1 - علم الفلك
2 - علم الجغرافية
3 - من الخلق إلى النشوء
1 - علم الفلك
2 - علم الجغرافية
3 - من الخلق إلى النشوء
بين الدين والعلم
بين الدين والعلم
تاريخ الصراع بينهما في القرون الوسطى إزاء علوم الفلك والجغرافيا والنشوء
تأليف
أندرو ديكسون وايت
ترجمة
إسماعيل مظهر
إنما نستنشق من الهواء بلا كد، تلك الأفكار التي تحطمت في سبيلها القلوب الكبيرة.
لوويل
الحقيقة بنت الزمان.
باكون
وتعرفون الحق والحق يحرركم.
القديس يوحنا، إصحاح 8 : 32
العداء بين اللاهوت والعلم لا بين الدين والعلم
العلم موضوعي والدين ذاتي1
بقلم إسماعيل مظهر (1) تمهيد
كثر ما علت الصيحة في هذه الأيام أن بين الدين والعلم عداء وأن في طبيعة الدين شيئا يعاند طبيعة العلم أو بالعكس. والحقيقة أن هذا القول له مبرراته القديمة والحديثة. وله فوق ذلك وقائع يذكرها التاريخ ووقائع تقع تحت أعيننا. غير أن مجرد القول بأن بين الدين والعلم عداء وصراعا، ومجرد رواية الوقائع التاريخية أو حدوث وقائع في زماننا هذا تؤيد ما يرويه التاريخ، ليست بدليل قاطع على أن في طبيعة الدين شيئا يعاند طبيعة العلم أو أن في طبيعة العلم شيئا يعاند طبيعة الدين. ولو أنك نظرت نظرة أولية في حالات الحضارة الحديثة لوقعت لأول وهلة على أشياء تدلك على صحة ما نذهب إليه. فإن العلم يجري تياره بأقصى ما جرى تيار من التقدم في كل العصور، وتجد بجانبه روح الدين قائمة راسخة القواعد، وأنها لم تكن في عصر من العصور الماضية بأكثر ثباتا في النفوس منها في عصرنا هذا. نعم إننا لا ننكر أنه مرت على المدينة عصور خفت فيها صوت الدين ليعلو صوت المادية حينا، ولكنا نجد مع هذا أنه مهما خفت صوته في الخارج، فإن ثباته في النفوس لم يضعف، وركيزته في اليقين لم تهن.
ولو صح أن بين الدين والعلم عداء وصراعا، فكيف أن هذا الصراع الذي ظل قائما بينهما خمسة وعشرين قرنا من الزمان لم ينته بأن يصرع أحدهما الآخر؟ وهل خمسة وعشرون قرنا غير كافية لأن تنهي المعركة وتنصر فريقا؟
الحقيقة أن الصراع ليس قائما بين العلم والدين. والحقيقة أن الدين والعلم كل منهما يستمد من ناحية من نواحي التكوين الفكري في الإنسان؛ لهذا ظل الدين باقيا وظل العلم ثابتا لأن كلا منهما مظهر من مظاهر الفكر الإنساني. ولكن إذا اعتقدنا هذا، فبأي شيء نعلل ذلك التاريخ الطويل الذي حاول فيه رؤساء الدين أن يخفتوا صوت العلم وبأي شيء سوف نعلل ذلك الصراع الذي سيحاول فيه رجال العلم أن يخفتوا صوت الدين في المستقبل؟
إذا اعتقدنا أن الصراع لم يقم بين الدين على اعتبار أنه شيء مستمد من طبيعة الإنسان وبين العلم على اعتبار أنه شيء مستمد من القوة العاقلة التي خص بها الحيوان الناطق، واعتقدنا أن الصراع قام في الواقع بين اللاهوت المذهبي وبين العلم، استطعنا أن نعلل حوادث التاريخ بل استطعنا أن نظهر على شيء مما سوف يقع في المستقبل. (2) الجمود ضروري للاجتماع مفيد للحضارة
الجماعات تشعر ولا تفكر. بل قيل بأن رقي الجماعات من حيث الشعور والتفكير يقاس في الحقيقة بنسبة أضعف فرد من أفرادها تفكيرا وأهوجها شعورا مضروبا في عدد الجماعة. ولكن الناظرين في حالات الاجتماع نسوا أن يذكروا بجانب هذا أن الجماعات جامدة صرفة كما هي شاعرة صرفة، وأن جمودها هذا ضروري للاحتفاظ بتوازن خطاها التي تخطوها نحو الارتقاء في كل ضروبه وعلى اختلاف ألوانه.
مر على الناظرين في حالات الاجتماع عقود من السنين وهم يقولون بما قال جوستاف لوبون. ولم يمر بهم خاطر أن الجماعات كائنات جامدة بطيئة القبول لحالات التغير والنشوء. وإني لأثبت هنا أن أول من عثرت له على قول في هذا الموضوع الخطير هو العلامة كارل بيرسون الإنجليزي إذ يقول:
إن ما نجد في مباحث داروين من نفوذ البصيرة وقوة الإدراك، وما عقبها من مؤلفات سبنسر تلك المؤلفات التي هي على قوتها وبالغ أثرها سوف تكون أقل ثباتا وأسرع زوالا من مؤلفات داروين، وما زودتنا به مبادئ النشوء في الحياة الفردية والاجتماعية، قد اضطرتنا إلى تعديل أفكارنا القديمة وتقويمها، وأخذت تقوي من دعائم مثلنا الأدبية وتوسع من ميدانها، ولكن ببطء تدرجي. ولا يجب أن يحزننا هذا البطء ولا أن ييئسنا؛ لأن من أقوى المؤثرات التي تحفظ الثبات الاجتماعي وتحول دون تخلخله تلك الصفة التي نبغضها؛ صفة الجمود على القديم. لا بل نقول بأن العداء الصارخ الذي تقابل به الجماعات الإنسانية كل الفكرات الجديدة لمن أخص تلك المؤثرات. وإن هذه الصفات هي بمثابة الكور المتلظية نيرانه، والذي بدونه لا نستطيع أن نفصل بين المعدن الصحيح والفضلات الزائفة، وهي التي تحمي الجسم الاجتماعي من أن يترك معرضا لتغيرات تجريبية فجائية، قد تكون غير مفيدة آنا أو بالغة أقصى الضرر آنا آخر.
والظاهر أن بين بناء العالم المادي وبين تكوين الجماعات الإنسانية أوجها من التشابه تمثلها عناصر لازمة لحفظ النظام في كليهما. ففي الجوهر الفرد كهارب إيجابية وأخرى سلبية، وفي الدقائق المادية قوتا جذب ودفع. وفي الاجتماع تقدم وجمود، وفي الحياة موت هو لزام لوجودها. وعلى هذا النمط نجد أن الصفات السلبية التي نبغضها في المجتمع هي في الواقع أشياء لازمة للمحافظة على كيانه باعتباره اجتماعا إنسانيا تنعكس على صفحته صور الصفات الفردية والاجتماعية.
خذ بين يديك قطعة من المادة اللينة واضغطها فإنها تأخذ شكلا ما، ثم اضغطها ثانية فإنها تتبدل من شكلها الأول شكلا آخر. وهكذا فإن كل ضغطة تصورها في صورة جديدة. وتمثل بعد هذا أن المجتمع الإنساني فيه من صفات الليونة ما في هذه المادة، وأنه فقد كل صفات الجمود والمحافظة على القديم، ألست ترى أن ذلك يكون منتجا لفوضى عظيمة في نظام الأشياء الإنسانية، وأن تقبل كل جديد ليهدم ما قبله وليهدمه ما بعده؛ يكون في هذه الحالة إفسادا لبناء المجتمع وتحطيما للمعاهد التي تقوم عليها المدنية؟
عدد من مذاهب الفلسفة العلمية ما شئت أن تعدد، وارجع إلى مذهب سقراط ثم الكلبيين ثم السيرينين، ثم إلى مذهب الأبيقوريين ثم إلى الرواقيين، واعدل عن هذا إلى تضارب جهات الفكر المعتقد، وتصور بعد هذا أن المجتمع الإنساني كان فيه من الصفات ما تحتمل تقبل كل هذا، ثم رفضه على تتالي الأجيال وعلى تقارب الفترات التي كانت تظهر فيها المذاهب والآراء الفلسفية واحدا تلو الآخر، فهل كنت تجد في بناء المجتمع ما تجد فيه الآن من الثبات؟ وهل كنت تجد أن للحق ما له الآن من صفات البقاء والخلود؟
وكذلك تجد الحال في السياسة والدين واللغة وفي كل ما تقوم عليه الحضارة من الصفات الاجتماعية. وعلى هذا تجد أن التقدم والارتقاء قوة إيجابية تعضدها - وإن كانت تقاومها - قوة سلبية هي الجمود والمحافظة على القديم، كما لو كان المجتمع الإنساني دقيقة من المادة تجذب جواهرها بعضها بعضا في حين أنها تتدافع. وهذا لزام لبقائها دقيقة مادية خالدة كما أن الارتقاء والجمود صفتان لازمتان لبقاء المجتمع الإنساني مجتمعا مستكملا لصفات النشوء والارتقاء.
لهذا لا يجب أن ننظر إلى الجامدين نظرة من يعتقد أنهم رجعيون؛ لأن الرجعي هو الذي ينكص إلى الخطأ على الرغم من أنه يعلم أنه سائر في سبيل الحق والصواب. أما الجامدون فهم القوة السلبية التي تحفظ على الجماعات نصيبها من التوازن اللازم لثباتها، وخطوها نحو الارتقاء في خطا متعادلة بطيئة، ولكنها تدريجية. (3) ما فوق العقل والعقل
بدأ الفيلسوف هربرت سبنسر كتابه مبادئ علم النظام الاجتماعي ببحث في تطور ما بعد الآليات، فقال بأن التطور على ثلاثة أوضاع؛ الأول: التطور غير العضوي، وهو يتناول بناء السماوات والسيار الأرضي. والثاني: التطور العضوي، وهو يتناول الظاهرات الطبيعية التي نشاهدها حشو الطبيعة الحية وتراكيبها من نبات وحيوان على اختلاف درجاتها ومراتبها، ثم الظاهرات الخاصة التي تعرف في مباحث العلوم بالظاهرات النفسية - البسيكولوجيا - وهي التي تختص بها الصور الحية التي بلغت من الترقي حدا أصبح بطبيعة التطور مجالا لتلك الظاهرات. والثالث: تطور ما بعد الآليات أو ما بعد العضويات وهو في الواقع بلوغ الحالة الاجتماعية واقتسام العمل بين أفراد الجماعة.
فإذا أردنا أن ننظر في هذا المبدأ نظرة تحليل نطبقها على موضوعنا هذا؛ اعتقدنا أن تطور ما بعد الآليات هو آخر الخطى النشوئية التي وصلت إليها جماعات الحيوان من الرقي. ولقد شاركها الإنسان في كل هذا وبلغ إلى أرقى ما يمكن أن يبلغ حيوان من تطور ما بعد الآليات، فبماذا يمتاز على بقية الخلق؟ يمتاز بأنه يستمد مما بعد عقليته قوة يستعين بها على قوته العاقلة ليخضعها دائما لصالح الكل الاجتماعي.
إن الفرد والجماعة لا يتفقان، بل هما كائنان متضادان. ولكل منهما طبيعة تختلف عن طبيعة الآخر. يدلك على هذا أن العديد الأكبر من الأفراد التي تعيش في زمان ما، لا تعير تطور الجماعة التي تلحق بها شيئا من الانتباه لمظاهرها ولا تحاول أن تصرفها إلى طريق الخير والسلام.
فالفرد يتطور بتطور الجماعة؛ خضوعا لروحها، من غير أن يدرك من هذا التطور - حين وقوعه - شيئا. والجماعة ذاتها تساق إلى التطور من غير أن تحس بشيء منه، حتى يظهر الزمان فرقا بين حالة الجماعة في زمانين مختلفين تدركه الأجيال المستقبلة.
وخضوع الفرد لشعور الجماعة يبعده عن عقليته المستقلة. فيجرفه تيار الشعور العام إلى حيث يراد به، إلى الخطأ أو إلى الصواب، إلى الشر أو إلى الخير، حسب المتجه الذي يملك شعور الكل الاجتماعي. والشجار القائم بين شعور الجماعة وعقلية الأفراد كون التاريخ الإنساني برمته. فما من حادث من حوادث الحروب، أو مظهر من مظاهر الثورات الاجتماعية، أو قيام المدنيات المختلفة، إلا وتجد تلك الروح متجلية فيه تسوق أمامها الإنسانية سوقا إلى حيث يريد بها ما أثر فيها شعور بكارثة قومية أو إحساس بعزة النفس أو خيال الدفاع عن شيء أكثر ما كان موهوما لا واقعا بالفعل.
ولكن بأي شيء استطاع الإنسان أن يحتفظ بخضوع عقلية الفرد لشعور الجماعة؟ هنالك في معتقداته الدينية وجد الإنسان القوة التي استقوى بها على عقليته الفردية فأخضعها لقوة إحساسه بالشريعة الأدبية. أما وظيفة تلك المعتقدات فتجهيزها الفردية بقوة نفسية تسوقه إلى الخضوع لمجموعة من آداب السلوك ومبادئ من الأخلاق تبقي عقليته واقعة تحت الإحساس بواجباته الأدبية؛ أي إنها تخضع العقلية الإنسانية لقوة مستمدة مما بعد العقلية. وتلك ظاهرة لازمت قيام المدنيات في كل عصر من عصور التاريخ.
يقول الأستاذ بنيامين كيد صاحب كتاب التطور الاجتماعي المعروف:
إن الروح الحربية التي تملكت زمام المدنية في عصور الوثنية هي التي شكلت تاريخ الغرب برمته، فخرجت الشعوب الغربية من تلك المعامع - معامع التدمير والتخريب - بمدنية هي أغرب ما وصل إليه الإنسان في تاريخ الدنيا. وما من نتاج من ثمار هذه المدنية، وما من نظام من أنظمتها الاجتماعية أو شكل من أشكالها، إلا وتجد للروح القديم أثرا فيه كبيرا. يرجع ذلك إلى اعتقاد ثابت راسخ في روع الشعوب منذ نشأتها لحمته أن حيازة القوة والانتفاع بثمراتها هو المبدأ الذي يجب أن تعمد إليه الأمم إذا ما شاءت أن تحتفظ بكيانها. غير أن هذا الكائن الناطق الذي خرج من جوف الأزمان الأولى وبيده آلات الحرب والتخريب كان ذا عقيدة دينية، عقيدة تخالف في أسسها ومبعثها الذي ترتكز عليه في طبيعة الرغبات الإنسانية. نزعته إلى القوة من أية طريق أتاها وبأية من الوسائل التي تذرع إليها. وظلت نزعة الإنسان إلى القوة تحارب تلك العقيدة الموروثة حربا عوانا تشهرها على ذلك المعتقد نزعات الإنسان وبواعث انفعالاته طوال القرون الأولى. ولا يزال الشجار قائما حتى الآن. وإنك إن قلبت تاريخ الإنسان لتجلى لك مقدار ما جالد ذلك الحيوان الناطق المفكر في سبيل التخلص من قيود تلك الوراثة الدينية التي خرج بها من حياته الأولى مستعينا بها على هدم ذلك المعتقد بكل ما أوتي من قوة الفلسفة والعقل، فكم زجت تلك النزعة بالإنسان في غمرات حروب تهدم بها ما أقام السلم من صروح العمران، وكم تمزق بها ما رأيت شريعة الآداب من صدوع الإنسانية.
تلك روح خالدة في الجماعات قد تتغير مظاهرها، وجوهرها ثابت في الزمان، مرتكز على طبيعة الإنسان المفكر المعتقد المدرك لحقيقة الشريعة الأدبية، المحكوم بوازع مما فوق عقليته يخضع عقله لحاجات الاجتماع. تلك الصفات التي ترتكز عليها أصول المدنية.
عبثا ما حاول بعض الفلاسفة أن يقاوموا تلك الروح بمذهب فلسفي في النفعية، يستغوي الفردي ليخرج عن شعور الجماعة وروحها. كثر في أوروبا من حاول ذلك في أواخر القرن الفارط، ونشر بعض المشتغلين بالآداب كتبا في «دين الطبيعة» ما لبثت أن قتلتها روح الجماعات، شأنها في كل شيء يصد طريقها الشعوري الصرف. حاول هؤلاء أن يجعلوا العقل حد الدين، فوقع الإنسان في مأزق من مآزق البعد عن الشريعة الأدبية كاد يتداعى معه أساس المدنية. ولا يزال بعض المفكرين يتابعون ذلك الرأي، قائلين بأن دين المستقبل سوف يكون معتقدا بعيدا عما تبعثه في أهل هذا العصر معتقدات ما بعد العقلية البشرية. حاول هؤلاء أن يجدوا في عقل الإنسان وحده هاديا ومرشدا أمينا بصفته فردا صالحا من مجموع إنساني، يختط له خطة من السلوك والأخلاق جديرة بأن تحفظ نظام الهيئة البشرية التي يجب أن تقوم على أساس من الإحساس الأدبي أخفقوا سعيا وضلوا سبيلا؛ لأن الطبيعة لم تحب الإنسان بشيء من هذا.
رجع الناس بعد ذلك مؤمنين بأن وازع ما بعد العقلية، أول عنصر من عناصر المعتقد الديني بل نواته، وأنه الضابط الذي يضبط علاقة الفرد بالجماعة في كل حالة من الحالات وتحت تأثير أي ظرف من الظروف، على أنك تجد أن في النظام الاجتماعي قوتين متضادتين تتنازعان بقاءه: قوة مفرقة وقوة مؤلفة؛ فالقوة المفرقة يمثلها عقل الفرد الأناني المحب لذاته، والقوة المؤلفة يمثلها معتقد ديني يستمد مما فوق عقلية الفرد، وتنحصر وظيفته في أن يحتفظ في تطور الجماعات بإخضاع مصالح الأفراد ومطامعهم لصالح الكل الاجتماعي. وإن الدين في طبيعته ضرب من ضروب المعتقد يهيئ الإنسان بوازع مما فوق عقليته، يضبط سلوكه نحو المجموع.
فإذا أيقنا بعد كل هذا أن الإنسان كائن معتقد كما هو مجتمع، وأن الدين من بين كل معتقداته هو الذي يهيئه بوازع مما فوق عقليته؛ استطعنا أن ندرك كيف أن الخصومة الموهومة بين الدين والعلم مستحيلة، وإلا فلو كان بين الدين والعلم خصومة وعداء، لتحطمت قواعد العلم قبل أن يهتز ركن واحد من أركان الدين.
الدين في النفس الإنسانية ثابت لا تتغير ماهيته وإن تغيرت مظاهره. وهو فوق ذلك صفة غريزية تلازم طبيعة الإنسان ما دام قد تكون ليكون إنسانا فيه من التكوين الطبيعي ما يجعل للدين ركيزة أثبت في نفسه من ركيزة العلم والفلسفة. وعلى هذا لا يمكن أن يكون بين الدين والعلم تجالد وصراع؛ لأنهما - على الرغم من الفوارق الطبيعية الكائنة بينهما والتي لا تجعل للصراع بينهما مجالا - يستمدان من ناحيتين متباعدتين من نواحي التكوين الإنساني. (4) الفرق بين العلم والفلسفة والدين
ضرورات الحالة الاجتماعية كثيرة متباينة، وهي على كثرتها وتباينها - بل وإن شئت فقل: تناظرها - إنما تستمد من طبيعة الكائن المجتمع وليس من هذه الضرورات ما ينزل عن حد الضرورة ليكون أكثر ضرورة أو أقل ضرورة من غيره، وليس منها ما هو أقرب إلى الكماليات من الحاجيات؛ فإن هذه الضرورات كلها تنزل منزلة واحدة من حاجة المجتمع إليها.
وهي فوق ذلك مستمدة من صفات غريزية في الكائن المجتمع تتشكل في صور مختلفة بمقتضى اجتماعه ليكون كلا اجتماعيا، أو كائنا اجتماعيا كما يقول سبنسر. ومن أول هذه الضرورات أن يكون في الإنسان صفات نفسية وأخرى عقلية. وهذه الصفات بصرف النظر عن مظاهرها الخارجية وباعتبار أنها أشياء كائنة في تضاعيف الفطرة، لا يمكن أن يكون بين ما تنتج تضارب وتجالد، أو عداء وصراع. قد يكون بين بعض ما تنتج من الحالات الاجتماعية جمود يناظره في أخرى نزعة إلى التقدم والارتقاء، وقد يكون في ناحية منها حركة في حين أن ناحية أخرى تتطلب الهوادة والسكون النسبي لتتعادل الكفة، ويحدث الثبات الاجتماعي الذي هو أول صفة من الصفات المطلوبة في جماعة إنسانية يصح أن يقال فيها إنها متحضرة وإنها تقيم عمرانا.
فالعلم مثلا صفة عقلية أصبحت الآن ضرورة من ضرورات المجتمع الحديث، وإن كان العقل - وهو نبعها الفياض - صفة من الصفات الأصيلة في حياة الإنسان الاجتماعية، بل وفي غيره من كثير من الحيوانات الأخرى. وكذلك الدين فهو صفة تستمد مما فوق العقلية البشرية ليسد فراغا في الاجتماع لا يسده العلم. وبين العلم والدين فجوة لا تسدها إلا الفلسفة. فهذه الدرجات الثلاث أو هذه الصفات الثلاث: صفة أن الإنسان يعلم وصفة أنه يتدين، وصفة أنه يتفلسف ليوفق بين طرفي العقل وما بعد العقل. صفات فطرية في الإنسان أصبحت بطبيعته ضرورات اجتماعية، ولا يمكن أن يكون بين شيء منها عداء وصراع، وإلا أصبح الإنسان عبارة عن مجموعة صفات متناقضة وهيكل من الفوضى المتحركة. هي في الواقع متناسقة متكاملة كالقضية المنطقية التي تتكون من طرفين ووسط، موضوع ومحمول وحد وسط. وهي فوق ذلك لا تنتج إنتاجا صحيحا إلا إذا صحت مقدماتها ... هذا مثل الإنسان في العلم والفلسفة والدين. وكلها ضرورات لا بد منها، وإن استمدت من نواح مختلفة من نواحي الفطرة الإنسانية. هي ضرورات اجتماعية من ناحية أن الإنسان مجتمع، وضرورات فطرية من ناحية أن الإنسان كون على ما فيه غير مخير هواه.
على أننا لا نترك الموضوع عند هذا الحد؛ فلا بد من أن نظهر أن هذه المنتجات لا تتخالط مطلقا، وبذلك لا تتعادى ولا تتصارع.
يقال إن العلم ذو صفات ثلاث؛ يقال إنه تام، إيجابي، موضوعي. وإن الفرق بينه وبين صور الفكر الأخرى أن هذه غير تامة مبهمة ذاتية. إن العلم يؤدي للعقل نواتجه أو فكراته في اصطلاحات محدودة بالتعريف، مباشرة المعنى، بينما تجد أن هنالك عالما في الأدب والنواتج العقلية غير محدود بالتعاريف، رمزي في قوامه غير مباشر المعنى والتعبير. إن العلم يسلم بأن ليس له من دعامة إلا دعامة المعرفة، على أن تكون بينة جلية تامة الوضع. لهذا تجده مناظرا في طبيعته لنواحي الفكر الأخرى المرتكزة على الآراء والاعتقاد والإيمان، ولا يغيب عنا أن هذه المصطلحات إما أن تشير إلى الأسلوب الذي ينتحى في البحث، وإما أن تشير إلى موضوع البحث ذاته. أما العلم فيفخر بأن له أسلوبا ثابتا لا يحتمل الجدل ولا يسع التورط في المسائل الخلافية النظرية. أما بقية فروع الفكر فإما أن تستعير أساليبها من الأسلوب العلمي، وإما أن تطبق أساليب متغايرة لم يجمع عليها الإجماع كله، وإما أن تأبى الخضوع لأسلوب ما على وجه عام.
2
فالعلم يتناول كل الأشياء أو الموضوعات التي تطرأ على أذهان السواد الأعظم من الناس أو تمس مصالحهم، وهي موضوعات قد يبلغ إلى الإحاطة بها كثير من الناس؛ ولهذا يفخر العلم دائما بأن مشاهداته واستنتاجاته خاضعة دائما للتحقيق والبحث آنا بعد آن؛ لذلك تجد أن شطرا عظيما من المشاهدات والاستنتاجات العلمية قد تؤخذ في أكثر الأحيان على أنها حقائق تامة أجمع على صحتها وثباتها، فيمضي الذين لا يأنسون من أنفسهم القدرة على تمحيصها وبحثها، أو الذين تقعد بهم الهمة دون فحص براهينهما، قانعين بأنها أشياء بديهية ثابتة لا مبدل لها. غير أن هنالك أشياء كثيرة تقوم في عقل كل فرد من الأفراد، شخصية في طبيعتها ذاتية في مبعثها، ولهذه الأشياء في أنفسنا من الشأن والخطر ما يعدها من مطالب الحياة وحاجاتها. وإن هذه الأشياء هي المادة الحقيقية التي يتركب منها الفكر الخارج عن ميدان العلم. وهي في جوهرها ومظهرها مناظرة للعالم اليقيني. وفي هذا الشطر من الفكر لا يستطيع شخص بذاته أن يقوم بعمل ينتفع به الكثيرون على نفس الطريقة التي تحتذى في العلم. فالأخذ بالبرهان في ذلك الشطر مستحيل، والإجماع على شيء فيه لا يضم تحت لوائه إلا عددا قليلا من الناس. فالأقوال والنظريات لا يمكن أن تؤخذ في هذا الشطر على أنها حقائق ضرورية لا تحتمل الجدل كما هي الحال في العلم، بل إن كل شخص لا بد من أن يجتاز فيها السبيل الذي اجتازه الذين تقدموه، قبل أن يأنس في نفسه القدرة على قبول ما ألقي إليه والانتفاع بثمراته.
إن الصفة الوحيدة التي تلازم هذا الشطر في الفكر أنه فردي ذاتي في حين أن العلم مهما كانت صبغته ومهما كان أصله عام موضوعي؛ أي إنه غير ذاتي. يرجع إلى الموضوع لا إلى الذات التي تفكر في الموضوع وتفحص عنه. فإذا مثلت للفكر بشيء ذي طرفين متناظرين ألفيت أن العلم الرياضي في أحد طرفي الفكر وأن الدين في الطرف الآخر. وإنك لتجد أن الاتفاق في الطرف الأول صفة ملازمة، كالاختلاف والتنابذ في الطرف الثاني. نلحظ أن وحدة الفكر صفة ثابتة في الطرف الأول في حين أنك لن تقع لها على ظل في الطرف الثاني. إنها لم تعرف في الدين ولن تعرف، وإنك إذا أردت أن تعبر عن ذلك بالكلام الدارج استطعت أن تقول إن المعرفة والتحقيق لزام الأول وإن الإيمان والاعتقاد لزام الثاني. على أنك فيما بين الطرفين تقع على فراغ كبير يفصل بينهما. إن هذا الفراغ ينشئ في الفكر صورا تصل بين الطرفين فتبرز حينا في هيكل من المعرفة، وآخر في مثال من الإيمان، فيختلط فيها قليل من الأشياء المحققة بكثير من الإيمان والاعتقاد المبهم. تلك المسافة الكبيرة وهذه المفازة المترامية الأطراف - والتي تتوارد عليها صور التغيير والاختلاف - سريعة متعاقبة هي سكن الفلسفة الحقيقي ومنبتها الأصلي. الفلسفة التي تتناول الحقائق ولا تأنف من الإيمان، الفلسفة أصل المعرفة ومصدر الاعتقاد واليقين، الفلسفة حلقة الوصل الواقعة بين الطرفين: طرف العلم وطرف الدين.
3
بعد هذا التحليل الدقيق تتساءل: هل يمكن للإنسان أن يكون بلا عقل ليكون بلا علم؟ وهل يمكن أن يكون بلا وازع من فوق عقليته ليكون بلا دين؟ وهل يمكن أن يكون بلا تأمل في الناحيتين ليكون بلا فلسفة؟ هذا مستحيل. مستحيل على الإنسان أن يلغي عقله، أو يلغي وازع ما فوق عقليته، أو يلغي تأمله في حقائق الأشياء.
ثم نتساءل ثانية: هل يمكن أن يقوم بين هذه الضرورات العقلية والنفسية صراع وتجالد، بحيث يمكن أن يقوم بجانب هذا الصراع الشديد حياة اجتماعية، لا تجري فيها الدماء، ولا يعبث فيها بأخص الصفات الإنسانية؟ أما دليلنا الملموس على أن الصراع بين الدين والعلم شيء موهوم فبقاء بناء الاجتماع الإنساني بما فيه من مختلف الصور الناتجة عن العقل والشعور، وثباته وبعده عن التناقض والانشعاب. (5) الصراع بين اللاهوت والعلم لا بين الدين والعلم
إذا صح لدينا أن لا نزاع بين الدين والعلم فما هو السبب؟ إذن في تلك الفجائع التي يرويها التاريخ خلال القرون الوسطى، بل وفي الأزمان القديمة. وما هو الباعث على تلك الحروب التي قامت بين العلماء والفلاسفة من ناحية، وبين من نسميهم رؤساء الدين من ناحية أخرى؟
إذا كانت حقائق التحليل النفسي والعقلي تدلنا على أنه لا يمكن أن يقوم صراع بين الدين والعلم؛ لأن هذا مستحيل فطرة وإجماعا. وقفنا أمام وقائع التاريخ - وعلى الأخص تاريخ النشوء العقلي والفكري - نتلمس أسبابا نعزو إليها البواعث التي كونت تلك العناصر التي انطوت عليها صفحات الماضي وكانت سببا في تكوين محاكم التفتيش في القرون الوسطى، لتحرق وتقتل تحت عنوان الهرطقة والخروج على الدين كل من نزع إلى جديد في العلم وكل من كشف عن حقيقة من حقائق الطبيعة.
لم تبلغ الخصومة بين العلم واللاهوت من الشدة ما بلغت في القرون الوسطى وبين أحضان النصرانية؛ فإنك لا تعثر في تاريخ الأديان كلها على تاريخ يشابه تاريخ مذاهب اللاهوت النصراني في قيامها في وجه العلم أزمانا طوالا بل قرونا متعاقبة. والسبب في هذا أنه قامت لدى اللاهوتيين فكرة ثابتة في أن العلم لا يجب مطلقا أن يبشر بشيء فيه أقل مخالفة لظاهر ما جاءت به الأسفار المقدسة والمتون ورسائل الحواريين. ولست تعلم لماذا يكون هذا لزاما على العلماء والفلاسفة مع أن طبيعة الدين لا تسع هذا ولا تدعو إليه. فإن وظيفة الدين في الواقع اجتماعية إرشادية لا تعليمية. ولكن شاءت عقول اللاهوتيين أن تكون وظيفته تعليمية؛ لهذا نشأ ما يسمونه الخصومة بين الدين والعلم، وما هي في الواقع إلا خصومة بين اللاهوت والعلم. وكم من لاهوتي ظهر خلال القرون الوسطى وحاول أن يثبت أن الدين لا شأن له بالعلم وأن وظيفته تنحصر في أن يعرف الناس طريقة الخلاص في الآخرة، لا حركات الأجرام السماوية أو تكوين الأرض كيف يكون! ولكن المذاهب الشائعة في اللاهوت ومن ورائها محاكم التفتيش، لم تكن تترك لأمثال هؤلاء مجالا. وزاد الطين بلة أن اللاهوتيين ومن ورائهم الكنيسة - وعلى رأسها البابوات المعصومون عن الخطأ - كانت قد زكت المذاهب اللاهوتية التي ذاعت في تفسير الإنجيل والتوراة بإجازتها حينا بعد حين، فأصبحت تلك التفاسير في الواقع مقدسة كأصل المتون نفسها؛ لهذا كانت ثورة اللاهوت في القرون الوسطى حامية ونارها محرقة تلظى. (6) هل بين الدين والعلم عداء حقيقي أو مجازي
يخيل إلى الذين يقولون بأن بين الدين والعلم عداء، وأن بينهما صراعا وجلادا يقوم على شيء في طبيعة الدين يعاند طبيعة العلم، أو أن في طبيعة العلم شيئا يعاند طبيعة الدين: أن الإنسان عبارة عن كائن كل ما فيه عقل صرف وتفكير محض، في حين أن ما كشف عنه علم الاجتماع الإنساني مؤيدا بمباحث العلماء الأعلام في فروع علم البسيكولوجيا قد أثبت بما لا سبيل إلى إدحاضه أن الإنسان عبارة عن مجموعة مشاعر حادة قوية تزكيها نزعة غريزية مما فوق العقل تحكم رابطته بما نسميه الجماعة، أو المجتمع البشري، يقول ديكارت: «أنا أفكر أنا إذن كائن.» والحقيقة أن الوجود والحياة أولى الحالات التي يقوم عليها أساس الجماعات. فلنفكر قليلا في حالة الحياة ذاتها وعلى الأخص في الإنسان المفكر المجتمع لنرى إن كان حبنا للحياة ذاتها شيء يقودنا إليه العقل أو الشعور والخضوع لما بعد العقلية.
إذا وازن الإنسان بين ما ينعم به في هذه الحياة من سعادة وبين ما ينزل به من ملمات فادحات، فلا شك في أن كفة آلامه ترجح كفة سعادته على حسب ما يصور له عقله إضعافا. فإن مطاليب الحياة والسعي الجاد وراء ما تطلب من ضرورات لا تترك للفرد مجالا للمتعة بما يصور له عقله أنه متعة حقيقية. وإذا نظر فيما يحيط به من الحالات الطبيعية ألفى أن الطبيعة التي تحيط به والتي يعيش بين أحضانها خاضعا لقواسرها إنما تناهزه أشد العداء ويقابلها بأشد المقاومة. فهو في الواقع في حرب مستعرة مع العناصر التي تؤلف كيانه.
فالجراثيم القاتلة والوحوش الضارية وتقلبات الطقس وتأثيرات المناخ والتناحر على الحياة والانتخاب الطبيعي وإبقاء الأصلح، بل وكل ما تتطلب نظامات الطبيعة من جهود يبذلها الإنسان ليعيش ويحيا حياة طبيعية، هي بذاتها متاعب لا تجعل للحياة من قيمة حقيقية إذا نظر الإنسان فيها بعين العقل وحده وجرد نفسه من نوازع ما فوق عقليته. ثم فكر قليلا بعد هذا في هذه الحياة وسائل نفسك: لماذا وجدت؟ ولأي غرض خلقت؟ وما هو القصد من هذه الحياة التي أحياها؟ وما ذلك الموت الذي أنا بالغه يوما من الأيام؟
وانظر بعد ذلك هل ترضى عن هذه الحياة وهل يكون وجودك فيها ممكنا إن تركت نزعات العقل تحتكم فيك وحدها، أو إن لجأت إليها لتلتمس هدايتها للخروج من هذه الظلمات؟ إن العقل يوحي إليك بأن تفارق هذه الحياة فلا فائدة منها، وأنت فوق ذلك عاجز عن أن تعرف سر وجودك فيها! إنها عبث في عبث وبدء ونهاية لا خلود وراءها، ولا حياة أخرى تثاب فيها على طيباتك أو تعاقب فيها على سيئاتك. يهمس العقل في روعك دائما بأن هذه الحياة التي تحياها وتلك المتاعب التي تتحملها والمشاق التي تذللها إنما تعمل فيها لغيرك لا لنفسك وتتحمل كدورتها للأجيال المستقبلة التي ليس لك من علاقة بها، ولا تعرف إن كانت تستحق منك ما تضحي به من صحة وعافية.
أليس هذا وحي العقل؟ أليست هذه الأشياء هي أول ما يوحي إليك به العقل الصرف المجرد عن المشاعر وقواسر ما فوق العقلية؟ إذن نستطيع أن نقول إن بين العقل والوجود كله صراعا بحكم أننا كائنات لا نعرف لماذا وجدنا ولا نفقه لوجودنا غرضا يختفي وراء مظاهر هذه الحياة.
ثم ارجع بعد هذا إلى نظام الزوجية، وجرد نفسك من المشاعر برهة واحدة لتحكم العقل في هذا النظام الذي لولاه لما كان للاجتماع الإنساني على ما نراه اليوم من أثر.
لماذا يقسر الرجل المرأة على أن تكون له وحده؟ ولماذا تغار المرأة على الرجل إن هو جرى وراء أخرى؟ ولأي شيء يحتمل الرجل والمرأة كلاهما تلك الواجبات؟ ولماذا يلزمان تلك الحدود التي وضعتها الشرائع والقوانين وفي فناء الإباحة ما هو أرخى لعنانهما وأقرب لما يرضي نزعتهما العقلية؟ يسعى الرجل ويكد كل كد ليعول امرأة أراد، ولا يعرف لماذا، أن يختص بها وتختص به، وأن يقوم حفيظا عليها زعيما بمطالبها في الحياة. يحتمل مرارة العيش ويواجه مصاعب الحياة بلذة وصبر في سبيلها وفي سبيل شيء لا يعرفه.
سائل نفسك لماذا أنت تخضع لنظام الزوجية، ولماذا تجد فيه من السعادة مع مرارة السعي ما لا تجد مع راحة العقل واطمئنانه إلى حياة خلو من المسئوليات والواجبات، وأنت لا تعرف إن كنت تعيش في نظام أساسه العقل الصرف أم في نظام لا تعرف في الواقع لماذا تخضع له إن حكمت فيه العقل، وأردت أن تستوحيه ليهديك في ظلمات ما أنت فيه من نظام؟
ثم ارجع إلى المرأة وحدها وتصور لهفة بنت حواء إذ نبذتها الطبيعة في صحراء العقم وتركتها بلا عقب. وانظر كيف أنها تغضب على الطبيعة وعلى الحياة وعلى الأحياء؛ لأن القدر شاء لها أن تكون عاقرا غير ولود.
وصور بجانب هذه الصفة المثالية متاعب المرأة في تربية أولادها والقيام عليهم، وما تعرض له حياتها من المخاطر في الحمل والوضع، وتصور كيف أنها تنسى كل آلامها وتغيب عن عقلها كل متاعبها بمجرد أن تضم طفلها إلى صدرها ضمة تفيض معها كل معاني الحياة لا كل حقائقها، فتغمرها في بحر لجي من المشاعر يموت معه العقل ويحيا الوجدان.
ثم انظر في حياة المرأة في مفصلاتها؛ فإنك تجد أنها إنما تعيش للمستقبل الصرف الذي لا يغشاه من التطلع إلى الحاضر غاشية. كل ما فيها من مشاعر، وكل ما تأتيه من أعمال، وكل ما تحتمله من متاعب في هذه الحياة، إنما تتوجه به شطر المستقبل والأجيال التي سوف يتمخض عنها القدر في الأيام الآتية. هذه هي أكبر فضائل المرأة الغريزية؛ تعيش لغيرها لا لنفسها، تعيش لرجلها ولأولادها وتضحي في سبيلهم كل شيء تملكه أو لا تملكه إلا مجازا؛ لتضع للمستقبل عمادا يقوم عليه، وأساسا يرتفع من فوقه بناؤه المشمخر.
جرد المرأة من هذه المشاعر وخلص نفسيتها من قواسر ما فوق العقلية التي تقوم عليها كل هذه الصفات، وحكم العقل فيها وحده، أو اجعلها تحكم العقل في كل ما تعمل أو تأتي من أفعال. وانظر بعد ذلك كيف يكون المجتمع إذا سادت فيه نزعات المرأة العقلية، وكيف يتهدم الحب وتموت الشفقة، وتنتفي الرحمة؟ وكيف تندك الشرائع السماوية، وتتبدد سلطة القوانين الوضعية؟ وماذا يبقى بعد كل هذا؟ هل يبقى من المجتمع الإنساني عين أو أثر.
وهنا أيضا نستطيع أن نقول بأن بين العقل وبين نظام الزوجية وتضحية المرأة نزاعا وصراعا، وأن بينهما جلادا يجب أن تخضع فيه المشاعر لحكم العقل وحده، كما تقول بأن بين الدين والعلم قتالا يجب أن يتغلب فيه العلم وليد العقل على الدين وليد المشاعر ونزعات ما فوق العقلية في الإنسان.
تأمل في نفسك ساعة وانظر فيما يحف بك من النظم الاجتماعية والقيود الثقيلة التي تربطك بالمجتمع الذي تعيش فيه، والسلاسل والأغلال التي تثقل جيدك وتنقض ظهرك، من واجبات نحو الأسرة والأب والأم والزوجة والوطن والدين والتقاليد وفكرات الشروف والعروض وما إلى ذلك، واستسلم إلى العقل وحده وانزل على حكمه في تلك الأمور عامتها، وجرد نفسك من المشاعر إن استطعت برهة واحدة؛ فإنك لا تلبث أن تجد عقلك وقد أخذ يجر خطاك إلى التخلص من هذه القيود التي لن تجد من عقلك ما يسوغها أو ينزلها على حكم النفع المباشر. لماذا تعيش في أسرة وتحمل نفسك من الأعباء ما لا تطيق وما لا تطيق؟ ولماذا تحب أباك وتحترم واجبات الأمومة وتعطف عليها؟ ولماذا تخضع لعيشة الزوجية وفي مقدورك أن تستعيض عنها بعيش أرغد في نظر العقل وأقرب إلى مطالب الحياة الحرة المطلقة من قيود الواجبات الأدبية؟ ولماذا تحتمل تربية أولادك وتحمل من أجلهم أمر مذاقات الحياة باصطبار وسعادة؟ ولماذا تحب وطنك وتضحي في سبيله نفسك ومالك، وتريق من أجله دمك وأرض الله واسعة الفضاء؟ ولماذا تقيد نفسك بدين تخضع له وفي متسع الإجابة ما هو أرضى لعقلك وأرضى لعنانك وأوجب في رضائك بالحياة؟
هذه أسئلة يجيبك عليها الشعور جوابا لا يرضاه العقل، ولا تسكن إليه موحيات الأنانية الرسيسة في طبيعتك. إنما الطبيعة قد خصت الإنسان بشيء يمتلك ناصية عقله ويتحكم فيه التحكم كله. شيء آت مما فوق عقليته ينزل تلك المعاني من نفسه منزلة يخضع لها العقل قسرا عنه، شيء يقال له الفكرة الدينية، فيها من المشروعية المكتسبة بحكم الإجماع العام ما يخضع الفرد المجتمع بحكم المشاعر وتحد من شهوات الفرد المستقل الخاضع لحكم العقل. تلك هي وظيفة الدين الكبرى في الاجتماع الإنساني.
4 •••
هذه أمثال مقتضبة مما في هذه الحياة من بواعث ما فوق العقلية لو أننا مضينا نضرب فيها الأمثال إذن لملأنا صدر مجلد ضخم حتى نبلغ منها حدا يرضي نزعة البحث الصحيح. وما أتينا بهذه الأمثال إلا لنظهر أنه كما أن العلم لم يصارع بقية ما في الحياة من بواعث ما فوق العقلية الإنسانية صراعا واجهه فيه بالذات، كذلك هو لا يصارع الدين وهو أخص ما في هذه الحياة من الإلهامات العلوية التي تحكم في ما فوق العقل، لا في العقل نفسه.
إنما يصارع العلم صور اللاهوت المذهبي؛ لأن هذه الصور إنما تريد أن تنزل بالدين إلى أفق العلم. تريد أن تجعله دينا وتجعله علما وهنالك يقع الصراع بطبيعة الحال.
لم يشرف القرن التاسع عشر على الختام حتى ودعه العلماء بعدة مستكشفات خطيرة في الموسيقى والكيمياء والتاريخ الطبيعي. غير أن أعظم استكشاف وصل إليه العقل البشري خلال القرن التاسع عشر على معتقدي، تيقن أهل العلم بأن للعلم حدا يقف عنده، هنالك ترك العلم ادعاءه بحق التفرد بالوجود والتسلط وحده على كفايات العقل البشري؛ إذ بان لأهله أن وظيفة العلم تنحصر في وصف حقائق الأشياء. هنالك نامت عاصفة العلم وانتصرت الطبيعة على نزعات الوهم السائدة فيها، وهنالك تحددت المعارف الإنسانية بحسب كفايات العقل الإنساني فترك الدين سلطانه وحدد للعلم حيزه. (7) وظيفة الدين إرشادية لا تعليمية
لقد أبنا في سياق هذا البحث أن العداء لا يمكن أن يقع بين الدين والعلم بصورة مباشرة، وأثبتنا فوق ذلك أن العداء لا يقع إلا بين صور اللاهوت المذهبي والعلم، لأسباب هي في الواقع ذاتية أكثر منها موضوعية؛ فإن رجال اللاهوت عندما أرادوا أن يفسروا نصوص الكتب المقدسة، ويطبقوا هذه النصوص على الحقائق الكونية جنحوا في الواقع إلى فكرة أساسية كانت السبب الكلي فيما ترى من نتائج ذلك الصراع الذي قام بين معاهد الدين ورجال العلم. وكان أول ما ذهبوا إليه وأدى إلى هذه النتائج الخطيرة قولهم بأن نصوص الكتب المقدسة لا تقبل التأويل، وأنها إنما تزودنا بمعارف الدنيا كما تؤدي بنا إلى الخلاص في الآخرة. وكان لهم في ذلك مذاهب كثيرة أخصها مذاهبهم المعروفة في علم الفلك والجغرافية والخلق وما إلى ذلك.
على أن جهلهم بحقائق التاريخ كان في الواقع من أكبر الأسباب التي حدت بهم إلى الاستمساك بمثل هذه الآراء والوقوف في مثل تلك المواقف الحرجة التي كان من شأنها أن تذيع في بعض العصور مذاهب بلغت من التطرف في الإلحاد أقصى الحدود. فإنهم لم يعرفوا مثلا أن أكثر ما جاءت به الكتب المقدسة وأكثر التفاسير التي فسرت بها تلك الكتب إنما استمدت من أساطير وخرافات ذاعت بين أمم العالم القديم، في مصر والهند وآشورية وبابل والكلدان، وأن هذه التصورات الفرضية قد نماها الزمان وانتقلت باللقاح من جيل إلى جيل ومن أمة إلى أمة حتى أسلمت بها تطورات الاجتماع إلى العصور الحديثة محيكة في صورة كتب مقدسة هي في الواقع ليست بالدين، ولكنها مظهر من مظاهره.
لهذا لا نريد أن نتابع الكلام في وظيفة الدين بإطناب؛ لأن مجال الكلام في هذا واسع كبير. وجل ما نرمي إليه من هذه العجالة يتلخص في شيء واحد هو الاعتقاد بأن وظيفة الدين إرشادية لا تعليمية؛ لأن القول بأن وظيفته تعليمية قد يجر إلى البحث في أصل الأديان ومنشأها ومقارنة بعضها ببعض. وهذا بلا شك يؤدي حتما إلى القضاء على المهمة الأصلية التي من أجلها وجدت الأديان، مهمة الإرشاد والتأثير من طريق الوازع في سلوك الأفراد.
على أننا إن قدمنا اليوم إلى القراء كتاب «تاريخ تنازع البقاء بين اللاهوت والعلم من العصور الوسطى»، فإنما نقدمه لطبقة من الطبقات المستنيرة في أنحاء الشرق العربي مرنت على مواجهة الحقائق وسكنت إليها وعرفت أن أفضل ما يتصف به الإنسان في هذه الحياة من خلق هو البحث وراء الحقائق لذاتها والسكون إليها مهما كان فيها من المنافاة لما نشأ عليه المرء من التقاليد.
ولا ينبغي أن تمر بي هذه الفرصة دون أن أنبه على أن الأديان ذاتها إنما كانت لتعرفنا الحقيقة من طريق ما. فألواح الوصايا العشر التي نزلت على موسى وجرت عليها بقية الأديان وشرعتها للناس، قد نزلت على قلب الإنسان من قبل عهد موسى، ومضى المشرعون والمصلحون يتبعون مبادئها قرونا قبل أن يعرف الإنسان ما هو التنزيل، فإنك تجد مثلا في «كتاب الموتى» عند قدماء المصريين ألواحا كهذه الألواح عددها عشرة تماما. وتجد ما يماثلها في دين زرادشت وماني وبوذا وكونفوشيوس.
وعلى هذا فإني أعتقد اعتقادا لا يوهنه الشك بأننا إذا أردنا بعزم صادق أن نؤيد الأديان، وأن يكون لنا في هذه الحياة عقائد صالحة لأن تكون دستورا قويما في الحياة، فلنبحث عن الحقائق ولنطرد الأوهام لتقوم الحياة الإنسانية على أساس ثابت لا يدخله الوهم ولا تعمل فيها يد التقاليد.
الفصل الأول
علم الفلك
(1) النظرية الجيوسنترية: وهي النظرية القديمة المقدسة في تكوين العالم
كان التنازع على العلاقات الواقعة بين السماوات المنظورة والسيار الأرضي محورا لسلسلة من الوقائع تصادم فيها اللاهوت والعلم صداما والتحما التحاما.
نظرت الكنيسة - خلال العصور الأولى - في علم الفلك، نظرة القانع بأنه من الأشياء البائرة؛ اعتمادا على حكمة ظاهرة بشرت بها التوراة، مؤداها أن الأرض لا بد من أن تزول سراعا، وأنه سوف تكون «سماوات جديدة وأرض جديدة»،
1
فلماذا إذا إذن إعنات النفس في درس السماوات القديمة والأرض القديمة، ما دامتا سوف تبدلان سريعا بشيء جديد لا نهاية لأوجه تفضيله على القديم المنهار الأركان المتصدع البنيان؟ ولقد يتجلى هذا الشعور بأجلى صوره في قول القديس أوغسطين
st. Augustin
المشهور: «أي شأن لي في أن أعرف إذا كانت السماوات ككرة تتضمن الأرض معلقة في وسط الكون، أم أنها تشرف مرتكزة عليها من كلا الجانبين؟»
أما الأجرام السماوية فلم يكن اللاهوتيون لينظروا فيها إلا على اعتبار أنها أشباح ما يؤدي النظر فيها إلى شيء، اللهم إلا إلى تأملات تبعث على الورع والتقوى، أما إزاء طبيعتها فإن آباء الكنيسة منقسمون؛ فإن «أوريغن»
Origen
ولفيفا من حوله كانوا يعتقدون بأنها ذوات حية تقمصتها الأرواح. ولقد بني هذا الاعتقاد على الرؤيا المعروفة في التوراة إذ تغني نجوم السماء معا، وعلى ذلك الابتهال الجميل الذي يوجه إلى «النجوم والضوء» في أغنية الأطفال الثلاثة البنيديسيت
Benedicite
تلك الأغنية التي أحسن الجمهور الأنفليكاني
2
بأن حافظ عليها في طقوسه الدينية.
وظن آباء آخرون بأن الأجرام السماوية محلات تسكنها الملائكة، وأن الملائكة تحركها. أما الأدريون
Gnostics
فقالوا بأنها كائنات روحانية تحركها الملائكة، وأنها كفت عن أن تدبر حوادث الأرض، ووكل بها أن تشير إليها لا غير.
أما البناء السماوي عامة فقد كان معتقد الكنيسة فيه قائما على ما جاء في التوراة من القول بأنه قبة صلبة القوام ركبت فوق الأرض، وأن الأجرام السماوية أضواء معلقة فيها. وظل هذا المعتقد زمانا ما ثابتا في روع الناس، حتى لقد أعلن القديس «فيلاسطوريوس»
st. Philastrius
في مقاله المعروف عن الهرطقة،
3
أن إنكار القول بأن الله يجلب الأجرام السماوية من خزائنه كل ليلة ليعلقها في السماء هرطقة صريحة. بل زعم بأن أي قول مضاد لهذا فيه «إنكار للمعتقد الكاثوليكي». كذلك عاش هذا الزعم في تلك النظرية المقدسة التي قام «قوزماس»
Cosmas
بترويجها وتثبيت دعائمها في القرن السادس؛ فإنه بعد أن أيد نظريته في الكون بآيات كثيرة استمدها من التوراة والإنجيل، وبعد أن جعل العالم عبارة عن علبة مستطيلة الشكل، عظيمة القدر، مغطاة بتلك القبة الصلبة؛ عمد إلى التوراة يستمد من نصوصها ما يعلل به حركة الأجرام، فكون نظرية أن الشمس والسيارات إنما تتحرك، وأن «نوافذ السماء» إنما تفتح وتغلق لهذا الغرض، بأيدي ملائكة وكل إليهم تدبير هذا الأمر كله.
أما ما كتب «القديس إزيدور»
st. Isidore
أكبر رائد للفكر الأورثوذكسي في القرن السابع فشديد الدلالة على مقدار ما ثبتت هذه المزاعم في روع الناس. فقد مضى معتقدا بأنه منذ خطيئة الإنسان الأولى، وبناء على هذه الخطيئة قلت الأضواء التي كانت تنبعث من الشمس ومن القمر ثم حاول من بعد ذلك أن يثبت بنصوص استمدها من سفر «أشعياء»
Esaiah
أن الإنسان متى خلص من أكدار هذه الخطيئة فإن الشمس والقمر سوف تعود إليهما أضواؤهما التي فقداها بخطيئة الإنسان، وسوف يظهران كما كانا من قبل، بكامل عظمتهما وجلالهما ورائع بهائهما. غير أنه على الرغم من أقوال هؤلاء الثقات، وما بشروا به من الغائبات اللاهوتية، فإن نشوء الفكرة العلمية لم يعقه عائق، ولم يصده صاد عن الانبعاث في سبيله المحتوم. وقد فرخت جراثيم تلك الفكرة حول «النظرية الجيوسنترية»
Geocentric Theory
وهي النظرية القائلة بأن الأرض مركز النظام الكوني، وأن الشمس وبقية السيارات إنما يدرن من حولها.
ظلت هذه النظرية زمانا مديدا حائزة لأكبر قسط من الاحترام والمنزلة في الصدور؛ فإنها نشأت منذ أزمان موغلة في القدم، وظل العقل الإنساني عاكفا على تأييدها؛ لأنها أقرب النظريات انطباقا على حركات الأجرام السماوية الظاهرة للعين المجردة. وقد زادت تسميتها «بنظرية بطليموس» إلى قيمتها، وضاعف من خطرها. ومن أجل أنها ورثت عن العالم القديم، ونقلت عن العالم المسيحي؛ مضى «القديس كليمانت»
st. Clement
الإسكندري يعززها فقال بأن المذبح الذي يوضع عادة في الهيكل اليهودي إنما هو «رمز للأرض ووجودها في وسط الكون.» ولم يحتج إذ ذاك إلى شيء أكثر من هذا لتصبح النظرية «الجيوسنترية» معتقدا مستفادا من معتقدات الكنيسة؛ لأنها «تلائم ظاهرة التوراة وتتمشى مع روحها.»
على هذا الأساس نفسه قامت نظرية مقدسة أخرى في حقيقة الكون خلال العصور الوسطى، حتى لقد اعتبرت أثمن كنز تحويه خزائن الكنيسة العظمى. وزعم أنها آخر ما نزل به الوحي في حقيقة العالم. على أن هذه النظرية لم تقم في الواقع إلا على شتات من النظريات الكونية التي راج في بلاد الكلدان القديمة سوقها؛ ومن ثم بثت في تضاعيف التوراة العبرية.
قام بترويج هذه النظرية ثلاثة من فحول الرجال: أولهم ذلك الرجل غير المعروف الذي كتب تلك المقالات التي تنسب عادة إلى «ديونسيوس الأريوباغيطي »
Dionistus areopagite
وسرعان ما شاع الاعتقاد بأن هذه المقالات من منتجات ذلك الآثيني
4
الذي آمن بتبشير «القديس بولص»
st. Paul
ومن ثم بأنها من عمل «القديس بولص» نفسه. على أن هذه المقالات على الرغم مما ظهر من البراهين الناصعة على أنها منتحلة مدسوسة على الذين نسبت إليهم، فإنها اعتبرت - في عهد ذيوعها - من كنوز الوحي والإلهام؛ حتى لقد أرسلها إمبراطور شرقي إلى إمبراطور غربي كأثمن ما يهدى وأجل ما يمنح. وفي القرن التاسع ذاعت تلك المقالات في غربي أوروبا ذيوعا كبيرا، فأصبحت منبعا فياضا ينضح بصور الفكر، وعلى الأخص في حقيقة النظام السماوي. وبهذا تضخمت الفكرات القديمة التي ذاعت في علم الفلك وانتفخت إلى حد أن رتبت كوكبات السماء - بل سميت - على مقتضى الإشارات التي تناثرت بين دفتي الكتاب المقدس.
أما ثاني أولئك العظماء الذين أشرنا إليهم فهو «بطرس لومبارد»
الذي كان أستاذا في جامعة باريس؛ فإنه في أواسط القرن الثاني عشر أذاع مجموعته التي أسماها «الجمل»
Sentences
جامعا فيها أقوال آباء الكنيسة؛ فظلت هذه المجموعة أثبت متن للاهوت حتى نهاية العصور الوسطى. وفيها عني عناية خاصة بأمر تلك الفكرة اللاهوتية التي تكونت حول علاقة الإنسان بالكون المحيط به؛ فقضى بأنه «كما أن الإنسان قد خلق من أجل الله - أي من أجل أن يخدمه ويخضع له - كذلك لم يخلق الكون إلا من أجل الإنسان - أي من أجل أن يسخر له ويقوم بخدمته - وعلى هذا ينبغي أن يوضع الإنسان في مركز الكون الأوسط حتى يستطيع أن يخدم الله، وأن يسخر الكون لخدمة نفسه.»
أما مقدار ما كان في هذه النظرية من خطر، وما احتوت من قوة صارعت علم الفلك اليقيني، فذلك ما سوف نعود إلى الكلام فيه، وعلى الأخص لدى الكلام في عصر «غاليليو»
Galileos .
أما آخر حلقة من ثالوث هؤلاء المفكرين فانتهت بالنابغة القديس «توماس أكونياس»
st. Thomas Akiunas ، ذلك القديس اللاهوتي، فخر الكنيسة في العصور الوسطى والحكيم الإنجيلي،
5
الذي حاز أكبر عقل جادت به الطبيعة على إنسان منذ عصر أرسطوطاليس حتى عصر «نيوتن»
Newton
هو ذلك الرجل الذي اعتقد أهل زمانه بأنه شبح المسيح مصلوبا قد تحدث إليه بكلمات عبر بها عن إعجابه بما خطت يراعته، كان كبير العقل، صلب القناة، حاد الطبع، غير أنه كان عادلا - بل أكثر من عادل - في تقدير معارضيه واحترام مناظريه، أخرج في النصف الأخير من القرن الثالث عشر موسوعته اللاهوتية
Summa Theologia
وفيها توسع في شرح النظرية المقدسة في الكون بما بلغ بها النهاية والتمام. ولقد استطاع - بما أعطي من قوة العقل والقدرة على التعبير في أبسط الأساليب - أن يطبق تلك النظرية الكونية الفجة من الوجهتين المادية والروحية على العلاقات الواقعة بين الله والناس.
على هذه الصورة بنيت تلك النظرية الكبرى مصبوبة في ذلك القالب الذي كونته عقول ثلاثة من رواد الفكر الإنساني في العصور الوسطى. وعقب عليهم ذلك الرجل الفذ بل النابغة الأوحد الذي استطاع أن يغذي دوحة ذلك المعتقد بما جعل جذورها القوية تمتد إلى أبعد أغوار الفكر الأوروبي، ذلك الشاعر الذي أمده الوحي القدسي بتأييد جعل به تلك النظرية جزءا من حياة العالم الحاف به؛ فالسماوات العليا - عليون - والسماء المتراكزة - ذات المركز - والجنة والمطهر وجهنم، قد صورتها عبقرية الشاعر «دانتي»
Dante
تصويرا جعل الناس يرونها بعين الخيال، كأنهم يرونها بعين الحقيقة. تخيلوا الله في توحيده الثالوثي مستويا على عرشه فوق دائرة الفلك، كأن ذلك كان حقيقة واقعة، كما يرون البابا مستويا على عرش القديس «بطرس»، وتخيلوا سيراف والكروبيم
6
والملائكة المزدوجة الأجنحة التي تمثل حملة عرش الله، يحوطون الواحد القهار، كما يروا الكرادلة من حول البابا في أبهته وعظمته. وتصوروا الدرجات الثلاث التي تنزلها الملائكة في السماء، كما يرون الدرجات الثلاث التي ينقسم إليها رجال الكنيسة من أساقفة وقساوسة وشماسة فوق الأرض، ورأوا في مجموعة النظام الجرمي، وفي دورة كل جرم من الأجرام في دائرة فلك الجرم الذي يعلوه، وفي دورة الكل من حول الأرض مع خضوع ذلك النظام لإرادة «المحرك الأول»، كما يرون النظام الإقطاعي في غربي أوروبا وفي خضوع كل ذوي الإقطاعات للإمبراطور الأعظم.
ولننظر الآن في ذلك الوهم الأكبر - وهو أعظم ما كونت الفكرة اللاهوتية في تاريخ الدنيا - نظرة أدق وأعمق.
إن أول ما يلقى في روعنا هو أن نظام الكون المقدس ليس سوى تفصيلا لما أضمرت، وتضخيما لما صغرت، تلك الفكرات اللاهوتية التي راجت في الأزمان الأولى. فلم تصبح الأرض ذلك السهل المنبسط المحوط بأربعة جدران تعلوها قبة صلبة القوام، كما اعتقد لاهوتيو القرون الأولى تحت تأثير «قوزماس»، ولم تمس قرصا منبسطا تعلوه الشمس والقمر والنجوم لتمده بما يحتاج إليه من ضوء، كما صورها فنانو الكاتدرائيات الأولى، بل أضحت كرة كائنة في وسط النظام الكوني، يحيط بها عدة أفلاك كروية شفافة تديرها الملائكة حول محورها ومن حول الأرض، وكل منها يحوي جرما أو أكثر من أجرام السماء. فالأقرب فلك الأرض ويحمل القمر، ومن بعده فلك عطارد ثم فلك الزهرة ثم فلك الشمس، ثم الثلاثة التي تلي هذه وهي فلك المشترى وفلك المريخ وفلك زحل. والفلك الثامن يحوي النجوم الثوابت، والتاسع هو فلك «المحرك الأول»
ويحوي الكل الفلك العاشرة أو فلك عليين، وهذا غير متحرك، وهو الحد الفاصل بين الخلق الكوني المنظور وبين الخلاء الخارجي اللامتناهي، وهنالك - في ضوء يخطف البصر ولا يستطيع أحد الدنو منه - يستوي الله في حدته الثالوثية فوق العرش حيث ترتفع إليه «وموسيقى الأفلاك» إذ هي تتحرك. وعلى هذا ترى أن الفكرة الوثنية في حقيقة الأفلاك قد انقلبت إلى فكرة مسيحية، منبثة في تضاعيف الدين النصراني.
ويقوم على خدمة «الجلالة القدسية» فوق عرشها العظيم جماعات من الملائكة وافرات العدد، تنقسم في ثلاثة منازل أو درجات: فالجماعة الأولى تقوم بالخدمة في عليين، والثانية في السماوات؛ أي بين عليين والأض، والثالثة فوق الأرض نفسها.
وكل من هذه المنازل تنقسم إلى ثلاث مراتب: الأولى تتضمن مراتب سيراف والكروبيم والملائكة المزدوجة الأجنحة التي تمثل حملة العرش، والمهمة التي يقوم بها هؤلاء هو الغناء المستمر وترتيل الحمد الدائم لله. أما حملة العرش فمنوط بها حمل إرادة الله إلى الدرجة الثانية التي يخدم أفرادها في الأفلاك المتحركة، وهذه الدرجة الثانية تتكون من ثلاث مراتب؛ الأولى: مرتبة الدومنيون وهي التي تتلقى الأوامر الإلهية، والثانية: مرتبة القوات التي تحرك الأفلاك كالشمس والقمر والسيارات والنجوم وتفتح نوافذ السماء وتغلقها، وتدبر كل الظاهرات السماوية الأخرى، والثالثة: مرتبة الحفاظ وغيرهم.
أما الدرجة الثالثة وهي أسفل الدرجات الملائكية، فتتكون من ثلاثة مراتب أيضا: الأولى مرتبة الرؤساء وفيها حفظة الأمم والدول، وبعدها مرتبة رؤساء الملائكة. وهؤلاء يقومون على حفظ الدين ويحملون ابتهالات القديسين وصلواتهم إلى أعتاب عرش الله، والثالثة الملائكة العاديون، وهؤلاء يوكل إليهم أمر العناية بالأشياء الأرضية عامة، ويناط كل منهم بواحد من أبناء آدم، ويناط آخرون بالحرص على صفات النباتات وأنواعها ثم المعادن والأحجار وما شابه ذلك. وفي خلال هذا النظام كله من عرش الله الموحد الثالوث إلى أحط مراتب الملائكة، تجد أسطورة القوة والتأثير المنسوب إلى «المثلث» ذلك الشكل الهندسي البسيط، وإلى العدد «ثلاثة». وهي بذاتها تلك الأسطورة التي أوحت بفكرة التثليث لواضعي اللاهوت الهندي القديم، ومنها نشأ معتقد التثليث عند قدماء المصريين ومن ثم نقلت هذه الهبة اللاهوتية إلى العالم المسيحي، وعلى الأخص من طريق «أتناسيوس» المصري
Athnasius .
ومن تحت الأرض تكون جهنم، وهي مثوى الملائكة الذين عصوا وثاروا تحت إمرة «إبليس» أمير سيراف، وصفي الله من قبل. ولكن من بين أولئك العصاة فئة لا تزال تزود أفلاك السيارات وتسبب للملائكة المطيعين المنيبين ألما وعذابا. في حين أن غيرهم يغشون جو الأرض فيرسلون عليها الصواعق والزوابع والقحط والجليد. وغير أولاء وهؤلاء عصبة خصت بإغراء الجماعات الأرضية يدفعونها إلى ارتكاب الرذائل والآثام. أما الأستاذ «بطرس لومبارد» والقديس «تومس أكويناس» فقد جهدا نفسيهما كل جهد لكي يثبتا أن عمل هذه العصبة الشيطانية إنما يقصد به تنظيم أعمال الإنسان، وتحديد العقوبات التي يستحقها العصاة تحديدا صحيحا، وعلى قسطاس مستقيم.
كل هذا النظام العظيم قد دس على المذهب البطليموسي بإحكام كبير، حيث استعان الآباء في سبيل ذلك بالمتون الإنجيلية وبأسلوب التفكير اللاهوتي، ولم يكن لذلك من نتيجة اللهم إلا الاعتقاد بأن نظام الكون على هذه الصورة قد أصبح غير قابل للتعديل ولا التحوير، وأنه غائي لا سبيل إلى إدحاضه، وأن القول بما يضاده أو تعمد نقده هرطقة صريحة وكفر بالله.
وظل هذا النظام ثابت الدعائم قرونا عديدة؛ حتى إن كثيرا من جهابذة اللاهوتيين مثل «فنسنت بوفييه»
Vincent of Beauvais
والكردينال «دايلي»
cardinal d’Ailly
قد وقفا كل جهدهما ليظهرا أن هذا النظام تعززه نصوص الكتاب المقدس، لا بل ليثبتا أنه يزكي التوراة والإنجيل.
وعلى هذا ترى أن «النظرية الجيوسنترية» قد امتدت أصولها إلى صميم النصرانية، بل إلى أعمق معتقداتها وآمالها ومخاوفها، وظلت كذلك حتى منتصف القرن السادس عشر الميلادي. (2) النظرية الهليوسنترية
منذ عهد عهيد فرخت في العقل الإنساني جراثيم «النظرية الهليوسنترية»
Hellocentricheory
أي النظرية القائلة بأن الشمس مركز النظام الكوني؛ ففي القرن السادس قبل الميلاد قال «فيثاغورس»
ومن بعده «فيلولاوس»
بنظرية أن الأرض والسيارات إنما تدور من حول «نار مركزية». ومن بعد ذلك بثلاثة قرون عمد «أرسطارخس»
Aristarchaus
إلى تقرير هذه الحقيقة بكثير من دقة التدليل وقوة البرهان. وفي ذلك حجة ناهضة على أن تنازع البقاء بين الأسلوبين اللاهوين والعلمي غير قاصر على النصرانية؛ فإن ما قرره «أرسطارخس» من حقائق العلم كان سببا في أن يرمى بتهمة الزندقة والكفران، فغشيت سماء العلم غمامة كثيفة من الحقد والكراهية حجبت أنواره ستة قرون أخرى. ولم تلمع شمس هذه الحقيقة مرة ثانية في سماء الفكر إلا في القرن الخامس من التاريخ الميلادي، حيث ظهرت في تأملات «مارتيانوس كابيلا»
Martianus Capelia
غير أن أضواءها حجبت ثانية وظلت محجوبة ألفا من السنين، حتى أشرقت ثانية في غضون القرن الخامس عشر، ولكن واهنة ضعيفة، في عقل الكردينال «نيقولاوس ده كوزا»
Nicolas de Cusa
منبثة في تضاعيف ما ألف من أسفار.
غير أن ذلك النظام الكبير الذي أنبتته عقول عظماء اللاهوتيين، وعضدته تلك الصيحات العالية التي انبعثت من قلب «دانتي»، قد أثرت في نشر هذه الفكرات الصحيحة تأثيرا عاقها عن أن تنمو وأن تؤتي أكلها.
ولقد أخذت عناصر العقل الإنساني تزداد خصبا، وفراغه يزداد امتلاء؛ فإن الأساليب التي اعتمدت عليها الرياضيات كانت قد مضت في التهذب والارتقاء، وأخذ النظر يمتد من خلال العدسات الزجاجية إلى الأجرام السماوية. وما بلغ العقل الإنساني هذا المبلغ حتى ظهر في منقطع العمران الأوروبي وعلى حدود «بولاندا» طالب من طلاب العلم واسع النظر طيب القلب، أمكنه بما وهب من كفاءات أن يبشر للعالم الحديث بالحقيقة الناصعة - تلك الحقيقة التي نراها اليوم ضرورة أولية وكانت إذ ذاك من المدهشات الخارقة للقياس - حقيقة أن الشمس لا تدور من حول الأرض، بل إن الأرض وبقية السيارات هن اللائي يدرن من حول الشمس. ذلك الطالب هو «نيقولا كوبرنيكوس»
Nicolas Copernicus .
