقدم عصور الحياة الأرضية، وثبتت أنواعها في جميع الأحوال، فهي تناقض ما ذهبوا إليه من التحولات المستمرة البطيئة، وتناقض التطور بفعل الفواعل الخارجية، فإنها تنقلب داخل الشرنقة من حال الدودية إلى حشرة طائرة، ولا تأثير عليها من الخارج، كما أن الهوة عميقة بين الحال الأولى - وهي الدودية - والحال الثانية وهي حال الحشرة، وهي هوة تضيع فيها - ولا كرامة - جميع النظريات الدارونية واللامركية، فالحشرة أدت شهادة حسية لبطلان مذهب دروين، كما أثبت عجزه في تفسير غرائزها الأولية العجيبة المحيرة للعقل.
ولاس:
شيخ علماء الطبيعة، وشريك دروين في كتابه عالم الأحياء يقول: إن وجود هذه الأحياء يستلزم وجود قوة مرشدة مدبرة، فيستلزم وجود قوة خالقة، أوجدت المادة على أسلوب يجعل حصول هذه التنوعات من الممكنات ، وثانيا وجود عقل مرشد؛ لأنه لا بد من الإرشاد في كل درجة من درجات النشوء، وثالثا لا بد لهذه القوة الخالقة من غاية ترمي إليها فيما خلقته ودبرته في هذا الكون الوسيع، طوال هذه العصور الجيولوجية الغابرة والحاضرة، وعندي أن هذه الغاية هي الإنسان، هو المخلوق الذي يفهم شيئا من نواميس الطبيعة، ويستقصي أفعالها، ويدرك قيمة القوى التي فيها، ويستنتج منها وجود العقل المتسلط عليها.
دوكلتر فاج:
يقول إن القرابة في التاريخ الطبيعي للإنسان من القردة طبيعية، أن الإنسان في العهد الحفري الرابع وجد مشابها لنا في الصورة (مع أنه كان يجب أن يكون أقرب إلى أسلافه القردة) ثم قال: إننا لا نستطيع أن نعتبر ولادة الإنسان من القرد - أو من أي حيوان آخر - من الأمور العلمية.
جسندي:
سنة 1592 قال: ليس عندي شك في أن الله خلق العالم، إلا أنه لا بأس من معرفة كيف كان يمكن العالم أن يتكون من نفسه.
لامارك:
يسلم بوجود الله، وينسب إليه وجود الهيولي المركب منها الكون، ولكنه يقول: إنه تعالى بعد أن خلق الهيولي بخصائصها لم يفعل شيئا، وإن الحياة والأجسام الإلهية والعقل كلها نتائج الهيولي، ونتائج قواها، فهذا الرجل لا يخالف أهل الدين في وجود الخالق، بل يخالفهم في كيفية الخلق، والرأي عندي أن مذهبه هذا يتفق مع بعض المتكلمين من أهل المذاهب، ويسير مع القدرية أو المعتزلة الذين يقولون: إن الخالق وضع للكون نظاما تنطبق أصوله على مصالح المخلوقين في أفعالهم، قوى وقدرا، تصدر عنها آثارها بطريق التوليد والسببية، أو بطريق الإرادة والاختيار، وهم من هذه الناحية لا يخالفون الفلاسفة في قولهم بلزوم الآثار لمصادرها، أو تأثير قدرة المخلوقين في أفعالهم، باق منهم إلى اليوم طائفة الشيعة الإمامية الزيدية.
سبنسر:
سائلا نفسه: ما هي القوة التي يتحتم بقاؤها؟ أهي القوة التي تؤثر في عضلاتنا، والتي تشعر بها حواسنا؟ كلا بل هي تلك القوة المطلقة المجهولة المستقرة وراء الصور والمشاهدات، ونحن مع عدم إمكاننا أن ندركها فإننا نتأكد من أنها أبدية، لم تتغير ولن تتغير، كل شيء زائل أما هي فباقية أبد الآبدين، وهي علة العلل.
ولقد سئل عالم فيلسوف مؤمن:
ما قولك في مذهب دروين، وماذا نصنع معه؟ فقال: إذا كان من يصنع ساعة يعد عظيما، فالذي يصنع ساعة تصنع ساعة يعد أعظم.
تمحل الأستاذ الزرقاوي لموضوع «العدل الإلهي» فنشر في «جريدة الأهرام» سؤالا عاما وجهه إلى كل من يهمه هذا الأمر، ولما كان هذا السؤال كالزلاقة التي ينحدر عليها كل متورط، وكان أخطر الخطر أن يلقي في روع الناس مثل هذه الريب والشكوك؛ لذلك آثرت الرد على الأستاذ في تريث وهوادة، عسى أن أصل إلى ما ينقع غلة، أو يشفي علة، فنشرت رسائل في «الأهرام» ردا على هذا السؤال، هي بعض هذا الكتاب، وهي جماع آراء وعنعنة أفكار، أكثرها لغيري، وأقلها لي، وفقنا الله وهدانا إلى ما فيه الخير والبر.
وهاك سؤال الأستاذ ...
العدل الإلهي وأين أثره في المخلوقات؟
صورة السؤال الذي نشره الأستاذ الزرقاوي
ألا يرى الباحثون من العلماء والمفكرين أن العدل الإلهي يقضي بأن يكون الناس سواء في السعادة والشقاء؛ أي لا يوجد فارق بين المخلوقات العاقلة بأن تكون المماثلة بين أفراد هذه الأحياء العاقلة على أتمها في التغييرات التي تتعاقب عليها من صحة وسقم، وعلم وجهل، وغنى وفقر، وما أشبه ذلك مما يسمونه سعادة أو شقاء؟
إن الله قادر عادل، ظهرت قدرته في صنعته الباهرة، وتجلى عدله في نظام الكون البديع، وإن العدل الإلهي لمن أبين صفات الله تعالى القدسية، التي ثبتت بالأدلة التفصيلية اليقينية، وإن آثار تلك الصفات لواضحة في جميع الكائنات. فأين هو أثر تلك الصفة العظيمة - صفة العدل - في المخلوقات العاقلة؟ أين أثرها في هذه المخلوقات وقد جعلها الله فريقين؛ فريقا شقيا وآخر سعيدا، جعل الله زيدا ملكا ولم يجعل عمرا كذلك، وأعطى بكرا سعة وحرم خالدا منها، وجعل خالدا أهنأ بالا من هذا الفلاح الذي يكد ويشقى في حرثه وزرعه، ولا ينتج ما يقوم بحاجته من سداد أو عوز، وهو - أي الفلاح - مع ذلك أرغد عيشا من المتسول الذي يمد يده للسؤال، وإن هذا المتسول الصحيح الجسم لأحسن حالا من الأعمى المقعد الذي يستجدي الناس في قارعة الطريق وحر الهجير وبرد الزمهرير، ولم ينل من نصيبه إلا الإيذاء والاستهزاء؟ لماذا سلب نعمة العقل من البعض وأنعم بها على الكثيرين ممن اصطفاهم؟ ولماذا جعل هذا عالما يملأ طباق الأرض علما، أو فيلسوفا يرد الأشياء إلى حقائقها، وجعل الآخر جاهلا لا يعرف الأرض وما طحاها، أو أحمق يزج بنفسه إلى حيث الموارد المهلكة؟ لماذا كل هذا التفاوت في المخلوقات العاقلة وهي صنعة واحدة والصانع واحد، ومن صفاته القدسية الحكمة والعقل؟
ستقولون إنه سبحانه وتعالى - جل اسمه وتقدست ذاته - مقسم الحظوظ، مطلق التصرف في ملكه، يعطي من يشاء، ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون، فأقول: نعم، وأنا مؤمن بذلك كل الإيمان، ولهذا فإني لا أسأل عن شيء فعله لماذا فعله؛ اعتقادا بأنه سبحانه فعله عن حكمة، كما لا أسأله عن تصرفه المطلق سبحانه وتعالى لماذا كان هكذا؛ فإني موقن بأنه صادر عن حكمة أيضا، وإنما أنا أسأل العلماء والحكماء والفلاسفة عن الحكمة نفسها؛ ما هي تلك الحكمة؟ أي لماذا اختص الله سبحانه فريقا بالسعادة وفريقا بالشقاء، هذا هو سؤالي، وهو ما أطلب الإجابة عليه من الفلاسفة والحكماء عامة ومن علماء الإسلام خاصة. لا تقولوا إن نظام الكون يقضي بأن يكون هذا غنيا وهذا فقيرا، وهذا عالما وهذا جاهلا، وهذا مبصرا وهذا أعمى ... إلى آخره؛ فإني أقول وما ذنب الفقير؟ وما ذنب الجاهل؟ وما ذنب الأعمى؟ ولماذا كان هؤلاء الضعفاء هم الذين يبنى عليهم نظام الكون، ويحملون عبأه وهو ثقيل جدا؟ الحق أن ما تجيبون به عن هذا السؤال لا يشفي غليلا، ولا يهدي حائرا، فهل من إجابة تشفي الصدور وتهدي الحائرين؟
الزرقاوي الفلكي
العدل الإلهي وأين أثره في المخلوقات
ما كل ما يعرف يقال، ولا كل ما يقال جاء أوانه، ولا كل ما جاء أوانه حضر أهله.
الإمام علي
الشك أول خطوة من خطوات اليقين، وليس من يقين ثابت صحيح إلا بعد أن يخطو صاحبه هذه الخطوة الأولى، ويقطع مرحلة صعبة مدرجة، عامرة بالريب والشكوك، وما من مخلوق إلا ساوره الشك، وانتابته الريب؛ في تفكيراته، وتأملاته، ومناجاة نفسه، بيد أن هناك فرقا بينا بين شك وشك، وعمى وعور، ذلك بأن بعض الذين ضلوا والذين في قلوبهم مرض يعميهم الشيطان، فيحول بينهم وبين نور الحق.
على حين أن طائفة من أهل التفكير تقطع مرحلة الشك هاته سراعا، وتمر بها على عجل، ثم تعود إلى الطمأنينة الأبدية والسعادة التامة، ولقد نعت المولى - جل وعلا - في القرآن الكريم النفس بنعوت ثلاثة: (1) فوصفها بأنها أمارة بالسوء. (2) ثم بالنفس اللوامة. (3) ثم: )
يا أيتها النفس المطمئنة * ارجعي إلى ربك راضية مرضية * فادخلي في عبادي * وادخلي جنتي ( . وهو دليل ما تقطعه النفس في سبيل تدرجها من حال إلى حال، حتى تبلغ الكمال، هنالك الولاية لله.
أنا أفهم أن إنسانا من مخلوقات الله عبر عامة عمره بين جدران المعامل، يحلل ويركب في المادة، فيستظهر قواها، ويتعرف أشكالها وحالاتها، ويهتك مساتير الطبيعة، فيكثر علمه، ويزيد على عقله، ويضعف عقله، ويصبح لا يقوى على تحمل هذا العبء الثقيل، فيضل ويتخبط خبط عشواء، فيكون له من ذلك شبه عذر، ويقال: معذور لأن عضل عقله لم يستحمل ثقل مسائله العلمية.
وأفهم أيضا أن فيلسوفا كبيرا عكف على تعرف حقائق الأشياء على ما هي عليه، فأطلق لنفسه العنان في تأملاته فشك أولا، ووقف ملاوة من الدهر بين الحالتين، حالة الشك وحالة اليقين، ثم عاودته الهداية فاهتدى وكان من المخلصين، وهذا معذور أيضا؛ لأن الشك أول خطوة من خطوات اليقين، ولأن الإيمان بالوراثة أو باللقاح غيره بعد شك وتأمل وتفكير.
ولكني لا أفهم معنى لهذه النغمة النكراء، ترسلها أقلام بعض المتبجحين، وتلوكها أفواه بعض المارقين المتشائمين؛ لمرض في أنفسهم أو ضعف في أعصابهم، أو غرض يسعون إليه، على أني أستنكر على هؤلاء أن أسميهم ملاحدة أو ماديين، والماديون ناس لهم تفكير، ولهم عقل، ولهم من بعد ذلك مذهب له قيمته من الخطأ أو الصواب، أما أصحابنا فمقلدون، عمي في تقليدهم، سمعوا أن جيلا من الخلق أو طائفة من الناس يقولون بكذا، فساقهم ذلك إلى أن يخالفوا فيعرفوا، وكان البلاء عاما وشاملا، أولئك يعيشون في جلودهم، فلا ترتفع أبصارهم إلى ما فوق الحس، ولا تتعرف بصائرهم غير المحسوس.
الله عظيم، وهو صانع حكيم، فإذا كنا لا ندرك عظمته المتجلية في مخلوقاته، وإذا كانت حكمته فوق عقولنا الهيولانية، فليس هذا يمنع من وجود هذه الحكمة، تريد أنت أيها المخلوق الضعيف أن تهيمن على كل شيء، وتتعرف حكمة كل شيء، ولكنك لو أدركت حكمة خالقك في كل شيء لما كان بينك وبين الخلاق من فارق. الله أكبر، فإذا كان المكتب الذي تجلس خلفه يدرك حكمة صانعه النجار، وهندسته، وما في عقل هذا الصانع من صور وأشكال، إذن لكان هذا المكتب والنجار سواسية، فنسبة المكتب للنجار كنسبتك للخلاق جلت قدرته (وهذه نسبة تقريبية؛ قياس مع الفارق).
قالوا: إن اللذة والألم خطان طويلان، ولم يعرف للآن الحد الفاصل بينهما، فاللذة نسبية والألم نسبي، والسعادة من بعد ذلك نسبية أيضا، وأنت ترى الغني وعلى مائدته ألوان الطعام والشراب، وترى داره عامرة بالأموال فتظنه سعيدا، على أنه قد يكون أتعس من متسول يتسكع في الطريق، تعلوه أثواب رثة خلقة، يملأ بطنه بفتات العيش وفضلات الآكلين، ثم يفترش الغبراء، ويلتحف الهواء والزرقاء، هادئ البال مطمئن الخاطر، غير مشغول بهبوط أسعار القطن، ولا هو مهموم من كدر الحياة، ومتاعب الدنيا.
تعب كلها الحياة فما أع
جب إلا من راغب في ازدياد
ولقد بحث الحكماء والفهماء والعلماء عن السعادة فلم يهتدوا إليها، وليست هي في المال ولا في الجاه، ولا في شأن من شئون هذه الحياة، أو عرض من أعراض هذه الدنيا، وإنما هي في الطمأنينة، هي مع النفس المطمئنة.
على أن عقولنا - على قدر ما تستطيع أن تدرك - لها أن تعلل الشقاء في هذا العالم - وهو نسبي أيضا - بعلل كثيرة، منها: أنهم قالوا إن المصائب في هذا العالم ترقي النفس وتصهرها، وإنه لا ارتقاء من غير ألم أو كدر ونكد.
ومنها باب تناسخ الأرواح، وقد لا يقره البعض، على أنه يفسر هذا الموضوع تفسيرا لا ريبة معه، ولا شك فيه، ذلك بأن النفس إنما تتدرج من مرتبة إلى مرتبة أرقى من الأولى، كما يتدرج الطفل من آلي الفصول الدراسية إلى عاليها، فإذا لم ينجح في امتحان عاد الكرة، وبقي في تعذيب وكروب، حتى يبلغ شأوه، ولمسألة التناسخ أقاويل كثيرة لا يتسع لها المقام، ومن له أذنان للسمع فليسمع!
ألا إن هذه النغمة النكراء لبدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
اعتراضات وتأملات
لكل إنسان وجهة هو موليها، لا يحيد عنها يمنة ولا يسرة، وما نحن بقادرين على أن نغير أو نبدل من مبادئ الناس، ومعتقدات خلق الله، ولو طالت الأيام، وحفت الأقلام، بيد أنا مع ذلك نحاول أن نخفف ونلطف من وقع المصيبة التي قذف بها الزمن في وجوهنا، وفي هذا العصر، عصر الضلالة والبدع، عصر التبجح والاستهتار بالدين الحنيف، فلا كنا ولا كان وجودنا، ألا بئس ما يقرءون.
أما وقد ألمعنا إلماعا في ما أسلفنا من الكلام عن العدل الإلهي، وأثره في المخلوقات، فإنا نريد أن نتبسط في الحديث، ونسترسل في الكلام عن العدل الإلهي، فنجيء بلمعة من معترضات منكري الأديان، ثم نعقب عليها بما يعن لنا، أو بما يقع بخاطرنا، وما يصل إليه تأملنا فنقول: سيقول الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر والذين يقولون: «إن هي إلا أرحام تدفع وأرض تبلع.» نعم سيقول هؤلاء قول الفرية والبهتان: إن أعمال الطبيعة صادرة كلها عن قوى مادية تفعل فعلها، آليا (ميكانيكيا) ومن غير عقل ولا تدبر، تحت حكم وهيمنة ناموس التجاذب والتدافع، فتتجمع ذرات الجسم، وتنحل وتنشأ النباتات وتنمو وتتوالد، ويحدث نموها وأزهارها وأثمارها وتلوينها، كل ذلك يكون ويحدث بأثر مؤثرات فعالة، هي الحرارة والرطوبة، والنور والكهرباء، وهكذا قل عن أجسام الحيوانات وبني آدم. وأما الأجرام الفلكية فتتكون بفعل تجمع دقائق الأثير، وتنتقل في سيرها بقوة الجاذبية.
قالوا : فنظام كهذا لا يدل على علة عاقلة حرة؛ لأن الإنسان يحرك يده متى شاء وكيفما شاء، وأما من يحركها في ناحية واحدة من يوم أن يولد إلى أن يموت فإنما يكون آلة لا عقل لها ولا إرادة، ذلك هو شأن القوى الطبيعية، فإنها آلية محضة لا تتغير، تعمل على سنن واحدة ونسق واحد، عام شامل منذ الأزل.
نقول: هبك وجدت ساعة في صحراء أو بيداء، فإنك على التو تحكم بأنها ليست من عمل الصحراء، ولكنك تحكم بأنها مصنوعة، وأن صانعها مفكر، وله إلمام بالفن والصناعة، يريد ويعمل ... إلخ. ذلك بأنه لا يمكن عقلا أن توجد ساعة بدون «ساعاتي» فوجود الساعة وصناعتها بإحكام وحذق وتعقل إنما يدل على ما لصناعتها من هذه الصفات، وعلى مهارة وقدرة وإرادة الصانع، لقد دل الأثر على وجود المؤثر.
فكرة وجود الله
إنما يستدل على كل شيء بأثره، ولقد فصل الطوفان بيننا وبين الإنسان الغابر، ولم نعرف من أعماله وشئونه إلا ما حفظته لنا الكتب المقدسة، ولا تهيأ لنا أن نتعرف مدنيات تلك الأجيال إلا بعد أن استكشف العلماء مصنوعات غليظة، ألفوها في الطبقات المتعلقة بتلك العصور.
هنالك عرفنا مقدار ما وصل إليه عقل إنسان هذه العصور، وهنالك أمكننا أن نقدر مقدار ما بلغت إليه مدينة من الكمال النسبي، وهو ما نذهب إليه من القول بأن الصنعة دليل على الصانع، والأثر على المؤثر.
نقول: إن المقبول عقلا، والمألوف المعروف أنه لا بد لكل معلول من علة، ولكل مسبب من سبب، إنما عظمة العلة وقوتها وأهميتها تكون بمقدار عظمة وقوة وأهمية المعلول، ولو كانت العلة خفية غير ظاهرة، فما كان عدم ظهور العلة بمانع لوجودها، ولا حائل دون فعلها وأثرها، ولنضرب لذلك مثلا: إنك وأنت واقف تتطلع إلى الجو، آنست طيرا يحلق في الفضاء، فاستلفت نظرك واسترعى بصرك، وبينا أنت على هذه الحال إذ بالطير هذا يسقط من شاهق برمية رام لم تره.
هنالك لا بد وأنك تحكم بأن إنسانا يحمل «بندقية» أو مسدسا قد صوب هذا الطير، وأن هذا المصوب ماهر حاذق مبصر ذو دربة، والواقع أنك حكمت هذا الحكم عقلا وحسا، ولو لم تر الضارب؛ لأن حالة رأيتها لا بد أن تشغل حيزا في ذهنك، ولأن هذا الحكم هو المقبول عقلا.
وأنت حكمت على أن هناك فاعلا، وأنه ماهر أو مبصر؛ لأنك رأيت أثر ذلك في فعله، ولو لم تره، ذلك شأن العاقل الذي يريد أن يستدل على وجود الله - جل شأنه - بآثاره في مخلوقاته.
أين السعادة؟
كل من في هذا الوجود ينزع إلى غاية، ويسعى بكل ما فيه من حول وطول لتحقيق هذه الغاية، ولو أنك سألت الطفل في مهده، واليافع، والرجل الكامل، والكهل والشيخ: ماذا يحب؟ لقال لك على التو إنه يريد أن يكون سعيدا، فالناس في هذا الباب سواسية، ينتهون عند غرض واحد يتناضلون عليه، ومسعى واحد يسعون إليه.
ولئن كانت غايتهم واحدة، ومقصدهم واحدا فإنهم يختلفون في تحقيق هذه الغاية، وفي سلوك السبيل الموصلة إليها، تنوعت الوسائل والغاية واحدة، ألا وهي السعادة، واختلف سبيل الوصول إليها باختلاف ما في الناس من مزاج واستعداد ونظر.
فالمالي يجد سعادته في جمع المال، والسكير في كأس خمره، والمتدين في نسكه وصلواته، وهي كلها لذائذ نسبية، تختلف باختلاف الميول، وإن اتفقت الغاية.
