بين الدين والعلم: تاريخ الصراع بينهما في القرون الوسطى إزاء علوم الفلك والجغرافيا والنشوء
تصانيف
وصور بجانب هذه الصفة المثالية متاعب المرأة في تربية أولادها والقيام عليهم، وما تعرض له حياتها من المخاطر في الحمل والوضع، وتصور كيف أنها تنسى كل آلامها وتغيب عن عقلها كل متاعبها بمجرد أن تضم طفلها إلى صدرها ضمة تفيض معها كل معاني الحياة لا كل حقائقها، فتغمرها في بحر لجي من المشاعر يموت معه العقل ويحيا الوجدان.
ثم انظر في حياة المرأة في مفصلاتها؛ فإنك تجد أنها إنما تعيش للمستقبل الصرف الذي لا يغشاه من التطلع إلى الحاضر غاشية. كل ما فيها من مشاعر، وكل ما تأتيه من أعمال، وكل ما تحتمله من متاعب في هذه الحياة، إنما تتوجه به شطر المستقبل والأجيال التي سوف يتمخض عنها القدر في الأيام الآتية. هذه هي أكبر فضائل المرأة الغريزية؛ تعيش لغيرها لا لنفسها، تعيش لرجلها ولأولادها وتضحي في سبيلهم كل شيء تملكه أو لا تملكه إلا مجازا؛ لتضع للمستقبل عمادا يقوم عليه، وأساسا يرتفع من فوقه بناؤه المشمخر.
جرد المرأة من هذه المشاعر وخلص نفسيتها من قواسر ما فوق العقلية التي تقوم عليها كل هذه الصفات، وحكم العقل فيها وحده، أو اجعلها تحكم العقل في كل ما تعمل أو تأتي من أفعال. وانظر بعد ذلك كيف يكون المجتمع إذا سادت فيه نزعات المرأة العقلية، وكيف يتهدم الحب وتموت الشفقة، وتنتفي الرحمة؟ وكيف تندك الشرائع السماوية، وتتبدد سلطة القوانين الوضعية؟ وماذا يبقى بعد كل هذا؟ هل يبقى من المجتمع الإنساني عين أو أثر.
وهنا أيضا نستطيع أن نقول بأن بين العقل وبين نظام الزوجية وتضحية المرأة نزاعا وصراعا، وأن بينهما جلادا يجب أن تخضع فيه المشاعر لحكم العقل وحده، كما تقول بأن بين الدين والعلم قتالا يجب أن يتغلب فيه العلم وليد العقل على الدين وليد المشاعر ونزعات ما فوق العقلية في الإنسان.
تأمل في نفسك ساعة وانظر فيما يحف بك من النظم الاجتماعية والقيود الثقيلة التي تربطك بالمجتمع الذي تعيش فيه، والسلاسل والأغلال التي تثقل جيدك وتنقض ظهرك، من واجبات نحو الأسرة والأب والأم والزوجة والوطن والدين والتقاليد وفكرات الشروف والعروض وما إلى ذلك، واستسلم إلى العقل وحده وانزل على حكمه في تلك الأمور عامتها، وجرد نفسك من المشاعر إن استطعت برهة واحدة؛ فإنك لا تلبث أن تجد عقلك وقد أخذ يجر خطاك إلى التخلص من هذه القيود التي لن تجد من عقلك ما يسوغها أو ينزلها على حكم النفع المباشر. لماذا تعيش في أسرة وتحمل نفسك من الأعباء ما لا تطيق وما لا تطيق؟ ولماذا تحب أباك وتحترم واجبات الأمومة وتعطف عليها؟ ولماذا تخضع لعيشة الزوجية وفي مقدورك أن تستعيض عنها بعيش أرغد في نظر العقل وأقرب إلى مطالب الحياة الحرة المطلقة من قيود الواجبات الأدبية؟ ولماذا تحتمل تربية أولادك وتحمل من أجلهم أمر مذاقات الحياة باصطبار وسعادة؟ ولماذا تحب وطنك وتضحي في سبيله نفسك ومالك، وتريق من أجله دمك وأرض الله واسعة الفضاء؟ ولماذا تقيد نفسك بدين تخضع له وفي متسع الإجابة ما هو أرضى لعقلك وأرضى لعنانك وأوجب في رضائك بالحياة؟
هذه أسئلة يجيبك عليها الشعور جوابا لا يرضاه العقل، ولا تسكن إليه موحيات الأنانية الرسيسة في طبيعتك. إنما الطبيعة قد خصت الإنسان بشيء يمتلك ناصية عقله ويتحكم فيه التحكم كله. شيء آت مما فوق عقليته ينزل تلك المعاني من نفسه منزلة يخضع لها العقل قسرا عنه، شيء يقال له الفكرة الدينية، فيها من المشروعية المكتسبة بحكم الإجماع العام ما يخضع الفرد المجتمع بحكم المشاعر وتحد من شهوات الفرد المستقل الخاضع لحكم العقل. تلك هي وظيفة الدين الكبرى في الاجتماع الإنساني.
4 •••
هذه أمثال مقتضبة مما في هذه الحياة من بواعث ما فوق العقلية لو أننا مضينا نضرب فيها الأمثال إذن لملأنا صدر مجلد ضخم حتى نبلغ منها حدا يرضي نزعة البحث الصحيح. وما أتينا بهذه الأمثال إلا لنظهر أنه كما أن العلم لم يصارع بقية ما في الحياة من بواعث ما فوق العقلية الإنسانية صراعا واجهه فيه بالذات، كذلك هو لا يصارع الدين وهو أخص ما في هذه الحياة من الإلهامات العلوية التي تحكم في ما فوق العقل، لا في العقل نفسه.
إنما يصارع العلم صور اللاهوت المذهبي؛ لأن هذه الصور إنما تريد أن تنزل بالدين إلى أفق العلم. تريد أن تجعله دينا وتجعله علما وهنالك يقع الصراع بطبيعة الحال.
لم يشرف القرن التاسع عشر على الختام حتى ودعه العلماء بعدة مستكشفات خطيرة في الموسيقى والكيمياء والتاريخ الطبيعي. غير أن أعظم استكشاف وصل إليه العقل البشري خلال القرن التاسع عشر على معتقدي، تيقن أهل العلم بأن للعلم حدا يقف عنده، هنالك ترك العلم ادعاءه بحق التفرد بالوجود والتسلط وحده على كفايات العقل البشري؛ إذ بان لأهله أن وظيفة العلم تنحصر في وصف حقائق الأشياء. هنالك نامت عاصفة العلم وانتصرت الطبيعة على نزعات الوهم السائدة فيها، وهنالك تحددت المعارف الإنسانية بحسب كفايات العقل الإنساني فترك الدين سلطانه وحدد للعلم حيزه. (7) وظيفة الدين إرشادية لا تعليمية
صفحة غير معروفة