كان «كوبرنيكوس» أستاذا في «روما» وقد أعلن نظريته هذه هنالك منذ سنة 1500، ولكن بطريقة تشعر بأنها غريبة من غرائب العلم، أو أنها قول من الأقوال التي يناقض ظاهرها الحقائق الواقعة، كما كان شأن الكردينال «ده كوزا» لدى الكلام فيها من قبل، فلم يروجها بين الناس على اعتبار أنها مذهب علمي يعبر أصح تعبير عن حقيقة من حقائق الطبيعة العظمى. وبعد ذلك بثلاثين عاما قام «ودمانستاد»
Wedmanstadt
أحد تلاميذ «كوبرنيكوس» يشرح هذه النظرية للبابا «كليمان السابع»، ولكنها ظلت حتى ذلك العهد عبارة عما لا يخرج عن حيز الظن والتخمين، وسرعان ما نسيت هذه النظرية وأسدلت عليها أستار كثيفة من نزعات ذلك العصر، غير أن «كوبرنيكوس» لم ينسها، وظل يدرسها درسا عميقا، فكان كلما استعمق في درسها أخذت أنوار الحقيقة تشع في عقله شيئا فشيئا، حتى تصور أن حمل هذه الحقيقة الكبرى في طيات عقله وبين نياط قلبه، لا يتفق مع ما يطلب من الأمن والسلام في جو «روما» المفعم بالتعصب، المملوء باستبداد التقاليد، ولقد أيقن بأن إعلان هذه الحقيقة على أنها نظرية تخمينية أو على أنها زعم يناقض ظاهرة الحقائق الواقعة، قد يمكن أن يكون شيئا يلهو به رجال البلاط البابوي. أما إعلانه إياها على أنها حقيقة بل على أنها الحقيقة، فأمر يخالف الأول مخالفة تامة؛ لهذا تراه يعود أدراجه إلى قريته الصغيرة من أطراف «بولاندا» تارة أخرى.
وكان على يقين من أن نشر فكرته هذه كما تكونت في عقله إذ ذاك أمر لا يخلو من خطر ماحق، حتى في قريته المنعزلة عن عمران العالم الأووبي؛ لذلك ظلت هذه الفكرة ثلاثين سنة أخرى جاثمة في خلايا عقله الكبير وفي عقول أولاء من أصحابه الأخصاء الذين أفضى إليهم سرا بما كان يوحي إليه به ذهنه من آيات الحق الثابت.
وكانت النتيجة أنه أتم كتابه الكبير «حركات الأجرام السماوية»
Revolutiono of the Hevenly Bodis
وأهداه إلى البابا نفسه. وفكر من بعد ذلك في مكان يستطيع أن ينشر فيه كتابه، فلم يجرؤ أن يرسله إلى روما وهنالك تجثم عصابة من رءوس الكنيسة القديمة مرتقبون لمصادرته. ولم يستطع أن يرسل به إلى «ويتنبرج»
Wittenburg
وهنالك رءوس البروتستانت. وما كانوا في ذلك الزمان بأقل عداء لحقائق العلم من زعماء الكثلكة؛ لهذا عهد بالكتاب إلى رجل يدعى «أوسياندر»
Osiander
في نورمبرج.
غير أن شجاعة «أوسياندر» خانته، ولم يستطع أن ينشر الفكرة الجديدة بما يحتاج إليه ذلك العمل من إقدام وبسالة. فكتب مقدمة دنيئة حاول أن يعتذر فيها عن «كوبرنيكوس» تلقاء فكرته هذه، بل اختلق عليه من الفكرات ما خيل إليه أن يكون عذرا مقبولا، فقال بأن «كوبرنيكوس» لم يحاول نشر هذا المذهب على أنه الحقيقة؛ بل على أنه مجرد نظرية تخيلية لا غير، معلنا أنه مما لا يخرج عن طوق القانون أن يهيم فلكي مع موحيات خياله وتصوره، وأن مثل «كوبرنيكوس» في كتابه لا يخرج عن هذا.
وعلى هذا ترى أن أعظم الحقائق العلمية شأنا - بل أكبر ما كشف العقل الإنساني من نظام الطبيعة خطرا وجلالا - تلك الحقيقة العظمى التي تسمو بالدين بقدر ما تسمو بالعلم، لم تخترق طريقها إلى عالم المعرفة الإنسانية إلا متسللة خفية، دابة دبيب الزواحف بين عقبات من العقائد الزائفة وأشواك من التقاليد.
في الرابع والعشرين من شهر مايو سنة 1543، وصلت أول نسخة من الكتاب مطبوعا إلى حيث كان يقيم «كوبرنيكوس»، ولما أن وضعت النسخة بين يديه كان الجهبذ الكبير محتضرا على فراش الموت. وبعد بضع ساعات كان بعيدا عن هذا العالم، بل بعيدا عن أن تصل إليه أيدي أولئك الأنقياء الذين ربما كانوا قد هدموا مجده هدما، وأذاقوه الموت ألوانا، لو لم تعجل به إلى العالم الثاني خطاه.
غير أنه لم يكن بعيدا عن أن تناله الأيدي الفاجرة بإثمها؛ فإن الموت نفسه لم يكف لأن يكون حجابا يحجب عنه الأذى والكفران. والظاهر أنهم خافوا أن ينزلوا العقاب المادي بالجثة الهامدة، فاكتفوا بأنه لا يذكر على شاهد قبره شيئا عن جهوده العظيمة التي بذلها في حياته، ولا أن يشار بحرف واحد إلى استكشافه العظيم، وأن ينحت على قبره دعاء قال فيه واضعه: «اللهم إني لا أسألك غفرانا كما غفرت لبولص، ولا إحسانا كما أحسنت إلى بطرس، ولكن أسألك أن تنعم علي كما أنعمت على اللص وهو معلق فوق صليب الإعدام.» ومضى على ذلك ثلاثون عاما، تجرأ بعدها صديق من أصدقائه، أن يحفر على قبره تذكارا يشير إلى استكشافه العظيم.
إن المقدمة التي وضعها «أوسياندر» والتي ادعى فيها أن «كوبرنيكوس» قد أذاع ما أذاع على أنه نظرية تخيلية - لا على أنه حقيقة يؤمن بها - قد أدت إلى كل ما خيل إليه أنها سوف تؤدي إليه؛ فقد قطع رءوس الكنيسة من الزمان حقبة لا يقل مداها عن السبعين عاما وهم يفضلون أن لا يثيروا من حول الكتاب عجاجة؛ حتى لقد استطاع أساتذة من أمثال «كالجانيني»
Calganini
أن يلقنوا المذهب الجديد على أنه نظرية فرضية. وعلى الرغم من أن اللغط كان كثيرا ما يرتفع من حول هذا الاستكشاف في الدوائر اللاهوتية بين حين وحين، فإن الرجل لم ينفجر إلا في حدود سنة 1616؛ ذلك لأن المذهب كان قد تركز في عقل «غاليليو» العظيم، فاعقتد أنه حق وأن لا حق غيره، وأخذ يذيعه ويدفع عنه، بل مضى يبرهن على أنه حق مستعينا بالتلسكوب، فصادرت الكنيسة الرومانية الكتاب، على اعتبار أن كل ما قرره كوبرنيكوس في كتابه لا ينال رضاها، أو يصحح بما يوافق مشتهياتها. ولم يكن ذلك التصحيح عندهم إلا الرجوع عن الحق الثابت إلى تلك الخيالات الوهمية التي كانت تدعى ظلما بنظرية «بطليموس».
ولا ينقصك على أنهم لم يقصدوا بالتصحيح سوى هذا النكوص من دليل؛ فلديك الأدلة ناطقة فيما أتوا من فعل في ذلك العام الذي منع فيه «غاليليو» عن أن يلقن علم الفلك أو يناقش فيه مستعينا بقواعد «كوبرنيكوس»، وعندما حظروا ذيوع كل كتاب يبشر بدوران الأرض. وعلى هذا أصبحت قراءة كتاب «كوبرنيكوس» إثما لا يوازيه من عقاب سوى اللعنة الأبدية، وقبل الناس أن يمضوا لهذا القرار خاضعين مهطعين مقنعي رءوسهم.
لهذا خضعت أكبر العقول وأرشد الأحلام؛ فإنهم وإن لم تطاوعهم موحيات عقولهم على أن يؤمنوا بالنظام القديم، فلا أقل من أن يتظاهروا بأنهم به مؤمنون. ولقد حدث هذا حتى بعد أن فتح الطواف طول الأرض للعيون منفذا تنفذ منه إلى الحق، وفرجة ترى منها سبيل الرشاد، ومهما يكن من أمر فإن مثل المبشر اليسوعي «يوسف أكوستا»
Joseph Acosta
لمثل رائع؛ فإن كتابه «تاريخ جزر الهند طبيعيا وأدبيا» الذي نشر في الربع الأخير من القرن السادس عشر، قد هدم كثيرا من القواعد التي كان يرتكز عليها عديد وافر من الأخطاء الفلكية والجغرافية. ففي ذلك الزمان الذي قنع فيه العقل بالنقل، ومضى مثبتا للتقاليد؛ أوحى ذلك المبشر لأهل الأرض بحقائق من العلم أمعن في التبشير بها إلى أبعد حد ذهبت إليه شجاعته، وانتهت بسالته، غير أنه ارتد إزاء حركة الأجرام السماوية محافظا محضا؛ إذ أعلن في غير رهبة ولا خجل أنه «رأى بعيني رأسه القطبين اللذين تدور عليهما السماوات كما تدور الرحى على قطبيها.»
عاش في أوروبا في ذلك العهد رجل واحد هو «بطرس آبيان»
كان في مستطاعه أن يخدم قضية العلم، وأن يصد تيار الفكرات البعيدة عن حكم العقل، النازلة على حكم الهوى والتقيلد، والتي كان من شأنها أن ظلت متدافقة، أن تذهب بكثير من عظماء الرجال من ميدان التفكير العلمي الصرف، كما تكتسح كثيرين من أحضان النصرانية. كان «آبيان» رياضيا عظيما وفلكيا ثبتا في عصره. ولقد أهلت به مواهبه وكفاياته لأن يصبح معلما في الفلك للإمبراطور «شارل الخامس»
Charles V
وكان مؤلفه في الجغرافية سببا في أن يذيع صيته ويرتفع ذكره، كما كان مؤلفه في الفلك طريقا تنسم منه مراتب الشرف. أما ما أدخل على الرياضيات من الأساليب المستجدة، وما اخترع في خدمة علم الفلك من آلات، فقد نال به ثناء «كبلر» كما تبوأ به مكانة في تاريخ العلم لا يمحو ذكرها كر الدهر وتلاحق العصور. ولقد أتيحت له فرصة كان من الواجب أن ينتهزها لكي يؤدي بها للإنسانية خدمة لم يؤدها. فإنه لما ظهر كتاب «كوبرنيكوس» كان «آبيان» في أوج العظمة والقوة. وإن دفاعا يكتبه «آبيان» في هدوئه وصادق يقينه - حتى لو كان المقصود به معروفا يسدى أو ظلم يمنع - لمن المحقق أن يثمر وأن ينتج نتاجا، وكان من الواجب على تلميذه الصادق الود له شارل الخامس - وهو على عرش ألمانيا وإسبانيا معا - أن يصغي لقولة يقولها، وأن يصيخ لدفاع يتحرك به قلمه، غير أنه لسوء الحظ كان أستاذا في معهد خاضع لأقسى التقاليد الكنسية، ذلك المعهد هو جامعة «إنجولستاد»
Engolstadt
وكان من أول وجباته أن يلقن مبادئ العلم «السلمي»، ويقصد بذلك عدم الخروج بالعلم عن نطاق ما ينص عليه الكتاب المقدس كما فسره أساتذة اللاهوت. فأضاع بذلك «آبيان» فرصة كان من الواجب ينتهزها ليدفع عن حقائق العلم ظلم الجهالة والعتو. ومضى هذا العلامة يلقن مبادئ علم الفلك على حسب نظرية «بطليموس» وحسب موحيات «الأسترولوغيا»، وظل إزاء نظرية «كوبرنيكوس» محايدا لا مؤيدا ولا منكرا، بل ظل صامتا. أما الأسباب التي أدت إلى صمته العميق وقبوعه في قاعة محاضراته ساكتا، فلن تنسى ولن يغفل عنها باحث في تاريخ العلم، طالما ادعت أية من الكنائس أن من حقها أن تتحكم في برامج التعليم في الجامعات.
وما من شك في أن الكثيرين من الجائز أن ينحوا على الكنيسة الرومانية باللوم من أجل هذا. ولكن الحق أن البروتستانت لم يكونوا بأقل تحمسا في العمل ضد مبادئ العلم الحديث مما كان أضدادهم. فكل فروع الكنيسة البروتستانية - لوثريون، وكلفينيون، وأنغليكانيون - قد تكاتفوا على مقاومة المذهب «الكوبرنيكي» وهم معتقدون أنه مناقض لنصوص الكتاب المقدس. وأخيرا انضم إليهم البيوريتانيون
سالكين مسلكهم متتبعين خطاهم. قال مارتن لوثر: «يصغي الناس إلى منجم مأفون يحاول أن يثبت أن الأرض تدور، وليس كذلك السماوات والأفلاك والشمس والقمر. ولا جرم أن كل من يريد أن يحوز شهرة اللباقة والنهى يحاول أن يبث مذهبا جديدا زاعما أنه أصح المذاهب وأصدق الحقائق، غير أن هذا الممسوس يريد اليوم أن يقلب قواعد علم الفلك رأسا على عقب في حين أن نصوص الكتاب المقدس تدل على أن «يوشع» قد أمر الشمس أن تقف، ولكنه لم يأمر الأرض.»
أما «ميلانكوتون»
Melanckoton
فإن وداعته قد حالت دون أن يقتفي خطوات «لوثر» في أن يرمي «كوبرنيكوس» بالكفر، بل قال في مقالته المعروفة بعنوان عناصر الفوسيقى
- والتي طبعت بعد موت «كوبرنيكوس» بستة أعوام ما نصه: «إن أبصارنا تشاهد السماوات تدور في مدى أربع وعشرين ساعة. غير أن أناسا دفع بهم حب التبشير بالجديد أو حب الشهرة قد أذاعوا أن الأرض تتحرك، وأنه ليس كذلك الفلك الثامن ولا الشمس. أما إذاعة مثل هذه المبادئ علنا وبثها في الناس عيانا فليس من سمو الهمة ولا من الأمانة في شيء؛ لأن ذلك يعطي الناس مثلا خطرا مبغوض النتائج. والواجب على الرجل الذي يطلب الخير أن لا يحيد عن الحق كما أنزله الله في كتابه وأن يخلد له.»
ومضى «ميلانكوتون» بعد ذلك ذاكرا مقطوعات من المزامير والمتون الكنسية، رأى أنها تؤيد بجلاء وصراحة مذهب أن الأرض ثابتة تماما وأن الشمس تدور من حولها، مضيفا إلى ذلك ثمانية براهين أخرى أيد بها زعمه، مستخلصا منها «أن الأرض لا يمكن أن تكون في مكان ما لم تكن في وسط الكون.» ولقد أمعن ذلك الرجل - وهو في نظرنا من أودع المصلحين - في القول بأن من الواجب أن تفرض عقوبات شديدة تصد الذين يريدون أن يبشروا للناس بتعاليم «كوبرنيكوس» عن تبشيرهم، وتزجرهم عن غيهم.
وبينما ترى أنصار المذهب «اللوثري» قائمين يناوئون مذهب دوران الأرض، بل ويرمون كل مؤيد له بالكفر والهرطقة، إذا بك ترى شعبا أخرى من شعب الكنيسة البروتستانتية يتسابقون في تلك الحلبة متناهين. وتبوأ كالفن بكتابه «تعليقات على سفر التكوين» مكان زعامتهم؛ إذ أعلن كفران كل من يقول بأن الأرض ليست في مركز النظام الكوني. وبدأ القول بالإشارة إلى أول مقطوعة من المزمور التاسع والثلاثين ثم تساءل: «من من الناس يجرء على أن يضع سلطة «كوبرنيكوس» فوق سلطة الروح القدس؟» أما «تريتان»
Territin
خليفة «كالفن» المعروف، فإنه أذاع حتى بعد أن مكن «كبلر» و«نيوتن» لنظرية «كوبرنيكوس» و«غاليليو» وأتماها ووضعا لها قواعدها الثابتة، مختصرة اللاهوتي محاولا أن يثبت - مستعينا بكثير من نصوص الكتاب المقدس - أن السماوات والشمس والقمر إنما يدرن من حول الأرض التي هي ثابتة في مركز النظام الكوني.
وإنك لتقع في إنجلترا على مثل من ذلك الجهد اللاهوتي، حتى بعد أن أثبتت التجارب أنها جهود بائرة لا نتيجة لها؛ فإن «هتشنستون»
Hutchinson
في كتابه «مبادئ موسى» ودكتور «صموئيل بيك»
Dr. Samuel Pike
في كتابه «الفلسفة المقدسة» و «هورن»
Horn
والأسقف «هورسلي»
Horsely
الرئيس فوربس
في كتاباتهم الكثيرة، قد قاوموا مبادئ نيوتن كل مقاومة، بل هاجموها على نقضها بنصوص الكتاب المقدس، وكذلك دكتور جون أوين
owen john
وهو علم من أعلام المذهب البيوريتاني
فإنه أعلن أن نظام كوبرنيكوس، ليس بأكثر من خيال وفرض، مناقض لنصوص التنزيل، ولم تعد تلك القاعدة جون ويسلي
John Wesley
فإنه أعلن أن الآراء الفلكية الجديدة إنما تسوق إلى الكفر والإلحاد.
ولم يكن عوام البرتستانت بأقل من الكاثوليك حظا في اتباع مثل هذه التعاليم؛ فإن أهل مدينة «البنج»
Elbing
قد اعتادوا أن يلهوا بمشاهدة رواية هزلية جعل فيها «كوبرنيكوس» موضع السخرية والاستهزاء. وكذلك سكان «نورمبرج»
Nuremburg
وهي من قلاع البروتستانت الحصينة. فقد صنعوا مدالية كتبت عليها عبارات خص فيها الفيلسوف ونظريته بأشد عبارات التهكم والازدراء.
أما السبب الذي حدا بالناس لأن يقفوا ذلك الموقف من «كوبرنيكوس» وتعاليمه، فيتضح لنا جليا إذا نحن عرفنا موقف حفظة العلم وخزنة المعرفة - بروتستانت وكاثوليك - في ذلك العهد، فإن موقفهم إذ ذاك يفسر لنا شيئا من أصل الدعوى العريضة التي يصيح بها محدثو اللاهوتيين زاعمين أن من حقهم أن يمضوا قوامين على التعليم العام، وأن يظلوا قابضين على زمام الخطا التي يخطوها العلم في نشوئه وارتقائه واختلاف متجهاته. ولقد كان لهم اهتمام كبير بما كانوا يسمونه «بالتعليم السليم» من طريق «العلم السلمي»، حتى إنك لتجد في كثير من الجامعات - حتى أواخر القرن السابع عشر - أساتذة قرروا على أن يقسموا بأنهم لن يؤمنوا بالفكرة «الفيثاغورية» أي: الكوبرنيكية الخصيصة بحركات الأجرام السماوية. ولما أن اشتد أوار المعركة وتلظت نيرانها منع الأساتذة من أن يلقنوا تلاميذهم شيئا مما كان يكشف عنه التلسكوب. وكانت تصدر الأوامر بذلك من السلطات الكنيسة إلى الجامعات في «بينرا» و«إنسبروك» و«لوفان» و «دوي»
Douay . و«سلامانكا» وغيرها. وقد نرى أن رءوس تلك الجامعات قد مضوا فخورين أجيالا متعاقبة بأن جامعاتهم ظلت بريئة من تلك الفكرات المضادة للوحي، وأنها لم تلقن لطلابها. على أنه ليس في سماعك أن هذه الأقوال كانت من مفاخر العلماء في ذلك العهد من الغرابة، بقدر ما في سماعك أن بعض السلطات القائمة على العناية بأمر التعليم في أكبر الجامعات الحديثة تفخر بأنها لا تشجع طلبتها على قراءة كتاب «ميل»
Mill
و«سبنسر»
Spencer
و«داروين»
Darwin
ولم تقتصر الجهود على أن يحتفظ بالمعاهد الكاثوليكية الرومانية سليمة من أن تغزوها هذه التعاليم لا غير، بل إنك لتعجب ويحق لك أن تعجب؛ إذ تعرف أن الحقائق التي بثها «كوبرنيكوس» في مذهبه، لم يعن معهد بأن تظل بعيدة عنه بقدر ما عني معهد «ويتنبرج»
Wittenburg
جامعة «لوثر» و«ميلانكوتون».
في أواسط القرن السادس عشر عاش في «ويتنبرج» - مركز الدعاية البروتستانتية - فلكيان كلاهما حاز شهرة واسعة وصيتا بعيدا هما «ريتيكوس»
Rheticus
و«رينولد»
Reinhold
وكلاهما درس مذهب «كوبرنيكوس» واعتقد بأنه حق، ولكن لم يسمح لهما بأن يلقنا ذلك الحق الثابت لطلابهما. فلم يستطع «ريتيكوس» لا في محاضراته ولا في مؤلفاته التي نشرها أن يذيع المذهب الجديد ولما ضاق بذلك ذرعا ترك منصب الأستاذية في «ويتنبرج» حتى يتاح له أن يبحث حرا وراء الحقيقة، وأن يذيعها. ولم يك «رينولد» بأسعد من زميله حظا؛ فإنه فضلا عن اقتناعه وإيمانه بصحة المذهب الجديد كان مقسورا على أن يدافع عن القديم الفاسد، وأن يلقنه لطلبته، وكان مجبرا على أن لا يذكر الفكرات الكوبرنيكية إلا لينصر عليها فكرات بطليموس. على أنه لم يكن بذلك في مأمن من أن يناله الأذى؛ فقد عهد بتدريس علم الفلك في تلك الجامعة بدلا عنه إلى أستاذ غيره يدعى بيوسر
سنة 1571، وقد أعلن حينذاك أن في هذا الأستاذ الجديد من حسن التقدير ورجاحة العقل قدرا، حمله على أن يرفض نظرية كوبرنيكوس، معلنا في محاضراته أنها مناقضة لبديهة العقل وغير جديرة بأن تلقن في معاهد العلم.
ومن أجل أن تصبح تلك الفكرات «اللاعلمية» أكثر استقرارا في التعاليم التي كان يذيعها البروتستانت في ألمانيا، وضع الكاهن «هنسل»
Hensel
مختصرا يدرس في دور العلم عنوانه «الرجوع إلى النظام الموسوي في أصل الكون»، أظهر فيه أن مبادئ «كوبرنيكوس» الفلكية مناقضة لنصوص الكتاب المقدس.
ولا شبهة في أن هذه الحملة الكبيرة كان لها أثر بعيد. غير أن صداها ما زال يتجاوب في حقب الزمان حتى انتهى إلى البروتستانتية الحديثة حيث رن ثانية في طرد السلطات المشيخية
لدكتور وودرو
Woodrow
في كارولينا الجنوبية، وفي طرد السلطات الأسقفية الميثودية
Methodist episcopal authorities
للأستاذ «ونشل»
Winchell
في «تنيسي»
Tennessee
وفي طرد «السلطات العمادية»
Baptists
للأستاذ «توي»
Towy
في كنتكي
Kentuky
وفي طرد الأساتذة من جامعة بيروت تحت تأثير السلطات البروتستانتية الأميريكية. كل هذا لأن هؤلاء الأساتذة الكبار لم يلغوا عقولهم، وظلوا مستمسكين بما أوحت به تعاليم العلم الحديث. وعامة ذا وقع في بضع السنوات الأخيرة من القرن التاسع عشر.
غير أن آيات الحق لم يكن من المستطاع إخفاؤها، ولم يكن من الهين أن يهزأ بها أو تقتلع أصولها؛ فإن كثيرا من كبار أصحاب العقول كانوا قد قبلوها ومضوا بمبادئها قانعين، إلا أنه لم يكن في أركان الدنيا الأربعة من استطاع أن يتفوه بها على مسمع من المقام البابوي سوى رجل واحد. كان هذا المحارب الجديد، ذلك الخالد الفاني «جيوردانو برونو»
Bruno
وما زالت الأقدار تشيل به من أرض وتهبط به في أخرى حتى أعيى؛ فلم يرجع إلى الذين تعقبوه واضطهدوه إلا وبيده وثائق مهلكة من التنديد والطعن المقذع رماهم بها كآخر سهم في كنانته. لهذا حوصر في مدينة البندقية وقبض عليه وألقي في أعمق سجون محكمة التفتيش في روما ستة أعوام طوال ثم أحرق حيا، وذريت مع الريح بقاياه الترابية. ومع هذا فإن الحق لم يمت بل ظل حيا. ولم تمض عشرة أعوام على استشهاد «برونو» في سبيل العلم، حتى أثبت «غاليليو» بمنظاره ما في نظرية «كوبرنيكوس» كلها من حق ثابت.
على أنه في انتصار «غاليليو» تحقيق لنبوءة أخاذة بالألباب. فقد قيل لكوبرنيكوس قبل أن يموت بأعوام: «إذا كانت نظريتك صحيحة فإن الزهرة لا بد من أن ترينا من أوجهها ما يرينا القمر.» فأجابهم: «إنكم على حق، ولست أدري ماذا أقول، ولكن الله رحيم ولا بد من أن يوحي إليكم يوما بما يمكن به الإجابة على ما تسألون.» على أن الله الرحيم زود المتسائلين بالجواب سنة 1611 عندما أظهر منظار «غاليليو»، على ما كان فيه من نقص، أوجه الزهرة لأعين الناظرين. (3) الحملة ضد غاليليو
حول البطل الجديد غاليليو اجتمعت كل القوات وتناصرت معلنة عليه حربا ضروسا. فإن مستكشفاته قد خرجت بنظرية «كوبرنيكوس» من حيز الفروض والتخمينات إلى حيث وضعت أمام العالم كحقيقة عظمى؛ ولهذا ترى أن الحرب ضده كانت طويلة ممضة. فإن أنصار ما كان يدعى «بالتعليم السلمي» قد أعلنوا أن مستكشفاته لم تكن إلا خداعا، وأن تعاليمه تجديف وكفر بالله. ولقد عاضد الكنيسة أساتذة، جل ما كان فيهم الدعوى والغرور، هاجموا «غاليليو» بآراء آثمة دعوها «مبادئ العلم». أما المبشرون فاستندوا في حملتهم إلى نصوص الكتاب المقدس، كما هاجمه اللاهوتيون ورؤساء محكمة التفتيش ومجامع الكرادلة، وأخيرا بابوان على التعاقب، حتى ظن خطأ أن صوت «غاليليو» قد خفت، وأن تعاليمه قد زالت من عالم المعرفة الإنسانية.
ولسوف أسوق الكلام في هذه المعارك مطنبا؛ لأنني لم أجد - في كل ما بحثت من الكتب التي نشرت في اللغة الإنجليزية - تلخيصا جامعا لمفصلاتها، ولأن تاريخ هذه المعارك لم يشع عليه من نور التاريخ شعاع صادق إلا بعد أن أذيعت حقائق كثيرة، ونشرت وثائق ذات خطر عن محاكمة «غاليليو»، وكانت قد ظلت مطوية بين جدران الفاتيكان، حتى طبعت لأول مرة بعناية «ليبنوا»
L’ Epinoi
سنة 1867، ومن بعد بعناية «جلبر»
Gilber
و«برتي»
Berti
و«فافارو»
Favarou
وغيرهم.
قامت أول حملة ضد «غاليليو» سنة 1610 عندما أعلن أن منظاره استطاع أن يكشف للعين عن أقمار السيار «جوبيتر» أي المشترى. فإن أعداءه قد رأوا أن هذا الاستكشاف قد خرج بنظرية «كوبرنيكوس» عن حيز الفرض والتخمين إلى حيز الحقائق؛ فلم يمهلوه بل ناصبوه العداء سراعا، معلنين أن طريقته والنتائج التي تترتب عليها منافية للبديهة، كما أنها مدعاة للكفر والإلحاد. أما إزاء أسلوبه فإن الأساتذة الذين تربوا في أحضان «العلم السلمي» ومن ورائهم الكنيسة، قد أعلنوا أن الطريق القومي الذي رسمه الدين لكي يكون وسيلة للوصول إلى الحقائق المتعلقة بعلم الفلك، هو طريق التفكير اللاهوتي المدعم على أساس النصوص المنزلة في التوراة والإنجيل. وعلى هذه المقدمة بنوا نتائج عديدة منها أن «أرسطوطاليس» لم يكن يعرف شيئا من الوحي الجديد، وأن الإنجيل قد أظهر بكل الأساليب التطبيقية المعروفة أنه لا يمكن أن يوجد أكثر من سيارات سبع، وبرهانا على ذلك وجود تلك المناير السبع التي ذكرت في سفر رؤيا يوحنا اللاهوتي
The Apocalypse
7
ثم المناير السبع ذوات الشعب التي في هيكل سليمان، وكنائس آسيا السبع. أما مذهب «غاليليو» فيترتب عليه - بمقتضى القياس المنطقي - أن تتهدم الحقائق الكنيسية وتزول. لهذا ترى أن الأساقفة والقساوسة، قد حذروا قطعانهم أن يؤخذوا بآراء «غاليليو» الجديدة، كما أهاب كثير من أهل اليقين بمحكمة التفتيش أن تمد يدها إلى الأمر، وأن تتناول الهرطوق سريعا بعدلها، وبلا مرحمة.
وعبثا حاول «غاليليو» أن يبرهن على وجود الأقمار من حول المشترى بأن يريها للمشككين من خلال منظاره. فإنهم كانوا لا ينظرون فيه على اعتقاد أن النظر من خلاله كفر، وإذا نظروا ورأوا الأقمار بالفعل أنكروها على اعتبار أنها خيالات يصورها الشيطان فيجتنبونها، حتى لقد أعلن الأب «كلافياس»
Clavins
أنه لكي ترى أقمار المشترى، صنع الناس آلات تخلق الأقمار من حوله وهما. وعبثا حاول «غاليليو» مرة أخرى أن يحمي ذمار الحق الذي كشف له عنه بكتابات وجه بها إلى «كاستلي»
Castelli
البنديكتي، وإلى الغراندوقة «كريستين»
Christine
أظهر فيها أن تفسير الآيات المقدسة تفسرا حرفيا، لا يجب أن يطبق على حقائق العلم. فلم يفز من ذلك بجواب، اللهم إلا بفكرة أن مثل البراهين التي بثها في كتبه تلك إلا تزيده إلا مقتا واقتناعا بهرطقته وأنه أشد إفسادا من «لوثر» ومن «كالفن» معا.
إن الحرب ضد «النظرية الكوبرنيكية» بعد أن ظلت حتى ظهور «غاليليو» في همود، قد اشتعلت نيرانها وتلظت بعد ظهوره. ولقد أعلن رجال الكنيسة أن أعظم برهان على فسادها وقوف الشمس ليوشع. وزاد إلى ذلك اللاهوتيون فقالوا: «إن دعائم الأرض مثبتة تثبيتا بحيث إنها لن تتحرك أو تتحول عن مكانها. وإن الشمس تجري كل يوم من أحد طرفي السماء إلى الطرف الآخر.»
غير أنه على الرغم من ذلك كان منظار «غاليليو» يجوب أنحاء السماء، ولم يلبث غير قليل حتى أوحى للناس بآية أخرى، تلك هي جبال القمر ووديانه، فكان من ذلك حملة أخرى وحرب جديدة.
هنالك أعلن رءوس الكنيسة أن في القول بجبال القمر ووديانه وبأنه يستمد نوره من انعكاس ضوء الشمس على سطحه، مناقضة صريحة لما جاء في سفر التكوين من أن القمر عبارة عن ضوء عظيم، ومما زاد الطين بلة أن أحد الفنانين قد خط على وجه القمر في صورة دينية رسمها، صورة جبال ووديانه، بعد أن وضعه في مكانه العادي، تحت قدمي العذراء. ولم يكن لذلك من نتيجة سوى أن يذاع أن ذلك الفعل انتهاك لحرمة شيء مقدس، وأن الفنان هرطوق كافر بالله.
ولم يقف الأمر عند هذا الحد فإن الحرب اشتد أوارها وحمي وطيسها، عندما كشف المنظار عن بقع الشمس - أو كلفها - وعندما استنتج من حركة تلك البقع وتنقلها فوق سطحها أن الشمس تدور حول محورها، فإن المونسنيور «إلسي»
Elci
من جامعة «بيزا»
قد حظر على «كاستلي»
Castelli
الفلكي أن يذكر بقع الشمس لتلاميذه. وكذلك الأب «بوساوس»
Busaeus
في جامعة إنسبروك
Inspruck
فإنه منع الفلكي «شينر»
Scheiner
عن أن يذكر بقع الشمس وإن كان قد رآها وفرض لها تعليلا «سلميا» على رأي الكنيسة، وأن لا يعلن الاستكشاف بين جدران الجامعة أما في كلية «دوي»
Douay
وجامعة «لوفان»
Luvain
فإن هذا الاستكشاف قد لعن وجرح، فأصبح لعنه قاعدة اتبعتها كل الجامعات في أوروبا ومثالا حذت عليه الكليات. على أن الأمر لم يقف عند هذا الحد في إسبانيا، فإن هذه المستكشفات وأمثالها قد بلغت هنالك من المقت حدا كبيرا، حتى لقد حظر التبشير بها حظرا شديدا في جامعة «سلامانكا» أشهر جامعات إسبانيا وأبعدها صيتا، ولم يرفع ذلك النير العقلي إلا منذ عهد قريب.
على مثال هذا تكون النتائج دائما، كلما عهد بالقوامة على ما تخرج عقول الألباء من ثمار إلى أولئك الذين لا يرون في الدنيا لشيء من خطر بقدر ما يرون في خلاص الأرواح، دون خلاص العقول. وما من شيء هو أكثر من هذا تلاؤما مع تلك الفكرة التي وضعها حديثا فئات مختلف من رجال الكنيسة، كاثوليك وبروتستانت، والتي يزعمون فيها أن من حق الكنيسة أن تسيطر على نشر الحقائق العلمية وأن تدبر شئون المعاهد العلمية والجامعات.
إن رؤية الكلف الشمسية لم يقتصر إعلانها على «غاليليو» في إيطاليا، بل أعلن رؤيتها الأستاذ «فابرشياس»
Fabricius
في هولاندا. وهنالك عمد الأب شينر
Scheiner
إلى التأويل محاولا التوفيق بين اللاهوت والعلم، وبشر بنظرية علمية زائفة لم تنتج إلا أمر الثمر، ولم تنل إلا السخرية والازدراء.
على أن الحرب لم تنم عاصفتها، بل إن نزعات الفكر زادتها احتداما؛ فإن الأب «كاكاشيني»
Caccini
قد عمد في إحدى خطبه إلى نصوص من الكتاب المقدس مستندا إلى النص القائل: «أيها الرجال الجليليون ما بالكم واقفين تنظرون إلى السماء؟!» لم يلبث أن يذيعها حتى شحذت المدى مسددة إلى قلب الفلكي الكبير. فإن «كاكيني» لم يكد ينتهي من خطابه حتى خلص بنتيجة محصلها «أن علم الهندسة رجس من عمل الشيطان.» وأن الرياضيين يجب أن يبعدوا نفيا، على اعتبار أنهم النبع الذي يفيض بصور الهرطقة. ولهذا ترى أن السلطات الكنسية قد خلعت على «كاكشيني» حلل الشرف بأن رفعت منزلته وحبته برضوانها.
أما الأب «لوريني»
Lorini
فلم يبرهن فقط على أن تعاليم «غاليليو» مدعاة للهرطقة، بل أثبت أن فيها إنكارا لوجود الله، وحرض محكمة التفتيش على التدخل في الأمر. وكذلك الأسقف «فيزول»
Fiesole
فإنه كان شديد العداء لنظام «كوبرنيكوس» فسب «غاليليو» علنا، وشكا أمره إلى الغراندوق. وعلى هذا خيل إلى رئيس أساقفة «بيزا» أن أقوم سبيل يتبع هو أن يحوط «غاليليو» سرا وأن يرسله مقبوضا عليه إلى محكمة التفتيش في روما. وعلى الضد منه كان رئيس أساقفة «فلورنسا» فإنه اكتفى بأن يعلن أن المذهب الجديد مناقض للكتاب المقدس. أما البابا «بولص الخامس» ففضلا عما كان يتظاهر به من الود لغاليليو، داعيا إياه أكبر فلكيي الأرض، مهيبا به أن يزور روما، فإنه أوحى سرا إلى رئيس أساقفة «بيزا» أن يستجمع الأدلة التي تؤدي إلى إدانته.
في هذه الآونة ظهر على مسرح الحوادث الكردينال «بيلارمين»
Bellarmin
أكبر مدافع عن الدين، وهو رجل من أعظم من أقلت الأرض من اللاهوتيين. كان معتدلا مخلص السريرة، واسع العلم ولكنه كان شديد الاقتناع بوجوب أن يوافق العلم نصوص الكتاب المقدس. أما الأسلحة التي تزود بها رجال من طابع «بيلارمين» وطينته، فأسلحة لاهوتية صرفة. وقفوا أمام العالم مظهرين ما يترتب على النتائج السوأى التي تؤثر في اللاهوت النصراني، إذا ما ثبت بالبرهان أن أجرام السماوات إنما تدور حول الشمس، ولا تدور من حول الأرض. وكان أعظم ما استندوا عليه من المعتقدات الدينية قولهم بأن ما يدعي «غاليليو» من صحة استكشافه يهدم كل ما تسند إليه النصرانية من فكرة الخلاص. وقرر الأب «ليكارز»
Lecarze
أن المذهب يغشى معتقد تجسد الأقنوم الثاني
8
بشكوك ممضة. وقال آخرون: «إنه يقلب أساس اللاهوت رأسا على عقب، فإذا كانت الأرض سيارا، وليست أكثر من سيارة بين سيارات عديدة تجوب الفضاء؛ إذن فلا يتفق أن يكون قد سخرت لها كل تلك الأشياء الكونية، مما يعتبر من دعامات المعتقد النصراني. وإذا كان هناك سيارات أخرى وكانت حكمة الله تقتضي أن لا يخلق من شيء عبثا؛ ترتب على هذا أن تكون تلك السيارات مأهولة. وهنا نتساءل كيف يمكن أن يكون أهلها قد تنسلوا عن آدم؟ وكيف يمكن أن يرجعوا بأصلهم الذين هم مدينون بوجودهم له إلى سفينة نوح؟ وكيف نعتقد بأن المسيح منقذ النوع الإنساني قد كفر عنهم؟» ولم يكن هذا الأسلوب قاصرا على لاهوتيي الكنيسة الرومانية، فإن «ميلانكوتون» وهو بروتستانتي، قد اتبعه في حملته على «كوبرنيكوس» ومدرسته.
وإلى هذه الكتلة اللاهوتية العظيمة تضاف قوة أخرى، ظلت ترسل على المذهب الجديد نارا تلظيها المتون اللاهوتية، والنصوص المنزلة.
غير أن نيران الحرب ما زالت تزداد تسعرا واحتداما، بعد أن اتخذ فيها من الأسلحة بعض ضروب تستحق أن نخصها بالعناية. تلك أسلحة من الهين أن نبحثها وأن نحيط بها علما؛ لأنك تراها أينما وليت وجهك في ميدان حرب صورع فيه العلم. ولكنها في ميداننا هذا قد استخدمت بطريقة جعلتها أرهف حدا وأمضى نصلا، منها في كل ميدان آخر. وما هذا السلاح المحدود الغراب سوى كلمتين: أولاهما كلمة «ملحد»، والأخرى كلمة «كافر بالله». كلمتان طالما وجهتا لكل إنسان حاول مرة في تاريخ الدنيا أن ينفع بني آدم من أية طريق وبأية وسيلة. أما الجدول الذي يحوي أسماء هؤلاء الكفرة الملحدين، فتنطوي دفتاه على أسماء أعظم من سارت به قدم من رجال العلم والمنقطعين للدرس والمستكشفين والعاملين على هناء الإنسانية. سدد ذلك السلاح القوي إلى صدور أمثال إسحق نيوتن وباسكال ولوك وملتون، وحتى إلى صدر فينيلون وهووارد.
لم يبق من البراهين التي أقامها الباحثون على وجود الله من برهان نقل في منازل البقاء ليصل إلى رجال الأعصر الحديثة، سوى ما أقام «ديكارت»
Dekeartes
مستمكنا من نفوسهم وعقولهم. ومع كل هذا فقد حاول لاهوتيو البروتستانت في هولاندا أن يوقعوه تحت آلات العذاب، وأن يلقموه الموت لقمة سائغة بتهمة أنه كافر بالله. وعلى هذا السنن سار لاهوتيو الكنيسة الرومانية الكاثوليكية في فرنسا، فإنهم خيبوا له كل أمل في الحياة ، ولم يغفلوا عن أن يحرموه من كل ما كان يستحق من تشريف وتمجيد بعد موته.
لم تعد هذه «النعوت» لتتخذ سلاحا في عصر التمدين الحديث.
9
فإنها سهام مسممة بل كرات متفجرة طالما أشعلت في الجماهير نار الكراهية والحقد، وكم انتشر حولها من دخان أعاق العيون عن أن تنظر إلى حقائق الأشياء كما هي. بل كم من مثل في التاريخ يدلنا على أنها أحرقت نفس الأيدي التي أشعلتها. تلك سهام تقطع نياط الأمهات المشفقات، وتختطف أرواح الأبناء وهم في حجور الآباء، وقد تصيب صميم القلب الخافت والجسم جثة هامدة؛ لأنها لا تترك من ورائها سوى جروح مسمومة في قلوب أولئك الذين هم كانوا لهم أكثر حبا وعليهم أشد إشفاقا؛ حذر أن يفوتهم الخلاص الآخرون، أو أن ينصب عليهم الغضب القدسي، ولا مرية في أن هذا السلاح - خلال ذلك الزمان - ولو أنه كثيرا ما بلغ من الحدة مبلغا أقض مضاجع الآباء المشفقين وأفزع الأمهات المشفقات، كان فيه بعض الضعف والانحلال؛ لأنه كثيرا ما كان يصيب المعتدين بضربات أقسى من تلك التي كانت تصيب المعتدى عليهم على أن الحال لم تكن على هذه الصورة في أيام «غاليليو»، فإن هذا السلاح كان في عهده على أشد ما ظهر حدة وتسميما للقلوب والأفكار.
على أن رئيس أساقفة «بيزا» لم يستنكف أن يتخذ من عدد الحرب ما هو أحط من ذلك وأدنى، فإن هذا الرجل - الذي لم تكسب كاتدرائيته من الشهرة ما سوف يبقى ذكرها إلى آخر الدهور، إلا باستكشاف «غاليليو» لسنة من سنن الطبيعة الكبرى وصل إليها من مرآة قنديلها يهتز إلى الجانبين أمام مذبحها - لم يكن من أولئك الأساقفة الذين جبلوا من طيبة «بوروميو»
Borromeo
أو «فينيلون»
Fenelon
أو «شفيروس»
Chverus
فإن من سوء حظ الكنيسة، بل ومن سوء حظ الإنسانية كلها أن يكون رئيس أساقفة «بيزا» في ذلك العصر رجلا متعصبا دساسا، دبر بإحكام طريقة الإحاطة بالفلكي الكبير والقبض عليه.
كتب «غاليليو» بعد أن حرمت الكنيسة مستكشفاته، إلى صديقه «كاستللي» وإلى الغراندوقة «كريستين» كتابين أراد أن يظهر فيهما أن ما وصل إليه من الحقائق الكونية من المستطاع جعلها توافق ظاهر التنزيل. ولقد حاول رئيس أساقفة «بيزا» بإشارة من محكمة التفتيش في روما أنه يحصل على الكتابين، وأن يظهرهما عند الحاجة؛ برهانا على أن غاليليو قد نفث سموم الهرطقة في تضاعيف اللاهوت، وفي تضاعيف المتون المنزلة، وبذلك يقع بين براثن محكمة التفتيش لهذا مت رئيس الأساقفة إلى «كاستللي» أن يريه الخطاب الأصلي المكتوب بخط «غاليليو» نفسه ولكن «كاستللي» رفض. وهنا تظاهر كبير الأساقفة «لكاستللي» إفكا وزورا بما يحمل في نفسه من كبير الاحترام لنبوغ «غاليليو» وأنه مشوق لأن يعرف أكثر مما عرف من مستكشافته، على الضد مما كان يكتب به إلى رئاسة محكمة التفتيش من الطعن والتحرض ضد «غاليليو». تلك حقيقة كشفتها البحوث الحديثة منذ عهد قريب. ولما أن أخفق في حيلته هذه خلع قناع الرياء، وأعلن الحرب صراحا.
إن رواية الوقعة التي دارت من حول «غاليليو» جانب لتحطيمه وجانب لنصرته، لشيء يلذ سماعه، لو لم يكن فيها من الأمثال أسوأها ومن الرذائل أشنعها، كانت دسائس من جانب يقوم من الجانب الآخر ما يفسدها، وكانت مؤامرات في ناحية يدبر في ناحية أخرى ما يحبطها، وكان كذب وكان تجسس، ومن وراء كل هذه الدنايات جماهير غفيرة من قساوسة وأساقفة ورؤساء أساقفة وكرادلة، وبابوان هما بولص الخامس
وأربان الثامن
Urpan VIII
تغلي مراجل صدورهم، متجادلين متشاحنين، مولولين منادين بالويل والثبور، وعظائم الأمور.
غير أن القوات المتناحرة كانت شديدة المرة. ففي سنة 1615 دعي «غاليليو» ليقف أمام محكمة التفتيش في روما، وبذلك تهيأت تلك الحفرة العميقة التي طالما عمل العاملون على حفرها تحت قدميه. وعهد إلى فئات منوعة من لاهوتيي محكمة التفتيش أن يبحثوا قضيتين استمدتا مما كتب «غاليليو» في كلف الشمس، فظلوا يبحثون شهرا من الزمان، ثم أصدروا قرارهم فقالوا بأن «القضية الأولى» - قضية أن الشمس ثابتة في مركز النظام الكوني وأنها لا تدور حول الأرض - تجديف مضاد للبديهة ومناقض لقضايا اللاهوت، وأنها هرطقة لمعارضتها تصريحات لنصوص الكتاب المقدس. وأما القضية الثانية - قضية أن الأرض ليست في مركز النظام الكوني، ولكنها تدور من حول الشمس - فأمر مناقض للبديهة منقوض في الفلسفة، وفيه من وجهة النظر اللاهوتي منافاة للمعتقد الصحيح.
هنا تدخل البابا بولص الخامس بنفسه في الأمر مرة ثانية، وأمر أن يقف «غاليليو» أمام محكمة التفتيش ليجيب على التهم الموجهة إليه، فوقف أعظم عالم أقلته الأرض في زمانه، أمام أعظم لاهوتي أظلته السماء في القرن السابع عشر. وقف «غاليليو» أمام «بيلارمين». وشرح «بيلارمين» لغاليليو خطأ رأيه وأمره أن يقلع عنه. أما «ده لودا»
De louda
فقد تزود من البابا بخطاب حمله إلى محكمة التفتيش يأمر فيه بأن يلقى الفلكي العظيم في أعماق سجون التفتيش، ما لم يقلع عن رأيه ويعلن عن فساده. وهنا أمر «بيلارمين» «غاليليو» أن يذعن «باسم قداسة البابا وباسم كل المجامع التابعة للبلاط المقدس، مقلعا عن الاعتقاد بالرأي القائل بأن الشمس مركز النظام الكوني وأنها ثابتة، وأن الأرض تتحرك، وأن لا يلقن هذا الرأي لأحد أو يدافع عنه أو ينشره بأية وسيلة شفويا أو تحريرا.»
فاستسلم «غاليليو» لقضاء القوة، وأذعن لهذه الإرادة، وتعهد بأن يظل مطيعا لها، أمينا عليها وفيا بعهدها.
حدث هذا في سنة 1616، وبعد ذلك بأسبوعين تحرك «مجمع الفهرست» كما تثبت ذلك الخطابات والمستندات التي ظهرت حديثا - تحت تأثير البابا بولص الخامس - مصدرا بلاغا جاء فيه «أن المذهب القائل بحركة الأرض المزدوجة حول نفسها ومن حول الشمس فاسد، فضلا عن أنه مناقض تماما لنصوص الكتاب المقدس.» وأن هذه الفكرة محظور تلقينها للناس أو الدفاع عنها. وفي هذا البلاغ نفسه حرمت ولعنت كل كتابات «كوبرنيكوس» «وكل الكتابات التي تثبت حركة الأرض.» وكذلك حرم على الناس قراءة كتاب «كوبرنيكوس» القيم، حتى يحور بما يلائم ما ترى محكمة التفتيش من رأي في نظام الكون، وكذلك كتابات «غاليليو» و«كبلر» قد شملها البلاغ بتحريمه كل الكتب التي تثبت دوران الأرض، وإن لم تذكر بإعلامها.
ولقد أثبتت هذه النواهي في الفهرست.
10
أما المقام البابوي نفسه، مقام القاضي المعصوم من الخطأ المبرأ عن الزلل، بل المعلم الذي يوحي لأهل الدنيا بما لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فوقع على صدر الفهرست بالخاتم البابوي المعروف، مباركا تلك النصائح بتصديقه القدسي عليها وإجازته لها.
وظل «غاليليو» بعد صدور هذا الحكم زمانا في روما. ومن الظاهر أنه لم يمكث بها إلا ليجد لنفسه مخرجا من المصاعب التي أحاطت به، ولكنه لم يلبث غير قليل حتى تحرجت به الحال لما كان يعانيه من اضطهاد السلطات الكنسية له فعاد إلى «فلورنسا» إذ دعي إليها، وظل قابعا في صومعته بالقرب من المدينة لا يحرك ساكنا، مكبا على علمه كل إكباب، من غير أنه ينشر شيئا، اللهم إلا خطابات كان يبعث بها سرا بين حين وآخر إلى أصدقائه في أطراف أوروبا.
غير أنه لم يلبث على ذلك غير قليل حتى تبدلت الحال. فإن الكردينال «بربريني»
Berberini - وكان يتظاهر بحرية الرأي والإخلاص لغاليليو - أصبح بابا متخذا لنفسه اسم «أربان الثامن» فتجددت الآمال في صدر «غاليليو»، وأخذ يعلن أنه لا يزال حريصا على معتقده في صحة مذهب «كوبرنيكوس». وهناك تجددت الحوادث القديمة؛ إذ طلب إلى «غاليليو» أن يعود إلى روما ثانية، واجتهد البابا «أربان الثامن» أن يخدعه عن مذهبه، أخذا على نفسه مئونة التعب لكي يظهر للفلكي الكبير خطأ ما يذهب إليه بالدليل والبرهان. ولكن كثيرا من المعارضين لم يجدوا في أنفسهم من سعة الصدر ما وجد البابا؛ إذ ظهرت كتب عديدة تهاجم هذا المذهب. كتب لم يراع واضعوها أبسط ما تتطلب الرجولة من صفات؛ لأنهم - وهم ينشرون مؤلفاتهم - كانوا يعلمون علم اليقين بأن «غاليليو» كان ممنوعا بالقوة من أن يدافع عن نفسه. ومن أجل أن تقيم الكنيسة برهانا جديدا على ضعفها وعجزها عن أن تمضي قوامة على بث التعاليم العليا، قطعت عن «غاليليو» راتبه كأستاذ في جامعة «بيزا»؛ ومن ثم كثر اللغط من حوله والجدال. بل بدأت المعاول تحفر من تحت قدميه هوة جديدة. فكما أن رئيس أساقفة «بيزا» قد حاول من قبل أن يخدعه بكلمات حلوة ليستجمع ضده دلائل يسلمه بها إلى محكمة التفتيش، كذلك فعل من بعد الأب «غراسي»
Grassi
وبعد أن أخفق في عدة محاولات أراد بها أن يخرجه من الصمت إلى الكلام بالتمليق طورا وبالوعد طورا آخر، فاجأه بأن أعلن أن آراءه تسوق إلى إنكار الوجود الحقيقي لسر الأوخارستيا؛ أي تناول القربان المقدس.
في الهجوم الأخير على «غاليليو» تناصرت قوات عظمى لتصب عليه نارا حامية. تلك نار قد ترى في كل الميادين التي يكون فيها العلم طرف قتال. وما هي في الحقيقة إلا طريقة الاتهام العام. ففي سنة 1631 قام الأب ملشوار إنخوفر
melchoir Enchoer
المنتمي إلى اليسوعيين، واستجمع من حوله كل ما استطاع من قوة لينحي بها على كاهل «غاليليو» معلنا أن القول بحركة الأرض أسف كل ضروب الهرطقة وأكبرها إثما، وأشدها في الدين قدحا وأقذعها قذفا، وإن ثبات الأرض معتقد مقدس ثلاثا، وإن البرهنة على فناء النفس الإنسانية وعدم خلودها وإنكار وجود الله وامتناع الجسد، أشياء يمكن أن يتسامح فيها قبل أن يتسامح في البرهنة على أن الأرض تتحرك.
أما في الجانب الآخر من أوروبا فقد ارتفع صوت تجاوبت من حوله أصداء قوية، إذ أخرج اللاهوتي «فروماندرس»
Fromandus
من بين جدران كاتدرائية «أنفرس» مقالته التي سماها «ضد أرسطارخس»
anti-Aristarchus
ونشرها في الناس. وبدأ أول صفحة منها بلعنة «كوبرنيكوس» مثبتا أن الوحي العلمي الجديد لم يكن سوى توسع في شرح نظرية وضعها من قبل فلكي من الوثنيين. وأعلن «أن التنزيل يقاوم كوبرنيكوس وأنصاره.» ومن أجل أن يثبت أن الشمس تدور من حول الأرض رجع إلى المزامير التي تتكلم في الشمس وفي إشرافها «كما تخرج العروس من خدرها.» ولكي يبرهن على ثبات الأرض رجع إلى سفر الجامعة
Ecclesiastes
مستندا إلى نص يقول بأن الأرض ثابتة إلى ما لا نهاية
11
ومن أجل أن يظهر فساد نظرية «كوبرنيكوس» من طريق المشاهدة تراه يقول بأن هذه النظرية لو كانت صحيحة فلا بد من أن يستمر الهواء هابا من جهة الشرق على الدوام، وأن البنايات المشيدة فوق الأرض بل الأرض نفسها، كان ينبغي أن تطير هائمة في الفضاء بقوة اندفاع عظيمة تستلزم أن يتهيأ الناس بمخالب كمخالب القطط، حتى يستطيعوا أن يبقوا فوق ظهرها بأن يثبتوا مخالبهم فيما تصل إليه من الأجسام. ولم يلبث عند هذا، بل عمد إلى «أرسطوطاليس» وإلى القديس «توماس أكونياس» مستعينا باللاهوت والعلم معا؛ لكي يبرهن على أن الأرض يجب أن تثبت في المركز، وأن الشمس يجب أن تدور من حولها.
على أن مقاومة نظرية «كوبرنيكوس» لم تقتصر على المتعصبين من أهل الدين، فإن رجالا عظام القدر كبار الخطو مثل «جان بودن»
Jean Bodin
في فرنسا و سير «توماس برون»
sir Toomas Browne
في إنجلترا قد أعلن كلاهما أن مذهب «كوبرنيكوس» مناف لنصوص التوارة والإنجيل. (4) انتصار الكنيسة على غاليليو
بينما كانت أخبار الانتصار على «غاليليو» وعلى الحق الثابت كشف له عنه، تنهال من كل ناحية وتتجاوب بأصدائها نواحي أوروبا، كان الفلكي الكبير مكبا على كتابة مقالة قصيرة، وضعها في صورة محاورة أورد فيها كل البراهين التي تؤيد نظريتي «كوبرنيكوس» و«بطليموس» وكذلك البراهين التي تنقضهما، معلنا خضوعه لكل ما يمكن أن تفرض محاكم الكنيسة من الأوامر، إذا سمح له بطبعها ونشرها. وفي النهاية وبعد مناقشات طويلة استغرقت ثمانية أعوام، رضي رؤساء الدين أن تطبع تلك المقالة، وعلق طبعها على شرط مزر، هو أن يكتب الأب «ريشيارديني»
Ricciardini
رئيس البلاط المقدس، مقدمة تتفق وما يرى في الأمر من رأي، وأن يوقعها «غاليليو»، وفيها استعرضت نظرية «كوبرنيكوس» على زعم أنها أضغاث أحلام ونزعات خيال، وليست بشيء جدي ينافي مذهب «بطليموس» الذي حققت محاكم التفتيش صحته بعناية البابا «بولص الخامس» سنة 1616.
ظهرت رسالة «غاليليو» الجديدة التي سماها «المحاورة»
Il Dialogo
سنة 1632 وصادفت نجاحا باهرا؛ لأنها هيأت مؤيدي مذهب «كوبرنيكوس» بأسلحة جديدة مرهفة النصال، محدودة الغراب، أما المقدمة فلم يبق في أوروبا موضع قدم لم تحدجها فيه العيون بنظرات السخرية، أو ترسل إليها الثغور فيه بسمات الازدراء، على الرغم مما كان فيها من روح الورع والتقوى، وكان هذا سببا في أن يثير انفعال أعدائه وهنالك هب اليسوعيون والدمنيكيون، بل والأغلبية العظمى من رجال الدين من مراقدهم ، وعادوا إلى النار القديمة ينفخون في رمادها، فيوقظون لهبها، ويسعرون ضرامها؛ لتبلغ ألسنتها إلى حد لم تبلغ إليه من قبل. وفي مركز حلقتهم وقف البابا «أربان الثامن» ليشرف بهامة الجبار على ما يترامى حواليه من لهيب الفتنة الذي اضطرم، بعد أن كاد يكون رمادا، ليزكيه بما يبعث به قلبه من وقود الحقد والكراهية. وهذه القوات العظيمة ناءت بجماعها على كاهل «غاليليو».
مست هذه النار «غاليليو» في موضعين؛ الأول: مقامه العالمي وعزة نفسه؛ جزاء له على أن يضع براهين البابا التي فاه بها لدى محاولة إقناعه بفساد مذهبه في فم شخص من أشخاص المحاورة، وجعله البراهين التي تنقضها في فم شخص غيره. والثاني: شعوره الديني. ولقد كان ما مسه من الضر في الثانية أبلغ مما مسه في الأولى ولطالما كرر ذو القداسة المعصوم لكل من وقعت عليه عينه من الناس ما في الكتاب المقدس من نصوص التنزيل التي تثبت إثباتا قاطعا وبلا شبهة من تأويل، أن الشمس والسيارات إنما يدرن من حول الأرض، وأن إنكار ذلك إنكار للوحي نفسه ولا شبهة في أنه لو صح أن يقال بأن رجلا من رجال الدين كان في ذلك العصر أبعد من غيره عن التأثر بروح الحق واليقين، فإن «أربان الثامن» كان أبعد الناس جميعا عن تلك الروح تلقاء هذا الأمر كله.
من حول «أربان الثامن» تراكت أعظم كتلة كونها سوء الحظ وأربتها التعاسة التي أحاطت بالكنيسة القديمة في كل عصورها، فلو أنه كان واسع العقل متسامحا مثل «بنيدكت الخامس عشر
Benediekt XV » أو لو أنه فقه كيف تكون الاستقامة والاعتدال مثل «بيوس السابع
»، أو لو أنه حاز شيئا من صفات العلم والاستعماق في الدرس مثل «ليو الثالث عشر
Leo XIII »، لما ناءت الكنيسة تحت أحمال تلك الفضائح التي حوطت قضية «غاليليو»، ولأصبح في مستطاع المدافعين عنها أن يفخروا أنها فتحت - بلا خوف ولا رهبة - باب عصر جديد ينعم بخيراته أبناء آدم، بدل أن يلجئوا إلى تلك الضروب المختلفة من المواربة والخداع؛ ليلقوا عن أكتافها مسئولية تلك الأضرار العظمى التي أصابت الإنسانية.
ولكن الأمر لم يكن كذلك فإن «أربان الثامن» لم يكن بابا لا غير بل كان أميرا من بيت «بربريني
Berberini » فأخذته العزة بالإثم ومضى مغضبا، كيف أن براهينه تناقش بين الناس علنا وبلا حجاب!
أثمرت أول الدسائس التي دبرها أعداء «غاليليو» ثمرة مباشرة الأثر إذ حرم بيع كتابه، ولكنهم سرعان ما رأوا هذه الوسيلة غير مجدية نفعا؛ لأن الطبعة الأولى من الكتاب كانت قد انتشرت في كل بقاع أوروبا؛ وهنا تضاعف سخط «أربان الثامن» وزاد غيظه، ولم يكن لديه من سبيل يتبعه إلا أن يضع «غاليليو» ومؤلفه بين يدي محكمة التفتيش، وعبثا حاول «كاستللي» البنيديكتي أن يقنع غيره بأن «غاليليو» يحترم الكنيسة، ولا يهزأ بمبادئها، بل سدى ضاعت كل جهوده في سبيل أن يثبت لرجال الكنيسة «أنه ما من شيء يمكن عمله الآن من شأنه أن يمنع الأرض عن الدوران.» ولكنه طرد مغضوبا عليه مقصيا به عن الكنيسة، وقسر «غاليليو» على أن يقف أمام تلك المحكمة المهيبة المخيفة واحدا فردا بلا مدافع أو نصير، وهنالك عذب مرارا عديدة بأمر البابا «أربان الثامن» وهذه حقيقة طالما خفي على العالم أمرها، ولكنها عرفت الآن وفضح سرها. وكذلك اتضح من المستندات التي حفظت حتى اليوم عن محاكمته، أنه حمل على أن ينكر مشايعته لمذهب «كوبرنيكوس» تحت تأثير التهديد والوعيد، وأنه سجن بأمر البابا بيد أن رءوس محكمة التفتيش يرجعون في كل هذا إلى السلطة البابوية وكل تلك الجهود العظيمة التي بذلت في سبيل أن تخفي الكنيسة الإجراءات قد ذهبت سدى وكل العالم اليوم إنما يعلم علم اليقين بأن «غاليليو» قد أهينت كرامته، وسجن وهدد تهديدا هو العذاب الجسماني بعينه، وأنه قسر أخيرا على أن يعلن جاثيا على ركبتيه، الاعتراف الآتي:
أنا غاليليو، وفي السبعين من عمري، سجين جاث على ركبتي، وبحضور فخامتك، وأمامي الكتاب المقدس الذي ألمسه الآن بيدي، أعلن أني لا أشايع - بل ألعن وأحتقر - خطأ القول وهرطقة الاعتقاد بأن الأرض تدور.
12
إنه ولا شك قد غلب على أمره؛ لأنه قسر على أن يظهر أمام كل الأجيال القادمة بمظهر الحانث في قسمه بعد مغلظ الأيمان. ومن أجل أن يتم انتصارهم عليه، وأن يثلموا ما بقي له من شرف النفس، اضطر على رغم منه أن يقسم بأن يبلغ إلى محكمة التفتيش أمر كل رجل من رجال العلم يمكن أن يعرف عنه أنه يؤيد هرطقة القول بدوران الأرض.
ولقد أثار قسم «غاليليو» هذا عجب الكثير من الناس، حتى إن ذلك كان سببا في أن ينكر عليه بعض أبناء عصره لقب «الشهيد»، غير أن هؤلاء الرامين عن قوس الشعور بما يقولون، لم يقدروا ظروف الرجل قدرها. فقد كان شيخا كبيرا عمر إلى السبعين من السنين المثقلة بالهموم والأحزان، وقد حطمته آمال الدنيا ومخاوفها، وهدمته متاعبها وواجباتها، وكم سعى متلهفا من «فلورنسا» إلى «روما» مكبا على وجهه، ونصب عينيه تهديدات البابا بأنه إذا تأخر عن القدوم «أخذ في الإغلال» وكان فوق ذلك مريض الجسم والعقل، سليم إلى أعدائه بيد الغراندوقة التي كان من الواجب أن تحميه وأن تحيطه بعنايتها، ولم يكد يبلغ روما حتى احتوته غرف التعذيب وانصبت عليه الآلام ألوانا، ولقد كان يعرف جيدا ما هي محكمة التفتيش وكان يلوح له شبح «جيوردانو برونو» بين اللهيب ماثلا أمامه كأنما ذلك كان بالأمس الفارط، وفي نفس تلك المدنية ومن أجل «هرطقة» العلم والفلسفة. وكان يتذكر أنه من قبل ثمانية أعوام أحيط برئيس أساقفة «سبالاترو»
Spalatro «ده دومينيس»
De Dominis
وسلم إلى محكة التفتيش متهما «بهرطقة العلم» وبقي بين براثنها حتى مات في جوف السجن، وأنه أحرق بعد موته ما كتب على مرأى من المؤمنين.
ولقد استمر اضطهاد «غاليليو» كل أيام حياته. كلا، بل بعد مماته؛ لقد بقي في المنفى بعيدا عن أسرته، بعيدا عن أصدقائه، مقصيا به عن صناعته النبيلة، وقسر على أن يظل خاضعا لعهده بأن لا يتكلم في نظريته. ولما أن توسل إلى أعدائه وهو بعد يعاني أشد آلام المرض وأعظم تباريح السقام، مقرونة بأقصى الآلام النفسية التي سببتها الكوارث التي نزلت بأسرته، طالبا أن يمنح من الحرية قدرا ضئيلا، كان التهديد بإلقائه في غيابات السجن على ملتمسه الصغير جوابا. ولما أن قررت لجنة خاصة عينتها السلطات الدينية بأنه أصبح أعمى لا يبصر، وأنه ذهب ضحية المرض والحزن، منح بعض الحرية ولكن بحدود جعلت تلك الحرية استعبادا. ولقد أجبر على أن يواجه هجمات أعدائه على نفسه وعلى نظريته، هجمات الازدراء والسخرية والتضليل، من غير أن ينبس ببنت شفة أو يحرك بالرد لسانا، ورأى الذين محضوه الصداقة والحب والاحترام، ينزل بهم العقارب الصارم والظلم الفادح، فنفي «شيامبولي»
Ciampoli «كاستللي» ورأى «ريشياردي» رئيس البلاط المقدس و سكرتير البابا، يبعدهما «أربان الثامن» عن وظيفتيهما محقرين. ورأى عضو محكمة التفتيش في «فلورنسا» يوبخ أقذع توبيخ؛ لأنه أمر بطبع كتابه. وعاش ليرى الحقائق التي استكشفها تكتسح من كل الكليات الكنسية ومن كل جامعات أوروبا، بل ليرى عضو محكمة التفتيش يأمر بأن يستبدل كل نعت طيب يردد به ذكره في أي كتاب يراد طبعه، بأخبث النعوت وأحط الذكريات.
ولقد أخذ رجال الكنيسة يعدون العدة بعد ذلك ليتموا تحطيم نظرية «كوبرنيكوس»، وأن يهدموا البراهين التي أقامها «غاليليو» على صحتها ففي 13 يونية سنة 1633 أمر المجمع المقدس، بعد موافقة البابا الذي كان قائما إذ ذاك، أن يرسل الحكم الصادر ضد «غاليليو»، وكذلك إقراره إلى كل «قاصد رسولي»
Nuncio
في أوروبا بأجمعها، وإلى كل رؤساء الأساقفة والأساقفة وأعضاء محاكم التفتيش في إيطاليا. وفي هذا المستند التاريخي صدرت الأوامر مشددة بأن يعلن الحكم والقسم معا «إلى كل القساوسة، وأن يحيط به فضلا عنكم كل أساتذة الفلسفة والرياضيات؛ حتى يعرفوا لماذا حاكمنا «غاليليو» وأن يحيطوا علما بمقدار ما في هذه الخطيئة من خطر فيجتنبونها، وليبتعدوا جهد مستطاعهم عن أنواع العقاب التي لا بد من أن تنزل بهم إذا ما وقعوا في حالة تشبه حالة غاليليو.»
وكان من نتيجة هذا أن اجتمع كل أساتذة الفلسفة والرياضيات والفلك في مختلف الجامعات في أنحاء أوروبا وقرئ عليهم هذا الصك. ولقد كان هذا العمل بردا وسلاما على قلوب اللاهوتيين جميعا، فكتب عميد جامعة «دوي »
Douay
ذاكرا رأي «غاليليو» إلى القاصد الرسولي في بروكسيل يقول:
لقد ظل أساتذة جامعتنا على معاداتهم لتلك الفكرة التعصبية عاكفين، حتى إنهم لم يتركوا فرصة تمر دون أن يعبروا عن رأيهم في أنه من الأوفق أن تزول تماما؛ ففي جامعتنا الإنجليزية «بدوي» لم نوافق مرة على ترويج هذه المتناقضات، ولن نوافق على ترويجها في المستقبل.
ثم تقدم رجال الكنيسة خطوة أخرى؛ فقد صدرت الأوامر لأعضاء محكمة التفتيش، وفي إيطاليا على الأخص بأن لا يسمحوا بإعادة طبع شيء من كتب «غاليليو» أو ما يشابهها من الكتب. وكذلك طلب إلى اللاهوتيين - بعد أن سكت «كوبرنيكوس وغاليليو وكبلر» - أن يدحضوا براهينهم وينقضوا أقوالهم بالقلم واللسان، وهنالك فاضت الكنيسة على أوروبا بسيل عرم من البراهين الناقضة لمذهب «كوبرنيكوس».
ومن أجل أن يصبح العمل تاما كاملا، ثبت في الفهرست الكنسي أمر يحرم «كل الكتابات التي تثبت دوران الأرض» وأمضى البابا أمرا، على اعتبار أنه المعصوم عن الخطأ وأنه المعلم الملهم قدسيا، والقائم حفيظا على الدين والآداب والمعتقد، مقيدا بتلك الدينونة ضمير كل شخص أظله العالم النصراني.
من بين الكتب التي ظهرت بإرشاد الكنيسة بعد إدانة «غاليليو» رامية إلى اقتلاع جذور النظرية الكوبرنيكية من عقول الناس، نختار كتابين اثنين نتخذهما مثالا وعظة: الأول كتاب خطته يراعة «سيبيو شيارمونتي»
Scipio Chiarmonti
وأهدي إلى الكردينال «بربريني»، ومن بين البراهين التي أقامها ضد دوران الأرض نذكر البرهان الآتي:
للحيوانات التي تتحرك أطراف وعضلات ... أما الأرض فليس لها أطراف ولا عضلات ... فهي على ذلك لا تتحرك. إنها الملائكة التي تحرك زحل والمريخ والشمس وغيرها في دورتها. فإذا كانت الأرض تدور فينبغي أن يكون لها ملك في مركزها يدفعها إلى الحركة. ولكن لا يأوي في مركز الأرض إلا الشياطين فلا بد من أن يكون شيطانا ذلك الذي يعطي قوة الحركة للأرض.
