33
قصت رده ديديت قصتها الحزينة وعيناها لا تكفان عن البكاء، وكان ددف يجلس إلى جانبها يستمع إلى صوتها المتهدج ويحس بأنفاسها الحارة تتردد على وجهه، ويديم النظر إلى عينيها الدامعتين الحبيبتين، وقلبه آخذ في الخفقان يكاد يتمزق من الألم والحنان والإشفاق.
وحين انتهت من سرد مأساتها سألت ابنها: من كاهن رع يا بني؟
فأجابها بحزن: «شودا رع»!
فقالت: يا أسفا قضى أبوك ضحية لا ريب في هذا.
فقال ددف بصوت الداهش الذاهل: إن الدهشة تذهلني عن نفسي يا أماه ... بالأمس القريب كنت ددف بن بشارو وأنا اليوم شخص جديد يحفل ماضيه بالفواجع، ولد الساعة من أب قتيل وأم بائسة عانت ذل الأسر عشرين عاما! يا للعجب ... كان مولدي شؤما، فمعذرة يا أماه! - لا تقل هذا يا بني الحبيب، ولا تحمل نفسك الطاهرة وزر الشيطان الرجيم. - يا للتعاسة! أيقتل أبي وتلاقين العذاب عشرين عاما؟ - فلترحمنا الآلهة يا بني ... انس أحزانك وفكر في الخلاص ... إن قلبي لا يطمئن. - ماذا تعنين يا أماه؟ - الخطر ما يزال محدقا بنا يا بني، ويهددك اليوم من أنعم عليك بالأمس. - يا للعجب! أيكون ددف عدوا لفرعون؟ أيكون فرعون الذي يهبني كل يوم من نعمائه ويضفي علي من أفضاله قاتل أبي ومعذب أمي؟ - هيهات أن يسكت العجب عمن يراقب الناس والدنيا ... فهيا يا بني إلى الخلاص؛ لأني لا أريد أن أفقدك اليوم وما وجدتك إلا بعد عذاب السنين. - إلى أين أماه؟ - بلاد الرب واسعة. - كيف أفر فرار الجناة وما اقترفت ذنبا؟ - وهل كان اقترف والدك ذنبا؟ - إن طبعي يأبى علي الفرار. - أشفق على قلبي الذي يمزقه الخوف. - لا تخافي يا أماه، إن إخلاصي وخدماتي للعرش يشفعان لي عند مولاي الملك. - لن يشفع لك شيء إذا علم أنك غريمه القديم الذي خلقته الآلهة ليرث عرشه.
فاتسعت عينا الشاب دهشة وقال: أرث عرشه؟! ... يا لها من نبوءة ضالة. - أضرع إليك يا بني أن تطيعني ليطمئن قلبي.
فأخذها بين يديه وضغط عليها بحنو وقال: عشت عشرين عاما لا يعلم أحد بسري، ولا أنا نفسي، قد طواه النسيان ولن يبعث مرة أخرى. - لا أدري يا بني لماذا أفرق وأتطير ... لربما زايا. - زايا! لقد دعوتها أمي عشرين عاما طويلة، وإذا كانت الأمومة رحمة ومحبة وبذل نفس، فهي أمي أيضا يا أماه، لن تشي بنا زايا أبدا ... إنها امرأة بائسة كملكة مخلصة فقدت عرشها على حين فجأة ...
وقبل أن تفتح فاها دخل خادم مسرعا وأخبر القائد بأن أمينه سنفر يرجو لقاءه في الحال وبدون أدنى إبطاء، فعجب الشاب لأن سنفر كان معه منذ زمن قصير، وهدأ روع أمه واستأذن منها وخرج لمقابلة سنفر في الحديقة، ووجد الضابط قلقا نافد الصبر مضطربا، وحين رآه سنفر أقبل عليه مسرعا وقال له بسرعة دون تحية أو سلام: سيدي القائد ... لقد أطلعتني المصادفات على حقائق خطيرة الشأن تنذر بشر مستطير!
فخفق قلب ددف والتفت دون إرادة إلى حجرة الضيوف، وهو يسائل نفسه: ترى ما الذي تخبئه الأقدار من الحدثان الجديدة؟
صفحة غير معروفة