ولقد عبر العلماء والحكماء عامة عمرهم يبحثون عن السعادة، فلم يلقها إلا القليل؛ إذ ليست السعادة في المال، ولا في الجاه، ولا في القوة، ولا في النفوذ، ولا في عرض من أعراض هذه الدنيا، وإنما هي في راحة الضمير، وطمأنينة القلب.
أجل، لقد ضل من يحاول البحث عن السعادة في كل مكان حوله، ولئن كان هذا عجبا فأعجب منه من يتطلبها في مظهر من مظاهر هذه الحياة، ويظن أنها بعيدة عنه.
وما هي إلا فيه، ولكنها نسبية، والسعادة الحقيقية ليست فيما تطلبه ولا خارجة عنه، وإنما هي فيما يرضي الله من عمل الخير، وقول الصدق، ونحن نسأل عنها في كل مكان، ونتفقدها كضالة منشودة هنا وهناك، وهي بمقدرتنا ومعنا، ولكن لا نراها ولا نحس بها، كم من سعيد بماله أو جاهه أو مكانته وهو شقي بنفسه! وماذا ينفع الإنسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه؟! وأنت تستطيع أن تكون سعيدا وما ينقصك شيء مما يلزم لذلك إلا أن تكون فيك نفس طيبة، تسعى للبر والخير، وتعمل لإدراك كمالاتها.
وإنما توارت هذه السعادة، وفاتت هذه اللذة كثيرا من خلائق الله، وما أدركها إلا الذين أخلصوا، وولوا وجوههم شطر الحقيقة، هنالك يتبين الوجدان الطاهر، وهنالك تكون النفس آمنة مطمئنة، قد رجعت إلى ربها راضية مرضية.
نجتزئ بما أسلفنا من قول في هذا الموضوع، ولعلنا نعذر إذا انتقلنا إلى اعتراض آخر من اعتراضات اللادينيين فنقول: ربما قال بعضهم: إذا كان الله موجودا فينا وفي كل مكان، فلم لا نراه ولا نحس به، وهل نراه بعد الموت؟ والجواب ...
في الروح
إنا نقول: والوجه في ذلك أننا بما فينا من حواس مألوفة معروفة، ليس يمكننا أن ندرك الخالق جل شأنه، ولكن حاسة أخرى نحن بحاجة لها لندرك ذلك، وهذه الحاسة لن تخلق فينا إلا بجهد وجهاد، وعناء وكدح؛ ولذلك سبل متعددة، فالعالم أو الفيلسوف يتبعها من طريق توسيع دائرة معارفه، فيعكف على البحث والتحصيل وإدراك خواص الطبيعة وماهياتها وكيفياتها، ثم هو من بعد ذلك يخلو بنفسه؛ ليطلق لها عنان البحث والتفكير والتأمل وهذه سبيله للوصول؛ أي إنه يريد أن يصل إلى الحقيقة من طريق العقل. وأما المتدين فإنه يريد أن يصل إلى ذلك من طريق الصلاة والصيام والاعتكاف على التنسك والتعبد. وهناك من يسعى إلى ذلك من طريق إدراك الوجدان، وهو عندي أقرب طريق موصلة إلى هذه الغاية، وأصحاب هؤلاء هم المتصوفة.
ومهما يكن من الأمر فإن حالة كهذه لا يدركها المرء إلا بعد أن يلقى صعوبات لا بد من تذليلها؛ حتى يصل إلى نشدانه، هنالك لا يبلغ هذه الدرجة مريد إلا بعد أن تبلغ روحه درجة النقاء.
إذن فلا يمكن لمخلوق - مهما كان - أن يصل إلا بعد بذل جهد شديد، وإنما من مقدمة برهان وجوده تعالى نستطيع أن نستدل على صفات ضرورية فيه لا يمكن بغيرها أن يكون إلها، وهذه مسألة من أعظم المسائل الدينية، نقول: وأهم هذه الصفات وألزمها أنه سبحانه وتعالى أحد أزلي، غير مادي، ممتنع التغير، ضابط الكل، غير متناه في الوجود والعدل وسائر الكمالات.
وإنما يقصر عقل الإنسان ويكون فوق قدرته أن يدرك عدم تناهي الله، وليس لذلك من سبب إلا تأخره العقلي والأدبي، فيتصور المولى - جلت قدرته - محدودا، ويتصور له صورا متشابهة له، ويتصوره جالسا على عرش رفيع في أعلى السماوات لا يليق به التدخل في أمور صغيرة حقيرة.
قالوا: فلنتصور سيالا في منتهى الدقة واللطافة ينفذ إلى الأجسام والكائنات بأسرها كما ينفذ الجسم الروحاني في الجسد الهيولاني في كل أجزائه، على أن الجسم الروحاني ليس في ذاته عاقلا، بل هو موصل لأفكار الروح والعامل الناقل لإحساسها وإدراكها، فمادته السيالة تتشرب على نوع القول فكر الروح، فتصير معه واحدا كما يصير الهواء مع الصوت واحدا، قالوا: فكما نقول مجازا: دوي الهواء، وهزيج الريح، هكذا يسوغ لنا بطريق المجاز أن ننسب للمعلول ما للعلة، فنقول عن السيال الروحاني: إنه عاقل، والسيال الروحاني هذا بذاته لا يعقل، وإنما يعقل بسبب وعلة أخرى.
قالوا: إن أعيننا الجسدية محدودة في شعورها وكثير من العوامل المادية تفوتها، وإنا مثلا نرى مفاعيل الوباء، ولا يمكن لنا أن نبصر العامل الذي ينقله، مع أننا نؤمن بوجوده ونحس بفعله، ونشاهد الأجرام الفلكية تسير بقوة الجاذبية ولا نرى بأعيننا ولا بنظاراتنا المكبرة هذه القوة، أما الأشياء الروحية فلا يمكن أن نراها إلا بأعين النفس، هنالك الرقي الكمالي، وهنالك نرى الحقيقة. قالوا: مثل ذلك كإنسان مستقر في واد عميق، يكتنفه ضباب من كل جانب، فلا يرى الشمس، وإنما يتحقق وجودها من انتشار بعض النور حوله، فإذا طفق يصعد في الجبل ازداد النور حوله وضوحا على قدر ارتقائه، ومتى تعالى فوق الضباب الكثيف، وبلغ الهواء النقي أبصر الشمس في كل جلائها، هكذا فإن النفس كساؤها الروحاني ولئن كان خفيا عن نظرنا لتناهي لطافته إلا أنه في نظر النفس مادة غليظة، تعوقها عن شعور كثير، فهذا الكساء يزداد دقة ولطافة على قدر ترقي الروح الأدبي؛ لأن نقائص النفس كطبقات ضبابية تحجب نظرها عن رؤية النور. أما الأرواح الناقصة فلا تشاهد الله؛ لأنها محجوبة عن رؤيته بنقص الاستعداد فيها لذلك.
الخير والشر
يقول فيلسوف اليونان الكبير أرسطو: «ليس في العالم شيء هو خير بذاته، ولا شيء هو شر بذاته، بل بالوضع، وقد ينقلب الخير شرا، والشر خيرا، فلا تكون هنالك حقيقة.»
نقول: فالرأي عنده أن الخير والشر نسبيان، وأن كل واحد منهما إنما يعتبر خيرا أو شرا بالنسبة للمكان وللزمان والأحوال التي تحوطه، وليس هذا ببالغ بنا إلى ما نصبو إليه، وإنما نحن نريد أن نتمشى مع أصحاب المذهب المادي في القول بالخير والشر والثواب والعقاب، وفي الكلام على المسئولية وتوقيع العقوبة، فنقول إنهم يتساءلون: إذا كان الشر نتيجة نقائص في الإنسان، فلماذا خلقه الله ناقصا؟ أما كان في وسعه - جلت قدرته - أن يبدعه كاملا، فينتفي بذلك الشر، وينمحي وجوده من على الأرض؟
ونقول: ليس بغريب ولا بعيد أن نسمي الشر عدم الخير، فنقول إن عدم وجود الخير إنما هو وجود للشر، وامتناع الخير من مكان إنما هو إطلاق لدواعي الشر، كما نطلق مثلا البرد على عدم وجود الحرارة، فإذا وجدت الحرارة انعدمت البرودة.
والله هو الخير المحض، فهو لا يريد إلا الخير، أما الشر فمصدره الإنسان، قالوا: ولماذا لا يكون الشر أثرا من آثار الطبيعة، ونتيجة لازمة لها؟ قلنا: وهذا بعيد غير معقول ولا مقبول؛ لأنه لو كان الشر من نتائج الطبيعة لما أمكن الإنسان - مهما حاول - أن يتجنبه ونحن نعلم - علم اليقين - أن الإنسان بما فيه من مواهب واستعدادات يستطيع أن يحول الشر ويتفاداه ويقاومه، ويجد له مخرجا ومفازة للنجاة من هلكته.
وإنما الوجه في ذلك والصواب المعقول أن الإنسان هو الذي يخلق الشر، وأنه مبعث المفاسد، وموئل الرذائل، ومصدر الظلم بحسب اتصافه به وظهوره منه.
أما أن يخلق الله - جلت حكمته - الناس كاملين خيرين بعيدين عن كل نقيصة، فإنما هذا لا يكون مع الحكمة الإلهية العالية، وليس ما يساكن وجداننا، ويلازم أفكارنا من فكرات «وشطحات» ليس هذا من الحكمة في قليل ولا كثير، وإنما أراد الله بحكمته وعظمته وتدبيره أن لا يعطي المخلوق الكمال مجانا وجزافا، ولو فعل سبحانه وتعالى لما استطاع الإنسان أن يقدر هذه النعمة حق قدرها، ولا وجد فيها لذة صحيحة ممتعة.
فكما أنك لا تستطيع أن تقدر الصحة حق قدرها، وتعرف لها قيمتها - والصحة تاج على رءوس الأصحاء لا يراه إلا المرضى - فكذلك أيضا أنت غير قادر على تقدير قدر هذه النعمة - نعمة الكمال - إلا بالكد والجد والنشاط للعمل.
بل لو كان المولى - جل شأنه - قد وهبنا الكمال بادئ بدء، وتركنا في كمالنا على هذه الحال، إذن لتعطلت الحياة، ووقفت الحركة العامة الناتجة عن ترقي العوالم والكائنات، وأصبح هذا الكون خاثرا بائرا، لا حركة فيه ولا حياة.
وإنما أراد الله تعالى - بحكمته ولطفه - أن تكتسب النفس كمالها بجدها وعملها، وأطلق لها حرية مخيرة تميز بين الخير والشر، وتدرك غايتها بسعيها وجدها وكدها.
هذه حكمة المولى، ونحن ما زلنا في هذه الحياة نتلمس الحقيقة من منابع العلم ومناهله.
حقائق الأشياء
انتهى بنا الحديث في الكلمة السابقة عند حد القول بأن لله حكمة في خلق المخلوقات ناقصة أنفسهم، محتاجة أرواحهم إلى الكمال بالجد والعمل والكد، وقلنا: إن الله - جلت قدرته - لو كان قد خلق المخلوقات كاملة تامة لا يعوزها الجد والنشاط والعمل لإدراك كمالاتها؛ لما كنا نشعر بلذة الحياة الأبدية والسعادة الحقيقية. انظر كيف تعيش طوال حياتك والصحة تلابسك والعافية تحدوك، ولكنك لا تقدر هذه الصحة قدرها، ولا تحس بلذة هذه العافية إلا بعد أن تذوق ألم المرض.
ولقد يخامر بعض الناس الشك في حكمة الخالق - جل وعلا - إذ يولون وجوههم شطر عالم الحيوان، وما ينتابه من وحشية وفوضى، وتسلط القوي على الضعيف، واجتياح الشديد كل ما يقع عليه نظره من هزيل مسكين، هنالك حيث يقع ما يسمونه تنازع البقاء وبقاء الأنسب.
على أنا قد أسلفنا القول بأننا ننظر في حكمة المولى بعيوننا، ونريدها أن تكون على أقيسة أدمغتنا، ولكن عقولنا الهيولانية هذه ضئيلة ضعيفة، لا تقوى على إدراك كنه حكمة الخالق، وإننا بحاجة إلى حاسة أخرى غير الحواس التي ألفناها واعتدناها، حاسة روحانية عالية تساعدنا على الوصول إلى إدراك ذلك. فإذا نظر الإنسان بعقله الضعيف الضئيل هذا إلى ما في عالم الحيوان من تناحر للبقاء، وتنازع على العيش، وقتل القوي كل ضعيف تقذف به الظروف أمامه؛ ليقتات به، وليحفظ كيانه هو من فريسته هذه، قال في نفسه: وأين الحكمة الإلهية إذن في هذه الفوضى؟ وأين العدالة التي يدعونها ويترنمون بها؟ نقول: والرأي عندنا أننا نعيش مع الوهم في كل ما يعتورنا في هذه الحياة وفي أنظمتنا وأقيستنا ومعلوماتنا ومعارفنا، نقول: إننا في كل ذلك نعيش مع الوهم والوجدان أكثر مما نعيش بالتحقيق والعقل؛ فإن القوة الواهمة غالبة علينا، وإن تيار الوجدان متحكم فينا، يقع نظرنا على إنسان يذبح طيرا أو كبشا فيجسم لنا الخيال ما يكون لهذا الحيوان من شديد الألم، وبالغ الشقاء، والرأي عند بعض الفلاسفة أن الذبح لا يؤلم أبدا؛ لأن الذبيح يؤخذ فينسى نفسه.
يقول ولس في حالة الذبح وفي حالة شعور الذبيح: إنه إحساس بالدفء، نوم عميق، نسيان أبدي.
يقول بعضهم: كيف يمكن لخير حقيقي أن ينشأ من شر ظاهر؟ نقول: وإنما مدار اللائمة ومستقر الذمة، أننا مع ما نحسه من نقص فينا نريد أن نحاول معالجة كل ما يقع بخاطرنا من فكر وتخيلات. إننا نفكر. فنحن أحياء بالروح والجسد، وما هي الروح وما هو الجسد؟ نسبة الروح للجسد كنسبة الجسد للثوب الذي يعلوه، وإنما هذا الجسد كثياب أو كدثار، ندثره أو نلبسه من وقت إلى وقت، فإذا انقضت هذه الفترة خلعنا هذا الجسد كما نخلع الثوب إذا رث وخلق. ليست ثمت قيمة لهذا الجسد أبدا، وإنما القيمة الحقيقية والماهية الشخصية إنما تقوم بالروح، وهو الجوهر الحقيقي للحياة، تلك الروح السابقة واللاحقة للجسد، فماذا تكون أهمية ثوب تلبسه ثم تخلعه بعد حين؟ إلا أننا في حياتنا المادية نغلو في التعلق بالماديات، ونعيش مع الخيال والوهم، ونخشى الموت، والموت إن هو إلا خلع هذا الرداء المادي وخروج الروح من حبسها، وانطلاقها في العالم الروحاني الذي استعدت له، وسرورها بهذا الفراق وهذا الانطلاق كسرور الطير حبسته في قفص ردحا من الزمن ثم فتحت له باب القفص، فتنفس الصعداء، وخرج يحلق في الفضاء، فلا خوف من الموت ولا جزع من الفراق، وإنما من وراء ذلك، الحياة الحقة والسعادة الأبدية.
الأرض بالنسبة للوجود الكلي
العلم: هو الصورة الماثلة من الشيء عند العقل. وهو قسمان: (1) تصديقي. (2) وتصوري. (1) فإن كان إدراكا للنسبة التقريبية على سبيل الإذعان فتصديق. (2) وغير ذلك تصور. والعامة من الخلق، والكافة من أهل كل جيل يأتيهم العلم من تلك الناحية أو عن طريق النوع الأول، أي من طريق الإذعان والتصديق، وأما الخاصة من الناس فيأتيهم ذلك عن طريق التصور والتأمل والتفكر، ولنتبسط في الحديث قليلا، ونلمع بالكلام إلماعا؛ لنطلع القارئ على شيء من عظمة الكون، وندله على أن عالمنا هذا الذي نعيش عليه إن هو إلا كحبة طافية في محيط الوجود المطلق فنقول: إذا سألت صبيا أو جاهلا عن الدنيا ما هي؟ أجابك على التو: إنها مصر، هذ البلد الذي نعيش فيه، ولو أنك وجهت السؤال هذا إلى رجل عادي ممن له إلمام بشيء من أخبار العالم لصور لك الدنيا بأنها مصر ولندن وباريس وأوروبا، وهكذا كلما ساءلت إنسانا أرقى زادك علما بشيء أكثر، وتوسع في تعريف العالم، فالعالم عندنا والدنيا عند الخلق صورة تقريبية تتسع مع ماهيتنا الإدراكية، وتتناسب مع مبلغ علمنا، وما حصلناه من معرفة، وكلما كان الموجود عظيما كان الموجد أعظم، وموجد هذا الوجود لا بد له من أربعة أمور، وهي: (1) الوجود؛ إذ لا بد أن يكون موجودا. (2) والقدرة؛ إذ لا بد أن يكون قادرا على إيجاد هذ الوجود. (3) والعلم؛ إذ لا بد أن يكون عالما بما يصنع. (4) والإرادة؛ إذ لا بد أن يكون قد صنع هذا بإرادة وإحكام وتدبر، هذا هو الواجب الوجود مطلقا.
ولقد يؤمن المؤمن بقدرة الله التي لا حد لها، ويعلم أن من حق إيمانه أنه يؤمن بالقدرة اللانهائية لواجب الوجود مطلقا، وإنما يكون ذلك من طريق الوجدان، ولقد يتأمل المتأمل، ويفكر العالم، فيضل بعقله، ويشذ بعلمه، فالأول آمن مطمئن النفس مرتاح البال، طيب الحال، أما الآخر فقد يشقى بعقله، وقد يضل بعلمه.
نقول: ولقد كانت أبحاث الفلسفة قديما مقسمة إلى قسمين اثنين: نظري وعملي، والنظري ينقسم إلى طبيعيات ورياضيات وإلهيات.
والعملي إما أن يتناول أعمال الإنسان وأحواله، ويسمى علم الأخلاق، وإما أن يتناول الإنسان، هو وأهل بيته، ويسمى تدبير المنزل، وإما أن يتناول الإنسان مع أهل مدينته، ويسمى علم السياسة.
فالذين يريدون أن يصلوا إلى الحقيقة من طريق العلم والعقل لا بد لهم من دراسة هذه العلوم، ثم إتباعها بالعلوم المحدثة والفروع الكثيرة، والعلم خاضع لناموس التطور والارتقاء - كغيره من الأشياء - وكل يوم يتدرج صوب الكمال النسبي خطوة، وهو مع ذلك ومع ما قطعه وعبره من عمره الطويل لا يزال في مهده.
سيقولون لقد اخترع المخترعون، واستكشف المستكشفون، فأشرقت الأرض بنور ربها، وزها العلم وترعرع، فغاص الإنسان عباب الماء، وحلق في الفضاء، وسخر الهواء، فما بعد ذلك من علم، وما وراء ذلك من مدنية. سيقولون إن إنسان الزمن الغابر لو أنه أتيح له أن يبعث فوقع نظره على ما وصلت إليه حضارة اليوم، ومدنية العصر الحاضر؛ لظن أن هذه الأرض قد صارت جنة النعيم، فصارت أحرى بالملائكة تسكنها لا بالإنسان الذي لا يزال يظلم ويعيث في الأرض فسادا.
أما نحن فلا نزال نعتقد أننا ما زلنا نعيش في حجرة مظلمة، ملأى بما نرتطم فيه من أشياء نظنها حقائق، وهي بعد خاضعة لناموس التطور والتحول، بين تغيير وتبديل، انظر إلى ما أحدثه استكشاف الراديوم من تغيير وتبديل في جو المعارف، ثم انظر إلى ما أحدثته نظرية النسبية للعلامة «أينشتين» وما كان متغلغلا في أدمغة الناس، مرتكزا في فطرهم قبل أن ينادي غاليلي بما نادى به، واحكم على قيمة الحقائق العلمية ومقدار ثباتها.
لقد كانت المعرفة محصورة في دائرة ضيقة، وكان العلم في نطاق محدود، ثم انفرجت زاوية العلم شيئا فشيئا حتى بلغت مبلغها من السعة، وسنعالج البحث في مكانة الأرض من الوجود، وما فيه من عوالم في المقال التالي.
حول الكون
قلنا في غير هذه الكلمة إنه كلما كان المصنوع أتم وأتقن وأهم وأعظم كان الصانع أعظم وأقدر على الصنع والإبداع، والآن نريد أن نعاود الكتابة ونعالج الموضوع من هذه الناحية، ناحية عظمة الكون؛ لنكون على شيء من العلم بهذه العظمة، فنقول: إن المعلوم لنا أن الأرض كبيرة جدا، وأنها هائلة عظيمة، بيد أنها حيال عظمة الكون لا تذكر في مقدمة ولا ساقة، ولدى التحقيق العلمي - على قول بعضهم - ليست بالشيء الذي يذكر إلى جانب العوالم التي لا يقع عليها حد ولا حصر، تلك العوالم التي لا أول لها يعرف، ولا آخر يوصف.
نقول إن محيط الكرة الأرضية يبلغ 23700 ميل، وإنها تبعد عن الشمس بمقدار 92000000 ميل تقريبا، وإن النور يقطع مسافة البعد بين الاثنين في 8 دقائق.