إن السيارات والشمس والأجرام والثوابت إنما تتضمنها فصيلة واحدة، هي فصيلة النجوم. وظاهر أنه من الخطأ الفاحش أن توضع الأرض - وهي مباءة القاذورات - بين تلك الأجرام السماوية، التي هي أشياء قدسية نقية صافية .
أما الكتاب الثاني الذي اختاره من بين ركام تلك الكتب المتشابهة، فكتاب «بولاكو»
المسمى «الكاثوليكي ضد كوبرنيكوس»
Anticopernicus Catholicus
وقد عمد فيه كاتبه أن يوجه لهرطقة «غاليليو» سهما مسددا وفيه يقول:
ينص الكتاب المقدس دائما على أن الأرض ساكنة، وأن الشمس والقمر ماضيان في حركتهما. ولكن إذا رأينا يوما أنهما ثابتان لا يتحركان، فإن الكتاب المقدس ينص على أن ذلك إنما يكون لمعجزة كبرى.
إن هذه الكتابات يجب أن تحظر حظرا باتا؛ لأنها تبشر بمبادئ في موقع الكرة الأرضية ودورتها تناقض نصوص الكتاب المقدس، وتنافي التفسير الكاثوليكي لتلك النصوص، وتزعم بأن هذه المبادئ حقائق، لا مجرد فروض تخيلية.
ولما تناول كتاب «غاليليو» قال فيه: إنه «مستمد من روح كوبرنيكوس» وأنه «عندما اتضح هذا لأعضاء محكمة التفتيش زج ب «غاليليو» في السجن وقسر على أن يعلن عدم مشايعته لهذه الطريقة الخاطئة وأن يعلن عن فسادها.»
أما سلطة الكرادلة في إصدار قرارهم فقد تناولها «بولاكو» بالكلام مبرهنا على أنهم ما داموا «موضع استشارة البابا»، وأنهم «إخوته» فإن عملهم يكون واحدا، في حين أن البابا لا يفترق عنهم إلا بكونه مصطفى وأنه محبو بعلم لدني قدسي.
وبعد أن ظهر أن كل ما في الكتاب المقدس من الأسانيد الوثيقة، وكل الفكرات التي فاض بها البابا والكرادلة، تناقض نظريات الفلك الحديثة، حاول أن ينقض النظرية بدليل مقتطع من المشاهدات الطبيعية فقال: «إذا سلمنا بأن الأرض تتحرك، لما أمكننا أن نعلل السبب في أن سهما يطلق رأسيا في الهواء يعود إلى الهبوط في نفس المكان، بينما تكون الأرض وكل ما عليها حسب التعاليم الجديدة مندفعة في الوقت نفسه بسرعة فائقة، متحركة نحو الشرق. ومن ذا الذي لا يرى أن فوضى عظيمة في نظام الأشياء من اللازم أن تترتب على مثل هذه الحركة؟»
ثم عمد إلى الغيبيات الفلسفية مقتطعا منها بعض البراهين فقال: «إن حركة الأرض حسب نظرية «كوبرنيكوس» أمر مخالف لطبيعة الأرض ذاتها؛ لأنها ليست فقط متبردة صلبة، بل إنها تحوي في عناصرها طبيعة البرودة أيضا. ولا خفاء أن البرودة تقاوم الحركة بل إنها تفنيها بتة، كما هو الظاهر في الحيوانات، فإنها تعجز عن الحركة إذا بردت.»
ولم ينس بعد كل هذا أن يلجأ إلى أسلوب التفكير اللاهوتي كآخر سهم في كنانته فيقول: «ما دام في مكنتنا أن نثبت من نصوص التنزيل أن السماوات تتحرك من فوق الأرض، وما دامت الحركة الدائرية تستلزم وجود شيء ثابت من حوله تحصل الدورة؛ إذن فالأرض ثابتة في وسط النظام الكوني.»
على أننا لا نستطيع أن نأتي بصورة حقة تبين لنا طبيعة للجلاد الذي قام بين العلم واللاهوت، من غير أن نعود في ذلك إلماما إلى ما لقي «غاليليو» بعد موته من عنت أعدائه، فقد طلب إلى رجال الكنيسة أن يدفن في مقابر أسرته في «سانتا كروتشي»
Santa Croce
فرفضوا وأراد أصدقاؤه أن يقيموا فوق قبره أثرا تذكاريا فلم يسمح لهم، وقال البابا: «أربان الثامن» ل «نيكوليني»
Nicolini
وهو السفير الذي كلف بأن يعرض بعض المطالب الخاصة بغاليليو الميت عليه: «إنه لأسوأ مثل يعطى للناس أن نسمح بتكريم رجل وقف من قبل أمام محكمة التفتيش الرومانية لترويج فكرة مثل فكرته المملوءة بالأخطاء والكفران، ولم يقصرها على نفسه بل أقنع بها غيره فأحدث بذلك أعظم فضيحة عانت أمرها النصرانية.» ونفذت إرادة البابا ورجال محكمة التفتيش، فدفن «غاليليو» من غير تكريم بعيدا عن أسرته، ومن غير خدمة دينية، ومن غير أن يقام على قبره نصبا أو تاريخا يشير إلى العظمة المخبوءة في ذلك الرمس الذي ضم رفاته. ومضى على ذلك أربعون عاما جاء بعدها «بييروزي»
يريد أن ينقش على قبره تاريخا يشير إلى حيث دفنت تلك العظام النبيلة. وبعد مائة سنة استطاع «نيللي»
Nelli
أن ينقل رفاته إلى «سانتا كروتشي»؛ ليضعها في مكان لائق بها وأقام عليها نصبا. وكانت النار لا تزال مستعرة والعداء لا يزال مستحكما، فقد طلب إلى رجال محكمة التفتيش أن يحولوا دون هذا التكريم «لرجل اتهم بمثل ما اتهم به «غاليليو» من السيئات والخطيئات»، وعلى ذلك رفضت تلك السلطات الكنسية أن يكتب على قبره أي تذكار من قبل أن يعرض نصه على هيئتهم المختصة بمراقبة المطبوعات!
على أن روح التعصب والبغضاء لم تكن قد خبت نارها حتى ذلك العهد، وبعد موت «غاليليو» بمائة عام ولم ير جيل من أجيال البشر جمعاء فئة من رجال الدين فيها مثل «ماريني»
Marini
و«دبونالد»
De Bonald
و«رالي»
Ralaye
و«ده جابرياك»
Da Gabriac
أخذوا على عواتقهم أن يشوهوا الحقائق، وأن يختلقوا النظريات التي تسود ذكرى «غاليليو» زورا ليسلم شرف الكنيسة. ولكن الأغرب من هذا أن متونا تاريخية للتدريس كانت منتشرة بين طلاب العلم كل انتشار، قد عمد كاتبوها - خدمة للكنيسة - أن يشوهوا بكل طريق مستطاع كل الحقائق التي كونها الزمان من حول «غاليليو». وإني لعلى يقين من أن الكنيسة لم يقم ضدها في زمان من الأزمان أعداء، فكانوا أشد لدادة لها وأعظم نيلا منها، من أولئك الذين اختلقوا هذه الأشياء وروجوها بين الناس؛ فإنهم بعملهم هذا قد مهدوا السبيل لكي يقتلعوا من العقول الكبيرة المفكرة كل عاطفة من الاحترام لذلك النظام الديني الكبير، والذي كان يظن خطأ بأن هذه الكتابات تخدم أغراضه العليا.
ولم تكن الكنيسة البروتستانتية بأقل نشاطا وحذقا في مقاومة المبادئ الجديدة في علم الفلك من الكنيسة الرومانية؛ فإن العلم المقدس الذي وضع أصوله أول المصلحين من أتباع «لوثر» قد انتقل إلى الأجيال التالية كأقدس ميراث وأثمن تراث، ولم يزد في القرن التالي إلا قيمة وتقديسا، وعلى الأخص تحت تأثير «كالوفياس»
Colovius
فإن سعة علمه وصلابته المستمدة من الروح الكاثوليكية، قد عقدت له لواء الزعامة على اللوثريين. غير أنه رفض كل رفض أن ينزل على حكم العلم الصحيح والحقائق الثابتة فلجأ إلى اللاهوت مستندا إلى القول الذائع في رجوع الظل على مزولة الملك حزقيا
Ezekaiah
13
وفي وقوف الشمس ليوشع، منكرا دوران الأرض نافيا كل ما ظهر من آيات العلم الحديث، على اعتبار أنها مناقضة للتنزيل - وحتى اليوم - في القرن العشرين، قرن النور والمدنية، يردد اللوثريون في أمريكا براهين «كالوفياس» وعلى الأخص من كل منهم ذا نزعة كاثوليكية في ميوله الدينية.
أما في بقية فروع الكنيسة البروتستانتية وشعبها الكثيرة، فقد رأينا أن الكلفينيين والأنغليكانيين وعلى الجملة كل الشيع البروتستانتية؛ كانوا جميعا في موقف المعارضة لحقائق العلم الجديدة. ولقد وقع في إنجلترا أن أعلن دكتور «سميث»
Dr. Smith
وهو من أعظم اللاهوتيين أن «الجمعية الملكية» إنما هي جمعية تعمل ضد الدين، وأن أعضاءها ملحدون. وكان من بين «البيورتانيين»
العلامة «جون أوين»
John Owen
الذي أذاع أن مستكشفات «نيوتن» «قد قامت على ظواهر غير ثابتة، وأنها مبنية على فروض عقلية تعارض النصوص الصريحة التي جاء بها الكتاب المقدس» وإنك لتعجب إذ تعرف أن الشاعر «ملتن»
Milton
الذائع الصيت قد وقف متراوحا بين الناحيتين. ففي أول كتابه الثامن من قصيدته المشهورة «الفردوس المفقود» ينطلق بلسان آدم مكررا ما اعترضه من صعاب في فهم النظام البطليموسي، فيرسل إليه بملك يعيد على سمعه ما أجاب به رجال الكنيسة في تفسير ذلك النظام الكوني. ولكن الظاهر أن «ملتن» رجع بعد قليل إلى النظر في نظرية «كوبرنيكوس» نظرة نقد وتحليل.
14
إن النزعة الإنجليزية إلى روح الكثلكة ما زالت تبرهن على وجودها، ففي سنة 1724 طبع «جون هتشنسون»
John Hatchinsonn
كتاب «مبادئ موسى»
Moses Principia
وفيه بث مذهبا فلسفيا حاول أن يقيم به فكرة في النظام الكوني يستمد أصولها من الإنجيل. فحمل على مبادئ «نيوتن» معلنا أنها تؤدي إلى إنكار وجود الله، وبذلك فتح للكنيسة بابا تتدخل منه إلى الطعن في العلم الحديث، وجاراه في ذلك «هورن»
Horne
و«دنكان فوربس»
Duncan Forbes
و«جونس»
Jones
و«نيلاند»
Nayland
غير أنه ظهر في الميدان رجل أعظم من هؤلاء جميعا؛ فإن «جون ويزلي»
John Wesely
بلجوئه إلى تلك الطريقة التي تفرض على العقل أن يمضي عاكفا على نصوص التنزيل لا يعدوها، قد حمل على أن يعلن «أن صناعة السحر إذا لم تكن حقيقة واقعة، فلن يصح لدينا من شيء جاء به الإنجيل.» بل إنه مما يدلك على حقيقة تلك العقلية أن هذا الباحث بعد أن اقتادته خطواته إلى القول: بفساد نظرية بطليموس وإقرار نظرية «كوبرنيكوس» على وجه عام، انقلب إزاء مستكشفات «نيوتن» شاكا غير ثابت اليقين. ومن حسن الحظ أن كرامة محتده ونبالة أرومته، قد حالت بينه وبين أن يتردى في مهاوي الحقد، أو أن يذهب ضحية لروح العداء، أو أن يمضي متأثرا بشيء من موحيات التعصب المذهبي، التي كان من شأنها أن تعوق خطى الذين يأتون من بعده عن بلوغ الحق واليقين.
في ظلمات ذلك الخطأ الذي أرخى بسدوله حول أسلوب التفكير اللاهوتي، بدأت أنوار الحق تشع في جو إنجلترا وأمريكا على السواء. فإنه مما يستلفت النظر أن «كوتون ميذر»
Cotton Mather
على ما كان فيه من النزعة الأورثوذكسية في الاعتقاد بحقيقة السحر قد قبل سنة 1721 النظرية الحديثة في علم الفلك، مع كل ما يترتب عليها من النتائج. وفي العام التالي قامت دلائل قوية على أن الروح العلمية الحديثة قد أخذت تجد لها طريقا إلى الجزر البريطانية. فإن «توماس بارنت»
Taomas Burnet
على الرغم من أنه حاول أن يثبت في الطبعة السادسة من كتابه «النظرية المقدسة في أصل الأرض» سنة 1722 ما يذهب إليه الكتاب المقدس في ثبات الأرض في وسط الكون. فإنه أنذر قارئيه في المقدمة إنذارا أخاذا بالألباب؛ إذ ذكر ذلك الخطأ الفاضح الذي جره القديس «أوغسطين» على الكنيسة تلقاء مذهب «الأنتبود»
antipode
15
ثم قال: «إذا أمكن البرهنة بالدليل القاطع خلال بضعة السنوات الآتية أو أثناء الجيل المقبل على الأرض تتحرك بطريقة نافية لكل شك؛ فإن أولئك الذين قاموا في وجه هذا المذهب متخذين من نصوص التنزيل أسلحة تقدموا بها في ميدان المناقشة، سوف يجدون من الأسباب التي تدعوهم إلى طلب التوبة والغفران، ما كان يجد القديس «أوغسطين» للتكفير عن خطئه لو كان اليوم حيا.»
ومن حظ الإنسانية أن البروتستانت لم يجدوا في يدهم من مهيئات القوة التي يقاومون بها آراء «كوبرنيكوس» ما كان يجد رجال الكنيسة القديمة. ومع كل هذا فقد كان في بعض الوسائل التي تذرعوا بها لمحاربة العلم ما يتعذر عليهم الدفاع عنه دفاع الكاثوليك عن وسائلهم. ففي سنة 1772 سافر من إنجلترا البعث المشهور تحت قيادة الكابتن «كوك»
Cap Cook
لتحقيق بعض أغراض علمية. وكان أعظم حجة من العملاء الذين انتخبوا ليرافقوه دكتور «بريستلي»
Dr.
وكان قد انتدبه السير «يوسف بانكس»
Sir Joseph Banks
لهذا الغرض، غير أن رجال الدين في أكسفورد وكمبردج تدخلوا في الأمر، زاعمين أن «بريستلي» لم يكن كامل اليقين في حقيقة التثليث، وأن هذا ربما يؤثر على دراسته الفلكية فيفسدها. وعلى هذا رفض «بريستلي» وأعيق عن أن يرافق البعث، فضاع بذلك كثير من الفوائد التي كانت تنتظر منه.
على أن وجهة النظر الكاثوليكية في الفلك قد ظلت حية في نواح أخرى من الكنيسة البروتستانتية؛ فإنك تجد أن «ليبنتز» في ألمانيا قد هاجم نظرية «نيوتن» في الجاذبية مستندا إلى براهين لاهوتية، ولو أنه وجد في تلك النظرية شيئا من السلوى في أنها ربما تؤيد مذهب «لوثر» في اتحاد طبيعتين أو أكثر من طبيعة واحدة، أو اصطلاحا «تدامج الطبائع»
Cousubotantiation .
أما في هولاندا فقد كانت الكنيسة «الكلفينية» شديدة العداء، قوية المراس، في مقاومة المذهب الجديد. غير أن لدينا برهانا يثير السخرية على أن المذهب «الكلفيني» كان عاجزا عن أن يقاوم الوحي العلمي حتى في مرابضه الأصلية؛ فإن «بلاير»
Blaer
قد طبع في أمستردام سنة 1642 كتابه في فائدة «الكرات»، ومن أجل أن يجعل نفسه مع الفئة الناجية، قصر جزءا من كتابه على شرح نظرية بطليموس والجزء الآخر على شرح نظرية «كوبرنيكوس» تاركا للباحث كل حرية في أن يختار بين الناحيتين.
على أن الجهود التي بذلت في الكنيسة البروتستانتية لإيقاد نار الحرب على العلم لم تكن قد خمدت حتى عهد قريب جدا. فقد حاول رجال الكنيسة في إنجلترا أن يطفئوا مصباح العلم سنة 1864 لو لم ينصرف «هرشل»
Herschel
و«بورنج»
Bowring
و«ده موجان»
De Mogan
إلى نصرة العلم، فوضعوا رجال الكنيسة في موضع لم ينلهم فيه إلا السخرية والازدراء، وكذلك التأم مجمع رجال الدين اللوثريين في برلين سنة 1868 ليعارضوا حركة العلم الحديث، وكفى بذلك أمثالا ولكن من حسن الحظ أنه كان في ألمانيا إذ ذاك «باستور كناك»
Knak
فإنه ذهب في برهنته على فساد نظرية «كوبرنيكوس» إلى أنها لا تلائم في ناحية من نواحيها حقيقة الاعتقاد في الإنجيل، فكان ذلك سببا في أن يبدد شمل المجمع مشيعا ببسمات الاحتقار، ونظرات السخرية.
لقد رفضت الكنيسة الكاثوليكية - في حركتها الحديثة التي قاومت بها علم الفلك الجديد، وفي بعض البلاد التي بلغت من التمدين مبلغا كبيرا - أن تتعظ ببعض الأخطاء الكبرى التي وقعت فيها بعض شعب الكنيسة البروتستانتية، وتردت في حمأتها إسفافا وبلا تحفظ.
وعلى الرغم من أن الكنيسة القديمة قد ارتكبت خطأ كبيرا في السماح بنشر كتب ومتون عديدة لم يكن الغرض منها إلا تشويه عصر «غاليليو» ببث كثير من الأضاليل، وكان من وراء ذلك أن ضاعت الثقة بتعاليمها التي كانت تحاول ترويجها بين فئة من ناشئتها وصفت بحب العلم والاستعماق في النظر والاستبصار، فإنها ظلت بعيدة عن معرة الاستمرار في العكوف على جعل تعاليمها والإيمان بنصوص الكتاب المقدس، وقفا على قبول النظرية البطليموسية في نظام الكون.
غير أن الأمر لم يكن كذلك في المذهب «اللوثري» بأمريكا، فقد طبع سنة 1873 بمدينة «ميسوري»
Missouri «سانت لويس» وبمطبعة المجمع اللوثري في مقاطعة كتاب
16
ذاع أن مؤلفه كان رئيسا لمجمع المعلمين في إحدى الكليات اللوثرية.
لم يظهر في العصور الأخيرة من طعن في نظام الفلك الحديث، فكأنه أقذع مما جاء في هذا الكتاب أو أكثر تضليلا. ففي أول صفحة من المقدمة يتساءل مؤلفه بعد أن فحص مجمل النظريتين «أيهما الحق»؟ ثم يقول: إن «من السهل علي أقرر أيهما الحق، لو كان الأمر مقصورا على أنه استنتاج يملك فيه العقل الإنساني حريته. ولكن الله الرحيم قد أوحى إلينا بالحقيقة في الإنجيل فإن كل ما في الكتاب المقدس دلائل وبراهين تقنعنا بأن الأرض هي الجرم الرئيسي
Hoap Kurper
في نظام الكون، وأنها تقف غير متحركة وأن الشمس والقمر لم يوجدا إلا ليمداها بما تحتاج إليه من ضوء.»
ولقد مضى المؤلف بعد هذا مستندا إلى نصوص الكتاب المقدس، لا ليظهر بطلان نظرية «كوبرنيكوس» ونواميس نيوتن وحدها، بل ليظهر أخطاء الكثيرين ممن هم أعظم من أنبت العصر الحديث من رجال الفلك. ثم يقول:
لا يسبقن إلى حدس أحد أني أبحث عن الحق في أية ناحية هو، أهو في الإنجيل أم في أقوال رجال الفلك. كلا فإني أعلم ذلك حق العلم؛ لأن ربي القادر لا يكذب أبدا ولا يخطئ أبدا، ولا يخرج من فيه إلا الحق، ولا حق سوى ما تكلم به في حقيقة نظام الكون والأرض والشمس والقمر والنجوم.
ثم يقول:
ومن أجل أن ما جاء به الكتاب المقدس من حق منضو تحت هذا؛ فلذلك أرى أن السؤال المتقدم على جانب عظيم من الخطر فإن رجال العلم وغيرهم يلجئون إلى فكرة مضللة، محصلها أن الله إنما يعلمنا نظام الخلاص في الآخرة، لا نظام الكون في هذه الدنيا.
ومما يلذ ملاحظته أن بقاء مثل هذا المعتقد القديم حيا قائما على متون أصيلة من مراسيم العبادة، لم يكن السبب فيه تعاليم بثها راهب من رهبان الكنيسة القديمة ملء غيرة على الدين، بل استمدت عناصر البقاء من عقل أستاذ مشهور تابع لشعبة من شعب البروتستانتية، لا تفخر بشيء فخرها بأنها من ناشرات النور والعرفان.
كذلك لم تعلن الكنيسة القديمة تلك الحرب الشعواء على مؤسسي العلم الحديث بعد موتهم، وحدها وبلا شريك.
ففي العاشر من شهر مايو سنة 1859 دفنت رفاة «إسكندر فون همبولد»
alex. Von Humboldt
أما مجهوداته فتعد من مفاخر القرن التاسع عشر؛ ولذلك كانت جنازته من أفخم ما وقعت عليه عين في برلين. وكان من بين الذين انتهزوا فرصة الشرف بأن يكونوا من المشيعين، الأمير ولي العهد، الذي صار فيما بعد الإمبراطور غيليوم الأول، ولكن مع كل هذا لم يكن بين المشيعين أحد من رجال الدين، اللهم إلا من خصص منهم للقيام بالخدمة الدينية، وفئة كانت تعرف بابتعادها عن الروح الأورثوذكسية. (5) نتائج الانتصار على غاليليو
نرجع الآن إلى الكلام في النتائج التي ترتبت على قضية «غاليليو».
بعد أن فاز رجال الكنيسة على «غاليليو» حيا وميتا، وبعد أن استغلوا هذا الانتصار في إخضاع أساتذة علم الفلك في كل أوروبا لآرائهم، لم يسعهم إلا أن يعلنوا ابتهاجهم، ويعبروا عما يخامر قلوبهم من لذة الانتصار، وكثيرا ما علت صيحتهم بأنهم اقتلعوا جذور الهرطقة والإلحاد والكفر بالله، باقتلاعهم جذور المذهب القائل بأن الأرض تدور دورة مزدوجة حول محورها ومن حول الشمس، موجهين إلى محكمة الكنيسة أخص عبارات الشكر والتبجيل بإطاعتها وتنفيذها للإرادات الشفوية التي أصدرها أحد البابوات، والأوامر الكتابية التي وجهها إليها آخر. ولقد عرفنا من قبل أن تلك الكتب المرذولة التي تعلم الحق الجديد قد وضعت في فهرست الكتب التي يحظر على النصارى قراءتها. وقد صدرت هذه الفهرست بأمر بابوي يلعن كل من يمس هذه الكتب من أصحاب المعتقد النصراني، مذيل بتوقيع البابا الذي كان متربعا في كرسي «القديس بولص» في ذلك العهد.
على أن الخسائر التي أصابت العلم من جراء انتصار النزعة اللاهوتية لأبلغ من أن يسبر الإنسان غورها لدى أول نظرة يلقيها على الموضوع. ولنذكر في هذا الصدد أمرا واحدا، فلقد كان في أوروبا في ذلك العصر مفكر من أولئك المفكرين الذين قلما تجود بأمثالهم بطون الأمهات. كان في أوروبا «رينيه ديكارت». وعلى الرغم مما في استنتاجاته من الخطأ الكبير، فإن ثمار الحق التي احتوت عليها تلك الاستنتاجات كانت كثيرة منوعة الصور. وكان قد أنجز شيئا كثيرا لخير الإنسانية حتى ذلك العهد؛ فإن وصفه للمذهب الدردوري
The theory of vortices
في الطبيعة - وهو فرض وجود مادة متجانسة في الفضاء تحكم حركتها النواميس الكونية كقاعدة لأصل النظام الطبيعي المنظور، ولو لم يكن سوى نظرية فرضية، فإنه قضى كل قضاء على النظرية القديمة في أصل الكون، نظرية القبة الصلبة التي تظلل الأرض، وتحريك السيارات في دورتها بأيدي الملائكة، تلك النظرية التي بلغت من التأثير في العقول مبلغا كبيرا؛ حتى إن «كبلر» نفسه قد أفسح لها في عقله عاملا للعلم، جامعا في ثنايا عقله الكبير كل البحوث العلمية التي ذاعت في عهده. وكان لا بد من أن تحدث نتائج أبحاثه عصرا جديدا في تاريخ الدنيا. وكان غرضه أن يجمع كل فروع المعرفة والفكر في مقالة واحدة في حقيقة العلم، ومن أجل أن يصل إلى ذلك ظل أحد عشر عاما طوالا مكبا على درس علم التشريح وحده . غير أن نهاية «غاليليو» قد أفقدته كل أمل، وانتزعت من قلبه كل تشجيع. وهنا خيل إليه أنه فقد المعركة، فترك تصميمه فارا من الميدان فرارا من لا أمل في أوبته.
غير أنه لم يمض غير قليل حتى ظهر للعالم أجمع أن انتصار الكنيسة واستظهارها على أعدائها لم يكن في الحقيقة إلا هزيمة مروعة، فقد انهالت البراهين الناصعة من كل مكان على أن «كوبرنيكوس» و«غاليليو» كانا على حق. وعلى الرغم من أن البابا «أربان الثامن» وأعضاء محكمة التفتيش قد أبقوا «غاليليو» في عزلة تامة بعيدا عن كل ما يحيط به، ممنوعا حتى عن الكلام في دورة الأرض المزدوجة، وعلى الرغم من اللعنة التي وجهت إلى كل «الكتب التي تبرهن على دوران الأرض»، وتثبيتها في الفهرست، وعلى الرغم من أن الأمر البابوي كان لا يزال معلقا فيها، مقيدا لضمائر المؤمنين الذين يحاولون فهم العلم الحديث، وعلى الرغم من أن الكليات والجامعات التي كانت تحت حكم الكنيسة قد أجبرت على أن تعلم النظرية القديمة؛ فقد استبان لكل ذوي الألباب من أهل ذلك العصر أينما كانوا وحيثما حلوا، أن انتصار الكنيسة لم يكن في الحقيقة إلا كارثة مجتاحة، حوطت نتائجها المنتصرين.
هنالك فتح الرواد لأنفسهم بابا جديدا. فإن «كامبانيلا»
Campanella - فضلا عما كان في آرائه من الغموض - كتب «دفاعا عن غاليليو» وقد وقع تحت آلات التعذيب فريسة سبع مرات متتالية، لارتكابه مثل هذه الهرطقة وغيرها، في موضوعات السياسة والدين.
ثم ظهر «كبلر»
Kepler
فقاد أنصار العلم إلى ميادين جديدة حازوا فيها النصر والفخار، فإن «كوبرنيكوس» - على نبوغه وعبقريته وسعة عقله - لم يستطع أن يخلص أسلوب التفكير العلمي تخليصا تاما من نزعات اللاهوت وقواعده. فإن مذهب «أرسطو طاليس» ومذهب القديس «توما أكويناس» في أن الدائرة وذلك الشكل الهندسي، هو أتم كل الأشكال وأكمل الأوضاع الهندسية، قد أفسد عليه بعض نواحي مذهبه، وترك فيه ثغرات مفتوحة لم يتوان أعداء العلم في أن يلجوها. غير أن «كبلر» قد رأى الخطأ، فلم يلبث أن فاض على العالم، بما خص به من نبوغ كبير وتفوق عظيم، بثلاثة نواميس لا تزال تقترن باسمه إلى اليوم، وبذلك أتم بناء تلك القلعة العلمية التي لم يقتحمها أحد حتى الساعة. وكثيرا ما كان يتكلم ويفكر كرجل ملهم بما يقول. وكانت المواقع التي اخترق صفوفها ممضة أليمة. فقد أنذره المجمع الأكليروسي البروتستانتي في «ستوتجارت» بأن يقلع «عن أن يقذف عالم المسيحية في مهاوي الفوضى بما يبث من خيالات مسفة» ومن ثم أمر في حفلة رسمية «بأن يوفق بين نظريته في الكون وبين نصوص الكتاب المقدس» ولقد وبخ مرة واستهزئ به أخرى ثم سجن. ولقد ناءت عليه كل القوات الكنسية بكلاكلها البروتستانت في «ستيريا»
Styria
و«فورتمبرج»
Wurtemburg
والكاثوليك في النمسا وبوهيميا ولكن تبعه إذ ذاك «نيوتن» و«هالي»
Halley
و«برادلي»
Baradely
وغيرهم من كبار الفلكيين، ولم يبق للعلم من كل هذا إلا الفخر والانتصار.
غير أن هذا الجهاد كله لم ينه المعركة، ففي خلال القرن السابع عشر كله وفي فرنسا، وبعد كل البراهين الناصعة التي أتم بها «كبلر» علم الفلك الحديث، لم يجرؤ أحد أن يعلم نظرية «كوبرنيكوس» أو يبث حقائقها علنا، حتى إن «كاسيني»
Cassini
الفلكي العظيم، لم يستطع أن يعلن اقتناعه بها ودفاعه عنها. وفي سنة 1672 عدد الأب «رتشيولي»
Riccioli
اليسوع البراهين التي تؤيد نظرية «كوبرنيكوس» والبراهين التي تنقضها، فوجد أن ستة وأربعين برهانا تؤيدها وسبعة وسبعين تنقضها. وإنك لتجد حتى بعد أن ولج العالم باب القرن الثامن عشر، وبعد أن أثبت سير «إسحاق نيوتن» نظرياته بزمان طويل، أن «بوسيه»
Bossuet
أسقف «مو»
Meaux
وأعظم لاهوتي أنبتته فرنسا، قد مضى معلنا أن النظرية الجديدة في الفلك مناقضة للتنزيل.
ولم تظهر دلائل تدل على أن الجو سوف تنكشف غياماته سراعا خلال ذلك القرن. ففي إنجلترا طبع «جون هتشنسون» كما رأينا من قبل كتابه «مبادئ موسى»
Moses’
سنة 1724، ومضى موقنا بأن التوراة العبرية عبارة عن مذهب كالم في الفلسفة الطبيعية، وأنها مناقضة للمذهب «النيوتوني» في الجاذبية. ولقد رأينا من قبل أن هذا اللاهوتي قد تبعه جيش عرمرم من رجال الكنيسة ينحون نحوه ويلفون لفه. وطبع اثنان من مشهوري الرياضيين في فرنسا سنة 1748 في الفرنسوية كتاب «المبادئ»
الذي ألفه «نيوتن»، غير أنهما حذرا من أن يقعا فريسة في براثن المراقبة الكنسية، وضعا للكتاب مقدمة كانا يعتقدان أنها خطأ فاضح وتزوير لا مبرر له. وبعد ذلك بثلاثة أعوام فاه «بوسكوفتش»
Boscovich
الرياضي اليسوعي المشهور بهذه الكلمات:
أما أنا - فمع شديد احترامي للكتاب المقدس ولقرارات محكمة التفتيش المقدسة - أعتبر أن الأرض ثابتة لا تتحرك، ولكن مع ذلك لا أرى بأسا من أن ألجأ إلى السهولة في الشرح والتعبير، فأعتبرها متحركة وأن أسوق براهيني في هذه السبيل؛ لأنه قد برهن أخيرا على أن كل الظواهر تؤيد هذا الفرض.
أما في ألمانيا فقد ظلت الحرب متلظية شعواء طوال النصف الأول من القرن الثامن عشر، وعلى الأخص في البقاع التي عمرها البروتستانت. فقد أغرق دكاترة اللاهوت اللوثريين ألمانيا في فيضان مجتاح من الكتب والمقالات؛ ليبرهنوا على أن نظرية «كوبرنيكوس» لا يمكن أن يوفق بينها وبين نصوص التوراة. وكذلك نجد في كثير من المعاهد اللاهوتية، وفي كثير من الجامعات التي خضعت للسلطة الكنسية، أن رجال الدين قد ذهبوا بكل طارف من العلم وتالد. ومع كل هذا فإنا نقع في أواسط القرن الثامن عشر على فئة من الرجال الكنيسة المتنورين، قد شعروا شعورا تاما بأنهم فقدوا الموقعة وباءوا بالخسران.
ففي سنة 1757 أخذ البابا «بنيدكت الرابع عشر» أنور البابوات جميعا وأحدهم ذهنا وأغزرهم علما، يبحث الأمر بنفسه، فقرر مجمع الفهرست
Congeration of the Index - سرا على إثر ذلك - أن الكنيسة تسمح لمبادئ «كوبرنيكوس» أن تذيع، وأن يتناولها المؤمنون بالدرس، غير أنك تجد بعد هذا أن الفلكي المعروف «لالاند»
Lalande
قد حاول عبثا سنة 1765 أن يحمل رجال الكنيسة في روما على أن يخرجوا كتب «غاليليو» من الفهرست.
ناهيك بأن السلطات التي ظلت قوامة على المعاهد في أوروبا الكاثوليكية - وعلى الأخص في أسبانيا - قد حظرت حتى أواسط القرن التاسع عشر تدريس المذهب النيوتوني. ففي سنة 1771 رفض عمد جامعة «سلامانكا» أشهر كل الجامعات وأعرقهن قدما، أن يدخلوا تدريس الفوسيقى في برامج الجامعة قائلين إن «نيوتن» لا يعلم من شيء يمكن أن يخرج رجالا عظاما في المنطق أو الغيبيات، وكذلك «غاسندي»
Gassendi
و«ديكارت» فإن كليهما لا يتفق والحقائق المنزلة، كما يتفق أرسطوطاليس.»
أما تهمة الانتقام من الموتى فقد بقيت حية ردحا طويلا من القرن التاسع عشر؛ ففي الخامس من شهر مايو سنة 1829 اجتمع جمهور غفير في مدينة «فارسوفيا»
Warsaw
ليجددوا ذكرى كوبرنيكوس تكريما له، وليدشنوا تمثاله الذي صنعه «ثوروالدسن»
Thorwaldsan .
لقد عاش «كوبرنيكوس» عيشة مسيحية ملؤها الورع والتقوى. ولقد نال حب الناس واحترامهم لما جبل عليه من صفات الإشفاق والرحمة وحب التصدق لوجه الله، ولم يقف أحد على خطرة واحدة يصح أن تتخذ موضعا للطعن في معتقده الديني. وكان قسيسا في كنيسة «فروننبرج»
Feaneburg
ونقشت على قبره أشد الجمل النصرانية مسا للقلوب ونيلا من الوجدان. فأصبح من الطبيعي أن ينتظر الناس في احتفال «فارسوفيا» أن يقوم رجال الدين بخدمة دينية، ومضى منظمو الاحتفال يضعون أنظمته على هذه الفكرة. وعلى هذا سارت تلك المظاهرة الكبرى إلى الكنيسة، وانتظر الناس قيام رجال الدين بواجبهم. فمضت ساعة ولم يظهر منهم أحد بل لم يشأ أحد منهم أن يظهر. ومن هذا تجد أن «كوبرنيكوس» الرحيم المتصدق الورع - ذلك الذي يجب أن يعتبر من أنبل الأشياء التي وهبها الله للعلم والدين معا - كان لا يزال واقعا تحت سخط الكنيسة ورجالها. بل ظل كتابه بعد ذلك خمسة أعوام مدرجا في الفهرست، معدودا من الكتب التي تحظر الكنيسة قراءتها على المؤمنين.
وطبعت من الفهرست نسخة سنة 1819، وكانت كتب «غاليليو» و«كوبرنيكوس» لا تزال مدرجة فيها، كما كان شأن الطبعات التي سبقتها. ولكن وقعت سنة 1820 أزمة شديدة وحرج كبير؛ فإن القس «سيتيل»
Settele
أستاذ علم الفلك في جامعة روما، قد كتب متنا للتدريس أخذت فيه نظرية «كوبرنيكوس» على أنها من الحقائق التي لا يشك فيها. وهنالك رفض «أنفوزي»
Anfussi
رئيس البلاط المقدس ومراقب المطبوعات أن يسمح بطبعه ما لم يراجع «سيتيل» كتابه، ويذكر أن نظرية «كوبرنيكوس» ليست أكثر من فرض. وعلى هذا لجأ «سيتيل » إلى البابا «بيوس السابع» فأمر بأن يعرض الأمر على مجمع وزراء الفاتيكان المقدس. وفي 16 أغسطس سنة 1820 صدر قرار المجمع بأنه من المسموح «لسيتيل» أن يلقي نظرية «كوبرنيكوس» على أنها حق ثابت، وعزز البابا هذا القرار. ولقد كان هذا القرار مثارا لكثير من المناقشات. وبعد لأي اتفق كرادلة محكمة التفتيش المقدسة في 11 سبتمبر سنة 1822 على أن نشر الكتب التي تؤيد حركة الأرض وثبات الشمس، على ما يقول به كبار علماء الفلك في العصر الحديث أمر مسموح به في روما. وصدق البابا «بيوس السابع» على هذا القرار، ولكن ظل الفهرست من غير أن يعاد طبعه ثلاثة عشر عاما بعد هذا، حتى طبع سنة 1835، إذ رفعت منه أسماء الكتب التي كانت تبرهن على نظرية دوران الأرض وتدافع عنها.
ولكن النزاع لم يكن قد انتهى بعد، فإن كل حركة من حركتي الأرض قد قامت عليها براهين جديدة تثبتها لأعين الناظرين، كما لو كانت كل البراهين القديمة غير كافية لإثباتها. فإن اختلاف موقع النجوم الثوابت - أي اختلاف الموقع الذي يشاهد فيه النجم من سطح الأرض عن الموقع الذي يجب أن يكون فيه فيما لو شاهدت من مركز الأرض - ذلك الناموس الذي استكشفه «بيسيل»
Bessel
وغيره من الفلكيين سنة 1838، قد أثبت دوران الأرض حول الشمس إثباتا قاطعا، كما أن تجربة «فوكول»
Foucalt
في الرقاص
قد أظهرت للعين إظهارا جليا أن الأرض تدور حول محورها. ومن أجل أن يعلن عن هذا الأمر ويذيع حقيقته أجرى الأب «سكشي»
Secchi
الفلكي المعروف - وهو من اليسوعيين - هذه التجربة علنا في إحدى كنائس روما سنة 1852؛ أي بعد مضي مائتين وعشرين عاما على تلك الجهود التي بذلها اليسوعيون أنفسهم في سبيل أن تنصب لعنة الكنيسة على رأس «غاليليو» العظيم. (6) تراجع الكنيسة بعد انتصارها على غاليليو
إن كل تاريخ يكتب في انتصار علم الفلك على اللاهوت المذهبي لا محالة يكون ناقصا، ما لم يحط فيه كاتبه بتلك الانهزامات المتتالية التي انتابت الكنيسة متراجعة عن كل مواقفها السابقة في قضية «غاليليو».
إن تراجع أهل اللاهوت من البروتستانت لم يكن صعبا. فلقد كفاهم قليل من المهارة في تأويل التوراة، مع نزر يسير من الدقة في تطبيق تلك الحكمة المعروفة التي تنسب إلى الكردينال «بارونياس»
Baronaitls
حيث قال إنه ليس من شأن الإنجيل أن يعرف الناس حركات الأجرام السماوية كيف تسير، بل من شأنه أن يعرفهم كيف يسيرون هم إلى الملكوت السماوي، مضافا إلى ذلك استعمال بضعة من تلك الجمل الخطابية التي تتفجر بالرياء ضد الذين اضطهدوا رجال العلم وطاردوهم.
غير أن انهزام الكنيسة القديمة كان أشد مراسا وأصعب متناولا؛ فإن تراجع علماء اللاهوت الذين دافعوا عن الكنيسة مبررين أعمالها، قد استغرق قرنين كاملين.
وعلى الرغم من كل ما قال هؤلاء المدافعون، لم يبق ظل من الشك في أن عصمة البابا قد اتخذت في كل الحالات - وبلا استثناء - سلاحا مرهفا ضد القول بحركة الأرض المزدوجة. ولقد أظهرت المستندات التي حفظت في قضية «غاليليو» والتي طبعت أخيرا أن «بولص الخامس» قد ساعد في سنة 1616 - بكل ما أوتي من قوة وجهد - تلك الحركة التي رمت إلى لعن «غاليليو» واتهامه، ولعن كتب «كوبرنيكوس» وكل من يعلم مذهب دوران الأرض حول محورها ومن حول الشمس. وكذلك كان الحال في اتهام «غاليليو» سنة 1633، وفي كل الإجراءات التي أدت إلى ذلك الاتهام، كان «أربان الثامن» رجل الساعة وبطل الرواية. ولم يكن من المستطاع أن يحاكم «غاليليو» بغير إجازة منه.
حقيقة أن البابا لم يوقع القرار الذي صدر ضد نظرية «كوبرنيكوس» في ذلك الوقت. ولكن ذلك حدث فيما بعد، وفي سنة 1664 أضاف «الإسكندر السابع» إلى الفهرست الذي يحرم على المؤمنين كتب «كوبرنيكوس» و«غاليليو» - «وكل الكتب التي تؤيد نظرية دوران الأرض» - أمرا بابويا وقعه بنفسه يلزم قطيع الكنيسة الخضوع لما جاء في ذلك الفهرست. ولقد أيد هذا الأمر - بعبارات جلية وبكل ما تحتمل الألفاظ من معاني الحزم والشدة والعصمة من الخطأ - تحريم «كل الكتب التي تبرهن على دوران الأرض وثبات الشمس».
بهذا وبكثير غيره أصبح موقف الكنيسة الرئيسية دقيقا خطيرا، وكانت أول حركة ذات بال لجأ إليها المدافعون عن الكنيسة قولهم إن «غاليليو» لم يلعن ويتهم لأنه أيقن بدوران الأرض، بل لأنه أراد أن يؤيد هذا القول بنصوص من التوراة. وفي هذا القول قليل من عنصر الحق؛ فإنه من المحقق أن كتب «غاليليو» التي أرسل بها إلى «كاستللي» وإلى الغراندوقة «كريستين» والتي حاول أن يثبت فيها أن مذهبه الفلكي لا يعارض التوراة ولا ينافيها، قد أورى زناد التعصب الديني في قلوب رجال اللاهوت. ولقد أفادت هذه المراوغة زمانا ما في تحقيق الأغراض التي رمت عليها؛ فإن الثابت أن «ماليت دوبان»
Mallet de Fan
البروتستانتي، قد جدد هذه النغمة بعد اتهام «غاليليو» بمائة وخمسين عاما، متخذا منها عضدا يستند إليه في سبيل الوصول إلى نظرة رضى كان ينشدها من رجال الكنيسة القديمة.
على أنه ليس من شيء هو أبعد عن أحكام بديهة العقل الأولية من أن يلجأ كاتب في هذا العصر إلى مثل هذا إذا ما أراد أن يدافع عن الكنيسة، بعد أن نشرت المستندات الأصلية التي حفظت في قضية «غاليليو» بين جدران قصر الفاتيكان، ولم تنشر إلا منذ عهد قريب. فإن خطابات «غاليليو» إلى «كاستللي» وإلى الغراندوقة «كريستين» لم تطبع إلا بعد اتهامه، وعلى الرغم من أن رئيس أساقفة «بيزا» قد عمل جهده لكي تتخذ هذه الخطابات وثائق ضد «غاليليو»، فإنها لم تذكر سنة 1616 إلا عرضا، ولم تذكر البتة في سنة 1633. أما الأشياء التي استند إليها رجال المجمع المقدس سنة 1616 الذي التأم بحضور البابا «بولص الخامس» في اتهام «غاليليو» على اعتبار أنها «منافية للبديهة وخطأ في اللاهوت وهرطقة صريحة؛ لأنها تناقض نصوص الكتاب المقدس» فقضية «أن الشمس هي المركز الذي تدرو الأرض من حوله»، أما الذي اعتبر أنه «مناف للبديهة وخطأ في الفلسفة، وأن أقل ما فيه من وجهة النظر اللاهوتي أنه مناقض للمعتقد الصحيح»، فقضية «أن الأرض ليست مركز النظام الكوني وأنها متحركة، وأن لها دوران يومية.»
وكذلك إذا رجعت إلى أمر البابا «أربان الثامن» الذي نفذه رجال المحكمة التفتيش سنة 1633، فإنك تجد أن «غاليليلو» قد أجبر على أن يقسم متنصلا من «خطأ القول وهرطقة الاعتقاد بأن الأرض تدور.»
أما الشيء الذي حظرته الفهرست بإجازة الأمر البابوي الذي أصدره «الإسكندر السابع» سنة 1664، فكان «كل الكتب التي تعلم دوران الأرض وثبات الشمس»، وكذلك تجد أن ما احتوته الفهرست المصدر بالأمر البابوي والذي يقيد ما جاء به ضمائر المؤمنين، والذي ظل أكثر من مائتي عام مصبوبا عليه لعنة الكنيسة، فكان «كل الكتب التي تؤيد القول: بدوران الأرض.»
وعلى هذا ترى أن «غاليليو» لم يتهم مرة لأنه حاول «أن يوفق بين آرائه ونصوص التوراة».
وبعد أن أخفقت الكنيسة في هذا الميدان، وعجزت عن أن تجد فيه ما يمكن أن يكون دفاعا معقولا عن تصرفاتها، رجع المدافعون عنها إلى الاستتار حول القول بأن «غاليليو» لم يحاكم من أجل الهرطقة بل لعناده وقلة احترامه للمقام البابوي.
وكذلك لقيت هذه الأضلولة الجديدة فرصة أخرى للبقاء زمانا. ومما لا شك فيه أن «أربان الثامن» وهو من أكثر من رأت روما من البابوات أنفة وتشامخا، قد خدعه بعض أعداء «غاليليو» بحجة أنه لم يقم نحوه بكل ما يلزم من واجبات الاحترام الرسمية؛ أولا: لأن «غاليليو» ظل أمينا على مذهبه متعلقا به حتى بعد اتهامه سنة 1616. وثانيا: لأنه أشار في كتابه «المحاورة» سنة 1632 إلى البراهين التي أقامها البابا لنقض مذهبه الفلكي.
غير أنه مما لا يحتمل شكا أن الالتجاء إلى القول بأن إصدار قرار خطير النتائج كذلك القرار الذي صدر ضد «غاليليو» كان راجعا إلى نزعة شخصية قامت في نفس حبر الكنيسة الأعظم للالتجاء إلى شيء ليس من شأنه أن يحوط مذهب العصمة البابوية بالكثير مما يتطلع إليه الراغبون في بث هذا المعتقد في قلوب الناس.
وفضلا عن هذا فإن الألفاظ التي استعملت في درج الجمل نفسها تدل على سخافة استدلال أولئك الذين حاولوا الدفاع عن الكنيسة. فإن هذه الجمل قد تضمنت دائما كلمة «هرطقة» ولم تستعمل كلمة «احتقار» مطلقا هذا فيما يختص بالمسألة الأولى، أما المسألة الثانية فإن ما تنطق به المستندات الرسمية لم يبق طريقا لمؤول ولا سبيلا لمفسر؛ فإن هذه المستندات نفسها تظهر «غاليليو» دائما بمظهر الخاضع المنيب لقداسة البابا، وأنه تلقى براهين قداسته بصبر وطول أناة. ولا ريب في أنه قد فاض بكثير من عبارات الغضب والاحتقار في وجه الذين حاولوا إهانته وتعمدوا القدح فيه. غير أن الاعتقاد بأن ذلك كان السبب في محاكمته لأمر فيه من الإسفاف ما فيه، وهو فوق ذلك ينزل بالبابا «بولص الخامس» والبابا «أربان الثامن» و«بيلارمين» وغيره من اللاهوتيين، وأعضاء محكمة التفتيش إلى منازل الفجرة الآثمين؛ لأنهم تناقضوا تناقضا صريحا في تعيين الأسباب التي تحملهم على أن يقفوا ذلك الموقف من «غاليليو»، وعلى هذا لم يجد المدافعون عن الكنيسة من هزيمة هي أشبه بالانتصار، إلا بأن يفروا من ذلك الميدان فرارا.
أما الأضلولة الثانية فدارت رحاها حول القول بأن اضطهاد «غاليليو» ومحاكمته لم يكن السبب فيها إلا ذلك الصراع الذي قام بين الأساتذة الأرسطوطاليسيين من جهة والأساتذة المؤيدين للطريقة التجريبية الحديثة من جهة أخرى. غير أنهم هوجموا في موقفهم هذا وهزموا فيه بأيسر ما يتصور. فقد قيل لهم إذا كانت هداية الكنيسة وإرشادها أمور من المستطاع أن تنزل إلى ميدان يتصارع فيه أساتذة الجامعات، وأن تتخذ وسيلة يتذرع بها حزب من الأحزاب لتحريم الاعتقاد بحق قامت كل البراهين الكونية مؤيدة له، فكيف يمكن أن يعتقد مع هذا أن الكنيسة في ذلك الوقت كانت تفضل أي نظام إنساني دنيوي غير معصوم عن أن يزل ويخطئ، وأن يكون مقودا بعصبة من الجاهلين لا بطبقة منتقاة من الرجال الكاملين؟ وإذا صح أن يكون هذا البرهان سديدا، فإنه يدل على أن حالة الكنيسة كانت أسوأ بكثير مما قال فيها أعداؤها. وهنا بين صيحات الفرح التي كانت تبعث من أفواه فئة لم ينبض لهم من الخزي عرق، ولم يهتز لهم من الخجل عصب، لجأ المدافعون عن الكنيسة إلى وسائل أخرى.
قيل بعد هذا إن اتهام «غاليليو» كان «موقوتا» على أن في هذا الموقف من الضعف ما لا يدانيه ضعف في موقف آخر عمد إليه رجال الكنيسة؛ لأن هذه الكلمات التي استعملت قرار الاتهام نفسه برهان كاف لنقض هذه الأضاليل. بيد أن الاعتذار عما يعلن رءوس الكنيسة صراحة وبإجازة من حبرها الأقدس إزاء مذهب من المذاهب بقولهم: «مناقض لنصوص الكتاب المقدس»، أو «مناف للمعتقد الصحيح» أو «خطأ ومضاد للبديهة من وجهتي النظر اللاهوتية والفلسفية.» كما كان موقفهم إزاء مذهب «غاليليو» بأنه كان من الأمور الموقوتة أو المشروطة على شيء ما، لإسفاف هو بمثابة القول بأن الحق الذي تستمسك الكنيسة بعراه، عرضة لأن يغشاه الباطل حينا بعد حين. ومن هذا الميدان فر المدافعون عن الكنيسة أيضا كما فروا من غيره.
ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل قام نزاع وثار جدل، كان في بعض وجوهه أغرب من كل ما تقدمه وأعجب. فقد قيل «بأن ضلع الكاثوليك في تحطيم «غاليليو» لم يكن بأكبر من ضلع البروتستانت؛ لأنهم كانوا أكثر من لاهوتي الكاثوليك سعيا في حمل البابا على أن يأتي بما فعل.»
ولكن إذا كان في مستطاع البروتستانتية أن تجبر المقام البابوي على أن يمتد نفوذه إلى هذا الحد في مسألة من أخطر المسائل التي انطوى تحتها كثير من مشكلات الدين والسياسة بالغة الأثر، فماذا يكون أمر الاعتقاد «بعصمة البابا» وبأن سلطته البابوية وحكمته الإرشادية في مسائل الدين جميعها محوطة بالعناية القدسية من أن ينالها خطأ أو ينتابها زلل؟
وبينما كان اللاهوتيون يتراجعون من موقع بعد موقع، كان من ورائهم جمع من الجيوش الصغيرة العدد الضئيلة الأثر، فاضت على العالم النصراني بصور من التلميح والتعريض وألوان من السفسطة. ولقد وجهت كل الجهود إذ ذاك إلى غرض واحد هو تسويد ذكرى «غاليليو» من ناحية أخلاقه الشخصية. ولم ينس أعداؤه أن يعيدوا إلى الحياة ذكرى ما كان في أخلاقه من الشذوذ في عهد صباه، بل عمدوا إلى تضخيم الصغائر، وتكبير التافه من أمره. غير أن كل هذا كان ضئيل الأثر قليل الجدوى؛ حتى إنك تجد أن أعداء «غاليليو» - حتى في منتصف القرن التاسع عشر؛ أي في سنة 1850 - قد رأوا أن التراجع ضروري مرة أخرى، ولكن إلى مواقع أخذوا يرسلون منها قذائف جديدة، خصت بشيء من المهارة والدقة.
إن الوسائل الجديدة التي لجأت إليها الكنيسة تستحق عناية الذكر. كانت المستندات الأصلية عن محاكمة «غاليليو» قد أحضرت إلى باريس خلال غزوات «نابوليون بونابرت» في إيطاليا، ولكن الحكومة الفرنسوية ردتها إلى روما سنة 1846، بعد أن أخذت تلك الحكومة وعدا صريحا من السلطات البابوية بطبعها ونشرها. وقد عهد إلى المونسنيور «ماريني»
Marini
أن يكون واسطة نشرها على العالم.
كان هذا اللاهوتي من طابع أولاء من رجال الكنيسة الذين طالما رموا الكنيسة، كما رموا العالم بالبلايا والسيئات. فعلى الرغم من الوعد الصريح الذي وعد به البلاط البابوي، شاءت حكمة «ماريني» - أو شاء غروره - أن يكون أداة في يد السلطات الرومانية، تنكث بذلك العهد الكبير، وبكثير من الحذف والتحوير في كثير من المستندات، قد هيأ الأساليب لكل ضروب السفسطة والجدل الكلامي التي أريد بها تأييد عصمة البابا وصيانتها، كما أريد بها تحطيم سمعة «غاليليو» أن تبقى جلية واضحة دون الحق الثابت. وكان «ماريني» أول من بث تلك الضلالة الكبيرة، ضلالة أن «غاليليو» لم يحاكم ويحرم من جراء هرطقته بل لقلة أدبه.
والظاهر أن الأثر الأول الذي أحدثه كتاب المونسنيور «ماريني» كان مفيدا في الاحتفاظ بخط الرجعة الذي انتحاه المدافعون عن الكنيسة. ولقد كان في مساعدة كتاب من أمثال «وارد»
Ward
أثرا في وضع حائل يحول بين السلطات الرومانية وتذمر العالم الحديث.
غير أنه بعد قليل من الزمان ظهر باحث هو نقيض المونسنيور «ماريني» نزعة وأخلاقا، كان هذا الباحث رجلا فرنساويا، هو مسيو «ليبنوا»
L’Epenois
على أن «ليبنوا» كان مخلصا للكنيسة وفيا بعهدها كما كان «ماريني»، ولكنه لم يكن كما ماريني من حيث القدرة على الكذب والبهتان؛ فإنه في سنة 1867 وصلت يد «ليبنوا» إلى مستندات قضية «غاليليو» في قصر الفاتيكان، فنشر كثيرا من أشدها أهمية وأعظمها خطرا، من غير أن ينقص منها أو يزيد إليها، مسوقا إلى ذلك بنزعة الإنصاف وحب الحق لا بشعور الورع، ولا موحيات التقوى الكاذبة .
وبذلك تصدعت كل الحصون التي شيدت على ما جاء بكتاب المونسنيور «ماريني» فتراجع عنها المدافعون عن الكنيسة إلى مواقع أخرى.
أصبح المدافعون عن الكنيسة بهذا على حافة الهاوية؛ ولهذا أخذوا يعدون العدة لاقتحام موقعة فاصلة، بل لقتال اليأس والقنوط. فبدءوا يحيون فكرة أن البابوات والكنيسة قد أهينت كرامتهم واستهزئ بهم قرونا طوالا، معلنين أن بابوات روما «كبابوات» لم يحرموا قط آراء «كوبرنيكوس» و«غاليليو» ومذاهبهم الكونية، بل حرموها ولعنوها بصفتهم الشخصية كأناس يجوز عليهم الخطأ كما يجوز الصواب. وعلى هذا لا تتقيد الكنيسة بأعمالهم، وأن الاتهام والتحريم كانا من عمل الكرادلة وأعضاء محكمة التفتيش ومجمع الفهرست؛ لهذا غلت العناية القدسية يد البابا عن أن توقع على قراراتهم! وما من شيء هو أبلغ تعبيرا وأفصح بيانا عن روح اليأس التي تمشت في قلوب المدافعين عن الكنيسة من أمثال هذه المراوغات الغريبة. فإن الحقيقة الواقعة أن قرار الاتهام الرسمي الذي أذاعه «بيلارمين» سنة 1616 يعلن صراحة وبدقة أنه إنما يقرر ذلك الاتهام «باسم قداسة البابا».
وعلى الرغم من هذا فإنك تجد منذ عهد «أربان الثامن» ومن بعده أن سلطات الكنيسة خلال القرن السابع عشر برمته، قد مضت معلنة أن القرار كان باسم البابا والكنيسة. فإن «أربان الثامن» قد أعلن أن قرار سنة 1616 من عمل البابا «بولص الخامس» والكنيسة، وأن قرار سنة 1633 هو من عمله والكنيسة معا. كذلك قال البابا «إسكندر السابع» في أمره البابوي
Speculatores domus Israel
الذي أصدره سنة 1664 في صراحة وبيان، أنه يلعن ويحرم كل الكتب التي تؤيد مذهب دوران الأرض.
ولما أراد «غاسندي»
Gassendi
أن يدافع عن فكرة أن القرار ضد «كوبرنيكوس» و«غاليليو» لم تجزه الكنيسة، قام ثقة لاهوتي هو الأب «ليكازر»
Lecazre
عميد جامعة «ديجون»، وناقضه صراحة، معلنا «أنه لم تكن فئة من الكرادلة، بل هي سلطة الكنيسة العليا التي اتهمت «غاليليو»، وعلى هذا الرأي وافق من بعد البابا وبقية السلطات الكنسية بالكلام طورا، وبالبحث العميق طورا آخر.
ولما حاول «ديكارت» وغيره أن يتكلموا في هذا الشأن قوبلوا بالاحتقار والازدراء؛ فإن الأب «كاستللي » - وهو من أكبر أنصار «غاليليو»، بل من المخلصين له الوفيين بعهده، وكان علمه بما سوف يترتب على ذلك القرار لا يقل عن علمه بيد من وضع - قد ظهر في كتابه الذي وجه به إلى السلطات الكنسية مقتنعا بأنه من عمل الكنيسة وحدها وبلا شريك، وكذلك الكاردينال «كويرينغي»
Querengyhi†
في خطاباته، والسفير «جويشارديني»
Guicciardini
في بلاغاته و«بولاكو»
فيما كتب مدحضا أقوال رجال الكنيسة، والمؤرخ «فيفياني» في ترجمته عن حياة «غاليليو»، وكلهم كتب تحت عين الكنيسة وبوحيها، قد مضوا على الاعتقاد بأن البابا والكنيسة كلاهما اتهم «غاليليو»، ولم يرتفع من جانب «روما» صوت واحد ينكر ذلك أو يعارضه. ناهيك بأن محكمة التفتيش - ومن ورائها «بيلارمن» أكبر لاهوتيي ذلك العصر - قد قنعوا بهذا الرأي، وفضلا عن حقيقة أن «بيلارمن» قد أعلن صراحة بأنه يقيم قرار الاتهام «باسم قداسة البابا» فلدينا الفهرست الروماني، متضمنا قرار الاتهام أكثر من مائتي عام، وهو مصدر بأمر بابوي واضح الغرض، يفرض أن هذا الاتهام صادر بموافقة كل التابعين للكنيسة، وأنه مقيد لضمائرهم وخطرات نفوسهم صابا اللعنة الأبدية على «كل الكتب التي تؤيد مذهب دوران الأرض»، على أنه سرعان ما ظهر أن التغرير بالنفس في مواجهة كل هذه الحقائق، مضافا إليها أن «غاليليو» قد أجبر على أن يقسم مقاما عن «هرطقة الاعتقاد بدوران الأرض» خضوعا لأمر كتابي من البابا، كان بلا طائل أو جدوى.
لدينا تلقاء ما يدعي المدافعون عن الكنيسة من أن البابا غير مسئول، مجموعة هذه البراهين التي أدلينا بها، مشفوعة بالأمر البابوي الذي أصدره «الإسكندر السابع» سنة 1664، وهذا كاف في التدليل على أن الموقعة قد ربحها العلم، وخسرها اللاهوت.
عند هذا الحد وقف ذلك الصراع الكبير، وعدل عنه رجال على المذهب الكاثوليكي خصوا بسعة الصدر وحسن النية. ففي سنة 1870 اعتقد رجل من رجال الكنيسة الإنجليزية - ومن أخص المتعصبين للمذهب الكاثوليكي الروماني، هو الموقر مستر «روبرتس»
Rev. Mr. Roberts - أن الوقت قد حان للاعتراف بالحق، فطبع كتابا عنوانه «قرارات الحبر الأعظم ضد دوران الأرض»، وفيه أثبت أن السلطة البابوية استعملت كل وسائلها - ومن بينها العصمة من الخطأ - ضد نظرية دوران الأرض. ولقد أظهر هذا الكاثوليكي الأمين على الحق - من المستندات الأصلية المحفوظة في قصر الفاتيكان - أن البابا «بولص الخامس» قد ترأس المحكمة التي أصدرت قرار الحظر ضد فكرة دوران الأرض سنة 1616، والتي أجبرت «غاليليو» على الإقلاع عن مذهبه. وأثبت أن البابا «أربان الثامن» قد عمل جهد ما يستطيع سنة 1633 لتوطئة الظروف لإتمام الاتهام الأخير، متخذا على نفسه عبء كل مسئولية في المستقبل. ودلل في النهاية على أن البابا «إسكندر السابع» قد استخدم معتقد العصمة البابوية لتحريم «كل الكتب التي تبرهن على دوران الأرض»، بذلك الأمر البابوي
Speculatores domus Israel
الذي أضيف إلى الفهرست. وقال بعد ذلك إنه بناء على القواعد التي وضعتها سلطات الكنيسة العليا، وعلى الأخص في عصر البابا «سكتوس» الخامس و«بيوس» التاسع، لم يكن ثم مهرب من الوصول إلى هذه النتائج.
ولقد حاول كثير من اللاهوتيين أن يتقوا قوة براهين مستر «روبرتس» بوسائل غير مجدية. فلجأ البعض مثل دكتور «وارد»
Dr. Ward
ودكتور «بووي»
Bouix
إلى مفارقات دقيقة، وجمل خطابية منمقة، وخفف آخرون مثل دكتور «جريمياه مورفي»
Geremiah Murphy
عن أنفسهم ثقل الصدمة بحماسيات مزخرفة. وكانت نتيجة كل هذا أن أبرزت المطابع طبعة أخرى من كتاب مستر «روبرتس» أكثر إقناعا من سابقتها وأنصع برهانا. وفضلا عن هذا الكتاب ظهرت مقالة من قلم ذلك الكاثوليكي النابه مستر «سانت جورج ميفارت»
st. George Mivart
اعترف فيها بأن موقف مستر «روبرتس» ثابت لا يتزعزع، معلنا أن الله القادر على كل شيء قد أوقع البابا والكنيسة في ذلك الخطأ الفاحش تلقاء نظرية «كوبرنيكوس»؛ ليعلمهم أن العلم خارج عن ميدانهم، وأن القوامة على الحقائق العلمية متروكة للعلماء وحدهم دون غيرهم.
وفضلا عما تذرع به رجال الكنيسة من محاولات أرادوا بها حل تلك المعضلة، وعلى الرغم من توسلاتهم، فقد كفت صلابة مستر «جورج ميفارت» وأمانته لإنهاء الخلاف الجدلي من بين الكاثوليك على قدر ما اتسعت لآرائه عقول النابهين منهم.
أما إذا أردنا أن نعيد هذه الذكرى للأذهان مرة أخرى خلال هذا العصر الحديث، فلا يسعنا إلا أن نذكر جهدين صرفا نحو التوفيق بين الكنيسة والعلم، في ذكرهما فائدة ولذلة؛ لأنهما يدلاننا على مقدار ما تولى اللاهوتيين من حيرة في القرن التاسع عشر.
أما الجهد الأول فبذله «جون هنري نيومان»
John Henry Newman
في تلك الأيام التي تسكع فيها متراوحا بين الكنيستين الإنغليكانية والرومانية، قال في إحدى خطبه في جامعة إكسفورد:
تقول التوراة بأن الشمس تتحرك وأن الأرض ثابتة، ويقول العلم بأن الأرض تتحرك وأن الشمس ثابتة. كيف يمكننا أن نعرف أي الفريقين في جانب الحق قبل أن نعرف ما هي الحركة؟ فإذا كانت آراؤنا في الحركة ليست سوى نتيجة اتفاقية تقتضيها حواسنا الحاضرة فكلا الفرضين غير صحيح وكلاهما صحيح؛ كلاهما غير صحيح من الوجهة الفلسفية، في حين أن كليهما صحيح لتأدية بضعة أغراض عملية في النظام الذي توجد فيه كلتاهما.
وإنك لن تجد في كل ما ظهر من المؤلفات المضادة للاهوت أنفسها من قول هو أكبر من هذا مجلبة للشك، ومخبثة لليقين. ومن أجل أي غرض أراد هذا اللاهوتي أن يرمي شباب أكسفورد في أعماق ذلك الشك القاتل تلقاء وجود أي أساس للحق أو في أنه موجود وجودا مطلقا؟ لا لشيء سوى أن ينقذ من الدمار أسلوبا محطما من أساليب الفكر، شاءت الأقدار أن يولد ذلك اللاهوت في أحضانه.
وأما الجهد الثاني فقد أوحى به إلى «ده بونالد» ونما على صفحات «الدبلين رفيو» بسعي أحد مشايعي الكردينال «نيومان»، على ما عرف من أمره. ولم يكن ذلك الجهد بشيء، اللهم إلا التراجع من خط القتال بخدعة توجه ملامتها إلى الله الواحد القهار. قيل: «غير أنه يمكننا أن نشك في أن الكنيسة قد أعاقت خطا العلم عن أن تمضي في التقدم والارتقاء، لنقول بأن الذي أعاقها هو ذلك الظرف الذي اقتضى أن يضع الله كثيرا من متون التوراة في قالب يشعر ظاهره بإنكار دوران الأرض. غير أن الله هو الذي فعل هذا لا الكنيسة. وفضلا عن هذا فإن الله ما دام قد رأى أن الصالح في أن تعاق خطا الحقائق العلمية عن أن تنبعث في طريق النشوء زمانا، فليس من لوم على الكنيسة - حتى ولو صح ما ترمى به - إذا هي احتذت المثال الذي اختطته يد الله واتخذته إماما.»
ولم تبعث هذه البراهين من شيء في نفوس المفكرين بقدر ما بعثت فيهم من عوامل الاشفاق، وبواعث الرحمة بقائليها. على أن لهذا الأمر شبيها في التاريخ. وما يشبهه إلا تلك الجهود التي بذلها مستر «جوس»
Mr. Gosse
في سبيل التوفيق بين علم الجيولوجيا وسفر التكوين؛ بأن فرض أن الله - لغرض يخفى علينا ولا نستطيع إدراكه - قد خدع المفكرين خديعة كبرى، بأن خط على لوحة الأرض كل مظاهر النشوء خلال عصور متطاولة في القدم، بينما أن الحقيقة أنه خلقها في ستة أيام، كل منها نهار وليل لا غير.
على أن تدليل «ده بونالد» كتدليل «نيومان» كلاهما جهد القانط اليائس، الذي تمثل في لاهوتيي الكنيستين الإنغليكانية والرومانية، لتفوزا بإنقاذ شيء من اللاهوت المذهبي القديم، أن تناله - كما نالت غيره - معاول الهدم والتحطيم.
إن هؤلاء وأمثالهم لم يغرسوا في قلوب المفكرين من أهل الحرية إلا فكرة واحدة، فكرة أن هنالك صراعا ضروريا بين العلم والدين مثلهم في ذلك كمثل رجل يربط نفسه وهو فوق اليابسة في مرساة سفينة أخذت تغرق بين لجات اليم المتلاطمة. فإنهم ربطوا بين النصرانية وبين تلك الفكرات الخاطئة بأقوى خيوط استطاعوا أن يحيكوها من قواعد المنطق. ولو أن الغلبة قد تمت لهم لقضي على تقدم العلم والمعرفة قضاء مبرما. •••
وقد نتساءل من جهة أخرى: ماذا فعل العلم بالدين؟ لم يفعل من شيء، بل إن «كوبرنيكوس» لم يفلت من يد الكنيسة إلا بالموت، و«جيوردانو برونو» أحرق حيا كجبار من جبابرة الكفر والإلحاد، و«غاليليو» سجن وأهينت كرامته كأخبث من أقلت الأرض من الزنادقة، و«كيبلر» اتهم بأنه «يحاول أن يرمي مملكة المسيح في أحضان الفوضى بتخيلاته الفاسدة.» و«نيوتن» هوجم ولعن لأنه «أنزل يد العناية عن عرشها.» ومن طريق هؤلاء أسس العلم للدين دعامة أقوى من دعاماته الأولى ليقوم عليها، وزوده بحقائق وتصورات أنبل مما كان بين يديه، وأهدى سبيلا.
تحت ظلال المذهب الفلكي القديم نشأ فلكي الأمراء «ألفونسو أوف كاستيل»
Alfonso Of Castille
وهنالك رأى ما في نظرية بطليموس من منافاة للهدى والرشاد، وكان على جهل بغيرها. فرمى العالم الأوروبي بقذيفة من الكفر والإلحاد إذ قال بأنه لو كان حاضرا يوم خلق العالم لاقترح للكون نظاما أقوم من نظامه وأدنى إلى الحكمة. وتحت ظلال المذهب الفلكي الحديث قال «كيبلر» مملوءا إيمانا: «إني لا أستطيع أن أبلغ فكري إلى معرفة فكر الله.» على أن الفرق بين الروح الدينية المنبعثة من صدر هذين الرجلين، هو في الواقع أكبر مقياس يقاس به مقدار ما أنتج العلم في ذلك الصراع الكبير، من فائدة للدين.
