ثم التفت إلى أمينه وسأله: ماذا وراءك يا سنفر؟
فقال الضابط بلهجة مضطربة: دخلت أصيل اليوم إلى مخزن الخمور لأنتقي زجاجة نبيذ جيد، وفيما أنا أفتش عن ضالتي - وكنت واقفا إلى جانب الكوة المطلة على الحديقة - إذ وصل إلى مسمعي صوت رئيس حجاب ولي العهد، يحادث شخصا غريبا هامسا، فلم أتبين حديثه، ولكني سمعت جيدا ما ختمه به من الدعاء للأمير رعخعوف الذي سيصبح فرعون مصر عند الفجر! فانتفض جسمي هولا ورعبا، وأيقنت أن جلالة الملك انتقل إلى جوار أوزوريس، ونسيت ما أنا فيه من التفتيش، وهرعت خارجا إلى ثكنات الجند، فوجدت الضباط يقصفون ويتسامرون كعادتهم حين الراحة، فظننت أن الخبر المشئوم لم يبلغهم بعد، ولم أحب لنفسي أن أكون نذير الشر فانسللت إلى الخارج، واستقللت عربتي وتوجهت بها إلى القصر الفرعوني؛ لعلي أقف على حقيقة الخبر، فوجدت القصر هادئا، وأنواره تتلألأ كالكواكب الزاهرة، والحراس يروحون ويجيئون في طمأنينة ودعة، فلم أرتب في أن رب القصر يتمتع بالحياة والصحة. فعجبت لما سمعت بأذني في مخزن الخمور، وفكرت فيه طويلا فساورتني المخاوف وتوزعتني الهواجس، ولاح لخاطري شخصك مصادفة، فكان لي ما تكون المنارة لسفينة ضالة تكالبت عليها الأمواج الهوج والرياح العاصفة والظلمات المحيطة، فوليت وجهي نحوك وجئتك على عجل أروم عندك حسن التدبير.
فسأله ددف باضطراب وقد نسي همومه الشخصية، وما صادفه في يومه من العجائب: أواثق أنت من أن أذنك لم تخدعك؟ - ثقتي بوجودي أمامك الآن. - أكنت ثملا؟ - لم أذقها في يومي هذا.
فنظر إليه الشاب نظرة جامدة، وسأله بصوت خيل إليه أنه صوت غريب: وما الذي فهمته من هذا؟
فصمت الضابط صمتا رهيبا كأنه يتحامى بصمته الجواب ويدعه للقائد نفسه، وفهم ددف صمته على حقيقته فخفق قلبه وسها إليه، وذكر في تلك اللحظة وصايا الأمير رعخعوف الغريبة وأمره إياه بعدم تسريح الجيش وانتظار أوامره عند الفجر، واتباعها مهما كانت غريبة، ورجعت به الذاكرة القهقرى؛ فذكر ما حدثه به سنفر هذا الواقف أمامه يوم التقائهما الأول في حرس الأمير عن أخلاق ولي العهد ونفاد صبره وتبرمه، ذكر هذا كله بسرعة وارتياع. رباه! ماذا وراءك أيها الغيب؟ هل فرعون في خطر؟ هل هنالك خيانة؟!
وسمع سنفر يقول بحماسة: نحن جنود رعخعوف ولكننا أقسمنا يمين الإخلاص للملك، والجنود جميعا جنود فرعون إلا خائنا.
فعلم أن وساوس سنفر تلتقي بوساوسه، فقال: أخشى أن يكون الملك في خطر! - أنا لا أرتاب في ذلك، وينبغي أن نفعل شيئا أيها القائد. - إن الملك يلبث عادة أغلب ليله في جوف الهرم مع وزيره خوميني يملي عليه كتابه العظيم، فينبغي أن يوجه انتباهنا إلى الهرم. أخشى أن يغدروا به في حجرة التابوت. - دون هذا والمستحيل، ففتح باب الهرم سر لا يعلمه إلا ثلاثة: الملك وخوميني وميرابو، والهضبة المحيطة بالهرم عامرة ليل نهار بالحراس وكهنة المعبود أوزوريس. - هل يسير في ركاب الملك أحد من حرسه؟ - كلا، إن العاهل الكبير الذي وهب حياته مصر لا يشعر بحاجة إلى حرس في وطنه وبين رعاياه، واعتقادي يا سنفر - إذا صدقت شكوكنا - أن الخطر يجثم في وادي الموت؛ فهو طريق طويل خال من الآدميين، تغري وحشته الغادر بالتربص لفريسته.
فسأل سنفر وهو يلهث: وما الذي ينبغي عمله؟ - إن مهمتنا مزدوجة يا سنفر؛ أن ندرأ الخطر عن الملك، ونقبض على الخائنين. - ولو كانوا من الأمراء؟ - ولو كان بينهم ولي العهد نفسه! - سيدي القائد، ينبغي ألا نعتمد على حرس ولي العهد. - نطقت بالحكمة يا سنفر، ولا حاجة بنا إليه، فلدي جيش باسل لا يتردد جندي من جنوده عن بذل حياته في سبيل مولاه.
فأضاء وجه الضابط وقال: فلندع الجيش بلا إبطاء.
ولكن القائد الشاب وضع يده على كتف أمينه المتحمس، وقال: الجيش لا يدعى إلا لقتال جيش مثله، وعدونا - إذا صدقت ظنوننا - نفر قليل يلوذ بالظلام ويدبر غدره بليل، فينبغي أن نتربص له ونضربه الضربة القاضية قبل أن يسدد إلينا ضربته. - ألا يرى سيدي القائد أنه يحسن بنا أن نحذر فرعون؟ - بئس الرأي يا سنفر، إننا لا نملك دليلا على هذه الخيانة المروعة سوى شكوكنا، وقد تكون محض أوهام فلا نستطيع أن نقيم العذر لفرعون عن اتهامنا الخطير لولي عهده. - فما العمل يا سيدي القائد؟ - العمل الحكيم أن أختار بضع عشرات من الضباط الذين أثق في شجاعتهم، وستكون من بينهم يا سنفر، ثم نقصد فرادى خفية إلى وادي الموت، ونوزع أنفسنا على جانبيه في حذر وعناية وننتظر. ينبغي ألا نضيع الوقت سدى إذ يجب أن نسبق عدونا إلى كمينه فنراه ولا يرانا.
صفحة غير معروفة