بين الدين والعلم: تاريخ الصراع بينهما في القرون الوسطى إزاء علوم الفلك والجغرافيا والنشوء
تصانيف
لم تبلغ الخصومة بين العلم واللاهوت من الشدة ما بلغت في القرون الوسطى وبين أحضان النصرانية؛ فإنك لا تعثر في تاريخ الأديان كلها على تاريخ يشابه تاريخ مذاهب اللاهوت النصراني في قيامها في وجه العلم أزمانا طوالا بل قرونا متعاقبة. والسبب في هذا أنه قامت لدى اللاهوتيين فكرة ثابتة في أن العلم لا يجب مطلقا أن يبشر بشيء فيه أقل مخالفة لظاهر ما جاءت به الأسفار المقدسة والمتون ورسائل الحواريين. ولست تعلم لماذا يكون هذا لزاما على العلماء والفلاسفة مع أن طبيعة الدين لا تسع هذا ولا تدعو إليه. فإن وظيفة الدين في الواقع اجتماعية إرشادية لا تعليمية. ولكن شاءت عقول اللاهوتيين أن تكون وظيفته تعليمية؛ لهذا نشأ ما يسمونه الخصومة بين الدين والعلم، وما هي في الواقع إلا خصومة بين اللاهوت والعلم. وكم من لاهوتي ظهر خلال القرون الوسطى وحاول أن يثبت أن الدين لا شأن له بالعلم وأن وظيفته تنحصر في أن يعرف الناس طريقة الخلاص في الآخرة، لا حركات الأجرام السماوية أو تكوين الأرض كيف يكون! ولكن المذاهب الشائعة في اللاهوت ومن ورائها محاكم التفتيش، لم تكن تترك لأمثال هؤلاء مجالا. وزاد الطين بلة أن اللاهوتيين ومن ورائهم الكنيسة - وعلى رأسها البابوات المعصومون عن الخطأ - كانت قد زكت المذاهب اللاهوتية التي ذاعت في تفسير الإنجيل والتوراة بإجازتها حينا بعد حين، فأصبحت تلك التفاسير في الواقع مقدسة كأصل المتون نفسها؛ لهذا كانت ثورة اللاهوت في القرون الوسطى حامية ونارها محرقة تلظى. (6) هل بين الدين والعلم عداء حقيقي أو مجازي
يخيل إلى الذين يقولون بأن بين الدين والعلم عداء، وأن بينهما صراعا وجلادا يقوم على شيء في طبيعة الدين يعاند طبيعة العلم، أو أن في طبيعة العلم شيئا يعاند طبيعة الدين: أن الإنسان عبارة عن كائن كل ما فيه عقل صرف وتفكير محض، في حين أن ما كشف عنه علم الاجتماع الإنساني مؤيدا بمباحث العلماء الأعلام في فروع علم البسيكولوجيا قد أثبت بما لا سبيل إلى إدحاضه أن الإنسان عبارة عن مجموعة مشاعر حادة قوية تزكيها نزعة غريزية مما فوق العقل تحكم رابطته بما نسميه الجماعة، أو المجتمع البشري، يقول ديكارت: «أنا أفكر أنا إذن كائن.» والحقيقة أن الوجود والحياة أولى الحالات التي يقوم عليها أساس الجماعات. فلنفكر قليلا في حالة الحياة ذاتها وعلى الأخص في الإنسان المفكر المجتمع لنرى إن كان حبنا للحياة ذاتها شيء يقودنا إليه العقل أو الشعور والخضوع لما بعد العقلية.
إذا وازن الإنسان بين ما ينعم به في هذه الحياة من سعادة وبين ما ينزل به من ملمات فادحات، فلا شك في أن كفة آلامه ترجح كفة سعادته على حسب ما يصور له عقله إضعافا. فإن مطاليب الحياة والسعي الجاد وراء ما تطلب من ضرورات لا تترك للفرد مجالا للمتعة بما يصور له عقله أنه متعة حقيقية. وإذا نظر فيما يحيط به من الحالات الطبيعية ألفى أن الطبيعة التي تحيط به والتي يعيش بين أحضانها خاضعا لقواسرها إنما تناهزه أشد العداء ويقابلها بأشد المقاومة. فهو في الواقع في حرب مستعرة مع العناصر التي تؤلف كيانه.