وما من شيء هو أبعد عن فضيلة الأقساط في القول من أن تخص الكنيسة الرومانية بطابع خاص من اللوم والتقريع في كل تلك المقاومة التي لقيها العلم من اللاهوت. فإن الكنيسة البروتستانتية - ولو أنها لم تستطع أن تبلغ في كل الحالات من القوة ما بلغت نظريتها - إلا أنها تستحق من التقريع قسطا أوفى؛ فإن اضطهاد «غاليليو» وأنصاره قد وقع في أوائل القرن السابع عشر، في حين أن اضطهاد مختلف السلطات البروتستانتية لأمثال روبرنسون ثميت، وونشيل، وودرو، وتوي، وشباب أساتذة بيروت، كان في نهاية القرن التاسع عشر! وكذلك لا ننسى أن أنواع الاضطهاد التي أتاها الكاثوليك كانت ملائمة كل الملاءمة لتلك المبادئ التي عكف عليها الدينيون إذ ذاك - كاثوليك وبروتستانت - في نواحي العالم كله. أما الاضطهادات التي ارتكب جريمتها البروتستانت، فكانت لأسباب بعيدة جهد البعد عن تلك المبادئ التي تبعها البروتستانت، أو التي يزعم البروتستانت أنهم يتبعونها، بل ولم ترتفع من ناحية صيحة بالانتهاء إلى تلك المبادئ؛ فكانت أعلى من صيحة تلك الفئات التي اضطهدت رجالا من أنبغ رجال العصر، وهم فوق ذلك نصارى تكونت جريمتهم في نظر هؤلاء بأنهم كانوا من صفاء النفس ورجاحة العقل، بحيث فقهوا حقائق العلم التي ذاعت لعهدهم، وحملتهم شجاعتهم وأمانتهم على أن يعلنوا ثقتهم بها.
وليس من العدل في شيء أن تلهج البروتستانتية بلوم الكثلكة؛ لأنها حرمت تعليم حقائق علم الفلك في جامعات أوروبا الكاثوليكية خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر. في حين أن العلم الحقيقي المنتزع من أبحاث الجيولوجيا والبيولوجيا والأنثروبولوجيا قد أنكرت حقائقه، كما حرم تعليمه في جامعات أمريكا البروتستانتية وكلياتها خلال القرن التاسع عشر.
كذلك ليس من حق البروتستانتية أن تشير بشيء من الاحتقار للفهرست الكاثوليكي، ولا أن تعلق أهمية كبرى على أن كل كتاب ذا شأن في عالم العلم ظهر خلال الثلاثة القرون الفارطة قد ضم إليه ليحرمه المؤمنون، ما دمنا نرى أن شباب عصرنا الحاضر يغذون في الجامعات البروتستانتية الأمريكية «بفتات من الخبز مشبع بعصير الكنيسة» أكثر مما يغذون بلباب المعرفة الصحيحة، وأنهم لا يعطون إلا ما وافقت عليه سلطاتهم، في حين أنهم يظلون بعيدين عن الفكرة الحديثة في العلم، تلك التي بثها في العصر الحديث رجال من أمثال داروين وسبنسر وهكسلي ودريبار وليكي وغيرهم.
أما ما يحق للبروتستانتية أن تفخر به فهو أن بعض نواحيها التي تمثلت فيها نزعتها العصبية قد تحررت بالفعل. غير أن الكثلكة يحق لها أيضا أن تشير إلى حقيقة أن البابا «ليو الثالث عشر»
Leo XIII
قد أحدث تغييرا كبيرا - ملؤه النبالة وكرم الأخلاق - تلقاء مناقشة المستندات القديمة مناقشة حرة، وأن أيام المونسنيور «ماريني» قد انقضت وعفت آثارها؛ فإن مكتبة الفاتيكان بما تنضوي عليه من المادة التاريخية، قد فتحت أبوابها للباحثين من الكاثوليك والبروتستانت، بل قد أعطي هذا الحق لكل الناس على اختلاف نزعاتهم الدينية وتباين مذاهبهم.
أما الأخطاء القديمة، فإن العالم المتمدين جميعه قد وقع في أغلاط كبيرة تلقاءها، تساوى فيها الكاثوليك والبروتستانت. إن تلك الأخطاء لم تكن أخطاء الدين. إنها أخطاء المذاهب اللاهوتية التي استمدتها من نصوص الكتاب المقدس عقول خصت بالكثير من قصر النظر وضعف التدليل، وهي فوق ذلك مناقضة للكلمات الحكيمة والأعمال الرشيدة التي تؤثر عن مؤسسي المسيحية. على أن تلك المذاهب كثيرا ما ينسبها الجاهلون إلى نزعة الدين نفسه. ولقد قال أحد مشهوري اللاهوتيين من رجال الكنيسة الإنغليكانية المعاصرين قولة حق أشار فيها إلى «أن هؤلاء اللاهوتيين لما أعيوا عن التمييز بين الفجر وبين الضوء المنبعث عن حريقة امتد لهبها، قد انصرفوا وهم أعداء النور والضياء.»
الفصل الثاني
علم الجغرافية
(1) صورة الأرض
نجد بين كثير من القبائل المتوحشة بقايا فكرة أولية في أن الأرض عبارة عن قرض منبسط، أو خوان مسطح، عرشه السماء أو أن السماء قبة أو خيمة عظيمة تظلله، وأن السماء ترتكز على الجبال، كأنها أعمدة تحملها. ولا مرية في أن مثل هذا الاعتقاد طبيعي صرف، فإنه يوافق ظواهر الأشياء. ومن أجل هذا غزا ذلك المعتقد نواحي كثيرة من مختلف المذاهب اللاهوتية.
ولقد نما هذا الاعتقاد وبلغ نهاية التطور في عصور المدنية المصرية ومدنية الكلدان. أما النقوش الآشورية التي قرئت حديثا، فتمثل الإله «مردخ»
M. rduk
وقد أخذ في البدء بخلق السماوات والأرض. والأرض مستقرة على الماء، وفي جوفها «وادي الكوت». ومن فوقها تنتشر السماء وهي عبارة عن قبة مسدولة عند آخر الأفق من كل الجوانب مستقرة على قواعد برزت من «اللج العظيم» الذي يحيط بالأرض من جميع جهاتها.
وفي كلا الجانبين - الشرقي والغربي - من تلك القبة السماوية أبواب، تدخل منها الشمس في الصباح، وتنزلق خارجة منها في المساء. ومن فوق هذه القبة محيط عظيم، ينحدر في ذلك المحيط الذي يغشى الأرض عند آخر الأفق من جميع جهاتها، وتقوم السماء كفاصل يفصل بين الأرض وبين ذلك اللج المتلاطم فوقها أن يصعقها انقضاضا. ومن فوق كل هذا من فوق السماء والمحيط الذي يعلوها، تكون عليون، أو جوف السماوات العليا.
أما المصريون فاعتقدوا بأن الأرض مائدة منبسطة مستطيلة الشكل وأن السماء عرشها، وهي عبارة عن قبة زرقاء من المعدن الصافي. وفي أركان الأرض الأربعة تقوم العمد التي تحمل هذه القبة مستقرة عليها، ومن فوق هذه السماء الصلبة تكون «المياه المتلاطمة التي تعلو السقف العظيم».
وكانوا يعتقدون بأن العالم عندما كان عماء
chaos ، استطاع أحد الآلهة بقوته المفرطة أن يرفع المياه إلى العلاء وأن ينشرها من فوق القبة الزرقاء وفي السطح الأسفل من تلك القبة أو السقف أو السماء الصافية، أو ما شئت فسمها، تعلق النجوم لتنير الأرض، وأن المطر إنما يصيب الأرض إذا فتحت نوافذ السماء فانحدرت مياه المحيط الأعلى منها. وهذه الفكرة وغيرها من الفكرات ذات الآصرة بها، قد استمكنت من معتقد الفئات الكهنوتية في مصر، وتغلغلت في صميم لاهوتهم وفي علومهم المقدسة. وما تلك المعابد التي لا تزال قائمة حتى اليوم بعروشها المنمقة بالنجوم، والكوكبات والسيارات والإشارات الدالة على مناطق البروج، إلا رمزا حيا على ذلك المعتقد القديم.
ونجد في بلاد فارس نظريات جغرافية قد قامت على أمثال هذه التصورات ثم اندمجت في المتون المقدسة.
ومن هذه المآخذ ومن غيرها أعرق منها قدما، انتقل الميراث الجغرافي إلى العبرانيين. وإنك لتجد في كتبهم المقدسة جملا عديدة، خصت بالكثير في رائع التصور وجمال الوضع ترجع بك - إذا ما وقعت عليها - إلى كلتا الفكرتين المتقدمتين حينا بعد حين. فإنك كثيرا ما تعثر على قولهم: «أساس الأرض من فوق الماء»، و«ينابيع الغور الأبعد»، و«الدائرة المحيطة بسطح الغور»، و«القبة الزرقاء»، و«أعمدة السماء»، و«نوافذ السماء وأبوابها»، إلى غير ذلك من التعبيرات.
فلما أن أضربت الإنسانية بقدمها الثابت في معارج المدنية، اختمرت فكرات جديدة ونشأت آراء بكر، وعلى الأخص في ثنيات العقل اليوناني، تثبت كروية الأرض. ولقد روج هذه الآراء كثير من رجال المدرسة الفيثاغورية، وأفلاطون وأرسطوطاليس وغيرهم، على أن هذه الفكرات كانت غامضة يكتنفها الإبهام من نواح كثيرة، وتلابسها المتناقضات العقلية، غير أنها كانت أول ما فرخ من جراثيم الحق تلقاء شكل الأرض وصورتها، وظلت هذه الجراثيم حية في بيئة العقل متنقلة من جيل إلى جيل، حتى أسلم بها الزمان إلى عقول اندمج فيها الأسلوب اللاهوتي في الكنيسة النصرانية الأولى لدى إبانها، فبدأت هذه الجراثيم تشق لها نحو الحياة الدنيا طريقا مقتحمة أسياج اللاهوت، متخذة عقول مجموعة صغيرة من النابهين المفكرين ميدانا لجهادها، فأبرزوا إلى الوجود فكرة أن الأرض كرة تارة أخرى.
من آباء الكنيسة عصبة خصت بالكثير في بعد النظر وسعة العقل، سلطت عليها تقاليد المدرسة الفيثاغورية ترجيحا، وفكرات أفلاطون وأرسطوطاليس تحقيقا، أرادوا أن يذعنوا للقول بأن الأرض كرة، لو لم تذعر الأغلبية العظمى من ذلك الرأي جانحته إلى إنكاره. فلقد خيل إليهم أنه مهدم لنصوص التوراة. وما عنوا بذلك في الواقع إلا أنه مهدم للتفاسير التي فسروا بها التوراة، لا للتوراة نفسها. وكان «إيوسبيوس»
Eusebius
أول من حمل السلاح وأعلن الحرب.
مضى «إيوسبيوس» مقتنعا بما جاء في الإنجيل من قرب فناء الأرض وهلاك أهلها؛ ولذلك تراه في كل ما كتب قانعا بأنه ليس من شأنه أن ينقض الفكرة في كروية الأرض لأنها غير صحيحة علميا، بل لأن التفكير في مثل هذه الأشياء جهد ضائع وعمل بائر. قال موجها الكلام إلى الباحثين: «إننا لا يجب أن نفكر في مثل هذه الأشياء، لا لأننا نجهلها، بل لأننا نزدري عملا تذهب نتائجه سدى؛ ولهذا يجب أن نوجه بأرواحنا في سبيل أتم نفعا وأسرع إنتاجا. وقال «باسيل»
Basil - الذي عاش في قيصرية
Caesarea - إنه لمن أتفه الأشياء أن نعرف إذا كانت الأرض كرة أو أسطوانة أو قرصا أو أنها مقعرة الوسط.» وأشار «لاكتانتيوس»
Lactantius
إلى فكرة الذين يشغلون أنفسهم بعلم الفلك فقال بأنها فكرة «مرذولة معدومة النفع، بعيدة عن الذوق.» رافضا القول بكروية الأرض مستندا إلى التوراة والعقل معا. وكذلك استغل القديس «يوحنا كريسوستوم»
John Crysostom
نفوذه ضد هذا المعتقد. ولم تكن مقاومة «إفريم سيروس»
Ephraem Syrus
أكبر جهابذة الكنيسة السورية القديمة، والذي كان يدعى دائما «قيثارة الروح» بأقل عنادا وعسفا.
غير أن خواص أهل العلم الإنجيلي - ومنهم آباء، ومنهم أساقفة ذوو شهرة، من أمثال «تيوفيلوس»
Theophilus
الأنطاكي في القرن الثاني و«كليمان»
Clement
الإسكندري في القرن الثالث، وغيرهم عديد تتابعوا خلال القرون المتتالية - لم يقنعوا بأن يظهروا بمظهر الرافضين لنظرية قر رأيهم على أنها نظرية وثنية قديمة لا غير، بل أخذوا يكونون - مستندين إلى أناجيلهم - نظرية نصرانية جديدة تكونت على مر الزمان، بأن أضافت إليها إحدى الكنائس فكرة، وزودتها أخرى بغيرها، وهكذا دواليك حتى بلغت كمالها ومنتهاها. ولقد عمدوا إلى ما وصل إليهم من التقاليد الكثيرة التي نقلت إليهم عن العالم القديم وإلى الآية السابعة من الإصحاح الأول من سفر التكوين
1
فمضوا ثابتي اليقين بما جاء في التوراة من إشارات في أن الأرض كانت عند خلق العالم مغطاة بقبة صلبة القوام - أو «قبة زرقاء» - وأضافوا إلى ذلك ما عثروا عليه في سفر أشعياء والمزامير، والتي جاء فيها أن السماوات منتشرة «كستار» أو «كخيمة يعيش فيها الأحياء»، إذن فالكون عبارة عن منزل، أسفله الأرض وعرشه القبة الزرقاء التي يعلق فيها الواحد القهار الشمس لتحكم النهار، والقمر والكواكب لتحكم الليل. وأما السقف أو العرش فعبارة عن أرض سفلى لطابق أعلى فيه صهريج، يقول فيه أحد ثقاة اللاهوتيين إن شكله يقارب شكل «حوض الحمام» المعروف، ويحتوي على المياه التي هي كائنة من فوق القبة الزرقاء. أما تلك المياه فقد تنصب على الأرض بيد الله وملائكته من «نوافذ السماء» فتكون مطرا، رذاذا أو مدرارا. ولقد رجعوا في حركة الشمس إلى الاستشهاد بمقطوعات كثيرة في سفر التكوين، مزجوها بالغيبيات الميتافيزيقية مزجا تختلف نسبته، وظنوا بأن مجموع ما استمدوا من التوراة والإنجيل كاف لأن يثبت بأنصع برهان وأقوى دليل أن الأرض لا يمكن أن تكون كروية الشكل.
في القرن السادس انتهى ذلك التفصيل بما يصح أن يعتبر نظاما كاملا في حقيقة الكون، مستمدة أسسه من نصوص التوراة والإنجيل. كان واضع هذا النظام الراهب المصري قد «قوزماس إنديكو بليوستيس»
Cosmas Indico Pleustes
والحقيقة أن مصر قد ظلت نبعا فياضا ينضح بمختلف الآراء اللاهوتية التي انتحلتها كثير من الديانات القديمة. والواقع أن «قوزماس» قد نجح في أن يلزم الكنيسة الأولى تلك المعتقدات المصرية العتيقة التي بثت في تضاعيف الكهنوت المصري في حقيقة العالم، كما ألزم الكنيسة كاهن مصري آخر هو «أتناسيوس»
Athansius
المصري فكرة الأقانيم الثلاثة المندمجة في خالق واحد، يحكم نظام الكون كله.
قال «قوزماس» بأن الأرض عبارة عن معين منبسط، تحيط به بحار أربعة. ويبلغ أربعمائة يوم سفرا طولا ومائتي يوم عرضا، وفي حدود هذه البحار الأربعة الخارجية تقوم جدران عظيمة هائلة الحجم، تحوي كل ذلك البناء الكبير وتحمل من فوقها تلك القبة السماوية، وقد ثبتت أطرافها إلى أعلى الجدران بمادة فيها صفة الالتصاق.
قام هذا النظام على طريقة التفكير اللاهوتية وعلى العلم اللاهوتي، وظن أنه أحكم نظام وصل إليه العقل الإنساني، وأنه أكثر النظم انطباقا على حقائق التوراة والإنجيل. ولقد أيقن قوزماس وغيره من مفسري عصره بأن حقائق الإصحاح التاسع من رسالة العبرانيين
2
لدى الكلام في الهيكل، يفتح مغاليق النظام العالمي أمام العقل البشري، وعلى هذا اعتقد أن الكون قد وضع على مثال الهيكل العبراني؛ فهو إذن أشبه بعلبة مستطيلة الشكل. ولما أن عمد إلى التفاصيل رجع إلى سفر أشعياء حيث يقول: «الجالس على كرة الأرض وسكانها كالجندب الذي ينتشر السماوات كسرادق ويبسطها كخيمة للسكن.»
3
وإلى مقطوعة من سفر أيوب تذكر «عمدان السماء». ولقد كون من مجموع هذا نظاما، متخيلا أنه قد أوحي إليه بأسرار العلم ومغمضات الكون الأوسع.
أما تلك العلبة العظيمة فتنقسم إلى قسمين أو دورين أحدهما فوق الآخر. ففي الدور الأول يعيش الناس وتتحرك الكواكب. وهو يمتد ارتفاعا إلى القبة الصلبة الأولى أو القبة الزرقاء التي يعيش من فوقها الملائكة الذين وكل إليهم - كجزء من عملهم - أن يدفعوا عنهم ثم يجذبوا إليهم الشمس والسيارات رواحا وجيئة.
ثم يعمد بعد هذا إلى سفر التكوين مستندا إلى الآية المعروفة: «وقال الله ليكن جلد في وسط المياه. وليكن فاصلا بين مياه ومياه.»
4
وإلى غير ذلك من الآيات. ثم ينتهي إلى المزامير حيث تذكر: «سبحيه يا سماء السماوات ويا أيتها المياه التي فوق السماوات.»
5
ولقد ترى «قوزماس» بعد التوسع الكبير في هذه الآراء والنصوص يصب الجميع في إناء واحد ليحمي عليها من وقود خياله حتى تنضج، فتخرج نظرية قوامها أن فوق القبة السماوية الأولى حوض عظيم يحوي «المياه». ثم يعود ثانية إلى سفر التكوين مستندا إلى القول «بنوافذ السماء» ليضع نظرية أخرى يعلل بها سقوط المطر على الأرض فيزعم بأن الملائكة لا يقتصر عملهم على رفع الأجرام السماوية وجذبها رواحا وجيئة لتنير الأرض، بل إنهم مكلفون فوق ذلك بفتح نوافذ السماء وغلقها ليطفئوا ظمأ الأرض ويحيوا مواتها.
ولما أراد «قوزماس» أن يفهم كيف يتكون سطح الأرض، رجع إلى أسلوب التفسير الذي اتبعه «أوريغن»
Origen
وغيره من آباء الكنيسة في عصورها الأولى، وأكب على درس مائدة الخبز المقدس - خبز التقدمة - التي تكون في الهيكل العبراني. ولقد أثبت سطح تلك المائدة «لقوزماس» أن الأرض سهل منبسط انبساطا، كما أثبت اتساعه أن عرض الأرض هو بمقدار نصف طولها.
أما أركانه الأربعة فتمثل فصول السنة: الصيف والشتاء والربيع والخريف. وتشير الاثنا عشر رغيفا التي توضع فوقها إلى شهور السنة. والفراغ الذي يحيط بتلك المائدة إنما يرمز به إلى المحيط العظيم الذي يغشى الأرض من جميع جهاتها. ومن أجل أن يعلل حركة الشمس، اعتقد «قوزماس» أن عند طرف الأرض الشمالي يقع جبل عظيم، خلفه يكون مقر الشمس أثناء الليل. غير أن بعض الذين علقوا على كتاباته قد أبدوا بعض الشك في هذه الفكرة، ليقولوا بأن الشمس إنما تدفع إلى حفرة إذا جن الليل، ثم ترفع منها عند تنفس الصباح.
وما من شيء هو أبعث على الانفعال الهادئ من تلخيص «قوزماس» لمجمل نظرياته الكونية؛ إذ يقول: «لهذا نقرر مع «أشعياء» بأن السماء التي تتضمن هذا الكون الفسيح عبارة عن قبة صلبة القوام، ونقضي مع «أيوب» بأنها متصلة بالأرض، ونسلم مع «موسى» بأن طول الأرض أعظم من عرضها.» ولم ينته من مقالته هذه إلا وهو يؤكد أن ليس موسى والأنبياء وحدهم، بل الملائكة والحواريون أيضا، متفقون على ما في مذهبه من حق، وأن الله في اليوم الآخر سوف ينزل غضبه على كل من لا يسلم به، أو يتشكك فيه.
وهذه النظرية، على الرغم من أنها مستمدة من نصوص التوراة، فإنها - كما رأينا من قبل - نتيجة تطور طويل في الفكرة اللاهوتية، أخذت بوادره تظهر في ثنايا العقل الإنساني من قبل أن تكتب أسفار التوراة والإنجيل والمزامير بزمان طويل. وليس من غرابة في أن «قوزماس» - وهو مصري كما تعرف - يعمد إلى هذا المذهب الذي نشأ وترعرع على ضفاف النيل وفوق أرض مصر منذ أبعد عصور المدنية وعلى الصورة التي نراه ممثلا بها في النقوش التي لا تزال قائمة على جدران المعابد المصرية القديمة، وأن يشد ذلك المذاهب من أطرافه مستعينا بأسفار التوراة العبرانية، حتى يخرج منه بمذهب يدمجه من تضاعيف المعتقد النصراني. غير أن عالم اللاهوت بأجمعه كان على جهل تام بحقيقة تلك ذلك التطور الأولي الذي بدأ في عصور الوثنية. فإن نظرية «قوزماس» قد قبلت على أنها وحي أنزل على قلبه، وما لبثت أن اعتبرت في عالم الدين كحصن حصين ثابتة أسسه على الأسفار المقدسة. ولقد وقف كثير من جهابذة الكنيسة أنفسهم على تنمية هذا المذهب، عاملين على تقويته بكثير من نصوص الكتب المنزلة حينا، أو متوسعين فيه من طريق الأسلوب اللاهوتي حينا آخر. أما المؤمنون فاعتبروه هبة عظمى حباهم بها الواحد القهار. ولقد ظل هذا المعتقد ثابتا حتى نهاية القرون الوسطى. فإنك ترى «يوحنا سان غنيميانو»
John st. Genemiano
قد بذل أقصى الجهد في الدفاع عنه والنضح عن حياضه. ولقد حذا حذو «قوزماس» في أن يتخذ الهيكل العبراني لآرائه عمادا، مظهرا كيف أن الفكرات الحديثة في شكل الأرض وسعتها وزينتها من الممكن التوفيق بينها وبين النصوص الإنجيلية المنزلة.
من هذا المعتقد القديم في حقيقة الكون وأنه عبارة عن سكن أو منزل، السماء طابقه الأعلى، والأرض طابقه الأسفل؛ فاضت آراء لاهوتية كثيرة حشيت بها الميثولوجيا الوثنية واليهودية والنصرانية. وفي تضاعيف تلك الميثولوجيا تغلغلت أساطير عن ذوات فانية أرادت أن تصل إلى طابق الكون الأعلى، متسلقة من طابقه الأسفل. ومن أخص هذه الأساطير اليونانية التي نشأت حول اسم «ألويدا»
Aloidae
الذي حاول أن يصل إلى السماء بأن يجمع الجبال أكداسا بعضها فوق بعض، ولكنها تحطمت وصعقت للحضيض. ومنها الأساطير الكلدانية والعبرانية في ذلك الجبار الذي أراد أن يبني في «بابل»
Babel «برجا يصل من فوق قمته إلى السماء»، ذلك البرج الذي تدلى الحي القيوم - على معتقدهم - من عليين ليمتع به نظره ويراه، فأمر باختلاف الألسنة واللغات ليقف إتمامه، ويصد بانيه عن غرضه. ومنها الأسطورة الهندية في تلك الشجرة التي أرادت أن تبلغ إلى السماء ارتفاعا وأعاقها «براهما»
Brahma . ومنها الأسطورة المكسيكية في أولئك الجبابرة الذين أرادوا أن يبلغوا السماء ببناء هرم «شولولا»
Cholula
والذي انصبت عليه من السماء نيران جعلته قاعا صفصفا.
ولقد كانت هذه الفكرة الجغرافية سببا في انتشار أساطير ظلت حية وارفة الظل آلافا من السنين؛ فالصعود إلى السماوات العلى والهبوط منها، ورفع الأحياء إلى السماء وانتقال الموتى إليها بعد أن يقضوا نحبهم في هذه الحياة الدنيا، والتبشير السماوي، وقبض الذوات الفانية في السماء ورجوعهم إلى الأرض، وطيران الملائكة في الفضاء بين الأرض والسماء، والصواعق المنقضة منها، والرياح الزعازع المنبعثة على الأرض من جوانبها، والأصوات التي تخاطب من الطابق الأعلى رجالا في الطابق الأسفل، وفتح أبواب السماء أحيانا لإنزال الرحمة والخير على العباد الصالحين، والإشارات والعجائب التي تظهر في السماء لإرهاب الأشقياء الصالحين، إلى غير ذلك من صنوف العلاقات، من المعتقد الوثني في هبوط الإله لتأدية كل صنوف الرسالات الشفوية، ونزول الحي القيوم إلى «جنة عدن» ليتنزه لدى اعتدال الهواء أثناء النهار، إلى معتقد النصارى في انقضاض «القديس بولص» على سوق «البندقية» ليحطم الأغلال، التي صفد بها عبد من العبيد، كل هذه الأشياء صور مختلفة تشكلت فيها الأساطير الدينية التي قامت على تلك الفكرة الجغرافية، متطورة من صورة إلى أخرى على مر الأجيال.
غير أن خطأ النشوء والتطور في تلك الفكرة لم يقف عند هذا الحد، فمن الطبيعي أن يعتقد كل من ينظر في حقيقة العالم هذه النظرة، بأن السماء ما دامت علاء، فإن جهنم
6
لا بد من أن تكون حضيضا. وأن الرفع إلى الأولى يناظره الإهباط إلى الثانية. وما دامت جهنم على ما ترى من القرب إلى الأرض، فإنه من الطبيعي أن يستطيع سكانها أن يتدخلوا في أعمال أهل الدنيا تدخلا مباشرا دائما، وأن يكون تدخلهم موضوع بحوث مستفيضة تحثى بها بطون الكتب خلال القرون الوسطى. ولقد كان لهذا الموضوع من عبقرية «دانتي » نصيب وافر؛ فإنه استطاع بما خص به من قوة الوصف أن يجلو سر هذا التصور، تصور جهنم وسكانها، مصبوبا في قالب واضح من لغته الساحرة، حتى لقد ظلت بعض الصور التي تقلبت فيها هذه الفكرة سياجا حصينا ضد البحوث الجغرافية عن أن تنبعث في سبيلها المحتومة زمانا. فإن كثيرا من السياح الذين لم تكن لترهبهم الأنواء ولا قوة القرصان، قد انثنوا عن عزمهم خائفين من أن تبتلعهم وسفينهم فوهة من فوهات جهنم، التي كان يعتقد في ذلك الزمان اعتقادا عاما بأنها تقع في عرض المحيط الأطلانطيقي، وعلى مسافة غير معروفة من شاطئ أوروبا. وكان هذا الخوف الذي استمكن من قلوب السائحين المقتحمين لمخاطر البحار، صعوبة من أكبر الصعاب التي قامت في وجه «خريستوف كولمبوس» لدى أول شروعه من رحلته المبرورة. ولقد عثرت في كتاب هو بمثابة متن مختصر أراد وضعه أن يعبر فيه عن حقائق العلم في صورة محاورة كتبت في القرون الوسطى، على السؤال والجواب الآتيين: لماذا تكون الشمس شديدة الأحمرار عند المساء؟ - لأنها إذ ذاك تكون مواجهة لجهنم!
غير أن جرثومة الحقيقة العلمية التي فرخت في العقل الإنساني خلال العصور الأولى كانت لا تزال حية، جرثومة الاعتقاد بالحقيقة الجغرافية الكبرى في كروية الأرض. وعلى الرغم من أن العديد الأوفر من آباء الكنيسة الأولين، وعلى الأخص «لاكتانتيوس» قد نصبوا أنفسهم للقضاء على هذه الحقيقة وتحطيمها مستندين إلى الأقوال المنسوبة إلى «أشعياء وداود والقديس بولص»، فإن الفكرة الصحيحة التي تكونت في عقل «إيودكسس»
Eudoxus
وأرسطوطاليس لم تنس ولم يلفظها العقل الإنساني في القرون الوسطى. ولقد أيد هذه النظرية «كليمان الإسكندري» و«أوريغن»، كما أجازها القديس «أمبروز»
st. Ambrose
والقديس أوغسطين
st. Augustine
وبعد أن ظل نفوذ «قوزماس» قرنا من الزمان مبسوطا على العقل الأوروبي مخيما عليه بسلطانه، عادت هذه النظرية فاستمدت روحا وحياة من إيزيدور الإشبيلي
Isidore of Seville
وهو من أكبر رجال الكنيسة الذين عاشو في جنوبي أوروبا، ومن الذين ضحوا كثيرا من حقائق العلم انتصارا لوحي اللاهوت، ولكن هذه النظرية شذت عن القاعدة اتفاقا. وفي القرن الثامن صادفت هذه النظرية تعضيدا آخر؛ إذ أعلن «بيده»
Bide - وكان من أوسع رجال الكنيسة نفوذا في شمالي أوروبا - مشايعته لها، وعبثا ما كان من أمر الذين يؤيدون النظرية المقدسة في شكل الأرض؛ فإن الحياة الجديدة التي تمشت في تضاعيف الحق القديم الموروث عن العالم الوثني قد زادت قوة، على الرغم مما أعلن عليها من الحرب وصنوف الاضطهاد طويلا. ولقد أذعن للحقيقة رجال ثقات عاشوا في أواخر القرون الوسطى أمثال «ألبرت الكبير»
Albert the Great
والقديس «توماس أكونياس»
st. Thomas Aquinas
و«دانتي»
Dante
و«فنسنت بوفييه»
Vinoent Beauvais ، إذ شعروا بضرورة الاعتقاد بكروية الأرض، كما أنك كلما تقدمت على الزمان خطوة بالغا حدود العصور الحديثة، ألفيت أن العديد الأوفر من المفكرين قد قبلوا هذه الحقيقة واعترفوا بصحتها. أما القائمون بحركة «الإصلاح البروتستانتي» فلم يذعنوا لهذه الحقيقة كل إذعان بداءة ذي بدء. فإن «لوثر»
Luther
و«ميلانكوتون»
Malanchoton
و«كالفن»
Calvin
كانوا ثابتي اليقين فيما يوحي به ظاهر التوراة. حتى إنك لتجد أن «زونيجلي»
Zwingli
على الرغم مما خص به من سعة الفكر كان جامدا كل الجمود إزاء هذه الحقيقة، ومضى قانعا بما أوحى به آباء الكنيسة من آراء في القبة السماوية العظيمة أو السقف، الذي يفصل بين السماء والأرض. بل اعتقد بما كانوا يقولون به من وجود ذلك اللج العظيم المعلق فوقه والملائكة، ومن تحته الأرض والناس.
وكان الفرض الذي رمى إليه زعماء الإصلاح البروتستانتي من النظرة نظرة مستقلة في هذا الموضوع العام، هو الانصراف مع تأملات فاسدة في الكون وفي تضمنه لجنة الخلد، وفي حقيقة الخطاب الذي دار بين الأفعى وبين حواء، وأمثال ذلك.
ولقد زادت الحالة سوءا خلال الزمان الذي عقب حركة الإصلاح مباشرة. فإن التفسيرات التي فسر بها «لوثر» و«ميلانكوتون» آيات التوراة قد أصبحت في نظر أتباعهم مقدسة كنصوص التورة نفسها. ولما أن جرأ «كالكست»
Calixt
لدى تفسيره المزامير، على أن يناقش المعتقد الثابت في حقيقة أن «المياه الكائنة من فوق السماء إنما يحويها وعاء عظيم تعضده قبة صلبة القوام» لم ينل إلا الطرد من الكنيسة منبوذا جزاء هرطقته.
في الجزء الأخير من القرن السادس عشر فسر «موساوس»
Musaeus
عبارات سفر التكوين على اعتقاد أن الله خلق السماء باعتبار أنها سقف أو قبة، وتركها ثلاثة أيام تهتز متراوحة اهتزاز الرقاص، حتى وضع الأرض من تحتها فتثبت. غير أن الفكرة العلمية في حقيقة صورة الأرض ربحت الموقعة وتم لها النصر؛ فإن أكثر المؤمنين ثقة بما تنم عليه ظاهر الأسفار المقدسة لم يلبثوا أن اضطروا إلى اتباع طريقة التوفيق بين هذه الحقيقة، وبين نظرياتهم اللاهوتية جهد ما استطاعوا. (2) تخطيط الكرة الأرضية
ثبت عند كل أمة من الأمم القديمة - على وجه الإطلاق - اعتقاد بأن مدينتها الكبرى، أو مكانها المقدس هو بالضرورة مركز الأرض.
فاعتقد الكلدانيون بأن «بيت آلهتهم المقدس» هو المركز. في حين أن المصريين خططوا الأرض على صورة شبح بشري، مصر قلبه وطيبة وسطه ومركزه. أما الآشوريون فكانوا على أن المركز «بابل» والهنود على أنه جبل «ميرو»
Mountmeru
أما اليونانيون، فاعتقدوا بأنه جبل «أولمبوس»
Olympus
أو معبد «دلفوس»
Delphi
والمسلمون على أنه مكة وحجرها المقدس.
7
ولا يزال الصينيون يسمون إمبراطوريتهم حتى اليوم «الدولة الوسطى». واتباعا لهذه القاعدة وعلى مقتضى نزعات العقل البشري، خيل إلى العبرانيين بأن أورشليم مركز الدنيا.
وينص سفر «حزقيال»
Ezekiel
على أن أورشليم إنما تقع في مركز الأرض، وكل ما عداها من بقاع العالم يقع حفا في المدينة المقدسة. وظل هذا الاعتقاد خلال كل «عصور الإيمان» معتبرا عند جميع الناس وحيا أنزله الواحد القهار ليعرف الناس صورة الأرض من طريقه. ولقد أعلن «القديس جيروم»
Jerome
أكبر ثقات الكنيسة الأولى في العلم الإنجيلي، معتمدا على ما أتى به «حزقيال» من أن أورشليم لا يمكن أن تكون في مكان، ما لم تكن في مركز الأرض. ورجع من بعد ذلك «رابانوس موراس»
Rabanus Maurus
وكان رئيس أساقفة في القرن التاسع؛ يجدد من شباب هذه الفكرة، ويبعث فيها حياة جديدة. وفي القرن الحادي عشر أخذ «هيو أوف سان فيكتور»
Hugh of st Victor
يؤيد هذا المذهب بنصوص استمدها من التوراة. ثم أعلن البابا «إبان» في خطابه العظيم في «كليرمون»
Clermont
ليحرض الفرنجة
Franks
على القيام بالحروب الصليبية بأن أورشليم هي في مركز الأرض لأوسط وذكر سيزاريوس أوف هيسترباخ
Ceasarius of Heisterbach ، وكان من مشهوري اللاهوتيين في القرن الثالث عشر، معلنا «أنه كما يكون القلب في مركز الجسم كذلك تقع أورشليم في وسط أرضنا المسكونة» واثقا من «أنه لهذا السبب صلب المسيح في مركز الأرض». وقبل «دانتي»
Dante
هذه الخرافة على أنها حقيقة واقعة، وبثها في تضاعيف أشعاره الخالدة، وكذلك تجد في كتاب السياحة المنسوب إلى القديس «يوحنا مندفيل»
John Mandville
وكان كثير الذيوع خلال القرون الوسطى، أن أورشليم إنما تقع في مركز الأرض، وأنه إذا رشق هنالك في الثرت رمح بحيث يكون أفقيا تماما، فإنه لا يلقي بظل ما على خط الاعتدال.
ولقد أصبحت تقريرات «حزقيال» مثال ما يحتذى أهل الأورثوذكسية من واضعي الخرائط الجغرافية في العصور الأولى. ولقد دلت الخرائط الجغرافية التي وضعت إذ ذاك، وعلى الأخص خريطة العالم المحفوظة في كاتدرائية «هيرفورد»
Hereford
والخرائط التي وضعها «إندريا بيانكو»
Andrea Bianco
و«مارينو سانوتو»
Marine Sanoto
وكثير غيرهما، إلى نتيجتين؛ أولاهما: هي أن يثبت هذا الاعتقاد في أذهان الناس، وثانيتهما: هي أن يبعث المعتقد العام من التثبيط في همم الباحثين الذين حالوا أن يثبتوا خطأ هذا المذهب، ما يقعد بهمتهم طويلا.
على أن المفكرين في القرون الوسطى لم يقفوا عند هذا الحد. فإنهم خضعوا لوجهة النظر التي سادت في تلك الأزمان، والتي كانت تلزم الناس الاعتقاد بأن الحقائق الفوسيقية، لا ينبغي أن يبحث عنها في حيز خارج عن ذلك الحيز الذي حددته المقولات اللاهوتية، تطور ذلك المذهب تطورا خطيرا، محصلة أن ليس موضع الصليب في مدينة القدس هو الذي يحدد مركز الأرض الجغرافي لا غير، بل إن في هذه البقعة التي قام عليها الصليب نبتت الشجرة التي حملت تلك الثمرة المحرمة في جنة الخلد، وعلى هذا تجد أن العلم الجغرافي قد بلغ حدا استطاع عنده الباحثون أن يصبوه في قالب محبوكة أطرافه على المعتقد اللاهوتي.
ولقد فرح المؤمنون بما أتاهم به ذلك المذهب من علم. ولا يدلك على هذا من شيء مثل تلك الكتب التي نشرها مهاجرون هبطوا إلى فلسطين في القرون الوسطى؛ فإن هذه الكتب تزودك في طوال تلك العصور براهين تثبت لديك حينا بعد حين، أن هذا المذهب قد أصبح من أثمن الحقائق التي يفخر بها المؤمنون سواء في الجغرافية أم في اللاهوت. ولقد ظل هذا المعتقد ثابتا أواخر القرن السابع عشر، حتى إنك لتجد أن الكاهن الفرنساوي المشهور «إيوجين روجر»
Eugene Roger
في كتابه الذي تكلم فيه عن سياحته في فلسطين عام 1664 يعمد إلى الإصحاح الثامن والثلاثين في سفر «حزقيال»، وإلى نصوص في سفر «أشعياء»
Isalah
ليثبت أن مركز الأرض الحقيقي يقع في نقطة على رصيف الكنيسة التي تتضمن القبر المقدس. وأن في هذه النقطة نبتت الشجرة التي حملت الثمرة الملعونة، وقام الصليب الذي صلب عليه المسيح.
ولم يكن هذا التصور الباطل وحده هو الذي شق لنفسه طريقا إلى الخرائط الجغرافية التي صنعت في القرون الوسطى. فهنالك تصوران يظهران جليين على صفحة تلك العصور.
الأول: ذلك الفزع المبهم الغامض الذي ألقاه في روع الناس اعتقادهم باطلا بيأجوج ومأجوج. وقليلا ما تجد في العهد القديم - التوراة - من مقاطيع تفوق في عظمتها وروعتها تلك التي أوردها «حزقيال» في تعذيب هؤلاء الأعداء الألداء. ناهيك بتلك المقطوعة المعروفة في سفر رؤيا «يوحنا» اللاهوتي
Apocalypse
فإنها قد ربطت بين الشعور العبراني تلقاء يأجوج ومأجوج، وبين تصور جديد ثبتت أصوله في صميم الكنيسة النصرانية الأولى. ولهذا تجد أن واضعي الخرائط الجغرافية في القرون الوسطى قد عانوا أشد النصب في تصوير هذه المسوخ المفزعة، وتحديد مواطنهم على الخرائط. ومضت قرون طوال والناس يعتقدون أن أية خريطة جغرافية خالية من ذكرهم، لا يمكن أن تنال رضاء المحافظين من أصحاب الكنيسة.
أما التصور «الثاني» فمستمد مما ذكر في الأسفار المقدسة عن «الرياح الأربعة». ولقد قام على هذا التصور اعتقاد ثابت في حقيقة وجود هذه الرياح، فظهرت رموزها على الخرائط الجغرافية في صورة أدمغة عظيمة الحجم، منتفخة الوجنات، ترسل رياحا زعازع في اتجاه أورشليم.
ولقد نجد - حتى بعد أن زالت هذه التصورات واكتسحت من عالم الفكر الإنساني - دلائل توحي إلينا بين حين وحين، أن الناس قد عانوا أشد الصعاب وأمض الشكوك في رفض تلك الفكرة التي قامت على تفسيرات فسرت بها الأسفار المقدسة، والتي كانت تلزمهم الاعتقاد بأن سلطات السماء إنما تتدخل تدخلا فعليا مباشرا في تسيير الظاهرات الطبيعية الواقعة من حولهم. وآية ذلك أنك تقع على خريطة جغرافية وضعت في القرن السادس عشر مثلت الأرض بكرة وفي كل من قطبيها ذراع ملتو، وبجانبه ملك يجد عاملا على تحريك الأرض بهذا الذراع حول محورها. وترى في خريطة أخرى أن يد الله قد امتدت من بين السحب رافعة الأرض بحبل متين يفتله بين إبهامه وسبابته لتدور الأرض. حتى إذا ما انحدرت مع الزمان إلى أواسط القرن السابع عشر ألفيت «هايلين»
Heylin
أشهر ثقات الجغرافيين من الإنجليز، قد نزع طافرا إلى المزج بين العلم واللاهوت؛ فقد حاول أن يجعل أحدهما يؤيد الآخر على الطريقة التالية. «المياه مع الأرض كتلة واحدة، ولكن المياه أعلى من الأرض؛ أولا: لأن الماء إن كان جسما إلا أنه أقل من الأرض ثقلا، وثانيا: لأن المسافرين بحرا قد لاحظوا أن سفنهم تسرع حركتها كلما أقدمت على الشاطئ كما تقل إذا مضت مبتعدة عنه، وأن لا سبب لذلك إلا أن المياه أعلى من الأرض، وثالثا: إذا وقفنا على الشاطئ نجد أن المياه تأخذ في الارتفاع شيئا فشيئا حتى إذا بلغت الأفق ظهرت كتلا مستديرة تحجب ما وراءها، وعلى هذا لا يمكننا أن نعلل ارتفاع ماء البحر عن الأرض من غير أن يغشاها، إلا بإرادته القدسية التي اقتضت أن تقف المياه كتلة واحدة، وأن لا تعود تغشى الأرض مرة أخرى.» (3) سكان الأرض
بينما كان المذهب في كروية الأرض لا يزال يهتز متراوحا بين متناوح رياح الفكر، بعث من العدم سؤال آخر خيل إلى اللاهوتيين أنه أشد من كروية الأرض خطرا وأبلغ أثرا، فإن القول بكروية الأرض قد أدى بطبيعة الحال إلى التفكير في سكانها الآهلة بهم، وهنالك أفرخت جرثومة قديمة من جراثيم الفكر الخالد، فانتعشت عائدة إليها الحياة في صورة فكرة، هي فكرة الأنتيبود
Antipode
ويقصد بهم الخلائق البشرية الذين يقطنون في الجهات المقابلة لمواطننا من كرة الأرض.
ولقد لقيت هذه الفكرة في كلا العالمين - اليوناني والروماني - مؤيدين ومفكرين، وكان «شيشرون»
Cicero
و«بلينيوس»
من مؤيديها، كما كان «أبيقور»
Epicurus
و«لوكرشيوس»
Lucretius
و«بلوتارك»
من منكريها. وعلى هذا تنقلت هذه النظرية في منازل الزمان حتى بلغت إلى الكنيسة الأولى محتاجة إلى حل يبلغ بها معارج اليقين.
ممن بادر من رجال الكنيسة إلى الكلام في هذه النظرية في الشرق القديس «غريغوري نازيانزن»
Gregory Nazianzen
فمضى مظهرا أن السفر بحرا إلى ما بعد بوغاز جبل طارق مستحيل. ولقد جاراه في الغرب «لاكتانتيوس» متسائلا: «هل يوجد من شخص عدم قوة التمييز إلى درجة أن يعتقد بوجود أناس مواطئ أقدامهم أعلى من رءوسهم؟ وأن المزروعات والأشجار تنمو إلى أسفل؟ وأن المطر والجليد يصيب سطح الأرض من تحت إلى فوق؟ وإني لشديد الحيرة كيف أقول في أولئك الذين أخطئوا في الفكر مرة، ثم مضوا على خطئهم عاكفين مدافعين عن شيء بأشياء أخرى، وكلها باطلة.»
وليس لنا أن نأسف على شيء من ذلك النزاع الذي رفع ألويته «غريغوري» و«لاكتانتيوس» فإن هذين الرجلين مهما كانت منازعهما، فإنهما لم يفعلا من شيء سوى أنهما دافعا عن معتقدهما الموروث القائم في رأيهما على القانون الطبيعي والمرجحات العقلية.
غير أنه لسوء الحظ لم تقف موجة المناقشة عند حدود العلم والفلسفة فلم تخطها؛ فإن كثيرا من مفكري النصارى قد ظهروا في الميدان، متسلحين بنصوص من الأسفار المقدسة، وسرعان ما أصبح النزاع لاهوتيا تجري في تضاعيفه أساليب أهل اليقين. وعلى هذا تسعرت نيران التعصب ضد معتقد «الأنتيبود» وأصبح أمرا مذهبيا صرفا. وهبت الكنيسة العظمى تقاومه وتنوء عليه بقواتها، وفي المقدمة آباء الكنيسة يقودون فيالق المؤمنين.
لقد ثبت الاعتقاد عندهم جميعا بأن الفكرة خطرة، كما ثبت عند أكثريتهم أنها محرمة منبوذة. أما القديسان «باسيل»
Basil
و«أمبروز»
Ambrose
فقد بلغ بهما التسامح إلى حد أن يقولا بأنه من الممكن أن ينال الخلاص الأخروي، رجل يرى أن الجانب الآخر من الأرض مأهول بالناس والخلائق. غير أن العديد الأوفر من آباء الكنيسة قد أبدوا كثيرا من الشك في خلاص أولئك الذين يرون ذلك الرأي، على اعتبار أنهم فاسقون عن عهد الإيمان.
أما البطل الأعظم الذي تكثفت من حوله قوة الدفاع عن وجهة النظر الأورثوذكسية فكان القديس «أوغسطين»
Augustine
وعلى الرغم من أنه قد أظهر بعض الميل إلى الاعتقاد بكروية الأرض، فإنه حارب فكرة وجود أناس على الجانب الآخر منها حربا عوانا مستندا إلى القول بأن «التوراة لا تذكر من أبناء آدم سلالة كهذه.» ولقد مضى قانعا بأن الله القادر على كل شيء لا يسمح لأناس بأن يعيشوا في تلك البقاع؛ لأنهم لا يستطيعون أن يروا المسيح لدى عودته ثانية هابطا على الأرض من السماء مجتازا أطباق الهواء. غير أن أقوى ما لجأ إليه من البراهين، كان المزمور التاسع عشر، وما أيده من النصوص في الرسالة إلى الرومانيين وأنه لبرهان تنقل صداه من لاهوتي إلى لاهوتي خلال ألف كاملة من السنين، رجع إلى نص في ذلك المزمور يقول: «في كل الأرض خرج منطقهم وإلى أقاصي المسكونة كلماتهم.»
8
ومن ثم عمد - بأقصى ما أوتي من قوة - إلى حقيقة أن القديس «بولص»
st. Paul
قد بنى نظرية من أقوى نظرياته إقناعا، وأشدها بالألباب أخذا، على هذا النص عندما تكلم عن المبشرين بالإنجيل، وأنه أعلن بإيضاح تام في رسالته إلى الرومانين قائلا: «بلى إلى كل الأرض خرج صوتهم وإلى أقاصي المسكونة أقوالهم.»
9
وعلى هذا تجده يصرح في اعتقاد ويقين بأن هؤلاء المبشرين ما داموا لم يصلوا إلى مقر «الأنتيبو» فلا يمكن أن يكونوا موجودين على سطح الأرض. ويترتب على هذا أن يكون المؤيدون لهذا المذهب إنما يفترون على الملك داود وعلى القديس بولص، ومن ثم على الروح القدس. وعلى هذا يكون أسقف «هيبو»
Hippo
10
العظيم قد أوحى إلى الناس - وظل وحيه هذا ألفا من السنين ثابتا في روعهم - بأن التبشير بالإنجيل ما دام لم يصل إلى الناحية المقابلة في الأرض، فلن يمكن أن يكون هنالك من السلالة البشرية أثر ما.
ولقد كان لنفوذ «أوغسطين» وثبات قدمه في تفسير الأسفار المقدسة أثر كبير أوقف الكنيسة موقف الحزم الشديد إزاء مذهب «الأنتيبود». وهنالك اتفقت كل مدارس التفسير اتفاقا تاما، ولم ينتبها خلاف ولا وقع بينها جدل. فكان أتباع مدرسة الإسكندرية على ما عرف عنهم من الجنوح إلى المجاز والتأويل، والمتبعون لطريقة التفسير الحر في سوريا، وانتقاتيوا اللاهوتيين
Eclectic Theologians
في الغرب شرع تلقاء هذا المذهب. ولقد ظل معتقد «أوغطسين» ألفا من السنين سائدا على الكنيسة وفي «كل مكان وآن وعند كل إنسان.» معتقد أنه لا يمكن أن توجد ذوات بشرية على الجهة المقابلة من الأرض؛ بفرض أن للأرض جهة مقابلة. وكان العديد من المؤمنين منذ بداءة القرن الرابع إلى نهاية القرن الخامس عشر، إذا ناقضهم مناقض أو أنكر عليهم حجتهم منكر، يلجئون إلى تلك الحكمة المهدئة، التي كان لها أكبر الأثر على أعصاب «جون هنري نيومان»
J. H. Newman
في القرن التاسع عشر، حيث كانوا يقولون: «للدين رب يحميه.»
وعلى الرغم من هذا فإن المفكرين كانوا يظهرون على مسرح الزمان بين حين وحين. ومما يدلك على أن مذهب «الأنتيبود» كان لا يزال حيا، أن «بروكوبيوس الغزي»
في القرن السادس قد هاجم ذلك المعتقد بكل ما أوتي من قوة العلم، وناهض الحجة والقدرة على الإطناب، وقضى بأنه إذا كان على الجهة المقابلة في الأرض أناس، لوجب أن يذهب المسيح إليهم وأن يقضي صلبا في سبيل خلاصهم مرة ثانية، ولا نبغي أن يكون هناك - مقدمة لوفوده إليهم - مثال من جنة الخلد وآدم والأفعى والطوفان.
وكذلك هاجم «قوزماس أنديكوبليوستيس» هذا المذهب بشيء من الحرارة خاص به، موردا لنصوص في إنجيل «لوقا»
st. Luke
ليثبت أن وجود «الأنتيبود» منقوض لاهوتيا.
وفي أواخر القرن السادس عاش رجل كبير هو القديس «إزيدور الإشبيلي»
Isidore of Seville
كان من المنتظر أن يعمل لصالح العلم عملا مجيدا. فلقد كان ثابت القدم في المعرفة بعلم القدماء وبآرائهم، وكان من حرية الفكر بحيث أقدم - كما رأينا من قبل - على أن يعلن عن ثبات يقينه بكروية الأرض، ولكنه مع الأسف وقف عند هذا الحد؛ فإن نفوذ النبي داود
The
والقديسين «بولص» و«أوغسطين» قد ألجمه تلقاء معتقد «الأنتيبود»؛ ولذلك تراه يترك كل المسألة على اعتبار أنها خارجة عن الناموس والقانون. ومن ثم يخضع العقل لليقين، معلنا أن الناس لا يمكن - بل ولا ينبغي - أن يوجدوا في الجهة المقابلة من كرة الأرض.
لقد يخيل للبعض خطأ أن الحقيقة العلمية قد زالت وفنت، تحت تأثير مثل هذا الاضطهاد الكبير. والواقع أنها ظلت مختفية كامنة في تضاعيف العقل البشري قرنين كاملين من الزمان. ولم تكد تشرق شمس القرن الثامن حتى أصبحت كروية الأرض معتقدا عاما ثابتا بين جلة المفكرين ورواد العلم، وهنالك ظهر الأسقف «فرجيل السولزبرجي»
Virgil of Salzburg
يؤيد مذهب «الأنتيبود» مرة أخرى.
كان في ألمانيا خلال السنين الأولى من القرن الثامن رجل من أرجح الرجال عقلا وأنبلهم نفسا، هو القديس «بونيفاس»
st. Boniface
أما تثقيفه فكان على أتم ما في الإمكان خلال تلك العصور. وأما متاعبه ومشقاته فقد استحق بها أن يعتبر خليفة الرسل والحواريين. وأما غيرته على الدين المسيحي ونبوغه في تعرف أصوله وقواعده قد أديا به - على قصد منه ورغبة - إلى الاستشهاد. وفي ذلك الوقت شغل عرش البابوية سياسي من أقدر الرجال ومسيحي من أعظم المسيحيين، هو البابا «زاخاري». غير أن «بونيفاس» - وهذه صفاته - لم يتلكأ برهة في أن يعلن أنه يربأ بالناس أن تقوم بينهم هرطقة القول «بالأنتيبود» مرة ثانية، معتقدا أنه لا يمكن أن يوجد أناس لا يستطاع أن تبلغهم وسائل الخلاص المسيحية، وهاجم من ثم «فرجيل» نادبا البابا «زخاري» إلى معاضدته والأخذ بيده.
ولقد أجاب البابا على دعوة «بونيفاس» باعتباره معلم المسيحية المعصوم من الخطأ، إجابة تجلت فيها القوة شدة المراس. فذكر آيات من سفر «أيوب»
Job ، وحكم عن «سليمان» يناقض بها معتقد «الأنتيبود»، معلنا أن هذا المذهب «عريق في الضلال أصيل في الإجرام، مفسد لنفس فرجيل ذاتها.» وهدد بطرده من أسقفيته. وسواء أنفذ هذا التهديد أم لم ينفذ، فإن المعتقد اللاهوتي القديم - مؤيدا بأوامر البابا القدسية ومحميا بعصمته - قد عاد إلى الوجود ثانيا . معتقد أن الأرض مأهولة في جانب واحد من جوانبها، حتى لقد أصبح أكثر غورا في الوجدان الأورثوذكسي، وأثبت تأصلا في عقلية رجال الكنيسة.
ولقد اعتبر هذا القرار نهائيا غير قابل لنقض ولا إعادة نظر، حتى إن «فنسنت بوفييه»، أكبر إنسيكلوبيذي في القرون الوسطى، مضى قانعا - بعد صدور ذلك القرار بخمسة قرون كاملة - بأن مذهب «الأنتيبود» ينقصه البرهان؛ لأنه مناقض لنصوص التوراة؛ ذلك على الرغم من أنه كان يعتقد بكروية الأرض. ولكن المذهب قد ظل حيا على الرغم من كل هذا. وكما أنه كان قد ظهر إلى عالم الوجود بجهد «وليم الكونشي»
William of Conches
ثم اختفى، كذلك عاود الظهور ثانية خلال القرون الثاني عشر، تحت تأثير «ألبرت الكبير»
Albert The Great
أكبر رجال العلم في ذلك العصر. ولكن الظاهر أنه تعمد أن يلغز أقواله تلقاء هذا المعتقد. فكان ذلك سببا في أن تختفي أنوار الحقيقة وراء ستار اللاهوت. وبعد مضي مائة عام اضطر «نيقولاوس الأورسيمي»
Nicolos Oreseme - والذي كان جغرافيا لملك فرنسا أحد أقطاب العلم إذ ذاك - أن يحني رأسه لتعليم التوراة كما فسرها القديس «أوغسطين».
ولم يقف الأمر عند هذا الحد من الفساد؛ ففي أوائل القرن الرابع عشر خيل إلى رجال الكنيسة في إيطاليا أن الضرورة تقضي عليهم بأن يعالجوا أمثال هذه المذاهب بالمخلعة والسندان.
11
ففي سنة 1316 لم يفلت «بطرس ألبانو»
Albano - وكان مشهورا كطبيب - من يد محكمة التفتيش إلا بأن أدركته الوفاة من قبل أن تمتد يدها إليه؛ تلقاء ما روج من مذهب «الأنتيبود» وغيره من مذاهب العلم، وفي سنة 1327 طرد «شيكوداسكولي»
Cecco d’Ascoli - وكان فلكيا ذا شهرة وعلم - من أستاذية جامعة «كولونيا» وأحرق حيا في «فلورنسا»؛ لأنه علم مذهب «الأنتيبود» وغيره من حقائق العلم، فظن بأنه ساحر وأنه يعلم السحر. ولقد خلد المصور «أوركانيا»
Oreagna - الذي لا تزال نقوشه المفزعة قائمة حتى اليوم على جدران «كامبو سانتو»
Campo Santo
في «بيزا» - ذكرى «سيكو» بأن صوره في جنهم تلتهمه ألسنتها النيرانية.
وانحدرت السنون حتى إذا ما كان القرن الخامس عشر، ظهر رجل من الأفذاذ الذين كان ينتظر أن يجني منهم العالم الإنساني خيرا كثيرا؛ فإن «بطرس دايلي»
قد استطاع - بما أوتي من بسطة العلم وقوة الفكر - أن يصبح عميدا لكلية القديس «دييه»
st. Die
في اللورين. وكانت مقدرته سببا في أن تضحي تلك القرية مركزا للفكرة العلمية في كل أوروبا؛ ومن ثم أهلت به لأن يكون رئيس أساقفة في «كامبري»
Cambray
ثم كردينالا. وفي أواخر القرن الخامس عشر طبع ما كان قد كتب الكردينال «دايلي» من قبل ذلك بزمان طويل تلخيصا لمجمل آرائه ومباحثه العلمية، وهي مجموعة مقالات نشرت تحت عنوان «يوماجو ماندي»
Yomago Mundi
وهذه المقالات تعطينا أعظم مثال من المثل التي يرويها التاريخ في عالم عظيم أسدلت عليه أثواب اللاهوت. فإنه عندما بلغ في الكلام إلى مذهب «الأنتيبود» شرحه أوفى شرح وفصله أحسن تفصيل، حتى إنه ليخيل إليك بعد ذلك أنه سوف يقضي بأنه حق ثابت. ولكن هنالك تقوم براهين القديس «أوغسطين»، والآيات الإنجيلية، وآيات المزامير وأقوال القديس «بولص» إلى الرومانيين. «بلى، إلى كل الأرض خرج صوتهم وإلى أقاصي المسكونة أقوالهم.» فما استطاع دايلي وقد أراد أن ينزل على حكم العقل، أن يفيض على عالم العلم بشيء، وقد ناء بما حملته مذاهب اللاهوت.
غير أن مذهب «الأنتيبود» بقي حيا يدب في ثنيات العقل. بيد أن اللاهوتي الإسباني الكبير «توستاتوس»
Tostatus
قد شعر بوجوب مقاومته فقضى بأنه مذهب «غير مأمون الجانب». وكان ذلك في عصر «كولمبوس»، وقد صب براهين القديس «أوغسطين» في القياس المنطقي الآتي: «إن الرسل قد أمروا بأن يذهبوا في كل نواحي الأرض ليبشروا بآيات الكتاب المقدس. ولكنهم لم يذهبوا إلى ذلك المكان الذي يقطن به «الأنتيبود» ولم يبشروا بالآيات لكائن ما هنالك. وعلى هذه المقدمات، ينتج أن «الأنتيبود» وهم لا حقيقة.»
وما الحرب ضد «كولومبوس» بشيء بعيد عن الأذهان. وليس بغائب عنا كيف أهانه أسقف «سيوتا»
Seuta
وازدراه في البرتغال. وكيف جلبه رجال من أقدر من أنبتت إسبانيا رجاحة عقل في تلك الأزمان بتلك النصوص المعروفة في المزامير وفي رسائل القديس «بولص»، وفي براهين القديس «أوغسطين». وكيف أن الكنيسة حتى بعد فوزه، وبعد أن قوت رحلته إلى العالم الجديد فكرة كروية الأرض تلك الفكرة التي تمت بأكبر آصرة لمذهب «الأنتيبود» قد مضت وعلى رأسها الحبر الأقدس، جانحة إلى اتباع طريق ما كان يؤدي بها إلا إلى التعثر في وعثاء الخيال. ففي سنة 1493 لجئ إلى البابا «إسكندر السادس»
Alexaner VI
ليكون حكما يفصل في ما تدعيه كل من دولتي إسبانيا والبرتغال من حق في البقاع المستكشفة حديثا، فأصدر أمرا بابويا واضعا على كرة الأرض خطا وهميا يفصل بين ممتلكات الدولتين. ورسم هذا الخط - ويدعى اصطلاحا خط التحديد - من الشمال إلى الجنوب واقعا على مائة غلوة
12
غربي جزر «الأزورس»
Azores . ولقد أعلن «البابا» - في كثير من الثقة بما أوتي من العلم والحكمة - أن كل البقاع التي تستكشف شرقي هذا الخط تكون من حق البرتغال، وكل ما يستكشف غربيه يكون من حق إسبانيا. ولقد هلل لهذا الحكم المؤمنون كأنه صادر من قوة قدسية محبوة بكل كمالات العلم والحكمة التي استمدتها الكنيسة من عالم الغيب. ولكن العقبات توالت وشيكا؛ حتى إن البابا «يوليوس الثاني»
Juluis II
قد حاول مرة ثانية سنة 1506 أن يغير خط التحديد فيجعله على بعد 270 غلوة غربي جزر «رأس فيرد»
Cape Verde Ialands
وهنا عاود المؤمنون الاعتقاد بأن الحكمة القدسية هي التي أمدتهم بذلك الحل الثابت. ولكنهم لم يلبثوا على ذلك إلا قليلا حتى عصفت رياح الخلاف وتشابكت حلقات الفوضى؛ لأن البرتغاليين زعموا أن من حقهم امتلاك البرازيل، وكان في إمكانهم أن يثبتوا - بالضرورة - أن في مستطاعهم أن يصلوا إليها بأن يبحروا من شرقي خط التحديد، على شريطة أن يمعنوا في سفرهم طويلا، ولا يبعد أن نرى الخطين اللذين رسمهما البابوان إسكندر السادس ويوليوس الثاني، على الخرائط التي وضعت في ذلك العصر. غير أن أمريهما القديسين قد انحدرا مع الزمان إلى حيث نسيا وأهمل أمرهما، مع ما يماثلهما من الأخطاء التي ثبتت أن الإنسان جدير بما نزل به من وكوارث وملمات.
ومع كل هذا فإن الحواجز اللاهوتية التي كانت تحجب هذه الحقيقة الجغرافية عن البصائر لم تزل إلا تدرجا. وعلى الرغم من أن هذه الحقيقة كانت قد أصبحت جلية واضحة لأعين طلاب العلم والباحثين؛ فإنهم تلكئوا في إعلانها والتبشير بها للناس زمانا. فإن مائة وألفا من السنين كن قد مضين منذ أن برهن القديس «أوغسطين» على أنها مناقضة لنصوص الكتاب المقدس، حتى أذاع «غريغوري رييش»
Gregory Reysch
موسوعته المشهورة التي أسماها «مارغار نيتا فيلوزوفيقا»
Marganita
ولقد توالت طبعات هذه الموسوعات الطبعة بعد الأخرى، فلم تغفل طبعة منها ذكر الفكرة الأورثوذكسية إزاء هذه الحقيقة. غير أن تلك الآراء اللاهوتية كانت قد أخذت في الاضمحلال والسقوط؛ فإن «رييش» على الرغم من أنه ذكر بكل احترام وإجلال أن القديس «أوغسطين» قد مضى معارضا لهذا المذهب فإنه كان حريصا على أن لا يذكر شيئا من نصوص الكتاب المقدس ليتخذها برهانا على فساده، ولم يكن بأقل حرصا على أن يذكر الحقائق الجغرافية التي تؤيد صحته.
غير أن العلم قد انتصر انتصارا فاصلا في سنة 1519؛ فإن «ماجلان»
Magellan
كان قد أتم سياحته المعروفة، فبرهن على أن الأرض كروية؛ لأن بعثه قد دار حولها. كما برهن على أن مذهب «الأنتيبود» صحيح؛ لأن رفقاءه في السياحة قد رأوا بأعينهم أولئك الخلائق. غير أن هذا لم ينه الحرب ولم يخمد جذوتها. فإن كثيرا ممن مضوا مشايعين لحكم المشاعر دون العقل، قد ظلوا مائتين من السنين ينكرون هذه الحقيقة ويقاومونها ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا. وفي ذلك الوقت نجح فلكيو فرنسا في مقاس الدرجة الأرضية في الأنحاء الاستوائية والقبطية، وأضافوا إلى براهينهم ذلك البرهان المستمد من استطالة الرقاص. وبعد أن وقع ذلك، وبعد أن رأى رجال الكنيسة أن استقراءات العلم قد تقررت بوسائل بسيطة كمقياس الدرجات، على أكمل وجه وأتم صورة، وبعد أن أرسل كثير من السياح - ومن بينهم فئة من متحمسي المبشرين - إلى أوروبا وصفا كاملا لخلائق «الأنتبيود»، بعد هذا كله نامت عاصفة الحرب بين العلم واللاهوت بعد أن ظلت عاتية هوجاء اثني عشر قرنا من الزمان.
على هذه الصورة كانت نتيجة تلك الحرب الطويلة الممضة. غير أنه حدثت نتائج لم تكن لها إلا ثمرات مريرة؛ فإن جهود «إيوسبيوس وباسيل ولاكتانتيوس» التي بذلوها في سبيل إخفات صوت العلم، وجهد «أوغسطين» في مقاومته واضطهاده، وجهد «قوزماس» في تحطيمه من طريق اللاهوت المذهبي، وجهد «بونيفاس وزاخاري» في تقويض دعائمه بالقوة الغاشمة، وكلهم رجال لا يمكن أن يساورنا شك في صادق يقينهم وحسن نيتهم، قد أحدث نتيجة واحدة، هي أن يثبت في عقول الرواد من أهل العلم والدين، اعتقاد بأن بين الدين والعلم عداء وصراع.
على أنه يمكننا أن نتساءل من جهة أخرى: أي جنى جناه المحاربون من أجل العلم لصالح الدين؟ جنوا تصورا ثابتا نبيلا في حقيقة العالم، تصورا آخر لا يقل عنه نبلا ولا ينزل عنه شرفا، في جلال تلك القدرة الشاملة التي تسيطر على العالم وتدبر أمره. وقد نتساءل ثانية أيها أكثر ملاءمة لعقيدة دينية عليا: أكونيات «قوزماس» أم كونيات «نيوتن»؟ وأيهما يهيئ للفكرة الدينية مرتعا خصيبا وبيئة فيها ألفة واتساق، أجدليات «لاكتانتيوس»، أم تقريرات «همبولد» الهادئة العميقة. (4) حجم الأرض
منذ زمان بعيد هز موضوع جغرافي آخر عقول النابهين هزا عميقا، وكان هذا الموضوع محصورا في النظر في حجم الأرض.
لقد وصل كثير من باحثي القدماء بوسائل مختلفة من مقاس الأبعاد إلى نتائج تكاد تقرب من الحقيقة تلقاء حجم الأرض. ولقد ظلت هذه الوسائل حية حتى أسلم بها الزمان إلى القرون الوسطى؛ فتزودت بآراء جديدة، وكان من بين النتائج التي هي أكثر من غيرها في العقل الإنساني تأثيرا وأزكى طبيعة، تلك النتائج التي وصل إليها «روجرباكون»
Roger Bacon
و«غربرت»
Gerbert
الذي تبوأ من بعد عرش البابوية باسم «سلفستر الثاني»؛ فإنهما قد أسلما إلى الخلائف من بعدهما ذخيرة العلم كاملة غير منقوصة. غير أنهما لم يجنيا من معاصريهما إلا ثمرة أجاجا، فنعتا بأنهما ساحران واتهما بترويج السحر والشعوذة.
لقد كان اللاهوت في القرون الوسطى روحا سارية في الجماهير ما يلائمها إلا حلول لمسائل العلم تستمد من نصوص الكتاب المقدس، ويحق لنا أن نذكر ذلك الحل الذي استمد من تلك النصوص تلقاء حجم الأرض، وما نذكره إلا كمثال نعبر به عن مقدار ما غشي العقول من مغالطات المذاهب اللاهوتية وأخطائها. فإن السفر الثاني من أسفار «عزرا»
Esdras
قد اعتبره كثير من نابهي رجال الكنيسة القديمة وحيا منزلا. وعلى الرغم من أن «جيروم» قد نظر في ذلك السفر نظرة الشك والارتياب؛ فإن «كليمان الإسكندري» و«ترتليان»
Tertullian
و«أمبروز» قد اعتبروه من الأسفار المنزلة الموحى بها إلى الرسول السماوي، وتابعتهم الكنيسة قانعة بزعمهم هذا. وقد شغل هذا السفر في الكنيسة الشرقية مكانا عاليا. أما في الكنيسة الغربية فقد اعتبره كل الجهابذة والثقاة جزءا لا يتجزأ من الشريعة المقدسة. وكان هذا قبل قيام حركة الإصلاح البروتستانتي. وإنك لتجد في الفصل السادس من هذا السفر تلخيصا لأعمال الخلق مصبوبا في السياق التالي:
أمرت في اليوم الثالث أن تجتمع المياه في الجزء السابع من الأرض، فجففت ستة أجزاء منها وحفظتها بقصد أن تحرث وأن تقوم مخلوقاتها بتسبيحاتك.
وفي اليوم الخامس قلت للجزء السابع الذي تجمعت فيه المياه، ليخرج منك خلائق من دجاج وسمك وهكذا كان.
13
ولقد أيدت هذه النصوص في فصول أخرى من ذلك السفر، فكان من الطبيعي أن تصبح من الأسانيد الدينية ذات الحول والسلطان.