نقول: ولعلك آنست في الجو، وفي ليلة صافية خالية من السحاب؛ شيئا كأنه سائل لبني أو كأنه تبن، إذا كنت رأيت ذلك في ليلة صافية فإنه المجرة، ويسمونها طريق التبانة، ويطلق عليها الإنكليز اسم: «الطريق اللبني»، أما أصحاب الدين فيسمونها أبواب السماء، وشمسنا واحدة من شموسها، وأنت تراها رأي العين، تعترض الجو من الشمال الشرقي إلى الجنوب الغربي.
نقول: ولقد تطورت العلوم، واتسعت دائرة المعارف، وانفرجت زاوية الفكر، فزاد ذلك البصيص الضئيل من النور العلمي الذي يضيء جوا نعيش فيه، ونحضر مواقفه. ذلك بأن علم الفلك قد تقدم تقدما حثيثا بفضل المخترعات والاستكشافات، وبفضل ما أيده به العلم من المعدات التي تساعده على نيل حظه في المعرفة والبحث.
ولقد كان المعلوم المعروف، الذي يلقنه الأساتذة لطلاب العلم في معاهد العلم من أربعين سنة خلت أن الشموس التي وصل العلم إلى معرفتها في تلك المجرة لا تزيد على 18 مليون شمس، أما الآن - وفي هذا العصر - فقد عرف العلم من الشموس ما يبلغ 242 مليون شمس.
هذا عدد ما وصلت إليه المعرفة، وما بلغه العلم من حيث الشموس، وقد يزداد الاختراع، وتزداد معرفة الإنسان، فتظهر الشموس وشموس أخرى غيرها، كما ظهرت في الماضي، وقد يكون لكل شمس من هذه الشموس سيارات وتوابع.
يقول الدكتور «هيل»: إنه رأى في ألواح التصوير المتصلة بالتلسكوب الأكبر - البالغ قطر مرآته 100 بوصة - نحو ألف ألف سديم، يبلغ بعدها عنا (140) مليون سنة، ولقد أسلفنا القول بأن نور الشمس يصل إلى أرضنا أو يقطع المسافة الواقعة بين الشمس والأرض في 8 دقائق و18 ثانية، وهذه المسافة يقطعها قطار السكة الحديدية في نحو 365 سنة، وتقطعها قلة المدفع في نحو 12 سنة.
على أن هذه السدم منثورة في الفضاء الشاسع، منتشرة على أبعاد بعيدة جدا، يبلغ البعد بين الواحد والآخر منها نحو 1800000 سنة نورية، وفي كل سديم منها مادة تكفي لتكوين مليون شمس مثل شمسنا، ومعلوم أن الشمس واحدة من شموس المجرة، وأن المجرة نفسها سديم من السدم.
فهل لنا آذان نسمع بها، وهل لنا قلوب نفقه بها ونقدر هذه العظمة؟!
هذه لمعة مما نرغب في سرده من عظمة الكون، وسنردفها بغيرها من الكلمات التي نتبسط فيها ونستزيد من هذا الموضوع؛ حتى يعلم الذين في قلوبهم مرض وعليها غلف أن عظمة الخالق - جل شأنه - أجل وأعظم من أن تحد أو تعلم، وإنما نحن نحاول أن نقرب إلى الأفهام ما عساه يقع لنا بهذه العقول الهيولانية الضعيفة، والله ولي التوفيق.
عظمة الكون (1)
مما أسلفنا القول فيه يتبين للقارئ أن للكون عظمة لا يقدرها ذلك العقل الهيولاني الضعيف مهما حاول، ومهما أوتي من قوة وتفوق، على أنا نعاود الكلام في عظمة الكون فنقول: إننا نعلم أن محيط الأرض 24000 ميل، فإذا أتيح لإنسان أن يقطع هذه المسافة برا بالسكة الحديد، وبحرا بالسفن البخارية، وكان متوسط سفره 800 ميل في كل يوم، فإنه لا يستطيع أن يدور حول الأرض في أقل من شهر كامل .
وهذه عظمة لا ينكرها إلا جاحد، أو مكابر، أو مهاتر، ولكنها عظمة ضئيلة حقيرة صغيرة إلى جانب عظمة الكون؛ ذلك بأنها أصغر من الشمس، التي ترمقها في السماء كأنها قرص قطره شبر؛ فإن قطر الشمس الحقيقي يبلغ 866000 ميل، إذن فحجمها على هذا القياس أكبر من حجم الأرض بنحو 1231000 مرة، وإذن فجرمها أكبر من جرم الأرض بنحو 333430 مرة.
على حين أن هذه الشمس - على ما هي عليه من عظمة كبرى - أصغر بما لا يقاس من أكثر النجوم التي نلمحها في السماء متلألئة، وإن من هذه النجوم ما نسبته إلى شمسنا كنسبة شمسنا إلى أرضنا التي نعيش عليها أو أكثر.
وطالما كنا نسمع أن عدد النجوم التي نراها بأبصارنا في السماء كعدد الحصى أو الرمل؛ مبالغة في القول، ودليلا على أنها لا يقع عليها حصر، ولكننا نعلم أن هذه النجوم التي نراها بالعين المجردة قد بلغ 6000، أما عدد النجوم التي نراها بالمجاهر والمقربات والمكبرات، والتي تظهر بالتصوير الشمسي فقد بلغ نحو 224 مليون نجم، وكلها تابعة للنظام الذي يطلق عليه المجرة.
وأنت ترى هذه النجوم كأنها منضدة بعضها إلى جانب بعض، متقاربة سيما في المجرة، على حين أنها بعيدة بعضها عن بعض بعدا شاسعا، فإذا كنا نراها يتقارب بعضها من بعض فإنما يكون ذلك لأننا لا نبصر الصفوف الأمامية منها فقط بل ما بعده وبعده ... إلخ. •••
والآن لنتخذ الشمس مركزا، ولنرسم حولها كرة قطرها ألفا سنة نورية، فإذا اتسق لنا ذلك كانت هذه الكرة شاملة جميع الكواكب التي نراها بالعين المجردة، أما إذا وسعنا هذه الكرة حتى يصير قطرها 25000 سنة نورية فإن ذلك النطاق يشمل كل الكواكب الواقعة في نظام المجرة، والمجرة هذه تشبه حبة عدس قطرها ألف سنة نورية، أما المسافة التي بين وجهيها عند مركزها فهي عشرة آلاف سنة نورية، وخارج هذه المجرة عالمان آخران في غيوم «مجلان» يبعدان نحو 200 ألف سنة نورية، ثم على مائة ألف سنة نورية تجد السد يمين الكوكبين في المرأة المسلسلة وكوكبة المثلث، وكل منهما طوله الأطول نحو 50 ألف سنة نورية، وهو طول قطر المجرة.
على حين أن هذه المجرة وما فيها من أبعاد شاسعة واسعة عالم ضيق جدا من عوالم كثيرة جدا، لا يقع عليها حد ولا حصر، وما يعلم ما فيها إلا عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال.
إن هناك مجاميع من النجوم متسقة منظمة مترامية، وكل مجموعة منها فيها نجوم كنجوم المجرة، وكلها منثورة في الفضاء الواسع.
أما المرأة المسلسلة هذه - التي أسلفنا القول فيها - فقد وجدها العلماء تبعد مليون سنة نورية، وقطرها نحو خمسين ألف سنة، وفيها ألوف الملايين من النجوم، أكثرها لا يمكن رؤيته، أما الكواكب التي نراها فيها فتزيد آلاف الأضعاف على شمسنا من حيث النور واللمعان، آية ذلك أننا لو أقصينا الشمس مسافة مليون سنة نورية لما أمكن رسمها بالمصور الشمسي، أما هذه البعيدة عنا هذا البعد الشاسع فإنها ترسم. فإذا كانت شمسنا بالنسبة للكواكب التي عرفت صغيرة ضئيلة، وإذا كان ضوءها ضئيلا، وإذا كانت المجرة تشمل الملايين من الشموس، وإذا كانت هنالك مجرات بعضها بعد بعض لا يقع عليها حد ولا يحصرها حصر، وإذا كانت تلك المجرات فيها كواكب مثلها أو أكثر منها، وهي أضوأ ثم أضوأ ثم أضوأ فهل بعد هذا قول لقائل أو اعتراض لمعترض على عظمة الكون؟ )
وما أوتيتم من العلم إلا قليلا (
فعلمنا قليل كقلة أرضنا، ومعرفتنا ضئيلة كضئولة أرضنا بالنسبة لشمسنا، وشمسنا بالنسبة لمجرتنا، ومجرتنا بالنسبة لغيرها من المجرات، ولقد يئس جبابرة العقول أن يعرفوا لهذه العوالم نهاية.
في السدم
انتهى بنا الكلام - في ما أسلفنا من قول - عند حد المجرات، ونظامها، وكثرة عددها أنها كثيرة، لا تقع تحت حصر، ولقد تبين للدكتور «هيل» من رصد السدم أنها تتدرج نظاما تدرجا عجيبا، يدل على أنها جارية مع ناموس النشوء والتدرج، وهو يرى أن السدم متساوية تساويا تقريبيا، من حيث مادتها، ومن حيث الأبعاد التي تقع بين سديم وسديم، ويرى أيضا أن البعد بين كل سديم والذي يليه 1800000 سنة نورية، من أجل ذلك نشأت عند العلماء فكرة مؤداها أن الراجح أن تكون السدم جميعها تولدت من سديم واحد في غاية اللطف.
يقول الدكتور «هيل»: إنه وجد حسابيا أنه إذا انتشرت مادة السدام كلها في الفضاء، صار ثقلها النوعي بالنسبة للماء جزءا من ألف وخمسمائة مليون مليون مليون مليون مليون جزء.
يقول أحد العلماء: إنه إذا ثبت من رصد السدام أن السديم الذي نظامنا الشمسي جزء منه - وهو سديم المجرة - أرقى من غيره من أنظمة شموس المجرة، وأن الأرض أرقى من غيرها من سيارات الشمس فتكون أرضنا أرقى جرم من أجرام الكون، وأن كل ما حدث من الارتقاء في ملايين ملايين السنين التي قطعتها الأرض من تاريخ حياتها إنما كان تمهيدا لوجود إنسان عاقل، ذلك الإنسان الذي ارتقى وسما بعضه هذا الرقي العجيب.
على حين أننا إذا رمنا أن نقيس الأبعاد الشاسعة الواقعة بين الأجرام بعضها والبعض الآخر، فإننا لا نستطيع أن نقوم بذلك بواسطة مقاييسنا التي ألفناها واعتدنا استعمالها في المساحات والمسافات؛ لبعدها وعدم إمكاننا العمل بتلك الأقيسة التي بين أيدينا؛ ذلك لأن هذه المسافات أكبر وأطول من المسافة الواقعة بين شمسنا وأرضنا؛ فإن «ألفا قنطوروس» وهو أقرب كوكب إلى النظام الشمسي يبعد عن الأرض ثلاثمائة ألف ضعف بعد الأرض عن الشمس؛ لذلك كان شأنهم في ذلك وفي قياس المسافات الشاسعة هذه أن اصطلحوا على السنة النورية لقياس ما بين الكواكب بعضها والبعض الآخر من مسافة هي عبارة عما يقطعه النور في سنة كاملة، أما النور كما يقول بذلك الأستاذ المحقق «ميكلصن» فإنه يسير بسرعة 186173 ميلا في الثانية الواحدة، وهاك بعد الكواكب عن الأرض بالنسبة النورية السنوية:
ألفا قنطوروس
ثلاث سنين نورية
الشعري
عشر سنين نورية
نجم القطب
مائتي سنة سنين نورية
سديم الجبار
خمسمائة سنة نورية ... إلخ
والسنة النورية هذه التي نراها مقياسا هائلا كبيرا لا تكفي إذا أردنا أن نقيس المسافات الواقعة بين جماع الأكوان التي تشبه الجزر في بحر الفضاء بعضها والبعض الآخر، حيال ذلك لا تجد مندوحة من استعمال «ألف سنة نورية » لقصر السنة النورية؛ ولأنها لا تسد الحاجة المطلوبة، وحتى ألف السنة النورية في بعض المقاييس وعند بعض المسافات تقصر، فنضطر إلى اتخاذ المليون السنة «النورية» وحدة مقياس المسافات الواقعة بين الكواكب، أو جماع النجوم بعضها والبعض الآخر؛ ذلك بأن القنوان الكروية في غيوم مجلان تبعد عنا مائة ألف سنة نورية، وجماع النجوم المعروفة علميا ب
N.G.C.
يبعد سبعمائة ألف سنة نورية، والسديم اللولبي في المرأة المسلسلة يبعد عنا مليون سنة نورية، وقطره خمسون ألف سنة نورية، وفيه ملايين بل آلاف الملايين من النجوم.
الأرصاد: ولقد دلت الأرصاد التي عالجها الأستاذ «بول» في مرصد جبل «ولسن» معتمدا فيها على «السبكترسكوب» على أن سديم المرأة المسلسلة يقترب منا بسرعة مائتي ميل في الثانية، وأن غيوم ماجلان تبتعد عنا بسرعة 170 ميلا في الثانية، وأن أكثر السدم اللولبية الأخرى تبتعد عنا بسرعة مئات الأميال في الثانية، أسرعها سديم لولبي يبتعد عنا بسرعة 1100 ميل في الثانية.
في المجرة
الرأي عند علماء الهيئة أن الوحدة الأولى في هذا النظام الكوني النجم، وما هو هذا الشيء الذي سميناه نجما؟ إن هو إلا كرة من الغاز المتقد متغاير الحجم، فقد لا يفوق الأرض حجما، وقد يفوق الشمس بأكثر من ألف ضعف.
والكون، ما هو؟ إن الوحدة الأولى للنظام الكوني هي النجم، ومن النجوم ما يقل حجمه عن حجم الأرض، ومنها ما يزيد حجمه على حجم الشمس بمقدار ألف ضعف أو يزيد كثيرا، أما كثافة مادة النجوم فتختلف باختلاف هذه النجوم، فمنها ما تكون الكثافة فيه بمقدار كثافة الهواء، ومنها ما تكون الكثافة فيه زائدة على كثافة الماء مقدار خمسين ألف ضعف، أما الوحدة الثانية فهي الكون، يقولون إن الكون فراغ، وهو قول لا بأس به، ذلك بأن ذلك النظام العجيب - نظام المجرة - يشمل فضاء واسعا شاسعا، منتثرا فيه ما يعد بخمسين ألف مليون نجم، ونظامنا الشمسي جزء من هذا النظام، وهذا النظام يطلق عليه العلماء اسم الكون.
أما شكل المجرة فعدسي (كحبة العدس) طول قطرها خمسون ألف سنة نورية ، وعرضها - أي المسافة الواقعة بين جهتيها عند مركزها - يساوي عشرة آلاف سنة نورية، وخرج من هذا الكون كونان آخران في غيوم ماجلان، على بعد مائتي سنة نورية، ثم إن هناك كونا آخر يبعد مليون سنة نورية «السد بين اللولبين» في المرأة المسلسلة وكوكبة المثلث، وكل منهما طوله الأطول 50 ألف سنة نورية، أي طول قطر المجرة.
ويرى العلماء أن الأكوان منتثرة منتشرة في الفضاء انتشار الجزر في البحار، مثلها مثل الأرخبيل، هذا رأي بعض العلماء الآن، وبعدما وصل إليه الإنسان من استكشافات ومخترعات، ولا يبعد أن يكشف لنا المستقبل عن أكوان أخرى لها نظام أعجب وأغرب من نظام الأكوان المعروفة لنا، على أن غاليلي المعروف يرى رأيا آخر في ذلك نحن موردوه لك فيما بعد.
نقول: وقد نشط العقل البشري في العهد الأخير نشاطا كبيرا، وعمد الفكر الإنساني إلى الأبحاث القيمة الناضجة، فكان من أثر ذلك أن زادت الثروة العلمية، واتسع نطاق البحث، انظر كيف تهيأ للإنسان أن يقوي التلسكوب في أواخر القرن التاسع عشر، ففي سنة 1884 نصب تليسكوب المرصد الإمبراطوري في بلكوفا بروسيا، وقطر عدسيته 30 بوصة.
وفي سنة 1888 نصب تليسكوب مرصد «لك» وقطر عدسيته 36 بوصة.
وفي سنة 1897 نصب تليسكوب مرصد بريكيس، وقطر عدسيته أربعون بوصة.
انظر كيف أدخل الإنسان تحسينات كثيرة على السكترسكوب، واستعيض عن الموشور بالزجاجة المسطرة، فعمت الفائدة، وزاد النفع في قياس حركة النجوم الشعاعية، وفي سرعة هذه عند خط النظر.
ثم ابتداع الأساليب الفوتوغرافية، وكيفية استعمالها في تصوير الأجرام السماوية، وما إلى ذلك من الاستكشافات والمخترعات التي عاونت وساعدت في ظهور هذه الأكوان الدالة على ما للقادر الحكيم من حكمة وقدرة وعلم وإرادة تفوق الحد والحصر.
النجوم
أسلفنا الكلام في عظمة الكون، فوصلنا إلى حد الكلام على النجوم والكون، وها نحن أولاء نستطرد الحديث ونتابع القول، فنقول: ولقد تهيأ للفلكي الشهير والعلامة الكبير «هجنس» أن يستعمل السبكترسكوب عام 1863، ونجح في تحليل النور المنبعث من النجوم، حتى إذا تهيأت له المعرفة المبتغاة وتحقق من تحليل هذا النوع التحقيقي أمكنه أن يعرف بعد هذه النجوم، ودرجة حرارتها الناشئة من سطحها، ذلك بأنه إذا تأكدنا من معرفة حرارة نجم من النجوم تم لنا أن نعرف مقدار ما ينبعث من الحرارة من كل بوصة مربعة من سطح النجم.
ذلك شأنهم في هذه السبيل، وهم يقولون مثلا: إن كل بوصة مربعة من سطح الشمس تعطي من الحرارة في الدقيقة الواحدة ما يسخن 360 ألف كيلو جرام من الماء - درجة من درجات سنتجراد - وهذا المقدار يحرك آلة بخارية قوتها خمسون حصانا، على حين أن الفلكيين يقولون بأن ما وصل إليه علمهم، وما أنتجته بحوثهم وتجاريبهم؛ يدلهم على أن الشمس هذه ليست هي أشد النجوم أو الكواكب حرارة، وهناك ما تكون حرارته أكثر من الشمس بمقدار ألف مرة، ومعنى ذلك أن ما ينبعث من الحرارة، ومن كل بوصة من سطح هاته النجوم الهائلة الشديدة الحرارة - في الدقيقة الواحدة - حرارة تسخن 3600 مليون كيلو جرام من الماء وقس على ذلك! فإذا تهيأ لنا أن نعرف مقدار الحرارة التي تحدثها كل بوصة مربعة من سطح نجم من النجوم؛ ساقنا ذلك إلى معرفة درجة إشراقه ومسافة بعده، وقطر النجم وحجمه. آية ذلك أن قطر النجم المعروف باسم منكب الجوزاء 300 قطر مثل قطر شمسنا، فحجمه يسع 9 ملايين شمس مثل شمسنا، وأن قطر النجم الصغير التابع للشعرى نحو 26 ألف ميل، ولقد تحقق ذلك من قانون النسبية، ومن القياس بآلة ميكلسن.
قالوا: وإنما يلزم مما يحدثنا به العلم أن تكون النجوم كلما اشتدت حرارتها كان هذا يدل على ما فيها من كهارب وقوى، وأن حركتها سريعة سرعة دقائق الغاز، ويكون غلبة حركتها السريعة هذه على ما تكون به الجواهر الفردة من قوة الجذب الكهربائي، وإن كانت حركتها أقل سرعة مما هي عليه، فتجمع الجواهر وتصبح دقائق. وفي سنة 1644 قال ديكارت: إن الشمس والنجوم الثوابت إنما تتألف من مادة متحركة حركة سريعة، تجعلها من الشدة والسرعة تتجزأ أجزاء صغيرة إلى أصغر ما يمكن.
وفي سنة 1907 قال الأستاذ «آمون»: إن الشمس والنجوم غازات في حالة توازن مثلها مثل الطبقات السفلى؛ لأنا نجد في الهواء مجاري كافية لحفظ غازاته في حالة امتزاج وتماسك.
ولقد رأى العلماء أنهم إذا رتبوا النجوم على حسب ما تعطي من الأشعة ونسبته إلى مادتها؛ فإنهم يجدون أن ترتيبها لا ينطبق على حرارتها، ولا على كثافتها، بل قد ينطبق على عمرها، فأحدثها عمرا أشدها إضاءة بصرف النظر عن حرارة باطنها، مثلها مثل الإنسان إذا شاخ وتقدم في السن، وهاك بيانا ببعضها:
النجوم بلاسكرت:
درجة القوة 1000، ودرجة الحرارة في الباطن 500000، وكثافة البطن شديدة جدا، والعمر بالمليون أقل من 100000.
النجوم بوس:
درجة القوة 640، ودرجة الحرارة في الباطن 300000000، وكثافة الباطن أكثر من مائة، والعمر بالمليون أقل من 100000.
النجم قلب العقرب:
درجة القوة 320، ودرجة الحرارة في الباطن 1000000، وكثافة الباطن 5، والعمر بالمليون أقل من 100000.
النجم العبوق:
درجة القوة 50، ودرجة الحرارة في الباطن 8000000، وكثافة الباطن 500، والعمر بالمليون أقل من 100000.
النجم الشعري:
درجة القوة 21، ودرجة الحرارة في الباطن 150000000، وكثافة الباطن 1، والعمر بالمليون أقل من 100000.