فالجراثيم القاتلة والوحوش الضارية وتقلبات الطقس وتأثيرات المناخ والتناحر على الحياة والانتخاب الطبيعي وإبقاء الأصلح، بل وكل ما تتطلب نظامات الطبيعة من جهود يبذلها الإنسان ليعيش ويحيا حياة طبيعية، هي بذاتها متاعب لا تجعل للحياة من قيمة حقيقية إذا نظر الإنسان فيها بعين العقل وحده وجرد نفسه من نوازع ما فوق عقليته. ثم فكر قليلا بعد هذا في هذه الحياة وسائل نفسك: لماذا وجدت؟ ولأي غرض خلقت؟ وما هو القصد من هذه الحياة التي أحياها؟ وما ذلك الموت الذي أنا بالغه يوما من الأيام؟
وانظر بعد ذلك هل ترضى عن هذه الحياة وهل يكون وجودك فيها ممكنا إن تركت نزعات العقل تحتكم فيك وحدها، أو إن لجأت إليها لتلتمس هدايتها للخروج من هذه الظلمات؟ إن العقل يوحي إليك بأن تفارق هذه الحياة فلا فائدة منها، وأنت فوق ذلك عاجز عن أن تعرف سر وجودك فيها! إنها عبث في عبث وبدء ونهاية لا خلود وراءها، ولا حياة أخرى تثاب فيها على طيباتك أو تعاقب فيها على سيئاتك. يهمس العقل في روعك دائما بأن هذه الحياة التي تحياها وتلك المتاعب التي تتحملها والمشاق التي تذللها إنما تعمل فيها لغيرك لا لنفسك وتتحمل كدورتها للأجيال المستقبلة التي ليس لك من علاقة بها، ولا تعرف إن كانت تستحق منك ما تضحي به من صحة وعافية.
أليس هذا وحي العقل؟ أليست هذه الأشياء هي أول ما يوحي إليك به العقل الصرف المجرد عن المشاعر وقواسر ما فوق العقلية؟ إذن نستطيع أن نقول إن بين العقل والوجود كله صراعا بحكم أننا كائنات لا نعرف لماذا وجدنا ولا نفقه لوجودنا غرضا يختفي وراء مظاهر هذه الحياة.
ثم ارجع بعد هذا إلى نظام الزوجية، وجرد نفسك من المشاعر برهة واحدة لتحكم العقل في هذا النظام الذي لولاه لما كان للاجتماع الإنساني على ما نراه اليوم من أثر.
لماذا يقسر الرجل المرأة على أن تكون له وحده؟ ولماذا تغار المرأة على الرجل إن هو جرى وراء أخرى؟ ولأي شيء يحتمل الرجل والمرأة كلاهما تلك الواجبات؟ ولماذا يلزمان تلك الحدود التي وضعتها الشرائع والقوانين وفي فناء الإباحة ما هو أرخى لعنانهما وأقرب لما يرضي نزعتهما العقلية؟ يسعى الرجل ويكد كل كد ليعول امرأة أراد، ولا يعرف لماذا، أن يختص بها وتختص به، وأن يقوم حفيظا عليها زعيما بمطالبها في الحياة. يحتمل مرارة العيش ويواجه مصاعب الحياة بلذة وصبر في سبيلها وفي سبيل شيء لا يعرفه.
سائل نفسك لماذا أنت تخضع لنظام الزوجية، ولماذا تجد فيه من السعادة مع مرارة السعي ما لا تجد مع راحة العقل واطمئنانه إلى حياة خلو من المسئوليات والواجبات، وأنت لا تعرف إن كنت تعيش في نظام أساسه العقل الصرف أم في نظام لا تعرف في الواقع لماذا تخضع له إن حكمت فيه العقل، وأردت أن تستوحيه ليهديك في ظلمات ما أنت فيه من نظام؟
ثم ارجع إلى المرأة وحدها وتصور لهفة بنت حواء إذ نبذتها الطبيعة في صحراء العقم وتركتها بلا عقب. وانظر كيف أنها تغضب على الطبيعة وعلى الحياة وعلى الأحياء؛ لأن القدر شاء لها أن تكون عاقرا غير ولود.
صفحة غير معروفة