ولم يضع الشاب وقتا، ولكنه لم يستطع بالرغم مما هو بسببه من أمر خطير أن ينسى أمه، فذهب بها إلى جناح نافا وعهد بها إلى زوجه مانا، وعاد إلى سنفر وركب معه عربته، وانطلقا بها إلى معسكر الجند خارج أسوار منف، وكان يحادث نفسه قائلا: فهمت الآن لماذا أمرني الأمير أن أنتظر أوامره عند الفجر؛ فهو يدبر حيلة لقتل والده، وفي نيته إذا تحققت غايته أن يأمرني بالزحف بالجيش على العاصمة للقضاء على قوة الحرس الفرعوني، ورجال الملك المخلصين أمثال خوميني وميرابو وأربو وغيرهم من بطانة الملك، فيخلو له الجو ويعلن نفسه الجزوع ملكا على مصر ... يا للخيانة السافلة!
لا شك أن صبر الأمير نفد، ولكن طمعه سيقضي على آماله، وهي قاب قوسين أو أدنى ... فهل تصدق شكوكنا يا ترى أم أننا نتخبط في ضلال الأوهام!
34
وطلع الفجر فدبت الحياة مرة أخرى في هضبة الهرم المقدسة، وتجاوبت في السماء نداءات الحراس، ونفخ الأبواق وترتيلات الكهنة، وعند ذاك فتح باب الهرم وخرج منه شبحان ثم أغلق مرة أخرى، وكان كل منهما يتلفح بدثار سميك أشبه بعباءة الكهنة التي يرتدونها في حفلات القربان، قال أقصر الرجلين قامة: إنك يا مولاي تجهد ذاتك العلية إجهادا قاسيا.
فقال الملك: الظاهر يا خوميني أننا كلما تقدم بنا العمر نرد إلى الطفولة مرة أخرى، فما أشبه ولعي بهذا العمل المجيد، بانكبابي في زمن مضى على القنص وركوب الخيل. ينبغي أن أضاعف مجهودي يا خوميني؛ فما بقي من العمر إلا أقصره ...
فقال الوزير الأمين ويداه مبسوطتان: أطالت الأرباب بقاء الملك. - فلتستجب الآلهة دعاءك حتى أتم رسالتي. - لست مناعا للخير، ولكن أتمنى أن يخلد مولاي إلى الراحة والدعة. - كلا يا خوميني. لقد شيدت لي مصر مثوى روحي الخالدة وما أهبها إلا حياتي الفانية!
وكف الرجلان عن الحديث، وصعد الملك إلى العربة الملكية، وركب بعده الوزير وقبض على اللجام وسارت الجياد خببا، وكانت العربة كلما مرت بجماعة من الكهنة أو الجنود سجدوا تحية واحتراما، وما برحت الجياد تجد في السير حتى قطعت أرض الهضبة، واجتازت حدودها إلى وادي الموت الذي يؤدي إلى أبواب منف، وكانت الظلمة ما تزال حالكة والسماء ملأى بالنجوم، يخالها المتأمل لشدة توهجها هابطة إلى فلك أدنى، وقد شملها جلال ساحر تخبت له القلوب وتفتتن الأفئدة.
وتوسطت العربة وادي الأبدية، وكان الملك ووزيره يجلسان هادئين متأملين، وسمعا بغتة أحد الجوادين يصهل بشدة ويقفز عاليا ثم يسقط على الأرض، وأعاق سقوطه العربة عن المسير فتوقف الجواد الثاني، وعجب الرجلان وهم الوزير بالنزول ليرى ما أصاب الجواد، ولكنه قبل أن يتحرك صرخ بألم وصاح: الحذار يا مولاي ... لقد أصبت.
فأدرك فرعون أن مخلوقا أصاب الجواد وأردف بوزيره، وظنه من قطاع الطرق فصاح بصوت شديد: إلى الوراء أيها الجبان، من يريد أن يغتال فرعون؟
ولكنه سمع صوتا كالرعد يصيح: «إلي يا سنفر.» فنظر إلى مصدره - وهو يسند خوميني إلى صدره - فرأى شبحا قادما من جانب الوادي الأيمن كالسهم المنطلق، وسمعه يصيح مرة أخرى: اختبئ يا مولاي خلف سور العربة.
صفحة غير معروفة