الشمس:
درجة القوة 1,88، ودرجة الحرارة في الباطن 70000000، وكثافة الباطن 7000000، والعمر بالمليون أقل من 10000.
تابع الشعري:
درجة القوة 3، ودرجة الحرارة في الباطن مجهولة، وكثافة الباطن 30000000، والعمر بالمليون قليل جدا.
وأنت تجد أن كثافة باطن الشعري ألف وتابع الشعري 30 ألفا، وهو ما يدل على صدق ما ذهبوا إليه من القول بأن العمر هو العامل الوحيد في درجة الحرارة.
مسألة الأرواح
انتهينا من سرد بعض ما عن لنا سرده من فكر العلماء من أصحاب الرأي وذوي المكانة وأهل الفضل، وجئنا بلمع من كثير مما يدل على عظمة الكون وضئولة ماهيتنا الإدراكية وكوننا هذا إلى جانب حكمة الخالق (الواجب الوجود) مطلقا.
والآن - وقد وعدنا أن نأتي برأي العلامة غاليلي في عظمة الكون - نريد أن نعالج ذلك مقدمين له مقدمة يتبين منها القارئ رأيا صحيحا حيال المذهب الروحاني، وحيال ما تبديه الأرواح وتحدثه في هذا العالم، وهي في ما وراء المادة، وإنما يكون هذا شأننا؛ لأن غاليلي هذا أبدى رأيه بعد أن قبر، فقد استحضر روحه جماعة من علماء أوروبا الذين إذا قالوا أذعنا لقولهم، وسلمنا برأيهم، وسألوا الروح عن الوجود، فكانت الإجابة مدهشة نحن ذاكروها بعد هذه المقدمة.
فنقول: إنا نحاول إقناع أولئك الذين يرتابون في مسألة الأرواح، ولا يزالون في شك من تحضيرها وأعمالها، أو هم ينكرون ويجحدون كل ما لا يقع تحت حس، نأتي بذكر حادثة تذهب بمزاعم هؤلاء، وبكل شك في الأرواح وأعمالها ووجودها. تلك حادثة شرلس دكنز، وهي أعجب وأغرب ما صادفه الماديون في حياتهم من الأدلة على بطلان معتقداتهم والبراهين القاطعة الناطقة بوجود الأرواح، وهاك هي: في سنة 1873 نشرت الصحف في أوروبا وأمريكا حكاية هذا الحادث، وهو أول حادث من نوعه في عالم المذاهب؛ ذلك أن العلامة المؤلف الإنكليزي الشهير «شارلس دكنز» مات في مدينة لندن سنة 1870 قبل أن يكمل آخر رواية له «أسرار إدوين درود» وقد اتفق أنه وهو في عالم الأرواح بعد موته أتمها على يد وسيط أمريكي يدعى «جيمس» في مدينة بوسطن، والحادث يتلخص في أن «جيمس» هذا كان غلاما من الصناع، قليل العلم، كل همه ينحصر في إتقان حرفته والتبريز في صناعته، وكانت له نزعة خيرة يمت بها إلى المذهب الروحاني اقتادته إلى حضور جلسة روحانية جمعت ثلة من جهابذة العلم وفحول التفكير سنة 1872.
هنالك في تلك الجلسة التاريخية المشهورة تجلى روح «دكنز» وأبدى رغبته في إكمال الرواية المذكورة على يد الوسيط جيمس، فكانت يد الوسيط تتحرك حركة غير عادية، وبغير إرادة الوسيط تخط واضح هذه العبارة: أنا شارلس دكنز، أنا أريد أن أتمم روايتي «أسرار إدوين درود»، أما العلماء الذين كانوا في هذه الجلسة فقد طلبوا من الغلام أن يستسلم للروح ويطاوعها في كل ما تطلب، فصدع هذا بالأمر، واستسلم للروح المتجلي، وأخذت يده تكتب بإرادة «دكنز» ووحيه سبعة أشهر كاملة، كان الوسيط في خلالها يجلس كل ليلة إلى المائدة نحو الساعة السابعة، حسب أمر «دكنز» فيرى شبحه قد تجلى ووضع يده السيالة على يده، فتتخدر هذه اليد - يد الوسيط - وتأخذ في تسطير ما يريده الروح تملأ الصفحات أقوالا لا علم للصبي بها.
ولقد استغرقت هذه العملية سبعة شهور، وملأت نحو ألف ومائتي صحيفة.
وكان يحضر هذه الجلسات رجال من العلماء والصحفيين، الذين أجمع رأيهم على أنه يستحيل على قارئ ما يسطره الوسيط بإرادة دكنز أن يميز بين ما كتبه المؤلف الإنكليزي قبل موته وبين ما خطته يد الوسيط «جيمس» بعد موته، أو أن يجد أقل اختلاف في الإنشاء أو في الخط، أو في الأسلوب والديباجة، حتى ولا في بعض غلطات كان يقع فيها المؤلف الإنكليزي الشهير هذا.
نترك القارئ الكريم عند هذا الحد من الكلام في الأرواح، على أن نعود للكتابة في المقال التالي على رأي غاليلي في الوجود.
في العالم
حيال هذا وحيال ما تمحلنا له من رأي «غاليلي» في عظمة الكون - بعد أن فارق هذا العالم - وحيال ما جاءنا به هذا العلامة من القول بالفضاء واللانهاية، وتمحله لآراء بعض العلماء في هذا السبيل، حيال كل ذلك وقبل أن نتعرض لما جاء به غاليلي وهو في عالم البقاء، لا نرى ندحة من عرض بعض الفكر والآراء لتبيان الموضوع هذا، ولنظهر القراء على ما حدا غاليلي أن يقول هذا القول بعد أن ودع عالم الفناء، وصار في عالم البقاء، وظهر له ما عمي علينا فنقول: إن أمثال الفلاسفة القدماء كالفارابي، وابن سينا، وابن رشد، وابن الطفيل، والرازي، وأمثال هؤلاء ممن ضربوا في الفلسفة بسهم، ومن الذين درسوا الفلسفة اليونانية ثم صبغوها بصبغة إسلامية، إن الفلاسفة القدماء هؤلاء قد أجمعوا أمرهم على أن هذا العالم محدود محصور، ولهم في ذلك كلام طويل سنشرحه، وأدلة وهمية عرضوا لذكرها، فأثبتوا بها أن الأفلاك تسعة، منها سبع سماوات، فيها السيارات الخمس والشمس والقمر، وفوقها فلك الكوكب، ثم الفلك الأطلسي الذي لا علائم فيه، وهو محرك الأفلاك كلها، أما ما وراء هذا الفلك فيسمونه: «لا خلا ولا ملا» ولهم برهنة في ذلك وتدليل، وإنما يسمون برهانهم في ذلك البرهان السلمي أ ب.
فيقولون: لو أننا مددنا خطين وهما ساقا مثلث - مثل أ وب - امتدا إلى غير نهاية، فهذا يستحيل؛ لأنهما إذا امتدا إلى غير نهاية كان الخط الواصل بين هذين الساقين ممتدا أيضا إلى غير نهاية، فكيف يكون محصورا بين خطين، وهو لا نهاية له؟ إذن امتداد الساقين إلى غير نهاية مستحيل؛ لأن هذا الامتداد لزم منه أمر مستحيل، وهو وجود خط محصور بين حاصرين وهو بلا نهاية، وهو تهافت ... فإذن الخط له نهاية، وإذن يكون هذا العالم له نهاية، وما الفراغ والخلاء إلا ما كان مثل الذي بين بلدتين، أو حائطين، أو كوكبين، فأما ما هو فوق العالم فليس يطلق عليه خلاء، بل هو عدم صرف، هذا ما كان يذهب إليه القدماء، وهذا هو الذي تعلمه غاليلي في حياته الدنيا، ثم هو من بعد موته وانتقاله إلى عالم الخلود أصبح يحتقر هذا الرأي.
إذن فالرأي الذي يلح به في سياق حديثه مذهب الفلسفة القديمة، التي نقلها العلماء عن فلسفة ابن رشد كما سنبينه بعد.
وإذن فروح غاليلي تقول لنا: إن التعاريف التي جاءتكم بها مذاهب هؤلاء الفلاسفة مغالطة؛ لأنها تنكبت محجة الصواب؛ ذلك لأن الفراغ الذي بعد العوالم المادية من الكرات السماوية كالفراغ الذي بين الكواكب، فإخراجه من اسم الخلاء أو الفراغ مغالطة.
هذا، وسنذكر من أين نقلت هذه العلوم إلى أوروبا، ومن نقلها حتى وصلت إلى غاليلي وهو في حياته الدنيا، وحتى هو من بعد مفارقة هذه الحياة الدنيا - وبعد أن آنس ما آنس في الحياة الأخرى - صار يحتقر ما كان يجله ويعتقده.
انتقال علوم العرب إلى أوروبا
نقول: ولقد هاجر اليهود من الأندلس إلى بروفنسيا والأقاليم المتاخمة لجبال البيرينية؛ فرارا من الاضطهاد، وخالطوا الفرنجة، وكتبوا بالعبرية وتركوا العربية، وذهبوا إلى «لونل» في فرنسا، وهم «أسرة طيبون» أصلها من الأندلس، وترجم اثنان منهم (موسى بن طيبون وصموئيل بن طيبون) تلاخيص ابن رشد في فلسفة أرسطو، فهذان هما أول من ترجم مؤلفات ابن رشد لأوروبا.
نقول: ولقد كان الإمبراطور «فردريك الثاني إمبراطور ألمانيا» من محبي نشر الفلسفة، ومن مخالفي الإسلام والمسلمين على الإكليروس المسيحي، فعهد إلى بعض اليهود في ترجمة فلسفة العرب إلى العبرية واللاتينية، فألف يهوذا بن سليمان كوهين الثلياني سنة 1247م كتابا سماه «طلب الحكمة» واعتمد فيه على ابن رشد، فهو أول كتاب لابن رشد ظهر بالعبرية، وقد ترجم له يهودي من بروفنسيا كان مقيما في تانيس هو يعقوب ابن أبي مريم بن أبي شمشوم أنتوني حوالي سنة 1232م بعض مؤلفات ابن رشد، ثم إن «كالونيم» بن «كالونيم» بن «مير» الذي ولد سنة 1287م ترجم كتب ابن رشد إلى العبرية، وترجم كتاب تهافت التهافت سنة 1328م.
عظمة الكون (2)
لقد جئنا في المقال السابق بحكاية «تشارلس ديكنز» وما كان معه من أمر هذه الرواية، رواية
The Mystery of Edwin Drood
وكيف أتمها «ديكنز» وهو في العالم الآخر، وكيف طلبت روح الكاتب الإنكليزي الشهير من الصبي «جيمس» الوسيط أن يساعده بيده على إنهاء هذه الرواية، وكيف أمره جماعة العلماء في أمريكا أن يطيع أمر الروح، ويستمر على الكتابة بوحيها وعملها وإرادتها ما تريد، وكيف أنه أتمها فكانت طبق الأصل؛ حيث بدأ «ديكنز» إتمام روايته من حيث انتهى وهو في هذه الحياة الدنيا، فكان الخط خطه، والخطأ في هجاء بعض الألفاظ، وفي الإنشاء وفي التراكيب هو هو بعينه، وبمضاهاته ومقابلته بخط «ديكنز» وكتابته وأسلوبه لم يجدوا من فرق.
أما الرواية، فقد طبعت بعد أن أكملها «ديكنز» على يد الوسيط «جيمس»، وهي قسمان: قسم كتبه الرجل في حياته، وقسم آخر أتمه روح «ديكنز» على يد هذا الوسيط بعد مماته، وهي معروفة مقروءة، تدحض حجة الذين يجحدون ما بعد الطبيعة، وتذهب بمزاعم منكري الأرواح وأعمالها، أفبعد هذا دليل يقوم أو برهان ينهض؟ وهل بعد الذي علمناه من أمر هذا الحادث التاريخي العظيم ينكر المفكرون عالم الأرواح؟ اللهم إن هذا دليل على صدق المذهب الروحاني، وحقيقته ومتانته وتأسيسه على قواعد قوية، ودعائم هي غاية في المتانة، وعلى الذين يجحدون أو يشيحون بوجوههم عن ذلك أن يأتوا بما ينقض ذلك نقضا علميا خالصا لوجه العلم.
وما حدانا إلى كتابة ما كتبناه من هذه الحكاية إلا تقدمة للقارئ، نمهد بها لما سنظهره عليه من رأي غاليلي في عظمة الكون، وقد أدلى به من العالم الآخر، ولقد مهدنا لرأيه بهذا التمهيد؛ كي يذهب الشك من نفوس المشككين، وتنزع الريبة من قلوب المعطلين، وحتى لا ترمي بسنة غفلة أو جهالة معرفة في تدليلنا على عظمة الكون تدليلا علميا صحيحا.
وفي سنة 1862 و1863 ميلادية وقع حادث تاريخي عظيم اهتم به الناس جميعا وأصحاب المذهب الروحاني خاصة، وذلك أن جمعية الوسطاء الروحانية الباريسية بينما كانت تجري أبحاثها وتجاريبها هناك، ظهر روح غاليلوس على يد وسيط منهم، فانتهزت الجماعة هذه الفرصة، وسألته عن الكون وعظمته، فأخذ يدلي برأيه على يد هؤلاء الوسطاء بالتناوب حتى جاء بالعجب العجاب، نقتطف منه ما يهم القارئ، قال: «أفضل تحديد أطلق على الفضاء أنه مسافة تفصل ما بين جرمين، فاستنتج بعض المعطلين من هذا التحديد أن لا وجود للفضاء حينما انتفى وجود الأجرام، وإلى هذا المبدأ أسند بعضهم رأيهم في ضرورة تناهي الفضاء، وعدم إمكان تسلسل أجرام محدودة إلى ما لا نهاية له، على حين أن الفضاء لفظة تدل على معنى مفهوم في ذاته لا يحتاج إلى تعريف، وما قصدي بهذه المقالة إلا أن أبين لكم عدم حده وتناهيه.»
أقول: إن الفضاء لا حد له بدليل أن من المستحيل تصور حدود تحده، فأسهل لنا - مع ما نجد من الصعوبة في استيعاب اللانهاية - أن نسير بالفكر أبديا في الفلاة من أن نتصور موقفا لا مساحة بعده نجول فيها، وإن شئنا أن نمثل في ذهننا المحدود عدم تناهي الفضاء فلنتصور أنفسنا طائرين من الأرض نحو إحدى جهات الكون بسرعة الشرارة الكهربائية التي تقطع في الثانية ألوفا عديدة من الفراسخ، فبعد طيراننا بثوان قليلة لا تعود الأرض تتراءى لنا إلا ككوكب حقير ضعيف النور جدا، وبعد قليل تتوارى عن نظرنا بالكلية، والشمس ذاتها لا تلوح لنا إلا كنجم حقير متوغل في أقاصي الفلا، وعوضها تتجلى لأعيننا نجوم عديدة لا نكاد نميزها من المحطة الأرضية ، وإذا لبثنا طائرين بالسرعة ذاتها، فنقطع في كل هنيهة عوالم متجمعة، وسيارات ساطعة، وبقاعا زاهية، نثر فيها الله العوالم كما نثر الزهور في المروج الأرضية.
على أنه لم يمض على سفرنا إلا دقائق قليلة، ومع هذا فقد نأينا عن الأرض ملايين في ملايين من الفراسخ، وشاهدنا ألوفا في ألوف من العوالم، أما لدى التحقيق فإننا لم نخط بعد ولا خطوة واحدة في الكون، وإذا استقام سفرنا البرقي لا دقائق ولا ساعات بل سنين وأجيالا وألوف أجيال وملايين في ملايين في ملايين من العصور والدهور، فلا نكون مع هذا قد خطونا ولا خطوة واحدة في طريقنا، وذلك إلى أي صوب اتجهنا، وأية نقطة انتحينا من تلك الذرة الحقيرة التي بارحناها وأنتم تدعونها أرضا، هذا ما عندي من تعريف الفضاء.
1
الزمان: وأما الزمان فهو كالفضاء لفظة معبرة بنفسها غنية عن التحديد، وقد يسوغ أن ندعوه تعاقب الأشياء، وهو مرتبط بالأبدية ارتباط الأشياء باللانهاية، فلنتصور أنفسنا في بدء عالمنا؛ أي في عصر بدأت فيه الأرض تتبختر تحت النفحة الإلهية، وبرز الزمان من مهد الطبيعة السري فقبلها كانت الأبدية سائدة ساكنة، والزمان يجري مجراه في عوالم أخرى، ولما برزت الأرض إلى حيز الوجود استبدلت فيها الزمان بالأبدية، وأخذت السنون والقرون تتعاقب على سطحها حتى اليوم الأخير؛ أي ساعة تبلى الأرض من العتق وتنمحي من سفر الحياة. ففي ذلك اليوم يبطل تعاقب الأشياء، وتزول الحركات الأرضية التي كانت مقياسا للزمن، وبزوالها يزول الزمان أيضا، فينتج من هذا أن الزمان يتولد من تولد الأشياء، وينقضي بانقضائها، وهو بقياس الأبدية كنقطة سقطت من عباب الجو في أبحر الدأماء، فتختلف الأزمنة على اختلاف العوالم وخارج هذه التعاقبات الفانية تسود الأبدية وحدها، تملأ بضيائها فلوات الفضاء غير المحدودة، ففضاء لا حد له، وأبدية لا قرار لها هما الخاصيتان العظيمتان للطبيعة العامة.
ولما كان الزمان تعاقب الأشياء الفانية ومقياسها، فإذا جمعنا ألوفا من ألوف من القرون والأحقاب فلا يكون هذا العدد إلا نقطة زهيدة في الأبدية، كما أن الألوف في الألوف من الفراسخ تعد نقطة حقيرة في الفضاء، وإذا مضى على حياتنا الروحية عدد من القرون يوازي قدر ما يكتب على طول خط الاستواء فينقضي هذا العدد الجسيم والنفس كأنها اليوم ولدت، وإذا أضفنا إلى العدد المذكور سلسلة أخرى من الأعداد ممتدة من الأرض إلى الشمس، وأكثر من ذلك فلينقض هذا العدد غير المدرك قياسه من القرون، والنفس لا تتقدم يوما واحدا في الأبدية؛ ذلك لأن الأبدية لا حد لها ولا قياس، ولا يعرف لها بدء ولا نهاية، فإن كانت القرون المذكورة لا تعد ثابتة بقياس الأبدية فما أهمية عمر الإنسان على الأرض؟
قال: إذا ألقينا النظر إلى ما حولنا ألفينا اختلافا جسيما وتمييزا جوهريا في كل المواد المؤلف منها العالم، فانظر إلى كافة الأشياء الطبيعية - كانت أو صناعية - وانظر ما أعظم التغاير في صلابتها وضغطها ووزنها وسواها من الخصائص التي يتميز بها الهواء مثلا عن عرق الذهب، والنقطة المائية من الحجارة المعدنية، والأنسجة النباتية المتنوعة من الأنسجة الحيوانية على اختلاف طبقاتها، ومع هذا فنستطيع أن نثبت بوجه الإطلاق أن كل المواد المعروفة والمجهولة - مهما عظم تباينها وكثر تنوعها - إن هي إلا أشكال وأنماط متقنة تظهر فيها مادة أصلية واحدة تحت فعل القوى الطبيعية المتعددة.
قال: إن الكيمياء التي بلغت اليوم عندكم درجة رفيعة من التقدم، وقد كانت تعد في أيامي من متعلقات العلوم السحرية، قد قوضت مسألة العناصر الأربعة التي أجمع الأقدمون على تركب الطبيعة منها، وأثبت أن العنصر الترابي إن هو إلا تركب مواد متنوعة في تفنناتها إلى ما لا انتهاء له، وأن الهواء والماء قابلا التحليل، وهما متركبان من بعض الغازات، وأن النار ذاتها ليست بعنصر أصلي، بل حالة من المادة ناتجة عن نوع من الحركة العامة يصحبها احتراق حسي أو كامن.
وبمقابلة ذلك اكتشفت الكيمياء عددا وافرا من العناصر المجهولة، منها تتألف كل الأجرام المعروفة، وسمتها عناصر بسيطة؛ إشارة إلى أنها أولية غير قابلة التحليل إلى ما هو أبسط، ولكن فعل الطبيعة لا يقف حيثما وصلت تقديرات الإنسان، وحكم أدواته، بل المتتبع بنظره إلى ما تجاوز حد المعرفة البشرية لا يرى في كافة العناصر المركبة والبسيطة إلا مادة واحدة أصلية، تتجمع في بعض النواحي لتنشأ منها العوالم، وتتفنن أشكالا وأنواعا في مدار حياتها، وتعود إلى مأوى الفضاء بعد انقراضها.