وكان الكردينال «بطرس دايلي» أحد أولئك الباحثين الذين ائتموا بهذه الأقوال وبغيرها، وعكفوا عليها قصد تنمية العلم وزيادة ثروته، ولقد رأينا من قبل أنه بينما كان ينكر وجود «الأنتيبود» إخلادا لفكرة القديس «أوغسطين»، مضى ثابت الاعتقاد في كروية الأرض، فلما عمد إلى تفسير هذه النصوص التي التوت عليها دفتا سفر «عزرا»، وأراد أن يوفق بينها وبين معتقده الثابت في كروية الأرض، قضى بأن سبع الأرض فقط كانت تغشاه المياه؛ فإن المحيط الواقع في غربي أوروبا وشرقي آسيا، لا يمكن أن يكون مفرط الاتساع. وعلى اعتقاد أنه يعرف - كما خيل إليه - مقدار امتداد اليابسة فوق الكرة الأرضية، شعر بأنه خضوعا لهذه النصوص الدينية لا بد من أن تكون الأرض أصغر بكثير مما قدر لها، وأن أرض «زيبانجو»
Zipango
التي بلغها «ماركوبولو»
Marco Polo
في نهاية الطرف الشرقي من شاطئ آسيا، يجب أن تكون أكثر قربا مما يتوهم الناس.
وعلى هذه الفكرة عكف الكردينال «دايلي» في كتابه العظيم المسمى «يوماجو ماندي»
Yomago Mundi
وكان قد ظهرت طبعة من هذا الكتاب في تلك الأيام التي كان يفكر فيها «كولمبوس» تفكيرا جديا في إمكان السفر غربا. ولا مشاحة في أن فكرة «دايلي» قد استغرقت قسطا كبيرا من تفكيره وتأملاته، وليس بين مخزونات مكتبة «إشبيلية» من شيء هو أثمن قيمة من نسخة من ذلك الكتاب قد علقت عليها حواش بخط كولمبوس نفسه. ولا ريبة في أن «كولمبوس» لم يقنع بفكرة أن طريق اجتياز المحيط إلى أرض «زيبانجو» التي بلغها «ماركوبولو» في آسيا قصير، إلا من إكبابه على دراسة هذه النسخة. ولولا ذلك الخطأ الكبير الذي بني على نص في كتاب ديني ظن أنه منزل موحى به، لما استطاع «كولمبوس» أن يحصل على ما حصل عليه من تأييد جعل سياحته في حيز الإمكان. ومن غرائب المحادثات أن هذه الغلطة اللاهوتية الغريبة، كانت سببا في القيام برحلات عديدة لم يكن لها من نتيجة إلا تحطيم هذه الغلطة نفسها، مع بقية الأغلاط التي قامت على تصورات جغرافية بنيت على كتابات دينية منذ أبعد العصور. (5) طبيعة سطح الأرض
ليس من الإنصاف في شيء أن نختم الكلام في قصة التنازع على البقاء حول الحقائق الجغرافية من غير أن نستطرد قليلا في شرح تاريخ الكنيسة البروتستانتية؛ فإن ذلك التاريخ يظهرنا جليا على تلك الصعاب التي وقفت في سبيل أبسط الحقائق الجغرافية التي تصارعت، وما أتى في الأسفار المقدسة من نصوص.
ففي سنة 1553 وقف «ميخائيل سيرفيتوس»
Michael Servetus
ليحاكم في جينيف وقد كاد يفقد حياته لاتهامه بتهمة «الأريوسية»
Arianism
وقد خدم «سيرفيتوس» كثيرا من حقائق العلم خدمة صادقة. وكان من خدماته الجليلة طبع نسخة من كتاب جغرافية «بطليموس» تكلم فيها عن أرض «يهوذا»
Judea
فلم يذكر أنها «بلاد تفيض عسلا ولبنا» مجاراة للرأي اللاهوتي، بل عرج إلى الحق وجاراه، ذاكرا أنها بلاد «بور» مجرودة غير مأهولة. ولقد اتخذ «جون كالفن» - ألد أعدائه وأقواهم نفوذا - جنوحه إلى الاعتقاد بهذه الحقيقة الجغرافية سببا في أن يحمل عليه أثناء المحاكمة بكل ما أوتي من قوة الدليل والبرهان. وعبثا حاول «سيرفيتوس» أن يثبت لقضاته أنه إنما نقل هذا القول عن نسخة أخرى من كتاب «بطليموس». وسدى ضاعت كل جهوده ليثبت أن هذه الأقوال ليست إلا حقيقة جغرافية بسيطة قامت على صحتها براهين طبيعية عديدة. فلم يكن هنالك من رد عليه سوى القول: بأن كلامه «تحد» بالضرورة لموسى، وانتهاك سافل لسلطة الروح القدس.
ومحصل القول أن أعمال الكنيسة في مقاومة علم الجغرافية قد انحصرت في أن المذاهب اللاهوتية قد مضت متطورة، ولكن على أشد ما يكون مراعاة لنصوص الكتاب المقدس، وأن التصورات التي استمسكت بها الكنيسة خلال قرون عديدة كانت «في كل وقت ومكان، وفي صدر كل إنسان» وعلى وجه عام، منافية لحقائق العلم. غير أنه لا يحق لنا أن نترك هذا الباب مفتوحا من غير أن نضم مصراعيه على بحث نتناول فيه الفرق بين الروح الدينية والروح اللاهوتية.
إن علم الجغرافية مدين للروح الدينية بعدة رحلات، تعد من أبر الرحلات الاستكشافية وأعظمها خطرا؛ فإن الرغبة الشديدة التي قامت في صدر البرنس «يوحنا» البرتغالي لينشر النصرانية ويرفع صوتها كانت سببا في سلسلة تلك الرحلات المشهورة في شواطئ أفريقية، وفي رحلة «فاسكو داجاما»
Vasco da Gama
في الدوران حول رأس الرجا الصالح ورحلة «ماجلان» حول الأرض. ولا شك في أن ذلك الشعور كان سببا في تهيئة الظروف التي مهدت لكولمبوس أسباب القيام برحلته الكبيرة.
وعلى هذا نرى أن تفوق الروح اللاهوتية كان سببا في تزكية النزعة إلى الصورة المذهبية في الدين، تلك الصورة التي برزت في كل عصر من العصور لابسة ثياب الجلاد والصراع، لا لتحارب العلم وحده، بل لتصارع الروح الدينية العليا، بينما نجد أن نزعة البحث عن الحقيقة لذاتها، تلك النزعة التي كانت سببا في كل ما أوحي به للناس من ثمار العلم، لم تنتج في مختلف العصور إلا خيرا، ولم تثمر إلا أشهى الثمرات للدين وغير الدين.
الفصل الثالث
من الخلق إلى النشوء
(1) العالم المنظور
من بين مجموعة النقوش الكاتدرائية التي تعبر عن كثير من حقائق اللاهوت في العصور الوسطى، نقش يمتاز بالتعبير من مذهب لاهوتي في أصل الكون، ظل موضوع الاحترام والإجلال أزمانا طوالا.
الواحد القهار - في صورة بشرية - جالس بوداعة ولين، يصنع الشمس والقمر والنجوم، ويعلقها في القبة الصلبة التي تحمل من فوقها «السماوات العلا» وتظلل الأرض «السفلى».
أما علائم التفكير الظاهرة في تقطب جبينه فتنم على أنه أجهد نفسه إمعانا في التدبر والاستبصار، كما يدل انتفاخ عضلات ذراعيه على أنه قد اضطر إلى أن يكد وينصب، ومن الطبيعي أن يكون المثالون والمصورون - خلال القرون الوسطى وفي بدء العصور الحديثة - قد عمدوا إلى تمثيله على مقتضى ما تصوره كتاب ذلك العصر؛ إذ كانوا يقولون بأنه استراح في اليوم السابع واضطجع في هدأة، مصخيا إلى تراتيل الثناء التي زفتها إليه سكان السماء.
من حول هذه الفكرات العتيقة التي فاضت بها الكاتدرائيات، وفي غيرها من الآراء التي عبرت عنها النقوش والصور وتلوين الزجاج وزخارف الفسيفساء والحفر خلال العصور الوسطى، وقرنين فرطا من بعد تلك العصور، وتكثفت نواة من الاعتقاد كانت قد أخذت تتكون خلال ألوف من السنين، ومضت محتكمة في كل ما أبرز العقل الإنساني من صور الفكر حتى عصرنا هذا.
1
أما بدايات ذلك الاعتقاد فترجع إلى أعرق عصور التاريخ قدما؛ فإننا نجدها في أوليات كل مدنية من المدنيات العظمى، بيد أنها شغلت في كل الكتب المقدسة التي ذاعت في نواحي العالم - على تعددها وكثرتها - مكانا عليا؛ ففي كل المدنيات تقع على فكرة وجود خالق، ليس الإنسان إلا صور منه غيرة كاملة، وأنه خلق الكون المنظور بطريقة مباشرة مستخدما في الخلق يديه وأصابعه.
من بين تلك النظريات عدد غير صغير مضى محتكما في اللاهوت الكلداني، ومن الواجب أن نخصه بشيء من العناية والتقدير؛ فإن النقوش الآشورية التي استكشفت حديثا ونقلها إلى العالم الإنجليزي أعلام من أمثال «لايارد»
Layard
و«جورج سميث»
George Smith
و«سايس»
Sayce
وغيرهم، لترينا أنه قد تغلغلت في تضاعيف الأديان الكلدانية والبابلية قصة في حقيقة الخلق، من أهم مزاياها وأخطر دقائقها أنها لا بد من أن تكون النواة التي فرخت منها تلك القصص التي نقع عليها في كتبنا المقدسة، ولقد ظهر بأجلى بيان أن تلك الفكرات التي تشغل أعلى مكانة في أسفار العبرانيين، قد استمدت من ذلك النبع الذي فاض على المدنيات الكلدانية-البابلية والآشورية والفينيقية بتلك القصص التي وضعت في حقيقة خلق العالم؛ ففي تينك القصتين اللتي تخالطتا في سفر التكوين، وفي تلكم الرواية التي يمكن أن يستدل عليها بأشياء في سفر «أيوب»
Job . يتمثل لك - بكل ما يستطاع أن تتخيل من العظمة والقدرة - نفس ذلك التصور في حقيقة الخالق والخلق، وهو تصور خليق بالمدنية وهي بعد في مهد طفولتها وغرارتها؛ إذ يبرز لك الخالق في صورة بشرية مكبرة، وهو يكد في العمل بأطرافه ويمثل لك الخلق «مصنوعا بيده»، ولقد نشأ - تعقيبا على هذا التصور - اعتقاد في الخالق على أنه شخص بعد أن «قذف من راحة يده إلى الفضاء بكل السيارات لتجواب أنحاء المكان» جلس في العلاء فوق العرش المستقر «على فلك السماء» جادا أبدا في أن يحكم سيرها ويهديها طريقها.
ومن هذه النظرية الموضوعة في حقيقة الخلق، نشأت مع الزمان فكرة أخرى، أكثر ارتقاء وأنبل قصدا؛ فمفكرو القدماء ومفكرو مصر على الأخص، كما اتضح منذ عهد قريب، قد مضوا معتقدين بأن السبب المباشر في الخلق ليست يد الخالق ولا أصابعه، بل صوته؛ ومن هنا تخالطت بالمعتقدات الفطرية الأولى التي ذاعت في أصل الأرض والأجرام السماوية بقدرة الحي القيوم، فكرة أكثر للشعور مسا وأعمق في التصور تغلغلا، فقيل بأنه «تكلم وأنها خلقت» وأنها قد برزت إلى عالم الوجود بتأثير «الكلمة».
أما هذه النظرة العامة في أصل الخلق فقد مضت مستبدة بأمرها في تصورات آباء الكنيسة الأولى، وأصبحت معتقدا أساسيا من معتقداتهم، حتى إنهم ألزموا النصرانية - تدرجا وعلى مر الزمان - الثبات على الاعتقاد بأن الكون قد خلق تاما كاملا بيد الله أو صوته.
بين آونة وأخرى ظهر من اللاهوتيين «خوارج» امتازوا بشيء من رجاحة العقل وسعة النظر، حاولوا أن ينظروا في خلق بعض أجزاء من مفصلات الكون نظرة أمعن من سابقتها تغلغلا في صميم الروحانيات، وعلى الأخص «غريغوري النياسي»
Gregory of Nyassa
والقديس أوغسطين
st. Augustine
وكانوا على استعداد لأن يقبلوا النصوص الحرفية التي جاءت في المتون المقدسة؛ لهذا ثاروا ضد ذلك التصور، تصور أن العالم خلق بتأثير ذات كلية القدرة، كونته بيدها وأصابعها وتابعهم في ذلك «بيده»
Bed ، وقليل غيره غير أن آراء أكثر من غيرها إمعانا في الماديات، كانت لا تزال سائدة على العقول؛ حتى إنك تجد آثارها ظاهرة في النقوش وزخارف الفسيفساء وتلوين الزجاج في الكاتدرائيات، وفي الرسوم التي تحلى بها كتب القداس والمزامير، حتى في الأناجيل المصورة، وكتب المعرفة العامة التي ظهرت خلال القرون الوسطى.
أما في العالم الأنجلو سكوني فقد أحكم عرى هذا التصور المادي القديم شاعران خضعت أشعارهما بالتوقيع على أوتار تلك المشاعر الدينية العميقة. ففي القرن السابق فسر الشاعر «كادمون»
Caedmon
الأقوال التي جاءت في سفر التكوين وفصلها تفصيلا أفرغ به ذلك التصور المادي في خلق الكون في حلة محبوكة الأطراف على ظاهر المتون المقدسة، وبعد ذلك بألف سنة أخذ «ملتون»
Milton
من النصوص الكثيرة التي جاءت في كتب العهد القديم قدرا مزجه بفكرة لاهوتية في «الكلمة الخالقة» استمدت في أصلها من كتب العهد الجديد، ومضى على ذلك يصف كيف خلق الأقنوم الثاني من الثالوث الإلهي العالم بتفاصيله، فجاء وصفه صورة من الأفكار اللاهوتية والنصوص المقدسة لا تدانيها صورة أخرى لزوما لظاهر الجمل والألفاظ.
قال في أسلوب شعري رائع:
أخذ البيكار الذهبي الذي كان معدا في خزائن الله الأبدية السرمدية ليخطط حدود الكون وكل المخلوقات، ووضع أحد طرفيه في المركز وأدار الطرف الآخر دورة حول تلك الأغوار البعيدة القصية ثم قال: إلى هنا تمتد حدودك، وإلى هنا ينتهي محيطك، أيها الكون.
هذا هو التصور الأورثوذكسي في الأسلوب الذي خلق به العالم.
أما المسألة الثانية التي أنشأها ذلك التصور اللاهوتي، فكانت ذات علاقة «بالمادة» التي صور منها العالم، ومضت الأغلبية العظمى من أهل اللاهوت قانعة بأنه لم توجد مادة ما قبل خلق الكون، وأن «الله خلق كل شيء من لا شيء.»
من اللاهوتيين فئة خصت بشيء من الشجاعة والإقدام، أشاروا - اعتمادا على النصوص الأولى التي وردت في سفر التكوين - إلى فكرة أخرى مغايرة لتلك الفكرة، ومؤاداها أن الكتلة المادية قد وجدت قبل وجود الكون، ولكنها كانت «بلا صورة وفي خلاء لا متناه» غير أن هذا المذهب اكتسح صراعا من عالم المعرفة.
أما معتند آباء الكنيسة فكان جليا واضحا إزاء هذا الأمر؛ فإن «ترتيليان»
Tertllian
قد انتحى أكثر الطرائق حزما وشدة إزاء الذين كانوا يعتقدون بأية فكرة مضادة للفكرة التي اعتنقها زعماء الأورثوذكسية، بل أعلن بأنه إذا وجدت أية مادة أولية صنع منها الكون، فلا بد من أن تكون الكتب المقدسة قد أشارت إليها، أما وأن هذه الكتب لم تشر إليها، فإن الله قد أمدنا بأنصع برهان يدلنا على أنه لم يوجد قبل الخلق شيء كهذا، وعلى أسلوب فيه من العسف قدر لم يعرف له مثيل في أي خلاف لاهوتي آخر هدد «هرموجينيس»
Hermogenes
وكان من مؤيدي الرأي القائل بقدم المادة، «بالويلات التي تنصب على أولئك الذين يزيدون على الكلمة القديمة أو ينتقصون منها.»
أما القديس «أوغسطين» - وكان ممن أشار تلميحا إلى الاعتقاد بوجود المادة قبل الخلق - فقد وفق بين ما كان يرى وبين المعتقد السائد في حدوث المادة ببرهان ساذج بسيط؛ إذ قضى «بأنه على الرغم من أن العالم لا بد من أن يكون قد صنع من مادة ما، فإنه من المحتوم أن تكون هذه المادة ذاتها قد خلقت من العدم بداءة ذي بدء.»
في الطريق التي رسمها هؤلاء العظماء سارت الكنيسة العظمى هادئة مطمئنة، ولقد صرح المجمع اللاتيرني الرابع
Fourth Latran Council
بأن الله قد خلق كل شيء من لا شيء. وإنك لتجد حتى اليوم أن أرهاط المؤمنين سواء أكانوا كاثوليك أم بروتستانت، لا يلقنون إزاء هذا الأمر من شيء سوى ما يوحي به هذا المذهب. وعلى هذا الأمر اتفق البابا «بيوس التاسع»
في مختصره الديني، وكنيسة وستمنستر في كتاب «أصول الإيمان».
وبعد أن فرغ اللاهوتيون من الكلام في طريقة خلق الله الكون ومادته، رجعوا إلى الكلام في «الزمان» الذي تم فيه ذلك العمل العظيم.
هنا اعترضتهم مشكلة؛ فإن أولى الروايتين اللتين جاءتا في سفر التكوين تنص على أن عمل الخلق قد تم في ستة أيام، كل يوم منها نهار وليل بما في ذلك تفصيل ما تم في كل منها، على صورة تامة من الدقة والضبط، أما الرواية الثانية فتذكر «اليوم» الذي صنع فيه «الله الأرض والسماوات»، ولقد كان ما اتصفت به الرواية الأولى من الدقة، وملاءمتها لطبيعة ما تكونت عليه عقول العديد الأوفر من متقدمي اللاهوتيين، قوة حازت بها قسطا من الأسبقية وقوة البقاء، غير أن مفكري اليهود من أمثال «فيلو»
، ومفكري النصارى من أمثال «أوريغن»
Origen ، وقد حاولوا أن يكونوا في الخالق وخلقه تصورات أرقى نزعة وأنبل قصدا، لم يقنعوا بهذا فألقوا في بحر اللاهوت النصراني المضطرب المتدافع القوات، بفكرة أن الخلق كان موقوتا وفي لحظة واحدة، ولم تستمد هذه النظرية عناصر القوة من الجزء الثاني من أساطير سفر التكوين وحدها، بل كان يؤيدها النص القائل: «تكلم فخلقت العوالم، وأمر فبرزت ثابتة.» أو كما جاء في النسخة اللاتينية من الكتاب المقدس: «تكلم فصنعت العوالم، وأمر فخلقت.»
كان من نتائج ذلك أن برزت في ثنايا العقل فكرة أن أقوم طريق وأسلم سبيل يتبعه المؤمنون هو الاعتقاد الكامل بكلتا النظريتين، وأن الله بطريقة خفية قد خلق الكون في ستة أيام، بيد أنه أبرزه إلى الوجود فجأة وفي لحظة واحدة، وعلى الرغم بما أهاب به عدد عديد من عظماء اللاهوتيين مثل «إفرايم سيروس»
Ephraem Syrus
وغيره، من الكون قد خلق في ستة أيام تامة، كل منها أربعة وعشرون ساعة، فإن نزعة التوفيق بين تلك الروايتين المتناقضتين قد أيدها القديسان «أتناسيوس»
st. Athanasius
و«باسيل»
st. Basil
في الغرب.
ولقد نشأت صعاب اعترضت سبيل اللاهوتيين في التوفيق بين هاتين النظريتين، اللتين لن تقوما معا في عقل قياسي، لما بينهما من الخلاف والتناقض، غير أنهم بما خصوا به من المهارة والحذق في تأويل النصوص وقلب ظواهرها ، وبما جلبوا عليه من القدرة على اللعب بالألفاظ والجمل، وبما لجئوا إليه من طريقة الجنوح إلى الأساليب الغيبية وكثرة ما استخدموا من نظريات ما بعد الطبيعة، استطاعوا أن يصلوا إلى التوفيق بينهما، حتى أصبح الناس وهم يعتقدون بأنهم اعتقدوا، بأن خلق الكون كان فجأة وفي برهة واحدة، بيد أنه امتد إلى ستة أيام سويا.
من الجهود التي بذلها اللاهوتيون في سبيل التوفيق بين هاتين النظريتين نزر يسير كان خصب الإنتاج متعدد الآثار، حتى لنجده خليقا بأن يخص بقسط من عناية الذكر؛ فإن آباء الكنيسة في الشرق وفي الغرب، قد كونوا من مجموع ما كان بين أيديهم من روايات سفر التكوين، والإشارات التي وردت في المزامير؛ والأمثال، وسفر أيوب
Job
هيكلا ضخما من العلم المقدس، كل جزء منه يمت إلى هذه النظرية بسبب، أما خلق الكون جملة، فقد لجئوا لدى النظر فيه إلى القول بما تصوروا من قوات سرية خفية منبثة في تضاعيف بعض المكونات العددية؛ فإن «فيلو يهوذاوس»
بينما مضى معتقدا بنظرية الخلق الفجائي، قد أعلن بجانب هذا الاعتقاد أن الكون قد صور في ستة أيام؛ لأن «العدد ستة - من بين كل الأعداد - هو الأكثر إنتاجا» ولقد أظهر أن خلق الأجرام السماوية لم يقع إلا في اليوم الرابع، «لما في العدد أربعة من صفات الألفة والاتساق» وأن خلق الحيوانات كان في اليوم الخامس؛ إشارة إلى الحواس الخمس، وأن خلق الإنسان في اليوم السادس، فيه تلميح إلى ما في العدد ستة من الفضائل التي وضعت ذلك العدد كحد نهائي للعمل الخلقي الكبير، ثم عمد إلى ما هو أكبر من كل هذا، فأشار إلى أن راحة اليوم السابع إنما تشير إلى تلك الفضائل العظيمة السرية الكامنة في العدد سبعة.
ولقد أيقن القديس «جيروم»
st. Jerome
بأن السبب في أن الله لم يصف ما تم من العمل في اليوم الثاني من أيام الخلق بأنه «حسن» إنما يرجع إلى شيء هو شر بذاته مفروض وجوده في العدد اثنين، وهذا الرأي قد تردد صداه عن طريق «بيده »
Bede
وفي جنبات بريطانيا العظمى، بعد عصر «القديس جيروم» بقرون طوال.
أما القديس «أوغسطين» فقد ألزم الكنيسة بهذا الاعتقاد متبعا طريقة التدليل الآتية، قال:
يوجد ثلاث فصائل من الأرقام: الأكمل والكامل والناقص، وهذا بنسبة ما يكون في مجموعها من الزيارة أو المساواة أو النقص عن العدد الأصلي، والعدد ستة هو أول عدد كامل، وعلى هذا لا يجب علينا أن نقول إن العدد ستة كامل لأن الله قد انتهى من كل أعماله في ستة أيام، بل لأن الله قد أنهى كل أعماله الخلقية في ستة أيام؛ لأن العدد ستة هو العدد الكامل.
ولقد ظلت جنبات الكنيسة تتجاوب بأصداء هذه الأقوال طوال القرون الوسطى حتى لقد ردد صداها «النورمبرج كرونكل» بعد أن استكشفت أمريكا بعام كامل، مصبوبة في القالب الآتي:
إن خلق الأشياء قد تتضح حقيقته بالعدد ستة، الذي تشير أجزاؤه الثلاثة الأول، واحد واثنين وثلاثة، إلى صورة مثلث.
هنا أصبح الاعتقاد بأن الخلق قد حدث فجأة في حين أنه تم في ستة أيام، كل منها نهار وليل، واعتقادا عاما شاملا، حتى لقد أجازه «بطرس لومبارد»
Lombard
و«هوغو السانفكتوري»
Hugo of st. Victor
وكلاهما جهبذ ذو وزن وصيت، بل ألزما العقل الكنسي أن يمضي له خاضعا عصورا طوالا.
على أن الأمر لم يقف عند هذا الحد؛ فإن طرق هذا التأمل الذهني - من القول بأن كل شيء قد خلق من لا شيء، والتوفيق بين الخلق الفجائي والخلق في ستة أيام - قد نما وتطور من طريق فئة أخرى من كبار المفكرين في القرون الوسطى؛ فإن القديس «هيلاري بواتييه»
st. Hilary of Poitier
قد وفق بين التصورين فقال:
على الرغم مما هو واضح فيما جاء به موسى من الظواهر الدالة على اتباع نظام مطرد في تثبيت القبة الزرقاء، وفي تمهيد الأرض اليابسة، وفي تجميع المياه بعضها مع بعض، وفي تكوين الأجرام السماوية، وفي قيام الكائنات الحية من الأرض والماء؛ فإن خلق السماوات والأرض وبقية العناصر قد رؤي أنه نتيجة عمل وقع في برهة واحدة.
أما القديس «توماس أكونياس»
st. Thomas Aquinas
فقد استخلص مما جاء به القديس «أوغسطين » تفصيلا دقيقا فيه حذق ولباقة، ذلل - خلال عصور طوال - كثيرا من الصعاب التي كانت تعترض هذه القضية؛ إذ قال بأن الله إنما خلق مادة الأشياء في لحظة واحدة ولكنه قضى ستة أيام في العمل الخلقي مفرقا بين العناصر، مصورا للأشكال، منمقا في التفاصيل.
ولقد قبل متقدمو المصلحين هذا الرأي ونموه، وكان «لوثر» في مقدمتهم مثبتا أنه خير كفء لهذا العمل الكبير، فأعلن - بما عرف فيه من شجاعة وإقدام - أن موسى «قد تكلم في صراحة وجلاء، ولم يلجأ إلى المجاز والاستعارة» وعلى هذا «يكون العالم وكل ما فيه من المخلوقات قد خلق في ستة أيام»، ولكنه مضى بعد ذلك مظهرا كيف أن كل الموجودات بتأثير معجزة كبرى، قد خلقت فجأة وفي لحظة واحدة. وكذلك «ميلانكوتون»
Melanchoton ؛ فإنه صمم على القول بأن العالم قد خلق من لا شيء وبطريقة خفية في لحظة واحدة وفي ستة أيام معا، معتمدا على النص القائل: «تكلم فخلقت.»
أما كالفن
Calvin
فقد رفض الاعتقاد بفكرة أن الخلق قد تم فجاءة، ومضى مثبتا أنه وقع في ستة أيام. وبعد أن وجه الأنظار إلى أن التاريخ الإنجيلي يظهر بجلاء أن عمر الدنيا لا يزيد عن ستة آلاف سنة، وأنها قاربت الفناء قال: «إن العمل الخلقي استمر ستة أيام حتى لا تضنينا التأملات طول أعمارنا إذا ما أردنا أن نقف على حقيقته.»
2
ولقد أثبت «بطرس مارتر»
هذا الأمر قائلا: «إن معرفة مسألة الخلق أمر ذو خطر كبير، حتى إن معتقد الكنيسة إنما يتخذه نقطة ابتداء وركيزة أولى، ولو أنه تعذر علينا إثبات هذه المسألة، لما استطعنا أن نقرر وجود خطيئة أولى، ولأصبح وعد المسيح بالخلاص لغوا باطلا، ولتحكمت بذلك كل القواعد الأساسية التي يقوم عليها ديننا.» أما زعماء الدين في وستمنستر فقد رفضوا لدى تحديدهم قانون الإيمان
Confession on Fatih
الخاص بهم، قانعين بأنه من الضروري أن يعتقدوا بأن كل الأشياء المنظورة وغير المنظورة قد خلقت من لا شيء، وفي ستة أيام سويا، ولم يكن رؤساء الدين من تابعي الكنيسة الرومانية بأقل عنادا من مصلحي البروتستانت إزاء القول بضرورة الاعتقاد في صحة قصة الخلق الموسوية كما يقولون، ولقد ظلت هذه الروح سائدة روع الناس؛ حتى إن طائفة السوربون اللاهوتية قد أجبرت «بافون»، في أواسط القرن الثامن عشر - وكان قد بدأ يقرر أوليات جيولوجية بسيطة - أن يكتب وينشر في الناس إنكارا مشينا جاء في نهايته: «إني أرجع عن كل شيء جاء في كتابي خاصا بتكوين الأرض، وعلى وجه عام كل ما يمكن أن يكون مناقضا لقصة موسى.»
وبعد أن فرغ اللاهوتيون من تقرير طريقة الخلق، ومادته والزمان الذي استغرقه، رجعوا إلى الكلام في تحديد التاريخ الذي وقع فيه الخلق.
إن سلسلة الجهود الطويلة التي بذلها رجال خصوا بأوسع المدارك وأرجح الأحلام، من «إيوسبيوس»
Eusebius
إلى يوشر
Usher
في سبيل تحديد التاريخ الذي وقع فيه الخلق، قد تركت الكلام فيها إلى فصل آخر. ويكفي أن نذكر أن النتيجة الأخيرة التي وصلت إليها الأغلبية العظمى ممن يعتبرون أقدر الذين أكبوا على درس الأقوال التي جاءت في الكتاب المقدس، قد أسلمت إلى القول بأن الخلق قد وقع في زمان تعد سنوه بعدد عشري، ويقع حوالي سنة 4000ق.م وفي القرن السابع عشر ذكر الدكتور «جون ليتفوت»
John Lightfoot
وكيل جامعة كمبردج، ومن أشهر من نبغ ممن درسوا العبرانيات، أن نتيجة أبحاثه القصية المستفيضة في التوراة والإنجيل قد أدت به إلى حقيقة أن «السماء والأرض، والمحيط والمركز، قد خلقن معا وفي وقت واحد، حيث كان الغمام الكثيف مملوء بالماء وأن هذا العمل قد وقع، وأن الإنسان قد خلق بقدرة الثالوث الأقدس، في 23 أكتوبر سنة 4004 قبل الميلاد، حيث كانت الساعة التاسعة من الصباح» وكان هذا انتصارا لأسلوب «لاكتانتيوس»
Lactantius
وهو نتيجة الدرس العميق في الإنجيل والتوراة مئات من السنين وغاية لجهد الفكرة اللاهوتية منذ أن ظهر «بيده» في القرن الثامن إلى زمان «فنسنت بوفييه»
Vincent Beauvais
حيث أعلن في القرن الثالث عشر أن الخلق لا بد أن يكون قد وقع في فصل الربيع، لكن وا أسفاه! فإنه لم يمض قرنان على ما بذل الدكتور «ليتفوت» من جهد في درس العبارات المنزلة ليستخلص منها حقائق يحدد بها ساعة الخلق وتاريخه، حتى استكشف الباحثون أنه في تلك الساعة التي حددها هذا اللاهوتي، كانت أمة من أرقى الأمم مدنية وأمثلهن تهذيبا، رافلة في أبهى حلة خلعتها الحضارات على الأمم في الأزمان القديمة، بل كانت منذ عهد عهيد، تجوب أنحاء العواصم المشيدة في مصر على ضفاف النيل، وأن أمما أخرى لا تكاد تقل عن هذه مدنية وعلما، قد بلغن درجة خطيرة من النشوء والارتقاء تحت سماء آسيا.
ولكن الأغرب من كل هذا أنه بعد أن فرغ اللاهوتيون من طريقة الخلق والمادة التي اتخذت خميرة للعمل، والزمان الذي استغرقه التاريخ الذي وقع فيه، بقي سؤال هو في الواقع أنكى وأعظم سؤال يقتضيه النظر في هذا الأمر. ولم يكن هذا السؤال بشيء سوى النظر في: «من في الواقع خلق الكون؟»
لقد ظل العقل الكنسي أزمانا طوالا غرضا لنظريات تختلف نسبة التشويش والإبهام فيها بنسبة رجاحة العقول التي كونتها، وقد اتفقت كلها على أن تتخذ متون التوراة والإنجيل لها ركيزة ودعامة.
قال بعض اللاهوتيين: إن الفعل الواقعي في الخلق راجع إلى الأقنوم الثالث من الثالوث المقدس، حيث ذكر في أول قصة الخلق الشعرية الرنات «أنه كان يرف على وجه الماء»
3
وقال آخرون بأن الخالق الفعلي هو الأقنوم الثاني، وقد استخلصوا من أسفار العهد الجديد نصوصا كثيرة تؤيد فكرتهم، في حين أن غيرهم عمدوا إلى القول بأن عامل الخلق كان الأقنوم الأول، وكان هذا الرأي منبثا في تينك القاعدتين الاصطلاحيتين المعروفتين في قانون الإيمان الخاص بالمذهب الرسولي والمذهب النيقاوي؛ ذلك المذهب الذي أثبت أن الخلق هو من عمل «الله الأب القادر على كل شيء، مبدع السماوات والأرض»، وغير أولاء وهؤلاء فئة رأت أن هنالك معنى عميقا تتضمنه كلمات «قال الله: ليكن» تلك التي وردت في سفر التكوين منسوبة إلى الخالق، فمضوا قانعين بأن الثالوث الأقدس في مجموعة هو السبب المباشر في الخلق، ولجأ آخرون إلى مقولات غيبية غريبة، فوصلوا إلى فكرة أن أقنومين اثنين تساندا واندمجا حتى أتما العمل الخلقي الخطير.
وإنك لترى أن كل هذه المذاهب تنطوي على مقدار عظيم من الشجاعة والإقدام والجرأة إذا ما تذكرت بجانبها تلك اللعنات التي يصبها مذهب «أتناسيوس» المصري
Athanasius
على أولئك الذين «يخلطون بين الأقانيم والذين يفصلون بين مادة الثالوث الأقدس.»
هذه الحالات التي تدرج فيها اللاهوت المدرسي قد ظهرت ممثلة في الفن المقدس، وعلى الأخص في النقوش الكاتدرائية وتلوين الزجاج وزخارف الفسيفساء والصور التي تزين بها كتب القداس.
وعلى هذا تجد أن الذات الخالقة قد مثلت مرة في الأقنوم الثالث «الروح القدس»، فوضعت في صورة حمامة ترف فوق العماء
Chaos
ومثلت أخرى في الأقنوم الثاني «الابن»، فكانت في صورة يافع تام الفتوة، ومثلت مرة ثالثة في الأقنوم الأول «الآب»، فكانت شخصا تتراءى فيه مخايل الأبوة وصفات الاحترام، ومرة رابعة في الأقنومين الأول والثاني «الآب والابن» فكانت في صورة شخصين أحدهما يافع والآخر كهل، ومرة خامسة في الأقانيم الثلاثة «الآب والابن الروح القدس»، فكانت في صورة شخصين يافع وكهل، يحمل كل منهما فوق رأسه التاج البابوي، وكلاهما ممسك بين شفتيه بطرف القوادم من جناح الحمامة، حتى تظهر كأنها مستمدة منهما معا وتظل معلقة في الفضاء الواقع بينهما.
على أن هذا لم يكن أكمل وجه من النشوء وصلت إليه الفكرة اللاهوتية في العصور الوسطى، أن الخالق كان يمثل في بعض الأحيان بصورة بشرية ذات بدن واحدة وثلاثة وجوه، وفي هذا دليل قاطع على أن المعتقد النصراني قد تطور في عقول بعض الأنقياء متدرجا من نفس تلك الحالات التي تمشى فيها معتقد أهل الهند القديمة منذ أبعد العصور؛ إذ كانوا يمثلون «الذات العليا» في صورة جسم بشري ذي ثلاثة وجوه، أحدهم لبراهما والآخر لفيشنو والثالث لشيفا.
وفي بداءة الأعصر الحديثة اضطر العالم النصراني - تحت تأثير أنبغ نابغة في الفن أقلته الأرض وأظلته السماء - أن يلزم ظاهر ذلك الرأي محبوكة أطرافه على تلك الصورة التي مثلتها الفكرات العبرانية الأولى؛ ففي سنة 1512، دشن «ميكل أنجيلو»
Michel Angelo
بعد أربع سنوات أنفقها كدا ونصبا، رسومه التي حلى بها قبة المعبد السستيني.
أما تلك الروسم فقد صنعت بأمر من البابا «يوليوس الثاني»
Julius II
وتحت عينه وبإجازة منه، لا لشيء إلا ليمثل بها حقيقة التصور الذي مضى سائدا على اللاهوت النصراني في ذلك العصر، ولا تزال حتى اليوم قائمة بكامل بهائها وعظمتها عنوانا على أرقى قمة بلغت إليها الفكرة القديمة تلقاء أصل الكون المنظور.
في منتصف السماوات العريضة ترى الآب - أقدر القادرين، والأقنوم الأول من الثالوث الإلهي - في صورة بشرية تحيط بها العظمة ويحفها الاحترام، ومن حوله الملائكة يقومون بتنفيذ أوامره تحملهم الرياح الزعازع القوية مكتسحة سطح الهاوية العظمى، متنقلا في منازل صورت على جنبات تلك القبة العظيمة، وهو يجد في كل منزلة منها في إتمام جزء من العمل الخلقي الخطير، وبإيماءة واحدة يفصل بين النور والظلام، ويحمل إلى العلاء القبة الزرقاء، ويجمع من تحتها البحور المتلاطمة، ويبرز الشمس والقمر والكواكب إلى الوجود، ثم يضعها حيث تدور من حول الأرض.
في هذا العمل الفني العظيم تركزت الفكرة التي ظلت أجزاؤها متناثرة خلال ألف من السنين، ولقد مضت أرشد العقول قانعة بها أو على الأقل متظاهرة أنها بها قانعة، وبعد مضي قرنين من الزمان على وجه التقريب، قام «بوسوية»
Bossuet
ليلزم الناس العكوف على ظاهر هذا التصور، مصبوبا في قالب استمد من أولى الروايتين اللتين وردتا في سفر التكوين، وبذلك عادت إليه قوة جديدة من الحياة فظل ثابتا في تضاعيف الكنيسة بقسميها كاثوليك وبروتستانت، وإلى هذه المماحكات تضاف مماحكات أخرى بدأت في الوجود خلال الأزمان التي انتعشت فيها الكنيسة الأولى، وظلت متنقلة في منازل البقاء حتى زالت وفنيت من عقول اللاهوتيين في عصرنا هذا.
4
ففي الرواية الأولى من روايتي سفر التكوين تجد أن الضوء قد خلق أولا، وأن الفصل بين النور والظلام قد تم في اليوم الأول من أيام الخلق، بينا تجد أن الشمس والقمر لم يخلقا إلا في اليوم الرابع، ومن حول هذه الروايات تكونت فكرات لاهوتية عميقة وآراء لا علمية زائفة، فكرات وآراء تراكم بعضها من فوق بعض خلال الأزمان متكاثفة حول تلك الحقيقة العظمى، حقيقة أن المتون الأصلية ليست إلا وحيا تاريخيا يثبت أنها مستخلصة من أقدم المعتقدات المروية عن القدماء، حتى لقد حجبت تلك التصورات اللاهوتية هذه الحقيقة عن الأنظار والعقول؛ فقد كان معتقد القدماء محصورا في أن لكل من النور والظلام ذاتية مستقلة عن طبيعة الأجرام السماوية، وأن الشمس والقمر والنجوم لم توجد لتزيد الضوء لا غير، بل «لتفصل بين النهار والليل والأبراج الفلكية والفصول والأيام والسنين»، «ولتحكم الليل والنهار.»
ولقد نجد أن لهذا الاعتقاد وثبات في عقول آباء الكنيسة الأولى، وعلى الأخص في عقل القديس «أمبروز»
st. Ambrose
فإنه يقول في كتابه الذي خصصه للكلام في مسألة الخلق:
يجب علينا أن نعي أن نور النهار شيء، وضوء الشمس والقمر والنجوم شيء آخر، فإن الشمس بأشعتها الذهبية لا تظهر إلا لتزيد النهار ضياء ولمعانا؛ لأننا نرى أنه قبل شروق الشمس يتنفس النهار، ولكنه لا يكون في كامل بهائه؛ لأن الشمس من شأنها أن تزيده نورا وضياء.
ولقد أصبحت هذه الأقوال «كنزا من كنوز الفكرة المقدسة التي تقوم عليها معتقدات الكنيسة» فاعتنقها أهل القرون الوسطى ومضوا بها مؤمنين. على أن حفلات العشاء الرباني
Mysteries
والروايات التمثيلية التي ذاعت خلال العصور الوسطى لتزودنا بأمثال غريبة تؤيد ذلك. ففي رواية تمثل طريقة خلق العالم عندما أراد الله أن يفصل بين النور والظلام، يذكر في الإرشادات التي تعطى لمديري المسرح في صلب الرواية. «هنا يجب أن يكشف للنظارة عن قماش - ستار - نصفه أسود ونصفه أبيض» وكذلك زود هذا التصور بعوامل جعلته أكثر استقرارا مع الزمان؛ فإن زخارف الفسيفساء في كنيسة «القديس مرقص»
st. Marc
في مدينة البندقية، والرسوم التي زين بها موضع العمادة
Baptistry
في فلورنسا وفي كنيسة القديس «فرنسيس»
st. Frances
في «أسيزي»
Assisi
وفي نقوش المذبح في «ساليرنو»
Salerno
تعطينا جماعها أمثالا حية على هذا المعتقد، فترى الخالق قد وضع في السماوات قرصين أو شبحين حيين في حجم واحد، قد لون كل منهما بلون ملائم أو نقش بما يدل على أن أحدهما يمثل النهار والآخر يمثل الليل، وما لا خفاء فيه أن هذا التصور هو بلا ريبة تصور ذلك الشخص أو الأشخاص الذين جمعوا من الأساطير الكلدانية، وغيرها أعرق منها قدما، تلك القصص التي بنيت عليها روايات الخلق التي ذكرت في السفر الأول من الأسفار المقدسة وإلى عهد قريب جدا، لا يكاد يغرب عن ذاكرة الأحياء، كان المعتقد على وجه الإطلاق «دائما وفي كل مكان وعند كل شخص» أن الكون كما نراه الآن قد خلق مباشرة من طريق صوت الواحد القهار أو بيده أو بكليهما، من لا شيء، وفي لحظة واحدة أو خلال ستة أيام أو فيهما معا، وأن ذلك وقع في سنة 4000 قبل بدء التاريخ الميلادي، وأن هذا الخلق لم يحصل إلا ليمتع به سكان الأرض التي هي القاعدة والأساس الذي قام عليه كل الهيكل الكوني.
غير أنه منذ أزمان بعيدة فرخت في ثنايا العقل الإنساني جراثيم لفكرات أخرى قد يرجع بعضها إلى زمان أبعد من ذلك الزمان الذي أينعت فيه المدنية البابلية. فقد نجد في النقوش الآشورية آثارا تدل على تلك الفكرة الكلدانية البابلية التي تشير إلى «نشوء» الكون في جوف «الغور الأبعد» أو «الفيضان الأول»، وإلى خلق الحيوانات في البر والبحر. وهذه الفكرة ترجع بنا سعيا - ولو بشكل جزئي - إلى الصورة التوحيدية في الدين، تلك التي انتقلت بطريق اللقاح إلى الكتب المقدسة التي اختص بها العبرانيون، جيران الكلدانيين وتلاميذهم، غير أن نشوء هذه الفكرات في العالم النصراني فيما بعد، قد أعاقت خطاه - كما سنرى - روايات وأقوال أعظم تأثيرا وأبلغ خطرا، ورثت من نواح أخر وكانت أكثر ملاءمة لما انطوى عليه العقل الكنسي في بدء نشوء الدين المسيحي.
ومما يدعو إلى النظر والتأمل تأثير تلك الفكرة التي عادت إلى الحياة في عقول الفلاسفة الأيونيين
Ionian Philosopheers
وقد يرجح أن تكون قد نقلت إليهم عن الكلدانيين من طريق الفنيقيين. ففي عقول رجال من الفلاسفة أيونيا أمثال أنكسنميدر
Anaxmander
وأنساكسيمنيس
Anaximenes
قد نمت هذه الفكرة نماء عظيما؛ فإن الأول منهما قد رأى أن الكون نتيجة لأسلوب من النشوء، في حين أن الثاني قد مضى متبعا خطوات سلفه عاملا على أن يخطو بهذا الأسلوب التفكيري خطوات أخرى، معتمدا في فكراته على مؤثرات من النشوء الكوني أيدها العلم الحديث.
هذه الفكرة العامة التي تثبت أن الطبيعة إنما تتبع في أساليبها طريق النشوء لا طريق الطفرة، قد استمرت ثابتة في الفكر اليوناني وتشعبت في طرائق كثيرة، منها الزائف ومنها الصحيح. على أنه من المحقق أن أفلاطون قد قاوم هذه الفكرة، غير أن أرسطوطاليس قد أقام من نواحيها وشيد من نقائصها متبعا أساليب كثيرا ما تذكرنا - إذا ما وقعنا عليها - بوجهات من النظر أقرها العلم في العصور الأخيرة.
أما في العصر الروماني فإن «لوكريشيوس»
Lucretius
قد عرف كثيرا من حقائقها؛ حتى لقد طبق الأسلوب النشوئي على كل الموجودات.
ولقد رأينا من قبل كيف أن الفكرة في الخلق المادي المباشر، وعلى الأساليب التي يتبعها الإنسان في أعماله العادية، قد تملكت عقول رجال الكنيسة الأولى حتى اكتسحت منها كل التصورات التي قامت على فكرة النشوء. ومن تلك الآراء الأولية التي ذاعت في الخلق منبثة في تضاعيف الأساطير البابلية ومن ثم اندمجت في تضاعيف سفر التكوين، استمدت الفكرات الأورثوذكسية تلقاء هذا الموضوع الخطير، وأخذت تنمو حتى أصبحت فيضا عرما ظل ينساب تياره الجارف طوال القرون الوسطى إلى الأعصر الحديثة، غير أن أمواج ذلك التيار الجارف المتلاطمة كثيرا ما كانت تتكسر بين آن وآخر على صخور صلدة من الأفكار الحرة اعتنقها رجال خصوا بقدر عظيم من البأس وشدة المراس؛ فإن «سقوطس إرغينا»
Scotus Erigena
و«ذنزسقوطس»
Duns Scotus
بين فلاسفة العهد المدرسي، على ما حف بهما من أسباب الحيرة والارتباك قد استنارا بشيء من تلك الخيوط المشعة التي كانت تنبعث من بين طيات الماضي البعيد، فنقلا للخلائف من بعدهما مذاهب في الأسلوب النشوئي في خلق الكون محورة تحويرا ما.
في النصف الأخير من القرن السادس عشر أخذت هذه النظريات النشوئية تتحيز على صورة أدق وبشكل أظهر في عقل النابغة الكبير «جيور دانو بروند»
Jiordano Brund
أول واضع للفكرة الأساسية التي قامت عليها النظرية التي تسمى في الأعصر الحديثة بالرأي السديمي
Nebular Hypothesis
غير أن استشهاده بحكم محكمة التفتيش في روما كان سببا في أن تختفي هذه النظرية وتزول تماما، كما لو كانت قد أحرقتها النيران المتلظية التي التهمت جثمانه سنة 1600 على «الكامبو دي فيوري».
غير أنه لم يمض قرنان على استشهاد «برونو» حتى خطا الناس إلى عالم من الفكر كان من المحتوم أن تفرخ فيه في جوه جراثيم نظرية نشوئية في أصل الكون المنظور سريعا وبلا مهل، فقد تتابع في الظهور خمسة من رواد الفكر الإنساني الذين لم تجد بأمثالهم بطون الأمهات الواحد تلو الآخر، فكانت سلسلة من العظمة والخلود مثل حلقاتها الخمس كوبرنيكوس وكبلر وغاليليو وديكرت ونيوتن، فلم يصلوا إلى نهاية عملهم العظيم حتى فني التصور اللاهوتي في حقيقة الكون وزال من عالم المعرفة العامة، «فالقبة الزرقاء الفسيحة الرحاب»، و«الدوائر البلورية» والواحد القهار متوجا «على دائرة السماوات» واستخدامه يديه أو الملائكة في حفظ الشمس والقمر والسيارات في دورتها المرسومة لخير الأرض وسكانها، وفتح «نوافذ السماء» وغلقها؛ لتنصب على الأرض «المياه المعلقة فوق القبة الزرقاء» و«تعليق قوسه على صفحة السحاب»
5
وإظهار «الإشارات والعجائب» وإرسال المذنبات و«انقضاض الصواعق» انتقاما من الأشقياء، و«هز الأرض» هزة العنيف من الغضب؛ كل هذه أشياء قضى عليها هؤلاء الرواد قضاء لا قيام بها بعده.
لقد زود هؤلاء الخمسة العظماء العالم بوحي قدسي جديد. أما نيوتن فقد أبدع تصورا نبيلا قدر له أن يكون سهما مسددا يصوب إلى قوام النظرية القديمة في حقيقة الخلق، بأن أثبت أن نواحي الكون يحكمها قانون شامل ثابت القواعد، بدلا من قواسر إرادة واحدة تمثل في ذات كلية القدرة، أما اضطهاد عالم اللاهوت، للأربعة الأول من حلقات هذه السلسلة فأمر معروف ذائعة حقائقه، ولكن حقيقة أن «نيوتن» قد اضطهد وعوجل بالعدوان على الرغم من الروح الدينية الحساسة التي كانت تملأ جوانحه، فحقيقة قليلا ما عرفت، وبكثير من الشدة والصرامة في القول وجه إليه من الانتقادات إزاء أفكاره التي بشر بها في حقيقة قانون الجاذبية نقد محصله «أنه انتزع من الله التأثير المباشر في خلقه وعمله الكوني، ذلك التأثير الذي تنسبه إليه الكتب المقدسة، وبدله بقوة مادية ميكانيكية»، وأنه «أبدل العناية الإلهية بالجاذبية» على أنه فضلا عن العمل المباشر الذي قام به هؤلاء الرجال، فإنهم مهدوا السبيل ووضعوا القواعد التي قامت عليها نظرية النشوء، ناقضة لنظرية الخلق.
ومما لا يجب أن نغفل عن ذكره أن «رينيه ديكارت»
Descartes
على الرغم مما أحاط بكثير من استنتاجاته من الأغلاط، وعلى الرغم مما كان في زمانه من تأخر الفوسيقى وضعف المعرفة بكثير من مبادئها، قد أثر عمله العظيم الذي قام به تأثيرا كبيرا في إضعاف التصور القديم؛ فإن نظريته في الكون على اعتبار أنه نتاج تفاعل مادة شاملة نواحيه تضبطها في نظام محبوك الأطراف حركات خاضعة لنواميس طبيعية، لم تكن سوى فرض نظري صرف، قد أثرت في العقول تأثيرا حرفها عن التصور اللاهوتي القديم في خلق العالم، لقد كانت نظرية «ديكارت» مثالا من الكد الذهني؛ إذ يوصل إلى خطأ لا إلى صواب، ولكنه في الوقت ذاته يمهد الطريق لظهور الحق الخالد، وعلى الرغم من أن «ديكارت» كان في ذلك الزمان مقيدا بمخاوفه من الكنيسة مغلول اليد بتهديداتها، فإن ذلك الجزء من مؤلفاته - وهو الذي تناول فيه تكوين العالم - لم يكن بضعيف الأثر في توجيه العقل الإنساني في ذلك المتجه الذي أدى إلى تقبل فكرات فاض بها على العالم مفكرون أقل منه خوفا وأصلب عودا.
بعد هذا العهد بثلاثين عاما ظهر في إنجلترا جهد جديد، إن اختلف عن جهد «ديكارت» في ماهيته، فإنه يتفق وإياه في النتائج. ففي سنة 1687 نشر «رالف كادورث»
Ralph Cudworth
كتابه «نظام الكون العقلي» ولا ريبة في أن هذا الباحث يعتبر إلى الآن من حيث سعة العقل والاستعماق في الدرس وقوة التفكير والتسامح والأمانة، من أكبر مفاخر الكنيسة الإنجليزية، وكان كتابه جديرا بأن يصدر عن مجموع هذه الصفات معا، وكان غرضه من هذا الكتاب أن يبني قلعة تحتمي وراءها النصرانية من غوائل كل الخطرة المهدمة التي ذاعت لعهده في أصل الكون قديما وحديثا . أما الأساس الذي قامت عليه هذه القلعة الحصينة فقد بني من فكرات قديمة صبت في صور حديثة أخاذة بالألباب. غير أن البناء العلوي كان كلما أخذ في الظهور للأنظار شيئا فشيئا، ظهرت فيه مخايل كانت لا بد من أن تثير في نفوس الغارقين في بحار الأورثوذكسية هواجس وريبا، ولو أن النبوغ والعبقرية قد تركا آثارهما الخالدة في كل جزء من أجزاء ذلك البناء المشمخر، فلقد رفض تلك النظريات القديمة التي كانت توحي إلى الناس بفكرة أن الله الواحد القهار قد صنع الكون بجهد ذاته وشخصه، ومضى قانعا بنظرية النواميس الطبيعية وأثرها، وأنحى على القول بتواتر وقوع المعجزات وتدخلها في شئون هذا العالم، وأشار إلى حقيقة أن في طبيعة الخلق «أغلاطا» و«مخارق»، ودلل بأقصى ما فيه من قوة على حقيقة أن الأصل في تكوين العالم وحفظه على هذا النظام، يرجع إلى أسلوب في النشوء التدرجي، وأن هذا الأسلوب يخضع لنواميس ثابتة منبثة في تضاعيف الطبيعة.
في أواخر القرن التالي ظهر في أفق البحث نابغة مفوق هو «عمانوئيل كانت»، وكان من بواكيره أن عكف على الرأي السديمي يقوي من دعائمه معتمدا على ما كشف نيوتن من نواميس الطبيعة وما وضع من نظريات؛ فأيد ذلك الرأي بما ثبته وجعله أشد استقرارا عن ذي قبل، وفي الوقت نفسه ظهر «لابلاس» فعضد ذلك الرأي بمبادئ رياضة بلغت أقصى حدود القوة والتأثير، حتى لقد غرس في الفكر الحديث فكرة أن نظامنا الشمسي وغيره - بما فيها من الشموس والسيارات والأقمار وحركاتها المختلفة وأبعادها وأقدارها - تنتج بالضرورة من خضوع الكتل السديمية لقوانين طبيعية ثابتة.
هنا علت الصيحة من جانب اللاهوتيين في وجه «الإلحاد»، وأعلنت الحرب صراخا واندلعت ألسنتها النيرانية، غير أن العلامة «هرشل» قد كشف مع غيره من الفلكيين عن كثير من البقع السديمية التي تدل ظواهرها على أنها من طبيعة غازية، بل أظهروا بكثير من البراهين الطبيعية والرياضية أن النظرية السديمة تعلل قسما عظيما من الحقائق الكونية، وكانوا على الرغم من الضجيج والإرعاد يذللون كل عقبة ويجنون كل يوم ثمرة، حتى إذا ما بلغ التلسكوب من حسن التركيب مبلغا جعله أكثر رقيا، وأضبط كشفا، حققوا أن تلك البقع المكونة من المادة السديمية ما هي إلا عديد وافر من النجيمات المتقاربة الأبعاد، على مناهضي الرأي السديمي لم يلبثوا إلا قليلا حتى أخذوا بهزات الفرح والسرور وبهروا بها، بل بدءوا يرتلون أناشيد الابتهاج بعلم الفلك؛ لأنه - كما كانوا يقولون - قد أثبت حقائق الكتب المقدسة بالبراهين القاطعة، وسرعان ما وصلوا إلى نتيجة هي عند قولهم بأن كل السدم لا بد من أن تكون متماثلة، وأنه إذا كان بعض السدم مكون لدى الحقيقة من كوكبات من النجيمات، فإن كل السدم لا بد من أن تكون كذلك، ولا يمكن أن يكون بعضها عبارة عن ركام من المادة الغازية؛ لأن بعضها ليس من هذه الطبيعة.
هنا وقفت خطا العلم قليلا؛ فإن المذهب الذي ساد إذ ذاك كان يتلخص في القول بأن السبب في أن كل السدم لا تظهر في صورة نجيمات مستقل بعضها عن بعض، إنما يرجع إلى أن قوة التلسكوب لم تكن كافية للكشف عن حقيقتها، على أن الزمان كفيل بإظهار الحق؛ فإن الحق رد في نصابه سريعا باستكشاف الاسبكتروسكوب وطريقة الحل الطيفي ثم باستكشاف «فرونهوفر»
Frannhofer
إذ عرف أن الحل الطيفي لجسم غازي في حالة الاشتعال يكون غير متواصل، بل تقاطعه خيوط تعترض تواصله، وباستكشاف «درايبر»
Draper
إذ ظهر له أن الحل الطيفي لجسم صلب في حالة الاشتعال يكون متواصلا بلا خيوط تقاطعه، وما وجه الاسبكتروسكوب إلى السدم حتى عرف أن كثيرا منها غازي التركيب، ومن هنا شبت تلك النظرية القائلة بأن هذه الكتل السديمية ليست سوى درجات مختلفة من التكثف؛ إذ يكون بعضها عبارة عن بقعة من الضباب وبعضها ذات مراكز مشعة. نستنتج منها أن خطا النشوء التكويني لا تزال دائبة الفعل جارية التأثير، وأن مشاهدات مثل تلك التي وقع عليها لورد روس
Lord Rosse
وأرست
Arrest
من شأنها أن تزيدنا اعتقادا بصحة هذه النظرية، ومن بعد كل هذا حبانا العلم بأعظم ميراث خلفه العلماء للقرن التاسع عشر في الفوسيقى، ذلك الميراث الذي ساعد على تعليل كثير من معضلات النظام الكوني، بنظرية أن الحرارة إنما هي أثر ميكانيكي صرف.
ولم يزد الرأي السديمي بالبحث العلمي إلا قوة على قوته؛ ففي سنة 1850 أجرى «بلاتو»
تجربة في دوران الكرات المائعة؛ فكانت برهانا إن لم يثبت حقيقة الرأي السديمي بالاختبار، فلا أقل من أنه مثله في الواقع الملموس تمثيلا صحيحا، حتى إن رجلا من أكبر مناصري المذاهب الأورثوذكسي كمستر «غلادستون» قد اعترف بعد لأي بأن وجها ما من أوجه الرأي السديمي لا يبعد أن يكون صحيحا.
هنا ظهرت بوادر تلك الحالة التي تسلم فيها الأفكار اللاهوتية سلاحها لقوة العلم تحت عنوان إن العلم إنما يؤيد من مذاهب اللاهوت، وتلك صورة في التراجع كثر ما رأينا من أمثالها في كثير من الميادين التي تناحر فيها العلم واللاهوت، ولا غضاضة في أن نأتي على مثال، إن كان محدود المرامي قاصر الغايات، إلا أنه من أفضل الأمثال التي توقفنا على تلك الطرق الغريبة التي كان ينتحيها اللاهوتيون ليصلوا إلى مثل هذه الهزائم ملثمين؛ فمن منذ سنوات قليلة
6
ألقى أستاذ من أشهر أساتيذ الكيمياء في مدينة نيويوريك - إجابة لطلب رءوس كنيسة من كنائسها الحديثة - محاضرة أذيعت في الجرائد وفي الإعلانات الكبيرة التي غطيت بها جدران المدينة، أن الغرض منها إظهار أن العلم يؤيد نظرية الخلق التي ترويها الكتب المقدسة المنسوبة إلى موسى، فاجتمع عدد عظيم من السامعين، وبدأ المحاضر في إجراء عدة تجاريب فذة كان من أدواتها الأوكسجين والهيدروجين والحامض الكربونيك على الطريقة التي اتبعها «بلاتو»، والحق أن تلك التجاريب قد أيدتها المهارة، ولم ينقصها الحبك العلمي. ولما ظهرت الكرة الزيتية الملونة التي تمثل الأرض في بيئة شفافة متعادلة الكثافة من كل جهاتها، ثم تسطحت لدى القطبين وانبعجت من الوسط فخرجت من حولها المناطق التي تشابه مناطق زحل، ثم تكسرت متطايرة ودارت حولها، ثم تكونت هذه بعد ذلك أقمارا بأن تمزقت مرة ثانية، فظلت برهة تدور حول الكتلة المادية الأصلية، عج المستمعون بصياح الفرح وراحوا يصفقون بأشد ما أوتوا من قوة، فقام رجل من أغنياء المدينة وعبر عن شكر الجموع التي كانت تستمع للمحاضر على ما أظهر «لهم من صورة تنطبق كل الانطباق تفصيلا وإجمالا على العبارات التي وردت من السفر المقدس وعلى نتائج العلم الأخيرة»، وما زال عجيج السامعين يشق الأجواء وتصفيقهم يصم الآذان، حتى انصرف الجمع شاعرا بأن هذه الكنيسة قد خدمت الأورثوذكسية أمتع الخدمات وأبقاها.
وما تظهرنا عليه هذه الحادثة في هذا الميدان على ضيق مجاله، قد تكرر مرات مديدة في مواطن أخرى حيث برز على مرسحها ممثلون أتم قدرة وأبعد جولة؛ فإن عشرات من اللاهوتيين - ولا نذكر من مشهوريهم كمثال يحتذى في الفطنة والحماسة إن لم يكن في العلم؛ إلا مستر غلادستون - قد بذلوا جهدا كبيرا في سبيل «التوفيق» بين روايتي سفر التكوين بعضهما وبعض؛ ومن ثم بينهما وبين الحقائق التي استكشفت في أصل الكون من طريق علم الفلك: الجيولوجيا والفوسيقى والكيمياء، وقد ذكر لاهوتي من المشهورين، وهو أستاذ اللاهوت في جامعة كمبردج، نتيجة ذلك الجهد العظيم، فأعلن أنه «ما من محاولة قصد بها التوفيق بين سفر التكوين وبين الحاجات التي تتطلبها العلوم الحديثة قد عرف أنها نجحت من غير أن تلجأ إلى قدر عظيم من الضراعة والتوسل أو التأويل الإجباري، تلك الأشياء التي تلزمنا بديهة العقل أن نبتعد عنها جهد البعد في مثل هذه المشكلات.»
على أن ما أوحت به مستكشفات طائفة أخرى من العلوم التي كانت تعارض اللاهوتيين حينا، وحينا ترضي نزعة التأويل التي نزعوا إليها، قد مهدت السبيل لبلوغ حالة اطمأن إليها الذين شغلتهم هذه المشكلة، فجاء في أول الأمر نقاد إنجيليون - وهم لدى الواقع باحثون مسيحيون عمدوا إلى خدمة الحق وأحبوا الوصول إليه - وبرهنوا بما لا يحف به ريب ولا يعتريه شك، على وجود روايتين مستقلتين للخلق على الأقل في سفر التكوين، وأن هاتين الروايتين قد يمكن أن يعمد إلى التوفيق بينهما من طريق القس والإجبار، ولكنهما - في مفصلاتهما - متناقضتان تناقضا صريحا، ولقد أظهر هؤلاء الباحثون الأمناء فضلا عن ذلك أن تينك الروايتين ليستا نتاجا لمخاطرات القساوسة ولا لمماحكات الرهبان ومكرهم، بل هما لدى الواقع المشاهد أجزاء متناثرة من أساطير وخرافات ومذاهب لاهوتية قديمة العهد، خوطب بها اليقين المصفى من أكدار الشك واللاأدرية فقبلها، وإنها لم تجمع بين دفتي معتقد ما إلا لتخدم أسمى الأغراض التي رمى إليها أولئك الذين أكبوا بداءة ذي بدء على وضع تلك الصورة التي صبت في قالبها كتبنا المقدسة.
وعقب على هؤلاء اللاهوتيين علماء الأرخيولوجيا واللغويون والباحثون في العاديات القديمة من أمثال رولنسون وجورج، سميث وسايس وأوبرت وجنسن
Jeusen
وشارد وديلتش، وفئات من أمثالهم المنقطعين للدرس والبحث فحلوا رموز الكثير من النقوش التي عثر عليها في مكتبة آشوربانيبال في مدينة
Nineveh
وهنالك وقعوا على رواية أو قصة في أصل الكون تطابق في أهم مفصلاتها، وأدق صورها تلك الأقاصيص الأخيرة تعثر بها في سفر التكوين.
لقد كان في هؤلاء الأفذاذ من الشجاعة ما جعلهم يشيرون إلى هذه الحقائق وأن يصلوها بحقيقة أن تلك الأساطير والخرافات والنظريات التي ذاعت في بلاد الكلدان وبابل، هي لدى الواقع أقدم بكثير من تلك التي نقع عليها في أسفار العبرانيين على الرغم من أنها تشابهها، وعلى الرغم من أننا نعثر عليها متناثرة خلال كتبنا المقدسة، ولقد أظهروا فضلا عن ذلك أنه من الطبيعي أن تكون الروايات اليهودية التي قصت في حقيقة الخلق قد استمدت منها خلال أزمان بعيدة، وذلك عندما نشأ أول أنصار اليهودية بين الكلدانيين، بل أبانوا كيف أن قصص الخلق اليهودية التي مستها روح الشعر، قد اشتقت من التقاليد المقدسة التي ذاعت بين هذه الشعوب، أو من منابع سابقة نراها شائعة بين كثير من الأمم القديمة على اختلاف أصولها.
ولقد ألم المحترم دكتور «درايفر»
Dr. Driver
أستاذ العبرانيات ورئيس كنيسة كريست في أكسفورد - في ملخص فيه من عمق الفكرة والشجاعة والترابط ما هو جدير بأن يشرف اسمه كما يشرف المركز الذي كان يشغله - بهذه الحالات إلماما فائض الجوانب، فبعد أن ذكر أن العبرانيين كانوا شعبا من كثير من الشعوب التي فكرت في حقيقة الكون وأصله، قال «بأنهم نسجوا من الخيال روايات وقصصا حاولوا أن يعللوا بها أصل الأرض والإنسان»، وأنهم «كانوا يضعون تلك الروايات وضعا من عند أنفسهم حينا، ولجئوا إلى أخذها عن جيرانهم حينا آخر»، وأن «نتفا من النظريات التي ذاعت بين الآشوريين والفينيقيين قد احتفظ بها اليهود، وأن في هذه النتف من المشابهة لما جاء في القصص الإنجيلية، ما يؤيد لنا زعم الزاعمين بأن كلتيهما مدينتان بالانشقاق إلى أصل تقليدي واحد.»
وبعد أن أتى على مقطوعات كلدانية في أصل الخلق قال: «إذا استنرنا بنور هذه الحقائق صعب علينا أن نتعامى عن النتيجة التي تترتب عليها، والتي توحي إلينا بأن القصة الإنجيلية قد استمدت من نفس النبع الذي استمد منه غيرها من القصص، ومن الجلي أن المؤرخين الإنجيليين قد أخذوا المواد التي اعتمدوا عليها من أخص التخيلات الإنسانية التي ذاعت في عهدهم؛ فالمواد الأولية التي تجمعت في عقليات أمم أخرى فأخرجت أشد النظريات الكونية قربا من الغرارة وإمعانا في البساطة، أو اقترنت بصورة من صور التكثير، قد أعاد إليها الحياة، وحور فيها نبوغ العقل اليهودي وعبقريته، التي اختص بها مؤرخوه الأولون، فاستطاعوا أن يخلقوا من تلك الأشياء بيئة أينعت فيها دوحة من الحقاق الدينية ثبتت أصولها، وذهبت فروعها في السماء».
ولقد أتى الدكتور «ريل»
Dr. Ryle
أستاذ الإلهيات في جامعة كمبردج على حقائق تزجي إلى هذه الجامعة، وإلى مؤلفها من الشرف ما أزجت من قبل كتابات «درايفر» لجامعة أكسفورد، فقال بأننا إذا قلنا بأن المسيحي «إما أن يلغي ثقته في منتجات البحث العلمي، وإما أن ينبذ معتقده في الأسفار المقدسة، كان هذا أقرب الأشياء إلى العسف والابتعاد عن روح الحرية التي يسوق إليها المعتقد النصراني.» ثم قال: «إن الموقف الذي كان يقفه قدماء اللاهوتيين لم يصبح الوقوف فيه اليوم مستطاعا، وإن موقفا آخر لا بد من أن تلجأ إليه في العصر الحاضر، بل يجب أن نضرع إلى الله لكي يلهمنا ما هو، وأن نستمسك به مملوئين أملا .» ومن ثم بدأ يقارن بين قصة الخلق العبرانية وبين أقاصيص أعرق منها قدما كانت قد ذاعت بين شعوب تمت إليها بصلات الدم، وعلى الأخص بالكونيات الآشورية البابلية التي وجدت من قبلها، وأظهر في النهاية أن جماع هذه الروايات مشتقة من أصل واحد، بل إنه لم يقف عند هذا الحد من البحث، بل قضى بأن كل محاولة يراد بها تأويل نواح خاصة من تلك الأقاصيص لتصبح من طريق التأويل في ألفة من الآراء العلمية الحديثة، تقضي حتما باللجوء إلى تفسيرات لا علمية زائفة، وقال بأننا إذا أردنا أن نحتمي وراء تفسير علمي «وجب علينا أن نعتبر الوصف العبراني للكون المنظور وصفا غير علمي إذا حكم فيه من ناحية المثل الحديثة في العلم، وإنما هو يشاطر تماما حدود المعرفة القاصرة خلال ذلك العصر الذي كتب فيه» ولما وصل إلى الكلام في رواية سفر التكوين في أصل الإنسان الطبيعي قال إنها «تفسير في عبارات بسيطة لخرافات ذاعت قبل زمان التاريخ، وما هي لدى الواقع إلا أوصاف تصويرية بعيدة عن روح العلم.»
من هذه الأقوال وكثير غيرها مما فاه به باحثون مسيحيون في ممالك أخرى، يمكننا أن نستنتج إلى أي مدى ذهب انتصار العلماء على رجال اللاهوت القديم.
ولقد كان للأبحاث التي تناولت الآثار الآشورية، وغيرها من المنابع الأخرى، آثر حمل أوسع العلماء الذين درسوا في المعاهد النصرانية علما وأعمهم شهرة على التسليم بأن أقاصيص الخلق التي ظل اللاهوتيون يعملون أزيد من ألفي سنة على التوفيق بينها وبين المستكشفات العلمية، تلك الأقاصيص التي سدت الطريق في وجه كوبرنيكوس وغاليليو ونيوتن ولابلاس، قد نقلت نقلا أو نشأت محورة عن مجموعة تلك الأساطير والخرافات التي انتحلها العبرانيون من طريق علاقاتهم القديمة ببلاد الكلدان؛ ومن ثم صبت في قالب توحيدي، وأدمجت بعضها في بعض إدماجا غير تام التآلف، ثم صيغت في تلك القوالب الشعرية التي تقع عليها في الكتب المقدسة التي ورثناها عن أسلافنا الأولين.
