الزرقاوي الفلكي
العدل الإلهي وأين أثره في المخلوقات
ما كل ما يعرف يقال، ولا كل ما يقال جاء أوانه، ولا كل ما جاء أوانه حضر أهله.
الإمام علي
الشك أول خطوة من خطوات اليقين، وليس من يقين ثابت صحيح إلا بعد أن يخطو صاحبه هذه الخطوة الأولى، ويقطع مرحلة صعبة مدرجة، عامرة بالريب والشكوك، وما من مخلوق إلا ساوره الشك، وانتابته الريب؛ في تفكيراته، وتأملاته، ومناجاة نفسه، بيد أن هناك فرقا بينا بين شك وشك، وعمى وعور، ذلك بأن بعض الذين ضلوا والذين في قلوبهم مرض يعميهم الشيطان، فيحول بينهم وبين نور الحق.
على حين أن طائفة من أهل التفكير تقطع مرحلة الشك هاته سراعا، وتمر بها على عجل، ثم تعود إلى الطمأنينة الأبدية والسعادة التامة، ولقد نعت المولى - جل وعلا - في القرآن الكريم النفس بنعوت ثلاثة: (1) فوصفها بأنها أمارة بالسوء. (2) ثم بالنفس اللوامة. (3) ثم: )
يا أيتها النفس المطمئنة * ارجعي إلى ربك راضية مرضية * فادخلي في عبادي * وادخلي جنتي ( . وهو دليل ما تقطعه النفس في سبيل تدرجها من حال إلى حال، حتى تبلغ الكمال، هنالك الولاية لله.
أنا أفهم أن إنسانا من مخلوقات الله عبر عامة عمره بين جدران المعامل، يحلل ويركب في المادة، فيستظهر قواها، ويتعرف أشكالها وحالاتها، ويهتك مساتير الطبيعة، فيكثر علمه، ويزيد على عقله، ويضعف عقله، ويصبح لا يقوى على تحمل هذا العبء الثقيل، فيضل ويتخبط خبط عشواء، فيكون له من ذلك شبه عذر، ويقال: معذور لأن عضل عقله لم يستحمل ثقل مسائله العلمية.
وأفهم أيضا أن فيلسوفا كبيرا عكف على تعرف حقائق الأشياء على ما هي عليه، فأطلق لنفسه العنان في تأملاته فشك أولا، ووقف ملاوة من الدهر بين الحالتين، حالة الشك وحالة اليقين، ثم عاودته الهداية فاهتدى وكان من المخلصين، وهذا معذور أيضا؛ لأن الشك أول خطوة من خطوات اليقين، ولأن الإيمان بالوراثة أو باللقاح غيره بعد شك وتأمل وتفكير.
ولكني لا أفهم معنى لهذه النغمة النكراء، ترسلها أقلام بعض المتبجحين، وتلوكها أفواه بعض المارقين المتشائمين؛ لمرض في أنفسهم أو ضعف في أعصابهم، أو غرض يسعون إليه، على أني أستنكر على هؤلاء أن أسميهم ملاحدة أو ماديين، والماديون ناس لهم تفكير، ولهم عقل، ولهم من بعد ذلك مذهب له قيمته من الخطأ أو الصواب، أما أصحابنا فمقلدون، عمي في تقليدهم، سمعوا أن جيلا من الخلق أو طائفة من الناس يقولون بكذا، فساقهم ذلك إلى أن يخالفوا فيعرفوا، وكان البلاء عاما وشاملا، أولئك يعيشون في جلودهم، فلا ترتفع أبصارهم إلى ما فوق الحس، ولا تتعرف بصائرهم غير المحسوس.
صفحة غير معروفة