قال: ومن المسائل ما نعجز نحن الأرواح المغرمين بالعلوم عن التعمق فيها، فلا نأتي بحلها إلا بآراء شخصية مبني أكثرها على أقيسة افتراضية، أما مسألة وحدة المادة فلا شبهة فيها ولا تخمين، ومن يأخذ قولي على محمل الافتراض أقول له: استوعب - إن أمكن - بنظرك تفننات أعمال الطبيعة كلها، فتتحقق يقينا أن بدون وحدة المادة يتعذر عليك شرح نبات أصغر بذرة ونتاج أحقر دويبة، وأما الباعث لتنوع ما تراه في المادة فهو تباين القوى التي تولت أمر تحولاتها، والظروف التي كانت عليها وقت نشأتها، إنما هو جوهرها في الأصل واحد، وكل ما يقع أو لا يقع تحت نظرك من الأجرام والسوائل فهو صادر من مادة أصلية واحدة مالئة الكون غير المحدود. ... إذن إحدى الدويبات الحقيرة التي تقضي حياتها الوجيزة في قعر البحار، ولا تعرف من الطبيعة إلا الأسماك وغابات المياه، نالت فجاءة من العقل ما مكنها من درس عالمها، وأخذت عليه تقيس أفكارها في الكائنات، فما عسى أن يكون تصدرها للعالم الأرضي غير الواقع تحت نظرها؟
وإذا بمعجزة أخرى انتقلت هذه الدويبة من القعر إلى ما فوق المياه بالقرب من جزيرة غناء اكتست بمروج زاهية، فأي تغيير يطرأ على أفكارها السابقة؟ وكم تتسع دائرة تصوراتها ولئن ما زالت هذه دون الحقيقة؟
هذا بين حال علومكم في الحاضر يا بني البشر.
قال: إن سيالا عاما يملأ الفضاء غير المحدود، وينفذ الأجرام بأسرها يدعى الأثير أو المادة الأصلية، ومنه تتولد كافة العوالم والكائنات، فهذا السيال تلازمه أبدا القوى أو النواميس الطبيعية المتولية تقلبات المادة ومسرى العوالم، وهذه النواميس المختلفة - على اختلاف تركبات المادة والتعننة في أنواع فعلها على مقتضى الظروف والمراكز - تعرف في أرضكم بالثقل والتلاصق والمناسبة والتجاذب والمغنطيسية والكهربائية ، ثم حركات العامل الاهتزازية تدعى عندكم صوتا وحرارة ونورا ... إلخ، وأما في العوالم الأخرى فتظهر هذه النواميس تحت أوجه أخرى، وبخاصيات مجهولة عندكم، وإن في سعة السماوات غير المحدودة تفننات من القوى نعجز عن إحصائها وتقدير عظمتها، كما تعجز الدويبة في قاع البحار عن استيعاب كافة الحوادث الأرضية.
وكما أن لا وجود في الأصل إلا لمادة واحدة بسيطة تتولد منها كافة الأجرام والتركبات الهوائية، هكذا كل القوى الطبيعية صادرة عن ناموس أصلي واحد متفنن في مفاعيله إلى ما لا انتهاء له، فرضه الخالق منذ الأزل؛ ليقوم به نظام الخلقة وبهاء الكائنات، إن الطبيعة لا تضار ذاتها، وشعار الكون هو هذا: الوحدة في التفنن، فإن صعدت في سلم العوالم وجدت وحدة النظام والخلقة مع تفنن لا يعرف حده في تلك الأجرام الفلكية، وإن أجلت بنظرك في مراتب الحياة من أحقر الكائنات إلى أعلاها وجدت وحدة التناسب والتسلسل، كذلك القوى الطبيعية كلها صادرة بالتسلسل عن قوة أصلية واحدة تدعى بالناموس العام.
قال: يتعذر عليكم في الحاضر استيعاب هذا الناموس في شمول اتساعه؛ لأن القوى الصادرة عنه والداخلة في دائرة أبحاثكم محدودة مقيدة، إنما قوة التجاذب والكهربائية تفصحان لكم نوعا عن الناموس العام الأصلي الشامل السماوات والكائنات، فكل هذه القوى الثانوية أزلية عامة كالخلقة، بملازمتها للسيال العام تعمل ضرورة في كل شيء وفي كل مكان، ويتنوع عملها بالمقارنة والتعاقب، فتتغلب في مكان وتمحي من آخر، يظهر فعلها ههنا وتكمن هناك، عاملة أبدا في تجهيز العوالم وإدارتها وحفظها وملاشاتها، متولية أعمال الطبيعة ومعجزاتها حيثما قامت ضامنة على هذه الصورة بهاء الخلقة الأزلية ونظامها الأبدي.
قال: ... بعد أن تأملنا بوجه عام في تركيب الكون ونواميسه وخصائصه، بقي علينا أن نشرح كيفية تكوين العوالم والبرايا، ثم ننتقل بعدها إلى تكوين الأرض ومركزها الحالي في الموجودات.
قال: ولقد أبنا سابقا ما الزمان وما نسبته إلى الأبدية، وأن هذه واحدة ثابتة عديمة الغيار، وبالتالي لا بدء لها ولا نهاية، ثم إذا لاحظنا من جهة أخرى عدم تناهي القدرة الإلهية، حكمنا ضرورة بوجوب أزلية الكون ؛ لأن الله قد تكملت كمالاته القدسية، وبما أن الله أزلي سرمدي فاقتضى أن يكون عمله سرمديا، أي لا بدء له ولا نهاية، فإذا تصورنا لعمل الله بدءا - ومهما كان هذا البدء في مخيلتنا بعيدا قاصيا - فتسبقه دائما أزلية، زنوا جيدا ذلك بعقلكم، أزلية لا قرار لها لبثت فيها إرادة القدوس بلا عمل، إن الله شمس الكائنات، ونور العالم، فكما أن ظهور الشمس يصحبها انتشار النور هكذا وجود الله يصحبه ضرورة فعل الخلقة وظهور البرايا.
أي لسان يستطيع أن يصف تلك العظائم الباهرة المستترة في دجى الدهور، التي تلألأ سناؤها في عهد لم يكن قد ظهر بعد فيه شيء من عجائب الكون الحالي، تلك الدهور القاصية التي أسمع الله فيها صوت كلمته، فاندفعت تيارات الأهباء والذرات؛ لتشيد بتجمعها المهندم هيكل الطبيعة غير المحدود، ذلك الصوت السري الكريم الذي تجله وتهواه كل خليقة، وبرنته المرموقة ارتجت الأفلاك، وسبحت عجائب الله؟!
قال: إذا انتقلنا بالفكر إلى بضعة ملايين من الأجيال قبل العصر الحاضر لوجدنا أن الأرض لم تبرز بعد إلى حيز الوجود، والكواكب لم تتولد من النظام الشمسي، في حين أن شموسا أخرى لا عدد لها كانت تسطع في أقاصي السماوات، وترسل أشعتها إلى كواكب لا يقع عليها حصر، ثوى بها من سبقنا من الأحياء في مضمار الإنسانية، وأنظار أخرى تمتعت بعجائب طبيعية وغرائب سماوية لم يبق لها اليوم من أثر، وقلوب وعقول أخرى لا عدد لها كانت تسجد وتعظم لقدرة الباري غير المتناهية. نحن الحقيرين الذين برزنا إلى الوجود بعد أزلية من الحياة، نريد أن ندعي بمعاصرتنا للخلقة! لندركن أمر الطبيعة جيدا يا أحبائي، ولنعلمن أن الأبدية وراءنا كما هي قبالتنا، وأن الفضاء بمسرح تعاقبت وتتعاقب عليه خلقات لا عدد لها ولا انتهاء، فتلك المجرات - التي لا تكادون تميزونها في أقاصي السماوات - إن هي إلا تجمعات شموس منها في بدء تكوينها ومنها آهلة بالأحياء، ومنها ما بلغت دور الانحطاط، وعلى الجملة، كما أننا قائمون في وسط عدد غير متناه من عوالم هكذا ، نحن عائشون في وسط دوام أزلي أبدي لاحق لوجودنا الحاضر، وإن فعل الخلقة ليس بمقصور عليكم ولا على كريتكم الحقيرة.
قال: إن المادة الأصلية تحوي في ذاتها العناصر الهيولانية والسيالة والحيوية التي تألفت وتتألف منها كل العوالم المنتشرة في مساحات الفضاء، فهي أم نثور لكل الكائنات، والوالدة الأزلية لكل الأشياء، فلا يمكن أن يعتريها نقص أو تلاش، أو تعطي الوجود من دون انقطاع لعوالم جديدة، وتستقي بلا فتور من الأصول التكوينية المنحلة من العوالم التي بدأت تمحى من سفر الحياة، وهي المادة الأثيرية، أو السيال العام المالئ الأجرام وما بين الأجرام، وفيه مستقر العنصر الحيوي، الذي به تحيا كل خليقة، عند ظهورها على سطح سيارة، فما من خليقة معدنية أو نباتية أو حيوانية أو غيرها؛ إذ توجد موالد أخرى، ليس في وسعكم أن تتصوروها، إلا وتأخذ عند نشأتها نصيبها من هذا العنصر الحيوي، وبنفاده ينقضي أجلها. فالسيال العام إذن لا يحوي في ذاته فقط النواميس القائم بها حفظ العوالم، بل يشتمل أيضا على العنصر الحيوي العام الذي به تنشأ في كل عالم المواليد الغريزية الأولية التي تنبت من غير زرع، وذلك عند سنوح الظروف الملائمة للحياة على سطح الكرة.
قال: ولقد ضربنا الآن صفحا عن ذكر العالم الروحي الذي هو أيضا قسم من الخلقة العامة، ويتمم ما رسمه عليه الخالق المبدع العظيم من التقادير الأزلية. على أني لا أستطيع أن أتوسع في كيفية خلقة الأرواح؛ نظرا إلى جهلي للمسألة، وعدم إجازتي بأن أبوح بأمور تيسر لي التعمق فيها، فقط أقول لمن تطلب الحق بخلوص نية وتواضع القلب إن الروح لا يشرق عليه النور الإلهي لينال به مع الاختيار المعتوق معرفة ذاته ونصيبه من الاستقبال إلا بعد أن يكون قد جاز بقضاء محتوم في مسبحة النسمات السفلية من البرايا، وفيها أنجز ببطء ما أنجز من فروض شخصيته، ففي ذلك اليوم ينخرط الروح في سلك الإنسانية، وحذار أن تبنوا على مقالي استدلالاتكم النظرية؛ إذ أحب إلي ألف مرة أن أطوي كشحا عن مسائل تفوق حد نظري من أن أعرضكم لإفساد تعليمي، واستنتاج أقيسة وقواعد لا أس لها ...
قال: حدث مرة أن نقطة من الفضاء - وفي وسط مليارات من العوالم - تكاثفت المادة الأصلية، فتولد عنها مجرة - أي سحابة نيرة - لا يكاد يدرك قياسها، وبقوة النواميس العامة المستقرة فيها - وخصوصا التجاذب الدقائقي - أصابت الشكل الكروي، وهو الشكل الذي تصيبه في البدء كل مادة تجمعت في الفضاء، ثم تغير شكلها الكروي بقوة الحركة الدورية الناتجة من التجاذب المتساوي من كل المناطق الدقائقية نحو المركز، وأصابت الشكل العدسي، وتولد عن حركتها هذه الدورية قوات أخرى أخصها قوة الجاذبة والدافعة، فالأولى تميل بالأجزاء إلى المركز والثانية تبعدها عنه، وتعاظمت سرعة حركة المجرة على قدر تكاثفها، وتوسع نصف قطرها على قدر تقربها من الشكل العدسي، إلى أن تغلبت القوة الدافعة على الجاذبة، واقتلعت من المجرة الدائرة المحيطة بخط الاستواء، كما تقطع حركة المقلاع الحبل بتزايد سرعتها وتدفع القذيفة إلى بعد، ثم انقلبت تلك الدائرة المنقطعة عن المجرة إلى كتلة قائمة بنفسها، ولكنها خاضعة لولاية المجرة الأولى، وبقي لها حركتها الاستوائية، فتغيرت إلى حركة انتقالية حول الجرم الأصلي، وأكسبتها حالتها الجديدة هذه حركة أخرى دورية حول مركزها الذاتي.
ثم عادت المجرة الأصلية إلى شكلها الكروي بعد أن أولدت عالما جديدا، ولما كانت الحرارة الأصلية المتولدة عن حركاتها المختلفة لا تضعف إلا ببطء كلي، فالحادث الذي أتينا على ذكره سيتكرر مرارا متعددة وفي مدة مديدة إلى أن تبلغ المجرة درجة من الكثافة، تحول بمتانتها دون التغيرات الشكلية الصادرة عن حركة دورانها حول مركزها، فليس جرم واحد بل مئات من الأجرام ستقتلع على النسق المذكور من المجرة الأصلية. وكل من هذه العوالم - لاحتوائه القوى الطبيعية ذاتها المستقرة في الجرم الأصلي - سينتج أجراما ثانوية تدور حوله، كما يدور هو حول المجرة الأصلية بصحبة سائر الأجرام المتفرعة منها. وكل من هذه الأجرام الثانوية سيكون أيضا شمسا - أي مركزا لكواكب جديدة - تتفرع منه بالطريقة التكوينية ذاتها، وما الأرض إلا إحدى هذه السيارات كتبت في حينها في سفر الحياة، وأصبحت مهدا لخلائق ضعيفة يكلؤها عين العناية الربانية، وجاءت وترا جديدا تعزف في عود الطبيعة العامة المسبحة لعجائب الخالق.
وقد تفرع من السيارات قبل تجمدها أجرام أخرى صغيرة انقطعت من دائرة خط الاستواء، وأخذت تدور على محورها وحول الجرم الأصلي بقوة النواميس العامة ذاتها، فتولد من الأرض القمر، وجمد قبلها لصغر حجمه، إنما القوى التي تولت اقتلاعه من خط الاستواء الأرضي وحركته الانتقالية في هذا الخط فعلت فيه ما جعلته أن يصيب الشكل البيضي بدلا من الكروي، فأصبح على شكل بيضة، مركز ثقلها في أسفلها لا في وسطها؛ لهذا لستم ترون من هذا الجرم إلا جهة واحدة، وهو أشبه بكرة من الفلين قاعدتها من رصاص، وهي الناحية المتجهة دائما إلى الأرض، فينتج من ذلك أن على سطح العالم القمري طبيعتين في غاية التباين والاختلاف؛ الأولى: وهي الناحية المتجهة دائما نحو الأرض، لا ماء فيها ولا هواء، وفيها تجمعت كل الأجرام الجامدة الغليظة؛ لوجود مركز الثقل فيها. والثانية: التي لا يقع عليها قط نظر أرضي، حاوية كل السوائل والمواد الخفيفة، وهي متجهة أبدا إلى الناحية المخالفة لعالمكم.
قال: ولقد اختلفت الأجرام المتفرعة من السيارات عددا وأحوالا، فمن السيارات ما لم يتفرع منها شيء، كعطارد والزهرة، ومنها ما أولدت قمرا وأكثر كالأرض والمشتري وزحل ... إلخ، وهذا الكوكب - أي زحل - أولد عدا الأقمار حلقة نيرة، تحيط بخطه الاستوائي، وهذه الحلقة عبارة عن منطقة انفصلت في البدء عن خط الاستواء في زحل كالمنطقة الاستوائية التي انفصلت عن الأرض فصارت قمرا، إنما الفرق أن منطقة زحل كانت متكونة عند انفصالها من دقائق متجاذبة الجوهر، وربما متجمدة بعض التجمد، فلهذا بقيت تدور حول الجرم الأصلي بسرعة تكاد تعادل سرعة الجرم ذاته، فلو كانت المنطقة متكاثفة في إحدى جهاتها أكثر من سواها لتجمعت حالا كتلة واحدة، أو كتلات متعددة تصبح أقمارا جديدة تضاف إلى ما كان لزحل من الأقمار الأخرى.
قال: وأما النجوم ذوات الأذناب فقد توهمها البعض عوالم في بدعة نشأتها تجهز فيها بواعث الوجود والحياة كما في السيارات، وافترضها غيرهم عوالم آخذة في الدروس والتلاشي، حتى المنجمون أنفسهم كانوا يتشاءمون لها كدلالة على النحس والبلايا، على أن المطلع على تفننات وأعمال الطبيعة يعتوره العجب لأقيسة افتراضية بناها الطبيعيون والفلكيون والفلاسفة؛ ليؤيدوا بها المذنبات سيارات حديثة أو عتيقة، في حين أنها ليست إلا كواكب متنقلة كرواد في المملكة الشمسية، وما أعدت لتكون كالسيارات مساكن آهلة بالسكان من البشر، إنما اختصاصها أن تنتقل من شموس إلى شموس؛ لتستقي منها الأصول الحيوية المنعشة فتفيضها فيما بعد على العوالم الأرضية.
قال: فلنتبعن بالفكر أحد النجوم المذنبات عند بلوغه البعد الأقصى من الشمس، ولنقطعن تلك السعة المديدة الفاصلة ما بين الشمس وأقرب النجوم، ولنتأملن في سير هذا المذنب المتنقل، فنجد فعل النواميس الطبيعية ممتدا إلى بعد لا تكاد المخيلة أن تصيبه، فهناك يبطؤ سيره إلى حد أن لا يتجاوز بعض الأذرع في الثانية، بعد أن كان يسير الألوف من الفراسخ في كل لحظة عند قرب دنوه من الشمس، ولا يبعد أن تتغلب عليه عند هذا الحد شمس أخرى أشد قوة ونفوذا من التي بارحها، فتجذبه إلى دائرة فلكها، وتحصيه في عداد تباعها، وعبثا ينتظر بعدها بنو أرضكم رجوعه في وقت عينته أرصادهم الناقصة، أما نحن فنجوز معه بالفكر إلى تلك الأقطار المجهولة، فنجد فيها من العجائب ما لا يصل إليه حد التصور ... قل منكم من لم يلحظ في الليالي الصافية الخالية من القمر سحابة نيرة منتشرة في أقصى السماء إلى أقصاها، تدعونها درب التبانة أو المجرة، وقد كشف لكم عنها مؤخرا المرصاد، فرأيتم فيها ملايين من الشموس، معظمها أبهى نورا وأعظم حجما وأهمية من شمسكم، إن المجرة في الحقيقة حقل فسيح، زرعت فيه زهور شموس وكواكب تتلألأ في أرجائها الرحبة، فالشمس وكافة السيارات والأجرام التابعة لها زهرة واحدة من تلك الزهور المنثورة في حقل المجرة، وعدد هذه الزهور، أي الشموس، لا يقل عن الثلاثين مليونا، تبعد كل منها عن الأخرى أكثر من ثلاثة آلاف ألف ألف ألف فرسخ، فمن هذا يستدل على سعة تلك المجرة الممتنع تصورها، وصغارة شمسكم بالنسبة إلى باقي الشموس، ثم حقارة بل عدم أرضكم ليس فقط بالنسبة إلى حجمها وسعتها المادية، بل أيضا وبالأخص إلى أحوال سكانها، الأدبية والعقلية.
ثم إن المجرة ذاتها مع ملايين شموسها ليست بشيء بالنسبة إلى الألوف من المجرات المنتشرة في أقاصي الفضاء، إنما تظهر أوفر سعة وسناء من غيرها؛ لاحتياطها بكم، ووقوعها تحت دائرة نظركم، في حين أن المجرات الأخرى متوغلة في أقاصي السماوات، فلا يكاد يستشفها مرصادكم، فإذا علمتم أن الأرض ليست بشيء في النظام الشمسي، وأن النظام الشمسي ذاته ليس بشيء في دائرة المجرة، وأن المجرة ذاتها ليست بشيء في عامة المجرات، وأن عامة المجرات أيضا ليست بشيء في سعة الفضاء غير المتناهية؛ كان سهلا عليكم إدراك حقارة الأرض، وعدم أهمية الحياة الجسدية.
إن الملايين من الشموس المؤلفة منها مجرتكم يحتاط بأكثرها سيارات وعوالم تستمد منها النور والحياة، فمنها نجم «سيريوس» مثلا ما يربو حجمه وبهاؤه على شمسكم ألوفا من المرات، والسيارات المحتاطة به تفوق سيارات الشمس كبرا وسناء، ومنها شموس مثناة، أي نجوم قوائم تختلف وظائفها الفلكية عن وظائف شمسكم، ففي السيارات المحتاطة بتلك الشموس المثناة لا تعد السنون والأيام كما في أرضكم، وأحوال الحياة فيها يتعذر عليكم تصورها، ومن الشموس أيضا ما لا سيارات لها، إنما أحوال سكناها خير الأحوال، وعلى الجملة إن تفننات هذه النجوم واختلاف أحوالها ووظائفها مما يقصر الإدراك البشري عن تخيلها.
إن كل ما ترون من النجوم والأجرام في القبة الزرقاء يختص بمجرة واحدة تدعى - كما قلنا - درب التبانة، ولكل منها سير مخصوص، مصدره قوة الجاذبية، فتسير ليس على سبيل العرض والمصادفة، وإنما في طريق معينة، مركزها الجرم الأصلي، فقد تحقق لكم مؤخرا أن الشمس ليست بنقطة مركزية ثابتة، بل تسير في الفضاء سابحة معها موكبها الحافل من السيارات والأقمار والمذنبات، وليس سيرها بعرضي، بل طريقها محدود، تسير فيه بصحبة شموس أخرى من طبقتها حول جرم آخر عظيم تولدت منه، إنما حركة سيرها وسير باقي الشموس رفيقاتها لا تصيبها أرصادكم السنوية؛ إذ يقتضي عددا عظيما من الأجيال لإنجاز إحدى هذه السنوات الشمسية.
ثم إن هذا الجرم العظيم - الذي تدور حوله الشمس مع سائر الشموس رفيقاتها - ليس أصليا، بل يدور هو أيضا بصحبة أجرام أخرى من طبقته حول نجم آخر أعظم منه، وهكذا قل عن هذا النجم الثاني إلى أن يحل العجز بمخيلتنا عن تصور هذه السلسلة المرتبة القائمة ما بين شموس مجرتكم، التي لا يقل عددها عن الثلاثين مليونا، وكل هذه الشموس مع سياراتها مرتبطة بعضها ببعض في نظام واحد كمجموع دواليب آلة واحدة، فتظهر لعين الحكيم الناظر إليها عن بعد كحفنة من اللآلئ الذهبية، نثرتها النفحة الإلهية في الفضاء، كما نثر الريح الرمال في بقع الصحاري.