هنا نجد أن العلماء قد انقسموا قسمين؛ الأول: يتكون من تلك الطوائف التي وقفت نفسها متوافرة على درس العلوم الطبيعية، وعملت متضافرة في سبيل تلك الحقيقة العظمى، حقيقة أن الكون على الصورة التي نراه عليها الآن، ليس إلا نتيجة لأسلوب من النشوء؛ أي أثرا لفعل النواميس الطبيعية التدريجي في الحالات التي اختصت بها كتلة من المادة الأولية. والثاني: يتكون من طوائف خطيرة من العلماء أكبوا على العلوم التاريخية واللغوية والأرخيولوجية ليستخلصوا منها براهين تثبت بالواقع المحسوس أن كل الأقاصيص المقدسة التي رويت في أصل الكون كانت نتيجة تحول تحريفي استمد من فوضى الآراء العقيمة الساذجة التي ذاعت خلال العصور الأولى.
أما جموع اللاهوتيين الذين قاوموا نتائج العلم عصورا طوالا فقد ادعوا بأنهم إنما جاهدوا وصارعوا في سبيل أن ينصروا «حقائق الكتب المقدسة»، حتى لقد كان جوابهم الأخير الذي أجابوا به على ما أظهر العلم من نتائج أولية بسيطة في حقيقة نشوء الكون المادي قد انطوى على قولهم: «إن الإنجيل حق وصدق»، وإنهم لصادقون، ولو أن صدقهم هذا لدى الواقع أنبل وأقوم مما خيل إليهم أنه صدق حقا؛ فإن العلم في حملته التي هزم بها اللاهوتيين، قد وقع في كتبنا المقدسة على حقيقة أنبل وأروع، بل أعظم وأمتع من لزوم الظواهر التاريخية والتفسيرات الحرفية التي عكف عليها اللاهوتيون وجاهدوا في سبيلها طويلا، وكلما تقدمنا في بحث النتائج التي ترتبت على الصراع الذي وقع في هذا الميدان، زدنا يقينا بصحة تلك النتيجة التي تلقي في روعنا دائما بأن القيمة الحقيقية في كتبنا المقدسة، تلك القيمة التي لا يمكن أن يقدرها عقل أو يزنها خيال، وإنما تنحصر في أنها عرفتنا الطريق التي يجب أن يجاهد فيها النوع الإنساني ليصل إلى تصوات ومعتقدات، وأن يتشبث بآمال أرقى مما بين يديه وأهدى، سواء أفي الآداب أم الدين، فإذا حللنا طبيعة تلك الجهود واستعرضنا صورها على تتالي الأجيال والعصور، بان لنا ما في كل كتاب من الكتب المقدسة من القيمة، واتضح لنا أنه ثمين غال، وأن كلا منها حق وصدق على اعتبار ما. على أن الحقيقة التي لا يجب أن نغفل عنها هي أنه ليس واحد من هذه الكتب فيه ما يتفق، وتلك الأوليات الصحيحة التي وصل إليها النوع الإنساني في العلم والتاريخ، كما أنه من أكبر العبث أن تحاول أن تصل إلى التوفق بين الطرفين؛ فإن أقل ما في أمثال هذه المحاولة من حمق، تعرض من يشرئب إليها، ونفس الكتب المقدسة التي يفرغ هذا الجهد في سبيلها، إلى أخطار هوجاء، أقلها أن يزول أثرها المنشود من صدور الناس.
أما ما رمت إليه الكتب المقدسة التي ظهرت في هذا العالم، وكتبنا على الأخص، فهو السير بأرقى التصورات والمعتقدات والآمال التي اختص بها النوع الإنساني في طريق تدرجي من النشوء ينتزعها من غرارتها الأولى وطفولتها خلال تلك المزالق الكبرى والانقلابات الخطيرة التي تقع عليها في تاريخ الإنسان، وعلى الرغم من أننا نعتقد بأنها في غالب أمرها ذات قيمة كبرى على اعتبار أنها مدونات كبرى لحقائق التاريخ المعروفة، وعلى الرغم من أن الأبحاث الحديثة قد زادت لدينا من قيمتها على هذا الاعتبار، فإننا إنما نذهب في تقديسها خطوة أخرى إذا عرفنا بأن قيمتها العظمى لا تنحصر في أنها مدونات تاريخية وثقى لا غير، بل مرآة تنعكس عليها صور النشوء والتطور التي أصابت قلب الإنسان وعقله وروحه، إننا نعتبر أنها حق وصدق؛ لأنها نشأت على مقتضى القوانين التي احتكمت في تطور الحق في تاريخ الإنسان، ولأنها كيفما ظهرت وعلى أية صورة برزت، فكانت شعرا أو ذكرا للحوادث التاريخية أو تقنينا أو تشريعا أو أساطير أو خرافات أو مضربا للأمثال أو قصصا، قد أبانت لنا عن أنبل ما صادف الإنسانية من صور النشوء خلال الأزمان، فإذا ادعى إنسان بأنها غير صحيحة كان مثله كمثل من يدعي أن وجود زهرة أو شجرة أو سيار من السيارات أمر غير حقيقي، وأنك إذا استهزأت بهم فإنك إنما تستهزئ لدى الواقع بناموس الكون العظيم، فإن استجماع صور جميلة من تصورات الرجال الذين وقعوا تحت تأثير موحيات عريقة في القدم، سواء أكانوا في مصر أو الكلدان أو الهند أو فارس، على الصورة التي تراها في سفر التكوين أو المزامير أو سفر أيوب أو غير ذلك، لعمل خدم به جامعو الكتب المقدسة الحديثة الإنسانية أكبر خدمة؛ إذ زودوها بكنز يزداد قيمة على مر العصور، كما أن العلم الحديث باستبداله السماوات والأرض القديمتين بسماوات جديدة وأرض جديدة، وحكم القانون بحكم الإرادة القاسرة، وفكرة النشوء بفكرة الخلق، قد أضاف - ولا يزال يضيف - صورا من وحي جديد تمدنا بها العناية القدسية.
في ظلال هذا الضوء الذي انبعث من هذين النشوءين؛ الأول نشوء الكون المادي، والثاني نشوء خرافة مقدسة في الخلق، يمكن للعلم واللاهوت - إذا خصت عقول أهلهما معا بقدر كاف من السعة والعبقرية - أن يوفق بينهما، وأن تهدأ ثورتهما إزاء بعض. فإن خطوة من أكبر الخطا التي سوف تحدث هذا التوفيق قد خطاها أكبر معهد للفكرة اللاهوتية في العالم الإنجليزي؛ إذ اعترف في مجموعة المقالات المسماة «لوكس ماندي»
Lux Mundi
والتي خرجت من بين جدران أكبر معقل للأورثوذكسية في جامعة أكسفورد. بأن الأقاصيص التي رويت في الخلق إنما استمدت من نبع خرافي؛ لهذا تساءل رئيس أساقفة كنتر بري: «ألا يتفق أن يكون الروح القدس قد استخدم - في أزمنة ما - الخرافات والأساطير؟» (2) التعاليم اللاهوتية في أصل الحيوانات والإنسان
في إحدى نوافذ كاتدرائية «أولم»
Ulm
نقش على الزجاج يرجع تاريخه إلى القرون الوسطى، يمثل فيه الواحد القهار منهمكا في خلق الحويانات، وفي تلك الفترة بالذات خرج من بين يدي العناية القدسية «فيل» كامل الأوصاف، وهو مثقل بالدروع وعليه سرج وغطاء كأنه على أتم الأهبة للقتال. ولقد وردت أمثال من هذه التصورات في مخطوطات علمية، وفي الكتب المطبوعة القديمة، وتجمعت كل هذه التصورات والآراء في نواة واحدة، ظهر فيها العزيز القدير مجدا في تصوير أول إنسان من «صلصال كالفخار»، منتزعا من جنبه - بكل مشقة وقوة - أول امرأة ظهرت في الوجود.
على أن هذه النظرة العامة في أسلوب الخلق قد انحدرت إلينا في خلال الأزمان القديمة، حيث كانت ظهرت لابسة صورا شتى من آراء كونية عتيقة مختلفة الصور والألوان. فأنت ترى حتى اليوم في المعابد المصرية القديمة بفيلة ودندرة أمثال تريك كيف يجبل آلهة النيل كتلا من الصلصال فتخرج من بين أيديهم رجالا، وكذلك تقع في الألواح الآشورية على مثل هذا العمل منسوبا إلى آلهة بابل. حتى إذا انحدرت بك السنون إلى عصرنا هذا وقلبت الكتب المقدسة ألفيت أن هذه الآراء والتصورات بعينها قد اتخذت قاعدة لتطور جديد أسبغت ذيوله على اللاهوت الحديث.
مضى آباء الكنيسة قانعين بأن يعكفوا على النص الحرفي الذي صيغت فيه أسطورتا الخلق المتناقضتين في سفر التكوين، وبعد أن أفرغوا جعبة الجهد والبحث في سبيل التوفيق بين هاتين الروايتين، وأن يدمجوهما لتكونا كلا واحدا، رضوا بأن يعتبروهما آخر محك للرأي ومجس للفكر في أصل الكون وكل ما فيه. وفي بداية القرن الرابع الميلادي وضع «لاكتانتيوس» أول قاعدة لتلك الطريقة التي لم يقصد بها من شيء اللهم إلا إخضاع كل الأشياء الأخرى التي اتخذت وسيلة لدرس الخلق ومنشئه، للمتن الحرفي الذي جاء في الكتب المقدسة، وأيد فكرته في خلق الإنسان بإشارة لغوية قائلا بأن آخر مخلوق سمي بالإنسان لأنه صنع من الأرض
Homo ex humo .
وفي النصف الثاني من القرن الرابع بذاته أيد القديس أمبروز
st. Ambrose
أسلوب النص الحرفي الذي جاء في المتون المقدسة خاصا بالخلق، وهو ذلك الرجل الذي أعلن في كتابه الذي بحث فيه أصل الخلق «أن موسى قد فغر فاه وصب منه كل ما قال الله له.» ولكن رجلا أعظم من هذين قد استطاع أن يربط هذه الفكرة باللاهوت النصراني وأن يوثق لها منه؛ فإن القديس «أوغسطين» في كتابه «تعليقات على سفر التكوين» قد وضع في جملة واحدة قانونا جامعا ظل للكنيسة دستورا حتى عصرنا هذا؛ إذ قال: «لا يمكننا أن نقبل من شيء إلا إذا أيدته الكتب المقدسة بسلطانها؛ لأن هذا السلطان أعظم من كل القوات التي يختص بها العقل الإنساني.» على أن قوة السبك التي تراها في الجملة الأصلية قد جعلت أصداءها ترن خلال القرون المتعاقبة.
7
وعلى الرغم من ذلك الانقلاب الكبير الذي أثار غباره القديس «أوغسطين» نفسه وتابعه فيه سلسلة من أعظم رجال الكنيسة، محاولين - كما سنرى بعد - أن يحوروا في الآراء التي سادت في أصل الكون؛ فإن قولة «أوغسطين» قد ظلت مغشية على عقول الناس أشد الغشاوة طوال القرون الوسطى، أما «فنست بوفيه» الدومينيكي، ومن أكبر الإنسيكلوبيذيين، فعلى الرغم من أنه مضى في كتابه «مرآة الطبيعة» يخرج آراء استمدها من أرسطوطاليس بآراء أخذها من الإنجيل، فإنه وقف يؤيد أولى الروايتين اللتين وردتا في سفر التكوين، وأظهر الفضائل العظمى التي يختص بها العدد «ستة» ليتخذ ذلك سبيلا إلى القول بأن هذا هو السبب في أن كل الأشياء قد خلقت في ستة أيام. وفي أواخر القرون الوسطى قبل العلامة الثبت الكردينال «دايلي» كل شيء جاء في الكتب المقدسة خاصا بالخلق قبولا حرفيا بلا تبديل أو تحوير. وإنك لا تقع خلال كل هذه العصور المتطاولة على نزعة إلى إنكار شيء من هذا، اللهم إلا فيما كتب ثقة آخر من الثقات هو «غريغوري ريش»
Gregory Reisch
فقد ذكر في كتابه الذي خصه بالكلام في بدايات الأشياء - بعد أن وضع فيه صورة من الحفر على الخشب مثلت الواحد القهار ينتزع حواء من جنب آدم، كما مثلت كل الطبيعة المخلوقة في ستار اللوحة - ما يظهره بمظهر القانع بفكرة القديس «أوغسطين» من الاعتقاد بوجود مادة سبقت فعل الخلق في الزمان.
وفي عصر الإصلاح الديني ألقى «لوثر» بسلطانه العظيم في ذلك الميدان مؤيدا لفكرة قبول النصوص الحرفية التي جاءت في الكتب المقدسة، واعتبارها النبع الأوحد لكل العلوم الطبيعية. ولقد رفض كل التفسيرات المجازية أو التصوفية التي قال بها متقدمو اللاهوتيين قائلا: «لماذا يلجأ موسى إلى المجاز بينما هو لا يتكلم في مخلوقات مجازية أو في عالم مجازي، بل يتكلم في مخلوقات حقيقية أو عالم منظور يمكن أن يرى وأن يلمس وأن يدرك أن موسى إنما دعا الأشياء بأسمائها الحقيقية، كما يجب علينا أن نفعل. وإني أعتقد أن الحيوانات قد وجدت دفعة واحدة في عالم الله، كما وجدت الأسماك في جوف البحار.»
ولم يكن تشبث «كالفن» بفكرة قبول النص الحرفي لرواية الخلق في سفر التكوين، بأقل من تعنت «لوثر»، ولقد أنذر الذين يجرءون على الاعتقاد بوجهة من النظر تخالف ما يذهب إليه بأنهم بذلك إنما «يسيئون الخالق، وأنهم يكونون على نظرة من قاض عدل ينسفهم نسفا.» ولقد مضى معتقدا بأن كل أنواع الحيوانات قد خلقت في ستة أيام كل منها نهار وليل، وأنه لم يظهر منذ ذلك العهد أي نوع جديد على إطلاق القول. ولقد قال بأن الطيور قد استحدثت في الماء، ذاكرا أن هذا القول تجيزه بعض نصوص من الكتب المقدسة، ولكنه يضيف إلى ذلك «بأنه إذا كان لا بد من أن يجاب على هذا السؤال من ناحية القواعد الفوسيقية؛ فإننا نعرف أن الماء أكثر قربا للهواء منه للأرض.» ولقد علل بعض الصعاب التي واجهته في لزومه لظاهر رواية الخلق كما وضعت في الكتب المقدسة بقوله إن الله «رغب بتلك الصعوبات أن يبرهن لنا على قوته وسلطانه، فأفرغ علينا الدهشة والعجب.» ولقد تشبثت بهذه الفكرة كل العقول الفذة في الكنيسة الرومانية. وفي القرن السابع عشر أسبغ «بوسويه»
Bossuet
عليها من ضياء عقله الكبير أنوارا كستها أبهى الحلل. ففي كتابه «أبحاث في التاريخ العام»، ذلك الكتاب الذي ظل القاعدة الأساسية، لا للتعاليم اللاهوتية وحدها، بل لكل التعاليم التاريخية في فرنسا حتى عصر الجمهورية الأخيرة، نجده وقد عمد إلى تنبيه الأذهان إلى ما يعتبره آخر ما نزل به الوحي في حقيقة الخلق، مؤيدا القول الحرفي بأن الأرض لم تخلق إلا للإنسان «وأن يد الله هي التي تحفظ على المادة القابلة للفوضى نظامها المحكم المرسوم.»
ولم يكن تعنت البروتستانت في التمسك بهذه الفكرة بأقل من تشبث الكنيسة الرومانية. ففي القرن السابع عشر حاول الدكتور «جون ليتفوت»
Dr. John Lightfoot - وكيل جامعة كمبردج ومن أكبر من اشتغل بالعبرانيات من أبناء عصره وأثبتهم فيها قدما - أن يوفق بين أسطورتي الخلق في سفر التكوين فقال «بأن أنواع العجماوات النظيفة قد خلق سبعة من كل منها، ثلاثة أزواج للتوالد، والفرد السابع ليضحي به آدم عند هبوطه من الجنة، كما سبق في علم الله.» وزاد إلى هذا أن العجماوات القذرة لم يخلق منها إلا زوج واحد من كل نوع.
ولقد كان لزوم هذه التصورات لظاهر ما جاءت به الكتب المقدسة كبيرا، حتى إننا مهما بلغ بنا الخيال وسما بنا الوهم في هذا الزمان، فإننا لا نستطيع أن ندرك إلى أي حد بلغ بهم الإكباب على لزوم النص الحرفي لهذه الآيات. ولقد مثل الواحد القهار في كل ما ظهر من كتب اللاهوت وفي الأناجيل المصورة وفي كل كتب الفن على اختلاف ألوانها في صورة مكبرة يحف بها الجلال ولكن على نمط صانع من صناع «نورمبرج» الذين يحترفون صنع الدمى وألاعيب الصبية. ولقد مرت أزمان مثل فيها للعبارات التي وردت في سفر التكوين بصور أشد من هذا لزوما لظاهر النصوص. فاعتمادا على عبارة معروفة في المتون المقدسة مثل الخالق في صورة حائك جالس والإبرة في يده، مجدا كل جد في أن يحيك من جلود الحيوانات سترا لآدم وحواء. على أن مثل هذه الأمثولات لم تكن لتعترضها أية صعوبة تحول دون ولوجها إلى ثنايا العقول في القرون الوسطى. وفي عصر الإصلاح البروتستانتي وبنفس هذه العقلية وخضوعا لهذه الروح، قيل - عندما بدأ استكشاف الحفريات يغزو نواحي الفكر بموحيات جديدة - بأنها «لم تكن إلا نماذج لعمله، وافق المهندس الأعظم على بعضها ولم يوافق على البعض الآخر»، أو أنها «تصاميم لصور من المخلوقات سوف تخلق في المستقبل»، أو أنها «من ألاعيب الطبيعة»، أو أنها أشياء بثت في طبقات الأرض لتستثير عجب الإنسان. وما زالت أمثال هذه التعليلات تنتقل في منازل البقاء شاقة لنفسها طريقا في بحور الزمان، حتى إن عالما طبيعيا من الإعلام في عصرنا هذا - وقد استثارته الحماسة وأخذته الغيرة على أن ينجي من الزوال طريقة الإكباب على النص الحرفي لسفر التكوين - قد عمد إلى الاعتقاد بأن الله قد لوى الطبقات الجيولوجية ليا وصدعها تصديعا، ثم أمالها وعقصها بعد أن نثر في جوفها صور الحفريات وخدش في ظاهرها خدوشا تمثل المجاري الجليدية، ونشر من فوقها العلامات التي تدل على التآكل الذي تحدثه المياه، ثم أمر شلالات نياجرا بأن تنصب بكل ما يتصور من قوة، وأن كل هذا تم في برهة واحدة، بل في غمضة عين؛ وبذلك ألغز الدنيا وحوطها بالأسرار؛ «لغرض لا يمكن تعليله، ولكن ليظهرنا على جلاله وعظمته.»
أما الناحية التي مضت فيها العقلية اللاهوتية، وكان لها فيها تطور ونشوء، فانحصرت في تقسيم مملكة الحيوان.
من الطبيعي أن يكون الفرق بين المخلوقات المفيدة والمؤذية من أبكر التقاسيم التي يقع عليها العقل النازع إلى البحث والتنقيب؛ لهذا قام في العقول سؤال فذ: كيف أن إلها خيرا حكيما يخلق النمور والأفاعي والشوك والقتاد؟ أما الجواب فقد عثر عليه في الاعتبارات اللاهوتية قائما على فكرة الخطيئة، فقيل بأنه عندما وقعت خطيئة الإنسان الأولى حقت على الإنسان كل الشقاوات، وكتبت عليه كل المصائب. وظل رجال من أعظم من أقلت الأرض نهى وحكمة يؤيدون - على مدى ثمانمائة من الأعوام الطوال - نظرية أنه قبل معصية آدم لم يكن موت، فلما وقعت المعصية تبعتها الوحشية والتقتيل.
على أن بعضا من الأقوال التي تمثل الأساليب التي تطورت فيها هذه الفكرة جديرة بأن نعرض لها بذكر؛ فإن القديس «أوغسطين» بكثير من الطلاوة وحسن السبك قد أيد بل أكد حقيقة القول بأن عالمي الحيوان والنبات قد صبت عليهما اللعنة استتباعا لخطيئة الإنسان. وبعد أن قيل هذا القول بقرنين من الزمان، وبعد أن ظل متنقلا من قديس إلى قديس، ومن لاهوتي إلى لاهوتي انحدر إلى عصر «بيده» وهناك قبض عليه هذا اللاهوتي وتشبث به، لا لشيء إلا ليقول بأنه قبل سقوط الإنسان كانت كل الحيوانات وادعة غير مضرة، ولكنها أصبحت بخطيئة آدم إما مسمة وإما مفترسة ثم قال: «لهذا خلقت الحيوانات المفترسة والحيوانات المسمة لتزعج الإنسان - لأنه سبق في علم الله أن الإنسان سيخطئ ويعصي - حتى يكون على حذر من أن يناله عقاب جهنم الأخروي.»
وفي القرن الخامس أدمج «بطرس لومبارد» هذا الرأي في كتابه اللاهوتي الكبير الذي أسماه «الجمل»
Sentences
ذلك الكتاب الذي أصبح فيما بعد متنا للاهوت طوال القرون الوسطى. ولقد أيد فكرة أنه «ما من شيء مخلوق قد أعد لأن يكون مضرا للإنسان مؤذيا له ما لم يكن قد أخطأ. إنما أصبحت الحيوانات مضرة مؤذية لتزعج الإنسان وتعاقبه على رذائله، ولتحضه على الفضيلة وتكملها في نفسه. لقد خلقت العجماوات غير مؤذية، فلما أن وقعت المعصية انقلبت مضرة أبلغ الضرر.»
أما هذه النظرية اللاهوتية التي وضعت في الحيوانات فقد أيدها «جون ويزلي»
John Wesely
في القرن الثامن عشر بكل ما أوتي من قوة. ولقد أعلن بأنه قبل خطيئة آدم «لم يحاول شيء من ضروب الحيوان أن يضر أو يأكل غيره أو أن يوقع أي ضرب من ضروب الأذى بأية وسيلة على حيوان آخر» ولم يقتصر الأمر على «ويزلي» وحده. بل إن الشهير دكتور «آدم كلارك»
Adam Clarke
ودكتور «رتشارد وطسون»
Richard Watson
وهما اللذان كان لآرائهما أكبر الوزن بين المنشقين على الكنيسة
Dissenters
بل بين أكبر مفكري الكنيسة الرسمية
Established Church
قد وثقا كل الثقة بهذه النظرية ومضيا بها مؤمنين، ولقد ظل هذا الرأي سائدا على أكبر العقول وأرجح الأحلام أزمانا. أما بعد أن زودنا علم الجيولوجيا بحقائق دلتنا على وجود عدد عديد من الحيوانات المفترسة، وعلى أن كثيرا منها قد عثر عليه وفرائسه نصف مهضومة في معداتها، وأنها انقرضت من الوجود قبل أن يوجد الإنسان فوق الأرض بأزمان موغلة في القدم، فحينذاك استطاع العلم أن ينتصر على اللاهوت في هذا الميدان الفسيح.
ولقد تطور هذا المذهب تطورا آخر تركز حول معتقد متقدمي المفسرين الذي قام حول اللعنة التي صبت على الأفعى في سفر التكوين. وهو اعتقاد من الضروري أن يصبح طبيعيا ما دامت الظواهر تدل على أنه معتقد أصيل ثبت في يقين الذين كتبوا تلك الرواية التي حفظت في أول كتبنا المقدسة. أما ذلك الاعتقاد فقد انحصر في أنه حتى الوقت الذي لعن فيه الواحد القهار الأفعى المغرية، كانت كل الثعابين والأفاعي تقف منتصبة وأنها كانت تمشي وتتكلم.
وما زال هذا المعتقد ينحدر من عصر إلى عصر ومن جيل إلى جيل على اعتبار أنه جزء من خميرة الإيمان المقدس، حتى جاء «وطسون» أكبر منتجي الكتاب الذين ظهروا في عصر الإصلاح الإنجيلي في القرن الثاني عشر، وأكبر علم من أعلام اللاهوتيين الذين ضمنهم حزب الإنجيليين وأعلن «بأنه ليس لدينا من بينة تحملنا على الاعتقاد بأن الحيوان كان ذا صورة ثعبانية على أي أسلوب وبأية درجة حتى أدركته الاستحالة والتغيير، أو الاعتقاد بأنه إذ ذاك قد مسخ زاحفة تدب على كشحها فيستدل به، على الضد مما نعتقد على فقدان كامل وتغيير محض للصورة الأصلية.» ومن هذا المعتقد زود الأسلوب اللاهوتي العقول بنتائج ناضجة استوعبتها أصفى العقول التي نشأت بين أحضان الكنيسة خلال ألفين من السنين. غير أن هذه «الخميرة المقدسة» قد ذابت عندما عثر الجيولوجيون على ثعابين وأفاع حفرية دبت فوق الأرض من قبل أن يكون للإنسان على ظهر البسيطة أثر بأزمان متطاولة.
ولقد قامت بين اللاهوتيين مناقشات عديدة تتعلق بالحيوانات التي صرفوا عليها اسم الحيوانات «الزائدة عن الحاجة»، أما القديس «أوغسطين» فقد كان ذا ميزة خاصة امتاز بها في هذا الميدان. قال: «إني أعترف صراحة بجهلي وقصوري عن إدراك السبب الذي من أجله خلقت الفيران أو الضفادع أو الذباب أو الديدان. إن كل الحيوانات إما أن تكون نافعة أو مضرة أو زائدة عن الحاجة بالنسبة إلينا. أما المخلوقات المضرة فنعلل وجودها بأنها إنما خلقت لتعاقبنا أو لتنظمنا أو لتزعجنا حتى لا نتمادى في حب هذه الحياة» أما الحيوانات الزائدة عن الحاجة فقد قال فيها: «إن هذه الحيوانات وإن كانت غير لازمة لخدمتنا، إلا أن مجمل تصميم الكون قد انتهى عندها وفرغ منه بها.» أما «لوثر» وقد اتبع ما قال القديس «أوغسطين» في بحث كثير من المشكلات اللاهوتية، فقد نفر من أن يتابعه تماما إزاء هذا الإشكال. فقد اعتقد بأن الذبابة ليست فقط زائدة عن حاجة الخلق، بل هي مضرة أيضا. فإنها كثيرا ما يرسلها عليه الشيطان لتشغله عن القراءة وتقطع عليه تيار فكره.
ولدينا موضوع آخر كان سببا في كثير من البحث في نصوص الكتب المقدسة، حتى لقد نشأ عن هذا البحث كثير من مختلف ضروب الفكر اللاهوتي وانحصر هذا الموضوع في الفرق الكائن بين خلق الإنسان وخلق الأحياء العضوية الأخرى.
ولقد علق اللاهوتيون جميعا - حتى القديس توماس أكويناس وبوسويه، ومن لوثر إلى ويزلي - أهمية عظمى على الفرق البين الذي نص عليه سفر التكوين؛ إذ ذكر بأن الله قد «خلق الإنسان على صورته».
أما المعنى الذي انطوت عليه هذه العبارة فقد أبان عنه نص مقدس آخر في سفر التكوين جاء فيه.
8
عن آدم أنه «ولد ولدا على شبهه كصورته ودعا اسمه شيثا.»
9
واعتمادا على هذا القول وعلى نصوص معروفة انتحلت عن أساطير خلقية قديمة أدمجت في الكتب العبرانية المقدسة، ذاع الاعتقاد بأن الإنسان إذا فطر وصور بيد الله مستقلا عن بقية الخلق جميعا؛ فإن الحيوانات إطلاقا قد برزت من الأرض والبحار ملبية صوت الخالق وكلمته.
وهنا قام سؤال معضل تناول مسألة «التفريق بين أنواع الحيوانات» على أن الغالبية العظمى من اللاهوتيين متفقون على القول بأن الحيوانات قد خلقت «منذ البدء»، وسماها آدم، وأنها حملت في السفين وأنها استمرت من بعد ذلك معينة بأنواعها المعروفة حتى الآن. ولقد تنقل هذا الاعتقاد مع الزمان حتى نضج فصار مذهبا. وهو ككثير غيره من مذاهب الكنيسة بشعبتيها، من كاثوليك وبروتستانت، تجد أن العثور على أصله الأول بالبحث في ثنايا الفلسفة الوثنية، أكثر سهولة مما هو في الكتب النصرانية المقدسة. وإنك لتجد أن لهذا الاعتقاد أكبر آصرة بأفلاطون وأرسطو طاليس منه بموسى والقديس بولص. غير أن هذه الحقيقة لم يلتفت إليها ولم تلق اهتماما، وهكذا مهدت السبيل شيئا فشيئا حتى أصبح من الضروري أن يعتقد أن كل نوع من الأنواع على اختلافها وأن كل الفروق الكائنة بينها قد طبعها الخالق على صورها «منذ البدء» وأنه لم يطرأ عليها أي تغيير، بل إن التغيير والنشوء لم يكن من الممكن أن يطرأ عليها.
ولقد نشأت بعض الصعاب تبعا لارتقاء علم الزولوجيا - الحيوان - وعلى الأخص عندما أظهر ذلك العلم أن عدد الأنواع التي تعرف يزداد يوما بعد يوم، غير أن اللاهوتيين استطاعوا أن يستقووا على هذه الصعاب بسهولة خلال العصور الوسطى - وحتى عهد طويل بعد قيام حركة الإصلاح البروتستانتي - بأن يوسعوا من حجم سفينة نوح يوما بعد يوم بنسبة استكشاف أنواع الحيوانات الجديدة، وبأن يلجئوا إلى القول بأن هنالك خطأ إنسانيا
10
وقع في قياس حجمها.
غير أنه كان من الطبيعي أن تقوم بين أهل اللاهوت - وبين عامة الناس على السواء - شهوة إنسانية تتجه إلى البحث في أشياء أبعد غورا من هذه الأشياء في تاريخ الكائنات الحية. شهوة ساقتهم إلى البحث وراء معرفة «ما هي الخليقة» في حقيقتها؟
على أن الخرافات السائدة والروايات المتضاربة وأقاصيص السائحين - على الرغم مما كان فيها من الاختلاف والضعف - قد فعلت فعلها الأقوى في إحياء روح الاستطلاع في هذا الميدان.
قبل بدء التاريخ الميلادي بثلاثة قرون قام أرسطو طاليس بأول جهد حقيقي رمى إلى إيفاء شهوة الاستطلاع التي اتجهت في هذه السبيل، فبدأ أبحاثا مستفيضة في التاريخ الطبيعي، لا تزال حتى اليوم عنوانا على أقصى قمة من الإنتاج العقلي وصل إليها الإنسان خلال عصور التاريخ.
غير أن ذلك الشعور الذي رأينا من قبل كيف كان تأثيره في الكنيسة خلال عصورها الأولى، شعور أن البحث والدرس لا فائدة منهما، وأنهما لغو باطل على اعتقاد أن نهاية العالم قد قربت، وقد عبرت عنه نصوص «العهد الجديد» - الأناجيل - بأجلى بيان، وردده بأعلى صوت رجال عظام مثل لاكتانتيوس والقديس أوغسطين، قد صدر تيار ذلك الفكر العلمي عن أن ينبعث في تلك السبيل القيمة قرونا عديدة. غير أن الميل الأقوم من صفات الإنسانية قد ظل محققا وجوده خلال الأزمان. والحقيقة أن تأثير شب من ثنايا الكتب العبرانية المقدسة قد دفع الإنسانية بقوة نحو تلك الغاية؛ فإنك ترى أنه على الرغم مما كان من الممكن أن يقول لاكتانتيوس أو القديس أوغسطين في حماقة الإكباب على درس الطبيعة؛ فإن تلك المقاطع الضخمة التي تتضمنها المزامير في وصف جمال الخلق وعجائبه، مصبوبة في ذلك القالب الشعري الرائع، قد أظهرت للناس نبالة الإكباب على درس الطبيعة حتى بين أولئك الذين كان يبعدهم منطقهم عن الاهتمام بدرسها.
غير أنه كان من الطبيعي أن تصب كل هذه الدراسات - وعلى الأخص في أحضان الكنيسة الأولى وخلال العصور الوسطى - في قالب لاهوتي صرف؛ فإن الاستعماق في درس أسرار الطبيعة لم يكن في نظر أهل الدين إلا ضررا تتناول آثاره الجسم والروح. حتى لقد كان يعتبر هذا الدرس سقيما لا قيمة له ما لم يكن الغرض منه تقرير شيء جاءت به الأناجيل أو تفسير شيء روحاني. ولم يكن ينظر في هذا الأمر نظرة اعتبار جديرة به إلا إذا اتجه الباحثون فيه إلى إظهار عظمة الله والأغراض التي رمى إليها عندما فكر في الخلق وأوجد الخليقة. أما مؤلف أرسطوطاليس الخالد فقد غشي عليه وأهمل ولم يعره متقدمو المفكرين من أهل الكنيسة اهتماما ولا عرفوا له مقاما؛ حتى لقد تجد أنه قليلا ما حاول اللاهوتيون أن يمسخوه إلى شيء مخالف تمام المخالفة لروحه العامة ولأسلوبه؛ إهمالا لشأنه وعمى عما فيه من الحق الثابت. ولقد استعاضوا عنه بالفزيولوغوس
11
والزولوجيا الخرافية
Bestiaries - أي علم الحيوان الخرافي - جامعين في ذلك بين نصوص من الكتب المقدسة، وخرافات القديسين، وتخيلات ما نزل بها من سلطان، جمعت بين روح التقوى وبين الغفلة التي هي لزام روح الطفولة في غرارتها. ولقد حلت السلطة - سلطة الكتب المقدسة كما فسرها الفزيولوغوس والزولوجيا الخرافية - محل البحث العلمي. أما هذه الكتب فقد ظلت نبع الفكر الذي استقى منه المعرفة تلقاء العالم الحي أكثر من ألف شداد من السنين.
ولقد ظهر بعض الخوف حينا بعد حين بين زعماء الكنيسة ورءوسها من بحث في الخليقة بلغ هذا المبلغ من الضعف والفساد. ففي القرن الخامس قرر مجمع ضم رؤساء المذاهب الدينية تحت رئاسة البابا «غيلاسيوس»
Gelasius
وانتهر الفزيولوغوس، بل وجه إليه لوما وتعنيفا. غير أن نزعة البحث في الطبيعة كانت قوية فتية، حتى إن الكتاب الكبير الذي وضعه القديس «باسيل» في الخليقة
Creation
قد استمد من الفزيولوغوس أمثالا كثيرة تعبر عن العظمة القدسية. وكان من نتيجة ذلك أن أجازه البابا «غريغوري الكبير»
Greogry The Great
أشد البابوات الأول حزما وأشدهم بطشا.
بهذا تكون علم مقدس للخليقة وللقصد القدسي الذي يسير الطبيعة، ومضى ينشأ ويتطور منذ بداءة القرن الرابع الميلادي إلى القرن التاسع عشر! أي منذ ظهور القديس باسيل إلى القديس أزيدور الإشبيلي، ومن ازيدور الإشبيلي إلى فنسنت بوفيه، ومن فنسنت إلى رئيس الأساقفة «بالي»
ومقالات «بردجووتر»
Bridgewater
ولقد نشأ هذا العلم - كما نشأ كل شيء غيره خلال القرون الوسطى - خاضعا للأساليب اللاهوتية. على أن الطبيعيين الذين أقاموا أسس هذا العلم، مع إهمالهم للحقائق الجلي التي كان من الممكن أن يقعوا عليها من تشريح أحقر حشرة من الحشرات، فقد حاولوا أن يفسروا حقائق الطبيعة بنصوص يستمدونها من المتون المقدسة، بأن يبحثوا في سير القديسين وتراجم حياتهم، وبتطبيق الكثير من مقولات الميتافيزيقا.
ومن هنا جاء السبب في أن رجالا عظاما من طابع القديس إزيدور الأشبيلي قد جمعوا فيما كتبوا أوصافا «لذي القرن»
Unicorn
12
وهو حيوان خرافي يشبه الحصان، ويمتاز عليه بقرن في جبهته، والدراغون
Dragon
وهو ما يعبر عنه في العربية بلفظة تنين، وقد ذكرتها المتون المقدسة، أو يتناولون بالوصف طير العنقاء
والأفاعي الخرافية «البزليق»
Basilisks
13
التي ذكرتها الكتب الموضوعة. ومن هذه السبيل ذاعت الخرافات والأضاليل مثل القول بأن «البزليق» يقتل الثعابين بزفيره، والناس بمجرد النظر إليهم، وأن السبع إذا طورد فإنه يمحو آثاره بطرف ذنبه ليضلل المطاردين، وأن البجع
يغذي أفراخه بدمه، وأن الثعابين تلقي بسمها بعيدا قبل أن ترد الماء للشرب، وأن السمندل يطفئ النار، وأن الضبع - المرفعين - يتكلم مع الرعاة، وأن أنواعا معينة من الطير تولد على ثمر من أنواع الشجر مخصوصة عندما تكون على وشط السقوط إلى الماء ... إلى غير ذلك من مكنونات العلم التي لا تقل عن هذه قيمة ولا تنزل قدرا.
أما الأسلوب الذي وضع به العلم ليكون موافقا للكتب المقدسة، فإن «الفزيولوغوس» يعبر عنه أحسن تعبير بأن يلجأ في التمثيل إلى تلك المقطوعة التي ذكرت في سفر أيوب
Job
عن السبع العجوز الذي قضى جوعا لندرة الفرائس. ولقد كان للمحاولات التي أريد بها تفسير كلمة غير عادية وردت في النص العبراني أثرا تراكمت من حوله الأخطاء بعضها تلو بعض؛ حتى إن خطى التطور قد مهدت السبيل إلى رواية «النمل السبعي» الذي يساعدنا على أن نفهم ما هو السبع الذي ذكر في سفر أيوب إذ قالوا: «أما النمل السبعي فإن أباه كانت له صورة السبع وأمه صورة النمل. وكان الأب يعيش على اللحوم والأم على الأعشاب، ومن هنا نشأ النمل السبعي مزيجا بين كليهما، وإن كان يشابههما في الأجزاء؛ لأن جزءه الأمامي كان كالأسد، وجزءه المؤخر كان كالنمل. أما وأنه كان على هذه الصورة، فإنه لم يقدر أن يأكل اللحوم كأبيه ولا العشب كأمه؛ وبذلك هلك ومات.»
في أواسط القرن الثالث عشر انتصر هذا الأسلوب اللاهوتي انتصارا كبيرا بنشر كتاب عظيم ألفه بارثولوميو
Bartholomew
الفرنسيسكاني الإنجليزي، والذي سماه «خصائص الأشياء»
The Properites of Things
أما الأسلوب اللاهوتي لدى تطبيقه على العلم فليس في أكثر الأمر بشيء سوى أن يقبل الإنسان التقاليد، وأن يتقبل البراهين التي توافقها وتساعدها على البقاء. وكان «بارثولوميو» فارسا من فرسان هذا الميدان. فقد بدأ بفكرة أساسية هي أن يستخلص من الكتب المقدسة كل الإشارات التي أشير بها إلى الأشياء الطبيعية، غير أنه لم يلبث أن عمد إلى وصف الطبيعة وصفا عاما متخذا من المنطق دعامة. ولما أن أراد أن يتكلم في الأفعوان
cockatrice
الذي ذكرته الكتب المقدسة قال: «إنه ييبس أوراق الشجرة الخضراء أو يحرقها إذا لمسها، وإن سمه زعاف قاتل حتى إنه يقتل كل من يقترب منه بلا تلكؤ أو توان. ومع كل هذا فإن ابن عرس يتغلب عليه؛ لأن عضة ابن عرس تقتله قتلا. والأفعوان على الرغم من أن سمه قاتل وهو حي، حتى إنه لا يوجد دواء يشفي من يصاب به، فإنه يتجرد من كل مضاره إذا أحرق حتى يصير رمادا. أما بقاياه بعد الاحتراق فتفيد في الألكيمياء
Alckemy
وعلى الأخص في تغيير المعادن وتبديل خصائصها .»
على أن «بارثولوميو» لم يقف هنا، بل حاول أن ينير الأذهان بأن يتناول بالوصف حيوانات مصر فقال: «إن التمساح إذا عثر بإنسان واقف على حافة الماء فإنه يقتله؛ ومن ثم يبكي عليه ثم يزدرده.»
ولا يفوت مثل هذا الطبيعي الفرنسيسكاني أن ينفق الكثير من الجهد في وصف «التنانين» التي ذكرتها الكتب المقدسة، فقال: «إن التنين هو أعظم الأفاعي كلها، وغالبا ما يقوم من وكره ويطير في الجو فيحرك الهواء، وكذلك البحر فإنه يطغى ويتهيج من سمومه، وإن له عرفا (كالدجاج) وإنه يرفع لسانه الأعلى وإن أسنانه كالمنشار، وإن فيه قوة وبطشا، وإن قوته لا تكون في أسنانه وحدها بل في ذنبه أيضا، وإنه يرسل مضراته عضا ولدغا. وغالبا ما تجتمع أربعة أو خمسة تنانين معا، ثم يرتبطون بأذنابهم ويرتفعون إلى العلاء رءوسهم ثم يسافرون فوق البحار لكي يحصلوا على اللحم الجيد. على أن بين الفيل والتنين عداء مستحكما وجلادا مستمرا؛ فإن التنين يلدغ بذنبه الفيل. والفيل بخرطومه يسقط التنين ويلقيه صريعا. أما السبب الذي من أجله يرغب التنين في دم الفيل فبرودته التي يرغب في أن يرطب نفسه بها. ويقول «جيروم»: إن التنين حيوان متعطش للدماء كل تعطش، حتى إنه يفغر فاه في مهب الريح ليطفئ شيئا من عطشه المتسعر؛ ولهذا السبب يرتمي على شراع المراكب التي تمخر في ريح طيبة ليحصل على قليل من الهواء البارد فيقلب السفينة ويغرقها.»
هذه الآراء التي أتى بها الراهب «بارثولوميو» قد ذاعت بين الناس أشد ذيوع ورسخت في أذهانهم رسوخا. ولقد ترجم كتابه إلى كل لغات أوروبا الحية، وكان من الكتب التي أكب الناس على قراءتها كل إكباب خلال عصور الإيمان النصراني. ولقد احتفظ الكتاب بمكانته طول ثلاثمائة من السنين الطوال. حتى لقد احتفظ بمكانته بعد اختراع الطباعة؛ فقد بلغت طبعاته عشرا في اللاتينية وأربعا في الفرنسوية، كما ترجم عدة مرات إلى اللغة الفلمنكية والإسبانية والإنجليزية. وكذلك الوعاظ فإنهم وجدوا فيه ضالتهم؛ إذ عمدوا إليه يتخذون منه الأمثال التي يعبرون بها عن الطريق التي اختارها الله لتكون صلة له مع الإنسان. وظل هذا الكتاب حافظا لسلطانه على العقول حتى عصر الاستكشاف البحري؛ إذ بدأت الحقائق تحل شيئا فشيئا، محل الاستنتاج اللاهوتي. حينذاك فقد الكتاب أهميته ونزل عن سلطانه.
ولقد فشا هذا النوع من العلم في كتب «الزولوجيا الخرافية»
Bestiaries
التي كانت تتناولها الأيدي في كل مكان، وعلى الأخص أبدى الذين كانوا يعظون من فوق المنابر في الكنائس ليهدوا جموع المؤمنين سواء السبيل، ويثقفوا عقولهم بالطرق المثلى. ولقد نقع في كل هذه الكتب - كما نقع في كتاب جمعه في أوائل القرن الثالث عشر الميلادي «وليم النورماندي»
William of Normandy - أحد رجال الكنيسة المعروفين - على الدرس الآتي: تلد اللبؤة جراء يظلون ثلاثة أيام بلا حياة، وبعد ذلك يأتي السبع فينفخ فيه فتلابسهم الحياة ... وعلى هذا النمط ظل المسيح عيسى ثلاثة أيام محروما من الحياة، غير أن الله الآب قد أنهضه حيا منصورا.
ولقد استخدم هذا العلم في سبيل نشر التقوى، وعلى الأخص إذا حدث أن يكون العاملون على بثها في الصدور رهبانا واعظين فقالوا بأن في بعث العنقاء إلى الحياة بعد أن يصير جسمها رمادا، دليل على يوم النشور، وأن تركيب القرود وتشويه خلقهم يبرهن على وجود الشياطين، وأن وجود قردة بلا أذناب برهان على أن إبليس جرد عن عظمته الأولى، وأن بنات عرس - إذ تغير دائما محلها ولا تستقر في مكان - مثل لمن فسق عن عهد الله، فلا يجد مكانا يستريح فيه.
أما المقالات الأدبية التي ظهرت في ذلك العهد فقد أخذت صورة كتب في التاريخ الطبيعي، ليتسنى لواضعيها ومنشئيها أن يكونوا أكثر بيانا للناس عن حقائق تلك التعاليم الدينية المقتطعة من الطبيعة؛ ففي كتاب الراهب الدومنيكي «توماس الكانتمبري»
Thomas of Contimpre «في النحل» نقع على تعاليم تبث في روعنا «أن الزنابير تطارد النحل وتعلن عليها الحرب؛ لأن بينهما عداء طبيعيا موروثا»، وأن هذه الزنابير تمثل لنا الشياطين الذين يعيشون في الجو، وأنهم مع الصواعق والأعاصير الجوية يهبطون على النوع الإنساني بالمصائب والمضرات. ومن ثم يستطرد في فصل طويل ذاكرا حوادث وأمثالا لحرب الشياطين التي تعلنها على الذوات الفانية. وعلى هذا السنن سار رصيفه الدومنيكي «نيدر»
Nider
عضو محكمة التفتيش في كتابة «تل النمل»
The Ant Hill
فعلمنا أن نمل «إثيوبيا»
Ethiopia
الذي يذكر أن له قرونا، وأنه ينمو حتى يصير في حجم الكلب، هو في الواقع رمز وإشارة للهراطقة المرذولين أمثال «ويكليف»
Wyclif
والهسيون
Hassites
14 «الذين ينبحون على الحق ويعضونه بأنيابهم. في حين أن نمل بلاد الهند، الذي يستخلص الذهب من الرمل بأقدامه ويستجمعه من غير أن ينتفع به، مثل للعمل البائر الذي يبذله الهراطقة؛ إذ يحفرون كنوز الكتب المقدسة ويدمجونها في كتبهم للا غاية ولا قصد.
إن هذه الروح - روح التقوى والخضوع - ولم تغز العلم وحده. بل تعدته إلى الفن وعلى الأخص في الكاتدرائية، ففي الميازيب الرمزية
Gargoyles
15
التي كانت تعلق على الجدران، وفي الأشكال المجونية التي كانت تعلق على الأبراج أو التي ترى جاثمة على القباب، والتنانين التي ترى دابة تحت العقود المشيدة على الطرق، أو المتسللة من خلال الأعشاب والوحوش السرية التي كانت تحفر عادة على منصات التلحين، والتي كانت تنقش على الزجاج، أو تغزل في الطنافس أو ترسم بين سطور كتب القداس وكتب التراتيل أو على حواشيها: عامة هذه الأعاجيب الخلقية كانت تعتبر عند الناس ضروبا من الآداب والسلوك استمدت من الفزيولوغوس وكتب الزولوجيا الخرافية ومضارب الأمثال
Exempla .
من بين الرجال الذين لم يكن للكنيسة عليهم من سلطان ظهرت فئة في مختلف البقاع والأزمان أبرزت للوجود مؤلفات أرقى نزعة وأثمن قيمة. ففي القرنين الثاني عشر والثالث عشر دون «عبد اللطيف»،
16
ملاحظاته في تاريخ مصر الطبيعي؛ فكان في هذه الملاحظات قدر غير ضئيل من الروح العلمي البحت، كما أن الإمبراطور فردريك الثاني قد حاول أن يشجع الناس على البحث في الطبيعة بحثا أوفى إنتاجا وأعلى قدرا. غير أن أحد هذين قد اتهم بأنه مسلم، والثاني بأنه فاسق عن الدين. غير أن «جيرالدوس كمبرنسيس»
Giraldus Cambrensis
وهو من رجال الكنيسة المعروفين، كان فيما ألف أكثر تلاؤما من هذين مع روح ذلك العصر. فإنه في كتابه المعروف باسم «طبوغرافية إيرلاندا »
Tcpography of Ireland
قد أبدى اهتمامه بالحيوانات التي تقطن الجزيرة، ولكنه قلما غفل عن أن يستخلص من كل منها حالة يستعين بها على استخلاص صورة من صور الأخلاق أو السلوك، فيقول مثلا إن «النسور في إيرلندا تعيش أعمارا مديدة حتى ليخيل إلينا أنهم مساهمون في الأبدية. وكذلك الحال في القديسين؛ فإنهم بتركهم صفاتهم القديمة واتخاذهم الصفات الجديدة التي أهلت بهم إلى القداسة، يحوزون تلك الثمرة السعيدة، ثمرات الحياة الأبدية، ويقول أيضا: «كثيرا ما تبلغ النسور في طيرانها ارتفاعات عظيمة حتى إن الشمس قد تلفحها فتشيطها. وهكذا الحال في الذين يحاولون أن يقفوا على تلك الأسرار الدفينة القصية التي تتضمنها خفايا السماوات لأكثر مما تسمح به الكتب المقدسة؛ فإنهم يذادون عنها ويدفعون إلى الحضيض، كما لو كانت أجنحة خيالاتهم السحرية التي تحملهم إلى تلك الأجواء القصية البعيدة قد لفحت فاحترق ظاهرها وارتدت كليلة متعبة.»
من بين الرجال الذين ظهروا في القرن التالي كان «ألبرت الكبير»، وفيما كتب نقع على روح انتقادية فيها شيء من مظاهر الرشد. فإن «البرت» في كتابه الذي تناول الكلام في الحيوانات قد رفض القول بالاعتقاد السائد في أن بعض الطيور تتولد من الأشجار وأنها تغتذي بالعصارة النباتية، كما أنه لم يؤمن بنظرية أن بعض الطيور قد تتولد في البحار من بقايا الأخشاب المنحلة التي تطفو فوق سطحها.
غير أنه كان لزاما أن تمر عدة أجيال حتى تثمر تلك الشكوك ثمرة طيبة وتحدث أثرا فعالا. فإننا نقع مثلا في الأمثال التي حليت بها كتب «مندفيل»
Mandeeville ، وقد طبعت عشية القيام بحركة الإصلاح الديني
Reformation
على صور، بله المقاطع والعبارات تمثل طيورا ووحوشا تنشأ متولدة من بذور الأشجار.
على أن هذه النزعة العامة التي رمت إلى استخدام العلم الطبيعي في أغراض دينية تدعو إلى التقوى والصلاح، قد عاشت إلى ما بعد عصر الإصلاح البروتستانتي. وكثيرا ما استخدمها «لوثر»، فكان في هذا الأمر مثالا احتذاه أتباعه، ونسج عليه تلاميذه؛ ففي سنة 1612 نشر «وولفانج فرانز»
wolfang franz
أستاذ اللاهوت في جامعة لوثر كتابه الذي ألفه في تاريخ الحيوانات المقدس، وهو كتاب طبع عدة مرات متوالية، وقد تضمن هذا الكتاب تقسيما فائضا للحيوانات، وصفت فيه التنانين الطبيعية التي لها ثلاثة صفوف من الأسنان في كل من الفكين، مضيفا إليها في رهبة وتقوى قوله: «أما التنين الأعظم فهو الشيطان.»
وقبل نهاية هذا القرن، قبض الأب «كيرخر»
Kircher - وهو أستاذ من عظماء اليسوعيين في روما - على زمام الشك مرة أخرى، فأخضعه للتقاليد راجعا بالناس إلى النظريات الأورثوذكسية، حتى لقد ذكر بين الحيوانات التي حملها نوح في السفين «جنيات البحر»
Sirens
وهن في الميثولوجيا فتيات جميلات سابيات للعقول، ثم «الغرفين»
Griffin
17
وهو حيوان خرافي برأس نسر وأجنحته وجسم سبع كبير.
غير أننا نلحظ - حتى بين اللاهوتيين - في مختلف الأزمان والأمكنة؛ روحا من الشك تغزو العقل الإنساني من طريق العلم الطبيعي. ففي أوائل ذلك القرن عينه - السابع عشر - نشر «إيوجين روغر»
Eugene Roger
كتابه «سياحات في فلسطين»، أما تلقاء الأقوال التي جاءت في الكتب المقدسة فإنه من أخص أهل الأورثوذكسية. ولقد صدر كتابه بخريطة تظهر من بين الأشياء التي أشير إليها في التاريخ الإنجيلي المكان الذي قتل فيه شمشون ألفا من الفلسطينيين بفك حمار، والكهف الذي عاش فيه آدم معه حواء بعد أن طردا من الجنة، والبقعة التي تكلم فيها حمار «بلعام» والمكان الذي صارع فيه يعقوب أحد الملائكة، والمرتقى الوعر الذي دخلت فيه الشياطين أجسام الخنازير فاندفعت حتى ألقت بنفسها في البحر، والموضع الذي قام فيه التمثال الملحي الذي كان يوما امرأة لوط، والمكان الذي ابتلع فيه الحوت يونس في البحر، «وتعيين المكان الذي قبض فيه القديس بطرس على مائة وثلاثة وخمسين سمكة.»
أما في التاريخ الطبيعي، فإنه يصف «البزليق
Basilisk
الأفعى الخرافية» بدقة وبكثير من الضبط اللاهوتي. فيقول إن الحيوان يبلغ قدما ونصف في الطول، وهو على صورة التمساح، وإنه يقتل الآدميين بنظرة واحدة. أما البزليق الذي رآه فكان لحسن حظه ميتا؛ لأنه في عصر البابا «ليو الرابع»
Leo iv - على ما يذكر المؤلف - ظهر «بزليق» في روما وقتل كثيرا من الناس بمجرد نظره إليهم. غير أن البابا قتله بصلواته وبرسم علامات الصليب. ويذكر المؤلف أن العناية القدسية قد شاءت بحكمتها ورحمتها أن تحمي الإنسان بأن جعلت هذا الحيوان لا يبرح وجره ولا ينشط منه قبل أن يرسل صوتا عاليا مرتين أو ثلاث مرات، وأن الحكمة الإلهية تظهر أيضا في أن هذا الحيوان العظيم يضطر إلى أن ينظر في عين فريسته وعلى مسافة خاصة قبل أن تنفذ نظرته من خلال مخ الفريسة إلى القلب، حيث يكون القضاء المحتوم. ومن ثم يتدرج في ذكر الحكمة الإلهية إلى القول بأنها - رحمة وحنانا - قد خصت صياح الديك بالقدرة على قتل البزليق.
غير أننا مع هذا نجد في ثنايا إيمان هذا الرجل الطيب، والمبشر المسلم بما جاءت به الكتب المقدسة، آثارا تنم عن روح «باكون» منبثة في تضاعيف عقله، وعلى روح التجاريب في العلم تتغلغل في طيات نفسه. فإنه بعد أن استسقى عدة روايات عن السمندل
salamander
فتش حتى عثر على فرد منه، ثم وضعه حيا على فحم يحترق، وحكم بأن الأساطير التي تذكر أن في مستطاع السمندل أن يعيش في النار غير صحيحة. وكذلك أجرى تجاريب عديدة في «الحرباء»
chameleon
وحكم بأن الأقاصيص التي كانت تروى عن هذا الحيوان إنما كانت تتقبل بكثير من حسن الظن، غير أنه كان لا يحاول الحكم في النصوص التي تتضمنها الكتب المقدسة، ولو أنه كان يلجأ إلى عقله يستدر منه الوحي العلمي على القواعد الحديثة فيما عدا ذلك.
في النصف الثاني من القرن السابع عشر بدأ الأستاذ «هوتنغر»
Hotinger
في كتابه «بحث تاريخ الخليقة من الوجهة اللاهوتية» طريقة جديدة بأن رفض الاعتقاد بوجود العنقاء
phoenix
غير أن شكا كان قد ساوره في تلك الحدود التي تأذن بها الكتب المقدسة؛ فقد بنى شكه أولا على «أن الله قد خلق الحيوانات أزواجا، بينما يزعم بأن العنقاء فرد واحد لا زوج له»، وثانيا «لأن نوحا عندما دخل السفينة أخذ من كل نوع من الحيوانات سبعا، بينما لا نستدل على وجود هذا العدد من نوع العنقاء»، وثالثا «لأنه لا يوجد إنسان يجرؤ على أن يدعي بأنه رأى هذا الطائر»، ورابعا «لأن الذين يؤكدون وجود العنقاء يناقضون بعضهم بعضا.»
فلا عجب إذن - بعد أن بدأ الشك يغزو العقل في حقيقة السمندل والعنقاء - إذا رأينا الشك يتغلغل في النفوس تلقاء البزليق، قبل أن يودع القرن السابع عشر الوجود؛ فإن الأستاذ الكبير «كرخماير»
Kirchmaier
من جامعة «فوتمبرغ» قد تناول العنقاء والبزليق بالكلام، ولكن على اعتقاد أنهما من الخرافات التي لم يقم عليها دليل، أما العنقاء فأنكر وجودها، لا لأن نوحا لم يحمل معه في السفينة طائرا بهذا الاسم فقط، ولكن على حد قوله لأن «الطيور إنما تخرج من البيض لا من الرماد» أما «ذو القرن»
Unicorn
فلم ينكر وجوده، ولكنه مع هذا لم يعتقد بأنه شيء سوى الكركدن
Rhinoceros ، ولقد عمد إلى «أيوب» وإلى «ماركوبولو» ليستدل بأقوالهما على وجود هذا الحيوان، ويثبت أنه كائن حقيقي ثم يقول: «من ذا الذي لا يخاف إنكار «الأونيقور» ما دامت الكتب المقدسة تذكره بكثير من الثناء المستطاب.» أما غير ذلك من الحيوانات الكبرى التي تذكرها الكتب المقدسة؛ فإنه كان إزاءها من أخص أتباع الطريقة العقلية، فذكر أن «البيهموث»
Behemoth
18
كان فيلا وأن «اللوياثان»
Leviathan
19
كان حوتا غير أن بذور الشك قد أنتجت وآتت أكلها؛ فإننا لا نلبث على هذا غير قليل حتى نقع على «دانهوور»
Dannhauer ، وقد اقتحم السبيل فخطا خطوة أخرى إلى الأمام معلنا شكه في وجود «الأونيقور» موقنا بأنه الكركدن بعينه، ولا شيء غيره. وحتى ذلك الوقت وبعد أن بدأت بذور الشك تثمر هذه الثمرات، كان تيار الفكر لا يزال يتحرك بقوة اللاهوت. ففي سنة 1712 نشر «صموئيل بوخرت»
Samuel Bochart
كتابه في حيوانات الكتاب المقدس. أما روح الكتاب فلا نستطيع أن تنقل صورة منها إلا بذكر رءوس بعض الفصول:
الفصل السادس:
اسم الحصان في العبرية.
الفصل السابع:
لون الأحصنة التي ذكرت في سفر زكريا.
الفصل الثامن:
الخيل التي ذكرت في سفر أيوب
الفصل التاسع:
خيول سليمان والمتون التي يذكر مؤلفوها فضائل الخيل.
الفصل العاشر:
خيول الشمس المقدسة.
ومن العناوين التي تقع عليها في الفصول الأخرى ما يأتي . في أتان بلعام،
20
في الألف من الفلسطينيين الذين قتلهم شمشون بفك حمار، في العجل الذهبي الذي صنعه هارون
21
والعجلين الذهبيين اللذين صنعمهما يربعام
Jeroboam
22
في مأماة الشياه وألبانها وأصوافها وأعضائها الداخلية والخارجية كما ذكرت في الكتب المقدسة، في الأشياء ذوات الخطر التي ذكرت في الكتب المقدسة عن الأسد، في حمامة نوح والحمامة التي ظهرت عند تعميد المسيح. ولقد امتزج في خلال الكتاب كثير من الحقائق التي أتى عليها الطبيعيون خلال أبحاثهم المستفيضة في الحيوانات. غير أنها امتزجت بالأقوال اللاهوتية امتزاجا أضاع قيمتها، وأصبح الكتاب في مجموعه عبارة عن جملة من الفصول تفيض بالروح اللاهوتية الرسيسة.
بعد أن ظلت الأبحاث الطبيعية خاضعة للروح اللاهوتي طوال ألفين كاملات من السنين، نقع في أواسط القرن السادس عشر على بدايات جديدة تنم عن أسلوب حديث لم يكن قد عرف من قبل - هو الأسلوب العلمي في بحث معميات الطبيعة - وهو أسلوب ينطوي في جوهره على البحث وراء الحقائق لذاتها، ويتنكب جهد المستطاع الجري وراء المزينات العقلية والنفسية. ففي ذلك الحين بدأ «إداورد ووطون»
Edward Wotton
في إنجلترا و«كونراد غسنر»
Conrad Gesner
في القارة الأوروبية يقتحمان السبيل بملاحظات طبيعية، كان فيها من الاستفاضة والإطناب بقدر ما بث فيها من العناية والدقة، وأثر الفكرة العلمية في التبويب والنسق.
ولقد كان لذيوع هذا الأسلوب العقلي في بحث الطبيعة واستقصاء أسرارها نتائج أدت إلى تكوين جمعيات قامت على فكرة البحث منتحية هذا الأسلوب. ففي سنة 1560 تألفت «أكاديمية البحث الطبيعي» في نابولي. غير أن اللاهوتيين وقد تولاهم الانزعاج والفزع أمروا بحلها. ومرت من بعد ذلك مئة سنة على وجه التقريب حتى عادت فكرة التعاون على البحث العلمي تختمر في الرءوس مرة أخرى، فالتأمت في لندن سنة 1645 تلك الاجتماعات العلمية التي تمخضت من بعد عن الجمعية الملكية
Royal Society
ثم تلت هذه أكاديمية العلوم في فرنسا، ومن بعدها «الأكاديميا دل سيمنتو»
Academia del Cimento
في إيطاليا ثم انتشرت جمعيات البحث العلمي ومنتدياته من بعد ذلك في كل بقاع الأرض، وبذلك بدأت نهضة جديدة لها أثرها الخالد في تاريخ العلوم والمدنية .
وسرعان ما خيل للاهوتيين أن في هذه النهضة خطرا وأن وراءها تكمن كارثة، ففي إيطاليا رشى اللاهوتيين الأمير ليوبولد ده مديتشي
Leopold de Medici
بأن منحوه «قبعة» الكردينالية، وكان يعتبر حاميا لذمار أكاديمية فلورنسا؛ ليرفع عنها حمايته. ومنذ زمان البابا أربان الثامن حتى عصر بيوس التاسع
سادت الكنيسة مثل هذه الروح. أما في فرنسا فقد تدخل رجال الكنيسة في أبحاث العلماء مرات عديدة، لم تكن إهانة العلامة «بافون»
Buffon
لتقريره بعض الحقائق العلمية، إلا مثلا لها وعنوانا عليها. وكذلك كانت الحال في إنجلترا؛ فإن البروتستانتية لم تكن هنالك بأكثر عطفا على الجمعية الملكية لدى أول تكوينها من غيرها من شعب الكنيسة؛ حتى لقد أنكرها دكتور «سويث»
Dr. Soath
ورماها بأنها خارجة على الدين ومن حسن الحظ أن قام في تلك الأزمان حائل واحد منع الاصطدام العلني بين اللاهوت والعلم. وانحصر هذا الحائل في نزعة علمية كانت بدورها خطأ كبيرا. فإن الباحثين في حين أنهم نبذوا الأسلوب القديم الذي جرى عليه أسلافهم في العصور الوسطى، وكان من أعز ما عند الكنيسة عليها، قد مضوا عاكفين على فكرة الخلق المباشر وعلى فكرة القصد والغاية التي تكمن وراء كل صور المخلوقات، وأن هذا القصد لم يرم إلى شيء اللهم إلا إلى فائدة الإنسان وتثقيفه وإدخال المسرة والجذل على نفسه بكل الوسائل.
على هذا وجدت الميول اللاهوتية - على ما فيها من نزعة طبيعية إلى الجلاد والصراع - سببا قويا لتسالم العلم. في حين أن العلم ولو أنه كان قد تحرر من كثير من القيود الثقيلة التي قيدته من قبل، قد أصبح ساعد اللاهوت الأيمن؛ إذ كان يزود اللاهوتيين بما يفسرون به مذهب القصد الخلقي، ولكن مع إبداء الاحترام والتبجيل - ولو في الظاهر - لتلك الأساطير والخرافات الكلدانية وغيرها مما تتضمن الكتب العبرانية المقدسة.
حوالي منتصف القرن السابع عشر انتصر العلم على اللاهوت انتصارا تاما في معركة فاصلة. ففي ذلك العهد نشر «فرانشسكوريدي»
Francesco Redi
نتائج أبحاثه التي عقدها في مذهب «التولد الذاتي»
Spontaneous generation
23
فقد مضت عصور وكرت دهور والناس يعتقدون بصحة مذهب محصله أن الماء والأقذار والجيف قد وهبها الخالق القدرة على توليد الديدان والحشرات وعديد وافر جد الوفرة من الحيوانات الدنيا. ولقد رحب القديس أوغسطين وكثير من آباء الكنيسة بهذا المذهب ما دام أنه يكفي الله الواحد القهار مئونة خلق هذه الأنواع الحقيرة الوافرة العدد، كما أنه ينقذ آدم من متاعب تسميتها، وينحي نحوا من أن يعيش في الفلك معها. غير أن «ريدي» قد قضى بأبحاثه على هذه الترهات؛ فإنه مضى في أبحاث مستفيضة لا محل لذكرها هنا، أظهر من طريقها أن كلا من هذه الحيوانات إنما يتولد من بيضة، وأن هذا يدل على أن أفرادها لا بد من أن تكون نتاجا لحيوان خلقة الله، وسماه آدم، وحمله نوح، منذ بدء الخليقة إلى الآن.
وظهرت في إنجلترا مؤلفات شبيهة بهذه. ولكنها كانت أكثر خضوعا للروح اللاهوتية؛ ففي القرن ذاته - السابع عشر - نشر الباحث الطبيعي «جون راي»
John Ray
كتابا حاز شهرة وانتشارا واسعا. وكان «راي» أحد أعضاء الجمعية الملكية وألف عددا من الكتب في النباتات والأسماك والطيور. غير أن أعم هذه الكتب انتشارا وأكثرها ذيوعا بين الجمهور، كان كتابه الذي أسماه «الحكمة الإلهية كما تظهر في أعمال الخلق»، ولقد طبع هذا الكتاب عشرين طبعة متوالية ما بين عامي 1691 و1827.
أما «راي»
Ray
فقد استدل على حكمة الله بضروب المكافآت التي رآها في الحيوانات؛ لا من جهة فائدتها للإنسان لا غير، بل من جهة العلاقات الواقعة بين حياة بعضها وبعض، وكذلك بينها وبين بيئاتها التي تعيش مكتنفة بها.
في السنين الأولى من القرن الثامن عشر نشر الدكتور «نحمياه غرو»
Dr. Nehemiah Grew
أحد أعضاء الجمعية الملكية كتابا أسماه «الكونيات المقدسة»
Cosmologia Sacra ، حاول فيه أن ينقض كل الآراء التي ذاعت مناقضة لما جاء في الكتب المقدسة، وعمد في تدليله إلى البرهنة على القصد والغاية من وجود المخلوقات. ولما أراد أن يدلل في سياق مؤلفه على «الغايات التي رمت إليها العناية الإلهية» قال:
إن الكراكي - وهي طيور لحومها غير جيدة - لا تضع إناثها إلا بيضتين في السنة - في حين أن الطواويس والحجلان تنقف خمس عشرة أو عشرين بيضة؛ لأنها طيور جيدة اللحم.
ولقد أشار بعد ذلك إلى أن الطيور التي تضع قليلا من البيض، إذا كانت ذات فائدة، كدجاج الأرض والحمام، فإنها تحضن أسرع من غيرها. ومن ثم حاول أن يناقض فكرة القائلين: بأن الأشياء المضرة في الطبيعة قد خلقت تبعا لخطيئة الإنسان، بأن ادعى بأنها ذات فائدة، فذكر أن «لدغ القريص إنما يحفزنا إلى البحث عن دواء يشفي الأطفال والماشية وأن «العوسج والقتاد إذا أضرا بالإنسان من ناحية، فإنهما يفيداه في أن يتخذ منهما سياجا يحتمي به» وأن «هذه الأشواك إذا أضرت بعض الشيء بصاحبها، فإنها تمنع عنه غوائل اللصوص»، وأن «بنات عرس والحدادي وغيرها من الحيوانات المضرة تحفزنا إلى التنبه والحذر»، وأن «القمل يحفزنا إلى نظافة أجسامنا، والعناكب إلى نظافة بيوتنا، والبراغيث إلى نظافة ثيابنا.»
وهذه النظرة التفاؤلية، بعد أن انتصرت على النظرية اللاهوتية القائلة بأن الأشياء المضرة قد خلقت تبعا لخطيئة الإنسان، والتي أذاعها القديس أوغسطين وظلت في أوجها عهد «ويزلي»
Wesley
قد مضت متطورة فتكونت في صورة أكثر إلى رقيا وأنبل مرمى خلال القرن الثامن عشر؛ إذ تعهدها بالتهذيب كثير من المفكرين وعلى الأخص «بالي»
كبير الأساقفة، في كتابه «اللاهوت الطبيعي»
Natural Theology
الذي ظل مؤثرا في صورة الفكر إلى عهد قريب. ولقد ظهرت ميول مشابهة لهذه الميول الحرة في ممالك أخرى غير إنجلترا، ولو أن كثيرا من الفلاسفة قد أبانوا عن كثير مما فيه من أوجه الضعف، وعلى الرغم من أن «جوته» قد هزأ بها في بعض أشعاره المعروفة، بأن شكر الله لأنه وضع تصميم شجر الفلين ليتخذ منه في المستقبل سدادات نسد بها زجاجاتنا!
