سائلا نفسه: ما هي القوة التي يتحتم بقاؤها؟ أهي القوة التي تؤثر في عضلاتنا، والتي تشعر بها حواسنا؟ كلا بل هي تلك القوة المطلقة المجهولة المستقرة وراء الصور والمشاهدات، ونحن مع عدم إمكاننا أن ندركها فإننا نتأكد من أنها أبدية، لم تتغير ولن تتغير، كل شيء زائل أما هي فباقية أبد الآبدين، وهي علة العلل.
ولقد سئل عالم فيلسوف مؤمن:
ما قولك في مذهب دروين، وماذا نصنع معه؟ فقال: إذا كان من يصنع ساعة يعد عظيما، فالذي يصنع ساعة تصنع ساعة يعد أعظم.
تمحل الأستاذ الزرقاوي لموضوع «العدل الإلهي» فنشر في «جريدة الأهرام» سؤالا عاما وجهه إلى كل من يهمه هذا الأمر، ولما كان هذا السؤال كالزلاقة التي ينحدر عليها كل متورط، وكان أخطر الخطر أن يلقي في روع الناس مثل هذه الريب والشكوك؛ لذلك آثرت الرد على الأستاذ في تريث وهوادة، عسى أن أصل إلى ما ينقع غلة، أو يشفي علة، فنشرت رسائل في «الأهرام» ردا على هذا السؤال، هي بعض هذا الكتاب، وهي جماع آراء وعنعنة أفكار، أكثرها لغيري، وأقلها لي، وفقنا الله وهدانا إلى ما فيه الخير والبر.
وهاك سؤال الأستاذ ...
العدل الإلهي وأين أثره في المخلوقات؟
صورة السؤال الذي نشره الأستاذ الزرقاوي
ألا يرى الباحثون من العلماء والمفكرين أن العدل الإلهي يقضي بأن يكون الناس سواء في السعادة والشقاء؛ أي لا يوجد فارق بين المخلوقات العاقلة بأن تكون المماثلة بين أفراد هذه الأحياء العاقلة على أتمها في التغييرات التي تتعاقب عليها من صحة وسقم، وعلم وجهل، وغنى وفقر، وما أشبه ذلك مما يسمونه سعادة أو شقاء؟
إن الله قادر عادل، ظهرت قدرته في صنعته الباهرة، وتجلى عدله في نظام الكون البديع، وإن العدل الإلهي لمن أبين صفات الله تعالى القدسية، التي ثبتت بالأدلة التفصيلية اليقينية، وإن آثار تلك الصفات لواضحة في جميع الكائنات. فأين هو أثر تلك الصفة العظيمة - صفة العدل - في المخلوقات العاقلة؟ أين أثرها في هذه المخلوقات وقد جعلها الله فريقين؛ فريقا شقيا وآخر سعيدا، جعل الله زيدا ملكا ولم يجعل عمرا كذلك، وأعطى بكرا سعة وحرم خالدا منها، وجعل خالدا أهنأ بالا من هذا الفلاح الذي يكد ويشقى في حرثه وزرعه، ولا ينتج ما يقوم بحاجته من سداد أو عوز، وهو - أي الفلاح - مع ذلك أرغد عيشا من المتسول الذي يمد يده للسؤال، وإن هذا المتسول الصحيح الجسم لأحسن حالا من الأعمى المقعد الذي يستجدي الناس في قارعة الطريق وحر الهجير وبرد الزمهرير، ولم ينل من نصيبه إلا الإيذاء والاستهزاء؟ لماذا سلب نعمة العقل من البعض وأنعم بها على الكثيرين ممن اصطفاهم؟ ولماذا جعل هذا عالما يملأ طباق الأرض علما، أو فيلسوفا يرد الأشياء إلى حقائقها، وجعل الآخر جاهلا لا يعرف الأرض وما طحاها، أو أحمق يزج بنفسه إلى حيث الموارد المهلكة؟ لماذا كل هذا التفاوت في المخلوقات العاقلة وهي صنعة واحدة والصانع واحد، ومن صفاته القدسية الحكمة والعقل؟
ستقولون إنه سبحانه وتعالى - جل اسمه وتقدست ذاته - مقسم الحظوظ، مطلق التصرف في ملكه، يعطي من يشاء، ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون، فأقول: نعم، وأنا مؤمن بذلك كل الإيمان، ولهذا فإني لا أسأل عن شيء فعله لماذا فعله؛ اعتقادا بأنه سبحانه فعله عن حكمة، كما لا أسأله عن تصرفه المطلق سبحانه وتعالى لماذا كان هكذا؛ فإني موقن بأنه صادر عن حكمة أيضا، وإنما أنا أسأل العلماء والحكماء والفلاسفة عن الحكمة نفسها؛ ما هي تلك الحكمة؟ أي لماذا اختص الله سبحانه فريقا بالسعادة وفريقا بالشقاء، هذا هو سؤالي، وهو ما أطلب الإجابة عليه من الفلاسفة والحكماء عامة ومن علماء الإسلام خاصة. لا تقولوا إن نظام الكون يقضي بأن يكون هذا غنيا وهذا فقيرا، وهذا عالما وهذا جاهلا، وهذا مبصرا وهذا أعمى ... إلى آخره؛ فإني أقول وما ذنب الفقير؟ وما ذنب الجاهل؟ وما ذنب الأعمى؟ ولماذا كان هؤلاء الضعفاء هم الذين يبنى عليهم نظام الكون، ويحملون عبأه وهو ثقيل جدا؟ الحق أن ما تجيبون به عن هذا السؤال لا يشفي غليلا، ولا يهدي حائرا، فهل من إجابة تشفي الصدور وتهدي الحائرين؟
صفحة غير معروفة