إن فلاة يكاد ألا يحدها قرار تمتد إلى كل جهة حول المجرة التي أتينا على ذكرها؛ لأن تجمعات المادة الأصلية - أي المجرات - منثورة في الفضاء كجزر عزيزة الوجود في بحر لا حد لسعته، فالمسافة التي تفصل ما بين كل مجرة وأخرى تفوق فئوقا لا يقدر مسافة قطر المجرة ذاتها، فمعلوم أن قياس مجرتنا يقدر بمئات ألف ألف ألف ألف ألف فرسخ، أما قياس بعدها عن باقي المجرات فلا يمكن لعقل أن يدركه، بل المخيلة وحدها تستطيع أن تقطع تلك الفيافي السماوية الخالية من مظاهر الحياة.
وتتجلى ما وراء هذه الفلوات عوالم أخرى تتبختر في بحر الأثير، وتظهر الحياة فيها تحت مجالي غريبة يستحيل عليكم تصورها، فالمنتقل من مجرتكم إلى تلك المجرات يعاين ضروبا وقوى طبيعية لم تكن قط لتخطر بباله، هنالك يدرك قدرة الخالق، ويسبح عجائب أعماله.
قال: رأينا أن ناموسا أصليا واحدا يتولى تكوين العوالم وخلود الكون، وأن هذا الناموس العام يظهر لحواسنا تحت ضروب مختلفة ندعوها قوى طبيعية، وبفعلها تتجمع المادة الأصلية، وتنجز تقلباتها الدورية، أي تكون في البدء مركزا سيالا للحركة ثم تتفرغ فيها العوالم، وتصبح بعدها جرما كثيفا يدور حوله ما تولد منه من الأجرام.
قال: والآن أريد أن أبين أن هذه النواميس ذاتها - التي تولت نشأة العوالم - ستتولى أيضا أمر دثارها؛ لأن منجل الموت لا يحصد ذرات النسمة فقط، بل المادة الجمادية أيضا بانحلال تراكيبها، فلما يقضي العالم سني حياته، وتخمد منه نار الوجود، وتفقد عناصره قواها الأصلية، وتزول منه الحوادث الطبيعية بزوال القوى، هل تظنون أن سيلبث دائرا في الفضاء كجرم ميت لا حياة فيه، ويبقى مكتوبا في سفر الحياة بعد أن أصبح حرفا ميتا لا معنى له؟ كلا، إن النواميس ذاتها التي انتشلته من ظلمة الخواء، وجملته بمظاهر الحياة، ودرجته من أجيال الصبوة إلى الهرم، ستتولى أمر دثاره، وإرجاع عناصره الجوهرية إلى معمل الطبيعة العام؛ ليتكون منها فيما بعد عوالم جديدة، إلى ما لا انتهاء له.
قال: فأبدية الكون تقوم بالنواميس ذاتها المتولية أعمال الزمان، أي تعقب الشموس الشموس، والعوالم العوالم، دون أن يصيب قوى الكون أدنى كلل أو خمود، فما ترون في أقاصي السماوات من نجوم نيرة قد محتها - ربما - من أمد مديد أصبع الموت، وعقبها الخواء أو خلقة جديدة تجهلونها بعد إنما البعد الشاسع القائم بينكم وبين تلك الأجرام القاصية، والذي لا يقطعه النور إلا في ألوف ألوف من السنين يجعل أشعتها أن تصل إليكم اليوم، مع أنها ربما انبعثت قبل خلقة الأرض بأمد مديد، ففي هذه كما في غيرها تظهر حقارة الإنسان وعدم دنياه، إنما سيأتي يوم فيه يبقى ذكر الأرض في ذهننا كظل بخاري، بعد أن نكون قد تدرجنا أجيالا لا عدد لها إلى العوالم العليا، ولما نتأمل في المستقبل - عند بلوغنا هذا الحد - فلا نرى نصب أعيننا إلا تعاقبا سرمديا من العوالم، أو أبدية ثابتة لا انقضاء لها.
فضل العرب على الغرب
نقول: ولقد بلغت فلسفة ابن رشد - عند اليهود في القرن الرابع عشر - أرقى وأبقى منزلة، حتى لقد تعهد «لاون» الإفريقي اليهودي شرح فلسفة ابن رشد كلها، وتوضيح ما نقله هذا الفيلسوف عن أرسطو وما لخصه منها.
يقول «سديو» العلامة الفرنسي الشهير في هذا المقام: «ولا يخفى أن الكشف السالف يفيد علم الفلك الشرقي مزية الأصالة والأولية التي لا يستطيع الإمساك عن الإقرار بها أحد من الفرنجة، الذين كان كشفهم بمعلومات الكتب العربية شاهدا على تقدم العلوم الرياضية عند العرب، الذين استفاد منهم اللاتينيون المعلومات؛ فإن «جوستر» الذي كان بابا روما الملقب بسلوستر الثاني أدخل من سنة 970 إلى سنة 980 عند الفرنج العلوم الرياضية التي كسبها عن عرب إسبانيا، و«أهلاد» الإنجليزي ساح من سنة 1100 إلى سنة 1120م في كل من إسبانيا ووادي مصر، ثم عاد فترجم مبادئ إقليدس من العربية بعد أن ترجمها العرب من اليونانية، وترجم أفلاطون من العربية الرياضيات الكروية المنسوبة إلى «تيودور» كما أن الخواجة «رودلف» أحد أهالي «بروجس» البلجيكية ترجم مسائل بطليموس المتعلقة بالكرة الأرضية والسماوية المصورة مبسوطة على خريطة، وهكذا «ليونارد» ألف سنة 1200م رسالة في الجبر الذي نقله من بلاد العرب، و«قميانوس» الإسباني ترجم في القرن الثالث عشر كتاب إقليدس ترجمة جديدة وشرحه، وقد كان الملك «زوجير» الأول ملك «السيصليين» مساعدا لعلماء «بسيسيليا» لا سيما «الأوريسي» ثم جاء العاهل فردريك الثاني بعد «زوجير» بمائة سنة فلم يأل جهدا في المساعدة والحث على كسب العلوم والمعارف الأدبية الشرقية، وكانت أتباع ابن رشد تعمل في ديوانه، وتعلم التاريخ الطبيعي، وعلم النبات، وعلم الحيوان.»
يقول «سديو»: إن القوانين وهي خمسة كتب لابن سينا قد ترجمت وطبعت مرارا، وكانت مؤلفاته ومؤلفات الرازي تدرس في مدارس أوروبا نحو ستة قرون، ولقد طبعت مؤلفات الفخر الرازي في الطب في مدينة البنادقة سنة 1510م، وكتب علي بن عباس الفارسي وهي عشرون كتابا في الطب ترجمت إلى اللاتينية سنة 1127، وطبعها مخائيل كابلا سنة 1523 في مدينة ليون بفرنسا.
هذا ما عن لنا أن نلخصه من كلام سديو العلامة الأشهر؛ لنظهر القراء على شيء من فضل العرب على الغرب في السبق في مضمار العلم وحلبة الفن، وليعلم الذين لا يزالون على جهل من أمر العرب وتاريخ العرب وفضل العرب أن الحق لا يعدم نصيرا ولو من الأعجام وأهل الغرب، فهذا فضل أنطق لسان سديو الفرنسي على حين أننا مازلنا نسمع أصوات كثيرين من المصريين والمتكلمين بالعربية ترتفع من كل جانب بالاستنكار، وغمط شأن العربية، فهم ينعون العرب وآثار العرب وفضل العرب في حين أن الأجانب من الفرنسيين والألمانيين والغربيين جميعا لا يزالون ينطقون بالحق، ويرفعون لواءه من غير غضاضة ولا توان، والأمر لله من قبل ومن بعد.
قالوا: (1) ولقد أخبر رسول الله
صلى الله عليه وسلم
أنه رأى أرواح الأنبياء - عليهم السلام - ليلة أسري به في السماوات سماء سماء؛ آدم في سماء الدنيا، وعيسى ويحيى في الثانية، ويوسف في الثالثة، وإدريس في الرابعة، وهارون في الخامسة، وموسى وإبراهيم في السادسة والسابعة. يقول ابن حزم: فصح ضرورة أن السماوات هي جنات. (2) عن صفوان بن يعلى، عن أبيه، عن النبي
صلى الله عليه وسلم
قال: «البحر من جهنم أحاط به سرادقها.» وقال تعالى: )
والبحر المسجور (
أي الموقد، روي أن الله تعالى يجعل يوم القيامة البحر نارا، فيسجر بها نار جهنم، وهو أعلم.
فيما بعد الطبيعة (1)
نقول: ولقد راهنت مجلة
Sciéntific American
بألف جنيه أودعتها في خزانتها، وتحدت كل من يؤمن بالأرواح، قائلة: إنها تراهن بهذا المبلغ كل من يستطيع أن يثبت لها عمليا وجود الأرواح، وأنها فوق ذلك تدفع للمراهن هذا مصاريف انتقاله من بلده إلى نيويورك، على أن شخصا من أشياخ العلم عندنا طلب إلي إذ ذاك أن أدلي برأيي، فقلت: إن هذه المجلة لن تستطيع أن توفق إلى مراهن صادق أو روحاني مخلص؛ ذلك لأن الأرواح نوعان: علوية وسفلية، والثانية كاذبة مخاتلة مخادعة ميالة للمزاح واللهو والعبث بعقول المخلوقات، دائبة اللعب، دائمة السخرية، لا يهدأ لها حال إلا بالضحك من عقول الناس تضلل بهم، وتعبث بأعمالهم وأقوالهم كما يعبث الماجن بصاحبه. أما الأولى «الأرواح العلوية» فصادقة، أبية، شأن الكمل، وهذه تمقت المادة وأحوالها وأعمالها، وتحتقر الألعاب سيما منها المحرم أو المكروه، والرهان هذا عمل يستحبه البعض منا ويلهو به، ويلعب على أن الأرواح الطاهرة العلوية تترفع عن مثل هذه الأعمال، وتربأ أن تتدخل في مراهنات، وماذا يضيرها لو آمن الكل أو جحد الأرواح ناس من مخاليق الله، ما دامت لا تهدي من تحب ولكن الله يهدي من يشاء.
إذن فالذي يتصدى للمراهنة من أصحاب المذهب الروحاني ليس يعقل أن يكون إلا ممن يألفون ويتفهمون مع الأرواح السفلية، إما أن يكون هذا أو أن يكون من «البلافين» الملاعبين المشعوذين «كالحواة» وما أشبه ذلك. وقد وقع ما قلت به، فلبثت المجلة في انتظار من يكسب الرهان ردحا طويلا من الزمن، ولكنها لم تظفر ببغيتها، ولم يسع إليها إلا المشعوذون والدجالون، هذه حكاية وقعت من عهد قريب نرويها لمناسبة. وقد كان في وسع أمثال إديسون وأولفر لودج وكونان دويل ووليم جيمس، كان في وسع واحد من هؤلاء أن يثبت علميا وعمليا لجماعة الساينتفك أميركان ما يؤمن به، وما رأى وما سمع، لولا أن هذا لا ترضاه الأرواح.
وهاك ملخص ما نشرته جريدة الهرالد سنة 1921 خاصا باختراع إديسون قالت: «كان إديسون في مكتبه (مساء يوم من الأيام) وكانت أمامه الآلة التي اخترعها لمخاطبة الأرواح، وإذا به يراها تتحرك، فجعل يرقبها ويلحظ حركاتها، وإذا حركاتها على حسب الحروف الأبجدية التي اصطلح عليها إديسون، واتفق هو ومن معه في المعمل على أن تكون رموزا وأداة للتفهم إذا فارق أحدهم هذه الحياة الدنيا وانتقل إلى عالم الأرواح، وعلم أن الذي يخاطبه إنما هو روح مساعده بيترسون، فدهش لذلك؛ لأن بيترسون هذا كان غائبا، ولأن إديسون كان على اعتقاد أنه لا يزال حيا، بيد أنه علم من بعد ذلك بواسطة روحه هذا أن عصابة من الأشرار تربصوا له، وطلبوا منه أن يبوح لهم بما في معمل إديسون من أسرار، وأن يساعدهم بما لديه من أدوات كهربائية على تنفيذ أغراض سافلة سيئة، ولما أبى أن يطيع أمرهم قتلوه. وكان أبعد ما يعتقده إديسون في شأن مساعده أنه ضل الطريق أو غاب عن الحضور لعذر ما، وما أشد حزنه الممزوج بالفرح لنجاح اختراعه! ثم أخذت الآلة تتحرك، وظل إديسون يرقبها، حتى أخبره الروح أنه يحس بأسف شديد ؛ لأنه فارق هذه الدنيا وترك كناريا محبوسا في قفص موضوع فوق سطح منزله دون أن تعلم بذلك زوجته حتى ترعاه بعنايتها، وأنها لا تعلم بوجوده؛ لأنه اشتراه يوم وفاته؛ ليهديه لابنه من غير أن يكون لها بذلك علم، أنبأ روح مساعد إديسون بذلك، وأعلمه أن لديه في مكتب منزله تصميم اختراع محدث، وطلب إليه أن يجرب هذا الاختراع، فإذا نجح كان من حق ورثته من عائلته. أما إديسون والذين معه فقد علموا بعد ذلك أن الكناري مات جوعا.»
ولما قرأ هذا الخبر الدكتور ليمان أبوت أخذته دهشة، وكاد لا يصدق ما فيه من رواية، وفيما هو على هذه الحال دق جرس التلفون، وإذا بالمستر هيوز يخاطب: هل قرأت؟ - قرأت العجب العجاب، هل حقيقي هذا؟ العالم كله في لغط شديد؛ لأن جريدة نيويورك جورنال تقول إن إديسون ما زال حتى هذا الصبح يخاطب روح مساعده بيترسون، وقد علم منه أمورا عن عالم الأرواح. - ماذا علم؟ - علم أن أرواح كثيرين من أعلام الخلق - سيما منهم أقطاب السياسة - تحلق في جو وشنطون الآن. - والله يا هيوز لقد اختلط علي الأمر، فلم أعد أميز بين المزاح والجد، ولا بين الحقيقة والوهم. - لا لا، إن ما تقرؤه وتسمعه لحقائق ثابتة، حقائق كالكذب، لقد اتصلنا بعالم الأرواح من غير ما جدل أو شك، ولم يعد الموت إلا سفرا عاديا بسيطا. - ترى هل ثبت مقتل ويلسون؟ - لقد أصبح في دائرة البوليس مرجحا، وإنما جثته لم يهتد إليها بعد. - ما رأيك في أن نكلف إديسون أن يسأل مساعده بيترسون عن روح ويلسون؟ - أجل، لقد وقع بخاطري أن نذهب إلى إديسون ونسأله بعض الأسئلة، بيد أنه قد أحاط به الصحفيون إحاطة السوار بالمعصم، وقد أمه الناس أفواجا أفواجا من كل صوب وحدب، وقد استنجد الحكومة فبعثت إليه بفرقة من الجيش لرد الخلق عنه. - حسنا إن إديسون صديق من أعز أصدقائي، فلنسع إليه، وسأقترح عليه أن أنشئ لديه مكتبا خاصا لجمع معلومات المخاطبات الروحانية وتوزيعها على الصحفيين، وبهذا يستريح من تكأكؤ الخلق عليه وحول معلمه.
فيما بعد الطبيعة (2)
وكان في ذلك العهد الدكتور ليمان أبوت هو وصديقه مستر هيوز، عند إديسون في غرفته الخاصة، وكان الرجل عظيم السرور شديد الابتهاج بنجاح اختراعه، وهو لا يني ولا يكل ولا يمل مخاطبة روح مساعده بيترسون، وما نحن بقادرين أن نتبسط في الحديث، ونستزيد من الكلام فيما حدث من حوار ومخاطبة في هذه الجلسات التاريخية العظيمة، وإنما نحن موردون ما يهم القراء منها فنقول: إن الدكتور ليمان أبوت استحلف مستر إديسون أن يسأل روح مساعده بيترسون في استحضار روح ولسون.
ولما ألقى السؤال على روح بيترسون بحثت عن روح ولسون ردحا من الزمن، وقالت إنها لم تجد ولسون ولا أخبرها أحد بوجوده في عالم الأرواح، بل هي تزعم بعد هذا البحث أن ولسون لا يزال حيا. - دعها تبحث عنه حيا، ألا يمكنها ذلك؟ - تقول: إن البحث عن الأحياء صعب جدا، على أنها لا تزال تبحث، وتجد في البحث. - أما أخبرتك عن الذين قتلوه؟ - نعم، تقول: إنهم من جمعية كوكلا كس كلان السرية، أو من جمعية أخرى مخالفة لها، وهي على اعتقاد أن ولسون لا يزال أسير هذه الجمعية.
وبينما كان إديسون مقبلا على صاحبه يحادثه إذا بالآلة تنقر، فقال للحال: لقد حضرت روح بيترسون. فسمعا لما تقول، ثم حرك أصابعه على الآلة أخذا وردا، وما لبث أن صاح متعجبا قائلا: إن روح بيترسون قد اهتدت مصادفة إلى الكابتن ماركسون، وهو في قبضة يد جماعة كوكلاكس كلان. - الله ماذا تقول؟! إن البوليس لا يزال يبحث عن قاتل الكابتن ماركسون. - البوليس غبي جدا؛ لأن الجثة المشوهة الموجودة في دائرة البوليس هي جثة مساعدي بيترسون لا جثة ماركسون، هو ذا بترسون يتكلم إنه اهتدى إلى ولسون، على أن ولسون هو الآخر أسير هذه الجمعية. - أين؟ - في مكان ليس في وسعه أن يصفه؛ لأن الأرواح لا تستطيع أن تميز الأوضاع المادية والأحياز المكانية، وهو يرى ويتعرف روح ولسون لا جسمه.
وهو يعرف من مثال زوجه المشابهة لمثال جسده، فإن فراسة الروح تشابه فراسة الجسد، ولقد تحقق وتأكد من هويته، من أفكاره. - هل يستطيع أن يلقي عليه بعض الأسئلة؟
أما إديسون فالتفت إلى صديقه الدكتور وقال له: لو أن الأرواح تستطيع أن تؤثر في الأحياء أو تخاطبهم متى شاءت، لما كانت ثمت داعية لهذه الآلة، إن تأثير الروح على الروح التي لا تزال تحجبها الأحياز المادية ضعيف، على أن روح بيترسون ستجتهد في التأثير على روح ولسون حتى توجه أفكاره إلى أي موضوع، وحتى تستطيع أن تفهم أفكاره بعض الفهم من غير أن يشعر بذلك. - أما قال لك بيترسون عمن صادف من أرواح المشهورين؟ - صادف روح روزفلت فعرفته بروح فرنكلن ووشنطون وكثيرين، ورأى كتشنر، والقيصر نيقولا، والإمبراطور فرنسوا جوزيف، وتعرف بروح نابليون، فتهلل أبوت وسر وابتهج، وهو لا يكاد يصدق هذا، وطلب إلى إديسون أن يسأل بيترسون في استحضار روح صديقي روزفلت، ويقوم بالترجمة بيني وبينه. - لك ذلك.
ثم أخذ ولسون يحرك أصابعه على الآلة وهو يقول: لقد أوعزت إلى بيترسن أن يعلم هؤلاء الحروف الأبجدية التي اصطلحنا عليها للتفهم مع الأرواح؛ حتى يستطيعوا أن يخاطبونا من غير واسطة، والروح التي طال عهدها في عالم الأرواح أقدر على التأثير، هه، هو ذا بيترسون قد دعا روزفلت.
قال روزفلت: مرحبا ليمان، إننا نشكر إديسون الذي اخترع آلة التفهم بيننا وبين الذين لا يزالون على هذه الأرض.
فقال ليمان: كيف أثق أن روزفلت يخاطبني؟ - أوه بيننا سر قديم لا يعرفه أحد، هل تذكر المقالة التي كتبتها أنا؟ - في أي موضوع؟ - موضوع الإمبراطور غليوم. - كفى، كفى صدقت وآمنت بروحك أيها الحبيب العزيز، إني أتوق إلى السفر العاجل إليك، أأنت سعيد؟ - أنا من غير شك سعيد، ولكن لا تعجل بنفسك في المجيء، فإن أمريكا لا تزال بحاجة إلى مثلك إلى أن يظهر نوابغ آخرون.
فتهلل ليمان، وأخذ يصيح قائلا: ... تدي ... تدي ... مصغر اسم تيدور روزفلت. - أين تقيمون؟ - الأقيانوس الأثيري الواسع يحوينا. - ولماذا أنتم هنا؟ ومن معك؟ - معي ألوف من فحول السياسة، بعضهم تعرفهم وبعضهم قرأت عنهم، إلى جانبي فرنكلن ووشنطون وغيرهما، وما حدانا إلى الهبوط هنا إلا ما أحسسناه من أن بعض الأمم تتباحث في مسألة نزع السلاح فحدانا ذلك إلى المجيء؛ حتى نشهد الرواية الجديدة التي يمثلها قادم الأمم.