قبل أن ينتصف القرن التاسع عشر بقليل، انتهت هذه الحركة بنشر تلك المقالات المشهورة التي عرفت باسم «مقالات بردجووتر»
Bridgewater Treatises
وقصة هذه المقالات أن رئيس الجمعية الملكية - إجابة لرغبة إرل بردجووتر الثامن - قد انتخب ثمانية أشخاص، خصص لكل منهم ألفا من الجنيهات الإنجليزية تلقاء أن يكتب كل منهم مقالا مستفيضا في «قوة الله وحكمته وخيريته كما تظهر آثارها في المخلوقات»، وكان من أمتع ما طبع من هذه المقالات خاصة بعالم الحياة مقالة العلامة «توماس شلمرز»
Thomas Chalmers
وعنوانها «تكافؤ الطبيعة الخارجية مع حالات الإنسان العقلية والأدبية ومقالات «شارلز بل»
Charles Bell ، وعنوانها «القدرة مظهرة في القصد»، ومقالة «روجت»
Roget
وعنوانها «الفسيولوجيا النباتية والحيوانية من طريق علاقتها باللاهوت الطبيعي» ومقالة الأستاذ «كربي»
Kriby ، وعنوانها «عادات الحيوانات وغرائزها من طرق علاقتها باللاهوت الطبيعي».
وفضلا عن هذا فقد ظهرت مقالات أخرى كتبها هيوويل
Whewell
وبوكلاند
Buckland ، وكد
Kidd
وبروت
. ولقد نجح هذا العمل نجاحا كبيرا دل على رقي كبير بز كل ما تقدم من نوعه مادة وأسلوبا وروحا. أما إذا نظرنا إلى هذه المقالات اليوم فإنا لا يسعنا أن نقول فيها أنها كانت أكثر من أشياء تمهيدية مرهونة بأوقاتها، ولو أنها أدت بدورها إلى استكشاف حقائق ما. ولا يجدر بنا أن ننسى قولة العلامة «داروين» المعروفة؛ إذ يقول بأن النظريات إذا كانت خطأ أدى البحث فيها ومناقشتها إلى الحق واليقين. على الضد من المشاهدات إذا كانت فاسدة فإنها دائما تضل الباحثين ضلالا كبيرا.
إن جهدا كهذا، كله نبالة في القصد وسمو في الروح، لا يستحق أن يستهدف إلى ما استهدف إليه من السخرية. ومن العجيب أن يكون من أقذع ما سدد إليه من سهام النقد ما وجهه إليه حديثا أحد كبار المدافعين عن الأورثوذكسية الممتلئين حمية المشبوبين بحماسة اليقين، فإن علما من رافعي ألوية الإيمان، ونعني به المحترم الأستاذ «زوكلر»
Rev. Prof. Zockler
قد قال عن هذه الحركة التي رمت إلى إظهار القصد والغاية في الخلق كما قال في القائمين بها: «إن الأرض قد ظهرت في أقوالهم كأنها حانوت تباع فيه الملابس الخلقة وفندق لبيع الحساء. أما الله فقد صور على أنه أحد الأساتذة العقليين
Rationalistic
مجسم تجسيما. ولا جرم أن هذه الأقوال يبعد أن تكون إنصافا لما تصوره بطلر وبالي وشملرز، مع قطع النظر عن مقدار ما فاتهم به العالم الحديث من التقدم في الفكرتين العلمية والفلسفية.»
ولكن على الرغم مما كان في عمل هؤلاء الأفذاذ من نبل وجلال، فإن الحقائق التي أسسوا عليها نظرياتهم قد أخذت مع الزمن تفقد كثيرا من قوتها، وتتزعزع أركانها.
فمنذ القرن السابع عشر أخذ كبار اللاهوتيين يشعرون بأن متاعب كبرى قد أخذت تعترض سبيلهم هي أنكى وأبعد أثرا من كل ما واجهوه من قبل. فقد بان مع مر الزمن وكر الدهر أن الأنواع المختلفة التي عمرت الأرض، هي أكثر عددا مما خيل إلى الناس. ومن ثم زادت صعوبة القول بأن هذه الأنواع الكثيرة المختلفة البنى والتكوين قد خلقت خلقا مستقلا بقدرة الله المباشرة. وكذلك القول بأن الأنواع قد حشرت أمام آدم ليسميها. وكذلك الزعم بأنها حشرت في سفينة نوح أزواجا أو سبعات، أي سبعة أفراد من كل نوع. غير أن الصعاب التي قامت في هذه الطريق لم تكن شيئا مذكورا إذا قورنت بما قام في طريق البحث في توزيع الحيوانات والنباتات الجغرافي
Geographical Distribution .
إذا رجعت إلى الأيام الأولى التي شيدت فيها الكنيسة النصرانية، فإنك تجد أن البحث في هذا الموضوع قد أثار فكرات ذات أثر، وعلى الأخص في عقل القديس أوغسطين؛ فقد شرح في كتابه المسمى «مدينة الله» هذه الصعوبة في القالب الآتي: «هنالك صعوبة تواجهنا تلقاء البحث في كل أنواع البهائم التي لم يتمكن الإنسان من تأليفها، ولم تنشأ من الأرض كما تنشأ الضفادع - كالذئاب من أنواع السباع - وعلى الأخص إذا تساءلنا كيف استطاعت أن تشق طريقها إلى الجزر النائية بعد ذلك الطوفان العظيم الذي أعدم كل الأحياء التي لم تحفظ منها «عينات» في الفلك المشحون؟ لا جرم أن بعض الحيوانات يمكن أن تصل الجزر سابحة في الماء، في حالة ما إذا كانت تلك الجزر قريبة من اليابسة. غير أن بعض الجزر بعيدة عن الشاطئ بعدا شاسعا؛ حتى إنه من المتعذر على أي مخلوق أنه يصل إليها سابحا. على أنه لا يبعد عن التصديق أن تكون بعض هذه الحيوانات قد اقتنصها الإنسان وحملها معه إلى تلك الجزر التي أراد أن يستعمرها ليلهو بها في الصيد ويتخذها وسيلة للتسلية. كذلك لا يمكن أن ننكر أنه من الجائز أن يكون نقلها قد تم بفعل الملائكة، وقد أمرهم الله أو حملهم على أن يقوموا بهذه المأمورية.»
غير أن هذه المشكلة الطبيعية قد وصلت حدا لم تقم منه صورة ولو ضعيفة في عقل القديس أوغسطين. وكان من أكبر الأشياء التي أمدتها بالقوة وعززتها بالغلبة والسلطان، تلك السياحات الكبيرة اليت قام بها كولومبوس وفاسكودي غاما وماجلان وأمريجو فسبوتشي وغيرهم من الأفذاذ الذين ظهروا في عصر الاستكشاف البحري. وزادت أهميتها عندما استكشفت جزائر البحار الكبرى التي تغشاها مياه الميحطات الجنوبية؛ فإن كل مستكشف قد نقل معه بعد إتمام سياحته أخبارا عن أنواع جديدة من الحيوانات، وسلالات جديدة من سلالات النوع البشري تعيش في بقاع من الأرض، طالما أعلن اللاهوتيون - اعتمادا على ما قال القديس بولص من أن صوت الكتب المقدسة قد انتشر في كل بقاع الأرض - أنها غير موجودة أصلا. ولقد زاد ضغط هذه الحقائق على التصور الكنسي؛ حتى لقد نزع اللاهوتيون إلى القول بأن الملائكة - طوعا لإرادة الله، وقد هموا بأن يوزعوا الحيوانات على وجه البسيطة - قذفوا بالمغاثيروم
Megatherium
في جنوب أمريكا والأرخيوبتريك
Archeoepetryx
في أوروبا، وخلد الماء الأورنيثورنكس
Ornithorhynchus
في أستراليا، والأبسوم
Opossum
في شمال أمريكا!
كان أول من كشف القناع عن هذه المشكلات الممضة «يوسف أكوستا»
Joseph Acosta
أحد مبشري اليسوعيين؛ فقد ظهر في كتابه المعروف باسم «تاريخ جزائر الهند طبيعيا وأدبيا» الذي نشر في سنة 1590، بمظهر الأمانة والتفكير المستقيم. وعلى الرغم من أنه ظل مقيدا بكثير من التفسيرات القديمة التي فسرت بها الكتب المقدسة، فإنه تخلص من الكثير منها. غير أن توزيع الحيوانات الجغرافي كان من الأسباب التي أتعبته وأعنتته تفكيرا وبحثا. فإنه بعد أن أظهر أن بيانات القديس أوغسطين عقيمة ولا قيمة لها تساءل: «من ذا الذي يتصور أن الإنسان خلال هجرة طويلة إلى بلاد «بيرو»
قد يفكر في أن يتحمل المشقة ويحمل معه الثعالب إلى تلك البلاد النائية، وعلى الأخص ذلك النوع المعروف هنالك باسم «آشياس»
Acias
وهو أقذر ما رأيت من نوعه؟ ومن ذا الذي يجرؤ على القول بأنه حمل معه النمور والأسود ؟
ولا جرم أن هذه الأقوال لجديرة بأن يضحك منها ويهزأ بها. ولا شبهة مطلقا في أن الناس وهم معرضون لخطر البحار في سفر طويل كهذا، لا يعنون بشيء إلا بإنقاذ أرواحهم أولا، من غير أن يحملوا معهم الذئاب والثعالب، وأن يغذوهم ويعتنوا بهم، وهم بعد بين ظفر البحر ونابه!»
ولقد كان لنشر هذه الحقائق آثار جليلة حفزت «إبراهام مليوس»
Abraham Milius
أن ينشر في جينيف سنة 1667 كتابه المعروف «أصل الحيوانات وهجرة الأمم». وهذا الكتاب يظهر بوضوح كاف، كما أظهر من قبل كتاب «أكوستا»، عظم تلك الصدمة الشديدة التي أصابت نظام الأشياء على ما عرفت في العالم اللاهوتي بعد استكشاف أمريكا. ولقد نشر هذا الكتاب بمصادفة خاصة صدرت من أسقف «سالزبرج» أشارت إلى إمكان العثور على حل ينتفي معه كل ما يترتب على هذا الإشكال الكبير، إذا رجعنا إلى نص المتن الأصلي في سفر التكوين؛ إذ فيه: «وقال الله لتخرج الأرض ذوات أنفس حية كجنسها.»
24
ولقد مضى «ميليوس» في كتابه محاولا أن يظهر أن قدماء الفلاسفة يتفقون مع موسى وأن «الأرض والمياه، وعلى الأخص حرارة الشمس والأرض الأصلية مع ما فيها من صفات اللزوجة والتعفن، تلك الصفات التي يلوح لنا أنها من الصفات الخصيصة بطبيعة الأرض، قد يمكن أن تكون العلة التي نشأت عنها الأسماك والحيوانات الأرضية والطيور.» غير أنه من جهة أخرى يقسو كل القسوة على أولئك الذين يقولون بأن الإنسان يشارك الحيوانات في نشأتها وأنه يعود وإياها إلى أصل واحد. أما الموضوع الذي أنفق فيه مليوس كل جهده فكان «توزع الحيوانات الجغرافي»، ولقد أثرت فيه حقيقة وجود تلك الأنواع الكثيرة التي تأهل بها أمريكا وكثير من الجزائر النائية المنبوذة في جوف المحيطات العظمى، تلك الأنواع التي لم تعرف في القارات الأخرى، كما كان وجود تلك الأنواع في تلك البقاع النائية البعيدة من كرة الأرض وعدم وجودها بالقرب من جبل «أرارات» أكبر المشاكل العلمية التي شغلته وحوطته بمتاعبها. ولقد كان ذلك سببا في أن يعترف هذا «المؤلف بأن تعليل توزع الحيوانات الجغرافي أشكل المشكلات وأشق المعضلات. ولقد ساءل نفسه: إذا كان من الممكن للطيور أن تصل إلى أمريكا طائرة وللأسماك أن تصلها سابحة، فكيف تعلل وصول السوائم التي لا تطير ولا تسبح؟»
وعاد فساءل نفسه في الطيور فقال: «ألا يوجد من بين ذوات الأجنحة تنوعات لا عداد لها لا تطير إلا ببطء عظيم وتثاقل، وهي على ذلك شديدة الخوف من الماء، حتى إنها لا تجرؤ على أن تسلم بنفسها طائرة فوق نهر قليل الاتساع؟» ولما رجع إلى الأسماك قال: «إنها تنفر في العادة نفورا شديدا من مغادرة مياهها الأصلية.» وأظهر بعد ذلك أن كثيرا من أنواع الأسماك التي تعيش في مياه أمريكا ومياه الهند الشرقية لم تعرف من قبل في القارات الأخرى، وأن وجودها في تلك المواطن لا يمكن تعليله بأية نظرية من النظريات التي يعلل بها توزع الحيوانات الطبيعي على وجه الأرض.»
أما إزاء القائلين بأن حيوانات الأرض من الجائز أن تكون قد توزعت في أنحاء الكرة بفعل الإنسان، إما للانتفاع وإما للتسلية بها فإنه يتساءل: «من ذا من الجنس البشري يرغب في أن يحمل معه على ظهر مركب سباعا ودببة ونمورا وغير ذلك من الحيوانات المفترسة المضرة؟ ومن ذا الذي يأمن على نفسه معها؟ من ذلك الذي يود أن يوجد جماعات كثيرة منها في بقاع جديدة اتجهت إرادة الإنسان إلى استعمارها وكانت خلوا منها؟»
أما النتيجة الأخيرة التي وصل إليها فكانت القول بأن النباتات والحيوانات إنما تتأصل في نفس البقاع التي توجد فيها. وهي فكرة أخذ يؤيدها بمقاطيع من تينك الروايتين اللتين وردتا في سفر التكوين، واللتين تشيران إلى صفة «التأصيل» - أي الخلق - التي اختصت بها الأرض والمياه.
غير أن الحالات التي قامت خلال القرن الثامن عشر كانت على وجهة النظر اللاهوتية أشد قسوة وأمر ثمرا، ولقد عمد «دوم كالت»
Dom Calmet
البنديكتي المعروف في تعليقاته
Commentary
ليستقوي على الصعاب التي واجهت اللاهوت النصراني في ذلك الزمان، إلى الاعتقاد بأن كل الأنواع التي تلحق بجنس ما من أجناس الأحياء كانت تكون في الأصل نوعا واحدا. ولقد تشبث بهذا الاعتقاد على اعتبار أنه السبيل الأوحد الذي يمكن أن يعلل به الباحثون إمكان جمع زوج من كل نوع من أنواع الحيوانات في سفينة نوح. غير أن هذا الرأي على الرغم مما فيه من خطر واضح على الفكرة الأورثوذكسية، وعلى ما يتضمن من مناقضة صريحة للمذهب الذي استمسكت الكنيسة بعراه، فالظاهر أنه كان كثير الذيوع بين المفكرين خارج الكنيسة، حتى لنجد أن رجالا من طبقة «لينيوس»
Linneaus
قد عمدوا إلى التفكير فيه خلال النصف الأخير من القرن الثامن عشر. ولقد كان من الضروري في ذلك الحين أن تنشأ نظرية لاهوتية أخرى متطورة عن النظريات الأولى بعد أن نضج الزمان لظهورها. ولقد حدث أن «لينيوس» العظيم - على الرغم مما أعلن عنه من شدة اقتناعه بثبات الأنواع وخلقها مستقلة - قد قذف النظرية القديمة بقذيفة ذهبت بها بددا وحطمتها تحطيما. ففي كتابه المعروف باسم «النظام الطبيعي»
Systema Naturae
الذي نشر في أواسط القرن الثامن عشر، أحصى أربعة آلاف نوع من أنواع الحيوانات؛ فظهرت إذ ذاك الصعوبة التي صادفت آدم في تسميتها والصعوبة التي قامت من جراء حملها في سفينة نوح، ظاهرة لكل المفكرين ظهورا جعل حل المعضلة أقل سهولة وأكثر صعوبة.
وتراكمت الصعاب حتى أصبحت ممضة معنتة؛ فإن عدد الأنواع المعينة قد مضى في الزيادة زيادة كبيرة حتى إن أحد كبار الزولوجيين وثقاتهم المجربين من معاصرينا قد ذهب إلى أنه «بجانب كل نوع من الأنواع التي أحصاها «لينيوس» قد عرف الطبيعيون خمسين نوعا آخر، وأنه مما لا شك فيه أن عدد الأنواع التي لم تعرف بعد يزيد على عدد الأنواع التي عرفت بالفعل.»
على أنه كانت قد قامت في الأذهان صعاب أخرى من جراء ما عمدت إليه الكتب المنزلة؛ إذ كان من الضروري - على مذاهب اللاهوتيين - أن يحدث 360 فعلا خاصا من أفعال الخلق المعجزة يقوم بها الخالق ليوجد 360 من الأصداف الأرضية التي تعيش في جزيرة «ماديرا» وحدها على صغر مساحتها، وأن يحدث 1400 فعلا من أفعال الخلق المستقل ليوجد الخالق العدد الموجود من صور نوع واحد من الأصداف المعروفة.
كذلك ازدادت الصعاب عندما عرض للمفكرين البحث في توزيع الحيوانات الجغرافي واستيطانها على سطح الكرة الأرضية. وكانت كلما ازدادت الاستكشافات الجغرافية، ازداد ذلك الخطر الذي داهم الفكرة اللاهوتية. ولقد كان العثور على آثار «السلوث»
Sloth
في أمريكا الجنوبية سببا في قيام أسئلة ممضة إذ قيل: كيف يمكن لحيوانات تبلغ من ثقل الجثة مبلغ هذه أن تهاجر من أرارات - حيث رست سفينة نوح - وأن تسافر إلى مثل هذه البقاع الضئيلة؟
وكان للاستكشافات التي وقع عليها الرواد في أستراليا وما يجاورها من الجزائر آثار أشد مرارة. فقد عثر الباحثون في تلك البقاع على عالم من الحيوان يختلف جهد الاختلاف عن عالم الحيوان الذي عرف في بقية بقاع الأرض.
أما الإشكال الذي قام في وجه اللاهوتيين، فكان محاولة تعليل وجود «الكنغر»
Kangaro
في سفينة نوح في حين أنه لا يوجد الآن إلا في أستراليا وحدها دون بقية البقاع المعروفة. وعلى الرغم من أن قدرة هذا الحيوان كبيرة، فإنه يبقى أمام اللاهوتيين أن يظهروا كيف استطاع هذا الحيوان، وبأي قدر من القفزات المتوالية، أن يجتاز الجبال والوديان، وأن يعبر المحيطات التي تفصل هذه القارة البعيدة عن بقية قارات الأرض؟ أما إذا قيل بتلك النظرية التي يزعم أصحابها بأن طريقا للاتصال كان يصل في الأزمان الأولى ما يفصل الآن بين تلك القارة وأقرب قارة إليها، فإنه يبقى أمام القائلين بهذه النظرية أن يظهروا لماذا لم تستطع الأسود والنمور والجمال والزراف أن يجدوا طريقا أو يقتحموا الحواجز إليها.
منها ترى أن النظرية اللاهوتية قد تحطمت وذهبت بددا وأجزاء في أواخر القرن الثامن عشر، أما عقلاء اللاهوتيين فقد تريثوا متلبثين. أما الحمقى منهم فقد نزعوا إلى الإنذار والتهديد ليقتلعوا جذور الإنكار والكفران، وأنكروا «العلم» الذي يسمى علما بطريق الخطأ معلنين في كثير من النزق «أن الأناجيل صحيحة» في حين أنهم لم يعنوا بقولهم إن الأناجيل صحيحة إلا أن الفهم المحدود الذي فهموا به الأناجيل والذي ورثوه عمن سبقهم صحيح استتباعا.
لم ينتصف القرن التاسع عشر حتى بان لكل المفكرين بجلاء كاف أن النظرية اللاهوتية في الخلق قد نقضت تماما، ولو أنها كانت تردد في جنبات الكنائس احتفاظا بالشكل دون الموضوع. ولقد نهض رجال عظام من رجالات الكنيسة أمثال الكردينال «ويزمان» في الكنيسة الرومانية، والأسقف بوكلاند في الكنيسة الأنغليكانية، وهيوموللر في الكنيسة الأيقوسية، يعملون بجهد اليائس لعلهم يفوزون بإنقاذ شيء من ذلك المعتقد، ولكنها كانت جهود ضاعت سدى وذهبت هباء، وهنا ظهرت صفة الأمانة الصلبة القوية التي تمشت في صدور التيوتون والأنجلوسكسون، والتي هي لدى الواقع أنبل ميراث أورثته العصور الوسطى للعالم، تحقق وجودها في القلاع القديمة التي احتمت وراء حصونها المذاهب اللاهوتية، ونعني بها الجامعات. فلا منطق الأسقف «بطلر» على قوته، ولا معقولات رئيس الأساقفة «بالي»
على روعتها، قد أغنت عن الكنيسة شيئا. فكما استطاع مفكرو الفلكيين من كوبرنيكوس إلى نيوتن أن يحطموا النظام الفلكي القديم الذي كانت الأرض فيه مركز النظام الكوني، والله الواحد القهار جالس فوق الجلد السماوي، على أنه السبب المباشر الذي يحرك الأجرام السماوية بيديه، كذلك استطاعت سلسلة منظومة من عظماء البيولوجيين أن ينقضوا الفكرة القديمة التي تركزت من حول خالق يعمل جاهدا في أن يصور الحيوانات، ويصبها في قالب خاص لتكون مفيدة للإنسان أنهم وضعوا للحياة نظاما جديدا. وهذا ما سوف نتكلم فيه بعد. (3) النظريات اللاهوتية والعلمية في تطور الطبيعة الحية
رأينا حتى الآن كيف تثبت في عقلية النوع البشري فكرة خلق الكون المنظور، وما يأهل به من الأحياء خلقا موقوتا كاملا، وفكرة وجود خالق على صورة بشرية وبخصائص بشرية، تكلم فبرزت المادة إلى الوجود فعلا بأن حرك أوتار صوته وشفتيه، أو أنه صور المادة بيديه وأصابعه ووضعها حيث هي موجودة الآن.
ورأينا أيضا أن هذه الفكرة قد ورثت منذ أزمان بعيدة، وأنها كانت إحدى المعتقدات الشائعة في المدنيات الكلدانية البابلية ومدنية مصر القديمة، وأنها ربما كانت موجودة في مدنيات أولى يفصلها عن زماننا هذا أبعد عهد يمكن أن يقدره التاريخ المعروف. وعرفنا أن صور هذه المعتقدات قد انتقلت إلى كتب اليهود المقدسة؛ ومن ثم إلى الكنائس النصرانية الأولى، التي عمل لاهوتيوها على تنمية هذه المعتقدات خلال العصور الوسطى، واحتفظوا بها خلال العصور الحديثة.
غير أن هذه النظرية بينما كانت تنمو وتتطور بجهد سلسلة من عظماء الرجال الذين اتصفوا برجاحة العقل ونبل المقصد على طول آلاف كثيرة من السنين، نشأ بجانبها تصور آخر كان يناوئ هذه النظرية حينا أو يختلط بها حينا آخر. ذلك هو تصور أن الكائنات الحية، كليا أو جزئيا، هي نتيجة نظام يبعث على النماء والتغاير، أو بالأحرى فكرة في تطور الأحياء.
وهذه الفكرة قد تطورت في صور مختلفة جد الاختلاف، وكانت ذات أثر كبير واضح في كل الصور اللاهوتية والفلسفية التي نشأت خلال المدنيات القديمة على وجه التقريب. فإنك تجد أنه قد انتشرت بين كل الشعوب القديمة، التي امتازت بقوة الفكر والتأمل، فكرة أنه مطاوعة لحكم قوة قدسية، قد برزت الأرض من العماء الذي كان سداه مياها متلاطمة، وأن الأرض والبحر بدورهما قد ولدا الأحياء التي تغشاهما.
وتظهر هذه الفكرة بوضوح من الآثار الكلدانية البابلية التي قرئت معمياتها في العهد الأخير. وقد أشرنا إليها من قبل. وفيها نجد آثار عماء سداه المياه التي بلا نهاية، وأن هذه المياه تحت تأثير قوة قدسية قد أنشأت الأرض وأحياءها وكانت حيوانات الماء أسبق بالظهور على حيوانات الأرض التي تلت تلك في الظهور، وأن هذه كانت منقسمة إلى ثلاثة أقسام كبرى، على نفس الطريقة التي قسمت بها حيوانات الأرض في الآثار العبرانية. ونجد فوق هذا أن «الخالق الكلداني» قد أعلن في عدة مواضع من قصة الخلق المنسوبة إليه أن خلقه «جميل» على نفس النمط الذي يصف به «الخالق العبراني» خلقه إذ يصفه بأنه «حسن».
وفي كلتا الروايتين - الكلدانية والعبرانية - تجد قبة زرقاء صلبة القوام مقعرة الشكل. وفي كلتيهما تجد أن النور خلق أولا، وأنه بعد ذلك علقت الأجرام السماوية لتؤدي الإشارات القدسية وتشير إلى الفصول السنوية، وفيها تجد أن العدد «سبعة» قد خص بالقداسة على صورة خاصة، وأن تقديس هذا العدد قد أدى إلى تكوين أقسام مقدسة في الوقت وفي غيره من الاعتبارات الإنسانية.
أضف إلى ذلك أنه فضلا عما نجده في القصة العبرانية من الصور الذهنية التي تتفق والأساطير الكلدانية، فإن قصة الخلق في كليهما - أي العبرانية والكلدانية - قد عقب عليهما بأسطورة في «هبوط الإنسان» وفي «الطوفان»، تلك الأشياء التي نجد أن كثيرا من تفاصيلها قد نقلت من الكلدانية إلى العبرانية بصورة قد حورت بعض التحوير.
ولا جرم كانت تصبح معجزة حقيقية لو أن هذه التصورات الأولية التي صبت في ذلك القالب الشعري القوي خلال تلك المدنيات القديمة والتي نشأت على ضفاف الدجلة والفرات، لم يتأثر بها العبرانيون على مدى تلك العصور التي خضعوا فيها لجيرانهم الكلدانيين، وعلى الأخص إذا تذكرنا أنهم كانوا في ذلك العهد قد خطوا في التدرج والارتقاء خطوات طويلة ثابتة. ومنذ أن برزت إلى الوجود أبحاث لايارد وجورج سميث وأوبرت وشاردر وجنسن وسايس والذين عاونوهم في تلك الأبحاث الطويلة، لم يبق مجال للشك في أن هذا التصور القديم في حقيقة الكون - والذي يمكن أن يكون قد تحور إن لم يكن قد نشأ في طيات تلك المدنيات القديمة - قد أصبح للعبرانيين ميراثا، فأخذوه ثم صبوه في صورة توحيدية مخلخلة الاتصال، ثم أسبغوا عليه ثوبا شعريا جعله كلا، هو لدى الواقع كنز من أثمن الكنوز التي وصلت إلينا من مخلفات «الفكر القديم» حفظ بين دفتي سفر التكوين.
وبينما كانت الفكرة في إبراز خلق مادي مصنوع بيد خالق وأصابعه أو صوته مبدأ لتكوين مذهب لاهوتي بالغ التأثير، وبينما كان تيار هذا المذهب يندفق من جيل إلى جيل مستمدا خلال كل جيل قوة من مجهودات آباء الكنيسة ودكاترة اللاهوت وقديسي الكنائس المبرزين في علوم الدين، كاثوليك وبروتستانت، أخذ نهر ضئيل من نهيرات الفكر الإنساني ينساب بقوة قد تخفى حينا، وقد نستبينها أحيانا، ناقلا في طيات الفكر جيلا بعد جيل، فكرة في أسلوب من النشوء حاول أن يعلل بها الكون والمخلوقات.
أما المحترم الأستاذ سايس
Rev. Prof. Sayce
ذلك الباحث الإنجليزي الذي لن نؤمن بأن من الباحثين في هذا الموضوع من يبزه سعة اطلاع أو رصانة حكم، فقد أعلن معتقده في أن النظرية الكلدانية البابلية كانت بلا أقل شك النبع الأوحد الذي استقيت منه مقومات نظرية أخرى أخذ بها الفيلسوف الأيوني «أناكسمندر» ونماها، ودافع عنها، وأن فلاسفة اليونان القدماء قد استمدوا هذه النظرية عن البابليين من طريق أهل فينيقية. وكذلك قضى بأن هذا النبع عينه كان مستقى نقلت زبدته في الروايات التي قصت في كتبنا المقدسة. وبهذا الاعتقاد يؤمن كل علماء الآثار الآشورية من أهل النصرانية.
والحقيقة أن تلك الروايات التي تقص في كتبنا المقدسة تناقض إحداها الأخرى؛ ففي ذلك الجزء من الرواية الأولى - أو الرواية الألوهية
25
التي نعثر بها في الإصحاح الأول من سفر التكوين - نجد أن «المياه» أخرجت الأسماك والحيوانات البحرية والطيور (تكوين 1 : 20). غير أننا في الجزء الثاني المعروف باسم «الرواية اليهووية»
26
والتي نعثر عليها في الإصحاح الثاني من سفر التكوين، نجد أن حيوانات اليابسة والطيور قد خلقت لا من «الماء» بل من الأرض (تكوين 2 : 19).
إن المهارة الجدلية التي اتصف بها آباء الكنيسة قد استطاعت أن تستقوي على هذا التناقض فتؤوله تفسيرا. غير أن تيار الفكر القديم - على الرغم من هذا، وقد عضدته هاتان الأسطورتان - قد خدرهم فتنقل منسابا في طيات العقول، عقول أقدر من أبرزت الكنيسة من رجالها خلال القرون، ودمغ الفكرة اللاهوتية بدامغ واضح الأثر، ظل ظاهرا في جبينها طوال دهور؛ إذ وجهها إلى القول بنظرية ما في نشوء الكائنات.
بل كان هنالك نبع آخر فاض بالفكرات النشوئية. فإن المفكرين من أهل المدنيات الأولى، تلك المدنيات التي اهتزت وربت على ضفاف الأنهار في مناطق الأرض المعتدلة، قد لاحظوا كيف أن «الإله الشمس» عندما كان يطلع على الأرض في قوته وجبروته، قد استطاع أن يولد من الأرض صور الحياة الدنيا. ففي مصر على الأخص قد رأى الناس كيف أن طمي النيل - تحت تأثير تلك العناية القدسية - قد أنشأ من «الدواب» الصغيرة ما لا عداد له. ومن هنا نشأ المعتقد القديم في أن الحيوانات ومعه الإنسان قد خلقت «في البدء» من المادة الميتة بأمر العناية الإلهية، تلك الفكرة التي حلت محلها فكرة أن بعضا من الحيوانات الصغيرة - وعلى الأخص الحشرات - قد نشأت فيما بعد بتطور آخر؛ حيث استمدت على حسب النموذج الخلقي الأولي من منابع متفرقة، ولكن على الأخص من مادة في حالة الانحلال.
وهذا المعتقد القديم على ما كان به من مظاهر التخلخل، قد ساعد على تفريخ جرثومة في التطور أرقى من الجرثومة الأولى، أسلم بها إلى اليونانيين القدماء. فالفلاسفة أمثال أنكسيمندر وإمبيذقليس وأناكساغوراس، وعلى رأس الجميع أرسطوطاليس - كما رأينا من قبل - قد عمدوا إلى تنمية هذه الجراثيم القديمة، وقد شقوا الطريق إلى الحقائق حادسين تلك الحقائق التي أيدتها من بعد المشاهدات. ولقد وصل أرسطوطاليس - بالمشاهدة حينا والتأمل حينا آخر - إلى نتائج لو أن حرية الفكر اليونانية قد استمرت كما كانت؛ إذن لوصلت الإنسانية منذ زمان بعيد إلى ما وصلت إليه الآن من حقائق علم البيولوجيا. فإنه قد وصل إلى أعماق من الفكرة العلمية أدت به إلى القول بنشوء العضويات العليا تدرجا من تصور دنيا، وقال بذلك الفرض المنتج، فرض أن في الطبيعة «مبدأ يسوقها إلى الكمال».
فلما أربت فكرات اللاهوت النصراني، صد الميل الذي كان يحفز الباحثين إلى الوصول إلى نظريات نشوئية أكثر صدقا، عن الاستمرار في طريقه المرسوم. غير أن الفكرة القديمة الناقصة في التطور قد ظلت ثابتة. ومثالا على ذلك نرجع إلى فكرة القديس «باسيل» الكبير الذي عاش في القرن الرابع الميلادي. فإنه لما أراد أن يناقش روايات أعمال الخلق قد أعلن بأمر من الله «قد خصت المياه بقوة إنتاجية، وأنه من الطمي والطين اللازب نشأت الضفادع والهوام والبعوض؟»
ثم أشار في النهاية إلى أن ذلك «الصوت» نفسه الذي خص الأرض والمياه بتلك القوات الإنتاجية، سيظل مختصا بهذه القوة ذاتها حتى نهاية العالم. وعلى هذه الفكرة - أو ما يشابهها - سار القديس غريغوري النياسي.
وهذه الفكرة التي استمكنت من عقلية آباء الكنيسة الشرقية العظام، قد أصبحت أشد استمكانا من عقلية الأب الأكبر للكنيسة الغربية؛ فإن القديس أوغسطين - على الرغم من استمساكه بالنص الحرفي الذي صبت فيه الكتب المقدسة - قد رجع عن مذهبه المعروف في قبول التنزيل بنصوصه كما هي، ورفض المعتقد السائد في أسلوب خلقي يشابه ذلك الأسلوب الذي يتبعه صانع اللعب التي يلهو بها الأطفال من عمل صندوق به مختلف الصور والألاعيب. فقال في مقالته المعروفة «تعليقات على سفر التكوين»: «إن الفرض بأن الله قد خلق الإنسان من التراب بيدين عضويتين لفكرة صبيانية. فإن الله لم يبرأ الإنسان لا بيدين عضويتين، ولا بأن نفخ فيه ريحا خرج من حلقومه أو من بين شفتيه.»
بعد هذا تجد أن القديس أوغسطين قد جنح إلى الاعتقاد بالنظرية التطورية القديمة التي عرفت بنظرية «الانبثاق»
Emanation
وهي التي تقول بانبثاق جميع الأشياء من الله، فقال «بأن حيوانات صغيرة معروفة من الممكن ألا تكون قد خلقت في اليوم السادس من أيام الخلق، بل من المرجح أن تكون قد تأصلت بعد ذلك اليوم من المواد المنحلة، مثبتا أنه وإن كان هذا هو الواقع، فإن الله ولا شك يكون خالقها، مستندا إلى إمكان الخلق بالتبعية إلى حقيقة إيجاد المخلوقات بالفعل. ومن ثم يتكلم في «الحيوانات التي برزت بعددها المقدر لها فيما بعد اليوم السادس من أيام الخلق.»
وفي مقالته الكبرى في التثليث
Trinity
وهو مؤلف أنفق فيه ثلاثين سنة من أطيب أيام عمره، نقع على هذه الفكرة في أجلى مظاهر نمائها. فإنه في النهاية يعمد الى القول بفكرة أن خلق العضويات كان خاضعا لأسلوب من النشوء
Growth
وأن الله هو المكون الأول، ولكنه يعمل من طريق أسباب ثانوية. ويختم القول في ذلك بأن مواد ما، قد خصها الله بقوة، تستطيع من طريقها أن توجد صورا خاصة من الحيوان والنبات.
وهذه الفكرة التي ترمي إلى إمكان نشوء الأحياء بوساطة أسباب ثانوية منفصلة عن أعمال الخلق الأصلي، قد ساعدها على البقاء والنماء ضرورات لاهوتية لم يكن عنها من محيص. فإنه شيئا فشيئا وعلى مقدار ما كان يتسع مجال النظر في مخلوقات العالم العضوي، أصبح عدد الحيوانات الدنيا والكائنات المجنحة والأشياء الزاحفة
Creeping Things
مصدرا للشعور بعبء ثقيل ينوء على قصة الخلق المقدسة بكل ثقله. وشيئا فشيئا أخذ الشعور يتحول نحو إمكان التوفيق بين ما يقتضى لله القاهر من عظمة وكرامة، وبين عمله في خلق هذه الكائنات الحقيرة وحشرها أمام آدم ليسميها، وكذلك إمكان التوفيق بين مقدرة آدم المحدودة بصفته الإنسانية وبين استطاعته أن يسمي «كل كائن حي» أو التوفيق بين اتساع فلك نوح وبين ما يحتاج حملها من الفراغ الكبير، ومقدار الغذاء الضروري لتقويم حياتها على مختلف ضروبه، سواء أكان ما حمل منها أزواجا أو سبعات، كما ذكرت في موضعين مختلفين من الكتاب المقدس.
ولقد كانت الفكرة في اتساع الفلك مصدرا لكثير من الاضطرابات. فإن «أوريغن» قد عمد لدى الكلام في ذلك إلى فرض أن الذراع
Cubit
كان ستة أضعاف مقداره المعروف في عصره. وأبان «بيده» عن قدرة نوح ليبني مثل هذا الفلك بأن فرض أنه ظل يعمل في بنائه مائة من السنين. ولما أراد الكلام في مقدار الغذاء الذي كان من الواجب أن يحمله فيه، أعلن أنه لم يكن هنالك من حاجة لأن يحمل معه من الغذاء إلا ما يكفي يوما واحدا، ما دام أنه في قدرة الله أن يلقي على الحيوانات سباتا عميقا، أو أن يصنع بها غير ذلك من معجزة تجعل غذاء يوم واحد كافيا لحفظ حياتها، وكذلك حاول أن يخفف ضغط الحقائق على الإيمان فخفض من عدد الحيوانات التي حملت في الفلك، مستندا في ذلك إلى نظرية أوغسطين التي سبق شرحها، من القول بنشوء الحشرات من المواد المتعفنة والجيف.
ومما لا ريبة فيه أن هذه الضرورة اللاهوتية كانت من بين الأسباب ذات الخطر التي حفزت القديس «إيزيدور الإشبيلي» في القرن السابع، أن يدمج هذه النظرية، مستعينا بالقديس باسيل والقديس أوغسطين، في مؤلفه الإنسيكلوبيذي الكبير الذي ظل في منتجع الفكر ومرجع الطلاب في حقيقة الله والطبيعة أجيالا عديدة. ولقد مهر هذا القديس، عالم اللاهوت بمذهب الخلق بأن جعله أكثر ذيوعا وانتشارا بين المؤمنين؛ إذ قربه إلى الأذهان بأمثال ضربها فقال: «إن النحل إنما يحدث من لحم الثور المنحل، والخنافس من لحم الحصان، والجراد من البغال والعقارب من السراطين.» ومن أجل أن يؤيد هذا المذهب بقوة جديدة تلوح معها مثل هذه الاستحالات العضوية في حيز الإمكان، يعمد إلى الرواية التي جاءت في الكتاب المقدس عن «نبوخذ نصر»
Nebuchadenezzar
وهي رواية من الظاهر أنها كانت ذات أثر واضح في الفكر العلمي خلال العصور الوسطى، معلنا أن كثير من بني آدم قد استحالوا حيوانات فصاروا على الأخص خنازير أو ذئابا أو بوما.
إن مذهب «المخلوقات البعدية» - أي المخلوقات التي ظهرت «بعد» اليوم السادس من أيام الخلق - قد مضى يستجمع الأسانيد والقوى الفكرية من حوله، حتى إذا كان القرن الثاني عشر، ظهر بطرس لومبارد في ملخصه اللاهوتي المسمى «الجمل»
Sentences
أبعد ما يكون اقتناعا وقوة في تصوير الفكرة الكنسية، مبينا الفرق بين الحيوانات التي تنشأ من الجيف والحيوانات التي خلقت من التراب والماء؛ ليقول بعد ذلك بأن الحيوانات الأولى خلقت «بالقوة»، وأما الثانية فخلقت «بالفعل»!
وفي القرن التالي تناول القديس «توماس أكويناس» هذه الفكرة وعلى يديه صبت في قالبها الأخير. ففي كتابه المسمى
Sumna Theologia
الذي لا يزال معتبرا حتى الآن أثمن ما أخرج الكاتبون في العصور الوسطى، تراه يقبل مذهب أن صنوفا خاصة من الحيوانات قد تنشأ من أجسام منحلة نباتية وحيوانية، ويعلن في صراحة أنها إنما تتكون خضوعا لكلمة الله، إما بالفعل وإما بالقوة. ثم يتوسع في هذه الفكرة مثبتا «أنه ما من شيء خلقه الله بعد ستة الأيام الأولى من أيام الخلق فكان جديدا بمعنى الجدة، بل لا بد من أن يكون مندمجا في الأعمال التي تمت في تلك الستة أيام» وأنه «حتى الأنواع الجديدة - إذا ظهر شيء منها - فلا بد من أن تكون قد وجدت في خصائص معينة، كما تستحدث بعض الحيوانات من المواد المنحلة.»
على أنك تجد أن التفريق الحاصل بين الخلق بالفعل والخلق بالقوة، أو الخلق بالمادة والخلق بالصورة، قد نماها وكثرها أصحاب التعليقات من بعد ذلك. فقد قال «كورنليوس ألابيدا»
Cornelius a Lapide
إن بعض الحيوانات لم تخلق «إطلاقا» بل «بالاشتقاق». وبعد ثلاثة قرون أخذ «أوغسطينوس أيوغيبينوس»
Augustinus Eugubinus
هذه الفكرة وتوسع فيها فقال بأنه بعد أن دعت القوة الخالقة الأرض والماء إلى الوجود، خلق الله القادر الضوء، وهو الأداة التي استخدمت في كل ما تلا ذلك من أعمال الخلق، وأن الضوء دعا من بعد ذلك كل الأشياء إلى الوجود فوجدت.
هذا العلم - كما يدعى علما من طريق الخطأ - حتى بعد أن نمته أكبر العقول التي ظهرت بين جدران الكنيسة، على الرغم من أنه علم «عقيم»، كان إلى هذا الحد غير ضار على الأقل، غير أنه كان في نظر اللاهوتيين ممن أقاموا أنفسهم حفظة على كنوز العلم الكنسي، وكانوا ينددون بأقل انحراف عن الفكرة الأصلية المقدسة، ذا خطر عظيم؛ فقد ظهر لهم أن هؤلاء إنما يذهبون بمذهب «الخلق البعدي»، بمقتضى الأسباب الثانوية إلى غايات كبيرة الخطر. لهذا تجد في بداية القرن السابع عشر أن اليسوعي الإسباني المعروف «شوارز»
Suarez
وهو لاهوتي ذو شهرة كبيرة، قد رفض هذه الفكرة، معلنا أن القديس أوغسطين «هرطوق»؛ لأنه أخذ بها وعضدها.
غير أنه لم يكن هناك من خطر على الفكرة القديمة حتى بعد أن بلغ الناس من التفكير هذا المبلغ؛ فإن الميول اللاهوتية الأساسية كانت من القوة بحيث مضى الناس بها مستمسكين.
وكان اللاهوت الإنجيلي لا ينفك عاملا على نسج شبكته السحرية يجر خيوطها من أمعائه الواسعة، فكان ذباب اللاهوت يعلق بها أينما صادفته وأينما صادفها. غير أنك ترى فوق ذلك أن من هنا ومن هناك حام من حول الشبكة مفكرون أقوياء الحجة ثابتو البديهة، استطاعوا أن يحلوا أنفسهم من أغلالها، بل حلوا معهم أغلال غيرهم ممن كانوا قد تساقطوا عليها.
في نهاية العصور الوسطى، وعلى الرغم من تشبث الكنيسة البروتستانتية بنص الكنيسة المقدسة، خلقت نهضة الآداب والسياحات البحرية جوا جديدا انتعش فيه الفكر وتقدم خطوات واسعة من حيث النظر في مشكلات الطبيعة، فكان أقوم سبيلا وأثبت قيلا. فأينما وليت وجهك وحيثما أدرت عينيك، بل وفي كل مجال، كنت ترى رجالات أفذاذا قد وقفوا على مستكشفات كان من شأنها أن تظهر المذاهب اللاهوتية، أقل مسايرة للحقائق وأشد مناهضة للواقع المحسوس.
إن أول ما يجدر بنا ذكره من أولئك الذين يجب أن نخصهم بالاحترام والتبجيل، كمثال لتلك الفئة التي أخذت تحيي تيار الفكرة الإغريقية، تلك الفكرة الفذة التي خلخلتها وصدعت أركانها أساليب العلم التي استمدها من كتبنا المقدسة آباء الكنيسة خلال ألف كاملة من السنين، هو ذلك الجهبذ النادر «جيوردانو برونو»
Giordano Bruno
إن أقواله كانت ولا شك غامضة مبهمة، بل لا نبالغ إذا قلنا إنها كانت ملغزة إلغازا. غير أن هذا يمكن أن نتسامح فيه؛ لأنه بلا ريب كان يرى عن كثب ما سوف يكافأ به إن هو أعلن ما أضمر، وصارح بما أسر في نفسه. غير أن هذا لم يفده شيئا، فنال على يد الكنيسة عقابه الأكبر، تلقاء أقواله المبهمة الملغوزة المشحونة بالأخطاء العلمية، فأحرق حيا وذريت مع الريح بقاياه الترابية. على أنه جوزي في نهاية القرن التاسع عشر خير الجزاء؛ إذ اجتمع لفيف من أكبر مفكري الأرض وأجمعوا أمرهم على أن يقيموا له تمثالا ينصب حيث أقيمت المحرقة التي أحرق عليها بأمر مجلس التفتيش الروماني، بعد أن مضى على ذلك زهاء ثلاثة قرون كاملة.
بعد موت «جيوردانو برونو» وفي خلال النصف الأول من القرن السابع عشر، ظهر «ديكارت» ليرفع راية الإمامة في مجال الفكر الإنساني. فإن نظرياته - ولو أنها نقضت الآن - قد حفزت العقول إلى البحث والاختبار بالمشاهدة إذ ذاك. فإن نبوغه قد ظهر في أجلى مظاهره بتلك النظرية التطورية الميكانيكية التي وضعها في تكوين النظام الشمسي، كما كان أسلوبه التفكيري سببا في أن يقوى تيار المذهب التطوري - النشوئي - على وجه عام. غير أن الاضطهاد المستمر الذي ناله من الكنيستين الكاثوليكية والبروتستانتية على السواء، جعله يلغز أفكاره ألغازا، بل حمله على أن يترك أكثرها جائلا في ثنايا نفسه من غير أن يجرؤ على المصارحة به. ولقد أحرق «برونو» عندما كان «ديكارت» في طول الطفولة، ولما بلغ مبالغ الرجولة تعقب بانتباه معركة غاليليو، وتتبع حوادثها جملة وتفصيلا. ولقد رأى مؤلفاته تلعنها الجامعات واحدة تلو أخرى تحت تأثير اللاهوتيين، بل رآها تضم إلى الفهرست الروماني. وعلى الرغم من أنه زود الفكر الإنساني ببراهين قوية يثبت من طريقها وجود الله، واضطر أن يمتهن نفسه إزاء اليسوعيين، فإنه لم يسلم من اتهام الكاثوليك والبروتستانت على السواء. حتى إنه من الحق أن نقول إنه منذ عصر «روجر باكون»
Roger Bacon
لم يمتهن اللاهوتيون مفكرا كبيرا بقدر ما امتهنوا «ديكارت» بل إنهم استبدوا به وحقروه تحقيرا.
وفي أواخر القرن ذاته ظهر المفكر الكبير ليبنتز
Leibnitz
وعلى الرغم من أنه لم يبشر بنظرية نشوئية كاملة، فإنه أعطى الفكرة سندا جديدا بأن بث نظرية تناوئ الاعتقاد المقدس في ثبات الأنواع، ذلك الاعتقاد الذي كان يلزم المؤمنين بأن يؤمنوا تسليما بأن كل نوع في عالم الحيوان، إنما تلابسه ذات الصورة التي خرج بها من يد الخالق. والتي سماه بها آدم، والتي فارق بها فلك نوح!
غير أن الكنيسة لم تتركه من غير أن تنزل به العقاب، فبعد سنين قلائل في سنة 1712 تمكن اليسوعيون من أن يحبطوا مشروعه في تكوين أكاديمية علمية في فيينا. وعلى الرغم من أن السلطات الإمبراطورية قد منحته أعلى درجات الشرف وحوطته بأقصى ما تستطيع من عناية، فإن القساوسة وهم المتحكمون من فوق المنابر وفي نواميس الإيمان، لم يمكنوه هو والذين انتهجوا سبيله من طلاب العلم، من أن يكشفوا عن بعض الحقائق التي بثها الله في ثنايا الطبيعة.
ولا يجدر بنا أن نغفل ذكر «سبينوزا وهيوم وكانت» بين الذين هم كان من المستطاع أن يكون لفكراتهم - ولو كانت خطأ - أثر في تنشئة نظريات جديدة أصدق برهانا وأقوى أساسا، لو لم يفعم جو زمانهم بريح اللاهوت القاتل. غير أنه بعد أن مات «ليبنتز» ببضعة أعوام، ظهر في فرنسا مفكر ممن اتخذوا علم الطبيعة مجالا لجهدهم. على أنه لم يكن من الشهرة في المكانة التي نزلها أولئك الأعلام. غير أنه استطاع مع هذا أن يخطو بالعلم إلى الأمام خطوة ثابتة.
ففي بداية القرن الثامن عشر ظهر «بنوا ده ميليه»
Benoist de Maillet ، وهو رجل دنيوي عرك الحياة وعرفها، وكان بجانب هذا واسع المشاهدة دقيق الملاحظة صادق الفكر عميقه كثير الشغف بالطبيعة، فبدأ يتأمل في تأصل الصور الحيوانية على الأخص وكيفية نشوئها؛ حتى أدى به تأمله إلى فكرة تغاير الأنواع، ومن ثم إلى الاعتقاد بتطورها على صورة يصح أن يقال إنها من الأسس التي بنيت عليها الفكرة الحديثة في النشوء. ولقد آمن إيمانا صادقا مفروغا منه، ولو أنه لم يكن بينا صريحا في بعض المواطن، بأن الأنواع الحالية مشتقات تحولت عن أنواع أخرى بتوالي التغاير الوصفي على أعضائها. ومن البين فوق ذلك أنه قبل مبدأ من المبادئ الأساسية التي يقوم عليها اليوم علم الجيولوجيا؛ إذ آمن بأن تركيب الكرة الأرضية يجب أن يخضع في درسه للمؤثرات الطبيعية التي تجري تحت أعين الباحثين في العصر الحاضر.
على أنه لم يلبث غير قليل حتى وقع بين نارين. فكانت الأولى السلطات الكنسية: تتهمه بأنه حر الرأي
Freethinker
وكانت الثانية سلطة فولتير
Voltaire
الأدبية إذ رماه بأنه مغال في رأيه متعصب له، ولما شعر بأن الخطر الأكبر آت من ناحية لاهوتيي الأورثوذكسية، حاول «ده ميليه» أن يحمي نفسه من أذاهم بأن ينشر كتابه تحت اسم مستعار يرمز له رمزا في الصفحة الأولى، وبأن يجري في المقدمة والإهداء على قاعدة «التلاعب بالألفاظ» حتى إذا حاولت السلطات اضطهاده، استطاع أن يعلن أن الكتاب ليس بأكثر من هلاس خيالي. لهذا تجد أنه أشار إلى أن الكتاب عبارة عن أشياء أفضى بها حكيم هندي إلى مبشر مسيحي. غير أن هذه المناورة لم تفده شيئا؛ فإنه جعل «الحكيم الهندي» يرجح أن أيام الخلق التي ذكرت في سفر التكوين لم تكن إلا عصورا متطاولة ودهورا متلاحقة. وهذه الفكرة - مع غيرها من الفكرات التي لا تنزل عنها أثرا من حيث التأثير في اللاهوت النصراني؛ - كانت كافية لأن تعتبر مسممة للأفكار. وعلى هذا لم ينشر الكتاب قبل سنة 1748، أي بعد موت مؤلفه بثلاث سنوات، وكان قد طبع سنة 1735.
وترى من جهة أخرى أن لاهوتية «فولتير» الإلحادية الإنكارية قد تحركت من مكمنها لتضرب في أصول الفكرة الجديدة. فإن «ده ميليه» عندما رأى آثار الحفريات التي كشف عنها في رءوس الجبال، قضى بأن وجودها دليل على أن هذه الجبال كانت يوما من الأيام تحت سطح البحر. ولما تراءى لفولتير أن في هذه الفكرة تأييدا لطوفان نوح أخذ يهاجم المفكر الجديد ويهزأ به بلا شفقة أو هوادة. ومن سوء الحظ أن بعض ما وقع فيه «ده ميليه» من الأخطاء، وما قال به من احتمالات، فتحت لفولتير المجال واسعا وأفسحت له سبيل الاستهزاء والسخرية. ولا مشاحة في أن «فولتير» لن يجد من مادة للسخرية أوسع مجالا من نظرية قال بها «ده ميليه» في جد وصلابة، من أن أول إنسان وجد فوق سطح الأرض قد ولدته «مرمادة».
27
ومن هاتين الصورتين اللاهوتيتين، صورة اللاهوت الأقدس ممثلا في الكنيسة، واللاهوت الإلحادي الكاذب ممثلا في فولتير، لم يظهر «لده ميليه» من أثر أو يعترف له بفضل إلا منذ عهد قريب، عندما قام رجالات العلم في فرنسا وإنجلترا ليوفوه من التكريم حقه. غير أنه على الرغم من كل هذا فإن مؤلفه لم يقض على أثره بتة حتى في حال حياته وبين أبناء عصره؛ فإن «روبينيه»
Robinet
وبونيه
Bonnet
قد خطا كل منهما بالنظريات خطوات ثابتة، كانت للعلم انتصارا جديدا.
في خلال النصف الثاني من القرن الثامن عشر قام في وجه هذا التيار المجيد سد «منيع» استجمع لبناته العلامة «لينيوس»
Lineaus
وكان أبعد علماء الطبيعة في عهده صيتا وأكثرهم شهرة وأنفذهم نظرا وأوسعهم اطلاعا ومشاهدة وأدقهم فكرا. غير أن الجو الذي عاش وانتعش فيه، كان مسمما بفضلات اللاهوت الإنجيلي، فكان له أكبر الأثر في تفكيره العلمي.
إن من يزور قبر «لينيوس» الآن، ميمما شطره من باب كاتدرائية أوبسالا الجنوبي، يرى منقوشا فوق أحجاره تنويها بخرافة الخلق العبرانية؛ ففي سلسلة من الأطباق المنقوشة، ترى الخالق في صورة بشرية يتم عمل كل يوم من أيام الخلق . وتراه في ترتيب العمل يضع القبة الزرقاء الصلبة ومن فوقها المياه، ويثبت فيها الشمس والقمر والنجوم، ومن تحتها السوائم والطيور والنباتات، ويتم مهمته بأنه يخرج الرجل الآدمي من كثيب من الأرض السفلى، والمرأة من أحد جنبيه. ومما لا شك فيه أن «لينيوس» عندما كان يذهب إلى الكنيسة ليؤدي واجبه الديني، كان ينحرف قيد أنملة عن الفكرة التي تتضمنها هذه الخرافة. وغالب ما كان يضطر إلى التسليم ببعض الأشياء، كلما يزداد ضغط الكوارث التي نزلت بالنظرية الأورثوذكسية. على أنه عندما بلغ أواخر سنيه، بشر متهيبا بنظرية أن أنواع كل جنس من أجناس الأحياء كانت في بدء الخليقة نوعا واحدا. بل إنه في الطبعة الأخيرة من كتابه «النظام الطبيعي»
Systema Naturae
قد انصرف عن الزعم الأورثوذكسي من القول بثبات الأنواع، بعد أن كان قد تشبث به كل تشبث في مؤلفاته الأولى. غير أنه لم يعلن عن ذلك صراحة وجلاء. أما ما كان ينتظر من جزاء فيها لو صارح بنظرية جديدة ينميها ويشفعها بالبراهين، فقد ساقت إليه مقدمات معروفة نتائجها. فإن التحذيرات - مصبوبة في قالب التهديد - قد تناوحت من حوله تحملها رياح البروتستانت والكثلكة.
في الوقت الذي مضى فيه رعاة الكنيسة القديمة يقرظون الفجرة الخلعاء من الأمراء أمثال «لويس الخامس عشر» ويكيلون لهم الثناء جزافا، متبعين تلك الأساليب السفيهة الساقطة المرذولة التي اختط خطتها اليسوعي «سانشيز»
Sanches
في تعليم الكهنة والقساوسة كيفية علاقة الرجل بالمرأة من ناحية جنسيته، ارتاعت الكنيسة كل ارتياع، بل اهتزت سلطاتها فزعا ورعبا عندما برهن «لينيوس» على حقيقة النظام التناسلي في النباتات؛ حتى لقد حظر نشر كتاباته في الولايات البابوية سنوات عديدة. كما حرمت على القراء في كثير من بقاع أخرى في أوروبا كانت لا تزال السلطة الكهنوتية فيها من القوة، بحيث تستطيع أن تجبر الناس على مثل هذا الحرمان، وأن تقف حائلا في وجه التيار العلمي الحديث. ولقد ظل الحال على هذا المنوال إلى سنة 1773 عندما قام كردينال واسع العقل بعض الشيء، وهو الكردينال «زنلاندا»
Zenlanda
فنجح في الحصول على أمر يبيح للأستاذ «ميناسي»
Minasi
أن يلقي دروسا في نظام «لينيوس» النباتي في روما.
ولم تكن البروتستانتية أقل عسفا أو أهون استبدادا. ففي خطاب إلى «إلوويس»
Elouis
يذكر «لينيوس» مدى الاحتقار الذي وجه إلى العلم على يد الأسقف «سفيد برج»
Svedberg
أحد رعاة الكنيسة اللوثرية العظام، وقد وصل إلى أكاديمية العلوم الملكية تقارير عديدة، وفي أنحاء مختلفة من أوروبا مؤادها أن المياه قد انقلبت إلى دماء. وأن رجال الكهنوت الذين هم «يعلمون» والذين هم «يعنون ما يقولون قد رأوا في هذه الظاهرة دلالة على غضب «الله» على البقاع التي حدثت فيها هذه الخوارق بالذات، كما يجوز أن تكون علامة على غضبه على النوع البشري في مجموعه. ولقد حدثت مثل هذه «الخارقة» في أسوج فامتحنها «لينيوس»، ووجد أن السبب في احمرار الماء راجع إلى تكاثر نوع من الجيوينات فيه. ولما وصل إلى الأسقف أن «لينيوس» قد علل احمرار الماء بهذه الطريقة؛ جاهره بالعداء واقتحم الميدان، فقال في هذا الاستكشاف العلمي إنه «غمرة شيطانية»
Abyssum Satanae
وأعلن «أن احمرار الماء غير راجع إلى سبب طبيعي» وأن «الله عندما يسمح بحدوث مثل هذه المعجزة يحاول الشيطان متخذا من أعوانه البعيدين عن الله المعتمدين على أنفسهم، المكتفين بقواهم العقلية، وسائل تظهر معها المعجزة كأنها لا شيء» ولقد اضطر «لينيوس» أمام هذه الجملة الشنيعة إلى النكوص والتقهقر. فذكر لأحد الذين كاتبوه «أنه من الصعب أن يصارح بشيء إزاء هذا الأمر» مستخفيا وراء القول «بأنها لمعجزة أن تنشأ ملايين عديدة من الجيوينات فجأة وفي أقصر زمان» وأن هذه المعجزة إنما «تظهرنا بلا أقل شك، على القدرة العاقلة البالغة التي يختص بها الله الذي لا يحد بزمان ولا مكان.»
وكان الطبيعي الكبير قد طعن في السن وأنهكته الجهود التي بذلها في سبيل العلم، فلم يقو على أن يقاوم تيار اللاهوت الذي انساب في عصره، فاستنام مطيعا لقوته. وبينما كان التغير الظاهر الذي استولى على كل ما كان يراه من فكرة أورثوذكسية في أول حياته، وقد تسلل في هوادة وسكون إلى الصيغة الأخيرة من كتابه العظيم كما رأينا، فإنه لم يبذل جهدا محاولا أن يطبع العالم بطابع فكرته التي استخلصها من جهاده العلمي الطويل. وظل متظاهرا بأنه من أنصار الفكرة القائلة بأن كل الأنواع الحية قد خلقها الله القادر على كل شيء في البدء، وأنه منذ «البدء» لم تظهر أنواع جديدة على إطلاق من القول.
غير أن نفوذه العلمي العظيم لم يقف الاستكشاف العلمي. فقد ازداد عدد الأنواع المستكشفة يوما بعد يوم. وكذلك أخذت الحقائق المستكشفة في علم الاستيطان التوزيع الجغرافي
Geographical Distribution
تصبح شيئا بعد شيء غير مفهومة بل بعيدة عن بديهة العقل لدى تطبيقها على النظرية القديمة، كما أن العقول قد اتجهت وهنا على وهن نحو الاعتقاد بأن الكون والعضويات الحية قد وجدت خضوعا لنظام بعيد عن فكرة الخلق المستقل - في البدء - حتى لقد أصبح سؤال العلم الأوحد: «بأية وسيلة وجدت الأشياء؟»
ولم يكن في القرن الخامس عشر كله من رجل اشتغل بالتاريخ الطبيعي، بحيث كان من المنتظر أن تنتج جهوده نتاجا يمكن به الإجابة على هذا السؤال سوى «بافون»
Baffon
الفرنساوي، فقد خص بقدر كبير من موهبة القدرة على البحث وعمق التفكير، وكانت كفايته على استظهار نتائج أبحاثه واستعماقه الذهني، من أكبر الدلائل على عبقريته. ولقد استضاء فكره بنظرية التطور بتغاير الأنواع، وكان المنتظر أن يخطو بها خطوات ذات بال. غير أنه لم يصل إلى هذا الحد حتى أدركه نفوذ اللاهوت، فشعر بقوته الثقيلة تنوء على كاهله.
ولقد رحبت الكنيسة بأبحاثه طالما كانت مقتصرة على وصف الأحياء، ولكنه لم يكد يدلف من الوصف إلى استنتاج حقائق ذات قيمة فلسفية، حتى انفجرت عليه بطاريات السوربون اللاهوتية، معلنة له أن «الكنوز المقدسة التي عهد بها إلى الكنيسة» تنص «على أنه في البدء خلق الله السماوات والأرض»، وأن كل «الأشياء قد خلقت من بدء صنع الدنيا»، ومن أجل تلك الاستعراضات العلمية البدائية التي تعد اليوم من الحقائق المتداولة، قد اضطر «بافون» - خضوعا لسلطان الكنيسة - أن يعتذر عنها علنا وأن ينشر اعتذاره مطبوعا على الناس. ولقد قال في اعتذاره : «أعلن إقلاعي عن كل ما جاء في كتابي خاصا بتكوين الأرض، وجملة عن كل ما جاء به مخالفا لقصة موسى.»
غير أن كل هذه الانتصارات التي حازتها الأساطير الكلدانية البابلية، والتي ورثتها الكنيسة النصرانية باللقاح، لم تغن إلا قليلا.
ففي أواخر القرن الثامن عشر بدأت تلوح في أفق الفكر تقريرات، كلا بل شروح وافية جلية في هذه الناحية أو تلك، من نظرية نشوئية كبرى، تناولتها العقول بالبحث والتقرير آنا بعد آن، ومن جهات تختلف أمزجتها جهد الاختلاف، بل تتباين كل التباين. على أننا نخص بالذكر من تلك الشروح والتقريرات ما أظهره «إراسموس داروين»
Erasmus Darwin
في إنجلترا. وموبرتوي
Maupertuis
في فرنسا، وأوكن
Oken
في سويسرا وهردر
Herder ، وعلى الأخص «جوته»
Goethe
في ألمانيا لما اتصفت به تقريراته من الطلاوة والقوة.
على أننا نذكر من بين هؤلاء الأفذاذ رجلين يجب أن نوجه إليهما عناية خاصة، وهما تريفيرانوس
Treviranus
في ألمانيا، ولامارك
Lamarck
في فرنسا؛ فإن كلا منهما مستقلا عن الآخر، قد جر العالم من هذه السبيل إلى حدود لم يبلغها من قبلهما.
ففي سنة 1802 أخرج «تريفيرانوس» كتابه في علم البيولوجيا وبث فيه فكرة أنه من صور الحياة التي كانت في البداية بسيطة، قد نشأت كل النظامات العضوية الراقية متطورة تدريجيا. وأن كل المخلوقات الحية فيها قدرة على قبول التهذيبات الوصفية التي تقع على تراكيبها بفعل المؤثرات الخارجية، وأن أي نوع من الأنواع المنقرضة لم يصبح منقرضا بالفعل، بل لا بد من أن يكون كل منها قد تطور فصار نوعا آخر، كذلك أخرج «لامارك» كتابه «الأبحاث»
Researches
وبعد قليل كتابه الكبير «فلسفة الحيوان»
Zoological Philosophy
الذي أدخل على نظرية النشوء عاملا جديدا، هو عامل فعل الحيوان ذاته؛ إذ يجاهد في سبيل أن «يتطور» ليرضي بذلك حاجات جديدة تظهر في أفقه وبيئته، وأثبت في النهاية هذه النتائج:
أولا:
أن الحياة تعمد إلى زيادة الحجم في كل جسم حي وفي كل أعضائه حتى يبلغ من النماء الحد الذي تتطلبه حاجاتها.
ثانيا:
أن الحاجات المستحدثة في الحيوانات تنشئ أعضاء جديدة.
ثالثا:
أن نماء هذه الأعضاء يكون دائما بنسبة استعمالها.
رابعا:
أن صور النشوء المستجدة في الحيوانات تنتقل إلى الأعقاب.
ولقد كانت أمثاله التي ضربها للتدليل على صحة مذهبه، كاستطالة عنق الزرافة باحتياجها جيلا بعد جيل إلى ارتعاء أوراق الأشجار العالية، واستطالة أرجل الكنغر الخلفية وقوتها راجعة إلى احتياجه إلى الوثب. مثالا للسخرية والاستهزاء. غير أن ما قوبلت به تدليلاته هذه من السخرية كان سببا في تعلق آثارها بالأذهان وتنطبع فيها.
على أن في المثلين اللذين أتينا عليهما، ولو أنهما ناقصين غير كاملين قد كونت حقائق جدية، حقائق كان من المؤكد أن تنمو وتؤتي أكلها.
فإن ما أعلن عنه «لامارك»، وعلى الأخص قوله إن نشوء الأعضاء ونماءها إنما يكون بنسبة استعمالها، وإشاراته التي وجه فيها القول إلى انتقال الصفات المكتسبة أو المفقودة من الآباء إلى الأعقاب، كانت قوة كبرى عملت على تنشئة نظرية النشوء وتدعيم أسسها.
وكان «حفرو سانتيلير»
Geoffroy st. Hilaire
أكبر من تبع «لامارك» من رواد هذه النظرية. ففي سنة 1795 وضع نظرية أن الأنواع عبارة عن سلسلة من التطورات المتتابعة واقعة على صورة أصلية
Type
أو مثال أصلي. ولقد عمل على تنشئة هذه النظرية وتنميتها متدرجا فيها على مر الزمن وبمقتضى ما كان يكشف له من أسرار الطبيعة. ولقد كان من نصيبه أن يواجه في سبيلها عقبات شديدة عاتية. وأن يخوض في سبيلها معارك ممضة مضنية سنين طوالا.
أما الرجل الذي خاض المعركة في عصر «سانتيلير» فكان مرماه العلم، ولكنه خدم اللاهوت لا عن قصد ولا عن شعور، فكان «كوفييه» أكبر الفوسيقيين في عهده، وحجة علماء الطبيعة في عصره. وكان شهرته العلمية عن جدارة واستحقاق. ولقد ضفت عليه الألقاب العلمية من وطنه ومن غير وطنه. فكان يحملها بحق وبوزن لا تطفيف فيه. فكان من رجال الحاشية الملكية في عصر نابليون، ورئيس مجلس المعارف العمومية، ورئيس الجامعة في عصر البوربون بعد رجوعهم إلى عرش فرنسا، وحامل لوسام اللوجيون دونور، ونبيل من نبلاء فرنسا، ووزير للداخلية، ورئيس لمجلس الدولة في عصر لويس فيليب. ولقد حاز شهرة في كل مركز من هذه المراكز، ومع كل ما حازه من مراقي الشرف باعتلائه هذه المناصب الإدارية. لم يكن شيئا مذكورا بجانب ما عقد له من لواء الزعامة في عالم العلم الطبيعي. ولقد اعترف له «العلم» في كل أنحاء الدنيا بأنه مالك زمامه وحامل لوائه، ولهذا الشرف الكبير عاش اسمه، وبحق سوف يعيش. غير أنه كانت تكمن في تضاعيف نفسه وفي تلافيف دماغه، كما كمنت في نفس لينيوس جراثيم جعلته ينظر في الكون من ناحية تصور لاهوتي بذاته في أصل الخليقة وتخطيط تصاميمها الأولى. غير أن هنالك اعتبارات ذات بال جعلته يقاوم النظرية الجديدة ويشدد عليها الخناق بقوة. منها أن أخلاقه قد تكونت على أن يكون شاكا إزاء كل نظرية جديدة في العلم لكثرة ما رأى في حياته من ولادة النظريات واستشبابها ثم موتها. ومنها بيئته كعمدة من عمد الحكومة حاز الشرف ونال الحب والاحترام، بل عبده الأعظمون، وقدسه الأنبغون، لا من رجال الحكومة وحدهم، بل من رجال الكنيسة أيضا. ومنها حيدته وبعده عن المجادلات العنيفة رغبة منه في أن يتحامى المعارك الشديدة التي كان لا بد من أن تحتدم نارها ويتلظى سعيرها إذا قاوم العلم الكنيسة عيانا وبادرها بالعداء جهارا. وعلى الأخص بعد أن وقعت أوروبا في يد الكنيسة لقمة سائغة باردة بعد الثورة الفرنساوية الكبرى، وجعلت من أعدائها موطئا لقدميها؛ لهذا تراه قد ناوأ في جلبة المدائح التي أفاض بها عليه أعاظم رجال الكنيسة، بكل سلطته العلمية ونفوذه، على نظرية النشوء مؤيدا النظرية القديمة، نظرية النكبات الجيولوجية، وما يتبعها من مذهب الخلق المستقل.
غير أن «جفردي سانتيلير» قاومه بمرارة وحرارة، محتملا في سبيل ذلك كل ضروب الإنكار وسوء المعاملة والسخرية. في حين أن «تريفيرانوس» بعيدا في حجرة محاضراته الرياضية في مدينة «بريمان» كان نسيا منسيا.
