وهذا صحيح وحسن، ولكن الذي لا نستطيع الموافقة عليه هو ما انتهى إليه بعد هذا؛ إذ يقول: «فالفلاسفة وجمهور المتكلمين واللاهوتيون على وفاق في حقيقة المسألة، وإن اختلفت العبارات.»
102
ويكفينا دليلا على عدم صحة هذا، ما تقدم في هذا الفصل خاصا بمذهب أهل السنة المتكلمين الذين يمثلهم الغزالي. (3-5) البعث والحياة الأخرى
نتناول الآن هذه المسألة بالتفصيل، بعد أن أشرنا إليها في القسم الأول من هذا الفصل؛ لنعرف كيف عمل ابن رشد في الرد على الغزالي الذي أنكر إنكارا شديدا على الفلاسفة أن يكون البعث وما يتبعه من جزاء روحانيا فقط: (أ)
إن الغزالي لا يخالف الفلاسفة في أن الروح لا تفنى بفناء البدن، ولها في الحياة الأخرى لذائذ أو آلام روحانية وعقلية تفوق كثيرا اللذائذ والآلام الحسية، ولكنه يرى أولا معرفة هذا من الشرع لعجز العقل وحده عن معرفته، كما يرى ثانيا أن إنكار الجزاء الجسدي لا يتفق بحال مع الشرع، كما تدل عليه آيات كثيرة من القرآن، وهذه الآيات لا يمكن تأويلها كلها من ناحية، وليس يجب هذا التأويل من ناحية أخرى كما وجب تأويل الآيات التي توهم الجسمية والتشبيه لله تعالى.
103
أما ما يعترض به الفلاسفة على تجويز البعث الجسدي بأنه من المحال أن تعود روح كل امرئ إلى بدنه الذي كان له في الحياة الأولى، هذا البدن الذي تحلل إلى عناصر مختلفة، ربما صار بعضها جزءا من بدن إنسان آخر؛ فيكون متعذرا أن يعاد بدن كل منهما كاملا، فإن الغزالي يجيب عنه بأن روح المرء تعاد إلى بدن أي بدن كان، سواء أكان مواد بدنه الأول أم غيرها، أم مواد استؤنف خلقها، فإن الإنسان بنفسه لا بجسمه.
104
وهذا ما نؤمن به نحن، ويتضح هذا إذا لاحظنا أن الواحد منا هو هو مع أن جسمه يتغير دائما بسبب تبدل الغذاء وبالسمنة والهزال مثلا، وإذن يكون الغزالي على حق في قوله بأن البعث الجسدي ليس محالا من تلك الجهة، ويكون في القول به تصديق للقرآن الذي ورد كثير من آياته بالجزاء الروحي والجسمي معا بوضوح لا يحتمل التأويل. (ب)
والآن ماذا سيفعل ابن رشد وقد رأينا خصمه فوق اعتماده على النظر العقلي يجد له من القرآن سندا أي سند في إثبات البعث الجسدي؟
صفحة غير معروفة