في الأرواح
ونفس الإنسان قبل الولادة وبعد الموت
ليس من سبيل إلى إنكار ما للمذهب الروحاني من فائدة ونفع، بعد الذي ظهر من انتشاره في العهد الأخير، وبعد أن آمن به واطمأن إليه عمد المذهب المادي، وأعلام العلم الحديث، وأقطاب المفكرين من أهل الغرب والعالم الجديد، أمثال إديسون، ووليم جيمس، والسر وليم كروكس، والسر أولفر لودج، وستيد وكونان دويل، ولمبروزو ... إلخ. وليس هذا بالشيء الجديد، ولكنه قديم عرفه تاريخ أسلافنا من شعوب هذا العالم، أمثال المصريين القدماء، وكانت كهنتهم تزاول المذهب الروحاني عمليا، وتشفي به بعض المرضى. واليونانيون وكانت هياكلهم ملأى بالعرافات يناط بهن أمر استشارة الآلهة ونقل الوحي، آية ذلك ما نقرأ من أن هوميروس الشاعر النابغة الأشهر قد وصف في شعره كيف استطاع عوليس الملك أن يخاطب روح تيز رباس العراف. وكذا الهنود وكانوا قديما يعالجون هذه المسائل وآية ذلك ما كتبه «مانو» المشترع الهندي في أحد أسفار «الفيدا»، وهو أقدم الكتب الدينية المعروفة، وهذا نصه:
إن أرواح الأسلاف ترافق بهيئة غير منظورة بعضا من البراهمة، وتتبعهم تحت شكل هوائي، وتكون قريبة منهم عندما يجلسون.
ولقد فصل الجهل بين الإنسان وهذا المذهب ردحا من الزمن، وطاف عليه طائف النسيان، حتى توثب بعض الذين أشرق عليهم نور الحق من علماء هذا العصر لمعالجة ما في المذهب الروحاني من شئون ومسائل لها كل الأهمية في حياة المخلوقات ومستقبل الإنسان.
ولا بدع؛ فإنما أهم ما يهتم به الإنسان أن يكون سعيدا موفقا مطمئنا على مستقبله، وأن يعرف ويتعلم من أين أتى، وأين هو، وإلى أين هو ذاهب.
أما السعادة فلا تعرف ولا يحسبها المخلوق إلا إذا عرف من أين وإلى أين، وأما الطمأنينة فلا تكون إلا مع العقيدة، والعقيدة لا تكون إلا بالعلم الروحاني، وهنالك تعرف أهمية هذا المذهب واتصاله بهذه النواحي؛ ناحية العقيدة وناحية ماضي المخلوق ومستقبله.
ولعل أول ما عرفه العلم الحديث من حوادث الأرواح تلك الحادثة التي وقعت في سنة 1846؛ إذ سمعت لأول مرة طرقات متوالية في بيت رجل اسمه «فيكان» من قرية «هيدسفيل» من أعمال «نيويورك»، ففي إحدى الليالي أخذت «مدام فوكس» مرقدها مع ابنتها في غرفة واحدة؛ لعلها تتخلص من الأصوات المزعجة التي كانت تسمعها كل ليلة؛ إذ هي تسمع طرقات متوالية، فوقع بخاطر كاتي ابنة فوكس أن تصفق بيديها فقلدها الطارق، فقالت «مدام فكس»: عد لنا عشرة، فعد عشر طرقات.
س:
كم عمر ابنتي كاتريا؟
ج:
أجابت الطرقات تماما.
س:
هل أنت إنسان حي؟
ج:
لم يجب.
هذه أول محادثة تمت بين عالم الغيب وعالم الشهادة في عصرنا الحاضر عرفها العلم، وفي سنة 1892 روى الأستاذ العلامة لمبروزو، وهو واضع حجر الزاوية في علم الاجتماع الجنائي، قال: بعد أن أطفأت النور تضاعفت الطرقات في داخل المائدة، ثم رأينا جرسا كان موضوعا على المائدة الصغيرة ارتفع في الهواء، وطفق يدور حول رءوسنا يقرع من نفسه، ثم انحط على المائدة التي كنا حولها، وانتقل من بعد ذلك إلى سرير يبعد عن مكان الوسيط نحو ثلاث أذرع.
1
المذهب الروحاني (1)
أو جمعيات المباحث النفسية
الحين بعد الحين، والفينة بعد الفينة نسمع بأن جمعيات المباحث النفسية قد وقفت إلى ما يشفي العلة، وينقع الغلة، في مسألة عالم الأرواح، وأنت تأنس اهتماما عظيما من طبقات كل شعب وطوائف كل جيل من الناس على اختلاف نزعاتهم، وتباين محلهم واستعدادهم، ولعل الباعث لهم في هذه السبيل وفي الاهتمام «بالمذهب الروحاني» ومعالجة مسائله نظريا أو عمليا، لعل السبب في ذلك أهمية الموضوع واتصاله بالدين، وسلطانه سلطانه ونفوذه نفوذه، وبالعقيدة وهي الرابط القوي في الإنسان بمستقبل المخلوق وصيرورته، هنالك إذا اطمأن المخلوق على هذه المسائل، وحل ألغازها حلا مقبولا معقولا توفرت له السعادة، ودخل جنة الخلد آمنا مطمئنا.
ولقد يتعصب المتعصبون، ويجحد الجاحدون، ويتبرم المتبرمون، ولكن هذا كله ليس يغني عن الحق فتيلا، حسب المذهب الروحاني فخرا أن يندمج في عداد رجاله الباحثين وأفذاذه المؤمنين أقطاب المادية وعمد الدهرية، وفحول العلم الحديث، أمثال: سير وليم كروكس، وسير أوليفر لودج رئيس المجمع العلمي البريطاني، وإديسون شيخ المخترعين، ووليم جيمس، وكونان دويل، وغيرهم.
ولقد بلغ من اهتمام الغربيين بهذا الموضوع أن أنشئوا جمعيات في كل عاصمة من عواصم أوروبا وأمريكا، أطلقوا على كل منها اسم «جمعية المباحث النفسية» ينحصر عملها في البحث العلمي العملي في ظواهر الأرواح وما بعد الطبيعة، وغير ذلك مما لا تقوى على هضمه معد الماديين، مثل العقل الباطن، السبرتزم والأكتوبلازم، التلنتي والتخاطب العقلي، قراءة الأفكار، التنويم والاستهواء، الشفاء بالإيمان، الإنباء بالمستقبل، تعدد الشخصية، المتكلم من بطنه، السحر والشعبذة، صدق الرؤيا، مناجاة الأرواح ... إلخ.
ولجمعيات المباحث النفسية أنباء مدهشة في هذا الموضوع تدون أكثرها في تقارير سنوية قل أن نسمع بها، وهي غاية في الأهمية لاتصالها بالحياة الباقية ومستقبل المخلوقات، ولقد وفق إديسون إلى اختراع آلة تثبت بالحس وجود العالم الروحاني، بيد أنه منع من استعمالها حتى لا يختل نظام الكون بمعرفة كل إنسان ما يضمره له المستقبل.
والغريب أني قرأت أخيرا رأيين متفقين في مسألة الأرواح؛ أما الأول فلإديسون، وأما الآخر فللدكتور صروف، وكلاهما - بعد كل ما رأياه وعالجاه - لا يجزمان بنفي أو إثبات، على أني وإن كنت أخالف دكتور صروف في بعض ما جاء بكتابه الجديد «رسائل الأرواح» إلا أني أرى أنه ألم بالمسائل التي ذكرتها وغيرها من المذهب الروحاني إلماما تاما كاملا نافعا مفيدا، وإن أعجب لشيء فعجبي لاتفاق رأي إديسون مع دكتور صروف في هذا الموضوع، وقد عالجاه عمليا، وشاهدا فيه ما شاهدا.
إلا أن أمد المدرسة المادية قد صار إلى زوال، ونجمها إلى أفول، إلا أن المذهب الروحاني هو مدرسة المستقبل.
1
المذهب الروحاني (2)
مدرسة القرن العشرين
مجلة المقتطف مدرسة جامعة يتتلمذ عليها كثيرون من المفكرين، وينتفع بها أكثر قراء العربية انتفاع أهل الغرب بما لديهم من أمهات المجلات، ولعل هذا ما حداني أن أتمحل لموضوع المذهب الروحاني بعد أن قرأت ما نشرته مجلة المقتطف من المساجلة التي دارت بين السر أرثر كونن دويل والمستر مكايب، ومما أسلفت نشره في ما مضى من السنين وفي العهد الأخير للسر أولفر لودج وغيره من فحول العلم وعمد الفلسفة في هذا العصر، ومما عن لها هي أن تعقب به على كل هذه الآراء المتضاربة المختلفة الأشكال والألوان.
وما نبغي الإسهاب في موضوع نحن نميل كثيرا إلى الاعتقاد بأنه سيكون مدرسة القرن العشرين، وإنما نحن نريد أن نلمع إلماعا بما وفقنا إليه في هذا الباب، وعسى أن يهيئ لنا القدر موقفا آخر نستطرد البحث فيه نظهر القراء على أسباب الخلاف القائم بين أنصار المادية وأشياع الروحانية، هنالك تطمئن نفوسنا، وتستريح ضمائرنا، وهنالك نكون قد أدينا ما نحسه من واجب، وما نشعر به من حق.
نقول: لقد نضجت المادية في القرن التاسع عشر، وقويت مدرستها، واتسع نطاق نفوذها، فهيمنت على المشاعر والمعتقدات، وملكت على الناس مفاوز حساسيتهم، وتولت طرائق تفكيرهم، فحالت بينهم وبين كل ما دونها بما كان من هيمنة وسلطان على الماهية الإدراكية من جهة والقوة الوحدانية من جهة أخرى، على حين أنا نرى أن هؤلاء قد عاشوا في جلودهم أكثر من عيشتهم بوجدانهم وتفكيراتهم، وعلى أن «ما بعد الطبيعة» لم يعدم من بين المفكرين وأهل العلم من كان يؤمن به، ويأبه له في كل مكان وفي كل زمان، وإن اختلف ذلك باختلاف العصور والأدوار التي مر بها التاريخ.
ولقد يخيل إلينا أن ظل المدرسة المادية قد أخذ يتزاول، وبدأ يروغ، وأن مدرسة المذهب الروحاني تقوى كل يوم وتشتد بمن يدخلونها أفواجا أفواجا من وقت وبعد حين من أقطاب المدرسة المادية، وفحول العلم، وعمد التفكير من المعاصرين المشهورين، أولئك الذين لا ينطقون عن الهوى، ولقد يخيل إلينا أن السبب في انتشار المذهب الروحاني في بعض بلاد العالم دون البعض الآخر، وعلة رواجه في الشرق، هو أنه لا يتعارض مع الأديان، ولأنه يصادف هوى في نفوس المتدينين بما يدخله عليهم من الانتعاش والعزاء، وبما يقوي فيهم من الإيمان بالعالم الدائم، وما أتعس هذه الحياة التي هي أشبه الأشياء بمقدمة طويلة عريضة لا نتيجة لها! إذا كانت حياتنا تنتهي عند تمثيلنا هذا الدور المحزن المحوط بكل أنواع الشقاء، ونختم بالموت الذي ما بعده حياة، فتسدل الستارة على مقدمة من غير نتيجة!
ولقد سمعت بعضهم يقول: دعني أعيش مع الوهم، وأمتع بما يصوره لي خيالي من النعيم المقيم جنة الفردوس أدخلها وأعيش فيها أبد الآبدين، دعني في خيالي أكفكف به ألم هذه الحياة، وأرفه عن نفسي وطأة هذه الحياة الدنيا، وأسري عنها ما يصيبها من الشقاء والبأساء، فإذا كنت خرفا - ولم يكن لهذا كله من وجود في مخي - فإني إذن لم أخسر شيئا، ولكني مع هذا أكون قد هونت على نفسي مصائب نصادفها، وخففت عنها مصاعب تعترضها في سبيل تدرجها. على أننا لا نجري مع هؤلاء حتى في شوطهم هذا، وإنما نحن نريد أن نندمج في حسنا، ونعمل على الوصول إلى الحقيقة النسبية من طريق الرقي الوجداني بتهذيب النفس وترقية الوجدان، وتقوية الماهية الإدراكية.
نقول: وإذا كان العقل المجرد لا يمكن أن يسلم به أصحاب المذهب المادي، دعواهم في ذلك أنه لا عقل من غير مادة، وأن المادة الحسية الظاهرة هي التي تعرف بها أعمال العقل والروح والنفس وأشباه ذلك؛ فإنا نؤمن أن احتياج العقل إلى النفس أو المادة ضروري لنا؛ لأننا نعيش مندمجين فيها، منكرين كل ما عداها، والاندماج هذا يوجه كل قوانا إلى المادة فلا نرى إلا بها، ولا نفهم إلا من طريقها. وما نريد أن نستدل بأهل الكشف وأصحاب مذهب التصوف والواصلين من المتوجهين، أولئك الذين يرون بعيونهم سكان بعض العوالم الأخرى، ويشاهدون حقائق لا تقوى أبصارنا المادية الصرفة على مواجهتها، ولا تستطيع بصائرنا الحسية على الإحاطة بها لما يقف قبالها من مساتير الطبيعة ومغاليق هذا الوجود، ولكن ما نذهب إليه وما نريده من المفكرين أن يتمشوا معنا في طريق العقل، ويعللوا الظواهر البينة التي تظهر في العالم، والتي ينحصر عمل العقل في تعليلها وإدراك كنهها، واستكشاف بواعثها ومسبباتها.
يريدون أن تصبح مسألة الأرواح مسألة آلية صرفة، ويريدون تعليلها بعقول منفعلة مستفادة، وهم يعلمون حق العلم أن الأثير، وهو الوساطة الوحيدة التي توصل بين أطراف العوالم جميعها والذي يرجع إليه وجود التماسك والانسجام والمغناطيسية والنور والكهربائية والجاذبية أيضا على رأي أينشتين، يعلمون أن الأثير هذا يقف العلم أمامه مكتوف اليدين، وهو الذي لا بد من دراسته دراسة تامة لمن يريد أن يدرس العوالم الروحانية الأخرى، ولأنه لا بد لنا أن نعبر هذا البوغاز لنصل إلى المحجوب الذي كثرت في وجوده الشكوك والريب.
يلوح لنا أن العلم لا يزال يحبو في مهده، والعقل الذي بهره ما وصل إلى استكشافه من تسخير الهواء والماء والكهربائية والانتفاع بقوى الطبيعية، يلوح لنا أنه لا يزال يتخبط في دياجير الدجى الحالكة، ومعميات الوجود، فكلما وفق إلى ظاهرة أنسها حقيقة وقف منتعشا متباهيا شامخا، ولكنه لا يلبث هنيهة أن يرتطم في صخرة تضيع عليه جهوده، وتنبهه إلى غروره وتوقفه عند حده.
يقول الفيلسوف الإنكليزي المعروف هربرت سبنسر: إن العقل الإنساني لم يصل إلى كشف أسرار الطبيعة، وإننا ما وصلنا إلا إلى إدراك وتعليل الكليات، وأما الجزئيات فلا يزال سرها غامضا. قول حق، واعتراف صريح، ولكن العقول العاتية الجبارة ترغب في المزيد، ولا تقنع إلا بالموجود المحسوس، ثم هي من بعد ذلك لا يرضيها كل تعليل، ولا تقبل ما يجيئها عن طريق السماع أو التواتر.
الشك أول خطوة يخطوها المخلوق صوب اليقين، ولا يكون اليقين يقينا حقا قائما على دعامات قويمة متينة إلا بعد الشك، والتفكير والتأمل الطويل، والبحث والاستقراء، كلها شئون أباحتها الأديان بل أوصت بها، هذا هو الكتاب المقدس يقول: «فتشوا الكتب؛ لأنكم تعتقدون أن لكم فيها حياة أبدية.» وهذا هو القرآن الكريم يقول: )
وفي أنفسكم أفلا تبصرون ( ؛ لذلك نحن لا نستهجن من غير المؤمنين بالعالم الروحاني طرائق أبحاثهم وامتحاناتهم بتحقيقاتهم، ولا نريدهم أن يميلوا معنا من غير بحث ولا إقناع، وإنما نحن ننكر عليهم حججهم التي يتمسكون بها حيال هدم هذا المذهب، وكلها قائمة على أنهم امتحنوا إنسانا يدعي الانتماء إلى الروحانية، فما آنسوا إلا مهاترة وتلاعبا وشعوذة، وليس هذا يقوم دليلا صحيحا عند العقل، والفرق كبير بين المذهب والمتمذهب به، وليس من الصواب في قليل ولا كثير أن أرمي مذهبا بالعطل وأتهمه بالبطلان لمجرد وجود بعض الناس ممن يدعون زورا انتماءهم له، ولمجرد أن يخفقوا أمامي في عمل يقومون به.
والمذهب شيء والمدعي الانتماء إليه شيء آخر، فكم من متدين أساء إلى دينه بادعائه أنه من مظاهر هذا الدين! وكم من مواطن أساء إلى وطنه لتصرف يبدو منه فيحكم الحاضر على المواطنين جميعا على هذه الشاكلة! والمذهب الروحاني مدخول بكثير من اللاعبين والأدعياء الذين يعيشون بالشعوذة والتحضير وجلب المحبة، وما كان هذا ليؤثر في جوهره؛ لأنه قائم بجوهره، يدل على وجوده بالامتحان والاستعداد.
إن خطأ كبيرا أن يعتقد البعض بأن كل إنسان يجب أن تظهر له الأرواح عيانا بيانا في بهرة الشمس، والناس يختلفون أمزجة، ويتباينون في استعدادهم، وليس المائع الحيوي فيهم على نسب متساوية، وكذلك كانت الفروق بين إنسان وإنسان كثيرة متباينة، فقد يرى الإنسان ما لا يراه الآخر؛ لما فيه من الاستعداد الطبيعي، وقد يكون غيره بحاجة إلى تفوق ومران؛ ليصل ما يصل إليه غيره فجأة ومن غير عناء ولا نصب. وخطأ كبير أن نتصور أن المزاج الواحد يكون بحالة واحدة أبدية دائمة دائبة، وما كان أمزاج حتى الأنبياء سواسية في كل حين؛ لذلك لا يمكن أن نصيب مرمى الحقيقة إذا نحن حكمنا على الروحاني بمجرد جلسة واحدة؛ فقد يختلف المزاج فيه، وقد تختلف الروحية عنده، فكان أولى لنا أن نتريث في الحكم، ونجري على قاعدة «كانت» الفيلسوف في الامتحان وفي إصدار الأحكام.
لقد قرأت بعض ما وفقت إليه جماعة المباحث النفسية في بلاد الإنكليز، وقرأت اعتراض المعترضين على مذهب الأرواح، فعلمت أن جوهر الاعتراضات ومحورها يدور حول نقطة واحدة هي أهم ما يوجه نحو ظواهر الأفعال الروحانية وأثر ما تظهر به، نعم، تسائل الذين يحضرون الجلسات ويرون بأعينهم فعل الطاولة أو التنويم أو استحضار الأرواح فيجيبونك أن هذا إنما ينشأ من انتقال الأفكار، وتوافق الشعور، وأن ما يقع من النائم أو من فعل الطاولة إنما هو من أخلاط الأمزجة لأناس اجتمعوا في جماعة واحدة، وخضعوا لتأثير واحد، فأصبح الكل خاضعا لمؤثر واحد، وصار سهلا جدا أن ينتقل فكر الواحد إلى الآخر بتيار عصبي أو مائع حيوي يصل الأمزجة بعضها ببعض، ويكون وساطة لذلك.
ولقد حضرت جلسات كثيرة من أنواع مختلفة لهذه الشئون، أنا ذاكر هنا نوعين لجلستين اثنتين تفندان هذا الزعم: حضرت جلسة تحريك الطاولة في دار أحد أصدقائي، وقد صحبت معي أحد الأفاضل وكان شغوفا جدا بهذه المسائل، وطلبت إليه أن يحضر أسئلة يعرضها وقت الجلسة، وأشرت إليه أن يصرف دينارا قطعا صغيرة من القروش، ويتركه في مكان داره، حتى إذ حان وقت اتجاهنا إلى مكان هذه الجلسة كبش كبشة من هذه القروش دون أن يحيط بعدها علما وجعلها في جيبه، وفعلا كان ذلك، فلما أن سأل الطاولة: كم معي من القروش، وكنا جميعا نجهل ذلك وهو أيضا لا يعرف عدد ما في جيبه؟ أجابت بالنقر عدها تماما، فأخرج ما في جيبه وعده فإذا بها صادقة، وهو ما يفند دعوى انتقال الأفكار.
أما الحادثة الثانية فقد وقعت أمامي في دار أحد الوجهاء (لا أذكر اسمه لأني لم أستأذنه في ذلك) وكان يستعمل الوساطة اليدوية، وكنا نجتمع عنده كل ليلة، ولقد برز ونجح كل نجاح في ذلك، وأدهشنا بأمور سنذكرها بعد أن نستأذنه؛ ذلك أن كان معنا الأستاذ الجليل الشيخ طنطاوي جوهري، وقد ألقى على اليد سؤالا فقال للحاضر، وكان من أهل فرنسا، إن كتابا له قرظته إحدى صحف باريس يريد أن يعرف اسم هذه الصحيفة، ويريد أن يستجلبها، فأجابته الروح أنه قرظ في صحيفة كذا، وأنه إذا أرسل إلى فلان العالم الفرنسي العضو بالأكاديمية الفرنسوية فإنه يبحث له عنه، ويبعث له به، فأجابه الأستاذ: ولكنني لا أعرف الرجل، فكيف أخاطبه في ذلك؟ فأجابته: بالكتابة عن اسم الرجل الفرنسوي وعنوانه وعلاقته بالباشا، فأخذ يكتب الاسم بالضبط، ونمرة المنزل، واسم الشارع، والوظيفة، وكل ما قالت به الروح، وهرول في اليوم الثاني إلى دار الباشا، وسأله عما إذا كان يعرف إنسانا من علماء فرنسا؟ فأجابه بما انطبق تمام الانطباق مع ما في يده.