ذلك في حين أن تيار الفكرة النشوئية ظل منسابا جاريا، ولم تستقو هذه الوسائل على صدره والوقوف في سبيله. نعم إن مجرى الفكرة قد انتابته بعض الصعاب زمانا ما، غير أن الفكرة تحولت في مجار أخرى وفي طرق وأمكنة لم يكن من المحتمل أن تتمشى فيها. فإن هذه الفكرة كما بدأت في فرنسا ظهرت في إنجلترا على الأخص، حيث ظهرت سلسلة كون وحداتها رجال من عظماء الحفريين والجيولوجيين، حتى انتهت بظهور الجليل شارلس ميل
Lyell
ونهض الإخصائيون في أنحاء الدنيا فاستجمعوا بجد وجلد ومثابرة كثيرا من الحقائق وقارنوها بعضها ببعض وفكروا فيها أعمق تفكير متبعين طرقا أخذت بعدها نظرية الخلق المستقبل تتوارى وتتراجع شيئا بعد شيء، ولما اتسعت تلك النهيرات الفكرية واستقوت على شق طريقها في أرض الفكرة القديمة، لم تلبث إلا قليلا حتى تجمعت في ملتقى واحد؛ لتكون نهرا عظيما من الفكر أخذ يفيض ويتدفق بصور التجديد الفكري والابتكارات الاستكشافية.
ففي سنة 1813 أذاع دكتور ويلز
Dr. Wells
الإنجليزي نظريته في النشوء بالانتخاب الطبيعي؛ ليعلل بذلك ظهور السلالات المتغايرة في النوع البشري وحوالي سنة 1820 أذاع الأسقف هربرت
Sean Herbert - وكان من الثقاة المعدودين في علم زراعة الحدائق - معتقده في أن الأنواع ليست سوى تنوعات ثابتة؛ أي غير ماضية في سبيل التغاير. كذلك تجد العلامة «باتريك ماتيوز»
قد قر رأيه على صحة مذهب الانتخاب الطبيعي في إحداث صور النشوء. في حين أن غير هؤلاء - سواء في أوروبا أم أمريكا - قد ألمعوا إلى هذه النظرية إلماعا ونظروا فيها إلماما.
غير أن هذه الفكرة لم يتأثر بها أحد ممن هم خارج دائرتها، وعلى الأخص إذا تذكرنا أن أفراد هذه الحلقة لم يكن لهم تأثير ظاهر. وكانت الكنيسة هادئة ساكنة؛ ذلك لأنها كانت باسطة نفوذها الرجعي في القارة الأوروبية على الأبلطة الملكية وعلى الوزراء وعلى الجامعات. وكان الأسقف «كوكبرن»
Cockburn
يقاوم رافضا نظريات «ماري سومافيل»
Mary Somerville
والجيولوجيين، بين تهليل رجال الكنيسة وتصفيقهم. بينما كان المحترم «مليور براون» يفعل نفس الفعل، مختطا ذات الخطة؛ ليشذب من قيادة المنشقين على الكنيسة.
أما في أمريكا فقد قوبلت تقريرات «سيليمان»
Silliman
وأتباعه بمعارضة لاهوتيي «أندوفر» وعلى رأسهم موسى ستيورات
Moses Stuart ، وليس في هذا من الغرابة بقدر ما في موقف الجامعات الإنجليزية؛ فإنها على إطلاق القول لم تعر هؤلاء المجددين العظام أي الثقات . اللهم إلا ليكونوا موضع سخرية أو ازدراء.
في سنة 1844 لقح تيار هذه الفكرة بعنصر جديد عندما أخرج «روبرت شامبرس»
Robert Chambers
كتابه آثار الخلق
Versiges of creation
كان في الكتاب من الجاذبية وخفة الروح ما جذب إليه أنظار عديد وافر من القراء. فعم انتشاره وذاع صيته. وكان من رأي مؤلفه أن سلائل المخلوقات الحية المتعددة من أبسطها وأقدمها إلى أرقاها وأحدثها نتيجة مؤثرين مستقلين بثهما الخالق الأول وآخر مرة في تضاعيف الطبيعة. فكأن المؤثر الأول عبارة عن قوة بثت في جبلة صور الحياة تدفعها إلى التدرج في الارتقاء حالا بعد حال. أما المؤثر الثاني فقوة تعمد دائما إلى تهذيب العضويات بما يجعلها تلائم ظروف الحالات الخارجية. والمحصل أن محور الكتاب قد دار حول فكرة في النشوء مصبوغة بصبغة الإعجاز، أو هي تجويز لبسط أعمال الخلق خلال كل الأزمان. وإن شئت فقل تعبير ديني عن مذهب لامارك.
وكان من ذلك نتيجتان: لقيت الأولى روحا من الفزع والخوف، وحركت الثانية نزعة البحث الجدي؛ فإن الأولى ظهرت بأجلى مظاهرها في خوف اللاهوتيين وفزعهم من الكتاب. فقد علت الصيحة في جانبهم في حرارة وجد بأن الكتاب يساعد على ترويج الإلحاد وإنكار وجود الله. على أننا إذا رجعنا إلى نهج الفكرة والسبيل الذي تمشت فيها العقول منذ ذلك الحين حتى اليوم وما نشأ فيها من تطورات، لشعرنا بأنه كان من واجب قدماء أهل اللاهوت أن يصلوا إلى الله طاعة وشكرا على ظهور كتاب «شامبرس»، وأنهم كانوا أجدر بأن يضرعوا إلى الله عسى أن يكون ما فيه صحيحا. أما النتيجة الثانية فانحصرت في أن الكتاب قد هيأ القول بقبول معتقد النشوء، باعتبار أن النشوء في صورة أو وضع ما ممكن على الأقل. وعندي أن هذا الكتاب لم يكن له قيمة عملية واقعية سوى في هذه الناحية وحدها.
بعد هذا العهد بثماني سنوات نشر العلامة الفيلسوف هربرت سبنسر مقالة قارن فيها بين نظريات الخلق المستقل ونظريات النشوء، مؤيدا بكثير من البراهين الراجحة القوية النظرية الأخيرة، مظهرا بما لا يحتمل الشك أن الأنواع لا بد من أن تكون قد تهذبت وصفا بتأثير ظروف الحالات. غير أن ما في هذه الثمرات الشهية من قوة وجاذبية لم يدرك أهميتها إلا قليل من الأفذاذ. تلك الثمرات التي ظلت تتجه نحو النضج ببطء خلال سنوات عديدة.
في الأول من شهر يولية سنة 1858 قرئ أمام جماعة لينيوس
Lennaean Society
خطبتان: الأولى لشارلس داروين والثانية لألفرد روسيل وولاس، وبقراءة هاتين الخطبتين، ولدت نظرية النشوء بالانتخاب الطبيعي. وبهما فتحت ثغرة واسعة في حصن اللاهوت الآخذ بمذهب ثبات الأنواع على صورها الحالية منذ بدء الخليقة.
أما تاريخ هذه المدونات العلمية فإن أهل العصر الحديث يحفظونها عن ظهر قلب. فكيف أن شارلس داروين كان قد ألحق بجامعة كمبردج ليخرج في سلك الكهنوت الإنغليكاني، ثم تركها ليلتحق في سنة 1831 يبعث حول الأرض فوق ظهر «البيجل»، وكيف أنه ظل سنوات خمسا مكبا على الدرس والتحصيل منقبا في أدق مشاكل علم الحياة ومستعصياته كما ظهرت له آثارها فوق الأرض وفي البحار، بين البراكين والجزائر المرجانية، في الغابات ومن فوق الرمال، وفي الأقطار الاستوائية إلى البقاع المتجمدة، وكيف أنه في جزر رأس فيردوالغلاباغوس وفي البرازيل وباتاغونيا وأستراليا، استطاع أن يسائل الطبيعة وأن يستدر وحي أسرارها بقوة في الفكر واستعماق في النظر لم يبزه فيهما عالم من قبل، وكيف أنه عاد إلى إنجلترا غير معروف ولا مذكور بلسان، بل عكف هادئا وادعا مكبا على عمله، ثم سرعان ما وجه أنظار العالم كله إلى التفكير في أمر مباحثه التي بثها في كتبه مثل كتاب جزائر المرجان
Reifs Coral ، ومقالته في الحيوانات السلكية الأرجل
Cirripedes
وكيف أنه في النهاية عرض مخطوطته التي حاول فيها أن يكشف عن سر الأسرار في أصل الأنواع، وكيف أتبع ذلك بمقالات عديدة رفعته إلى مصاف كبار الرواد في تاريخ الفكر الإنساني. كل هذه الحقائق ذائع أمرها مذكورة غير منسية من طلاب العلم وأهل التاريخ.
ولقد أخذ عالم العلم يحقق شيئا فشيئا القوى الخلقية العظيمة التي أظهرها داروين في كل دور من أدوار حياته. فموهبة القدرة على الصمت والسكون، وتلك القوة العظمى التي أظهرها في الاحتفاظ بفكرته الكبيرة - فكرة النشوء بالانتخاب الطبيعي - مستعرضا إياها في جو من الدرس الهادئ العميق والتأمل الواسع المستفيض - خلال حقبة من الزمان لا يقل مداها عن العشرين عاما على وجه التقريب - فلم يشر إليها بإشارة ولم يبشر بها للعالم ولو تلميحا، بل جال في كل مجال من العلم ليستجمع الأدلة والبراهين، إما لها أو عليها، وليحصل على أكبر مجموعة في المادة العلمية التي تمكنه من حل المشكلات التي عرضت له. عامة؛ لذا حقق لدى العلماء ما كان لداروين من قوة الخلق وصلابة الأعضاء.
ولم يفش فكرته تلك إلا لرجل واحد؛ إذ باح بها للدكتور «يوسف هوكر»
Joseph Hooker ، فقد قدم له سرا في سنة 1844 ملخصا بالنتائج التي وصل إليها ومضى على ذلك أربعة عشر عاما حتى سنحت الفرصة التي أوحت إليه بأن زمان الإفصاح عن فكرته قد آن، وذلك بعد أن وصل خطاب من ألفرد روسيل وولاس
Alfred Russell Waliace ، وكان قد وصل بعد أبحاث مبتكرة مستفيضة خلال عقد كامل من الزمان - 1848 إلى 1858 - قضاه متنقلا بين بلاد البرازيل وأرخبيل الملايو، إلى نفس الفكرة في النشوء بالانتخاب الطبيعي. ومن بين البراهين الناصعة على أن الدرس العلمي لن يضر بشيء في مختلف صور العواطف الإنسانية، تلك القصة العجيبة التي يرويها تاريخ العلم عن ذلك الخطاب الذي أرسل به «وولاس» لإنجلترا. فقد أرسل «وولاس» مع هذا الخطاب مذكرة «لداروين» وسأله أنه يعرضها على جمعية لينيوس العلمية. فلما استوعبها «داروين» وجد أن «وولاس» قد وصل مستقلا عنه إلى نتائج تقرب من النتائج التي وصل إليها. ومعنى هذا أنه كاد يحرمه من كل صيت علمي ظل يعمل له عشرين عاما طوالا. غير أن داروين كان وفيا لصديقه كما ظل صديقه وفيا له فيما بعد وعلى طول الأيام. فلم يتردد في أن ينشر مذكرة «وولاس» مشفوعة بالنتائج التي وصل إليها. وكان تاريخ نشر هذه الوثائق - أول يولية سنة 1858 - فاصلا بين عصرين تاريخيين، لا في العلم الطبيعي وحده بل في الفكر الإنساني برمته.
وفي السنة التالية - 1859 - صدر الجزء الأول من مؤلفاته النشوئية كاملا؛ إذ أصدر كتابه «أصل الأنواع»
The Origin Of Species ، وفي هذا الكتاب استطاع داروين أن يكشف على الأقل عن سر واحد من أسرار النظام النشوئي الذي كلت دون الإفصاح عنه جهود الباحثين والفلاسفة منذ عصر أرسطوطاليس؛ فإن مؤثر النشوء الميكانيكي قد أفصح عنه خلال هذا الكتاب بثلاث حقائق دائمة التأثير في طبائع الكائنات الحية. في التناحر على البقاء بين العضويات، وفي بقاء الأصلح، وفي الوراثة. ولقد استعرضت هذه الحقائق في قالب دقيق من البحث والتنقيب زكته قوة الملاحظة والصبر والأمانة وصحة الحكم والقدرة على التمييز، فلم يمض على نشرها عهد قصير حتى استلفتت أنظار العالم كله. وحسبك أنها نتيجة عمل ظل متواصلا ثلاثين عاما طوالا. وثمرة لتفكير نابغة من النوابغ الذين قلما يجود الدهر بأمثالهم. كلا بل كان أكثر من هذا. كان نتاجا لجهد رجل نابغة آخر عاش منذ خمسين سنة مضت قبل ظهور «أصل الأنواع» هو «توماس روبرت ملتوس». فإن كتابه في «مبادئ الإحصاء وزيادة عدد السكان» الذي بناه على قاعدة أن الحيوانات إنما تتزايد بنسبة رياضية. وأنها إذا لم يقف سبيل زيادتها عاملا من العوامل، فإنها تسد فضاء الأرض بما وسع، كان قد نسي وترك أمره، بل كان يشار إليه بهزة كتف أو ابتسامة سخرية. غير أن نبوغ «داروين» قد استخلص منه معنى أعمق وفكرة أدق، وبجهده اشتركت فكرة «ملتوس» في دفع التيار بأقصى ما جرى تيار من الفكر في كل العصور. فإن «داروين» لما أخذ يتأمل في نظرية «ملتوس» ليطبقها على ملاحظاته ومشاهداته الطبيعية مع ما رأى من خصب الطبيعة في إنتاج الأحياء؛ استطاع أن يصل إلى نظريته في الانتخاب الطبيعي وبقاء الأصلح.
لما أن تصدع السد المذهبي الكبير الذي كان قائما بين وجهتي النظر القديمة والحديثة تلقاء أصل الكون ونظامه، مد فيضان الفكر وعلا فوق شواطئ الدنيا برمتها، فأحيا كثيرا من النباتات في كل حقل من حقول الفكر والاستنتاج العقلي؛ لهذا توالت طبعات الكتاب، وترجم إلى اليابانية
28
حتى لقد لاحظ العالم أن تحجر الفكر العلمي الذي نعاه المؤلف الكبير «بوكل»
Bouckle
منذ سنوات. قد اختفى متنحيا من الميدان ليحل محله نشاط فكري قبل أن أثمرت صورة من صور النشاط التي انتابت الفكر الإنساني بمثل ما أثر في كل العصور. فإن مجموعات من الحقائق العلمية التي استجمعت على مر الزمان، وظن من قبل بأنها عقيمة ولا فائدة منها، قد أحييت وانتعشت، بل إن حقائق ثابتة لم يعرف لها العلماء معنى أو فائدة، قد فسرت وعرفت معانيها الصحيحة من معجم الطبيعة. وتحت هذا التأثير الجديد هب فريق كامل من شباب المتعلمين واحتل كل منهم ناحية من نواحي البحث الطبيعي وافقت مشربه ولاءمت هواه. وظهرت على إثر ذلك الكتب المبتكرة الناضجة، دبجتها أقلام رجال من مختلف الأمم. وحسبك أن تعرف أن مؤلفيها كانوا من أمثال سبنسر وولاس وهكسلي وغالتون وتندول وتيلور ولابوك وبيجهوت ولوويس في إنجلترا. وفئة من أكبر كتاب ألمانيا وإيطاليا وفرنسا وأمريكا؛ فإنهم جميعا قد أصبحوا بمؤلفاتهم التي أخرجوها من كبار الثقات في كل فرع من فروع علم الحياة. على أن فئة من شيوخ علماء فرنسا قد ظلوا مستمسكين بالفكرة القديمة متأثرين بما كان لكوفييه من سلطة ونفوذ. غير أن هذا لم يعق شباب فرنسا عن أن يقتحم أفراده السبيل إلى عالم النور والعرفان.
إن مصدرا واحدا من مصادر المعارضة لا يجب علينا إهمال أمره هنا؛ ذلك لأن هذا المصدر مثله لويس أغاسيز
Louis Agassiz .
كان أغاسيز من كبار الباحثين، ومعلما أوحي إليه بالعلم وأوحاه، وكان فوق ذلك رجلا نبيل النفس عالي الهمة، تلقى نظرية في الخلق العضوي وأخذ يلقيها ويلقنها، فلم يكن في مستطاعه أن يتبدل منها بنظرية أخرى طواعية وبين عشية وضحاها. وظل عقله وقلبه جو تلك الإبرشية السويسرية التي ولد فيها، وكانت ميوله الدينية وآدابه على ما كان فيهما من جمال وروعة، قد جرحتها ونالت من عزتها شطحات بعض المتحمسين لنظرية النشوء ممن لا اختصاص لهم بها؛ إذ كانوا يجهرون بأشياء كانت بطبيعتها ضد الدين، كما حملت بذورا من الفكر ظهرت لأول وهلة كأنها على نقيض شريعة الآداب . أضف إلى ذلك الاتجاه العقلي الذي ورثه عن «كوفييه»؛ فإن هذين التأثيرين معا قد اتحدا وتعاونا ليكونا سببا في أن يرفض «أغاسيز» الفكرة الجديدة في النشوء.
وكان «أغاسيز» ثالث ثلاثة من العظماء الذين أقاموا السد في وجه نظرية النشوء وأحكموا بناءه بعد أن أقاموا من دعائمه. كان أولهم «لينيوس» في النصف الثاني من القرن الثامن عشر، وثانيتهم «كوفييه» في النصف الأول من القرن التاسع عشر، كما احتل «أغاسيز» مركز سلفيه في النصف الأخير من ذلك القرن. على أن كلا من هؤلاء لا يزال يذكر حتى الآن ولقب العظمة والنبوع يتبع اسمه أينما يذكر. غير أنهم لم يستطيعوا مع ذلك أن يصدوا التيار أو يحولوا مجراه. فإن الجهود التي بذلها «أغاسيز» في أمريكا على عظمتها والجهود التي بذلها في أوروبا نفسها، كانت لدى الواقع سببا في الترويج لمذهب النشوء، فمن دار العاديات الطبيعية التي أنشأها في كمبردج ومن مدرسته التي أسسها في «بنكيز»
، ومن قاعة محاضراته في جامعة «هارفارد» وجامعة «كورنل» كان يخرج تلاميذه وأنصاره، وقد أفعم قلوبهم الحب والإعجاب بأستاذهم الكبير، وملئوا حماسة للعلم يحرك أصولها في أنفسهم نحو الميادين التي يريد لهم أن يرتادوها. غير أن قواهم التي عمل «أغاسيز» على تنبيهها وتعزيزها، قد انصرفت كلها إلى تزكية الحقيقة التي عجز عن الاعتراف بها والترويج لها بكل طريق مستطاع. فإن شايلر ومرفيل وباكاررد وهارت وويلدر وجوردان ولفيف غيرهم - وعلى الأخص ابنه الذي تشرف بأن يحمل اسمه - قد أنصفوه كل إنصاف ومجدوا ذكراه كل تمجيد، بأن استخدموا كل ما تلقوا عنه من علم، إلى البحث مؤتمين بالوحي الجديد الذي هبطت عليهم به نظرية النشوء الحديثة.
على أنه لا يجدر بنا أن نهمل ذكر رجل آخر ننصف؛ إذ نخصه بالتبجيل والاحترام، هو «إدوارد لفنستون يومانز»
Edward Livingstone Yomuans ؛ فإنه على الأرجح أول باحث في أمريكا أدرك ما للحقائق الجديدة التي بشر بها داروين وزميلاه وولاس وسبنسر من خطر وكبير أثر. ولقد اعتنق هذه الحقائق مضحيا في سبيلها كل أمل له في نهجه الذي كان بدأه كمحاضر، مستهديا بهدي هؤلاء الزعماء الثلاثة رافعا رايتهم، مكبا على الكتابة والنشر، معلنا عن الحقائق الجديدة، مدافعا عنها بكل ما استطاع من قوة.
ولقد أيدت المذهب الجديد طائفة كبيرة من الحقائق الثابتة، كان أكبرها شأنا ما كشف «لداروين عنه في تلقيح بعض أنواع النباتات وما استمد من مبادئ علم الأمبريولوجيا - تكوين الأجنة - وتبع هذه مجموعة من الاستكشافات التي وصل إليها وولاس وباتسن وهكسلي ومارش وكوب وليدي وهيكل وموللر وجودري وغيرهم من النابهين في أقطار الأرض. (4) جهد اللاهوت الأخير
كان مثل كتاب «داروين» - أصل الأنواع - إزاء عالم اللاهوت، كمثل محراث صادف قرية من قرى النحل في أرض مرملة، فكنت ترى في كل مكان أولئك الذين صحوا من نومهم الهادئ العميق قد تهافتوا جماعات أخذها الغضب وفعل بها الاضطراب. بالمجلات والمواعظ الدينية والكتب كبيرة وصغيرة، أخذت تنهال على المفكر الجديد من كل جانب انهيالا وتترامى عليه تراميا.
أما رحى اللاهوت فقد حملها توا ومن غير توان مستر «ويلبر فورس» أسقف أوكسفورد، وظهر بها على صفحات مجلة الكوارتارلي. فقد أعلن أن «داروين» قد أجرم أشنع جرم بأن «حاول أن يحدد مجد الله في فعل الخلق» وأن «مبدأ الانتخاب الطبيعي لا يتفق بحال من الأحوال مع كلمة الله» وأنه «يناقض العلاقات المنزلة التي ربطت بين الخلق وخالقه» وأن هذه النظرية «لا تتفق وما يقتضيه كمال المجد الإلهي»، وأنها نظرية في الطبيعة تحقر القائل بها، وأن هنالك تعليل أبسط وأكثر بداهة يمكن أن يعلل به وجود تلك الصورة العضوية الغريبة القائمة بين أعمال الله.»
أما ذلك التعليل فينحصر «في هبوط آدم»، ولم تقف جهود الأسقف الكبير عند هذا الحد. ففي اجتماع الجمعية البريطانية لتقدم العلوم زج الأسقف بنفسه في ذلك التيار الشديد. ولما أشار إلى آراء «داروين» - وكان غائبا عن الاجتماع لمرضه - حمد لنفسه في خطبة ألقاها أنه ليس منحدرا من القردة، فرد عليه هكسلي المعروف بقوله: «لو خيرت لفضلت أن أكون من نساء قرد دنيء النسب، على أن يكون أبي رجلا من البشر يستخدم معلوماته ومعارفه وقوته الخطابية في تحقير أولئك الذين يفنون أعمارهم الطيبة في سبيل البحث عن الحقيقة.»
ولقد دوت هذه القذيفة في أنحاء إنجلترا دويا تناقلته عنها أجواء البلاد الأخرى.
على أن أقوال «ولبرقورس» وكان معدودا من أنبه رعاة الكنيسة الإنغليكانية، قد تلقتها الكنيسة الكاثوليكية الإنجليزية وجاوبت عليها بصوت آخر. ففي خطاب ألقاه الكردينال «ماننج»
Manning
أمام أعضاء «الأكاديميا»
Acodemia ، وكانت قد تكونت لمحاربة ما يدعى «العلم»
Science
هوجم المذهب الطبيعي الجديد ورمي بالتجديف ووصف بأنه «فلسفة وحشية إذ تقضي عقلا بأن لا إله، وأن القرد هو أبونا آدم.»
إن هذه الهجمات التي قامت بها مصادر اشتهرت في عالم اللاهوت ونبه صيتها في جو الكنيسة قد صبغت الفكر الكهنوتي بصبغة ما بضع سنين. فقد ذهب كاتب كهنوتي معروف على الرغم من السنوات الثلاثين التي أنفقها «داروين» في عمله الهادئ المستمر، وعلى الرغم من تلخيص أصل الأنواع تلخيصا بلغ منتهى القوة والمتانة، إلى القول في إحدى مجادلاته؛ لكان أجدر بداروين أن يكون أكثر نهى بأن يزودونا ببعض الأسباب الأولية التي تحملنا على نبذ المذهب الذي يعتنقه الجميع.
ولديك لاهوتي آخر مشهور وكان نائبا لرئيس معهد أسس لمحاربة «العلوم» المضرة أو «الخطرة»، قد أعلن بأن مذهب داروين «محاولة يقصد بها إنزال الله عن عرشه.» وذكر ناقد آخر أولئك الذين تقبلوا مذهب داروين وآمنوا بصحته بأنهم كمثل الذين وقعوا تحت تأثير وحي جنوني أوحى إليهم به من استشم غازا وبائيا كريها، كما قال في براهين داروين: إنها «غابة ملتفة من فروض خيالية»، وتكلم آخر في مذهب داروين بأنه يفرض أن الله «قد مات»، وأعلن أن مؤلفات داروين إنما تفتح باب الاضطراب في كل شيء من الأشياء التي أظهرها لنا الله في كتبه المقدسة عن وسائلها ونتائجها في عمله. وقال ثقة آخر من رجال اللاهوت بأنه إذا كان مذهب داروين صحيحا؛ إذن فسفر التكوين كذب، وبه ينهدم ذلك الهيكل العظيم الذي نستقرئ آياته في كتاب الحياة ويتحطم تحطيما، ويصبح وحي الله للإنسان - كما نعرفه نحن أبناء النصرانية - عبارة عن سخرية وخيال.
وقال آخر ممن أظهر صفات فذة أهلت به به لأن يكون من مستقرئي أسرار الطبيعة بأن المذهب الدارويني «دعوى باطلة من أولها ...»
ومن جو أمريكا ترددت الأصداء. فقد قالت مجلة من أكثر مجالات الفئات الدينية انتشارا في أمريكا: إن داروين «يحاول أن يزيد الإشكال ظلاما على ظلامه.» ورفضت أخرى فكرات داروين باعتبار أنها «خيانة» وعدم «أمانة». وأعلنت المجلة التي تمثل فرع الكنيسة الإنغليكانية بعد أن أوسعت «داروين» تسفيها وتحقيرا أن مذهبه «سفسطة وبعد عن المنطق.» ومن ثم دلفت بقدمها في مناقشة خطرة قالت فيها: إذا صحت هذه النظرية الفرضية فهل تكون الأناجيل خيالا لا يمكن تصديقه؟ وهل ظل النصارى أكثر من ألفي سنة غارقين في لجات يم عميق من الكذب الفاضح؟ إن داروين يريدنا أن نكذب كلمة الخالق الأولى.
وحاولت جريدة أخرى تابعة لنفس هذا الفرع من أفرع الكنيسة أن تثبت أن نظرية النشوء مناقشة للنصوص الصريحة التي أعلنت في العهد الجديد، كما أنها تناقض نصوص العهد القديم، ثم قالت: إذا كنا جميعا أناسي وقرودا، أصدافا وبزاة، قد نشأنا من جرثومة أصلية واحدة فهل يمكن أن يكون تصريح القديس بولس العظيم من أن الأجسام مختلفة، وأن أجسام الآدميين نوع غير أجسام البهائم والوحوش وهذين غير أجسام الأسماك والطيور؛ غير صحيح؟
وارتفع صدى آخر من أستراليا، حيث نشر الدكتور «بري»
Dr.
كبير أساقفة ملبورن كتابا هو أشد الكتب مضاضة وأكثرها مرارة عنوانه «العلم والإنجيل» أعلن فيه أن الغرض الأول الذي يرمي له شامبرس وداروين وهكسلي، هو أن يزرعوا في قرائهم بذرة إنكار الإنجيل وعدم الاعتراف به.
وهل يمكن أن تظل فروع الكنيسة القديمة من خلف هذه الجلبة ساكنة هادئة؟ كلا، فقد صرح «بيمان»
Bayman
في مجلة «عالم الكثلكة» قائلا: «لنا الحق في أن نعتقد أن داروين ليس إلا بوقا ينطق عن تلك الفئة الكافرة المجدفة التي ليس لها من غرض إلا أن تذهب بكل فكرة في حقيقة وجود الله.»
ومن الأشياء التي لا يجب علينا أن نهمل الإشارة إليها لخطورتها في إظهار مقدار ما بيت عليه الجانب اللاهوتي في ذلك العهد، كان تأسيس معاهد العلم القدسي التي هيئت لمحاربة الفكرات الجديدة. ومن أولى هذه المؤسسات «الأكاديميا»
Acodemia
التي وضع تصميمها الكردينال «ويزمان»
Wiseman ، فقد نشر الكردينال رسالة دورية، وكان في العادة رصينا عادلا، أنذر فيها الناس وختمها بقوله: «والآن يكون من واجب الكنيسة التي تملك وحدها دون غيرها الحقيقة القدسية، أن ترأس بلا تردد ولا مواناة حركة فعلية تقادم بها ما تهدد بقايا أجزاء المعتقد النصراني في إنجلترا.» ولقد حصل على الإذن اللازم من «روما» وأسست الأكاديميا وظهر «الحصافة القدسية» التي خصت بها الكنيسة في أقوال صدرت عنها، كتلك الأقوال التي قذف بها الكردينال «ماننج»
Manning ، والتي يود كل كاثوليكي مفكر أن يعيدها إلى ذكراه، وفي مماحكات الدكتور «لينج»
Dr. Laing ، وكلها أقوال لم تثر إلا ابتسامات السخرية والازدراء. ولقد ظهرت في النواحي البروتستانتية جهود مشابهة لهذه. فقد تأسس «معهد فكتوريا»
The Victoria Institute
ولا يبعد أن يكون أهم عمل صدر عنه هو ذلك النداء الذي أذاعه نائب رئيسه المحترم «وولتر متشل»
Rev. Walter Mitchell ، وفيه قال: «إن المذهب الدارويني يحاول أن يخلع الله عن عرشه.»
أما في فرنسا فإن الحملة كانت على الأرجح أشد وأقسى. فقد أخرج «فابر دنفيو»
Fabre D’Envieu
مدافع اللاهوت الفخمة من ثكناتها القديمة، وفي سلسلة طويلة من الفروض المستفيضة قضى بأن كل نظرية غير نظرية ثبات الأنواع وعدم تغايرها، إنما تناقض نص الكتب المقدسة مناقضة تامة صريحة. أما «ديسبورج» وكان من قبل أستاذا للاهوت قد دمغ داروين بطابع فقال: إنه «مدع» ونعت نظرية النشوء بأنها «مظلمة معتمة». أما المونسنيور سيغور
Segur
فلما أشار إلى «داروين» وأتباعه فقد أخذته الهستيريا فقال: «إن هذه المذاهب المرذولة لا يؤيدها إلا أحط النزعات وأسفل المشاعر. فأبوها الكبر وأمها قذارة النفس وهذان لا يلدان إلا الثورات. مذاهب ما خرجت إلا من جهنم ولن تعود إلا إليها، ومعها المخلوقات الغليظة التي لا تعلوها حمرة الخجل عندما تعلن تلك المذاهب وتدافع عنها.»
أما في ألمانيا فإن الحملة إن كانت أقل إسفافا فإنها لم تكن أقل شدة. فقد تكاتف اللاهوتيون من كاثوليك وبروتستانت وعملوا معا. فأعلن الدكتور «ميخيليس»
Dr. Michelis
أن نظرية داروين «صورة كاريكاتورية للخلق، وأكد دكتور «هاجرمان»
Dr. Hagermann » أنها «نفت الخالق وطردته خارج الأبواب»، وصمم دكتور «شند»
Dr. Schund
على القول بأن «كل فكرة في الكتب المقدسة من أول صفحة إلى آخر صفحة فيها، تناقض نظرية داروين على خط مستقيم.» وأنه إذا كان داروين محقا في قوله بنشوء الإنسان من صورة حيوانية منحطة، فلا شك في أن تعاليم الإنجيل في خلق الإنسان تتبدد وتذهب سدى.» ودعا «روجمون»
Rougemont
في سويسرا إلى القيام بحرب صليبية تعلن ضد هذا المذهب الخاطئ المفسد. أما «لوتاردت»
Luthardt
أستاذ اللاهوت في ليبزج فقد أعلن «بأن فكرة الخلق ملك للدين لا للعلم الطبيعي. وأن الهيكل الأعلى للدين الذاتي إنما يقوم على مذهب الخلق.» ثم أظهر من بعد ذلك أن نظرية النشوء تناقض الحكمة القدسية مناقضة تامة.
غير أنه حدث في سنة 1863 ما أوقع الاضطراب في معسكر اللاهوتيين. فإن سير «شارلز ليل»
Lyell
أشهر جيولوجيي عصره غير منازع، وكان رجلا ذا ميول ومشاعر دينية رسيسة، على ما امتاز به من خلق الحذر والحيطة وعلى ما عارض به نظرية «لامارك» النشوئية، وعلى ما أعلن عنه من انتمائه علميا إلى نظرية الخلق والمتعاقب، قد أصدر إذ ذاك كتابه «قدم الإنسان»
Antiquity of Man
فأظهر فيه وفي غيره من الكتابات أنه من أنصار «داروين» المؤيدين لنظريته المتابعين لمذهبه، مكرها لا مختارا. وكانت هذه الضربة قاسية في كثير من النواحي، وعلى الأخص في ناحيتين:
الأولى:
في أنها نقضت في الحقيقة كل أساس كانت تقوم عليه التأريخات القدسية.
والثانية:
في أنها أنقصت الثقة بنظرية الخلق. بل كانت ضربة غير منتظرة ولا محسوب حسابها. ففي كثير من المطالعات التي تناول بها اللاهوتيون نظرية «داروين» فزع إلى «ليل» وبعض الأحايين في أسلوب يدعو إلى الإشفاق، «بأن لا يرجع عن الحقائق التي أعلن عن اقتناعه بها من قبل.» غير أن «ليل» قد سمت به أمانته إلى حيث أذعن بغير تحفظ إلى مجموعة البراهين الجديدة التي أيدت نظرية النشوء قد نظرية الخلق.
وفي الوقت ذاته صدر كتاب هكسلي «مركز الإنسان في الطبيعة»
Man’s Place in Nature ، فأورد فيه كثيرا من البراهين الثابتة القوية التي تؤيد نظرية النشوء بالانتخاب الطبيعي.
وفي سنة 1871 نشر كتاب داروين «تسلسل الإنسان».
أما المذهب الذي ذهب إليه داروين في كتابه هذا فقد سبقه به غيره من النقاد الذين تناولوا كتبه الأولى، غير أنه فضلا عن هذا قد أحدث صدوره رجة عظمى، تجمعت على أثرها فلول الجيش المعارض، ولكنه لم يتزود بمثل ما تزود به من حرارة فيما مضى. على أن البعض كان قاسيا؛ فإن «مجلة جامعة دبلين»
The Dublin University Magazine
متبعة الطريقة القديمة، قد اتهمت «داروين» بأنه يبحث كيف يخلع الله عن عرشه بفعل مستمد من سورة الأوهام، وأنه يحاول أن يقتنص الله خارج العلم. غير أن أخطر ما جاء عن الكنيسة القديمة كان ما رد به على داروين الحكيم الكاثوليكي المعروف دكتور «قسطنطين جيمس»
Dr. Constantn James
الفرنساوي؛ ففي كتابه «الداروينزم أو الإنسان القرد» الذي نشر في باريس سنة 1877 لم يسفه دكتور قسطنطين العلامة «داروين» علميا، بل قذف كتابه بكل أنواع الاحتقار ناعتا إياه بأنه «أسطورة»، وظهر مقتنعا بأن كتابا كهذا بلغ ذلك المبلغ من «الخيالية والانحطاط» لا يمكن أن يكون أكثر من أضحوكة كبرى مثل كتاب أراسموس المسمى «مدح الجنون»، أو كتاب «مونتسكيو» المسمى «خطابات فارسية». ولقد اغتبط أمراء الكنيسة، فقد أكد الكردينال أسقف باريس للمؤلف بأن الكتاب أضحى «مقرأته الروحانية» ورجاه أن يرسل نسخة من الكتاب للبابا نفسه. ولقد رد قداسة البابا بيوس التاسع بخطاب منمق على المؤلف مادحا الهدية، بل وشكر لابنه المحبوب «أي المؤلف» كتابه الذي نقض فيه بلباقة الزيغ «الدارويني»، ولقد أضاف قداسته إلى ذلك قوله: «إن مذهبا يناقض التاريخ من ناحية وتقاليد كل الأمم والعلم الصحيح والحقائق المرئية، بل والعقل نفسه من أخرى لا يكون محتاجا إلى نقض أو رفض، لولا أن الجنوح إلى الخروج على الله والنزعة إلى المادية، التي لا سبب لها إلا الجهل، تمت دائما إلى هذا النسيج الخرافي محاولة أن تستمد منه عونا ... على أن الخيلاء بعد أن رفضت الاعتقاد بالله موجد كل الأشياء، وبعد أن أعلنت على الملأ أن الإنسان مستقل، مهيبة به في أن يكون هو بذاته سيد ذاته، وأن يكون هو بذاته قسيس نفسه، وأنه يكون هو بذاته إله ذاته. إن الخيلاء بعد كل هذا قد خطت خطوات أخرى حتى بلغت حدا عنده جردت فيه الإنسانية وأنزلته منزلة السوائم غير العاقلة، بل ربما نزلت به إلى درك المادة الميتة؛ وبذلك حققت - على غير وعي منها - القول القدسي: «حيثما تكون الخيلاء تكون الوقاحة.»
غير أن فساد هذا العصر ومحاولات الفسقة وطرائقهم، وخطر الغفلة البسطاء، كل هذه الأشياء تتطلب أن تنقض أمثال هذه الأوهام، ولو أنها مضادة للعقل بالعلم الصحيح، ما دامت هي تتقنع بقناع العلم، وبعد ذلك شكر البابا دكتور جيمس على كتابه قائلا: «إن الحاجة إليه كانت شديدة، وإنه من أمس الأشياء لحاجات عصرنا هذا.» ثم منحه من بعد ذلك البركة الرسولية. غير أن الأمر لم ينته عند هذه «البراءة» فقد صحبتها أخرى إذ منح المؤلف رتبة من سيامة القديس «سلفستر» البابوية. أما الكردينال أسقف باريس فقد أكد للمؤلف بأن أحدا غيره لم يفز بمثل هذا العطف البابوي، واقترح عليه أن ينظر في طبعة أخرى نظرة أعمق في «العلاقة الكائنة بين قصص سفر التكوين ومستكشفات العلم الحديث، على طريقة يمكن بها إقناع أشد الناس إنكارا بألا تناقض بينهما»، وكذلك لم يقف المؤلف عند هذا الحد بل تطلع إلى ما هو أعلى. فإن تجاريب الطبعة الثانية عرضت كلها على فخامة الكردينال، ثم ظهر الكتاب في سنة 1882 تحت عنوان «موسى وداروين: رجل التكوين مقارنا بالرجل القردي. أو التربية الدينية إزاء التربية الإلحادية». ولا عجب بعد ذلك إذا عانق الكردينال المؤلف شاكرا إياه باسم العلم والدين معا، قائلا: «لقد حصلنا أخيرا على كتيب نستطيع أن نضعه بين أيدي الشبان آمنين.»
وفي الغالب أن حماة البروتستنتية من المحافظين لم يكونوا أقل حماسة وتطرفا، فقد جاء في خطاب ألقاه مستر غلادستون في ليفربول ما يلي :
على القواعد التي يبثها المذهب المسمى بمذهب النشوء، يتخلص الله من كل متاعب الخلق، وباسم القوانين الطبيعية الثابتة أخرج من يده حكم الدنيا. ولما نبهه مستر «هربرت سبنسر» إلى حقيقة أن «نيوتن» بنظريته في الجاذبية ومبادئه في علم الفلك الطبيعي معرض لنفس هذه التهمة، تراجع مستر غلادستون في مجلة «الكونتمبوراري» مختفيا وراء سحب كثيفة من الكلمات كما هي عادته في المناقشات. أما المحترم دكتور «كولز» في «المجلة الإنجيلية لإنجلترا والخارج»، فقد أعلن أن «إله» النشوء ليس هو بنفسه «إله» النصرانية. كذلك كانت خطبة مستر «برجون»
Burgon
أسقف شيستر في موعظة ألقاها في جامعة أكسفورد. فقد حذر الطلاب في استعطاف قائلا: «إن الذين يحاولون رفض الاعتقاد بصحة تاريخ خلق أبوينا الأولين، كما هو منصوص عليه حرفيا في الكتب المقدسة؛ ليستبدلوا بها خيال النشوء الموهوم، إنما هم في ضلال.» ولقد اقتحم دكتور «بيوزي»
المعركة مهيبا بالناس في جد وأمانة أن يرفضوا الأخذ بالمذهب الجديد، وكذلك المحترم «جافن كارليل»
Garvin Carlyle ، فإنه تبع نفس السبيل وانضم إلى ذات الحزب. وطبعت جماعة تقدم المعركة النصرانية
Society of Promoting: Christian Knwledge
كتابا ألفه المحترم مستر «بركس»
Briks
أعلن فيه أن مذهب التطور «مضاد أولا وآخرا للمعتقد الأساسي في الخلق».
أما «اللندن تيمس» فقد ذكرت في مراجعة نشرتها عن كتاب تسلسل الإنسان أنه «عبارة عن نظرية وهمية مملوءة بقضايا لا أساس لها وأبحاث لعينة وتأملات لا تحدث إلا التفكك في ألفة العقل»، وأن داروين نفسه ليس إلا رجلا «كافرا جاهلا بالعلوم».
ولكن لوحظ أن سلسلة الهجمات الثانية التي وجهت إلى كتاب «تسلسل الإنسان» قد اختلفت في اعتبار واحد ذي خطر - وذلك بقدر ما يهم إنجلترا - من تلك الهجمات التي وجهت من قبل إلى كتاب «أصل الأنواع». فبينما كانت كل المساعي التي بذلت قد وجهت إلى إقلال الثقة بداروين، وإلى صب أنواع الاحتقار والسخرية عليه، وإلى إظهاره بمظهر «المهاجم للنظرية المضطهد لها»، وهو بعد أكبر من كانت تقل الأرض في أيامه من رجال النبوغ والعبقرية مصروفة إلى العلم، هذا بينما كان أنصاره يصورون في الأقلام بصورة المنافقين المكابرين - بينما كان هذا مفعما جو الجلاد الفكري - كنت ترى أن نصراء القديم كانوا قد تنكبوا القول بأن النشوء حتى على قاعدة الانتخاب التي قال بها داروين، مناقض لنص التنزيل. ولقد كان انتصار «سيرليل» للنشوء سببا في أن يثير التساؤل بين اللاهوتيين الذين احتفظوا بشيء من التوازن العقلي في رءوسهم قائلين: ماذا يكون لو أن مذهب داروين قد ثبتت صحته علميا؟ على أن ذكريات تلك المواقف التي وقفتها الكنيسة بعد أن ثبتت صحة المذاهب التي استكشفها كوبرنيكوس وغاليليو، قد عادت إلى أذهان الذين هم أصفى عقلا وأقوم طريقة. غير أن هذا الاعتبار لم تظهر في ألمانيا آثاره سريعا كما ظهرت في إنجلترا. فإن أحد مشهوري رجال الكنيسة اللوثريين في «مجدبرج» مثلا قد أهاب بسامعيه أن يوازنوا مختارين بين داروين والدين. أما «ديلتش»
Delitszch
فقد حاول في تعليقات حديثة كان قد وضعها على سفر التكوين، أن يرجع بالعلم خطوات واسعة معترفا بأن خطيئة الإنسان عامل من عوامل الخلق الأساسية. أما الأستاذ «هنريش إيوالد»
Ewald
فبعد أن حاول التخلص من كل اصطدام يمكن أن يحصل بين التعاليم المبتذلة وبين مذهب النشوء؛ قد أرضى ضميره بأن أنزل بداروين وأتباعه كل صنوف الاحتقار والتحقير. وكذلك «كريستليب»
Christlieb
فإنه في خطابه الذي ألقاه أمام الجمعية الإنجليزية في نيويورك سنة 1873 قد لجأ ببساطة إلى القول بأن المتجهات التي تتمشى فيها نظرية داروين إنما هي متجهات «تقود إلى الكفر»، ولكنه مع هذا تحاشى أن يثير معركة انتقادية يتخذ الإنجيل فيها سلاحا. أما في هولاندا فقد قام الأب «بيش»
وكتب باللاتينية - شأن القدماء - استعراضا عاما لنظرية النشوء، كان ولا شك مثيرا للعجب، فكان بمثابة فيلق من فرسان القرون الوسطى ادرعوا الحديد، وحملوا القوس والنشاب في ميدان حرب من طراز القرن التاسع عشر!
أما أمريكا فقد تجاوبت أنحاؤها بأصداء جديدة، على أننا نختار من بين الآلاف المؤلفة من الهجمات التي وجهت إلى داروين من البروتستانت والكاثوليك على السواء، معركتين اختص بهما رجلان من نقاد ذلك العصر. أما الأول فكان الدكتور «نوح بورتر»
Noah Porter
رئيس كلية «يال» وهو أحد مشهوري الباحثين وكاتب من أمهر الكتاب ورجل من أنبل الرجال، كثير التسامح جمع في تفكيره مزيجا غريبا في المغالاة في التطرف مع الإمعان في المحافظة؛ لذلك ترى أنه بينما أباح لمذهب النشوء في الجامعة التي عهد إليه بها أكبر دائرة ممكنة من التسامح، فإنه شعر بأن من واجبه أن يصرح مرة واحدة بعدم اعتقاده من صحته. غير أنه كان من النهى واتزان العقل حيث قال إنه لا يرى أن عداء بين هذه النظرية وبين النصوص المنزلة، بل إنه قد عمد فيما كتب إلى الاقتصار على الإشارة إلى أن مذهب النشوء ينزغ في الصورة التي أظهرها به داروين إلى اللاإرادية ووحدة الوجود. أما الذين عرفوا دكتور «بورتر» ومحضوه الحب والاحترام، وتتبعوا باهتمام طريقته المعقولة التي اتبعها في إهمال شأن العلم وعدم إعطائه فرصة ولو محدودة ليسمع صوته بين جدران معهده؛ فقد أخذوا من ذلك بأشد العجب الممزوج بالإعجاب.
على مرمى حجر واحد من مقر الدكتور «بورتر» في معهد «يال» تقوم دار العاديات البالنتولوجية التي رتب فيها البروفسور «مارش» جنبا إلى جنب تلك الحلقات الحفرية المتتابعة التي تثبت تطور الحصان منذ أقدم أزمان الحياة، عندما كان في حجم الثعلب وبأرجل ذات خمسة أصابع، متمشيا خلال تلك الحلقات حتى بلغ صورته التي نراه عليها اليوم شكلا وحجما، تلك الحلقات التي قال العلامة «هكسلي» بأنها برهان لا ينقض على أثر الانتخاب الطبيعي كعامل أساسي في النشوء. لهذا تجد أنه على الرغم من الاحترام والحب الصادق الذي كان لدكتور «بورتر» في قلوب رجال جامعة «يال»، لم يكن ينتظر أن تصبح أدلته التي جاء بها ذات أثر ثابت في عقولهم، ما دامت «دار الآثار الحفرية» تحتوي على مثل هذا البرهان الناصع الذي يؤيد مذهب النشوء بما لا يترك مجالا لريب أو فسحة لشك بحال من الأحوال.
ولكن بجانب هذا قام عدو لدود ثابت العقيدة هو المحترم دكتور «هودج»
Dr. Hodge
من جامعة «برنستون»
، فإن غضبه على مذهب النشوء كان «حاميا»؛ فإنه رفض المذهب باعتباره مذهبا «إلحاديا»، وقال في يقين بأن النصارى لهم «الحق في أن يحتجوا على نشر مثل تلك المرجحات الغامضة الخطيرة ضد الإيضاح الكامل والأدلة الثابتة التي تتضمنها الكتب المقدسة. ولقد بلغ به التطرف في الجمود إلى حد أن هاجم الدوق «أرجيل» وهو معتبر من أشد الكتاب محافظة على القديم، معلنا أن نظرية داروين في الانتخاب الطبيعي لا تتفق «بحال من الأحوال مع نص التنزيل المقدس»، وأن «إلها غائبا لا عمل له في الكون، لا يمكن أن يكون إلها بحال ما»، وأن «إنكار القصد والغاية كما صورا في خلق الله، هو بمثابة إنزال الله عن عرشه»، وأن «إنكار الغاية والقصد على الطبيعة إنكار لله بالاستتباع»، وأنه «لا يتسنى لمن يعتقد بالقصد في الخلق أن يكون داروينيا.»
ولقد كان في هذه الجامعة نفسها رجل أشد مراسا وأمر تعصبا» هو المحترم دكتور «دوفيلد»
Dr. Duffield ، وكان من ثقات المعلمين بها وأصحاب النفوذ بين جدرانها. فإنه لم يعلن الحرب ضد داروين وحده، بل وجهها ضد رجال من طراز أغاسيز ولاكونت وغيرهما من الذين حاولوا التوفيق بين النظرية الجديدة وبين النصوص المقدسة، قائلا بأن «التوفيق بين مذهب النشوء وبين التنزيل فيما تختص بنشوء الإنسان غير ممكن، وأن النظرية الداروينية «تعارض مواجهة تعاليم الرسل بأن كل تنزيل هو كلمات الله التي لا تتبدل»، وأشار بعد ذلك في حملته على داروين في كتاب «تسلسل الإنسان» وعلى «ليل» في كتابه «قدم الإنسان» أن صلة النسب الإنجيلية التي تصل الإسرائيليين في مصر بآدم وحواء ببية لا يمكن التنازع فيها.» ولقد ختمت أقوال الدكتور «دوفيلد» بإعلان أجدر بنا أن نشير به إلى أن في إمكان أحد رجال الكهنوت في المذهب المسيحي أن ينتحل سلطة البابا والأساقفة في أن يعلن طرد البعض من الكنيسة دون بعض. فقد قال في مجلة جامعة «برنستون»: «إذا تسنى لمذهب النشوء أن يطبق بعد قليل على أصل الإنسان - وذلك أمر غير مشكوك فيه - مع ما يتبعه من التأملات العلمية المتغجرة أو إتيانها في هذا العصر؛ فإن الذين يقبلون نتائجه المنطقية سوف يكونون في الحياة الأخرى من زمرة أولئك الذين لم يعرفوا الله في هذه الحياة ولم يطيعوا أوامر إنجيله كما أنزل على ابنه.»
ولكن من حسن الحظ أنه في الوقت الذي أذاع فيه داروين كتابه «تسلسل الإنسان» رأس جامعة «برستون» دكتور «جيمس ماكوش»
Dr. James Maccoch
ولم يكد يعتلي رئاسة الجامعة حتى أذاع بأنه يضاد كل تلك التعاليم الخطرة التي لا توجه خطورتها لشيء بقدر ما توجه إلى النصرانية، تعالمي دكتور هودج ودكتور دوفيلد وأتباعهما. ففي إحدى خطبه المعروفة أظهر للناس سر الخطورة في هذه التعاليم. فقد أظهر بما عرف فيه من قوة الخلق الأيقوسي، ذلك الخلق الذي أشاد به الكاتب «ثاكوري» في أشعاره، أن أخطر المخاطر التي تتعرض لها النصرانية في جامعة «برنستون» أن يعاد من فوق منبر الخطابة فيها وعلى مسمع في الطلاب أسبوعا بعد أسبوع، قوله إن النشوء بالانتخاب الطبيعي، أو النشوء على وجه عام، إن ثبتت صحته انتفت صحة الكتب المقدسة. فقد أظهر أن هذه الطريقة هي الطريقة المثلى لغرس بذور الكفر في قلوب الطلبة؛ ولهذا فإنه لم يحظر مثل هذه المواعظ فقط بل بشر بنظرية جديدة، اتخذت قاعدة للوعظ والإرشاد. فإن ابتداء عهده كان في الحقيقة ابتداء عصر التوفيق بين الناحيتين، وعلى الرغم مما رمي به من أنه دارويني، فإنه لم يأبه لشيء من هذا وشق طريقه ثابت القدم موفق السبيل. ومهما يكن من أمر ما يرى العلماء في مذهبه الفلسفي، فإن أحدا لا يستطعيع أن ينكر أثره الثابت وخدمته العظمى التي أداها بالكف عن التبشير بتعاليم الذين سبقوه وأنصارهم، تلك التعاليم التي تناولت خطورتها كل ما هو أساسي في تعاليم النصرانية.
ولم يكد يخطو دكتور «ماكوش» هذه الخطوة حتى تابعه فيها كثير من رجال الدين قانعين بأن المرء من الممكن أن يكون نصرانيا ومن أنصار داروين في آن واحد، غير أنه على الرغم من هذا ظهر بين آن وآخر خوارج على هذا المذهب. ففي سنة 1873 بشرت «مجلة الدين الشهرية» التي تظهر في بوسطن قراءها بأن دكتور «بر »
Dr. Burr
قد استطاع أن «ينقض نظرية النشوء، وأنه أخمد أنفاسها ورمى بها إلى الكلاب.» ولقد كرر ما ذهب إليه دكتور «بر» بصورة محورة أسقف يدعى الأسقف «كينر»
Bishop Keeneer
من «مجلس الكنيسة العمادية الأوكيوموني» في واشنطن سنة 1891. ففي إحدى خطبه التي وصفتها الجرائد بأنها خطبة ممتعة شيقة، رفض الاعتقاد بمذهب النشوء بقوله إن على النشوئيين «أن يسافروا اثنتي عشرة ساعة من المكان الذي يخطب فيه ليروا عظام الأوبوسوم والكبروليب
Coprolite
29
والاختيوسور معا في مكان واحد»، ولقد أكد أن أغاسيز - الذي ظن الأسقف وغيره من رجال الدين خطأ أنه نشوئي - عندما زار القيعان التي تتضمن هذا النظام قال: «إن هذه القيعان القديمة قد هوشت رأسي. لقد هدمت بنظرة واحدة ما بنيت له في عمر كامل.» ثم انتهى الأسقف العمادي بأن قال: «والآن أيها السادة وأيها الإخوان! انقلوا هذه الحقائق معكم إلى دوركم ثم تبصروا فيها. تلك هي الساعة التي كانت تحت المطرقة البخارية. تلك هي نظرية النشوء. وما المطرقة البخارية إلا رواسب قيعان آشلى.»
على أن مثل هذه المظاهرات لم تجد إلا قليلا. فإنه بينما كان هذا الأسقف العمادي يعرض نفسه لابتسامات السخرية بأن جعل أغاسيز من النشوئيين والكبروليت حيوانا، كان رجال العلم يستجمعون في كل أنحاء العالم حقائق تؤيد نظرية النشوء بالانتخاب الطبيعي. ففي الوقت الذي أحاط فيه اللاهوتيون دكتور «بر» بهالة من المديح والثناء لأنه «ألقى بنظرية النشوء إلى الكلاب»؛ كان الأستاذ «مارش» في جامعة «يال» يتم سلسلة الحلقات التي تظهر صلة النسب بين الحصان وبين حيوان من ذوات الأظلاف ذي خمسة أصابع. وفي الوقت الذي كان فيه دكتور «تيلور»
Tayler
في «يونيون» ودكتور هودج ودكتور دوفيلد في برنستون كانوا دائبين على إظهار أن النشوء إذا صح انتفت النصوص المقدسة، كان أستاذ جامعة «يال» - مارش - دائبا مجدا في إظهار آثار الصورة «الكريتاسية» ومن بينهم الإسبيرورنس
Hesperorins
والأختيورنيس
Ichthyornis
ذوي الأسنان المنشارية. وبينما كان لونهارد وشاند وأنصارهما في ألمانيا يقولون بأن الكتب المقدسة تتطلب اعتقادا ثابتا في صحة الخلق الذاتي المستقل، استكشفت آثار طير «الأرخيوبتري»
Archeoptryx
التي أظهرت بجلاء العلاقة الكائنة بين الزواحف والطيور، وبينما انصرف مسيو «سيغور» وأنصاره في فرنسا إلى حملات جدلية يوجهونها إلى شخص يدعى «داروين»؛ كان الأستاذان جودري وفيلهول مجدين في استكشاف عدة «حلقات مفقودة» تربط بين الحيوانات المفترسة.
أما فيما يختص بالبراهين التي كانت تستجمع لتأكيد النظرية الحديثة في النشوء، فإن التغير في نغمة اللاهوتيين إزاءها قد أصبح سريعا. ولقد ارتفعت الأصوات من كل صوب طالبة البحث عن طريق للتوفيق. أما المستمسكون بالنص الحرفي للأناجيل فاستمروا يلجئون إلى آيات سفر التكوين التي نصت على أن الأرض والبحار إنما صنعا ليخرجا طيورا وأسماكا، وأن الإنسان إنما خلق من تراب الثرى. على أن هنالك بعض رجال خصوا بسعة في المدارك ونفاذ في البصيرة أمثال «كنجسلي»
Kingsley
و«فرر»
Garrar
وغيرهما من مستنيري رجال الكنيسة في إنجلترا وأمريكا، لم يتلكئوا في أن يعلنوا انضمامهم إلى داروين. ناهيك بأن «هيويل»
Whewell
نفسه قد حاول أن يظهر أنه ربما يكن هنالك شيء من الصحة في البراهين الداروينية يدل على أنها كانت من مقاصد الخلق في الطبيعة. أما المحترم «صموئيل هوتون»
S. Houghton
عضو الجمعية الملكية، فقد اقترح فروضا يعبر بها عما يمكن أن يكون في الخلق من أثر القصد القدسي في النشوء.
كذلك نجد أن الكليتين الإنجليزيتين قد قبلتا التعاليم الجديدة على أنها أشياء ثابتة. ففي أكسفورد وفي اجتماع رجال الكنيسة العليا في جامعة «كيبل» أعلن في خطاب جامع أن مذهب النشوء «خطوة إلى الأمام في سبيل التفكير اللاهوتي.» أما «تمبل»
Templ
أسقف لندن - ومن المحتمل أنه كان أكبر ثقات المفكرين من رجال الكنيسة الإنجليكانية في عصره - فقد قبل مذهب النشوء في هذه الكلمات: «إنه لأكثر جلالا وأليق بقدرة الله الذي ألف سنة عنده بمثابة أمس الذي غبر، أن يكون قد دمغ إرادته الأبدية أولا وآخرا دفعة واحدة في جبين خلقه، وهيأ لظهور كل ضروب التباينات الخلقية اللامتناهية بفضل ذلك الطابع الأصلي الذي دمغ به الخلق؛ من أن يكون قد أحدث الخلق بعدة أفعال مستقلة اضطر فيما بعد أن يغير من أوصافها ويهذب من تراكيبها تتابعا.»
أما في أيقوسيا فإن الدوق «أرجيل» رئيس الحزب الأورثوذكسي وإمامه الأوحد، فعلى الرغم من أنه أبدى نفورا من كثير من النتائج التي وصل إليها داروين؛ فإنه سلم بكثير من الأشياء التي زعزعت المعتقد القديم وصدعت كثيرا من أركانه.
ومن أعجب العجب أن يرتفع من جانب الكنيسة الرومانية - على الرغم مما أظهر بعض كتابها من عداء ومرارة - صوت يحاول إثبات أن المعتقد الكاثوليكي لا يصد أي إنسان عن الاعتقاد بالنظرية الداروينية، وعلى الأخص تلك الإذاعة التي أعلنها ثقة ثبت من كاثوليكيي أمريكا، في أن «نظرية النشوء لا تعارض مذهب الكنيسة الكاثوليكية بأكثر مما يعارضه مذهب كوبرنيكوس ومذهب غاليليو»، وهذا القول على الرغم مما فيه من غرابة الواقع، لا يصح لنا أن ننزل من قدره أو نفتش عن نواحي الخطأ الكامنة فيه.
ولقد تقدم رجال ممن كان العلم ممزوجا بالاعتبارات اللاهوتية طابعهم، أمثال دوسون، وميفارت وويجاند، ببحوث حاولوا من جهتها الوقوع على سبيل للتوفيق بين الناحيتين. غير أن التيار كان شديدا حتى إن كثيرا من مشهوري رجال اللاهوت في كل قطر من الأقطار قد قبلوا مذهب الانتخاب الطبيعي باعتباره - على الأقل - عاملا مهما في ميكانيكا النشوء.
لما مات «داروين» شعر كل الناس بأنه لا يوجد في إنجلترا من مكان يصح أن يضم جثمانه إلا مكان واحد، وأن هذا المكان هو الموقع المثالي لقبر «إسحاق نيوتن» في كنيسة وستمنستر. أما الخطاب الذي فاه به الأسقف «فرر»
Farrar
فقد تجاوبت بمعاينة أعواد المنابر في أوروبا وأمريكا؛ حتى لقد اعتبر أنه آخر ضربة وجهت إلى روح العداء اللاهوتي لمذهب النشوء. على أنه قد ظهر بين آونة وأخرى مظاهر من الشعور القديم؛ فإن المحترم دكتور لينج
Dr. Laing
قد أشار إلى دفن «داروين» في كنيسة وستمنستر فقال: «إنه برهان على أن إنجلترا لم تصبح بعد بلاد نصرانية.» وأضاف إلى ذلك أن دفنه فيها كان تدنيسا، وأن هذا الشرف لم ينله «داروين» إلا لأنه كان «الزعيم الذي قام بنشر المذهب الهزلي في نشوء الأنواع وتسلسل الإنسان عن القرد .»
هنالك ظهر نبي آخر من أولئك الأنبياء المخدوعين، ممثلا في شخص «توماس كارليل»؛ فإنه بما شعر في قرارة نفسه من حقد ومرارة، شبيهة بتلك الروح التي حملته على أن يجد في آفاق مثل «فيكنج»، أو في قائد من قواد فردريك الأكبر، من الشجاعة والشهامة أكثر مما وجد في ووشنجطون أو لنكولن أو جرانت، والتي جعلته يرى في الحرب الأمريكية الأهلية أنها عبارة عن دخان تقذف به مدخنة متهدمة، قد هاجم «داروين» قائلا: «إنه ... رسول عبادة قذرة.»
أما الأصداء الأخيرة فقد تجاوبت بين أيقوسيا وأمريكا، ففي الأولى - وفي سنة 1885 - ظهر المحترم دكتور «لي»
Dr. Lee
معلنا بأن مذهب داروين إذا كان صحيحا فإنه «لا يكون هنالك من مكان لله»، وأنه «لا يمكن بأي أسلوب من أساليب التفسير أن تؤول لغة الكتاب المقدس بتوسع يحتمل القول: بنظرية «الأوران أوتان» في تاريخ الإنسان الطبيعي» وأن «المذهب الدارويني يقلب وحي الله رأسا على عقب»، وأنه «يتضمن تجديفا صريحا يناقض الصفات الإنسانية والإلهية المنسوبة إلى الله المتجسد.» واغتبط بعد ذلك بأن نعت داروين وأتباعه بأنهم «مبشروا البلاليع القذرة»، ولقد ظهر في إحدى الدوائر الفكرية الأمريكية أحد محرري المجلات، وكان يحرر المجلة المسماة «النصراني»
The Christian
فقال مقتنعا في حرارة بأن «المعركة يجب أن يحتدم أوارها ليرى الناس الفريقين: من منهما في جانب الله، ومن في جانب القردة والشياطين.»
ويجب علينا أن نثبت هنا أن للكنيسة الإنجليزية الشرف الأكبر حيث قاوم عدد كبير من مشهوري رجالها مثل هذه الترهات المسفة. ويكفينا أن نذكر واحدا منهم هو «فرر» رئيس أساقفة وستمنستر؛ إذ اعترض على هذه الأقوال وأمثالها في كلمات جديرة بأن يكرر ذكرها على الدوام؛ ففي حين أنه اعترف بعدم قدرته على قبول المعتقد العلمي قبولا كاملا، قال: «يجب أن نعتبر أنه مما لا يليق بالكرامة، بل مما هو مزر بالنفس، أن نحاول جاهدين أن نهز أسس المعتقد العلمي الحديث ببراهين خطابية منقولة، أو بأن نستعطف من فوق المنابر جماعات بلغوا من الجهل أبعد المبالغ واحتدمت في صدورهم العداوة لأهل العلم إلى غير حد، إننا يجب أن نخجل من أن نواجه مثل هذه الحالة بالاستهتار أو بابتسامة تحقير.»
على أن كل ضروب المقاومة لم تجد فتيلا؛ فإن مؤلف داروين وصيته كلاهما كان بمأمن عن التصدع. ولما رجع الناس إلى تاريخ حياته التي قضاها في بساطة وأمانة وتسامح وعطف إنساني، وعاودتهم ذكريات الجهود العظيمة التي بذلها في سبيل البحث عن الحقيقة، تبخرت كل صنوف العداء وذهبت بددا.
على أننا في هذا التاريخ لا يجب أن نهمل ذكر بعض نقاط سوداء تزداد سوادا على مر الأزمان. ففي كلية «التثليث» في كمبردج حظر «هيوويل»
Whewell «الحكيم الكلي الحكمة» ومؤلف الكتاب الخالد «تاريخ العلوم الاستقرائية» أن توضع نسخة من كتاب «أصل الأنواع» في المكتبة. كذلك نقع في كثير من المعاهد التي كانت تحت حكم اللاهوت من بروتستانت وكاثوليك، على محاولات أريد بها حظر التعاليم النشوئية أو تحقيرها. ولقد انتشرت هذه الروح زمانا في أمريكا. وإن حادثة الكلية الأمريكية في بيروت بسوريا - والتي طرد فيها كل الأساتذة الذين مثلوا العنصر الحديث بانضوائهم تحت لواء داروين - لجديرة بأن نعيد ذكراها. أما المعاملة التي لقيها الدكتور «ونشل» في جامعة «فاندربلت» بتنيسي، فقد ظهرت فيها مثل هذه الروح؛ فإنه على الرغم من إكبابه على العلم وتعمقه فيه، وعلى الرغم من أنه كان بجانب هذا ذا مشاعر نصرانية عميقة؛ فإنه طرد من الجامعة لأنه أبدى آراء تقوم على أساس النظرية الداروينية.
وعلى هذا الحال مع دكتور «وودرو»
Woodrow
فإنه حوالي سنة 1857 عين أستاذا للعلم الطبيعي من حيث علاقته «بالدين المنزل» في المعهد المشيخي بكولومبيا في كارولينا الجنوبية. وكان رجلا نصرانيا مخلصا للنصرانية. كما أن تعليمه قد قاده إلى انتحال المذهب المشيخي في الدين. ولقد تزود بقدر كبير من المقدرة على الدرس العلمي وزار أوروبا، وأكب على دراسة المسائل الأساسية في العلم والتي كانت موضع السجال والمناقشة في ذلك الحين، فاعتنق عن يقين وعقيدة المبادئ الأساسية في النشوء على قاعدة الانتخاب الطبيعي. على أنه سرعان ما احتدم أوار معركة كبرى ؛ فإن حركة معادية له أخذت في الظهور والتكون ونمت شيئا بعد شيء، حتى إنه على الرغم من الجهود التي بذلها في سبيله دكاترة المعهد وأساتذته وأقلية من رجال المذهب المشيخي خصوا بسعة العقل ورجاحة الحكم، عصفت من حوله رياح المحافظين التي أثارها رجال من مختلف المعاهد المشيخية، أقصته عن مركزه العلمي.
إن هذه التجربة التي جربها الإيمان بفضل البروتستانتية الأمريكية، قد رنت أصداؤها في جو الكثلكة الإسبانية. ففي سنة 1878 نشر إسباني من رجال المستعمرات المشتغلين بالعلم هو الدكتور «شيل ي مارانجو»
Dr. Chil y Marango
مؤلفا عن جزر الكاناري. غير أن الدكتور «شيل» - لسوء حظه - قد ضمن مقدمة الكتاب استعراضا لخص فيه نظرية النشوء، وذكر بعض البراهين التي عثر بها في جزيرة الكاناري عما كان في الأزمان القديمة من بربرية الإنسان البدائي. ولقد فزعت السلطات الكنسية، وعلى رأسهم الأسقف «أوركوينا ووناي بيدوت»
Urquinaona y Bidot
من الاستكشاف الجديد، معلنا في حماسة أنه «خطأ فاضح بعيد عن التقوى»، ولقد صدرت الأوامر إلى كل الذين كانوا يحوزون نسخا من الكتاب أن يسلموا كل النسخ التي لديهم للسلطات الكنسية، كما طرد المؤلفات من حظيرة الكنيسة.
غير أن هذه الصور العدائية يمكن أن تعتبر آخر صور الحمى التي انتابت النظرية اللاهوتية ورجالها. والدليل على هذا أن جامعة واشنجطون الحديثة بأمريكا قد أعلن من ناحيتها قوال تؤيد النظرية الجديدة، كما أن جامعات كثيرة في العالمين القديم والحديث قد تقبلت نظرية النشوء بالانتخاب الطبيعي، وأكب رجالها على المذهب يدرسونه بما يستحق من العناية والتقدير. وفضلا عن هذا فإنه من الظاهر الجلي أن رجال الكنيسة العظام لم يقفوا فقط سير المعركة التي دارت ضد العلم، بل عملوا في أمانة وإخلاص؛ لكي يضعوا قواعد جديدة للتوفيق بين الناحيتين. ففي محاضرتين لهما منزلتهما وخطرهما، ألقاهما في كنيسة «روتشدايل» سنة 1892 المحترم «ويلسون»
Wilson
رئيس أساقفة مانشستر، أعلن عن تقبله المذهب الدارويني باعتباره مذهبا صحيحا، غير أنه حاول أن يصله بوجهة النظر النصراني، معتمدا على قوته في الشرح والتعبير. ولقد نشرت هذه الخطب على نفقة نفس الجمعية التي كانت منذ عهد قريب تنشر أمر ما كتب ضد النظرية الداروينية وهي: «جمعية تقدم المعرفة النصرانية». كذلك ترى أنه في خلال سنة 1893 كون البروفسور «هنري درموند» الذي يمتدحه كل رجال الكنائس المنشقة، وجهة من النظر مصبوبة في قالب جميل من قوة الفكر ألقاها في مجموعة من المحاضرات في مدارس «شوتوكوا» الأمريكية، ونشرت في إحدى الصحف الأورثوذكسية الواسعة الانتشار.
مهما يكن من أمر العوامل التي يمكن إضافتها إلى الانتخاب الطبيعي - ولقد سلم داروين نفسه بأنه من الممكن أن تكون هنالك عوامل أخرى تؤثر في نشوء الأنواع - فإن نظريته في النشوء الكوني ونشوء الصور الحية قد وضعت وثبتت قواعدها، كما أن نظرية الخلق المستقل القديمة قد اضمحلت وفنت من عالم الفكر الإنساني. ولقد تبدل الإنسان منها بما أوحى العلم الحديث من تصورات ثابتة أبعد مدى وأنبل قصدا، فتحت الباب لتكوين فكرة في «القصد والغاية» أجمل من كل الفكرات التي كونها التصور اللاهوتي على مدى الأزمان.
القاهرة في 5 يناير سنة 1930
صفحة غير معروفة