إن هذا لدليل ظاهر على هدم نظرية انتقال الأفكار واتحاد الأمزجة؛ لأننا جميعا ما كنا نعلم ولا كانت خواطرنا وضمائرنا تحوي شيئا من هذا، فمن أين إذن كل ذلك؟!
لعلنا أطلنا الحديث على القارئ الكريم فنستميحه عذرا في ذلك، على أن تكون لنا عودة في الحديث بما يكون أكثر وضوحا - إن شاء الله - ولكل إنسان وجهة هو موليها.
من العالم غير المنظور
روح مسز سنيدر يتكلم
لا يخلو بلد من بلاد العالم من طائفة تهتم بالأرواح، وتبذل في هذه السبيل جهدا جهيدا، ولا يخلو جو من الأجواء من هواة هذا الموضوع، والصحف في بلاد الغرب وفي العالم الجديد على الأخص تعنى عناية خاصة بمسائل الأرواح، وتتسقط أخبارها من حين إلى حين؛ لاهتمام القراء بالموضوع، وشغفهم بأنباء الأرواح، وتهافتهم على كل أثر من آثارها.
ولقد نشط المذهب الروحاني في هذا العصر نشاطا ظاهرا موفقا، وكتب له القدر في لوحه آية النجاح، فآمن به من آمن، واعتنقه من اعتنقه من أصحاب الرأي، وذوي المكانة في حلبة الأدب، وميدان العلم والاختراع، فكان هذا دليلا لا ينقض على صحة المذهب، وبرهانا قويا لا يزعزعه مزعزع، ولا يؤثر فيه مؤثر، كان دليلا وكان برهانا على أن «المذهب الروحاني» مدرسة المستقبل، وأن المدرسة المادية لا يقوم أساسها إلا على وعث من الحجج والبراهين، لا تلبث أن تنهار إذا سال عليها سيل الدليل.
ولقد قرأنا في صحيفة من الصحف الأمريكية أخيرا أن المسز «سنيدر» الأمريكية الجميلة، كان قد حكم عليها وعلى شريكها مستر «غراي» بالإعدام، وأن هذا الحكم قد نفذ فيهما بالفعل، وأن ثلة من العلماء الأمريكيين، الذين كرسوا حياتهم لهذه البحوث القيمة النافعة، قد عقدوا اجتماعا علميا، بعد أن نفذ حكم الإعدام في مسز «سنيدر» بأربع وعشرين ساعة لمخاطبة روحها وسؤلها عن حالتها، فجاءوا بوسيط، واستحضروا الروح عن طريقه، فقال الروح - روح «مسز سنيد»: إن ما ينتابني من الأسى والحزن والأسف في أواخر أيامي التي قضيتها على الأرض هو أني اتهمت «غراي» بما قذفته به من تهمة؛ لأن تباعة الجريمة إنما تقع علي أنا لا عليه؛ ذلك لأنه لم يفعل إلا ما أمرته به، فكان لي مطيعا وكان منفذا، ولو أني كنت مخلصة لزوجي أحبه كما يجب لما وقعت الجريمة التي ارتكبها، وإنه ليحزنني جد الحزن أن تعاني ابنتي في العالم ما تعاني من المصائب، وأن الناس سينظرون إليها بعين الاحتقار والذراية، على اعتبار أنها ابنة مجرمة سفكت الدماء.
وإني لأضرع إلى الله أن تغير اسمها الذي تحمله، وتنسى أني كنت لها أما.
إنني أسعد حالا الآن عما كنت قبلا، وإن ثقتي في الله قوية عظيمة؛ من أجل ذلك أنا أطمع في رحمته، وأعتقد أنه سيغفر لي عما وقع مني؛ لأني عندما ارتكبت الجريمة كنت بلا شك مجنونة.
خاتمة
وكما أن الرأي الشائع عند بعض العلماء أن كمية القوة المنتشرة في العالم لا تتغير، ولكنها تظهر في صور مختلفة، فتراها تارة على شكل حرارة، وتارة على شكل كهرباء، ومرة في شكل حركة، وأخرى في شكل تركيب أو تحليل، فكذلك أيضا شأن الأمم، وحال ظهورها ودروسها، فما من أمة فتية محدثة قامت إلا على أنقاض أمة أدركتها الشيخوخة، وتولاها الضعف، وانتابتها النوائب ملاوة من الدهر، وليس من الحق ولا من الوجاهة - في قليل ولا كثير - أن نقيم حدا فاصلا بين القديم التالد والجديد المحدث، أو نتخيل أن حضارة أمة، أو ثقافة شعب من الشعوب، تقوم بمظهرها التجديدي من غير ما تمت بسبب، أو تتصل بنسب إلى عوامل القديم، أوفواعل ذلك الزمن الغابر.
الحق: أن كل جديد لا يقوم على أساس من القديم البائد غير مهضوم، لا تستمرئه العقول ولا تسيغه الأفهام، ولا تقوى على تصوره العقول السليمة، وكأي من أمة فتية قامت على أنقاض أمة أو أمم وليتها يد القدر بالزوال! وكأي من حضارة خلابة جذابة، وثقافة نافعة، قامت على دعائم وأسس غيرها من سالف الحضارات، وغابر الثقافات!
فالعقل البشري واحد في مظاهره، وفي تفكيره وفي منتجاته، وحقائق الأشياء ثابتة كما تقول فلاسفة العرب، وإنما ناموس النمو والارتقاء، أو قانون التطور والتحول يدرك الأشياء جميعها، فتظهر في صور مختلفة وأشكال متباينة.
وكما أن أعضاء الجسم وإن كانت بينها مفارقة ومخالفة بين عضو وعضو، ووظيفة ووظيفة، إلا أنها جميعها تعمل بالتعاون والمساعدة المتبادلة على تحقيق غاية واحدة، فكذلك أيضا حال الأمم والشعوب في العمل على تحقيق غايتها من الحياة القومية بالمساعدة والمعاضدة والمعاونة، تقوم كل أمة بقسطها من العمل، وحظها من الحياة، وهي سائرة في طريقها بين حق تطلبه، وتسعى لتحصل عليه، وواجب تقوم بأدائه.
وأنت يقع نظرك على أمة مستضعفة ينكرها تاريخ العمل والتبريز، فتحسبها غفلا من الروابط التي تربط مظاهر حياتها بثقافة أو حضارة قديمة أو محدثة، وتظنها عالة على غيرها، وتزعم أنها تتنفس بأنفاس غيرها، وتعيش على حساب سواها، وهي من بعد ذلك ليست شيئا مذكورا، على حين أن سنة التحول، وقانون التطور، وناموس النمو والارتقاء كلها أشياء لها قيمتها، ولها مكانتها، ولها حظها في حياة الأمم والأفراد، ومن ليس له حاضر فله ماض، ومن ليس له ماض فله مستقبل، إلا أن من يقطع الصلة بين القديم والجديد كمن يقطع الصلة بين الوالد والمولود.
الاختراع والإبداع
يقول أرسطو: كل شيء في كل شيء؛ أي إن كل موجود فيه كل شيء، وإنما يظهر هذا الشيء بالظروف والمناسبات والاستعداد. ويقول شكسبير: لا جديد تحت الشمس، وظاهر من هذا كله أن حياة الأفراد والجماعات إن هي إلا تكرار للماضي، وإعادة للسابق، وأن خطأ كبيرا أن يظن ظان في محدث أو مظهر جديد أنه شيء أكثر من أنه مظهر متجدد لكائن سابق.
ولقد استكمل الناسوت، ونضج العقل، وظهرت آثار العبقرية، في بعض المخلوقات، فكتب لهم القدر في لوحه آية التوفيق، ورفعوا من شأن الإنسانية، وخففوا من آلام الحياة في هذا العالم بما وفقوا إليه من استكشافات، بيد أني أخالف الذين يسمون هذه مخترعات أو مبتدعات، فلم يكن إسحاق نيوتن حين وفق إلى قانون الجاذبية مبدعا ولا مخترعا؛ لأن الجاذبية ليست شيئا معدوما أوجده نيوتن، وإنما هي موجودة قبل أن يظهرنا عليها العلامة نيوتن، كما أنها موجودة بعد أن نادى بها، ولم يكن إديسون مخترعا للكهرباء ولا مبدعا لشيء من الأشياء التي وفق إليها، وإنما هي قوى للطبيعة كانت مجهولة استكشفها النابغة إديسون، وتمكن من تسخيرها لمنفعة المجموع، ولا كانت النسبية معدومة قبل ظهور «أينشتين» وإنما كان فيه من الاستعداد، وتوفر له من الحظ والتوفيق ما أسعده على ظهوره في جو العلم بنظريته التي خلبت الألباب وحيرت العقول، وأحدثت تغييرا محسا في الأجواء العلمية.
هؤلاء ناس كان لهم حظ التوفيق في حياتهم التفكيرية العملية، وفي استعداداتهم ومؤهلاتهم الفطرية والمكتسبة، وفقوا إلى هتك مساتير الطبيعة، فكشفوا لنا بعض قواها، وتمكنوا من بعد ذلك من استخدام هذه القوى الطبيعية لمنفعة الإنسان، وتخفيف آلامه في الحياة، فما خلقوا خلقا، ولا أبدعوا إبداعا، وإنما هم وفقوا إلى تعرف قوى الطبيعة وبعض ما فيها من أسرار، فكان لهم حظ الذيوع والشهرة الواسعة.
العقل والوجدان
ولو أن إنسان هذا العصر عني بترقية وجدانه عنايته بترقية عقله، لكانت الحال غير الحال، وإذن لوجد «السوبرمان» أو المثل الأعلى للإنسانية.
ولكنه عمد إلى ترقية عقله المكتسب، وهو ضعيف لا يقوى على احتمال ما في هذا الكون من أسرار وعجائب، وأغفل شأن نفسه فلم يزكها، ولا هو عني بوجدانه عنايته باستظهار المعقولات، فأصبح لا يعيش إلا مع العقل، والعقل ليس هو كل شيء في هذا الوجود، والعقل كثير الخطأ، وأهمل ما فيه من استعدادات ومقدرات، فعاش مع الوهم، وتأخر تأخرا أدبيا بينا.
من الذي يعالج السائمة إذا مرض أحدها؟ إننا نعلم أن الحيوان إذا انتابه مرض امتنع عن الأكل أولا، ثم عمد إلى نوع من الحشائش فأكلها، وتم له الشفاء من غير حاجة إلى علاج أو طبيب، وإنما يعيش الحيوان بغريزته فيعتمد على إلهامها، وهي ترشده إلى ما فيه المنفعة غالبا، ولنضرب لذلك مثلا نزكي به هذه النظرية فنقول: إن نهر «الأمازون» في العالم الجديد «أميركا» له فيضانات فجائية، وهناك على شاطئ النهر يعيش بعض القبائل الرحل، وإنما تعرف هذه القبائل ساعة الفيضان، وإنما دليلها في ذلك نوع من الطير يعيش في ذلك الجو، ويحس بالفيضان قبل وقوعه بساعة أو نصف ساعة، فيرحل ويهجر البقاع، هنالك يسارع سكان ذلك الوادي من الرحل إلى الهجرة؛ حيث ينذرهم نذير الخطر.
ولولا هذا الطير ما استطاع أولئك الناس أن يعيشوا في ذلك الصقع، أو لهلكوا جميعا.
فهذا النوع من الإلهام - في هذا النوع من الطير - كان في الإنسان، فذهب به العقل المنفعل، وتلهى بشئون الحياة عن هذه الظاهرة النافعة، ولو أنه نماها وزكاها لانتفع بها وقواها.
ألا إن الرقي من جهة العقل ليس هو كل شيء يطلبه الإنسان في حياته الدنيا، ولكن الرقي الصحيح هو الرقي الوجداني الذي يقتاد صاحبه إلى الفضائل والكمالات، وإنما قامت الديانات على الفضائل والكمالات، وكمال الآداب.
قال الله تعالى وهو أصدق القائلين لرسوله الكريم محمد
صلى الله عليه وسلم : )
وإنك لعلى خلق عظيم ( ، )
ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك ( .
وقال الرسول الكريم: «أدبني ربي فأحسن تأديبي.» وقال أيضا: «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق.»
وقال السيد المسيح (عيسى عليه السلام): «الله روح الذين يسجدون له، فبالروح والحق ينبغي أن يسجدوا.»
وما نحن بقادرين على أن نوفي الموضوع حقه من الاستزادة والبحث، وليس يتسع المقام لذلك، وإنما سبيلنا هنا أن ندل على أن الغرض من وجودنا على هذه الأرض هو الرقي الأدبي الخلقي، والترفع عن الرذائل؛ استعدادا للحياة الصحيحة الراقية، حياة السعادة الأبدية والهناء الدائم، فالعلم في تبديل وتغيير، والعقل يخطئ ويشط ويشرد، أما الكمال الخلقي فرقي صحيح، وسعادة واتجاه إلى الحقيقة.
انظر كيف قلبت نظرية أينيشتين العلم رأسا على عقب، وانظر كيف بدل وغير ظهور «الراديوم» في جو العلم، أما الكمال الخلقي فثابت لا يعتوره التغير، وإنما هو صوب السعادة والحياة الحقة أبدا.
ليس في الإمكان أبدع مما كان
لو اطلعنا على ما في عالم الغيب لاخترنا الواقع، وعلمنا أن حكمة المولى فوق كل حكمة، وأن العدل الإلهي موجود، وأن عقولنا التي نعتمد عليها في كل شيء ليست شيئا مذكورا إلى جانب ما في هذا الوجود من أسرار وعجائب، وإنما نعقب على هذه الكلمة بما وقف سبنسر يناجي ويسائل نفسه به حيث كان يقول: «ما هي القوة التي يتحتم بقاؤها؟ أهي تلك القوة التي تؤثر في عضلاتنا، والتي تشعر بها حواسنا؟ كلا، بل هي تلك القوة المطلقة المجهولة المستقرة وراء الصور والمشاهدات، ونحن مع عدم إمكاننا أن ندركها فإننا نتأكد من أنها أبدية، لم تتغير ولن تتغير، كل شيء زائل، أما هي فباقية إلى أبد الآبدين، وهي علة العلل.»
وليس من ينكر آثار المستكشفات الحديثة، وأعمالها في حياة الأفراد والجماعات، ولا من يجحد فضل المادية على بني الإنسان بعد أن استطاع بهذه المستكشفات أن يسخر الماء والهواء، فجاب عباب الماء، وحلق في الفضاء، وانتفع بالكهرباء، وألان جماع هذا للإنسان السعد فتلقاه مصافحة وعناقا، وسهلت لديه الحياة فأصبح في العصر الحاضر يتنعم بنعماء المادة، ويتمتع في رغد عيشها.
ليس من ينكر كل هذا، ولكنا ننكر على المادية ما جلبته من ضر وشر على الإنسانية، إلى جانب كل هذه المظاهر الخلابة، وحسبك أن ترى أن المادة قد شغلت الناس عن الرقي الأدبي والخلقي، وألهتهم عن الفضائل، فاعتنقوها وشغفوا بها حبا، وصاروا ماديين في كل مظهر من مظاهر حياتهم، لا يرون إلا بأعين مادية، ولا يسمعون إلا بآذان مادية، ولا يعملون إلا بأيد مادية، ولا يتحركون حركة واحدة إلا للمادة ومن أجل المادة، ذلك بأنهم قد اندمجوا في المادة اندماجا كليا، فأصبحوا ماديين في كل شيء، وكان من أثر ذلك أن أقفرت قلوبهم من الرحمة، ونضب معين الحياء فيهم، وضجت الأرض من ظلم الإنسان لأخيه الإنسان ، وهلعت الأفئدة وتململت النفوس، وانعكست آية الهناءة والسعادة على الأرض، وفسد الأمر كله؛ ذلك لأن تقدم العلوم والصنائع والاستكشافات الحديثة، كل هذا لم ينتفع، ولا تنعم به إلا العدد القليل من الأغنياء والمترفين، انظر وقابل بين حياة الموسرين والمعوزين، واحكم من بعد ذلك على مدى انتفاع الفقير من أثر هذا التقدم، ثم قابل بين هذ الرقي وأثره في حياة بني الإنسان وبين الرقي الأدبي؛ لتعلم من بعد ذلك أن المادية قد عصفت ريحها بكل فضيلة وخير وبر، فتلاشت عاطفة الإخاء من قلوب الناس، وزادت الشرور على الأرض، بعد أن نفثت المادية سمومها في الضمائر، وحسبك أن تعرف أن الفوضوية والنيهلستية من آثار التعاليم المادية الضارة.
وليس لذلك من سبب إلا أن الرقي المادي ليس هو كل شيء في حياة الإنسان وسعادته، ولا هو الغاية من الوجود على هذه الأرض، وإنما الرقي الأدبي والخلقي هو الغاية الغائية، وهو السعادة الحقة، آية ذلك أن الرقي من ناحية الذكاء أو العلم أو الفن أو أي شيء غير الخلق، لا يدرك الحياة من كل نواحيها، ولا الطبقات في أية أمة بكل من فيها من كبير وصغير وغني وفقير، وإنما الرقي الخلقي هو المدار الحق في حياة الأفراد والجماعات، وهو المثال الوسط الذي يشترك فيه كل عنصر من عناصر الأمة.
أين الشاعرية الحية؟ أين العقل الفياض؟ أين الوجدان المتأجج؟ أين الولاء؟ أين الإخاء؟ كلها أشياء لا وجود لها في العصر الحاضر، بفضل المذهب المادي وطغيانه على موائل الاستعدادات، ومواطن الخير والنفع، وينابيع الرحمة في الإنسان، واستيلائه على مشاعر الناس وملكاتهم.
ولئن كان الإنسان الغابر قد ضل فكفرت طائفة من الخلق، وتنكبت سبيل الهداية، بفضل هذا المذهب وذيوعه بين طبقات الناس، فإن كفر المحدثين أشد، وتبجحهم قد فاق كل تبجح؛ لشدة تأثرهم بهذا المذهب وخنوعهم له، وخضوعهم لمؤثراته الفعالة الأخاذة، فتراهم يجادلون في الحق بغير علم، ويناقشون مسائله وهم يعيشون في ظلمة المادية مع الجهل، وكل ما على هذه الأرض من عقول فعالة، وعلوم محدثة نافعة ، وفلسفات ناضجة لا تنفع فتيلا إلى جانب رقي الوجدان والخلق، والأخذ بالفضائل والكمالات. هم يريدون أن يعرفوا الحق بعقولهم المادية الضئيلة، وكيف يدرك العقل الحق وهو ليس كذلك؟ ألا إنه لا يعرف الحق إلا الحق، ولا يرى النور إلا من كان في النور، أما الذين يعيشون في الظلمة فإنهم في ضلالتهم يعمهون.
ولو شاء الإنسان أن يصل إلى الحقيقة، ويعرف هويته، ومآله، لاندمج في حسه، ودرس نفسه فعرفها، ومن عرف نفسه فقد عرف كل شيء.
يقول الإمام الغزالي: لولا ما في الإنسان من صدق الرؤى، واستعداد للتنبؤ لما كان يصدق بنبوة الأنبياء وذوي الوحي، وأنت تعجب العجب كله؛ إذ ترى ما يكون من صدق الرؤى، وتسمع أو توفق إلى إنسان لا يحلم حلما إلا وقع كما رآه في نومه، فما هي العلاقة بين عقل الإنسان في نومه وبين هذه الحالة المدهشة، حالة تحقق ما رآه النائم في نومه؛ إلا ما في الإنسان من أسرار واستعدادات نحن نجهلها كل الجهل، ونحاول مع هذا أن نتغلغل في كل شيء، ونتعرف كل مجهول! ألا إنه لا حياة إلا حياة الآخرة، ولا سعادة إلا مع الفضائل وكمالات النفس.
يقول راجا يوجا: «إن الإنسان بذرة تزرع هنا، ثم تنقل إلى المكان المناسب لما استعدت له.»
ويقول الفارابي: «الناس في الآخرة أشبههم في الدنيا، ورقيهم هناك كتحسين الخط.»
ويقول الغزالي: «الذي يقول ليس هناك إله أعمى، والذي يقول إن هناك عبدا وربا فهو أعور، والذي يقول ليس هناك إلا الله وصفاته وأفعاله فهو المؤمن حقا.» ليس هناك إلا الله وشئونه.
ويقول ديكارت: «أنا أفكر فأنا إذن حي. ما أنا إلا شيء مفكر. أعلم يقينا أني أفكر. إن الموجودات كلها شيئية موضوعية، ولكن تفكري فيها أكثر شيئية موضوعية منها، فقد أشك في وجودها، ولكني لا أشك في أني أفكر.»
وإنما سبيلنا في هذا أن نلمع إلماعا بما عن لنا، وما وفقنا إليه من آراء بعض المتقدمين والمتأخرين من المبرزين في حلبة العلم وميدان الفلسفة، نعرض هذه الآراء أمام المفكرين من المحدثين، ولكل وجهة هو موليها، والله الموفق، وله الأمر كله من قبل ومن بعد، يقبل من يشاء فتدركه رحمته، ويخرج من يشاء من جنته وهو العزيز الحكيم.
يقول الشيرازي: «لو كنت حاكما لأدخلت العالم كله الجنة، فكيف بالله؟!»
صفحة غير معروفة